ج37وج38وج39.. كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني
متغيمة غيماً مطبقاً وقد بدأت ترش رشاً ساكباً فنحن في أكمل نشاط وأحسن يوم إذ خرجت قيمة دار أبي عيسى فقالت يا سيدي قد جاءت عساليج فقال لتخرج إلينا فليس بحضرتنا من تحتشمه فخرجت إلينا جارية شكلة حلوة حسنة العقل والهيئة الأدب في يدها عود فسلمت فأمرها أبو عيسى بالجلوس فجلست وغنى القوم حتى انتهى الدور إليها وظننا أنها لا تصنع شيئاً وخفنا أن تهابنا فتحصر فغنت غناء حسناً مطرباً متقناً ولم تدع أحداً من حضر إلا غنت صوتاً من صنعته وأدته على غاية الإحكام فطربنا واستحسنا غناءها وخاطبناها بالاستحسان وألح عبد الله بن العباس من بيننا بالاقتراح عليها والمزاح معها والنظر إليها فقال له أبو عيسى عشقتها وحياتي يا عبد الله قال لا والله يا سيدي وحياتك ما عشقتها ولكني استحسنت كل ما شاهدت منها من منظر وشكل وعقل وعشرة وغناء فقال له أبو عيسى فهذا والله هو العشق وسببه ورب جد جره اللعب وشربنا فلما غلب النبيذ على عبد الله غنى أهزاجاً قديمة وحديثة وغنى فيما غنى بينهما هزجاً في شعر قاله فيها لوقته فما فطن له إلا أبو عيسى وهو صوت ( نَطَق السُّكْرُ بسِرِّي فبَدَا ... كم يُرَى المَكْتُومُ يَخفى لا يَضِحْ ) ( سِحْرُ عَيْنَيك إذا مارنَتَا ... لم يَدعْ ذا صَبْوة أو يَفْتَضِحْ ) ( مَلَكَتْ قلباً فأمسى غَلِقاً ... عندها صَبّاً بها لم يَسْتَرحْ ) ( بجَمالٍ وغنِاءٍ حسنٍ ... جلّ عن أن يَنْتَقيه المُقْتَرِحْ ) ( أورثَ القلبَ هُموماً ولقد ... كنتُ مسروراً بمرآه فَرِحْ ) ( ولَكم مُغْتَبِقٍ هَمَّاً وقد ... بَكَر اللَّهْو بُكورَ المُصْطَبُحْ ) الغناء لعبد الله بن العباس هزج فقال له أبو عيسى فعلتها والله يا عبد الله وطار طرباً وشرب على الصوت وقال له صح والله قولي لك في عساليج وأنت تكابرني حتى فضحك السكر فجحد وقال هذا غناء كنت أرويه فحلف أبو عيسى أنه ما قاله ولا غناه إلا في يومه وقال له احلف بحياتي أن الأمر ليس هو كذلك فلم يفعل فقال له أبو عيسى والله لوكانت لي لوهبتها لك ولكنها لآل يحيى بن معاذ والله لئن باعوها لأملكنك إياها ولو بكل ما أملك ووحياتي لتنصرفن قبلك إلى منزلك ثم دعا بحافظتها وخادم من خدمه فوجه بها معهما إلى منزله والتوى عبد الله قليلاً وتجلد وجاحدنا أمره ثم انصرف واتصل الأمر بينهما بعد ذلك فاشترتها عمته رقية بنت الفضل بن الربيع من آل يحيى بن معاذ وكانت عندهم حتى ماتت فحدثني جعفر بن قدامة بن زياد عن بعض شيوخه سقط عني اسمه قال قالت بذل الكبيرة لعبد الله بن العباس قد بلغني أنك عشقت جارية يقال لها عساليج فاعرضها علي فإما أن عذرتك وإما أن عذلتك فوجه إليها فحضرت وقال لبذل هذه هي ياستي فانظري واسمعي ثم مريني بما شئت أطعك فأقبلت عليه عساليج وقالت يا عبد الله أتشاور في فو الله ما شاورت فيك لما صاحبتك فنعرت بذل وصاحت إيه أحسنت والله يا صبية ولو لم تحسني شيئاً ولا كانت فيك خصلة تحمد لوجب أن تعشقي لهذه الكلمة أحسنت والله ثم قالت لعبد الله ما ضيعت احتفظ بصاحبتك عبد الله يغني الواثق فيجيزه حدثني عمي قال حدثني محمد بن المرزبان عن أبيه عن عبد الله بن العباس قال دعانا الواثق في يوم نوروز فلما دخلت عليه غنيته في شعر قلته وصنعت فيه لحناً وهو ( هيّ للنّيروزِ جامَا ... ومُداماً ونَدامَى ) ( يَحْمدون الله والواثِقَ ... هارون الإماما ) ( ما رَأَى كِسْرى أنوشِرْ ... وانَ مِثْلَ العامِ عامَا ) ( نَرْجِساً غَضَّا ووَرْداً ... وبَهاراً وخُزامَى ) قال فطرب واستحسن الغناء وشرب عليه حتى سكر وأمر لي بثلاثين ألف درهم حدثني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني شيبة بن هشام قال ألقت متيم على جوارينا هذا اللحن وزعمت أنها أخذته من عبد الله بن العباس والصنعة له صوت ( إني اتّخذت عدُوَّةً ... فسَقَى الإِلهُ عدُوَّتِي ) ( وفديتُها بأقاربي ... وبأُسرَتِي وبجيرتِي ) ( واستيقَنت أنّ الفؤاد ... يُحبُّها فأدَلَّت ) قال ثم حدثتنا متيم أن عبد الله بن العباس كان يتعشق مصابيح جارية الأحدب المقين وأنه قال هذا الشعر فيها وغنى فيه هذا اللَّحن بحضرتها فأخذته عنه هكذا ذكر شيبة بن هشام من أمر مصابيح وهي مشهورة من جواري آل يحيى بن معاذ ولعلها كانت لهذا المقين قبل أن يملكها آل يحيى وقبل أن تصل إلى رقية بنت الفضل بن الربيع وحدثنا أيضاً عمي قال حدثنا أحمد بن المرزبان عن شيبة بن هشام قال كان عبد الله بن العباس يتعشق جارية الأحدب المقين ولم يسمها في هذا الخبر فغاضبها في شيء بلغه عنها ثم رام بعد ذلك أن يترضاها فأبت وكتب إليها رقعة يحلف لها على بطلان ما أنكرته ويدعو الله على من ظلم فلم تجبه عن شيء مما كتب به ووقعت تحت دعائه آمين ولم تجب عن شيء مما تضمنته الرقعة بغير ذلك فكتب إليها ( أمَّا سُرورِي بالكتاب ... فليس يَفنى ما بَقينا ) ( وأَتى الكتابُ وفيه لي ... آمين ربَّ العالمينا ) قال وزارته في ليلة من ليالي شهر رمضان وأقامت عنده ساعة ثم انصرفت وأبت أن تبيت وتقيم ليلتها عنده فقال هذا الشعر وغنى فيه هزجاً وهو مشهور من أغانيه وهو صوت ( يا مَنْ لِهمٍّ أمسى يُؤرِّقُني ... حتى مضى شَطرُ لَيْلَةِ الجُهَنِي ) ( عَنِّي ولم أدرِ أنَّها حضرت ... كذاك مَنْ كان حُزْنه حُزنِي ) ( إنّي سَقِيمٌ مُوَلَّه دَنِفٌ ... أسقَمني حُسْنُ وَجْهِكِ الحَسَنِ ) ( جُودِي له بالشفاء مُنْيَتَه ... لا تَهجُرِي هائماً عليك ضَنِي ) قال وليلة الجهني ليلة تسع عشرة من شهر رمضان قال رجل من جهينة إنه رأى فيها ليلة القدر فيما يرى النائم فسميت ليلة الجهني أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن المرزبان قال حدثني شيبة بن هشام قال دعانا محمد بن حماد بن دنقش وكان له ستارة في نهاية الوصف وحضر معنا عبد الله بن العباس فقال عبد الله وغنى فيه ( دَعْ عنك لومي فإِنّي غيرُ مُنقادِ ... إلى المَلام وإن أحببتَ إرْشادِي ) ( فلستُ أعرِفُ لي يوماً سُرِرْتُ به ... كمِثل يَوْمِيَ في دارِ ابنِ حَمَّادِ ) أخبرني يحي بن علي بن يحي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني ابن المكي عن عبد الله بن العباس قال لما صنعت لحني في شعري صوت ( يا لَيلةً ليس لها صُبْحُ ... وموعِداً ليس له نُجْحُ ) ( من شادنٍ مرّ على وعده الميلادُ ... والسُّلاَّقُ والذّبحُ ) هذه أعياد النصارى غنيته الواثق فقال ويلْكم أدركوا هذا لا يتنصر وتمام هذا الشعر ( وفي السَّعَانِين لو أنيِّ بهِ ... وكان أقْصَى المَوعِد الفصْحُ ) ( فالله أستَعْدِي على ظالمٍ ... لم يُغْنِ عنه الجُودُ والشُّحُّ ) نسخت من كتاب أبي سعد السكري قال أبو العتاهية وفيه لعبد الله بن العباس غناء حسن ( أنا عَبدٌ لها مُقِرٌّ وما يَمْلِك ... لي غيرُها من الناس رِقّا ) ( ناصحٌ مُشفِقٌ وإن كنت ما أُرزَق ... منها والحمدُ لله عِتْقا ) ( ومن الحَيْن والشّقاء تعلَّقُتُ ... مِليكاً مُسْتَكْبراً حين يُلْقَى ) ( إن شكوتُ الذي لَقِيتُ إليه ... صَدَّ عَنِّي وقال بُعداً وسُحْقا ) أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون بن إسماعيل قال دخلت يوماً إلى عبد الله بن العباس الربيعي وخادم له يسقيه وبيده عوده وهو يغني هذا الصوت ( إذا اصطَبحْتُ ثَلاَثاً ... وكان عُودِي نَدِيمِي ) ( والكأسُ تُغْرِب ضَحكاً ... من كفِّ ظَبْيٍ رَخيمِ ) ( فما عليَّ طريقٌ ... لطارقاتِ الهُمومِ ) قال فما رأيت أحسن مما حكى حاله في غنائه ولا سمعت أحسن مما غنى أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني دوسر الخراساني قال اشترى حزام خادم المعتصم خادماً نظيفاً كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يتعشقه فسأله هبته له أو بيعه منه فأبى فقال عبد الله أبياتاً وصنع فيها غناء وهي قوله ( يومُ سَبْتٍ فصَرِّفا لِي المُدامَا ... واسقِياني لعلَّني أن أَنامَا ) ( شرَّد النومَ حُبُّ ظَبْيٍ غريرٍ ... ما أراه يرَى الحرَام حَرامَا ) ( اشتراه يوماً بعُلْفةِ يوم ... أصبحَت عنده الدوابُ صيامَا ) فاتصلت الأبيات وخبرها بحزام فخشي أن تشتهر ويسمعها المعتصم فيأتي عليه فبعث بالغلام إلى عبد الله وسأله أن يمسك عن الأبيات ففعل حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحي قال قلت لعبد الله بن العباس إنه بلغني لك خبر مع الرشيد أول ما شهرت بالغناء فحدثني به قال نعم أول صوت صنعته ( أتاني يؤامِرُني في الصبوح ... ليلاً فقلتُ له غادِها ) فلما تأتى لي وضربت عليه بالكنكلة عرضته على جارية لنا يقال لها راحة فاستحسنته وأخذته عني وكانت تختلف إلى إبراهيم الموصلي فسمعها يوماً تغنيه وتناغي به جارية من جواريه فاستعادها إياه وأعادته عليه فقال لها لمن هذا فقالت صوت قديم فقال لها كذبت لو كان قديماً لعرفته وما زال يداريها ويتغاضب عليها حتى اعترفت له بأنه من صنعتي فعجب من ذلك ثم غناه يوماً بحضرة الرشيد فقال له لمن هذا اللحن يا إبراهيم فأمسك عن الجواب وخشي أن يكذبه فينمى الخبر إليه من غيره وخاف من جدي أن يصدقه فقال له مالك لا تجيبني فقال لا يمكنني يا أمير المؤمنين فاستراب بالقصة ثم قال والله وتربة المهدي لئن لم تصدقني لأعاقبنك عقوبة موجعة وتوهم أنه لعلية أو لبعض حرمه فاستطير غضبا فلما رأى إبراهيم الجد منه صدقه فيما بينه وبينه سراً فدعا لوقته الفضل بن الربيع ثم قال له أيصنع ولدك غناء ويرويه الناس ولا تعرفني فجزع وحلف بحياته وبيعته أنه ما عرف ذلك قط ولا سمع به إلا في وقته ذلك فقال له ابن ابنك عبد الله بن العباس أحضرنيه الساعة فقال أنا أمضي وأمتحنه فإن كان يصلح للخدمة أحضرته وإلا كان أمير المؤمنين أولى من ستر عورتنا فقال لا بد من إحضاره فجاء جدي فأحضرني وتغيظ علي فاعتذرت وحلفت له أن هذا شيء ما تعمدته وإنما غنيت لنفسي وما أدري من أين خرج فأمر بإحضار عود فأحضر وأمرني فغنيته الصوت فقال قد عظمت مصيبتي فيك يا بني فحلفت له بالطلاق والعتاق ألا أقبل على الغناء رفداً أبداً ولا أغني إلا خليفة أو ولي عهد ومن لعله أن يكون حاضراً مجالسهم فطابت نفسه فأحضرني فغنيت الرشيد الصوت فطرب وضرب عليه أقداحاً وأمرني بالملازمة مع الجلساء وجعل لي نوبة وأمر بحمل عشرة آلاف دينار إلى جدي وأمره أن يبتاع ضيعة لي بها فابتاع لي ضيعتي بالأهواز ولم أزل ملازماً للرشيد حتى خرج إلى خراسان وتأخرت عنه وفرق الموت بيننا الواثق يقترض مالاً ليعطيه له قال ابن المرزبان فكان عبد الله بن العباس سبباً لمعرفة أولياء العهود برأي الخلفاء فيهم فكان منهم الواثق فإنه أحب أن يعرف هل يوليه المعتصم العهد بعده أم لا فقال له عبد الله أنا أدلك على وجه تعرف به ذلك فقال وما هو فقال تسأل أمير المؤمنين أن يأذن للجلساء والمغنين أن يصيروا إليك فإذا فعل ذلك فاخلع عليهم وعلي معهم فإني لا أقبل خلعتك لليمين التي علي ألا أقبل رفداً إلا من خليفة أو ولي عهد فقعد الواثق ذات يوم وبعث إلى المعتصم وسأله الإذن إلى الجلساء فأذن لهم فقال له عبد الله بن العباس قد علم أمير المؤمنين يميني فقال له أمض إليه فإنك لا تحنث فمضى إليه وأخبره الخبر فلم يصدقه وظن أنه يطيب نفسه فخلع عليه وعلى الجماعة فلم يقبل عبد الله خلعته وكتب إلى المعتصم يشكوه فبعث إليه اقبل الخلعة فإنه ولي عهدي ونمى إليه الخبر أن هذا كان حيلة من عبد الله فنذر دمه ثم عفا عنه وسر الواثق بما جرى وأمر إبراهيم بن رياح فاقترض له ثلثمائة ألف درهم فغرقها على الجلساء ثم عرف غضب المعتصم على عبد الله بن العباس واطراحه إياه فاطرحه هو أيضاً فلما ولي الخلافة استمر على جفائه فقال عبد الله ( مالي جُفِيتُ وكنتُ لا أُجفَى ... أيام أرهبُ سطوةَ السَّيْفِ ) ( أدعُو إلِهي أن أراكَ خليفةً ... بين المقام ومَسجد الخَيْفِ ) ودس من غناه الواثق فلما سمعه سأل عنه فعرف قائله فتذمم ودعا عبد الله فبسطه ونادمه إلى أن مات وذكر العتابي عن ابن الكلبي أن الواثق كان يشتهي على عبد الله بن العباس ( أَيُّها العاذِلُ جَهْلاً تلومً ... قبل أن يَنْجاب عنه الصَّريمُ ) وأنه غناه يوماً فأمر بأن يخلع عليه خلعة فلم يقبلها ليمينه فشكاه إلى المعتصم فكاتبه في الوقت فكتب إليه مع مسرور سمانة اقبل خلع هارون فإنك لا تحنث فقبلها وعرف الواثق أنه ولي عهد حدثني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني شيبة بن هشام قال كان عبد الله بن العباس يهوى جارية نصرانية لم يكن يصل إليها ولا يراها إلا إذا خرجت إلى البيعة فخرجنا يوماً معه إلى السعانين فوقف حتى إذا جاءت فرآها ثم أنشدنا لنفسه وغنى فيه بعد ذلك صوت ( إن كنتَ ذا طِبٍّ فداوِينِي ... ولا تَلُم فاللَّوم يُغرِيني ) ( يا نظرة أبقَتْ جَوىً قائِلاً ... من شادنٍ يومَ السَّعانينِ ) ( ونظرةً من رَبْربٍ عِينِ ... خرجْنَ في أحسَن تَزْيِينِ ) ( خرجن يَمْشين إلى نُزْهةٍ ... عَواتِقاً بين البَساتِيِنِ ) ( مُزَنَّراتٌ بهَمايينها ... والعَيشُ ما تَحْت الهَمايينِ ) لحن عبد الله بن العباس في هذا الشعر هزج أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا محمد بن عمر الجرجاني ومحمد بن حماد كاتب راشد قالا كتب عبد الله بن العباس الربيعي في يوم نيروز واتفق في يوم الشك بين شهري رمضان وشعبان إلى محمد بن الحارث بن بسخنر يقول ( اسْقِنْي صفراءَ صافيةً ... ليلةَ النَّيروزِ والأحَدِ ) ( حَرَّم الصَّومُ اصطِباحَكما ... فتزَوَّدْ شُربَها لغَدِ ) ( وأْتِنَا أو فادْعُنا عَجِلاً ... نَشْتَرك في عِيشَةٍ رَغَدِ ) قال فجاءه محمد بن الحارث بن بسخنر فشربا ليلتهما أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا أحمد بن المكي قال حدثنا عبد الله بن العباس الربيعي قال جمع الواثق يوماً المغنين ليصطبح فقال بحياتي إلا صنعت هزجاً حتى أدخل وأخرج إليكم الساعة ودخل إلى جواريه فقلت هذه الأبيات وغنيت فيها هزجاً قبل أن يخرج وهي صوت ( بأبي زَورٌ أتاني بالغَلَسْ ... قُمْتُ إِجلالاً له حتى جَلَسْ ) ( فتعانَقْنا جميعاً ساعةً ... كادَتِ الأَرواحُ فيها تُختَلَسْ ) ( قلتُ يا سُؤْلي ويا بدرَ الدُّجَى ... في ظَلامِ اللَّيل ماخِفتَ العَسَسْ ) ( قال قد خِفْتُ ولكنّ الهَوَى ... آخذٌ بالرُّوح منّي والنَّفَسْ ) ( زارني يَخْطِر في مِشيْتِه ... حوله من نُور خَدّيْه قَبَسْ ) قال فلما خرج من دار الحرم قال لي يا عبد الله ما صنعت فاندفعت فغنيته فشرب حتى سكر وأمر لي بخمسة آلاف درهم وأمرني بطرحه على الجواري فطرحته عليهن أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني عن حماد قال من مليح صنعة عبد الله بن العباس الربيعي والشعر ليوسف بن الصيقل ولحنه هزج صوت ( أبعدَ المواثيق لي ... وبعد السؤال الحَفِي ) ( وبَعْد اليَمِين التي ... حلَفْتِ على المُصحَفِ ) ( تركتِ الهوَى بينَنا ... كضوء سراجٍ طُفِي ) ( فليتكِ إذ لم تَفِي ... بوعدك لم تُخْلِفي ) حدثني الصولي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال كان الواثق قد غضب على فريدة لكلام أخفته إياه فأغضبته وعرفنا ذلك وجلس في تلك الأيام للصبوح فغناه عبد الله بن العباس صوت ( لا تأمني الصَّرْم مِنّي أن ترَيْ كَلَفي ... وإن مَضَى لصفاء الوُدِّ أَعصارُ ) ( ما سُمِّيَ القَلْبُ إلا من تَقَلُّبه ... والرأيُ يُصرَفُ والأهواءُ أطوارُ ) ( كم مِنْ ذَوِي مِقَةٍ قَبْلي وقَبْلَكمُ ... خانوا فأَضحوا إلى الهِجْران قد صارُوا ) فاستعاده الواثق مراراً وشرب عليه وأعجب به وأمر لعبد الله بألف دينار وخلع عليه الشعر للأحوص والغناء لعبد الله بن العباس هزج بالوسطى عن عمرو المتوكل يفضله على سائر المغنين وأخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال ( غنّيتُ المُتوكِّل ذاتَ يوم ... ) ( أحبّ إلينا منك دَلاًّ وما يَرى ... له عند فِعْلي من ثَوابٍ ولا أَجْرِ ) فطرب وقال أحسنت والله يا عبد الله أما والله لو رآك الناس كلهم كما أراك لما ذكروا مغنياً سواك أبدا نسخت من كتاب لأبي العباس بن ثوابة بخطه حدثني أحمد بن إسماعيل ابن حاتم قال قال لي عبد الله بن العباس الربيعي دخلت على المعتصم أودعه وأنا أريد الحج فقبلت يده وودعته فقال يا عبد الله إن فيك لخصالاً تعجبني كثر الله في موالي مثلك فقبلت رجله والأرض بين يديه وأحسن محمد بن عبد الملك الزيات محضري وقال له إن له يا أمير المؤمنين أدباً حسناً وشعراً جيداً فلما خرجت قلت له أيها الوزير ما شعري أنا في الشعر تستحسنه وتشيد بذكره بين يدي الخليفة فقال دعنا منك تنتفي من الشعر وأنت الذي تقول ( يا شادِياً مرَّ إذا رامَ ... في السَّعانِين قَتْلي ) ( يَقولُ لي كيف أصبحْتَ ... كيْف يُصبِح مِثْلي ) أحسنت والله في هذا ولو لم تقل غير هذا لكنت شاعراً أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن المرزبان قال قال أبي قال عبد الله ابن العباس الربيعي لقيني سوار بن عبد الله القاضي وهو سوار الأصغر فأصغى إلي وقال إن لي إليك حاجة فأتني في خفي فجئته فقال لي إليك حاجة قد أنست بك فيها لأنك لي كالولدفإن شرطت لي كتمانها أفضيت بها إليك فقلت ذلك للقاضي علي شرط واجب فقال إني قلت أبياتاً في جارية لي أميل إليها وقد قلتني وهجرتني وأحببت أن تصنع فيها ولحنا وتسمعينه وإن أظهرته وغنيته بعد ألا يعلم أحد أنه شعري فلست أبالي أتفعل ذلك قلت نعم حباً وكرامة فأنشدني صوت ( سَلَبْتُ عِظامي لحمَها فتركْتِها ... عَوارِيَ في أجلادِها تَتَكَسَّرُ ) ( وأخلَيتِ منها مُخَّها فكأنّها ... أنابيبُ في أجوافِها الرِّيح تصفِرُ ) ( إذا سَمِعتْ باسْم الفِراق ترعَّدَت ... مفاصِلُها من هَوْل ما تتحذَّرُ ) ( خُذِي بيدي ثم اكْشِفي الثوبَ فانظُري ... بِلَى جَسَدِي لكِنني أتَسَتَّرُ ) ( وليس الذي يجَرْي من العين ماؤُها ... ولكِنّها رُوحٌ تَذُوبُ فَتَقْطُرُ ) اللحن الذي صنعه عبد الله بن العباس في هذا الشعر ثقيل أول قال عبد الله فصنعت فيه لحناً ثم عرفته خبره في رقعة كتبتها إليه وسألته وعداً يعدني به للمصير إليه فكتب إلي نظرت في القصة فوجدت هذا لا يصلح ولا ينكتم علي حضورك وسماعي إياك وأسأل الله أن يسرك ويبقيك فغنيت الصوت وظهر حتى تغنى به الناس فلقيني سوار يوماً فقال لي يا بن أخي قد شاع أمرك في ذلك الباب حتى سمعناه من بعد كأنا لم نعرف القصة فيه وجعلنا جميعاً نضحك أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال كان بشر خادم صالح بن عجيف عليلاً ثم برِئَ فدخل إلى عبد الله بن العباس فلما رآه فتلقاه وأجلسه وشرب سروراً بعافيته وصنع لحناً من الثقيل الأول هو من جيد صنعته صوت ( مَوْلاَي ليس لِعَيشٍ لستَ حاضره ... قَدْرٌ ولا قِيمَةٌ عندي ولا ثَمَنُ ) ( ولا فَقَدتُ من الدُّنيا ولذَّتِها ... شَيئاً إذا كان عندي وَجْهُك الحَسَنُ ) حدثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثنا عبد الله بن العباس الربيعي قال جمعنا الواثق يوماً بعقب علة غليظة كان فيها فعوفي وصح جسمه فدخلت إليه مع المغنين وعودي في يدي فلما وقعت عيني عليه من بعيد وصرت بحيث يسمع صوتي ضربت وغنيت في شعر قلته في طريقي إليه وصنعت فيه لحناً وهو صوت ( اسْلَمْ وعَمَّرك الإله لأُمَّةٍ ... بك أصبَحْت قَهَرتْ ذَوِي الإلحادِ ) ( لو تَسْتَطِيعُ وَقَتك كُلَّ أَذِيَّةٍ ... بالنّفْسِ والأموَال والأولادِ ) فضحك وسر وقال أحسنت يا عبد الله وسررتني وتيمنت بابتدائك ادن مني فدنوت منه حتى كنت أقرب المغنين إليه ثم استعادني الصوت فأعدته ثلاث مرات وشرب عليه ثلاثة أقداح وأمر لي بعشرة آلاف درهم وخلعة من ثيابه حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يهوى جارية نصرانية فجاءته يوماً تودعه فأعلمته أن أباها يريد الانحدار إلى بغداد والمضي بها معه فقال في ذلك وغنى فيه صوت ( أفدِي التي قُلتُ لها ... والبَينُ منّا قد دَنَا ) ( فَقدُكِ قد أَنحلَ جِسْمِي ... وأَذاب البَدَنا ) ( قالت فماذا حِيلَتي ... كذاك قد ذبتُ أنا ) ( باليَأْس بعدِي فاقتنع ... قلت إذاً قَلّ الغَنَا ) حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني علي بن عيسى ابن جعفر الهاشمي قال دخل علي عبد الله بن العباس في يوم النصف من شعبان وهو يوم سبت وقد عزمت على الصوم فأخد بعضادتي باب مجلسي ثم قال يا أميري ( تُصْبِحُ في السّبت غَيْرَ نشوانِ ... وقد مَضى عنك نِصفُ شعبان ) فقلت قد عزمتُ على الصوم فقال أفعليك وزر إن أفطرت اليوم لمكاني وسررتني بمساعدتك لي وصمت غداً وتصدقت مكان إفطارك فقلت أفعل فدعوت بالطعام فأكلت وبالنبيذ فشربنا وأصبح من غد عندي فاصطبح وساعدته فلما كان اليوم الثالث انتبهت سحراً وقد قال هذا الشعر وغنى فيه ( شعبانُ لم يبقَ منه ... إلا ثَلاثٌ وعَشْرُ ) ( فباكِر الرّاحَ صِرْفاً ... لا يَسْبِقَنّكَ فَجْرُ ) ( فإن بَغُتكَ اصَطِباحٌ ... فلا يفوتَنْك سُكرُ ) ( ولا تُنادِم فتىً وقتُ ... شُربه الدَّهْرَ عَصرُ ) قال فأطربني واصطبحت معه في اليوم الثالث فلما كان من آخر النهار سكر وانصرف وما شربنا يومنا كله إلى على هذا الصوت حدثني عمي قال حدثني ابن دهقانة النديم قال دخل عبد الله بن العباس إلى المتوكل في آخر شعبان فأنشده ( عَلِّلاني نَعِمْتُما بُمدَامِ ... واسْقِياني من قَبْل شَهْر الصِّيامِ ) ( حرَّم اللهُ في الصِّيام التَّصابي ... فتركناه طاعةً للإمامِ ) ( أظهر العَدْلَ فاسْتَنار به الدِّينُ ... وأحيا شرائِعَ الإسلامَ ... ) فأمر المتوكل بالطعام فأحضر وبالنديم وبالجلساء فأتي بذلك فاصطبح وغناه عبد الله في هذه الأبيات فأمر له بعشرة آلاف درهم قصته مع المرابين أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني عبد الله بن العباس قال كنت مقيماً بسر من رأى وقد ركبني دين ثقيل أكثر عينة ورباً فقلت في المتوكل ( أسقِياني سَحَراً بالكُبّرةْ ... ما قَضى اللهُ فَغِيِهِ الخِيَرَهْ ) ( أكرَم اللهُ الإمامَ المرتَضَى ... وأطال اللهُ فينا عُمُرَهْ ) ( إن أَكُن أٌقْعِدْتُ عنه هكذا ... قدّرَ الله رَضِينا قَدَرَهْ ) ( سرِّه اللهُ وأَبقاه لنا ... ألفَ عام وكَفَانَا الفَجَرَهْ ) وبعثت بالأبيات إليه وكنت مستتراً من الغرماء فقال لعبيد الله بن يحيى وقع إليه من هؤلاء الفجرة الذين استكفيت الله شرهم فقلت المغنيون الذين قد ركبني لهم أكثر مما أخذت منهم من الدين بالربا فأمر عبيد الله أن يقضي ديني وأن يحتسب لهم رؤوس أموالهم ويسقط الفضل وينادي بذلك في سُرَّ من رأى حتى لا يقضي أحدُ أحداً إلا رأس ماله وسقط عني وعن الناس من الأرباح زهاء مائة ألف دينار كانت أبياتي هذه سببها حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال حدثني أبي قال مرض عبد الله بن العباس بسر من رأى في قدمة قدمها إليها فتأخر عنه من كان يثق به فكتب إليهم ( ألا قُلْ لمن بالجانِبَين بأَنَّنْي ... مريضٌ عداني عن زِيارَتهم مابِي ) ( فَلَو بهم بعضُ الذي بي لزُرتُهم ... وحاشَ لهم من طُولِ سُقْمِي وأَوصابِي ) ( وإِن أقشَعت عني سَحابَةُ عِلَّتي ... تَطاوَل عَتْبِي إن تأخّر إعتابي ) قال فما بقي أحد من إخوانه إلا جاءه عائداً معتذراً أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن موسى قال سمعت عبد الله بن العباس يغني ونحن مجتمعون عند علوية بشعر في النصرانية التي كان يهواها والصنعة له صوت ( إنَّ في القَلْب من الظَّبْي كُلومْ ... فَدع اللَّومَ فإِن اللَّوْمَ لُومْ ) ( حبَّذا يومُ السَّعانين وما ... نِلْتُ فيه من نَعيمٍ لو يَدُومْ ) ( إن يَكُن أَعظمتَ أَنْ هِمتْ به ... فالذي تَرْكَب من عَذْلي عَظِيمْ ) ( لم أكُن أوّلَ مَنْ سَنَّ الهَوَى ... فدَعِ اللَّومَ فذا دَاءٌ قديمْ ) الغناء لعبد الله هزج بالوسطى حدثي أبو بكر الربيعي قال حدثتني عمتي وكانت ربيت في دار عمها عبد الله بن العباس قالت كان عبد الله لا يفارق الصبوح أبداً إلا في يوم جمعة أو شهر رمضان وإذا حج وكانت له وصيفة يقال لها هيلانة قد رباها وعلمها الغناء فأذكره يوماً وقد اصطبح وأنا في حجره جالسة والقدح في يده اليمنى وهو يلقي على الصبية صوتاً أوله ( صدعَ البينُ الفُؤادَا ... إذ به الصائحُ نَادَى ) فهو يردده ويومىء بجميع أعضائه إليها يفهمها نغمه ويوقع بيده على كتفي مرة وعلى فخذي أخرىوهو لا يدري حتى أوجعني فبكيت وقلت قد أوجعتني مما تضربني وهيلانة لا تأخذ الصوت وتضربني أنا فضحك حتى استلقى واستملح قولي فوهب لي ثوب قصب أصفر وثلاثة دنانير جدداً فما أنسى فرحي بذلك وقيامي به إلى أمي وأنا أعدو إليها وأضحك فرحاً به نسبة هذا الصوت صوت ( صدَع البَينُ الفُؤادَا ... إذ به الصائِحُ نادَى ) ( بيْنما الأحبابُ مَجُموعون ... إذ صَاروا فُرَادَى ) ( فأتى بعضٌ بِلاداً ... وأتى بعضٌ بلادَا ) ( كُلَّما قُلْتُ تَناهَى ... حَدَثَانُ الدَّهر عادا ) والشعر والغناء لعبد الله هزج بالوسطى عن عمرو صوت ( حضر الرحيل وشُدَّت الأحداجُ ... وغدا بهنّ مُشمِّرٌ مِزعاجُ ) للشوق نيرانٌ قَدَحْنَ بقلبه ... حتى استمرّ به الهَوى المِلجاجُ ) ( أزعج هواكَ إلى الّذين تحبُّهمْ ... إن المحبَّ يسوقُه الإزعاجُ ) ( لن يدنينَّك للحبيب ووصله ... إلاّ السُّرَى والبازلُ الهَجهَاجُ ) الشعر لسلم الخاسر والغناء لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى أخبار سلم الخاسر ونسبه سلم بن عمر ومولى بن تيمْ بن مرة ثم مولى أبي بكر الصديق رضوان الله عليه بصري شاعر مطبوع متصرف في فنون الشعر من شعراء الدولة العباسية وهو راوية بشار بن برد وتلميذه وعنه أخذ ومن بحره اغترف وعلى مذهبه ونمطه قال الشعر ولقب سلم بالخاسر فيما تعال لأنه ورث من أبيه مصحفاً فباعه واشترى بثمنه طنبوراً وقيل بل خلف له أبوه مالا فأنفقه على الأدب والشعر فقال له بعض أهله إنك لخاسرُ الصفقة فلقب بذلك وكان صديقاً لإبراهيم الموصلي ولأبي العتاهية خاصة من الشعراء والمغنين ثم فسد ما بينه وبين أبي العتاهية وكان سلم منقطعاً إلى البرامكة وإلى الفضل بن يحي خصوصاً من بينهم وفيه يقول أبو العتاهية ( إنما الفضل لِسَلْمٍ وحدَه ... ليس فيه لسوى سَلْمٍ دَرَكْ ) وكان هذا أحد الأسباب في فساد ما بينه وبين أبي العتاهية ولسلم يقول أبو العتاهية وقد حج مع عتبة ( واللهِ واللهِ ما أُبالي متى ... مامتُّ يا سَلْمُ بعْدَ ذا السفَرِ ) أليس قد طُفْتُ حيث طافت وَقّبلتُ ... الذي قبلَتْ من الحجر وله يقول أبو العتاهية وقد حبس إبراهيم الموصلي ( سَلْمُ يا سلم ليس دونك سْرُّ ... حُبس الموصليُّ فالعيش مُرُّ ) ( ما استطاب اللذاتِ مذ سَكَن المُطبقَ ... رأْسُ اللذات واللهِ حُرّ ) ( تَرَكَ الموصليُّ مَن خَلَق اللهُ ... جميعاً وعيشهم مُقْشعِرّ ) سلم ولقبه أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن الحسن الواسطي قال حدثني أبو عمرو سعيد بن الحسن الباهلي الشاعر قال لما مات عمرو أبو سلم الخاسر اقتسموا ميراثه فوقع في قسط سلم مصحف فرده وأخذ مكانه دفاتر شعر كانت عند أبيه فلقب الخاسر بذلك أخبرني الحسن قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال ورث سلم الخاسر أباه مائة ألف درهم فأنفقها على الأدب وبقي لا شيء عنده فلقبه الجيران ومن يعرفه بسلم الخاسر وقالوا أنفق ماله على ما لا ينفعه ثم مدح المهدي أو الرشيد وقد كان بلغه اللقب الذي لقب به فأمر له بمائة ألف درهم وقال له كذب بهذا المال جيرانك فجاءهم بها وقال لهم هذه المائة الألف التي أنفقتها وربحت الأدب فأنا سلم الرابح لا سلم الخاسر باع مصحفه ليشتري طنبوراً أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال إنما لقب سلم الخاسر لأنه ورث عن أبيه مصحفاً فباعه واشترى بثمنه طنبوراً أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمر الفضل قال قال لي الجماز سلم الخاسر خالي لحاً فسألته لم لقب الخاسر فضحك ثم قال إنه قد كان نسك مدة يسيرة ثم رجع إلى أقبح ما كان عليه وباع مصحفاً له ورثه عن أبيه وكان لجده قبله واشترى بثمنه طنبوراً فشاع خبره وافتضح فكان يقال له ويلك هل فعل أحد ما فعلت فقال لم أجد شيئاً أتوسل به إلى إبليس هو أقر لعينه من هذا أخبرني عمي قال أنبأنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن صالح المؤدب وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال حدثني أبي عن أحمد بن صالح قال قال بشار بن برد صوت ( لا خَيْرَ في العيشِ إن دُمنا كذا أبداً ... لا نلتقي وسبيلُ المُلْتَقَى نَهَجُ ) ( قالوا حَرامٌ تلاقِينا فقلتُ لهمْ ... ما في التَّلاقي ولا في غيرِه حرَجُ ) ( مَنْ راقَبَ الناسَ لم يظفَرْ بحاجتِه ... وفاز بالطيّباتِ الفاتُك اللهِجُ ) قال فقال سلم الخاسر أبياتاً ثم أخذ معنى هذا البيت فسلخه وجعله في قوله ( مَن راقب الناسَ مات غماً ... وفاز باللذة الجَسورُ ) سرق معنى بيت لبشار فغضب عليه فبلغ بيته بشاراً فغضب واستشاط وحلف ألا يدخل إليه ولا يفيده ولا ينفعه مادام حيا فاستشفع إليه بكلِّ صديق له وكل من يثقل عليه رده فكلموه فيه فقال أدخلوه إلي فأدخلوه إليه فاستدناه ثم قال إيه يا سلم من الذي يقول ( من راقب الناسَ لم يظْفَر بَحاجته ... وفاز بالطّيبات الفاتكُ اللهِجُ ) قال أنت يا أبا معاذ قد جعلني الله فداءك قال فمن الذي يقول ( من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللذة الجسورُ ) قال تلميذك وخريجك وعبدك يا أبا معاذ فاجتذبه إليه وقنعه بمخصَرة كانت في يده ثلاثاً وهو يقول لا أعود يا أبا معاذ إلى ما تنكره ولا آتي شيئا تذُمه إنما أنا عبدك وتلميذك وصَنيِعتك وهو يقول له يا فاسق أتجيء إلى معنى قد سهرت له عيني وتعب فيه فكري وسبقت الناس إليه فتسرقه ثم تختصره لفظاً تقربه به لتِزري علي وتذهب بيتي وهو يحلف له إلا يعود والجماعة يسألونه فبعد لأي وجهد ما شفعهم فيه وكف عن ضربه ثم رجع له ورضي عنه أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال أخبرني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدثني عبد الوهاب بن مرار قال حدثني أبو معاذ النميري رواية بشار قال قد كان بشار قال قصيدة فيها هذا البيت ( من راقب الناس لم يضفَرْ بحاجته ... وفاز بالطيّبات الفاتكُ اللهجُ ) قال فقلت له يا أبا معاذ قد قال سلم الخاسر بيتاً هو أحسن وأخف على الألسن من بيتك هذا قال وما هو فقلت ( من راقب الناسَ مات غمّاً ... وفاز باللذة الجسورُ ) ( فقال بشار ذهب والله بيتنا أما والله لوددت أنه ينتمي في غير ولاء أبي بكر رضي الله عنه وأني مغرم ألف دينار محبة مني لهتك عرضه وأعراض مواليه قال فقلت له ما أخرج هذا القول منك إلا غم قال أجل فو الله لا طعمت اليوم طعاماً وصمت أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني ابن إسحاق بن محمد النخعي قال قال أبو معاذ النميري قال بشار قصيدة وقال فيها ( من راقب الناسَ لم يظفَرْ بحاجتِه ... وفاز بالطيبّاتِ الفاتكُ اللهجُ ) ... فعرفته أن سلماً قد قال ( من راقب الناسَ مات غَمّاُ ... وفاز باللذة الجسورُ ) فلما سمع بشار هذا البيت قال سار والله بيت سلم وخمل بيتنا قال وكان كذلك لهج الناس ببيت سلم ولم ينشد بيت بشار أحد أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أبو مالك محمد بن موسى اليماني قال لما بنى صالح بن المنصور قصره بدجلة قال فيه سلم الخاسر ( يا صالحَ الجودِ الذي مجَدُه ... أفْسَدَ مجدَ الناسِ بالجودِ ) ( بَنَيتَ قصراً مشْرفاً عالِياً ... بطائرَيْ سعدٍ ومسعودِ ) ( كأنما يَرفعُ بنيانَه ... جِنُّ سليمانَ بنِ داودِ ) ( لازلتَ مسروراً به سالماً ... على اختلاف البيضِ والسودِ ) يعني الأيام والليالي فأمر له صالح بألف درهم أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني بعض آل ولد حمدون بن إسماعيل وكان ينادم المتوكل عن أبيه قال كان سلم الخاسر من غلمان بشار فلما قال بشار قصيدته الميمية في عمر بن العلاء وهي التي يقول فيها ( إذا نبّهتْك صعابُ الأمورِ ... فنبَهّ لها عُمَراً ثم نَمْ ) ( فَتىً لا يبيت على دِمْنَةٍ ... ولا يَشرب الماءَ إلا بِدَمْ ) بعث بها مع سلم الخاسر إلى عمر بن العلاء فوافاه فأنشده إياها فأمر لبشار بمائة ألف درهم فقال له سلم إن خادمك يعني نفسه قد قال في طريقه فيك قصيدة قال فإنك لهناك قال تسمع ثم تحكم ثم قال هات فأنشده صوت قد عزّني الداءُ فمالِي دَواءُ ... مِمّا أُلاقي مِن حِسانِ النساءْ ) ( قَلْبٌ صحيحٌ كنت أسطو به ... أصبح مِن سَلْمى بِداء عَياءْ ) ( أنفاسها مسك وفي طَرْفِها ... سِحر ومالي غيرها من دواءْ ) ( وَعَدْتِنِي وَعْداً فأَوفِي به ... هل تَصْلُح الخمرة إلا بماءْ ) ويقول فيها ( كم كُرْبةٍ قد مسّني ضُرُّها ... نادَيتُ فيها عُمَر بن العلاءْ ) قال فأمر له بعشرة آلاف درهم فكانت أول عطية سنية وصلت إليه سلم وعاصم بن عتبة أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال وجدت في كتاب بخط الفضل بن مروان وكان عاصم بن عتبة الغساني جد أبي السمراء الذي كان مع عبد الله بن طاهر صديقاً لسلم الخاسر كثير البر به والملاطفة له وفيه يقول سلم ( الجُود في قحطانٍ ... ما بَقِيتْ غسانُ ) ( اسْلَمْ ولا أُبالي ... ما فَعَل الإخِوانُ ) ما ضَرّ مُرْتجيه ... ما فعل الزمانُ ) ( مَن غاله مَخُوفٌ ... فعاصمٌ أمانٌ ) وكانت سبعين بيتاً فأعطاه عاصم سبعين ألف درهم وكان مبلغ ما وصل إلى سلم من عاصم خمسائة الف درهم فلما حضرته الوفاة دعا عاصماً فقال له إني ميِّت ولا ورثة لي وإن مالي مأخوذ فأنت أحق به فدفع إليه خمسائة ألف درهم ولم يكن لسلم وارث قال وكان عاصم هذا جواداً أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن طهمان قال أخبرني القاسم بن موسى بن مزيد أن يزيد بن مزيد قال ما حسدت أحداُ قط على شعر مدح به إلا عاصم بن عتبة الغساني فإني حسدته على قول سلم الخاسر فيه ( لِعاصم سَماءٌ ... عارضُها تَهتانُ ) ( أمطارُها اللجينُ ... والدر والعِقيان ) ( ونارهُ تنادِي ... إذْ خَبَت النَّيرانُ ) ( الجودُ في قحطان ... ما بقيت غسان ) ( اسَلمْ ولا أُبالي ... ما فَعل الإخوان ) ( صَلْتٌ له المعالي ... والسيف والسنان ) أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن نعيم عن محمد ابن القاسم بن مهرويه وأخبرني به الحسن بن علي عن أبن مهرويه عن الغريبي عن محمد بن عمر الجرجاني قال كان سلم تلميذ بشار إلا أنه كان تباعد ما بينهما فكان سلم يقدم أبا العتاهية ويقول هو أشعر الجن والإنس إلى أن قال أبو العتاهية يخاطب سلماً ( تعالَى اللهُ يا سلمَ بنَ عمرو ... أذلَّ الحرصُ أعناقَ الرجالِ ) ( هَب الدّنيا تصيرُ إليك عَفْواً ... أليس مصيرُ ذاك إلى زوال ) قال وبلغ الرشيد هذا الشعر فاستحسنه وقال لعمري إن الحرص لمفسدة لأمر الدين والدنيا وما فتشت عن حريص قط مغيبه إلا انكشف لي عماً أذمه وبلغ ذلك سلماً فغضب على أبي العتاهية وقال ويلي على الجرار ابن الفاعلة الزنديق زعم أني حريص وقد كنز البدور وهو يطلب وأنا في ثوبي هذين لا أملك غيرهما وانحرف عن أبي العتاهية بعد ذلك خبره مع أبي العتاهية أخبرني محمد بن يحيى الصولي حدثنا محمد بن موسى قال أخبرني محمد بن إسماعيل السدوسي قال حدثني جعفر العاصمي وأخبرني عمي عن أحمد بن أبي طاهر عن القاسم بن الحسن عن زكريا بن يحيى المدائني عن علي بن المبارك القضاعي عن سلم الخاسر أن أبا العتاهية لما قال هذا الشعر فيه كتب إليه ( ما أَقبحَ التزهيدَ مِنْ واعظٍ ... يُزَهِّدُ الناسَ ولا يَزْهَدُ ) ( لو كان في تزهيدِه صادقاً ... أَضحى وأَمسى بيتَه المسجدُ ) ( ورفَضَ الدنيا ولم يَلْقَها ... ولم يكن يسعى ويسْتَرْفِدُ ) ( يخاف أن تنفدَ أرزاقُه ... والرزقُ عند الله لا ينفَدُ ) ( الرِّزقُ مقسوم على مَنْ تَرَى ... ينالُه الأبيض والأسودُ ) ( كُلٌّ يُوفَّى رزقَه كاملاً ... مَنْ كفّ عن جهد وَمن يَجْهدُ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو العسكر المسمعي وهو محمد بن سلميان قال حدثني العباس بن عبد الله بن سنان بن عبد الملك بن مسمع قال كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان وهو يومئذ أمير البصرة وعنده أبو العتاهية ينشده شعره في الزهد فقال لي قثم يا عباس اطلب لي الجماز الساعة حيث كان فجئني به ولك سبق فطلبته فوجدته جالساً ناحية عند ركن دار جعفر بن سليمان فقلت له أجب الأمير فقام معي حتى أتى قثم فجلس في ناحية مجلسه وأبو العتاهية ينشده ثم قام إليه الجماز فواجهه وأنشد قول سلم الخاسر فيه ( ما أقبح التزهيدَ من واعظٍ ... يُزَهِّدُ الناسَ ولا يَزْهَدُ ) ( لو كان في تزهيدِه صادقاً ... أضحى وأمسى بيتَه المسجدُ ) وذكر الأبيات كلها فقال أبو العتاهية من هذا أعز الله الأمير قال هذا الجماز وهو ابن أخت سلم الخاسر انتصر لخاله منك حيث قلت له ( تعالَى اللهُ يا سلم بنَ عمرو ... أذلّ الحرصُ أعناق الرجالِ ) قال فقال أبو العتاهية للجماز يا بن أخي إني لم أذهب في شعري الأول حيث ذهب خالك ولا أردتُ أن أهتف به ولا ذهبت أيضاً في حضوري وإنشادي حيث ذهبت من الحرص على الرزق والله يغفر لكما ثم قام فانصرف أخبرني عمي عن أحمد بن أبي طاهر عن أبي هفان قال وصل إلى سلم الخاسر من آل برمك خاصة سوى ما وصل إليه من غيرهم عشرون ألف دينار ووصل إليه من الرشيد مثلها أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عماي عبيد الله والفضل عن أبيهما عن أبي محمد اليزيدي أنه حضر مجلس عيسى بن عمر وحضر سلم الخاسر فقال له يا أبا محمد اهجني على روي قصيدة امرىء القيس ( رُبَّ رامٍ مِنْ بَني ثُعَلٍ ... مُخْرجٌ كفيه في سُتَرِهْ ) قال فقلت له ما دعاك إلى هذا قال كذا أريد فقلت له يا هذا أنا وأنت أغنى الناس عما تستدعيه من الشر فلتسعك العافية فقال إنك لتحتجز مني نهاية الإحتجاز وأراد أن يوهم عيسى أني مفحم عيبيُّ لا أقدر على ذلك فقال لي عيسى أسألك يا أبا محمد بحقي عليك إلا فعلت فقلت ( رُبّ مغمومٍ بِعَاقِبةٍ ... غَمَط النعمةَ من أَشَرِهْ ) ( وامرىءٍ طالَت سلامتُه ... فرماه الدهرُ من غِيَرِهْ ) ( بِسهامٍ غير مُشْوِيَةٍ ... نَقَضَت منه قُوى مِرَرِهْ ) ( وكذاك الدهر منقلِبٌ ... بالفتى حالين من عُصُرِهْ ) ( يَخْلِط العُسْرَ بِمَيْسَرةٍ ... ويَسارُ المرء في عُسُرِهْ ) ( عَقَّ سلمٌ أُمه صِغَراً ... وأبا سَلْم عَلَى كِبَرِهْ ) ( كلَّ يومٍ خلفَه رجُل ... رامحٌ يسعى عَلَى أثَرِهْ ) ( يُولج الغُرْمولَ سَبَّتَه ... كَوُلوجِ الضَّبِّ في جُحُرِهْ ) قال فاغتم سلم وندم وقال هكذا تكون عاقبة البغي والتعرضِ للشر فضحك عيسى وقال له قد جهد الرجل أن تدعه وصيانته ودينه فأبيت إلا أن يدخلك في حر أمك ترفهه عندما يأتي المهدي أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال سمعت أبي يقول كان المهدي يعطي مروان وسلماً الخاسر عطية واحدة فكان سلم يأتي باب المهدي على البرذون الفأره قيمته عشرة آلاف درهم بسرج ولجام مفضضين ولباسه الخز والوشي وما أشبه ذلك من الثياب الغالية الأثمان ورائحة المسك والطيب والغالية تفوح منه ويجيء مروان بن أبي حفصة عليه فرو كبل وقميص كرابيس وعمامة كرابيس وخفاً كبل وكساء غليظ وهو منتن الرائحة وكان لا يأكل اللحم حتى يقرم إليه بخلاً فإذا قرم أرسل غلامه فاشترى له رأساً فأكله فقال له قائل أراك لا تأكل إلا الرأس قال نعم أعرف سعره فآمن خيانة الغلام ولا أشتري لحماً فيطبخه فيأكله منه والرأس آكل من ه ألواناً آكل منه عينيه لوناً ومن غلصمته لوناً ومن دماغه لوناً أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا يحيى بن الحسن الربيعي قال أخبرني أبي قال كان سلم الخاسر قد بلي بالكيمياء فكان يذهب بكل شيء له باطلاً فلما أراد الله عز و جل أن يصنع له عرف أن بباب الشام صاحب كيمياء عجيباً وأنه لا يصل إليه أحد إلا ليلاً فسأل عنه فدلوه عليه قال فدخلت إليه إلى موضع معور فدققت الباب فخرج إلي فقال من أنت عافاك الله فقلت رجل معجب بهذا العلم قال فلا تشهرني فإني رجل مستور إنما أعمل للقوت قال قلت إني لا أشهرك إنما أقتبس منك قال فاكتم ذلك قال وبين يديه كوز شبه صغير فقال لي اقلع عروته فقَلعتها فقال اسبكها في البوطقة فسبكتها فأخرج شيئاً من تحت مصلاه فقال ذره عليه ففعلت فقال أفرغه فأفرغته فقال دعه معك فإذا أصبحت فاخرج فبعه وعد إلي فأخرجته إلى باب الشام فبعت المثقال بأحد وعشرين درهماً ورجعت إليه فأخبرته فقال اطلب الآن ما شئت قلت تفيدني قال بخمسمائة درهم على أن لا تعلمه أحداً فأعطيته وكتب لي صفة فامتحنتها فإذا هي باطلة فعدت إليه فقيل لي قد تحول وإذا عروة الكوز المشبه من ذهب مركبة عليه والكوز شبه ولذلك كان يدخل إليه من يطلبه ليلاً ليخفي عليه فانصرفت وعلمت أن الله عز و جل أراد بي خيراً وأن هذا كله باطل أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني أبو مالك اليماني قال حدثني أبو كعب قال لما ماتت البانوكة بنت المهدي رثاها سلم الخاسر بقوله ( أَودَى ببانوكَةّ ريبُ الزمانْ ... مُؤنْسةِ المهديِّ والخيزُرانْ ) ( لم تَنْطو الأرض على مثِلها ... مولودةٌ حَنّ لها الوالدانْ ) ( بانوكُ يا بنتَ إمام الهُدَى ... أَصبحْت من زينة أَهل الجنِانْ ) ( بكتْ لك الأرضُ وسُكّانُها ... في كل أُفْق بين إِنسٍ وجانْ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني علي بن الحسن الشيباني قال حدثني أبو المستهل الأسدي وهو عبد الله بن تميم بن حمزة قال كان سلم الخاسر يهاجي والبة بن الحباب فأرسلني إليه سلم وقال قل له ( يا والبَ بنَ الحُبَابِ يا حَلَقي ... لَسْتَ من أَهل الزناء فانطلقِ ) ( تُدخلُ فيه الغُرمولَ تولجه ... مثلَ وُلوج المِفتاح في الغَلقِ ) قال فأتيت والبة فقلت له ذلك فقال لي قل له يا بن الزانية سل عنك ريعان التميمي يعني أنه ناكه قال وكان ريعان لوطيا آفة من الآفات وكان علامة ظريفاً قال فحدثني جعفر بن قدامة عن محمد العجلي عن أحمد بن معاوية الباهلي قال سمعت ريعان يقول نكت الهيثم بن عدي فمن ترونه يفلت مني بعده وأخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا العنزي قال حدثني أبو مالك محمد بن موسى اليماني قال كان سلم الخاسر مدح بعض العلويين فبلغ ذلك المهدي فتوعده وهم به فقال سلم فيه ( إني أتتني على المهدي مَعْتَبةٌ ... تكاد من خوفِها الأحشاء تضطربُ ) ( اسمعْ فداكَ بَنُو حواء كُلُّهمُ ... وقد يجوز برأْس الكاذب الكذبُ ) ( فقد حَلفتُ يميناً غيرَ كاذبة ... يوم المَغِيبة لم يُقطَعْ لها سببُ ) ( ألاّ يحالِفَ مدحي غَيرَكم أبداً ... ولو تلاقَى عليّ الغَرْضُ والحَقَبُ ) ( ولو ملكتُ عنان الريح أصْرِفها ... في كلِّ ناحيةٍ ما فاتها الطلبُ ) ( مولاك مولاك لا تُشمِت أعاديَه ... فما وراءك لي ذِكْرٌ ولا نسبُ ) فعفا عنه سلم يحسن الرثاء لا المدح وأخبرني أحمد بن العباس وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا العنزي قال حدثني العباس بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان قال حدثني موسى بن عبد الله بن شهاب المسمعي قال سمعت أبا عبيدة معمر بن المثنى يقول كان سلم الخاسر لا يحسن أن يمدح ولكنه كان يحسن أن يرثي ويسأل أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن الحسن الشيباني قال حدثني أبو المستهل قال دخلت يوماً على سلم الخاسر وإذا بين يديه قراطيس فيها أشعار يرثي وببعضها أم جعفر وبعضها جارية غير مسماة وببعضها أقواماً لم يموتوا وأم جعفر يومئذ باقية فقلت له ويحك ما هذا فقال تحدث الحوادث فيطالبوننا بأن نقول فيها ويستعجلوننا ولا يجمل بنا أن نقول غير الجيد فنعد لهم هذا قبل كونه فمتى حدث حادث أظهرنا ما قلناه فيه قديماً على أنه قيل في الوقت أخبرني محمد بن مزيد وعيسى بن الحسين قالا حدثنا الزبير بن بكار قال قال عبد الله بن الحسن الكاتب أنشد المأمون قول أبي العتاهية ( تعالَى الله يا سلمَ بنَ عمرِو ... أَذلَّ الحرصُ أعناقَ الرجال ) فقال المأمون صدق لعمر الله إن الحرص لمفسدة للدين والمروءة والله ما رأيت من رجل قط حرصاً ولا شرها فرأيت فيه مصطنعاً فبلغ ذلك سلماً الخاسر فقال ويلي على ابن الفاعلة بياع الخزف كنز البدور بمثل ذلك الشعر المفكك الغث ثم تزهد بعد أن استغنى وهو دائباً يهتف بي وينسبني إلى الحرص وأنا لا أملك إلا ثوبي هذين سلم وأبو الشمقمق أخبرني عمّي والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا زكريا بن مهران قال طالب أبو الشمقمق سلماً الخاسر بأن يهب له شيئاً وقد خرجت لسلم جائزة فلم يفعل فقال أبو الشمقمق يهجوه ( يا أُمّ سَلم هداكِ اللهُ زُورِيَنا ... كيما نَنِيكَكِ فَرْداً أو تَنْيكِينا ) ( ما إن ذَكَرْتُكِ إلاّ هاج لي شَبَقٌ ... ومثلُ ذِكْراكِ أُمَّ السلم يُشِجِينا ) قال فجاءه سلم فأعطاه خمسة دنانير وقال أحب أن تعفيني من استتزارتك أمي وتأخذ هذه الدنانير فتنفقها أخبرني الحسن بنُ عليّ قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق قال حدثني محمد بن القاسم بن الربيع عن أبيه قال دخل الربيع على المهدي وأبو عبيد الله جالس يعرض كتباً فقال له أبو عبيد الله مر هذا أن يتنحى يعني الربيع فقال له المهدي تنح فقال لا أفعل فقال كأنك تراني بالعين الأولى فقال لا بل أراك بالعين التي أنت بها قال فلم لا تتنحى إذ أمرتك فقال له أنت ركن الإسلام وقد قتلت ابن هذا فلا آمن أن يكون معه حديدة يغتالك بها فقام المهدي مذعوراً وأمر بتفتيشه فوجدوا بين جوربه وخفه سكيناً فردت الأمور كلها إلى الربيع وعزل أبو عبيد الله وولي يعقوب بن داود فقال سلم الخاسر فيه ( يَعقُوبُ يَنظُر في الأمورِ ... وأنت تَنظر ناحِيهْ ) ( أدخلتَه فعلاً عليك ... كذاك شؤم الناصيهْ ) قال وكان بلغ المهدي من جهة الربيع أن ابن عبيد الله زنديق فقال له المهدي هذا حسد منك فقال افحص عن هذا فإن كنت مبطلاً بلغت مني الذي يلزم من كذبك فأتى بابن عبيد الله فقرره تقريراً خفياً فأقر بذلك فاستتابه فأبى أن يتوب فقال لأبيه اقتله فقال لا تطيب نفسي بذلك فقتله وصلبه على باب أبي عبيد الله قال وكان ابن أبي عبيد الله هذا من أحمق الناس وهب له المهدي وصيفة ثم سأله بعد ذلك عنها فقال ما وضعت بيني وبين الأرض حشية قط أوطأ منها حاشاً سامع فقال المهدي لأبيه أتراه يعنيني أو يعنيك قال بل يَعْني أمه الزانية لا يكني أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني يحيى بن الحسن قال حدثني أبي قال كنت أنا والربيع نسير قريباً من محمل المنصور حين قال للربيع رأيت كأن الكعبة تصدعت وكأن رجلاً جاء بحبل أسود فشددها فقال له الربيع من الرجل فلم يُجبه حتى إذا اعتل قال للربيع أنت الرجل الذي رأيته في نومي شدد الكعبة فأي شيء تعمل بعدي قال ما كنت أعمل في حياتك فكان من أمره في أخذ البيعة للمهدي ما كان فقال سلم الخاسر في الفضل بن الربيع ( يا بن الذي جَبَر الإِسلامَ يومَ وهى ... واستنقَذَ الناسَ مِن عَمْياءَ صَيْخودِ ) ( قالت قريشٌ غَداةَ انهاض مُلْكُهُمُ ... أين الربيع وأعطَوْا بالمَقاليدِ ) ( فقام بالأمر مئناسٌ بوَحْدَتِه ... مَاضِي العزيمِة ضرّابُ القَماحيد ) ( إن الأمورَ إِذا ضاقَتْ مَسالِكُها ... حَلَّت يدُ الفضلِ مِنها كلَّ مَعقودِ ) ( إِنّ الربيع وإِن الفضلَ قد بَنَيا ... رواقَ مجدٍ على العبَّاس ممدودِ ) قال فوهب له الفضلُ خمسة آلاف دينار أخبرني عمي قال حدثنا أبو هفان قال حدثني سعيد أبو هريم وأبو دعامة قالا لما قال سلم الخاسر في الرشيد حين عقد لابنه محمد الأمين ( قد بايع الثَّقلانِ في مَهْد الهُدَى ... لمحمد بن زُبَيْدةَ ابنةِ جعفرِ ) ( ولّيته عَهَدَ الأنام وأمْرَهُمْ ... فدمَغْتَ بالمعروف رأسَ المنكرِ ) أعطته زبيدة مائة ألف درهم أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن عمرو قال حدثني أحمد بن علي الخراساني عن يحيى بن الحسن بن عبد الخالق عن أبيه قال قال سلم الخاسر في المهدي قصيدته التي يقول فيها ( له شِيمَةٌ عند بَذْل العَطاء ... لا يَعْرِفُ الناسُ مقدارَها ) ( ومَهْديُّ أُمتِنا والذي ... حماها وأَدرَك أوتارَها ) فأمر له المهدي بخمسمائة ألف درهم أخبرنا وكيع قال حدثنا عبد الله بن سليمان قال حدثنا منصور بن أبي مزاحم قال شهدت المهدي وقد أمر لمروان بن أبي حفصة بأربعين ألف درهم وفرض له على أهل بيته وجلسائه ثلاثين ألف درهم وأمر الرشيد بعد ذلك لما ولى الخلافة لسلم الخاسر وقد مدحه بسبعين ألف درهم فقال له يا أمير المؤمنين إنّ أكثر ما أعطى المهدي مروان ألف درهم فزدني وفضلني عليه ففعل ذلك وأعطاه تتمة ثمانين ألف درهم فقال سلم ( أَلا قُلَ لمروانٍ أَتتْكَ رسالةٌ ... لها نَبَأٌ لا يَنْثني عن لِقائكا ) ( حَبانِي أَميرُ المؤمنين بنَفْحَةٍ ... مُشَهَّرَةٍ قد طأْطأَتْ من حِبَائكا ) ( ثمانين ألفاً حُزْتُ من صُلبِ ماله ... ولم يك قَسْماً من أُولى وأولائكا ) فأجابه مروان فقال ( أَسَلْمَ بنَ عمرو قد تَعاطَيْتَ غايةً ... تُقَصّرُ عنها بعد طُول عنائكا ) ( فأُقسِم لولا ابنُ الربيع ورِفْدُه ... لما ابْتَلّت الدّلوُ التي في رشائكا ) ( وما نِلْت مُذْ صُوِّرتَ إلا عطيّةً ... تَقُوم بها مَصرورةً في ردائكا ) مات سلم فوهب الرشيد تركته حدثني وسواسة بن الموصلي وهو محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال حدثني حماد عن أبيه قال استوهب أبي من الرشيد تركة سلم الخاسر وكان قد مات عن غير وارث فوهبها له قبل أن يتسلمها صاحب المواريث فحصل منها خمسين ألف دينار أخبرني عمي قال حدثني أبو هفان عن سعيد بن هديم وأبي دعامة أنه رفع إلى الرشيد أن سلماً الخاسر قد توفي وخلف مما أخذه منه خاصة ومن زبيدة ألف ألف وخمسمائة ألف درهم سوى ما خلفه من عقار وغيره مما اعتقده قديما فقبضه الرشيد وتظلم إليه مواليه من آل أبي بكر الصديق رضوان الله عليه فقال هذا خادمي ونديمي والذي خلفه من مالي فأنا أحق به فلم يعطهم إلا شيئاً يسيراً من قديم أملاكه أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن القحذمي قال كان مالك وشهاب ابنا عبد الملك بن مسمع ومعن بن زائدةمتواخين لا يكادون يفترقون وكان سلم الخاسر ينادمهم ويمدحهم ويفضلون عليه ولا يحوجونه إلى غيرهم فتوفي مالك ثم أخوه ثم معن في مدة متقاربة فقال سلم يرثيهم ( عَيْنُ جُودِي بِعَبْرةٍ تَهْتَانِ ... وانْدُبِي من أصابَ ريْبُ الزمانِ ) ( وإذا ما بَكَيتِ قَوماً كِراماً ... فَعَلى مالكٍ أبي غَسّانِ ) ( أَينَ معنٌ أبو الوليدِ ومن كان ... غِياثاً لِلْهالِك الحيرانِ ) ( طَرَقْتك المنونُ لا واهِيَ مثلُ الحبلِ ... ولا عاقِداً بِحِلْف يمَانِ ) ( وشهابٌ وأين مثلُ شهابٍ ... عند بَذلِ النّدَى وحَرِّ الطِّعانِ ) ( رُبّ خِرْقٍ رُزِئْتُه منْ بَني قيسٍ وخِرقٍ رُزِئتُ من شيبانِ ) ( دَرَّ دَرُّ الأيام ماذا أجَنَّتْ ... منْهُمُ في لفائف الكتانِ ) ( ذاك معنٌ ثَوى ببست رهيناً ... وشهابٌ ثَوى بأرضِ عُمانِ ) ( وهُما ما هُما لِبَذْلِ العطايا ... ولِلَفِّ الأقران بالأقرانِ ) ( يَسْبقان المنونَ طَعناً وضرباًً ... ويَفُكَّانِ كُلّ كبْل وَعانِ ) أخبرني وكيع قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني عبد الصمد بن المعذل قال لما أنشد سلم الخاسر الرشيد قصيدته فيه ( حَضَر الرَّحِيلُ وَشُدَّت الأحْداجُ ... ) أمر له بمائة ألف درهم حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال دخل سلم الخاسر على الفضل بن يحي في يوم نيروز والهدايا بين يديه فأنشده ( أَمِنْ رَبْعٍ تسائلهُ ... وقَدْ أقْوَتْ منازلُهُ ) ( بقَلْبِي مِنْ هَوَى الأصلالِ ... حُبٌّ ما يُزْايِلُهُ ) ( رُوَيدَكُمُ عن المَشْغوفِ ... إنَّ الحُبَّ قاتلُهُ ) ( بَلابِلُ صَدره تَسْرى ... وقد نامت عواذِلُهُ ) ( أحقُّ الناسِ بالتفضيلِ ... مَن تُرْجَى فَوَاضِلُهُ ) ( رأيتُ مكارمَ الأخْلاقِ ... ما ضَنَّت حَمائلُهُ ) ( فلست أرَى فتَىً في الناس ... إلا الفَضْلُ فاضِلُهُ ) ( يقولِ لِسانُه خَيْراً ... فَتَفْعلُه أناملُهُ ) ( ومهما يُرْجَ مِنْ خيرٍ ... فإن الفضل فاعلُهُ ) وكان إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق حاضرين فقال لإبراهيم كيف ترى وتسمع قال أحسن مرئي ومسموع وفضل الأمير أكثر منه فقال خُذوا جميع ما أهدي إلي اليوم فاقتسموه بينكم أثلاثاً إلا ذلك التمثال فإني أريد أن أهديه اليوم إلى دنانير ثم قال لا والله ما هكذا تفعل الأحرار يقوم وندفع إليهم ثمنه ثم نهديه فقوم بألفي دينار فحملها إلى القوم من بيت ماله واقتسموا جميع الهدايا بينهم أخبرني هاشم بن محمد الخُزاعي قال حدثني عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثني القحذمي قال قيل لمعن بن زائدة ما أحسن ما مدحت به من الشعر عندك قال قول سلم الخاسر ( أبْلِغ الفِتْيانَ مأْلُكةً ... أنَّ خيرَ الوُدّ ما نَفَعا ) ( أنَّ قَرْماً من بَني مَطَرٍ ... أتلَفَتْ كفّاه ما جَمعا ) ( كُلّما عُدْنا لنائِله ... عاد في معروفه جَذَعا ) أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة وأخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه عن أبي توبة قال حدث في أيام الرشيد أمر فاحتاج فيه إلى الرأي فأشكل وكان الفضل بن يحي غائباً فورد في ذلك الوقت فأخبروه بالقصة فأشار بالرأي في وقته وأنفذ الأمر على مشورته فحمد ما جرى فيه فدخل عليه سلم الخاسر فأنشده ( بَدِيهَتُه وَفِكْرتُه سواءٌ ... إذا ما نَابَهُ الخَطْبُ الكبيرُ ) ( وَأحَزَمُ ما يكونُ الدَّهرَ رأياً ... إِذا عيّ المُشَاوِرُ والمُشير ) فأمر له بعشرة آلاف درهم اشترى سكوت أبي الشمقمق عن هجائه أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو العيناء قال حدثني الجماز أن أبا الشمقمق جاء إلى سلم الخاسر يستميحه فمنعه فقال له اسمع إذا ما قلته وأنشده ( حَدَّثُوني أنّ سَلماً ... يَشْتَكي جارةَ أيْرِهْ ) ( فَهْو لا يَحْسُدُ شيئاً ... غيرَ أيْرٍ في أست غيرِهْ ) ( وإِذا سرَّك يَوْماً ... يا خليلي نيْلَ خَيرِهْ ) ( قُمْ فَمُرْ راهِبَك الأصْلَعَ ... يقرع بابَ ديْرِهْ ) فضحك سلم وأعطاه خمسة دنانير وقال له أحب جعلت فداك أن تصرف راهبك الأصلع عن باب ديرنا أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال حدثني أبو دعامة قال دخل سلم الخاسر على الرشيد فأنشده ( حَيِّ الأحِبَّةَ بالسلام ... ) قال الرشيد ( حياهُم اللهُ بالسلامِ ... ) فقال ( عَلَى وَداع أم مُقام ... ) فقال الرشيد حياهم الله على أي ذلك كان فأنشده ( لَمْ يَبقَ منكَ ومِنْهُم ... غيرُ الجلودِ على الطعام ) فقال له الرشيد بل منك وأمر بإخراجه وتطير منه ومن قوله فلم يسمع منه باقي الشعر ولا أثابه بشيء ( أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال أتت وفاة المهدي إلى موسى الهادي وهو بجرجان فبويع له هناك فدخل عليه سلم الخاسر مع المهنئين فهنأه بخلافة الله ثم أنشده ( لَمَّا أتتْ خيرَ بَني هاشمٍ ... خلافةُ الله بجُرْجانِ ) ( شَمَّر لِلْحزمِ سَرابيلَه ... بِرَأْي لاغَمْرٍ ولا وانِ ) ( لم يُدخِل الشُّورَى على رأْيه ... والحزْمُ لا يُمضيه رأيانِ ) أخبرني الحسن بن علي وعمي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني صالح بن عبد الرحمن عن أبيه قال دخل سلم الخاسر على الرشيد وعنده العباس بن محمد وجعفر بن يحي فأنشده قوله فيه ( حَضَرَ الرّحيلُ وشدت الأحداجُ ... ) فلما انتهى إلى قوله ( إن المنايا في السيوف كَوامِنٌ ... حتى يُهَيِّجَها فتىً هَيّاجُ ) فقال الرشيد كان ذلك معن بن زائدة فقال صدق أمير المؤمنين ثم أنشد حتى انتهى إلى قوله ( ومُدَجَّجٍ يَغْشَى المَضِيقَ بسَيْفه ... حتى يكونَ بسيفِهِ الإفراجُ ) فقال الرشيد ذلك يزيد بن مزيد فقال صدق أمير المؤمنين فاغتاظ جعفر بن يحي وكان يزيد بن مزيد عدوا للبرامكة مصافياً للفضل بن الربيع فلما انتهى إلى قوله ( نَزَلَتْ نُجومُ الليلِ فَوَق رؤوسِهمْ ... ولِكلِّ قومٍ كوكبٌ وهّاجُ ) قال له جعفر بن يحي من قلة الشعر حتى تمدح أمير المؤمنين بشعر قيل في غيره هذا لبشار في فلان التميمي فقال الرشيد ما تقول يا سلم قال صدق يا سيدي وهل أنا إلا جزء من محاسن بشار وهل أنطق إلا بفضل منطقه وحياتك يا سيدي إني لأروي له تسعة آلاف بيت ما يعرف أحد غيري منها شيئاً فضحك الرشيد وقال ما أحسن الصدق امض في شعرك وأمر له بمائة ألف درهم ثم قال للفضل بن الربيع هل قال أحد غير سلم في طينا المنازل شيئاً وكان الرشيد قد انصرف من الحج وطوى المنازل فوصف ذلك فقال الفضل نعم يا أمير المؤمنين النمري فأمر سلماً أن يثبت قائماً حتى يفرغ النمري من إنشاده فأنشده النمري قوله ( تَخَرّق سِرْبالُ الشبابِ مع البُرْد ... وحالَتْ لنا أُمُّ الوليد عن العهد ) فقال الرشيد للعباس بن محمد أيهما أشعر عندك يا عم قال كلاهما شاعر ولو كان كلام يستفحل لجودته حتى يؤخذ منه نسل لاستفحلت كلام النمري فأمر له بمائة ألف درهم أخرى أخبرني عمي قال أنشدني أحمد بن أبي طاهر لأشجع السلمي يرثي سلماً ومات سلم قبله ( يا سَلمُ إن أصبَحْت في حُفرةٍ ... موسَّداً تُرْباً وأحجارا ) ( فَرُبُّ بيتٍ حسنٍ قُلتَه ... خَلّفتَه في الناس سيّاراً ) ( قَلّدتَه ربّاً وَسَيّرتَه ... فكان فخراً منك أو عاراً ) ( لو نطق الشعر بكى بعده ... عليه إعلاناً وإسراراً ) صوت ( يا ويحَ من لعب الهَوى بحياته ... فأماته من قبلِ حينَ مماته ) ( مَنْ ذا كذا كان الشقي بشادن ... هاروت بين لسانه ولَهاتِه ) ( وحياة من أهوَى فإِنّي لم أكن ... يوماً لأحلف كاذباً بحياته ) ( لأخالِفَنَّ عَواذِلي في لذّتِي ... ولأُسْعِدَنّ أخي عَلَى لذّاته ) الشعر لبعض شعراء الحجازيين ولم يقع إلينا اسمه والغناء لأبي صدقة رمل بالبنصر أخبار أبي صدقة اسمه مسكين بن صدقة من أهل المدينة مولى لقريش وكان مليح الغناء طيب الصوت كثير الرواية صالح الصنعة من أكثر الناس نادرة وأخفهم روحاً وأشدهم طمعاُ وألحهم في مسألة وكان له ابن يقال له صدقة يغني وليس من المعدودين وابن ابنه أحمد بن صدقة الطنبوري أحد المحسنين من الطنبوريين وله صنعة جيدة وكان أشبه الناس بجده في المزح والنوادر وأخباره تذكر بعد أخبار جده وأبو صدقة من المغنين الذي أقدمهم هارون الرشيد من الحجاز في أيامه أخبرني علي بن عبد العزيز عن عبيد الله بن عبد الله قال قيل لأبي صدقة ما : أكثر سؤالك وأشد إلحاحك فقال وما يمنعني من ذلك واسمي مسكين وكنيتي أبو صدقة وامرأتي فاقة وابني صدقة أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي أن الرشيد قال للحارث بن بسخنر قد اشتهيت أن أرى ندمائي ومن يحضر مجلسي من المغنين جميعا في مجلس واحد يأكلون ويشربون ويتبذلون منبسطين على غير هيبة ولا احتشام بل يفعلون ما يفعلون في منازلهم وعند نظرائهم وهذا لا يتم إلا بأن أكون بحيث لا يرونني عن غير علم منهم برؤيتي إياهم فأعد لي مكاناً أجلس فيه أنا وعمي سليمان وإخوتي إبراهيم بن المهدي وعيسى بن جعفر وجعفر بني يحيى فإنا مغلسون عليك غداة غد واستزر أنت محمد بن خالد بن برمك وخالداً أخاً مهرويه والخضر بن جبريل وجميع المغنين وأجلسهم بحيث نراهم ولا يروننا وابسط الجميع وأظهر برهم واخلع عليهم ولا تدع من الإكرام شيئاً إلى فعلته بهم ففعل ذلك الحارث وقدم إليهم الطعام فأكلوا والرشيد ينظر إليهم ثم دعا لهم بالنبيذ فشربوا وأحضرت الخلع وكان ذلك اليوم يوماً شديد البرد فخلع على ابن جامع جبة خز طاروني مبطنة بسمور صيني وخلع على إبراهيم الموصلي جبة وشيءٍ كوفي مرتفع مبطنة بفنك وخلع على أبي صدقة دراعة ملحم خراساني محشوة بقز ثم تغنى ابن جامع وتغنى بعده إبراهيم وتلاهما أبو صدقة فغنى لابن سريج ( ومِنْ أجْلِ ذات الخال أعملْتُ ناقتي ... أُكلِّفها سَيَر الكَلالِ مع الظَّلْعِ ) فأجاده واستعاده الحارث ثلاثاً وهو يعيده فقال له الحارث أحسنت والله يا أبا صدقة قال له هذا غنائي وقد قرصني البرد فكيف تراه فديتك كان يكون لو كان تحت دراعتي هذه شعيرات يعني الوبر والرشيد يسمع ذلك فضحك فأمر بأن يخلع عليه دراعة ملحم مبطنة بفنك ففعلوا ثم تغنى الجماعة وغنى أبو صدقة لمعبد ( بان الخليط على بُزْلٍ مخيّسةٍ ... هُدْلِ المشافر أدنى سيرِها الرّمَلُ ) ثم تغنى بعده لمعبد أيضاً ( بانَ الخليطُ ولو طُووِعت ما بانا ... وقطّعوا من حِبال الوصلِ أقرانا ) فأقام فيهما جميعاً القيامة فطرب الرشيد حتى كاد أن يخرج إلى المجلس طرباً فقال له الحارث أحسنت والله يا أبا صدقة فديتك وأجملت فقال أبو صدقة فكيف ترى فديتك الحال تكون لو كانت على هذه الدراعة نقيطات يعني الوشي فضحك الرشيد حتى ظهر ضحكه وعلموا بموضعه وعرف علمهم بذلك فأمر بإدخالهم إليه وأمر بأن يخلع على أبي صدقة دراعة أخرى مبطنة فخلعت عليه أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال سأل الحسن بن سليمان أخو عبيد الله بن سليمان الطفيلي الفضل وجعفراً ابني يحي أن يقيما عنده يوماً فأجاباه فواعد عدة من المغنين فيهم أبو صدقة المدني فقال لأبي صدقة إنك تبرم بكثرة السؤال فصادرني على شيء أدفعه إليك ولا تسأل شيئاً غيره فصادره على شيء أعطاه إياه فلما جلسوا وغنوا أعجبوا بغناء أبي صدقة واقترحوا عليه أصواتاً من غناء ابن سريج ومعبد وابن محرز وغيرهم فغناهم ثم غنى والصنعة له رمل ( يا ويحَ مَن لعب الهَوى بحياتِه ... فأَماته مِنْ قَبْلِ حينِ مماتِه ) ( مَنْ ذا كذا كان الشقيَّ بِشادِنٍ ... هاروتُ بين لسانِه ولهَاتِه ) وذكر الأبيات الأربعة المتقدم ذكرها قال فأجاد وأحسن ما شاء وطرب جعفر فقال له أحسنت وحياتي وكان عليه دواج خز مبطن بسمور جيد فلما قال له ذلك شرهت نفسه وعاد إلى طبعه فقال لو أحسنت ما كان هذا الدواج عليك ولتخلعنه علي فألقاه عليه ثم غنى أصواتاً من القديم والحديث وغنى بعدها من صناعته في الرمل ( لَمْ يَطُل العهدُ فتنساني ... ولَمْ أَغِبْ عنك فتنعاني ) ( بَدّلتَ بي غيري وباهتَّني ... ولم تكن صاحبَ بُهتانِ ) ( لا وَثِقَتْ نفسي بإنسانٍ ... بَعدك في سرٍّ وإِعلانِ ) ( أعطيتني ما شئتُ من مَوْثِقٍ ... منك ومن عهدٍ وأيمانِ ) فقال له الفضل أحسنت وحياتي فقال لو أحسنت لخلعت علي جبة تكون شكلا لهذا الدواح فنزع جبته وخلعها عليه وسكروا وانصرفوا فوثب الحسن بن سليمان فقال له قد وافقتك على ما أرضاك ودفعته إليك على ألا تسأل أحداً شيئاً فلم تف وقد أخذت مالك والله لا تركت عليك شيئاً مما أخذته ثم انتزعته منه كرهاً وصرفه فشكاه أبو صدقة إلى الفضل وجعفر فضحكا منه وأخلفا عليه ما ارتجعه الطفيلي منه من خلعهما نسبة ما مضى في هذه الأخبار من الغناء صوت ( بانَ الخليطُ على بُزْلٍ مُخَيَّسةٍ ... هُدْلِ المشافِرِ أدنى سيرِها الرملُ ) ( مِنْ كل أعيَس نضَّاح القفا قَطِمٍ ... ينفِي الزمام إذا ما حنّت الإِبلُ ) الغناء لابن عائشة خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو والهشامي وقال الهشامي خاصة فيه لابن محرز هزج ولإسحاق ثقيل أول ووافقه ابن المكي وما وجدت لمعبد فيه صنعة في شيء من الروايات إلا في المذكور وأما ( بان الخليط ولو طووعت ما بانا ... ) فقد مضى في المائة المختارة ونسب هناك وذكرت أخباره أسباب إلحاحه أخبرني رضوان بن أحمد قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال كان أبو صدقة أسأل خلق الله وألحهم فقال له الرشيد ويلك ما أكثر سؤالك فقال وما يمنعني من ذلك واسمي مسكين وكنيتي أبو صدقة واسم أبني صدقة وكانت أمي تلقب فاقة واسم أبي صدقة فمن أحق مني بهذا وكان الرشيد يعبث به عبثاً شديداً فقال ذات يوم لمسرور قل لابن جامع وإبراهيم الموصلي وزبير بن دحمان وزلزل وبرصوصا وابن أبي مريم المديني إذا رأيتموني قد طابت نفسي فليسألني كل واحد منهم حاجة مقدارها مقدار صلته وذكر لكل واحد منهم مقدار ذلك وأمرهم أن يكتموا أمرهم عن أبي صدقة فقال لهم مسرور ما أمره به ثم أذن لأبي صدقة قبل إذنه لهم فلما جلس قال له يا أبا صدقة قد أضجرتني بكثرة مسألتك وأنا في هذا اليوم ضجر وقد أحببت أن أتفرج وأفرح ولست آمن أن تنغص علي مجلسي بمسألتك فإما أن أعفيتني من أن تسألني اليوم حاجة وإلا فانصرف فقال له يا سيدي لست أسألك في هذا اليوم ولا إلى شهر حاجة فقال له الرشيد أما إذ شرطت لي هذا على نفسك فقد اشتريت منك حوائجك بخمسمائة دينار وها هي ذه فخذها هنيئة معجلة فإن سألتني شيئاً بعدها في هذا اليوم فلا لوم علي إن لم أصلك سنة بشيء فقال له نعم وسنتين فقال له الرشيد زدني في الوثيقة فقال قد جعلت أمر أم صدقة في يدك فطلقها متى شئت إن شئت واحدة وإن شئت ألفاً إن سألتك في يومي هذا حاجة وأشهد الله ومن حضر على ذلك فدفع إليه المال ثم أذن للجلساء والمغنين فحضروا وشرب القوم فلما طابت نفس الرشيد قال له ابن جامع يا أمير المؤمنين قد نلت منك ما لم تبلغه أمنيتي وكثر إحسانك إلي حتى كبت أعدائي وقتلتهم وليست لي بمكة دار تشبه حالي فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بمال أبني به داراً وأفرشها بباقيه لأفقأ عيون أعدائي وأزهق نفوسهم فعل فقال وكم قدرت لذلك قال أربعة آلاف دينار فأمر له بها ثم قام إبراهيم الموصليّ فقال له قد ظهرت نعمتك علي وعلى أكابر ولدي وفي أصاغرهم من قد بلغ وأريد تزويجه ومن أصاغرهم من أحتاج إلى أن أطهره ومنهم صغار أحتاج إلى أن أتخذ لهم خدماً فإن رأى أمير المؤمنين أن يحسن معونتي على ذلك فعل فأمر له بمثل ما أمر لابن جامع وجعل كل واحد منهم يقول فيقول من الثناء ما يحضره ويسأل حاجة على قدر جائزته وأبو صدقة ينظر إليهم وإلى الأموال تفرق يميناً وشمالاً فوثب على رجليه قائماً وقال للرشيد يا سيدي أقلني أقال الله عثرتك فقال له الرشيد لا أفعل فجعل يستحلفه ويضطرب ويلح والرشيد يضحك ويقول ما إلى ذلك سبيل الشرط أملك فلما عيل صبره أخذ الدنانير فرمى بها بين يدي الرشيد وقال له هاكها قد رددتها عليك وزدتك فرج أم صدقة فطلقها إن شئت واحدة وإن شئت ألفاً وإن لم تلحقني بجوائز القوم فألحقني بجائزة هذا البارد ابن الباردة عمرو الغزال وكانت صلته ألف دينار فضحك الرشيد حتى استلقى ثم رد عليه الخمسمائة الدينار وأمر له بألف دينار معها وكان ذلك أكثر ما أخذه منه مذ يوم خدمه إلى أن مات فانصرف يومئذ بألف وخمسمائة دينار جعفر بن يحي والرشيد يعبثان به أخبرني رضوان بن أحمد قال حدثني يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق قال مطرنا ونحن مع الرشيد بالرقة مطراً مع الفجر واتصل إلى غد ذلك اليوم وعرفنا خبر الرشيد وأنه مقيم عند أم ولده المسماة بسحر فتشاغلنا في منازلنا فلما كان من غد جاءنا رسول الرشيد فحضرنا جميعاً وأقبل يسأل واحداً واحداً عن يومه الماضي ما صنع فيه فيخبره إلى أن انتهى إلى جعفر بن يحي فسأله عن خبره فقال كان عندي أبو زكار الأعمى وأبو صدقة فكان أبو زكار كلما غنى صوتاً لم يفرغ منه حتى يأخذه أبو صدقة فإذا انتهى الدور إليه أعاده وحكى أبا زكار فيه وفي شمائله وحركاته ويفطن أبو زكار لذلك فيجن ويموت غيظاً ويشتم أبا صدقة كل شتم حتى يضجر وهو لا يجيبه ولا يدع العبث به وأنا أضحك من ذلك إلى أن توسطنا الشراب وسئمنا من العبث به فقلت له دع هذا وغن غناءك فغنى رملاً ذكر أنه من صنعته طربت له والله يا أمير المؤمنين طربا ما أذكر أني طربت مثله منذ حين هو صوت ( فتَنْتَنِي بفاحمِ اللون جَعْدٍ ... وبِثَغر كأنه نظم دُرٍّ ) ( وبِوجهٍ كأنه طلعة البدرِ ... وعَينٍ في طَرفها نَفْث سِحْرِ ) فقلت له أحسنت والله يا أبا صدقة فلم أسكت عن هذه الكلمة حتى قال لي إني قد بنيت داراً حتى أنفقت عليها حريبتي وما أعددت لها فرشاً فافرشها لي نجد الله لك في الجنة ألف قصر فتغافلت عنه وعاود الغناء فتعمدت أن قلت له أحسنت ليعاود مسألتي وأتغافل عنه فسألني وتغافلت فقال لي يا سيدي هذا التغافل متى حدث ذلك سألتك بالله وبحق أبيك عليك إلا أجبتني عن كلامي ولو بشتم فأقبلت عليه وقلت له أنت والله بغيض اسكت يا بغيض واكفف عن هذه المسألة الملحة فوثب من بين يدي وظننت أنه خرج لحاجة وإذا هو قد نزع ثيابه وتجرد منها خوفاً من أن تبتل ووقف تحت السماء لا يواريه منها شيء والمطر يأخذه ورفع رأسه وقال يا رب أنت تعلم أني مله ولست نائحاً وعبدك هذا الذي رفعته وأحوجتني إلى خدمته يقول لي أحسنت لا يقول لي أسأت وأنا منذ جلست أقول له بنيت لم أقل هدمت فيحلف بك جرأة عليك أني بغيض فاحكم بيني وبينه يا سيدي فأنت خير الحاكمين فغلبني الضحك وأمرت به فتنحى وجهدت به أن يغني فامتنع حتى حلفت له بحياتك يا أمير المؤمنين أني أفرش له داره وخدعته فلم أسم له ما أفرشها به فقال الرشيد طيب والله الآن تم لنا به اللهو وهو ذا أدعو به فإذا رآك فسوف يقتضيك الفرش لأنك حلفت له بحياتي فهو ينتجز ذلك بحضرتي ليكون أوثق له فقل له أنا أفرشها لك بالبواري وحاكمه إليه ثم دعا به فأحضر فما استقر في مجلسه حتى قال لجعفر بن يحي الفرش الذي حلفت لي بحياة أمير المؤمنين أنك تفرش به داري تقدم فيه فقال له جعفر اختر إن شئت فرشتها لك بالبواري وإن شئت بالبردي من الحصر فضج واضطرب فقال له الرشيد وكيف كانت القصة فأخبره فقال له أخطأت يا أبا صدقة إذ لم تسم النوع ولا حددت القيمة فإذا فرشها لك بالبواري أو بالبردي أو بما دون ذلك فقد وفى يمينه وإنما خدعك ولم تفطن له أنت ولا توثقت وضيعت حقك فسكت وقال نوفر البردي والبواري عليه أيضاً أعزه الله وغنى المغنون حتى انتهى إليه الدور فأخذ يغني غناء الملاحين والبنائين والسقائين وما جرى مجراه من الغناء فقال له الرشيد أيش هذا الغناء ويلك قال من فرشت داره بالبواري والبردي فهذا الغناء كثير منه وكثير أيضاً لمن هذه صلته فضحك الرشيد والله وطرب وصفق ثم أمر له بألف دينار من ماله وقال له افرش دارك من هذه فقال وحياتك لا آخذها يا سيدي أو تحكم لي على جعفر بما وعدني وإلا مت والله أسفاً لفوات ما حصل في طمعي ووعدت به فحكم له على جعفر بخمسمائة دينار فقبلها جعفر وأمر له بها سبب وصوله إلى السلطان أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان سبب وصول أبي صدقة إلى السلطان أن أبي لما حج مر بالمدينة فاحتاج إلى قطع ثياب فالتمس خياطاً حاذقاً فدل على أبي صدقة ووصف له بالحذق في الخياطة والحذق في الغناء وخفة الروح فأحضره فقطع له ما أراد وخاطه وسمع غناءه فأعجبه وسأله عن حاله فشكا إليه الفقر فخلف لعياله نفقة سابغة لسنة ثم أخذه معه وخلطه بالسلطان قال حماد فقال أبو صدقة يوماً لأبي قد اقتصرت بي على صنعة أبي إسحاق أبيك رحمه الله عندي وأنت لا رب ذلك بشيء فقال له هذه الصينية الفضة التي بين يدي لك إذا انصرفت فشكره وسر بذلك ولم يزل يغنيه بقية يومه فلما أخذ النبيذ فيه قام قومه ليبول فدعا أبي بصينية رصاص فحول قنينته وقدحه فيها ورفع الصينية الفضة فلما أراد أبو صدقة الانصراف شد أبي الصينية في منديل ودفعها إلى غلامه وقال له بت الليلة عندي واصطبح غداً واردد دابتك فقال إني إذا لأحمق أدفع إلى غلامي صينية فضة فيأخذها ويطمع فيها أو يبيعها ويركب الدابة ويهرب ولكني أبيت عندك فإذا انصرفت غداً أخذتها معي وبات وأصبح عندنا مصطبحاً فلما كان وقت انصرافه أخذها ومضى فلم يلبث من غد أن جاءنا والصينية معه فإذا هو قد وجه بها لتباع فعرفوه أنها رصاص فلما رآه أبي من بعيد ضحك وعرف القصة وتماسك فقال له أبو صدقة نعم الخلافة خلفت أباك وما أحسن ما فعلت بي قال وأي شيء فعلت بك قال أعطيتني صينية رصاص فقال له أبي سخنت عينك سخرت امرأتك بك وأنا من أين لي صينية رصاص فتشكك ساعة ثم قال أظن والله أن ذلك كذلك فقام فقال له أبي إلى أين قال أضع والله عليها السوط فأضربها به حتى ترد الصينية فلما رأى أبي الجد منه قال له اجلس يا أبا صدقة فإنما مزحت معك وأمر له بوزنها دراهم صوت ( إنّ مَنْ يملِكُ رِقّي ... مالكٌ رقّ الرِّقابِ ) ( لم يكن يا أحسن العالم ... هذا في حسابي ) الشعر لفضل الشاعرة والغناء لعريب خفيف ثقيل بالوسطى عن ابن المعتز أخبار فضل الشاعرة كانت فضل جارية مولدة من مولدات البصرة وكانت أمها من مولدات اليمامة بها ولدت ونشأت في دار رجل من عبد القيس وباعها بعد أن أدبها وخرجها فاشتريت وأهديت إلى المتوكل وكانت هي تزعم أن الذي باعها أخوها وأن أباها وطىء أمها فولدتها منه فأدبها وخرجها معترفاً بها وأن بنيه من غير أمها تواطأوا على بيعها وجحدها ولم تكن تعرف بعد أن أعتقت إلا بفضل العبدية وكانت حسنة الوجه والجسم والقوام أديبة فصيحة سريعة البديهة مطبوعة في قول الشعر ولم يكن في نساء زمانها أشعر منها أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال كانت فضل الشاعرة لرجل من النخاسين بالكرخ يقال له حسنويه فاشتراها محمد بن الفرج أخو عمر بن الفرج الرخجي وأهداها إلى المتوكل فكانت تجلس للرجال ويأتيها الشعراء فألقى عليها أبو دلف القاسم بن عيسى ( قالوا عَشْقتَ صغيرةً فأجبتُهمْ ... أشهى المَطيِّ إليّ ما لم يُرْكَبِ ) ( كم بَيْنَ حبّة لؤلؤ مثقوبةٍ ... نُظِمتْ وحبةِ لؤلؤٍ لم تُثْقَبِ ) فقالت فضل مجيبة له ( إن المطية لا يَلَذُّ رُكوبُها ... ما لم تُذَلَّلْ بالزِّمام وتُركَبِ ) ( والدُّرُّ ليس بنافعٍ أصحابَه ... حتى يُؤلَّف للنِّظامِ بمِثْقَبِ ) شعرها في المتوكل حدثني عمي ومحمد بن خلف قالا حدثنا أبو العيناء قال لما دخلت فضل الشاعرة على المتوكل يوم أهديت إليه قال لها أشاعرة أنت قالت كذا زعم من باعني واشتراني فضحك وقال أنشدينا شيئا من شعرك فأنشدته ( استقبل الملكَ إِمامُ الهدى ... عامَ ثلاثٍ وثلاثينا ) تعني سنة ثلاث وثلاثين ومائتين من سني الهجرة ( خِلافةُ أفْضَت إلى جعفر ... وهو ابنُ سبع بعْدَ عِشرينا ) ( إنّا لنَرجو يا إمام الهدى ... أن تَمْلِكَ الناس ثمانينا ) ( لا قدَّسَ اللهُ امرأً لم يَقُلْ ... عندَ دُعائي لك آمينا ) فاستحسن الأبيات وأمر لها بخمسة آلاف درهم وأمر عريب فغنت فيها حدثني عمي قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون قال عرضت على المعتمد جارية تباع في خلافة المتوكل وهو يومئذ حديث السن فاشتط مولاها في السوم فلم يشترها وخرج بها إلى ابن الأغلب فبيعت هناك فلما ولي المعتمد الخلافة سأل عن خبرها وقد ذكرها فأعلم أنها بيعت وأولدها مولاها فقال لفضل الشاعرة قولي فيها شيئاً فقالت ( عَلَم الجمَالِ تركْتني ... في الحُبّ أشهرَ مِن عَلَمْ ) ( وَنَصَبْتَنِي يا مُنْيَتي ... غَرَضَ المَظِنَّةِ والتُّهمْ ) ( فارقتنِي بعدَ الدّنوّ ... فصِرْتِ عندي كالحُلُمْ ) ( فَلَوَ أن نَفْسي فارَقَتْ ... جسمي لِفَقدكٍ لم تُلَمْ ) ( ما كان ضرّكِ لو وَصَلْت ... فخف عن قَلبي الألمْ ) ( بِرِسالةٍ تُهْدينها ... أو زَوْرَةٍ تحتَ الظُّلَمْ ) ( أَوْلاَ فَطيفي في المنامِ ... فلا أقلَّ من الَّلمَم ) ( صِلَةُ المحبِّ حَبِيبَه ... اللَّهُ يَعْلَمُه كَرَمْ ) نماذج من شعرها حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال كتب بعض أهلنا إلى فضل الشاعرة ( أصبحْتُ فَرْدا هائم العَقْل ... إلى غزال حَسَنِ الشكلِ ) ( أَضْنَى فؤادي طولُ عهدي بِه ... وبُعْدُه منِّي ومِن وَصْلي ) ( مُنْيةُ نفسي في هَوىَ فَضْل ... أنْ يجمعَ الَّلهُ بها شَمْلي ) ( أهْواكِ يا فضلُ هوى خالصاً ... فما لِقَلْبي عنكِ من شُغْل ) قال فأجابته صوت ( الصبرُ ينقص والسَّقامُ يَزيدُ ... والدارُ دانيةٌ وأنتَ بَعيدُ ) ( أَشكُوكَ أَمْ أشكو إليكَ فإنه ... لا يَستطيعُ سواهما المجهودُ ) ( إني أَعُوذ بحُرْمتي بكَ في الهَوى ... مِنْ أن يطاعَ لديكَ في حَسودُ ) في هذه الأبيات رمل طنبوري وأظنه لجحظة أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني الحسن بن عيسى الكوفي قال حدثنا أبو دهمان وأخبرني أيضاً به عبد الله بن نصر المروزي قالا كانت فضل الشاعرة من أحسن الناس وجهاً وخلقاً وخلقاً وأرقهم شعراً فكتب إليها بعض من كان يجمعه وإياها مجلس الخليفة ولا تطلعه على حبها له ( ألا ليتَ شِعري فيكِ هل تَذْكرينَنَي ... فذِكراكِ في الدنيا إليّ َحَبِيبُ ) ( وهل لي نصيبٌ في فؤادِكِ ثابتٌ ... كما لكِ عندي في الفؤادِ نَصيبُ ) ( ولستُ بمَوْصولٍ فأَحيا بِزَوْرَةٍ ... ولا النفسُ عند اليأس عنكِ تَطيب ) قال فكتبت إليه ( نَعَم وإِلهي إِنني بكَ صَبّةٌ ... فهل أنتَ يا مَن لا عَدِمتُ مُثيب ) ( لِمَنْ أنتَ منه في الفؤادِ مصوَّر ... وفي العَيِنِ نُصْبَ العينِ حين تَغيب ) ( فَثِقْ بودادٍ أنت مُظهرُ مثلِه ... عَلَى أنّ بي سُقْماً وأنتَ طبيب ) أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني يحي بن علي بن يحي المنجم قال حدثني الفضل بن العباس الهاشمي قال حدثتني بنان الشاعرة قالت اتكأ المتوكل على يدي ويد فضل الشاعرة وجعل يمشي بيننا ثم قال أجيزا لي قول الشاعر ( تعلمتُ أسباب الرضا خوفَ عَتْبها ... وعَلّمها حُبِّي لها كيف تَغضَب ) فقالت له فضل ( تَصُدُّ وأدنْو بالمودةِ جاهدا ... وتَبعُد عني بالوصال وأقرُب ) فقلت أنا ( وعندِي لها العُتبى على كلّ حالة ... فما مِنْه لي بدّ ولا عنه مذهب ) أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال ألقى بعض أصحابنا على فضل الشاعرة ( ومستفتِحٍ بابَ البلاءِ بنَظْرةٍ ... تَزوَّدَ منها قلبُه حسْرةَ الدهْرِ ) فقالت ( فوالله ما يَدري أتَدْري بما جَنَت ... عَلَى قلبِه أو أهلكَتْه وما تَدْري ) أخبرني محمد بن خلف قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال ألقيت أنا على فضل الشاعرة ( عَلَمَ الجمالِ تركْتِني ... بهواكِ أشهرَ مِنْ عَلمْ ) فقالت على البديهة ( وأبحتَني يا سيِّدي ... سَقَماً يجلّ عن السقَمْ ) ( وتَرَكْتَني غَرَضاً فَدَيْتُكَ ... للعوَاذِلِ والتُّهمْ ) ( صلَةُ المحبِّ حبيبَه ... اللهُ يَعلَمُه كَرَم ) أخبرني محمد بن خلف قال حدثني محمد بن الوليد قال سمعت علي بن الجهم يقول كنت يوماً عند فضل الشاعرة فلحظتها لحظة استرابت بها فقالت ( يارُبَّ رامٍ حَسَنٍ تَعرُّضُهْ ... يرمي ولا يُشعِر أني غرضُهْ ) فقلت ( أيُّ فتى لَحْظُكِ ليس يُمْرضُهْ ... وأيُّ عَقدٍ محكَمٍ لا يَنْقُضُهْ ) فضحكت وقالت خذ في غير هذا الحديث حدثني عمي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال كتبت فضل الشاعرة إلى سعيد بن حميد أيامَ كانت بينهما محبة وتواصل ( وعيشِك لَو حرّحتُ باسمِك في الهوى ... لأ قَصَرْتُ عن أشياءَ في الهْزل والجِدِّ ) ( ولكنني أُبدِي لهذا مَوَدَّتي ... وذاك وأَخلو فيكَ بالبَثَّ والوَجْد ) ( مخافَة أن يُغْرِي بنا قولُ كاشحٍ ... عدُوّاً فيسَعى بالوِصالِ إلى الصدِّ ) فكتب إليها سعيد ( تنامِين عن لَيْلى وأسهَرُه وحدي ... وأنهَى جفوني أن تبُثَّك ما عِنْدي ) ( فإنْ كنتِ لا تَدْرين ما قد فعلْتِه ... بنا فانظُري ماذا على قاتِلِ العمدِ ) قال عمي هكذا ذكر ابن مهرويه وحدثني به علي بن الحسين بن عبد الأعلى فذكر أن بيتي سعيد كانا الابتداء وأن أبيات فضل كانت الجواب وذكر لهما خبراً في عتاب عاتبها به ولم أحفظه وإنما سمعته يذكره ثم أخرج إلي كتاباً بعد ذلك فيه أخبار عن علي ابن الحسين فوجدت هذا الخبر فيه فقرأته عليه قال علي بن الحسين بن عبد الأعلى حضر سعيد بن حميد مجلساً حضرته فضل الشاعرة وبنان وكان سعيد يهواها وتظهر له هوى ويتهمها مع ذلك ببنان فرأى فيها إقبالاً شديداً على بنانٍ فغضب وانصرف فكتبت إليه فضل بالأبيات الأول وأجابها بالبيتين الآخرين فاتفقت رواية ابن مهرويه وعلي بن الحسين في هذا الخبر أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو يوسف بن الدقاق الضرير قال صرت أنا وأبو منصور الباخرزي إلى منزل فضل الشاعرة فحجبنا عنها وانصرفنا وما علمت بنا ثم بلغها مجيئنا وانصرافنا فكرهت ذلك وغمها فكتبت إلينا تعتذر ( وما كنْت أَخشى أَن تَروْا ليَ زَلّةً ... ولكنّ أَمْرَ اللهِ ما عَنْه مَذْهبُ ) ( أَعُوذ بحُسنِ الصفحِ منكمْ وقَبْلَنا ... بِصفْحٍ وعفوٍ ما تعوّذ مُذْنب ) فكتب إليها أبو منصور الباخرزي ( لَئن أُهدِيَت عُتباكِ لي ولإخوتي ... فمِثلُك يا فضلَ الفضائلِ يُعتبُ ) ( إذا اعتذر الجانِي محا العذرُ ذنبَه ... وكلُّ امرئ لا يَقْبل العُذْرَ مذنِبُ ) حدثني علي بن هارون بن علي بن يحي المنجم قال حدثني عمي عن جدي قال قال لي المتوكل يوماً وفضل واقفة بين يديه يا علي كان بيني وبين فضل موعد فشربت شرباً فيه فضل فسكرت ونمت وجاءتني للموعد فحركتني بكل ما ينتبه به النائم من قَرص وتحريك وغمز وكلام فلم أنتبه فلما علمت أنه لا حيلة لها في كتبت رقعة ووضعتها على مخدتي فانتبهت فقرأتها فإذا فيها ( قد بَدا شِبْهك يا مولايَ ... يَحْدُو بالظلامِ ) ( قُمْ بِنا نَقْضِ لُبناتِ ... التزامٍ والتثامِ ) ( قَبْل أنْ تَفْضَحنا عَوْدةُ ... أرواحِ النِّيامِ ) أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال كانت فضل الشاعرة تهاجي خنساء جارية هشام المكفوف وكانت شاعرة وكان أبو شبل عاصم بن وهب يعاون فضلاً عليها ويهجوها مع فضل وكان القصيدي والحفصي يعينان خنساء على فضل وأبي شبل فقال أبو شبل على لسان فضل ( خنساءُ طِيري بجَنَاحَيْنِ ... أصبَحْتِ مَعْشوقَةَ نَذْلَيْن ) ( مَن كان يهوَى عاشقاً واحداً ... فأنت تَهْوَيْنَ عَشيقَيْن ) ( هذا القصيديّ وهذا الفتىالحفصي ... قد زاراكِ فَرْدَيْنِ ) ( نَعِمْتِ من هذا وهذا كما ... يَنْعم خِنزير بحُشَّيْنِ ) فقالت خنساء تجيبها ( ماذا مَقالٌ لكِ يا فضلُ بَلْ ... مقالٌ خِنزيريْن فَرْدَينِ ) ( يُكْنَى أبا الشبلِ ولو أبصَرَتْ ... عيناهُ شِبلاً راثَ كُرَّيْنِ ) وقالت فضل في خنساء ( إنّ خنساء لا جُعِلْتُ فِداها ... اشتراها الكَسَّارُ من مولاها ) ( ولها نَكْهَةٌ يقول محاذيها ... أهذا حَدِيثها أم فُسَاها ) وقالت خنساء في فضل وأبي شبل ( تَقول له فضلٌ إذا ما تخوَّفتْ ... ركوبَ قبيح الذُلِّ في طلبِ الوصلِ ) ( حِرُامْ فتىً لم يَلْقَ في الحبّ ذِلةُ ... فقلت لها لا بَلْ حِرُاَمِّ أبي الشبل ) وقالت خنساء تهجو أبا شبل ( ما يَنْقَضِي فِكْرِي وطولُ تَعجُّبي ... مِن نعجةٍ تُكْنَى أبَا الشبلِ ) ( لَعِبَ الفحولُ بسُفْلها وعِجانها ... فتمرّدَت كتمرّدِْ الفحلِ ) ( لما اكتَنْيتَ بما اكتنيتَ به ... وتَسَمَّتَ النقصانُ بالفضلِ ) ( كادَتْ بِنا الدنيا تَمِيد ضحى ... ونَرَى السماء تَذُوبِ كالمُهْل ) قال فغضب أبو شبل لذلك ولم يجبها وقال يهجو مولاها هشاماً ( نِعْمَ مَأوَى العُزَّاب بَيتُ هشام ... حين يرمِي اللِّثامَ باغي اللثامِ ) ( مَنْ أراد السرور عند حبيبٍ ... لِينالَ السرورَ تحت الظلامِ ) ( فهشامٌ نَهارُه ودُجى الِليل ... سواءٌ نَفْسِي فِداءُ هشام ) ( ذاك حرّ دواتُه ليس تخلو ... أبداً من تَخَرُّق الأقلام ) فضل وسعيد بن حميد حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال زارت فضل الشاعرة سعيد بن حميد ليلة على موعد سبق بينهما فلما حصلت عنده جاءتها جاريتها مبادرة تعلمها أن رسول الخليفة قد جاء يطلبها فقامت مبادرة فمضت فلما كان من غد كتب إليها سعيد ( ضَنَّ الزمانُ بها فلما نِلْتُها ... وَرَدَ الفِراقُ فكان أقبحَ وَارِدِ ) ( والدّمعُ ينطق للضمير مصدِّقاً ... قولَ المُقرّ مكذِّباً للجاحدِ ) حدثني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي الدنيا قال حدثني ميسرة ابن محمد قال حدثني عبيد بن محمد قال قلت لفضل الشاعرة للشاعرة ماذا نزل بكم البارحة قال وذلك في صبيحة قتل المنتصر المتوكل فقالت وهي تبكي ( إِنَّ الزمانَ بذحْلٍ كان يطلبنا ... ما كان أغفلَنا عنه وأسهانا ) ( ما لي ولِلدهرِ قد أصبحْتُ هِمَّته ... ما لي ولِلدَّهرِ ما لِلدَّهْرِ لا كانا ) أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني محمد بن الفضل قال حدثني أبو هفان قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال خرجت قبيحة إلى المتوكل يوم نيروز وبيدها كأس بلور بشراب صاف فقال لها ما هذا فديتك قالت هديتي لك في هذا اليوم عرفك الله بركته فأخذه من يدها وإذا على خدها جعفر مكتوباً بالمسك فشرب الكأس وقبل خدها وكانت فضل الشاعرة واقفة على رأسه فقالت صوت ( وكاتِبةٍ بالمسك في الخَدِّ جعفرا ... بنَفْسي سواد المسكِ من حيثُ أثَّرا ) ( لئن أثّرتْ بالمسك سطراً بِخَدِّها ... لقد أودعَتْ قلبي من الحزْن أسطُرا ) ( فيا مَن مُناها في السريرة جعفرٌ ... سقى الله من سُقيا ثناياكِ جعفرا ) الغناء لعريب خفيف رمل قال وأمر عريب فغنت فيه وقالت فضل في ذلك أيضاً ( سُلافةٌ كالقمَر الباهرِ ... في قَدَح كالكوكب الزاهر ) ( يُدِيرها خَشْفٌ كَبَدْرِ الدجَى ... فوق قضيبٍ أهيفٍ ناضرِ ) ( على فتىً أروعَ من هاشم ... مثلِ الحسامِ المُرهَف الباتِرِ ) وقد رويت الأبيات الأول لمحبوبة شاعرة المتوكل ولها أخبار وأشعار كثيرة قد ذكرت بعضها في موضع آخر من هذا الكتاب أخبرني محمد بن خلف قال أخبرني أبو الفضل المروروذي قال كتبت فضل الشاعرة إلى سعيد بن حميد ( بَثَثْتُ هواك في بَدَني ورُوحي ... فأَلَّف فيهما طمعاً بِيَاسِ ) فأجابها سعيد في رقعتها ( كفانا اللهُ شرّ اليأس إني ... لِبُغض اليأس أُبغض كل آسي ) فضل وبنان حدثني عمي قال حدثني ابن أبي المدور الوراق قال كنت عند سعيد بن حميد وكان قد ابتدأ ما بينه وبين فضل الشاعرة يتشعب وقد بلغه ميلها إلى بنان وهو بين المصدق والمكذب بذلك فأقبل على صديق له فقال أصبحت والله من أمر فضل في غرور أخادع نفسي بتكذيب العيان وأمنيها ما قد حيل دونه والله إن إرسالي إليها بعد ما قد لاح من تغيرها لذل وإن عدولي عنها وفي أمرها شبهه لعجز وإن تصبري عنها لمن دواعي التلف ولله در محمد بن أمية حيث يقول ( يا ليت شِعْريِ ما يكون جوابي ... أمَّا الرسُول فقد مضى بكتابي ) ( وتعجّلتْ نفسي الظنونُ وأشْعِرَت ... طمعَ الحريصِ وخِيفَةَ المُرتْاب ) ( وتروعني حركاتُ كلِّ محرِّك ... والبابُ يقرعه وليس ببابي ) ( كَمْ نحوَ بابِ الدار لِي مِن وَثْبةٍ ... أرجو الرسولَ بمَطْمع كذّاب ) ( والويلُ لي مِن بعدِ هذا كلِّه ... إن كان ما أخشاه ردَّ جوابي ) حدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال غضب بنان على فضل الشاعرة في أمر أنكره عليها فاعتذرت إليه فلم يقبل معذرتها فأنشدتني لنفسها في ذلك ( يا فضلُ صبراً إنها مِيتَةٌ ... يَجْرَعُها الكاذبُ والصادقُ ) ( ظنَّ بُنانٌ أنني خُنتُه ... رُوحي إذاً مِن بَدَني طالقُ ) أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العباس المروزي قال قال المتوكل لعلي بن الجهم قل بيتاً وطالب فضل الشاعرة بأن تجيزه فقال علي أجيزي يا فضل ( لاذَ بها يشتِكي إليها ... فلم يجد عندها ملاذا ) قال فأطرقت هنيهة ثم قالت ( فلم يزل ضارعاً إليها ... تَهْطِل أجفانُه رَذَاذَا ) ( فعاتَبوه فزاد عِشقا ... فمات وجداً فكان ماذا ) فطرب المتوكل وقال أحسنت وحياتي يا فضل وأمر لها بمائتي دينار وأمر عريب فغنت في الأبيات قال مؤلف هذا الكتاب أعرف في هذه الأبيات هزجاً لا أدري أهو هذا اللحن أم غيره ولم أره في أغاني عريب ولعله شذ عنها صوت ( أُمامةُ لا أَراك اللّهُ ... ذل معيشة أَبداً ) ( ألا تستصلحين فتى ... وقاك السوءَ قد فسدا ) ( غلام كان أَهلُك مرّة ... يدعونه ولَداً ) الشعر لعبد الله بن محمد بن سالم الخياط والغناء للرطاب الجدي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وفيه ليحيى المكي ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق وأحمد بن المكي وذكر عبد الله بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام عن قلم الصالحية أنها أخذت اللحن المنسوب إلى الرطاب عن تينة وسألته عن صانعه فأخبرها أنه له بسم الله الرحمن الرحيم نسب ابن الخياط وأخباره هو عبد الله بن محمد بن سالم بن يونس بن سالم ذكر الزبير بن بكار أنه مولى لقريش وذكر غيره أنه مولى لهذيل وهو شاعر ظريف ماجن خليع هجّاء خبيث مخضرم من شعراء الدولة الأموية والعباسية وكان منقطعاً إلى آل الزبير بن العوام مدّاحاً لهم وقدم على المهدي مع عبد الله بن مصعب فأوصله إليه وتوصل له إلى أن سمع شعره وأحسن صلته أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يونس بن عبد الله بن سالم الخياط قال دخل أبي على المهدي فمدحه فأمر له بخمسين ألف درهم فقال يمدحه ( أخذتُ بكفِّي كفه أبتغِي الغنى ... ولم أدر أن الجود من كفه يُعدي ) ( فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى ... أَفدتُ وأعداني فأتلفت ما عندي ) قال فبلغ المهديَّ خبره فأضعف جائزته وأمر بحملها إليه إلى منزله قال الزبير بن بكار سرق ابن الخياط هذا المعنى من ابن هرمة أخبرني الحسن بن علي الخفّاف قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثني مصعب بن عبد الله قال سمعت أبي يقول لم يبرح هذه الثنية قطُّ أحد يقذف أعراض الناس ويهجوهم قلت مثل من قال الحزين الكناني والحكم بن عكرمة الدّؤلي وعبد الله بن يونس الخياط وابنه يونس وأبو الشدائد عقوق ابنه يونس أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال كان يونس بن الخياط عاقَّا لأبيه فقال أبوه فيه ( يونُس قلبي عليك يلتهفُ ... والعين عبرى دموعها تكِفُ ) ( تُلحِفني كسوة العقوق فلا ... بَرِحَت منها ما عشتَ تلتحف ) ( أُمرتَ بالخفضِ للجناح وبالرفق ... فأمسى يعُوقك الأنَف ) ( وتلك والله من زبانية ... إن سُلِّطوا في عذابهم عَنُفوا ) فأجابه ابنُه يونس فقال ( أصبح شيخي يُزرِي به الخَرَف ... ما إن له حرمة ولا نَصَفُ ) ( صِفاتنا في العقوق واحدة ... ما خلتُنا في العقوق نختلف ) ( لحَفتَه سالفاً أَباك فقد ... أَصبحتَ مني كذاك تلتحف ) أخبرني محمد بن خلفٍ وكيع قال حدثني طلحةُ بن عبد الله قال حدثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال مرّ ابن الخياط بدار رجل كان يعرفه قبل ذلك بالضعة وخساسة الحال وقد شيّد بابها وطرمح بناءها فقال ( أطِله فما طول البناء بنافع ... إذا كان فرع الوالدَين قصيرا ) أخبرني وكيع قال أخبرني إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن صالح قال أخبرني العامري قال هجا ابن الخياط موسى بن طلحة بن بلال التيمي فقال ( عجب الناس لِلعجيب المُحالِ ... حاض موسى بنُ طلحةَ بنِ بلالِ ) ( زعموه يحيض في كلّ شهر ... ويَرَى صُفرة لكل هلال ) قال فلقيه موسى فقال يا هذا وأي شيء عليك نعم حضت وحملت وولدت وأرضعت فقال له ابن الخياط أنشدك الله ألا يسمع هذا منك أحد فيجترئ على شعري الناس فلا يكون شيئاً ولن يبلغك عني ما تكره بعد هذا فتكافا أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني مصعب بن عثمان قال ما رأيت بريق صلع الأشراف في سوق الرقيق أكثر منها يوم رحب القتيلية جارية إبراهيم بن أبي قتيلة وكان يعشقها وبيعت في دين عليه فبلغت خمسمائة دينار فقال المغيرة بن عبد الله لابن أبي قتيلة ويحك اعتقها فتقوم عليك فتتزوجها ففعل فرفع ذلك إلى أبي عمران وهو القاضي يومئذٍ فقال أخطأ الذي أشار عليه في الحكومة أما نحن في الحكومة فقد عرفنا أن قد بلغت خمسمائة دينار فاذهبوا فقوموها فإن بلغت القيمة أكثر من هذا ألزمناه وإلا فخذوا منه خمسمائة دينار فاستحسن هذا الرأي وليس عليه الناس قبلنا فقال ابن الخياط يذكر ذلك من أمر ابن أبي قتيلةوما كان من أمر جاريته ( يا معشر العشّاق مَن لم يكن ... مثل القُتَيليّ فلا يعشَقِ ) ( لما رأى السُّوّام قد أحدقوا ... وصيح في المغرب والمَشرقِ ) ( واجتمع الناس على دُرَّة ... نظيرها في الخَلْق لم يُخلَقِ ) ( وأَبدَت الأموال أعناقها ... وطاحت العسرةُ للمملِق ) ( قلَّب فيه الرأْي في نفسه ... يدير ما يأتي وما يتَّقي ) ( أعتقها والنفس في شِدقها ... للمعتَق المَنّ على المُعْتِق ) ( وقال للحاكم في أمرها ... إن افترقْنَا فمتى نلتقي ) وأخبرني بهذا الخبر وكيع قال قال الزبير بن بكار وذكر مثل ما ذكره الحرمي وزاد فيه فكان فيهم يعني فيمن حضر لابتياعها موسى بن جعفر بن محمد ومحمد بن زيد بن علي والقاسم بن إسحاق بن عبد الله بن جعفر وغيرهم قال فرأيتهم قياماً في الشمس يتزايدون فيها وقال في خبره ابن أبي قتيلة بالتاء أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يونس بن عبد الله بن سالم الخياط قال كنت ذات عشية في مسجد رسول الله وقت العصر في أيام الحاج فإذا أنا برجل جميل عليه مقطعات خز وإذا معه جماعة فوقف إلى جنبي فصلى ركعتين ثم أقبل علي وكان ذلك من أسباب الرزق فقال يا فتى أتعرف عبد الله بن سالم الخياط فقلت نعم فلما صلينا قال امض بنا إليه فمضيت به فاستخرجت له أبي من منزله فقال الرجل بلغني أنك قلت شعراً في أمر العصبية فقال له أبي ومن أنت بأبي أنت وأمي فقال أنا خزيم بن أبي الهيذام فقال له أبي نعم قد قلته وأنشده ( اسقياني من صِرف هذي المدام ... ودعاني وأقصرا من ملامي ) ( واشربا حيث شئتما إن قيساً ... قد علا عزُّها فروعَ الأنام ) ( ليس والله بالشآم يمانٍ ... فيه رُوح ولابغير الشآم ) ( يَطعم النوم حين تَكتحل الأعين ... بالنوم عند وقت المنام ) ( حَذراً من سيوف ضِرغامةٍ عادٍ ... على الهَول باسلٍ مقدام ) ( من بَني مُرةَ الأطايبِ يكنى ... عند دَسر الرماح بالهَيذام ) يونس ينافس أباه على جائزة قال فأشرع الفتى يده إليه بشيء وجزاه خيراً قال يونس فبادرت فأخذت بيد المري وقلت له لا تعجل فإني قد قلت شعراً أجود من شعره قال أبي ويلك يا يونس يا عاض بظر أمه تحرمني فقلت دع هذا عنك فوالله لا تجوع امرأتي وتشبع امرأتك فقلت ليونس ومن كانت امرأة أبيك يومئذٍ فقال أمي وجمعت والله عقوقهما فقال لي المري أنشد فأنشدته ( اسقياني يا صاحبيّ اسقياني ... ودعاني من الملام دعاني ) ( اسقياني هُديتما من كُميتٍ ... بنْتِ عَشْرِ مشمولةٍ اسقياني ) ( فُضّ عنها خِتامُها إذ سباها ... واضِحُ الخَد من بني عدنان ) ( نَتَحايا بالكأْس أربعة في الدّور ... هذان ناعمان وذان ) ( ذا لهذا رَيحانة مثل هذاك ... لهذا من طَيّب الريحان ) ( فنهضنا لموعد كان منا ... إذ سمعنا تجاوب البُكْمان ) ( فنعِمنا حولَين بَهْراً وعشنا ... بين دف ومسمع ودنان ) ( ثم هِجنا للحرب إذ شبت الحرب ... ففرزنا فيها بسبق الرهان ) ( إن قيسا في كل شرق وغرب ... خارج سَهمُها على السُّهمان ) ( منع الله ضيمَنا بأَبي الهيذام ... حِلْفِ السماح والإحسان ) ( واليمانون يفخرون أما يدرون ... أن النبيّ غيرُ يمان ) قال فقال الفتى لأبي قد وجب علينا من حقه مثلُ ما وجب علينا من معك يا شيخ واستظرف ما جرى بيني وبين أبي وقسم الدنانير بيننا وكانت خمسين ديناراً أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثني الزبير قال مر رجل بيونس بن عبد الله بن الخياط وهو يعصر حلق أبيه وكان عاقاً به فقال له ويلك أتفعل هذا بأبيك وخلصه من يده ثم أقبل على الأب يعزيه ويسكن منه فقال له الأب يا أخي لا تلمه واعلم أنه ابني حقا والله لقد خنقت أبي في هذا الموضع الذي خنقني فيه فانصرف عنه الرجل وهو يضحك يشكو حاله إلى محمد بن سعيد أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن عمه عيسى قال شكا عبد الله بن يونس الخياط إلى محمد بن سعيد بن المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب حاله وضيقاً قد ناله فأمر له بدنانير وكسوة وتمر فقال يمدحه ( يا بن سعيد يا عَقيدَ الندى ... يا بارع الفضل على المُفضِلِ ) ( حللتَ في الذَروة من هاشم ... وفي يَفاعٍ من بني نَوْفَل ) ( فطاب في الفرعين هذا وذا ... ما اعتمّ من منصِبك الأطول ) ( قد قلتُ للدهر وقد نالني ... بالناب والمِخلب والكَلكل ) ( قد عذت من ضُرّك مستعصِماً ... بهاشمِيَّ ماجدٍ نوفلي ) ( فقال لي أهلاً وسهلاُ معاً ... فُزْتَ ولم يمنع ولم يبَخل ) ( الدهر شِقّان فيتقٌ له ... لين وشقٌ خَشِن المنزل ) ( وأخشن الشقِّين عنِّي نفَى ... وشقُّه الألين ما عاش لي ) ( فقال لهذا الدهر ما عاش لا ... تُبقِ ولا تَرُع ولا تأتلي ) أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخذ أبي لما ولي الحجاز عبد الله بن يونس الخياط بأن يصلي الصلوات الخمس مع الجماعة في مسجد رسول الله فجاءني هو ومحمد بن الضحاك وجعفر بن الحسين اللهبي فوقف بين يدي ثم أنشدني ( قل للأمير يا كريم الجِنس ... يا خير من بالغَور أو بالجَلْس ) ( وعُدّتي لولدي ونفسي ... شغلْتَني بالصلوات الخمس ) فقلت له ويلك أتريد أن أستعفيه لك من الصلاة والله ما يعفيك وإن ذلك ليبعثه على اللجاج في أمرك ثم يضرك عنده فمضى وقال نصبر إذن حتى يفرج الله تعالى أخبرني محمد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا يونس بن الخياط قال كان لأبي صديق وكان يدعوه ليشرب معه فإذا سكر خلع عليه قميصه فإذا صحا من غد بعث إليه فأخذه منه فقال أبي فيه ( كساني قميصاً مرتين إذا انتشى ... وينزِعُه مني إذا كان صاحيا ) ( فَلِي فَرحة في سُكره بقميصه ... وروعاته في الصحو حَصَّت شَواتيا ) ( فيا ليت حظي من سروري وروعتي ... تكون كَفافاً لا عليَّ ولا ليا ) العقوق المتبادل أخبرنا وكيعُ قال حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال قال يونس بن عبد الله الخياط لأبيه وكان عاقا به ( مازال بي مازال بي ... طعنُ أبي في النسب ) ( حتى تريّبْت وحتى ... ساء ظني بأبي ) قال ونشأ ليونس ابن يقال له دحيم فكان أعق الناس به فقال يونس فيه ( جلا دحيم عَماية الرِّيب ... والشكَّ مني والطعن في النسب ) ( ما زال بي الظّنّ والتشكُّك حتى ... عقَّني مثلَ ما عقَقتُ أبي ) أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يونس بن الخياط قال أنشدت سعيد بن عمرو الزبيري ( لو فاح ريح حبيبةٍ من حِبِّها ... فاحت رياح حبيبتي من ريحي ) قال فقال لي سعيد بن عمرو والله إني لأقول النسيب فلا أقدر على مثل هذا فقلت له ومن أين تقدر على مثل هذا يا أبا عثمان لا تقدر والله على مثله حتى يسوء الثناء عليك أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني يونس بن الخياط قال لما أعطي المهدي المغيرة بن حبيب ألف فريضة يضعها حيث شاء جاءه أبي عبد الله بن سالم وقال له ( ألف تدور على يدٍ لِمُمَدَّحٍ ... ما سُوقُ مادِحِه لديه بكاسد ) ( الظنُّ مني لو فرضتَ لواحد ... في الأعجمين خصصتَني بالواحد ) قال فقال له المغيرة أَيهما أحب إليك أَأَفرض لك أم لابنك يونس فقال له أنا شيخ كبير هامةُ اليومُ أو غدٍ افرض لابني يونس ففرض لي في خمسين ديناراً فلما خرجت الأعطية الثلاثة في زمن الرشيد على يدي بكار بن عبد الله قال لي خليفته وخليفة أيوب بن أبي سمير وهما يعرضان أهل ديوان العطاء أنت من هذيل ونراك قد صرت من آل الزبير فنردك إلى فرائض هذيل خمسة عشر ديناراً فقال لهما بكار إنما جعلتما لتتبعا ولا تبتدعا أمضياه فأعطياني مائة وخمسين ديناراً أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال حدثنا ابن أبي قباحة الزهري قال لما عزل ابن عمران وهو عبد الله بن محمد بن عمران التيمي عن القضاء واستعمل هشام بن عبد الله بن عكرمة المخزومي جزع ابن عمران من ذلك فقال بعض أصحابه ليونس بن عبد الله الخياط اهج هشاماً بما يغض منه فقال ( كم تَغنَّى لي هشام ... ذلك الجِلف الطويلُ ) ( بعد وهْن وهو في المجلس ... سكرانُ يميلُ ) ( هَل إلى نار بسَلْعٍ ... آخِرَ الدهْر سَبِيلُ ) ( قلت للنَّدمان لما ... دارت الراحُ الشَمولُ ) ( بأبي مالَ هِشامٌ ... فكما مال فمِيلُوا ) قال وشهرها في الناس وبلغ ذلك هشاماً فقال لعنه الله إن كان لكاذباً فقال ابن أبي قباحة فقلت لابن الخياط كذبت أما والله إنه لأمر من ذلك أخبرنا وكيع قال حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود قال قال يونس بن عبد الله بن الخياط جئت يوما إلى أبي وهو جالس وعنده أصحاب له فوقفت عليهم لأغيظه وقلت ألا أُنشِدكم شعراً قلته بالأمس قالوا بلى فأَنشدتهم ( يا سائِلي مَن أنَا أو من يناسبني ... أنا الذي ما لَه أصل ولا نسبُ ) ( الكلب يختال فخراً حين يُبصرني ... والكلب أكرمُ مني حين ينَتسب ) ( لو قال لي الناس طُرّاً أنت ألأمنا ... ما وَهِم الناس في ذاكمْ ولا كذبوا ) قال فوثب إليّ ليضربني وعدوت من بين يديه فجعل يشتمني وأصحابه يضحكون عبد الله بن الخياط يجلد الحدّ أخبرني وكيع قال حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود أن مالك بن أنس جلد يونس بن عبد الله بن سالم الخياط حدّا في الشراب قال وولي ابن سعيد القضاء بالمدينة فقال يونس فيه ( بكَتْنِيَ النَّاسُ لأِنْ ... جُلِدتُ وسْط الرحَبَهْ ) ( وأنني أزني وقدْ ... غنّيتُ في المجتسِبهْ ) ( أعزِف فيهم بِعصا ... مالكٍ المقتضَبَهْ ) ( فقلت لما أكثروا ... عليَّ فيم الجلبه ) ( ذا ابن سعيد قد قضى ... وحالنا مقترِبه ) ( لا بل له التفضيل فيما ... لم أنل والغلبه ) ( بحُسن صوت مُطرب ... وزوجةٍ مَغْتَصَبَه ) أخبرني الحرمي ابن أبي العلاء ووكيع قال الحرمي قال الزبير وقال وكيع قال الزبير بن بكار أرسل إلي ابن الخياط يقول إني عليل منذ كذا وكذا ومنزلي على طريقك إذا صدرت إلى الثنية وأنا أحب أن أجدد بك عهداً قال فجعلته على طريقي فوجدته على فرش مضربة وحوله وسائد وهو مسجى فكشف ابنه الثوب عن وجهه وقال له فديتك هذا أبو عبد الله فقال له أجلسني فأجلسه وأسنده إلى صدره فجعل يقول بنفس منقطع بأبي أنت وأمي أموت منذ بضع عشرة ليلة ما دخل علي قرشي غيرك وغير الزبير بن هشام وإبراهيم بن المنذر ومحمد بن عبد الله البكري ولا والله ما أعلم أحداً أحب قريشاً كحبي قال زبير وذكر رجلاً كان بيني وبينه خلاف فقال لو كنت شاباً لفعلت بأمه كذا وكذا لا يكنى ثم قال ( والله لو عادَت بني مُصعَب ... حلِيلَتي قلت لَها بيني ) ( أو ولدي عن حبِّسهم قصّروا ... ضَغطتهم بالرَّغم والهُون ) ( أو نظرَتْ عيني خلافاً لهمْ ... فقأتها عَمداً بسكين ) ثم أقبل على ابنه فقَال يا بنّي أقول لك في أبي عبد الله مَا قَال ابن هرمه لابنه في الحسن بن زيد ( الله جارُعُتيَّ دعوةً شفقَا ... من الزمَان وشرِّ الأقرب الوالي ) ( من كل أحيدَ عنه لا يُقرِّبه ... وسْط النجيّ ولا في المجلس الخالي ) قال الزبير حدثني محمدُ بنُ عبد الله البكريّ أنه دخل إليه بعدي في اليوم الذي مات فيه قال فقال لي يا أبا عبد الله أنا أجود بنفْسي منذ كذا وكذا ولا تخرج ما هكذا كانت نفْس عَبِيد ولا لَبِيد ولا الحطيئة ما هي إلا نفس كلب قال فخرجتُ فما أبعدت حتى سمعت الواعية عليه صوت ( بأبي مالَكَ عنّي ... مائلَ الطرف كليلاً ) ( وأرى بِرّك نَزْراً ... وتَحفّيك قليلاً ) ( وتُسمِّيني عدواً ... وأسميك خليلاً ) ( أتعلمّتَ سلُوّاً ... أم تبدلْت بديلاً ) ( أحمَد الله فما أغنى ... الرّجا فيك فَتيلا ) الشعر لعلي بن جبلة والغناء لزرزور غلام المارقي خفيف رمل بالبنصر من روايتي الهشامي وعبد الله بن موسى وفيه لعريب هزج وفيه ثقيل أول من جيد الغناء ينسب إليها وإلى علويه وهو بغنائها أشبه منه بغناء علويه أخبار علي بن جبلة هو علي بن جبلة بن عبد الله الأبناوي ويكنى أبا الحسن ويلقب بالعكوك من أبناء الشيعة الخراسانية من أهل بغداد وبها نشأ وولد بالحربية من الجانب الغربي وكان ضريراً فذكر عطاء الملط أنه كان أكمه وهو الذي يولد ضريراً وزعم أهله أنه عمي بعد أن نشأ وهو شاعر مطبوع عذب اللفظ جزله لطيف المعاني مداح حسن التصرف واستنفد شعره في مدح أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي وأبي غانم حميد بن عبد الحميد الطوسي وزاد في تفضيلهما وتفضيل أبي دلف خاصة فضل من أجله ربيعة على مضر وجاوز الحد في ذلك فيقال إن المامون طلبه حتى ظفر به فسل لسانه من قفاه ويقال بل هرب ولم يزل متوارياً منه حتى مت ولم يقدر عليه وهذا هو الصحيح من القولين والآخر شاذ أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي قال حدثني الحسين بن عبد الله بن جبلة بن علي بن جبلة قال كان لجدي أولاد وكان علي أصغرهم وكان الشيخ يرق عليه فجدر فذهبت إحدى عينيه في الجدري ثم نشأ فأسلم في الكتاب فحذق بعض ما يحذقه الصبيان فحمل على دابة ونثر عليه اللوز فوقعت على عينيه الصحيحة لوزة فذهبت فقال الشيخ لولده أنتم لكم أرزاق من السلطان فإن أعنتموني على هذا الصبي وإلا صرفت بعض أرزاقكم إليه فقلنا وما تريد قال تختلفون به إلى مجالس الذب قال فكنا نأتي به مجالس العلم ونتشاغل نحن بما يلعب به الصبيان فما أتى عليه الحول حتى برع وحتى كان العالم إذا رآه قال لمن حوله أوسعوا للبغوي وكان ذكياً مطبوعاً فقال الشعر وبلغه أن الناس يقصدون أبا دلف لجوده وما كان يعطي الشعراء فقصده وكان يسمى العكوك فامتدحه بقصيدته التي أولها ( ذاد وِرْدَ الغيَّ عن صدره ... وارعوى واللهوُ من وَطَره ) يقول فيها في مدحه ( يا دواءَ الأرض إن فسدَت ... ومُديلَ اليُسر من عُسُره ) ( كلّ مَن في الأرض من عَرَب ... بين باديه إلى حَضَره ) ( مستعير منك مكرمة ... يكتسيها يومَ مُفتَخَره ) ( إنما الدنيا أبو دُلف ... بين مَبْداه ومحتضَره ) ( فإذا ولَّى أبو دُلَفٍ ... ولّت الدنيا على أَثَره ) امتحنوه فقال قصيدة في وصف الفرس فلما وصل إلى أبي دلف وعنده من الشعراء وهم لا يعرفونه استرابوه بها فقال له قائده إنهم قد اتهموك وظنوا أن الشعر لغيرك فقال أيها الأمير إن المحنة تزيل هذا قال صدقت فامتحنوه فقالوا له صف فرس الأمير وقد أجلناك ثلاثاً قال فاجعلوا معي رجلاً تثقون به يكتب ما أقول فجعلوا معه رجلاً فقال هذه القصيدة في ليلته وهي ( رِيعت لمنشور على مَفرِقهِ ... ذمّ لها عهد الصِّبا حين انتسبْ ) ( أهدابُ شَيبٍ جُددٌ في رأْسه ... مكروهةُ الجِدّة أنضاء العُقَب ) ( أشرقن في أسوَدَ أزرايْن بِه ... كانَ دُجاه لهوى البِيض سبب ) ( واعتقن أيامَ الغواني والصِّبا ... عن ميِّت مطلبُه حيُّ الأدبْ ) ( لم يزدجٍر مُرْعوياً حين ارعوى ... لكنْ يدٌ لم تتصل بمطّلب ) ( لم أَرَ كالشيب وقاراً يُجتَوَى ... وكالشبَّاب الغضّ ظِلاَّ يُسْتلَب ) ( فنازلٌ لم يُبتَهج بِقُربه ... وذاهب أبقى جوىً حين ذهب ) ( كان الشباب لِمّة أُزهَى بها ... وصاحباً حرّاً عزيز المصطَحَب ) ( إذ أنا أجري سادراً في غيه ... لا أُعتب الدهر إذا الدهر عتب ) ( أُبْعِدُ شأوَ اللهو في إجرائه ... وأقصد الخَودَ وراء المحتَجب ) ( وأذعَرُ الرَّبربَ عن أطفاله ... بأعوجيِّ دُلَفِيّ المنتسَب ) ( تحسبه من مَرَح العزِّ به ... مستنفَراً بروعة أو ملتهِب ) ( مُرتَهِج يرتجُّ من أقطاره ... كالماء جالت فيه ريح فاضطرب ) ( تحسبه أُقعد في استقباله ... حتى إذا استدبرته قلتَ أكبُّ ) ( وهْو على إرهاقه وطيه ... يقصر عنه المِحزَمان واللّبْب ) ( تقول فيه حَنبٌ إذا انثنى ... وهو كمتن القِدح ما فيه حَنب ) ( يخطو على عُوج تناهبن الثرى ... لم يتواكل عن شظىً ولا عصب ) ( تَحسِبها ناتئة إذا خطت ... كأنها واطئة على الرُّكَب ) ( شَتَا وقاظ بُرْهَتَيْهِ عندنا ... لم يؤتَ من بِرٍّ به ولا حدَب ) ( يصان عصرَى حرِّه وقُرّه ... وتُقصَرُ الخُور عليه بالحَلَب ) ( حتى إذا تمَّت له أعضاؤه ... لم تنحبس واحدة على عتَب ) ( رُمنا به الصيد فرادَينا بِه ... أوابد الوحش فأَجدى واكتسَب ) ( مُجَذّم الجري يباري ظلَّه ... ويُعرِق الأحقبَ في شوط الخبب ) ( إذا تظنينا به صدقنا ... وإن تظنى فوته العير كذب ) ( لا يبلغ الجهد به راكبُه ... ويَبلُغ الريحَ به حيث طَلب ) ( لا يَبلُغ الجهدَ به ركبُه ... ويَبلُغ الريحَ به حيث طَلب ) ( ثم انقضى ذاك كأن لم يَعنِه ... وكلّ بقيا فإلى يومِ عطَب ) ( وخلفَ الدهرُ على أبنائه ... بالقَدْح فيهم وارتجاع ما وهب ) ( فحَمِّل الدهر ابن عيسى قاسماً ... ينهضْ به أبلجُ فرّاجُ الكرَب ) ( كرونق السيف انبلاجاً بِالندى ... وكغِرارَيه على أهل الرِّيَب ) ( ما وسِنت عين رأت طلعَتَهُ ... فاستيقظت بنَوْبة من النُّوبَ ) ( لولا ابنُ عيسى القَرْمُ كنّا همَلاً ... لم يؤتَثلْ مجد ولم يُرعَ حسب ) ( ولم يقم في يوم بأْس وندىً ... ولا تلاقى سبب إلى سبب ) ( تكاد تبدي الأرض ما تضمره ... إذا تداعَت خيله هَلاَ وهَب ) ( ويستَهِلُّ أملاً وخيفة ... جانبُها إذا استهلَّ أو قَطب ) ( وهْو وإن كان ابن فرعَيْ وائل ... فبِسماعيه يوافي في الحسب ) ( وبعُلاه وعُلا آبائه ... تُحوى غداة السبق أخطارُ القصب ) ( يا زهرة الدنيا ويا باب الندى ... ويا مجير الرُّعب من يوم الرَّهب ) ( لولاك ما كان سدىً ولا ندى ... ولا قريش عُرفَت ولا العرب ) ( خذها إليك من مليء بالثنا ... لكنه غير مليء بالنَشَب ) ( فاثْوِ في الأرض أو استفزز بها ... أنت عليها الرأس والناس الذنب ) قال فلما غدا عليه بالقصيدة وأنشده إياها استحسنها مَن حضر وقالوا نشهد أن قائل هذه قائل تلك فأعطاه ثلاثين ألف درهم وقد قيل إن أبا دلف أعطاه مائة ألف درهم ولكن أراها في دفعات لأنه قصده مراراً كثيرة ومدحه بعدة قصائد قصيدته في أبي دلف أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال قال عبد الله بن مالك قال المأمون يوماً لبعض جلسائه أقسم على من حضر ممن يحفظ قصيدة علي بن جبلة الأعمى في القاسم بن عيسى إلا أنشدنيها فقال له بعض الجلساء قد أقسم أمير المؤمنين ولا بد من إبرار قسمه وما أحفظها ولكنها مكتوبة عندي قال قم فجئني بها فمضى وأتاه بها فأنشده إياها وهي ( ذاد وِرْد الغيّ عن صدَرِهْ ... وارعوى واللهو مِن وَطرهْ ) ( وأبت إلا البكاءَ له ... ضحكات الشيب في شعَره ) ( نَدمِي أن الشباب مضى ... لم أُبلّغه مدى أَشَره ) ( وانقضت أيامه سَلَماً ... لم أجِد حَوْلاً على غِيره ) ( حَسَرت عني بشاشتُه ... وذوَى المحمود من ثمره ) ( ودَمٍ أهدرْتُ من رَشاءٍ ... لم يُرِد عَقلاً على هدَره ) ( فأتت دون الصّبا هنةٌ ... فليت فُوقي على وتره ) ( جارتا ليس الشباب لمن ... راح محنيَّا على كبره ) ( ذهبَت أشياء كنت لها ... صارَها حِلمي إلى صَوره ) ( دع جَدا قحطان أو مُضرٍ ... في يمانيه وفي مضره ) ( وامتدح من وائل رجلاً ... عَصَرُ الآفاق في عَصَره ) ( المنايا في مناقبه ... والعطايا في ذَرا حُجَره ) ( ملِك تَندَى أنامله ... كانبلاج النَّوء من مطره ) ( مستهِلّ عن مواهبه ... كابتسام الروض عن زَهَره ) ( جبَلٌ عزّت مناكبه ... أمِنتْ عدنان في ثَغَره ) ( إنما الدنيا أبو دُلف ... بين مَبداه و محتضَره ) ( فإذا ولّى أبو دُلف ... ولّت الدنيا علَى أثره ) ( لست أدري ما أقول له ... غير أن الأرض في خَفَره ) ( يا دواءَ الأرض إن فسدَت ... ومُديل اليُسر من عسُره ) ( كلّ من في الأرض من عربٍ ... بين باديه إلى حضره ) ( مستعير منك مكرمةً ... يكتسيها يوم مفتخَره ) يقول فيها ( وزَحوف في صواهله ... كصياح الحشر في أثره ) ( قُدْتَه والموت مكتمِنٌ ... في مذاكيه ومشتجَره ) ( فرمَت جيلويه منه يد ... طوت المنشور من نظره ) ( زرتَه والخيل عابسة ... تحمل البؤس عَلَى عُقَره ) ( خارجات تحت رايتها ... كخروج الطير من وُكَره ) ( وعَلَى النعمان عُجتَ به ... عَوجةً ذادته عن صَدره ) ( غمَط النعمان صفوتها ... فَرددتَ الصفو في كدره ) ( ولقُرقورٍ أدرتَ رحاً ... لم تكن ترتد في فِكرَه ) ( قد تأنيتَ البقاءَ له ... فأبَى المحتومُ من قدَره ) ( وطغى حتى رَفَعت له ... خطة شنعاء من ذُكَره ) قال فغضب المأمون واغتاظ وقال لست لأبي إن لم أقطع لسانه أو أسفك دمه قال ابن أبي فنن وهذه القصيدة قالها علي بن جبلة وقصد بها أبا دلف بعد قتله الصعلوك المعروف بقرقور وكان من أشد الناس بأساً وأعظمهم فكان يقطع هو وغلمانه على القوافل وعلى القرى وأبو دلف يجتهد في أمره فلا يقدر عليه فبينا أبو دلف خرج ذات يوم يتصيد وقد أمعن في طلب الصيد وحده إذا بقرقور قد طلع عليه وهو راكب فرساً يشق الأرض بجريه فأيقن أبو دلف بالهلاك وخاف أن يُولي عنه فيهلك فحمل عليه وصاح يا فتيان يمنة يمنة يوهمه أن معه خيلاً قد كمنها له فخافه قرقور وعطف على يساره هارباً ولحقه أبو دلف فوضع رمحه بين كتفيه فأخرجه من صدره ونزل فاحتز رأسه وحمله على رمحه حتى أدخله الكرج قال فحدثني من رأى رمح قرقور وقد أدخل بين يديه يحمله أربعة نفر فلما أنشده علي بن جبلة هذه القصيدة استحسنها وسر بها وأمر له بمائة ألف درهم أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد الأزدي قال أخبرني إبراهيم بن خلف قال بينا أبو دلف يسير مع أخيه معقل وهما إذ ذاك بالعراق إذ مرّاً بأمرأتين تتماشيان فقالت إحداهما لصاحبتها هذا أبو دلف قالت ومن أبو دلف قالت الذي يقول فيه الشاعر ( إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين باديه ومحتضَره ) ( فإذا ولّى أبو دُلَف ... ولّت الدنيا عَلَى أثره ) قال فاستعبر أبو دلف حتى جرى دمعه قال له معقل مالك يا أخي تبكي قال لأني لم أقض حق علي بن جبلة قال أو لم تعطه مائة ألف درهم لهذه القصيدة قال والله يا أخي ما في قلبي حسرة تقارب حسرتي على أني لم أكن أعطيته مائة ألف دينار والله لو فعلت ذلك لما كنت قاضياً حقه حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن محمد بن جرير قال أنشدت أبا تمام قصيدة علي بن جبلة البائية فلما بلغت إلى قوله ( وردّ البِيضَ والبِيضَ ... إلى الأغْماد والحُجُب ) اهتز أبو تمام من فرقه إلى قدمه ثم قال أحسن والله لوددت أن لي هذا البيت بثلاث قصائد من شعري يتخيرها وينتخبها مكانه أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو نزار الضبي الشاعر قال قال لي علي بن جبلة قلت لحميد بن عبد الحميد الطوسي يا أبا غانم إني قد مدحت أمير المؤمنين بمدح لا يحسن مثله أحد من أهل الأرض فاذكرني له قال فأنشدني فأنشدته قال أشهد أنك صادق ما يحسن أحد أن يقول هكذا وأخذ المديح فأدخله إلى المأمون فقال له يا حميد الجواب في هذا واضح إن شاء عفونا عنه وجعلنا ذلك ثواباً لمديحه وإن شاء جمعنا بين شعره فيك وفي أبي دلف وبين شعره فينا فإن كان الذي قاله فيكما أجود ضربنا ظهره وأطلنا حبسه وإن كان الذي قاله فينا أجود أعطيناه لكل بيت ألف درهم وإن شاء أقلناه فقلت له يا سيدي ومن أنا ومن أبو دلف حتى يمدحنا بأجود من مديحك فقال ليس هذا الكلام من الجواب في شيء فاعرض ما قلت لك على الرجل فقال أفعل قال علي بن جبلة فقال لي حميد ما ترى فقلت الإقالة أحب إلي فأخبر المأمون بذلك فقال هو أعلم ثم قال لي حميد يا أبا الحسن أي شيء يعني من مدائحك لي ولأبي دلف فقلت قولي فيك ( لولا حُمَيدٌ لم يكن ... حسب يُعَد ولا نسبْ ) ( يا واحد العَرب الذي ... عَزَّت بعزّته العرب ) وقولي في أبي دلف ( إنما الدنيا أبو دُلَف ... بين بادية ومحتضَره ) ( فإذا ولّى أبو دلف ... ولت الدنيا على أثره ) قال فأطرق حُميد ثم قال لقد انتقد عليك أمير المؤمنين فأجاد وأمر لي بعشرة الآف درهم وخلعة وفرس وخادم وبلغ ذلك أبا دلف فأضعف لي العطية وكان ذلك في ستر منهما ما علم به أحد خوفاً من المأمون حتى حدثتك به يا أبا نزار أبو دلف يبره ويفرط أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد قال حدثني علي بن القاسم قال قال لي علي بن جبلة زرت أبا دلف فكنت لا أدخل إليه إلا تلقاني ببره وأفرط فلما أكثر قعدت عنه حياء منه فبعث إلي بمعقل أخيه فأتاني فقال لي يقول لك الأمير لم هجرتنا لعلك استبطأت بعض ما كان مني فإن كان الأمر كذلك فإني زائد فيما كنت أفعله حتى ترضى فدعوت من كتب لي وأمللت عليه هذه الأبيات ثم دفعتها إلى معقل وسألته أن يوصلها وهي ( هجَرْتك لم أهجرك من كفر نعمة ... وهل يُرتجَى نَيل الزيادة بالكفر ) ( ولكنني لما أتيتُك زائراً ... فأَفرطت في بِري عجزت عن الشكر ) ( فهأنا لا آتيك إلا مسلّماً ... أزورك في الشهرين يوماً وفي الشهر ) ( فإن زدتني براً تزايدت جَفوة ... ولم تلقني طول الحياة إلى الحشر ) قال فلما سمعها معقل استحسنها جداً وقال جودت والله أما أن الأمير ليعجب بمثل هذه الأبيات فلما أوصلها إلى أبي دلف قال لله دره ما أشعره وما أرق معانيه ثم دعا بدواة فكتب إلي ( ألا ربّ ضيفٍ طارق قد بسطتُه ... وآنستُه قبل الضيافة بالبِشر ) ( أتاني يرجِّيني فما حال دونه ... ودون القرى من نَائلي عنده سِتري ) ( وجَدتُ له فضلاً عليَّ بقصده ... إليَّ وبِرّاً يستحق به شكري ) ( فلم أعدُ أن أدنيتُه وابتدأْتهُ ... ببشر وإكرام وبرٍّ علي بِرِّ ) ( وزوّدتُه مالاً قليل بقاؤه ... وزوّدني مدحاً يدوم على الدهر ) ثم وجّه بهذه الأبيات مع وصيف يحمل كيساً فيه ألف دينار فذلك حيث قلت له ( إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين باديه ومحتضَره ) أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أمد بن القاسم قال حدثني نادر مولانا أن علي بن جبلة خرج إلى عبد الله بن طاهر والي خراسان وقد امتدحه فلما وصل إليه قال له ألست القائل ( إنما الدنيا أبو دُلَف ... بين بادية ومحتضَره ) ( فإذا ولَّى أبو دُلَف ... ولّت الدنيَا على أثره ) قال بلى قال فما الذي جاء بك إلينا وعدل بك عن الدنيا التي زعمت أرجع من حيث جئت فارتحل ومر بأبي دُلَف وأعلمه الخبر فأعطاه حتى أرضاه قال نادر فرأيته عند مولاي القاسم بن يوسف وقد سأله عن خبره فقال ( أبو دلف إن تلقه تلقَ مَاجداً ... جواداً كريماً راجح الحلم سيدا ) ( أبو دُلَف الخَيراتِ أنداهُمُ يداً ... وأبسط معروفاً وأكرم محتِدا ) ( تراث أبيه عن أبيه وجدَّه ... وكلّ امرىءٍ يجري على ما تعودا ) ( ولست بِشَاكٍ غيره لنقيصة ... ولكنما الممدوح من كان أمجداً ) علي بن جبلة وحميد الطوسي قال مؤلف هذا الكتاب والأبيات التي فيها الغناء المذكورة بذكرها أخبار أبي الحسن علي بن جبلة من قصيدة له مدح بها حميداً الطوسي ووصف قصره على دجلة وقال فيها بعد الأبيات التي فيها الغناء ( ليس لي ذنب سوى أنّي ... أسميك خليلا ) ( وأُناديك عزيزاً ... وتناديني ذليلا ) ( أنا أهواك وحاليَك ... صَروماً ووَصولاً ) ( ثِق بوُدَّ ليس يفنى ... وبعهدٍ لن يحولا ) ( جعل الله حُميداً ... لبني الدنيا كفيلا ) ( ملِك لم يجعل الله ... فيهم عديلا ) ( فأقاموا في ذَراه ... مطمئنين حُلولا ) ( لا ترى فيهم مُقِلاَّ ... يسأل المُثري فُضولا ) ( جاد بالأموال حتى ... علّم الجود البخيلا ) ( وبنَى الفخر على الفخر ... بناء مستطيلا ) ( صار للخائف أمناً ... وعلى الجُود دليلا ) ولما مات حميد الطوسي رثاه بقصيدته العينية المشهورة وهي من نادر الشعر وبديعه وفي أولها غناء من الثقيل الأول يقال إنه لأبي العبيس ويقال إنه للقاسم بن زرزور ( ألِلدهر تبكي أم على الدهر تجزع ... وما صاحب الأيام إلا مفجّعُ ) ( ولو سَهَّلَت عنك الأُسا كان في الأُسا ... عزاءُ مُعَزَّ للبيب ومقنَعُ ) ( تعرَّ بما عزَّيتَ غيرك إنها ... سهام المنايا حائمات ووُقّع ) ( أصبنا بيوم في حُمَيدٍ لو أنه ... أصاب عروش الدهر ظلت تضعضع ) ( وأدَّبَنا ما أدب الناسَ قبلنا ... ولكنه لم يَبْقَ للصبر موضع ) ( ألم تر للأَيام كيف تصرَّمت ... به وبه كانت تُذادُ وتُدْفع ) ( وكيف التقى مثوىً من الأرض ضيق ... على جبل كانت به الأرض تُمنع ) ( ولما انقضَت أيامه انقضت العلا ... وأضحى به أنف النَدى وهو أجدع ) ( وراح عدوّ الدِّين جَذلان ينتحي ... أمانيّ كانت في حَشاه تقطع ) ( وكان حُمَيد معقِلاً ركَعت به ... قواعدُ ما كانت على الضيم تَركع ) ( وكنتُ أراه كالرزايا رُزِئْتُها ... ولم أدْرِ أن الخلق يبكيه أجمع ) ( حِمام رماه من مواضع أمنه ... حِمامٌ كذاك الخطب بالخطب يُقدع ) ( وليس بِغَزْوٍ أن تصيب منية ... حِمى أختها أو أ ن يذلّ المُمنَّع ) لقد أدركت فينا المنايا بثارها ... وحلّت بخطب وَهْيُه ليس يُرقَع ) ( نَعاءِ حُمَيداً للسرايا إذا غدت ... تذاد بأطراف الرماح وتوزع ) ( وللمُرهَق المكروبِ ضاقت بأمره ... فلم يَدر في حَوماتها كيف يصنع ) ( وللبِيض خلَّتها البُعول ولم يَدع ... لها غيرَه داعي الصباح المفزَّع ) ( كأن حُمَيداً لم يُقد جيش عسكر ... إلى عسكر أشياعه لا تُروَّع ) ( ولم يبعث الخيل المغيرة بالضحا ... مِراحاً ولم يرجع بها وهي ظُلَّع ) ( رواجع يحملن النِّهَاب ولم تكن ... كتائبه إلا على النهب ترجع ) ( هوَى جبلُ الدنيا المنيعُ وغيثها المَريع ... وحاميها الكميّ المشيع ) ( وسيفُ أمير المؤمنين ورمحه ... ومفتاح باب الخطب والخطب أفظع ) ( فأقنعه من مُلكه ورِباعه ... ونائِله قفر من الأرض بلقَع ) ( على أيّ شجو تشتكي النفس بعده ... إلى شجوه أو يَذخَر الدمعَ مَدمع ) ( ألم تر أن الشمس حال ضياؤها ... عليه وأضحى لونها وهو أسفع ) ( وأوحشت الدنيا وأودى بهاؤها ... وأجدب مرعاها الذي كان يَمرَع ) ( وقد كانت الدنيا به مطمئنة ... فقد جعلت أوتادها تتقلع ) ( بكى فقدَه رَوح الحياة كما بكى ... نَداة الندَى وابنُ السبيل المدفّع ) ( وفارقت البيضُ الخدور وأبرزت ... عواطل حسرَى بعده لا تَقنّع ) ( وأيقظ أجفاناً وكان لها الكرى ... ونامت عيون لم تكن قبلُ تَهجع ) ( ولكنه مقدار يوم ثوى به ... لكل امرىء منه نِهال ومَشرَع ) ( وقد رأَب الله المَلا بمحمد ... وبالأصل ينَمِي فرعُه المتفرع ) ( أغرّ على أسيافه ورماحه ... تُقسَّم أنفال الخميس وتُجمع ) ( حوى عن أبيه بذلَ راحته الندى ... وطعن الكُلى والزاعبية شرّع ) وإنما ذكرت هذه القصيدة على طولها لجودتها وكثرة نادرتها وقد أخذ البحتريّ أكثر معانيها فسلخه وجعله في قصيدتيه اللتين رثى بهما أبا سعيد الثغري ( انظر إلى العلياء كيف تضام ... ) ( بأي أسى تثني الدموع الهوامل ... ) وقد أخذ الطائي أيضاً بعض معانيها ولولا كراهة الإطالة لشرحتُ المواضع المأخوذة وإذا تأمل ذلك منتقد بصير عرفه أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو وائلة قال قال رجل لعلي بن جبلة ما بلغت في مديح أحد ما بلغته في مديحك حميداً الطوسي فقال وكيف لا أفعل وأدنى ما وصل إلي منه أني أهديت له قصيدة في يوم نيروز فسر بها وأمر أن يحمل إلي كل ما أهدي له فحمل إلي ما قيمته مائتا ألف درهم وأهديت له قصيدة في يوم عيد فبعث إلي بمثل ذلك قال أبو وائلة وقد كان حميد ركب يوم عيد في جيش عظيم لم ير مثله فقال علي بن جبلة يصف ذلك ( غدا بأمير المؤمنين ويُمْنِه ... أبو غانم غَدْوَ الندى والسحائِب ) ( وضَاقت فِجَاج الأرض عن كل موكب ... أحَاط به مستعلياً للمواكب ) ( كأن سُموّ النَّقع والبَيضُ فوقهم ... سماوة ليل فُرّنَت بالكواكب ) فكانَ لأهل العِيد عيد بُنُسكهم ... وكان حُمَيد عيدَهم بالمواهب ) ( ولولا حُمَيد لم تَبَلَّج عن الندى ... يمين ولم يدرك غنى كسب كاسب ) ( ولو ملك الدنيا لما كان سائل ... ولا اعتام فيها صاحب فضل صاحب ) ( له ضِحكة تستغرق المال بالندى ... على عبسةٍ تُشجي القنا بالترائب ) ( ذهبَت بأيام العلا فَارداً بهَا ... وصرَّمتَ عن مسعَاك شأو المطَالِب ) ( وعَدَّلت مَيل الأرض حتى تعدلت ... فلم يَنأ منهَا جانب فوق جانِب ) ( بَلغت بأدنى الحزم أبعد قُطرُهَا ... كأنك منَها شَاهد كلَّ غائِب ) قال والتي أهداهَا له يوم النيروز قصيدته التي فيها ( حُمَيدُ يا قاسِمَ الدنَيا بِنَائله ... وسَيفِه بين أهل النَّكث وَالدِّينِ ) ( أنت الزمَان الذي يجري تصرّفه ... على الأنَام بتشديد وَتَليين ) ( لو لم تكن كانت الأَيَّام قد فَنِيت ... والمكرمَاتُ وَمَاتَ المجد مُذ حين ) ( صورَّك الله من مجد ومن كرم ... وصوَّر النَّاس من مَاء وَمن طين ) نسخت من كتاب بخط محمد بن العباس اليزيديّ قال أحمد بن إسماعيل الخصيب الكاتب دخل علي بن جبلة يوماً إلى أبي دلف فقال له هات يا علي ما معك فقال إنه قليل فقال هاته فكم من قليل أجود من كثير فأنشده ( الله أجرى من الأرزاق أكثرَها ... على يديك فشكراً يا أبا دُلفِ ) ( أعطى أبو دُلَف والريح عاصفة ... حتى إذا وَقَفَت أعطى ولم يقف ) قال فأمر له بعشرة آلاف درهم فلما كان بعد مدة دخل إليه فقال له هات ما معك فأنشده ( مِن مَلَكَ الموت إلى قاسم ... رسالةُ في بطن قِرطاس ) ( يا فارس الفُرسان يوم الوغى ... مُرْني بمن شئتَ من الناس ) قال فأمر له بألفي درهم وكان قد تطير من ابتدائه في هذا الشعر فقال ليست هذه من عطاياك أيها الأمير فقال بلغ بها هذا المقدارَ ارتياعنا من تحمّلك رسالةَ ملك الموت إلينا أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله قال حدثني علي بن جبلة العكوك المروزي قال جاءني أبو يعقوب الخزيمي فقال لي إن لي إليك حاجة قلت وما هي قال تهجو لي الهيثم بن عدي فقلت ومالك أنت لا تهجوه وأنت شاعر فقال قد فعلت فما جاءني شيء كما أريد فقلت له كيف أهجو رجلاً لم يتقدم إلي منه إساءة ولا له إلي جرم يحفظني فقال تقرضني فإني ملي بالقضاء قلت نعم فأمهلني اليوم فمضى وغدوت عليه فأنشدته ( لِلهَيثم بنِ عديٍّ نِسبة جمعت ... آباءه فأراحتنا من العدد ) ( أعدُد عدِيًّا فلو مدّ البقاء له ... ما عُمِّر الناسُ لم يَنقص ولم يزد ) ( نفسي فداء بني عبد المدان وقد تلَّثوه للوجه واستعلَوْه بالعمد ) ( حتى أزالوه كرهاً عن كريمتهم ... وعرّفوه بدُلٍّ أين أصل عدي ) ( يا بنَ الخبيثة من أهجو فأَفضحَه ... إذا هجوتُ وما تُنمى إلى أحد ) قال وكان الهيثم قد تزوج إلى بني الحارث بن كعب فركب محمد بن زياد بن عبيد الله بن عبد المدان الحارثي أخو يحيى بن زياد ومعه جماعة من أصحاب الحارثيين إلى الرشيد فسألوه أن يفرق بينهما فقال الرشيد أليس هو الذي يقول فيه الشاعر ( إذا نسبتَ عدياً في بني ثُعلٍ ... فقدّم الدال قبل العين في النسب ) قالوا بلى يا أمير المؤمنين قال فهذا الشعر من قاله قالوا هو لرجل من أهل الكوفة من بني شيبان يقال له ذهل بن ثعلبة فأمر الرشيد داود بن يزيد أن يفرق بينهما فأخذوه فأدخلوه داراً وضربوه بالعصي حتى طلقها علي بن جبلة وعبد الله بن طاهر أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن الحسن بن الخصيب قال شخص علي بن جبلة إلى عبد الله بن طاهر والي خراسان وقد مدحه فأجزل صلته واستأذنه في الرجوع فسأله أن يقيم عنده وكان بره يتصل عنده فلما طال مقامه اشتاق إلى أهله فأنشده ( راعه الشيبُ إذ نزلْ ... وكفاه من العذَلْ ) ( وانقضت مدة الصبا ... فانقضى اللهو والغزل ) ( قد لعمري دَمَلْتُه ... بخضاب فما اندمل ) ( فابك للشيب إذ بدا ... لا على الرَّبع والطلل ) ( وصَلَ الله للأمير ... عُرا الملك فاتصل ) ( ملك عزْمه الزمان ... وأفعاله الدولْ ) ( كِسرويّ بمَجده ... يَضرب الضاربُ المثل ) ( وإلى ظِلّ عزّه ... يلجأُ الخائف الوجِل ) ( كلُّ خَلق سوى الإمام ... لإنعامه خوَل ) ( ليته حين جاد لي ... بالغنى جاد بالقَفَل ) قال فضحك وقال أبيت إلا أن توحشنا وأجزل صلته وأذن له أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو وائلة السدوسي قال دخل علي بن جبلة العكوك على حميد الطوسي في أول يوم من شهر رمضان فأنشده ( جعل الله مَدخل الصوم فوزاً ... لحميد ومتعة في البقاءِ ) ( فهْو شهرُ الربيع للقُرّاء ... وفراقُ النّدمان والصهباءِ ) ( وأَنا الضامنُ المليُّ لمَن عاقرها ... مفطراً بطول الظَّماءِ ) ( وكأني أَرى النَّدامَى على الخسف ... يُرجّون صبحهم بالمساء ) ( قد طَوى بعضُهم زيارة بعض ... واستعاضوا مصاحفاً بالغناء ) يقول فيها ( بِحُميد وأين مثلُ حميد ... فخرَت طيّئٌ على الأحياء ) ( جوده أظهر السماحة في الأرضِ ... وأغنى المُقوِي عن الإقواء ) ( ملِك يأمُل العباد نداه ... مثلَ ما يأمُلون قَطْر السماء ) ( صاغه الله مطعِمَ الناس في الأرض ... وصاغ السحاب للإسقاء ) قال فأمر له بخمسة آلاف درهم وقال استعن بهذه على نفقة صومك ثم دخل إليه ثاني شوال فأنشده ( علّلاني بصفو ما في الدّنان ... واتركا ما يقوله العاذلان ) ( واسبقا فاجع المنيّة بالعيش ... فكلُّ على الجَديدين فاني ) ( عللاني بشَربةٍ تُذهب الهَمّ ... وتنفي طوارق الأحزان ) ( وانفُثا في مسامعٍ سدّها الصوم ... رُقى الموصليّ أو دَحْمان ) ( قد أتانا شوال فاقتبل العيش ... وأَعدَى قسراً على رمضان ) ( نِعم عون الفتى على نوَب الدهر ... سماعُ القيان والعِيدان ) ( وكؤوسٌ تجري بماء كُروم ... ومطيُّ الكؤوس أيدي القيان ) ( من عُقار تُميت كلُّ احتشامٍ ... وتَسُرّ النَّدمان بالنَّدمان ) ( وكأنَّ المِزاج يقدح منها ... شراراً في سبائك العِقيان ) ( فاشرب الرِاح واعصِ مَنْ لام فيها ... إنها نعم عُدة الفِتيان ) ( واصحب الدهر بارتحال وحَلّ ... لا تخف ما يجُرّه الحادثان ) ( حسْب مستظهِرعلى الدهر ركناً ... بِحُميد رِداءاً من الحِدثان ) ( مِلك يقتني المكارم كنزاً ... وتراه من أكرم الفتيان ) ( خُلقت راحتاه للجود والبأس ... وأموالُه لشكر اللسان ) ( ملّكتْه على العباد معدّ ... وأقرّت له بنو قحطان ) ( أريحيُّ الندى جميل المحيّا ... يده والسماح معتَقدان ) ( وجْهه مشرق إلى معتَفيه ... ويداه بالغيث تنفجران ) ( جَعل الدهر بين يوميه قسمين ... بِعُرف جزل وحَرِّ طعان ) ( فإذا سار بالخميس لحرب ... كَلَّ عن نصّ جَرْيه الخافقان ) ( وإذا ما هززتَه لنوال ... ضاق عن رحب صدره الأفقان ) ( غَيث جدب إذا أقام ربيع ... يتغشى بالسِّيب كلّ مكان ) ( يا أبا غانم بقيتَ على الدهر ... وخُلّدتَ ما جرى العصران ) ( ما نُبالي إذا عدَت المنايا ... مَن أصابت بكَلْكَل وجِران ) ( قد جعلنا إليك بعث المطايا ... هرَباً من زماننا الخوّان ) ( وحملنا الحاجات فوق عتاق ... ضامنات حوائج الرُّكبان ) ( ليس جُودُ وراء جودك يُنتاب ... ولا يَعتَفِي لغيرك عاني ) فأمر له بعشرة آلاف درهم وقال تلك كانت للصوم فخفّفت وخففنا وهذه للفطر فقد زدتنا وزدناك أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن الطيب السرخسي قال حدثنا ابن أخي علي بن جبلة العكوك قال أحمد وكان علي جارنا بالربض هو وأهله وكان أعمى وبه وضح وكان يهوى جارية أديبة ظريفة شاعرة وكانت تحبه هي أيضاً على قبح وجهه وما به من الوضح حدثني بذلك عمرو بن بحر الجاحظ قال عمرو وحدثني العكوك أن هذه الجارية زارته يوماً وأمكنته من نفسها حتى افتضّها قال وذلك عنيت في قولي ( ودمٍ أهدرت من رشإٍ ... لم يُرِد عقلاً على هَدَره ) وهي القصيدة التي مدح بها أبا دلف يعني بالدم دم البضع قال ثم قصدت حميداً بقصيدتي التي مدحته بها فلما استؤذن لي عليه أبى أن يأذن لي وقل قولوا له أي شيء أبقيت لي بعد قولك في أبي دلف ( إنما الدنيا أبو دَُلف ... بين مَبْداه ومحتضره ) ( فإذا ولّى أبو دُلَف ... ولت الدنيا على أثره ) فقلت للحاجب قل له الذي قلت فيك أحسن من هذا فإن وصَّلتَني سمعته فأمر بإيصالي فأنشدت قولي فيه ( إنما الدنيا حُميد ... وأياديه الجسامُ ) ( فإذا ولّى حُمَيد ... فعلى الدنيا السلام ) فأمر لي بمائتي دينار فنثرتها في حجر عشيقتي ثم جئته بقصيدتي التي أقول فيها ( دجلة تسقي وأبو غانم ... يُطعم مَن تسقي من الناسِ ) فأمر لي بمائتي دينار حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب قال حدثني ابن أخي علي بن جبلة أيضاً أن عمه علياً كان يهوى جارية وهي هذه القينة وكانت له مساعدة ثم غضبت عليه وأعرضت عنه فقال فيها ( تُسيء ولا تستنكر السوء إنها ... تُدلّ لما تبلوه عندي وتَعرف ) ( فمِن أين ما استعطفتها لم ترقَّ لي ... ومن أين ما جربتُ صبريَ يضعف ) أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال تذاكرنا يوماً أقبح ما هجي به الناس في ترك الضيافة وإضاعة الضيف فأنشدنا علي بن جبلة لنفسه ( أقاموا الدّيدَبان على يَفاعٍ ... وقالوا لا تنَم للدّيدَبان ) ( فإن آنست شخصاً من بعيد ... فصفّق بالبنان على البنان ) ( تراهم خشية الأضياف خُرساً ... ويأتون الصلاة بلا أذان ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني أبي قال حدثني وهب بن سعيد المَرْوزي كاتب حميد الطوسي قال جئت حْميَداً في أول يوم من شهر رمضان فدفع إلي كيساً فيه ألف دينار وقال تصدقوا بهذه وجاءه ابنه أصرم فسلم عليه ودعا له ثم قال له خادمك علي بن جبلة بالباب فقال وما أصنع به جئتني به يا بني تقابلني بوجهه في أول يوم من هذا الشهر فقال إنه يجيد فيك القول قال فأنشدني بيتاً مما تستجيد له فأنشده قوله ( حِيدي حَيادِ فإنّ غزوة جيشه ... ضمنت لجائلة السباع عِيالها ) فقال أحسن ائذنوا له فدخل فسلّم ثم أنشده قوله ( إن أبا غانم حُمَيداً ... غيث على المعتفين هامي ) ( صوَّره الله سيفَ حَتف ... وباب رزق على الأنام ) ( يا مانع الأرض بالعوالي ... والنَّعم الجمة العظام ) ( ليس من السّوء في مَعاذ ... من لم يكن منك في ذِمام ) ( وما تعمّدتُ فيك وصفاً ... إلا تقدَّمْته أمامي ) ( فقد تناهت بِك المعالي ... وانقطعت مدة الكلام ) ( أَجِدَّ شهراً وأبلِ شهراً ... واسلم على الدهر ألف عام ) قال فالتفت إلي حميد وقال أعطه ذلك الألف الدينار حتى يخرج للصدقة غيره حدثني عمي قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قال حدثني أبو سهيل بن سالم مولى حميد الطوسي قال جاء علي بن جبلة إلى حميد الطوسيّ مستشفعا به إلى أبي دلف وقد كان غضب عليه وجفاه فركب إلى أبي دلف شافعاً وسأله في أمره فأجابه واتصل الحديث بينهما وعلي بن جبلة محجوب فأقبل على رجل إلى جانبه وقال اكتب ما أقول لك فكتب ( لا تتركنَّي بباب الدار مطّرَحاً ... فالحرُ ليس عن الأحرار يحتجب ) ( هبنا بلا شافع جئنا ولا سبب ... ألستَ أنت إلى معروفك السبب ) قال فأمر بإيصاله إليه ورضي عنه ووصله أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن مروان قال حدثني أبو سعيد المخزومي قال دخلت على حميد الطوسي فأنشدته قصيدة مدحته بها وبين يديه رجل ضرير فجعل لا يمر ببيت إلا قال أحسن قاتله الله أحسن ويحه أحسن لله أبوه أحسن أيها الأمير فأمر لي حميد ببدرة فلما خرجت قام إلي البوابون فقلت كم أنتم عرفوني أولاً من هذا المكفوف الذي رأيته بين يدي الأمير فقالوا علي بن جبلة العكوك فارفضضت عرقا ً ولو علمت أنه علي بن جبلة لما جسرت على الإنشاد بين يديه المأمون يدخل علي ولكن بشرط أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال كلم حميد الطوسي المأمون في أن يدخل عليه علي بن جبلة فيسمع منه مديحاً مدحه به فقال وأي شيء يقوله في بعد قوله في أبي دلف ( إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... بين مغزاه ومحتضره ) ( فإذا ولّى أبو دُلَف ... ولَّت الدنيا على أثره ) وبعد قوله فيك ( يا واحد العرَب الذي ... عزّت بعزتِه العَرَبْ ) أحسن أحواله أن يقول فيَّ مثل ما قاله في أبي دُلف فيجعلَني نظيراً له هذا إن قدر على ذلك ولم يقصر عنه فخيروه بين أن أسمع منه فإن كان مدحه إياي أفضل من مدحه أبا دلف وصلته وإلا ضربت عنقه أو قطعت لسانه وبين أن أقيله وأعفيه من هذا وذا فخيروه بذلك فاختار الإقالة ثم مدح حميداً الطوسي فقال له وما عساك أن تقول في بعدما قلته في أبي دُلف فقال قد قلت فيك خيراً من ذلك قال هات فأنشده ( دجلة تَسقِي وأبو غانمٍ ... يُطعم مَن تسقي من ا لنَّاسِ ) ( النَّاس جسم وإمام الهدى ... رأْس وأنت العين في الراس ) فقال له حميد قد أجدت ولكن ليس هذا مثل ذلك ووصله قال أحمد بن عبيد ثم مات حميد الطوسي فرثاه علي بن جبلة فلقيته فقلت له أنشدني مرثيتك حميداً فأنشدني ( نَعاءِ حُمَيداً للسرايا إذا غدَتْ ... تُذاد بأطراف الرماح وتوزع ) حتى أتى على آخرها فقُلت له ما ذهب على النحو الذي نحوتَه يا أبا الحسن وقد قاربته وما بَلغته فقال وما هو فقلت أردت قول الخريمي في مرثيته أبا الهيذام ( وأعددتُه ذخراً لكل مُلمة ... وسهم المَنايا بالذخائر مُولع ) فقال صدقت والله أما والله لقد نحوته وأنا لا أطمع في اللحاق به لا والله ولا أمرؤ القيس لو طلبه وأراده ما كان يطمع أن يقاربه في هذه القصيدة هروبه من المأمون أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني ابن أبي حرب الزعفراني قال لما بلغ المأمون قول علي بن جبلة لأبي دلف ( كلُّ من في الأرض من عرَب ... بين باديه إلى حضره ) ( مستعير منك مكرمةً ... يكتسيها يوم مفتخَره ) غضب من ذلك وقال اطلبوه حيث كان فطلب فلم يقدر عليه وذلك أنه كان بالجبل فلما اتصل به الخبر هرب إلى الجزيرة وقد كانوا كتبوا إلى الآفاق في طلبه فهرب من الجزيرة أيضاً وتوسط الشام فظفروا به فأخذوه وحملوه إلى المأمون فلما صارإليه قال له يابن اللَّخناء أنت القائل للقاسم بن عيسى ( كلُّ من في الأرض من عرَب ... بين باديه إلى حضره ) ( مستعير منك مكرمةً ... يكتسيها يوم مفتخَرة ) جعلتنا ممن يستعير المكارم منه فقال له يا أمير المؤمنين أنتم أهل بيت لا يقاس بكم أحد لأن الله جل وعز فضلكم على خلقه واختاركم لنفسه وإنما عنيت بقولي في القاسم أشكال القاسم وأقرانه فقال والله ما استثنيت أحداً عن الكلّ سلوا لسانه من قفاه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال وحدثني أحمد بن أبي فنن أن المأمون لما أدخل عليه علي بن جبلة قال له إني لست استحل دمك لتفضيلك أبا دلف على العرب كلها وإدخالك في ذلك قريشاً وهم آل رسول الله وعترته ولكني أستحله بقولك في شعرك وكفرك حيث تقول القول الذي أشركت فيه ( أنت الذي تنزل الأيامَ منزلها ... وتَنقل الدهرَ من حال إلى حال ) ( وما مددْتَ مدَى طَرف إلى أحد ... إلا قضيتَ بأرزاق وآجال ) كذبت يا ماص بظر أمه ما يقدر على ذلك أحد إلا الله عز و جل الملك الواحد القهار سلوا لسانه من قفاه صوت ( لا بد من سكرة على طَرَبِ ... لعل رَوْحاً يُدال من كُرَبِ ) ويروى ( لعل روحاً يُديل من كرب ... ) وهو أصوب ( فعاطنيها صهباء صافية ... تَضحك من لؤلؤ على ذهب ) ( خليفةَ الله أنت منتخَب ... لِخير أُمَّ من هاشم وأَب ) ( أَكرِمْ بأصلين أنت فرعهما ... من الإمام المنصور في النسب ) الشعر للتيميّ والغناء لسليم بن سلام خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وفيها لنظم العمياء خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي أخبار التيميّ ونسبه هو عبد الله بن أيوب ويكنى أبا محمد مولى بني تيم ثم مولى بني سليم ذكر ذلك ابن النطاح وكان له أخ يقال له أبو التيجان وكلاهما كان شاعراً وهما من أهل الكوفة وهما من شعراء الدولة العباسية أحد الخلعاء المجان الوصافين للخمر وكان صديقاً لإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق ونديماً لهما ثم اتصل بالبرامكة ومدحهم واتصل بيزيد بن مزيد فلم يزل منقطعاً إليه حتى مات يزيد واستنفذ شعره أو أكثره في وصفه الخمر وهو الذي يقول ( شَربتُ من الخمر يوم الخميس ... بالكأس والطاس والقَنْقَلِ ) ( فما زالت الكأس تغتالنا ... وتَذهب بالأول الأول ) ( إلى أن توافت صلاة العشا ... ونحن من السكر لم نعقل ) ( فمن كان يعرف حق الخميس ... وحق المدام فلا يجهل ) ( وما إن جرت بيننا مَزحة ... تهيج مِراء على السلسل ) وهو القائل ( ولن أنتهي عن طيِّب الراح أو يَرى ... بَوادي عظامي في ضريحيَ لاحدُ ) ( أضعتُ شبابي في الشراب تلذّذاً ... وكنت امرأ غِرّ الشباب أكابدُ ) أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أبو العيناء عن محمد بن عمر قال أبو محمد التيمي اسمه عبد الله بن أيوب مولى بني تيم أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن محمد بن داود بن الجراح قال قال دعبل كان للتيمي أبي محمد ابن يقال له حبان مات وهو حديث السن فجزع عليه وقال يرثيه صوت ( أودى بحَبّانَ ما لم يترك الناسا ... فامنح فؤادَك من أحبابك الياسا ) ( لما رَمته المنايا إذ قصدن له ... أصبن مني سواد القلب والراسا ) ( وإذ يقول لي العُوَّاد إذ حضروا ... لاتأس أبشر أبا حبان لا تاسَى ) ( فبت أرعى نجوم الليل مكتئباً ... إخال سُنَّته في الليل قرطاسا ) غنى في الأول والرابع من هذه الأبيات حكم الوادي ولحنه رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وأول هذه القصيدة ( يا دَير هند لقد أصبحت لي انَساً ... وما عهدتك لي يا دَير مِئْناسا ) وهي مشهورة من شعره أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال قلت ( وُصف الصدُّ لمن أهوَى فَصَدّ ... ) ثم أجبلت فمكثت عدة ليال لا يستوي لي تمامه فدخل علي التيمي فرآني مفكراً فقال ما قصتك فأخبرته فقال ( وبدا يمزح بالهجر فجَدّ ... ) ثم أتممتها فقلت ( ما له يعدل عني وجهَه ... وهو لا يعدِله عندي أحدْ ) وخرجت إلى مدح الفضل بن الربيع فقلت ( قد أرادوا غِرّة الفضل وهل ... تُطلب الغِرّة في خِيس الأسدْ ) ( ملِك ندفَع ما نخشى به ... وبه يَصلح منّا ما فسد ) ( يفعل الناسُ إذا ما وعدوا ... وإذا ما فعل الفضل وعد ) لإسحاق في هذا الشعر صنعة ونسبتها صوت ( وُصف الصدُّ لِمن نهوَى فصدْ ... وبدا يمزح بالهجر فجَدْ ) ( ما له يَعدل عني وجهَه ... وهو لا يعدله عندي أحد ) الشعر والغناء لإسحاق خفيف رمل بالبنصر وله فيه أيضاً ثقيل أول وفيه لزكريا بن يحيي بن معاذ هزج بالبنصر عن الهشامي وغيره قال الهشامي وقيل إن الهزج لإسحاق وخفيف الرمل لزكريا أخبرني جحظة عن علي بن يحيي المنجم عن إسحاق قال اشتركت أنا وأبو محمد التيمي في هذا الشعر ( وُصف الصد لمن نهوى فصد ... ) وذكر البيتين الرشيد يطلب سماع قصيدته في رثاء يزيد بن مزيد أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان قال حدثني محمد الراوية الذي يقال له البيذق وكان يقرأ شعر المحدثين على الرشيد قال قال لي الرشيد يوماً أنشدني مرثية مروان بن أبي حفصة في معن بن زائدة التي يقول فيها ( كأن الشمس يوم أُصيب معنٌ ... من الإظلام مُلْبَسه جِلالا ) ( هو الجبل الذي كانت معدّ ... تَهُدّ من العَدُوّ به الجبالا ) ( أقمنا باليمامة بعد معنٍ ... مُقاماً لا نريد به زيالاً ) ( وقلنا أين نذهب بعد معنٍ ... وقد ذهب النوال فلا نوالاً ) قال فأنشدته إياها ثم قال لي أنشدني قصيدة أبي موسى التيميّ في مرثية يزيدَ بن مَزْيد فهي والله أحب إليَّ من هذه فأنشدته ( أحقٌ أنه أودَى يَزِيدُ ... تبيّن أيها الناعي المُشيد ) ( أتدري مَن نعيتَ وكيف فاهت ... به شفتاك كان بِك الصعيد ) ( أَحامي المجد والإسلام أودى ... فما للأرض ويحكَ لا تميد ) ( تأمل هل ترى الإسلام مالت ... دعائمه وهل شاب الوليد ) ( وهل شِيمت سيوف بني نزار ... وهل وُضعَتْ عن الخيل اللُّبود ) ( وهل تسقِي البلادَ عِشار مُزن ... بِدرّتها وهل يخضرّ عود ) ( أما هُدت لمِصرَعه نِزارٌ ... بَلَى وتقوّض المجد المَشيد ) ( وحلّ ضريحَه إذ حلَّ فيه ... طريفُ المجد والحسبُ التليد ) ( أَمَا والله ما تنفك عَيني ... عليك بدمعها أبداً تجود ) ( فإن تجمُد دموع لئيم قوم ... فليس لدمع ذي حسب جُمود ) ( أبعد يزيد تَخْتَزن البواكي ... دموعاً أو تصَانُ لها خدود ) ( لِتبكِك قبةُ الإسلام لما ... وهت أطنَابها ووهَى العمود ) ( ويبكك شاعرٌ لم يُبق دهرُ ... له نَشَباً وقد كسَد القِصيد ) ( فمَنْ يدعو الإمامُ لكل خطب ... ينوب وكلِّ معضِلة تؤود ) ( ومن يحمي الخميسَ إذا تعايا ... بحيلة نفسه البطلُ النجيد ) ( فإن يهلك يزيد فكلّ حيٍّ ... فَريسٌ للمنية أو طريد ) ( ألم تعجب له أن المنايا ... فتكْن به وهُنَّ له جنود ) ( قصدن له وهنّ يحِدن عنه ... إذا ما الحرب شبَّ لها وقود ) ( لقد عزَّى ربيعةَ أن يوماً ... عليها مثلَ يومك لا يعود ) قال فبكى هارون الرشيد بكاء اتسع فيه حتى لو كانت بين يديه سكرجة لملأها من دموعه أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أبو العيناء قال حدثنا محمد بن عمر قال ( خرج كوثر خادم محمد الأمين ليرى الحرب فأصابته رجمة في وجهه فجلس يبكي فوجه محمد من جاءه به وجعل يمسح الدم عن وجهه وقال ( ضربوا قُرة عيني ... ومن أجلي ضربوهُ ) ( أخذ الله لِقلبي ... من أناس أحرقوه ) قال وأراد زيادة في الأبيات فلم يواته فقال للفضل بن الربيع من ها هنا من الشعراء فقال الساعة رأيت عبد الله بن أيوب التيمي فقال علي به فلما أدخل أنشده محمد هذين البيتين وقال أجزهما فقال ( ما لِمن أهوى شبيهُ ... فبِه الدنيا تتيهُ ) ( وصْلُه حلو ولكن ... هجره مُرّكريه ) ( مَن رأَى الناسُ له الفضلَ ... عليهم حسدوه ) ( مثلَ ما قد حسد القائمَ ... بالملك أخوه ) فقال محمد أحسنت هذا والله خير مما أردنا بحياتي عليك يا عباسي إلا نظرت فإن جاء على الظهر ملأت أحمال ظهره دراهم وإن كان جاء في زورق ملأته فأوقرتُ له ثلاثةُ أبغل دراهم الفضل بن سهل يتوسط له فيعفو عنه المأمون قال محمد بن يحيي فحدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن إدريس قال لما قتل محمد الأمين خرج أبو محمد التيمي إلى المأمون وامتدحه فلم يأذن له فصار إلى الفضل بن سهل ولجأ إليه وامتدحه فأوصله إلى المأمون فلما سلم عليه قال له المأمون إيه يا تيمي ( مثلَ ما قد حسد القائمَ ... بالملك أخوه ) فقال التيمي بل أنا الذي أقول يا أمير المؤمنين ( نُصر المأمون عبدُالله ... لما ظلموه ) ( نقضوا العهد الذي كانوا ... قديماً أكَّدوه ) ( لم يعامله أخوه ... بالذي أوصى أبوه ) ثم أنشده قصيدة له امتدحه بها أولها ( جزِعتَ ابنَ تيم أن أتاك مشيبُ ... وبان الشباب والشباب حبيب ) قال فلما أنشده إياها وفرغ منها قال قد وهبتك لله عز و جل ولأخي العباسي يعني الفضل بن سهل وأمرت لك بعشرة آلاف درهم أخبرني محمد بن يحيي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال حدثني عباد بن محمد الكاتب عن أبي محمد التيمي الشاعر قال أنشدت الأمين محمداً أول ما ولي الخلافة قولي ( لا بدَّ من سَكرة على طرب ... لعل رَوحاً يُديل من كُرب ) الأبيات المذكورة في الغناء قال فأمر لي بمائتي ألف درهم صالحوني منها على مائة ألف درهم وأخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن يحيي المنجم قال وحدثني حسين بن الضحاك قال قال لي أبو محمد التيمي دخلت على محمد الأمين أول ما ولي الخلافة فقال يا تيمي وددت أنه قيل في مثل قول طريح بن إسماعيل في الوليد بن يزيد ( طوبى لفرعَيك من هنا وهنا ... طوبى لأعراقك التي تَشجُ ) فإني والله أحق بذلك منه فقلت أنا أقول ذلك يا أمير المؤمنين ثم دخلت إليه من غد فأنشدته قصيدتي ( لا بد من سكرة على طربِ ... لعل رَوحا يُديل من كُرب ) حتى انتهيت إلى قولي ( أَكرِمْ بفرعين يَجريان به ... إلى الإمام المنصور في النسب ) فتبسَّم ثم قال لي يا تيمي قد أحسنت ولكنه كما قيل مرعى ولا كالسَّعدان ثم التفت إلى الفضل بن الربيع فقال بحياتي أوقر له زورقه مالاً فقال نعم يا سيدي فلما خرجت طالبت الفضل بذلك فقال أنت مجنون من أين لنا ما يملأ زورقك ثم صالحني على مائة ألف درهم التيمي يمدح الفضل بن يحيى أخبرني وكيع قال حدثني ابن اسحاق قال حدثني أبي قال ( كنت على باب الفضل بن يحيى فأتاني التيمي الشاعر بقصيدة في قرطاس وسألني أن أوصلها إلى الفضل فنظرت فيها ثم خرقت القرطاس فغضب أبو محمد وقال لي أما كفاك أن استخففت بحاجتي منعتني أن أدفعها إلى غيرك فقلت له أنا خير لك من القرطاس ثم دخلت إلى الفضل فلما تحدثنا قلت له معي هدية وصاحبها بالباب وأنشدته فقال كيف حفظتها قلت الساعة دفعها إلي على الباب فحفظتها فقال دع ذا الآن فقلت له فأدخله فأدخل فسأله عن القصة فأخبره فقال أنشدني شيئاُ من شعرك ففعل وجعلت أردد أبياته وجعلت أشيعها بالاستحسان ثم خرج التيمي فقلت خذ في حاجة الرجل فقال أما إذ عنيت به فقد أمرت له بخمسة آلاف درهم فقلت له أما إذ أقللتها فعجلها فأمر بها فأحضرت فقلت له أليس لإعناتك إياي ثمن قال نعم قلت فهاته قال لا أبلغ بك في الإعنات ما بلغت بالشاعر في المديح فقلت فهات ما شئت فأمر بثلاثة آلاف درهم فضممتها إلى الخمسة الآلاف ووجهت بها إليه وذكر أحمد بن طاهر عن أبي هفان عن إسحاق قال كان التيمي وأخوه أبو التيحان وابن عم له يقال له قبيصة يشربون في حانة حتى سكروا وانصرفوا من غد فقال التيمي يذكر ذلك ويتشوق مثله صوت ( هل إلى سَكرة بناحية الحيرة ... شنعاءَ يا قَبيص سبِيلُ ) ( وأبو التيَّحان في كَفَّه القرعة ... والرأس فوقه إكليل ) ( وغرار كأنه بيذق الشَّطرنج ... يفتن فيه قالٌ وقيلُ ) الشعر للتيمي والغناء لمحمد بن الأشعث رمل بالوسطى أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أبو العيناء عن أبي العالية قال أمر محمد الأمين لعبد الله بن أيوب بجائزة عشرة آلاف دينار ثواباً عن بعض مدائحه فاشترى بها ضيعة بالبصرة وقال بعد ابتياعه إياها ( إني اشتريتُ بما وهبتَ لِيَهْ ... أرضاً أمون بها قرابَتِيَه ) ( فبحسن وجهك حين أسأل قل ... يابن الربيع احمل إليه مِيَهْ ) فغني بها الأمين فقال للفضل بحياتي يا عباسي أحمل إليه مائة ألف فدعا به فأعطاه خمسين ألفاً وقال له الخمسون الأخر لك علي إذا اتسعت أيدينا أخبرني الحسن قال حدثني أبو العيناء عن أبي العالية قال عشق التيمي جارية لبعض النخاسين فشكا وجده بها إلى أبي عيسى بن الرشيد فقال أبو عيسى للمأمون يا أمير المؤمنين إن التيمي يجد بجارية لبعض النخاسين وقد كتب إلي بيتين يسألني فيهما ثمنها فقال وما هما فقال ( يا أبا عيسى إليك المُشتكَى ... وأخو الصبر إذا عيل شكا ) ( ليس لي صبر على فقدانها ... وأعاف المَشربَ المشتركا ) قال فأمر له بثلاثين ألف درهم فاشتراها بها أخبرني الحسن قال حدثني أبو العيناء عن أبي العالية قال دخل التيمي إلى الفضل بن الربيع في يوم عيد فأنشده ( ألا إنما آلُ الربيع ربيع ... وغيثُ حَياً للمرمِلين مَريع ) ( إذا ما بدا آل الربيع رأيتَهم ... لهم دَرَج فوق العباد رفيع ) فأمر له بعشرة آلاف درهم أخبرني عيسى بن الحسن قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا الزبير بن بكار قال مدح أبو محمد التيمي الفضل بن يحيى بثلاث أبيات ودفعها إلى إسحاق الموصلي فعرضها على الفضل بن يحي فأمر له بثلاثة آلاف درهم والأبيات ( لعمرك ما الأشراف في كل بلدة ... وإن عُظموا للفضل إلا صَنائِعُ ) ( تَرى عظماء الناس للفضل خُشَّعاً ... إذا ما بدا والفضل لله خاشع ) ( تواضَع لمّا زاده الله رفعة ... وكلُّ جليل عنده متواضع ) أخبرني جحظة قال حدثني علي بن يحيي المنجم قال حدثني إسحاق الموصلي عن محمد بن سلام قال كتب الحجاج إلى قتيبة بن مسلم إني قد نظرت في سني فإذا أنا ابن ثلاث وخمسين سنة وأنا وأنت لدة عام وإن امرأ قد سار إلى منهل خمسين سنة لقريب أن يرده والسلام فسمع هذا أبو محمد التيمي مني فقال ( إذاذهب القَرْن الذي أنت فيهمُ ... وخُلِّفتَ في قَرن فأنت غريب ) ( وإن امرأَ قد سار خمسين حِجة ... إلى منهل مِن وِرده لقريب ) حدثني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو دعامة علي بن يزيد قال حدثني التيمي أبو محمد قال دخلت على الحسن بن سهل فأنشدته مديحا في المأمون ومديحا فيه وعنده طاهر بن الحسين فقال له طاهر هذا والله أيها الأمير الذي يقول في محمد المخلوع ( لا بُدَّ من سَكرة عَلَى طَرَبِ ... لعل رَوحاً يُديل من كُرَب ) ( خليفةُ الله خير منتخَب ... لِخير أم من هاشم وأب ) ( خلافة الله قد تَوارثها ... آباؤه في سوالف الكُتُب ) ( فهْي له دونكم مورَّثة ... عن خاتم الأنبياء في الحِقب ) ( يابن الذُّرا من ذوائب الشرف الأقدم ... أنتم دعائم العرب ) فقال الحسن عرض والله ابن اللخناء بأمير المؤمنين والله لأعلمنه وقام إلى المأمون فأخبره فقال المأمون وما عليه في ذلك رجل أمل رجلاً فمدحه والله لقد أحسن بنا وأساء إليه إذا لم يتقرب إليه إلا بشرب الخمر ثم دعاني فخلع علي وحملني وأمر لي بخمسة آلاف درهم أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو الشبل البرجمي عن أبيه قال قال لي أبو محمد التيمي أول شعر به فشاع فيه ذكري ووصلت به إلى الخليفة قولي صوت ( طاف طَيفٌ في المنام ... بِمحبِّ مستهامِ ) ( زَورة أبقت سَقاماً ... وشفت بعض السَّقام ) ( لم يكن ما كان فيها ... من حرام بِحرام ) ( لم تكن إلا فُواقاً ... وهْي في ليل التَّمام ) الغناء لإسحاق فقال فصنع فيها إسحاق لحنا وغنى به الرشيد فسأله عن قائل الشعر فقال له صديق لي شاعر ظريف يعرف بالتيمي فطلبت وأمرت بالحضور فسألت عن السبب الذي دعيت له فعرفته فأتممت الشعر وجعلته قصيدة مدحت بها هارون ودخلت إليه فأنشدته إياها فأمر له بثلاثين ألف درهم وصرت في جملة من يدخل إليه بنوبة وأمر أن يدون شعري التيمي وإسحاق الموصلي أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عمي طياب بن إبراهيم الموصلي قال حدثني أبو محمد التيمي الشاعر قال اجتزت يوما بأخيك إسحاق فقال ادخل حتى أطعمك طعاماً صرفاًوأسقيك شراباً صرفاً وأغنيك غناء صرفاً فدخلت إليه فأطعمني لحماً مكبّباً وشواء حارّاً وبارداً مبزّراً وأسقاني شراباً عتيقاً صدفا وغناني وحده مرتجلاً ( ولو أن أنفاسي أصابت بحرَّها ... حديداً إذاً كاد الحديد يذوبُ ) ( ولو أن عيني أُطلقَت من وِكائها ... لما كان في عام الجُدوب جُدوب ) ( ولو أن سلمى تطلع الشمس دونها ... وأُمسي وراء الشمس حين تغيب ) ( لحدثت نفسي أن تَريع بها النوى ... وقلتُ لقلبي إنها لقريب ) فلم تزل تلك حالي حتى حملت من بيته سكران أخبرني جحظة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال دخلت يوماً على عمرو بن مسعدة فإذا أبو محمد التيمي واقف بين يديه يستأذنه في الإنشاد فقال ذاك إلى أبي محمد يعنيني وكان على التيمي عاتباً فكره أن يمنعه لعلمه بما بيننا من المودة فقلت له أنشد إذ جعل الأمر إلي فأرجو أن يجعل أمر الجائزة أيضاً إلي فتبسم عمرو وأنشده التيمي ( يا أبا الفضل كيف تغفل عني ... أم تَخلَّى عند الشدائد منّي ) ( أنسيت الإخاء والعهد والودّ ... حديثاً ما كان ذلك ظني ) ( أنا مَن قد بلوتَ في سالف الدهر ... مضَت شِرّتي ولم تفنَ سني ) ( فاصطنعني لما ينوب به الدهر ... فإني أجوز في كل فن ) ( أنا ليث على عدوّك سِلْمٌ ... لك في الحرب فابتذلني وصِلْني ) ( أنا سيف يوم الوغى وسنان ... ومجنٌ إن لم تَثق بمجن ) ( أنا طَبّ في الرأْي في موضع الرأْي ... معين على الخصيم المعَنَّ ) ( وأمينٌ على الودائع والسرّ ... إذا ما هوِِيت أن تأتمني ) قال فأقبل عليّ عمرو وهو يضحك وقال أتعلم هذا الغناء منك أم كان يعلمه قديماً فقلت له لم يكذب أعزك الله فقال أفي هذا وحده أو في الجميع فقلت أما في هذا فأنا أحق كذبة والله أعلم بالباقي ثم أنشده ( وإذا ما أردتَ حجّاً فرحّالٌ ... دليلٌ إن نام كلّ ضِفَنَّ ) فقال له إذا عزمنا على الحج امتحناك في هذا فإني أراك تصلح له ثم أنشده ( ولبيب على مقال أبي العباس ... إني أرى به مسّ جِنِّ ) فقال ما أراه أبعد فقال ( وهو الناصح الشفيق ولكن ... خاف هَيْج الزمان فازورّ عني ) ( ظريف عند المزاح خفيف ... في الملاهي وفي الصبا متثن ) ( كيف باعدتَ أو جفوتَ صديقاً ... لا ملولاً لالا ولا متجن ) ( صرتُ بعد الإكرام والأنس أرضى ... منك بالترّهات ما لم تُهنِّي ) ( لم تخُنِّي ولم أخنك ولا والله ... ربي لا خنت من لم يخني ) ( إن أكن تُبتُ أو هجرت الملاهي ... وسُلافاً يَجنُها بطن دَنّ ) ( فحديثي كالدر فُصِّل بالياقوت ... يجري في جيد ظبي أَغنّ ) فأمر له بخمسة آلاف درهم فقال له هذا شيء تطوعَت به فأين موضع حُكمي فقال مثلها فانصرف بعشرة آلاف درهم أخبرني عمي قال حدثني محمد بن الحسن بن مسعود قال حدثني علي بن عمرو قال مر التيمي بالحيرة على خمار كان يألفه وقد أسن التيمي وأرعش وترك النبيذ فقال له الخمار ويحك أبلغ بك الأمر إلى ما أرى فقال نعم والله لولا ذلك لأكثرت عندك ثم أنشأ يقول صوت ( هل إلى سكرة بناحية الحيرة ... يوماً قبل الممات سبيل ) ( وأبو التَّيَّحان في كفه القرعة ... والرأس فوقه الإكليل ) ( وعَرارٌ كأنه بَيذق الشِّطرنج ... يفتنّ فيه قال وقيل ) في هذه الأبيات لمحمد بن الأشعث رمل بالوسطى عن الهشامي أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل قال كان أبو محمد التيمي يهوى غلاماً وكان الغلام يهوى جارية من جواري القيان فكان بها مشغولاً عنه وكانت القينة تهوي الغلام أيضًا فلا تفارقه فقال التيمي ( ويلي على أَغيد ممكورِ ... وساحر ليس بمسحورِ ) ( تؤثره ألحُور علينا كما ... نؤثره نحن على الحور ) ( عُلّق من علّق فيه هوى ... منتظم الألفة مغمور ) ( وكل من تهواه في أمره ... مقلِّبٌ صفقة مقمور ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني أحمد بن محمد الفارسي قال حدثنا غسان بن عبد الله عن أبي محمد التيمي قال لما أنشدت الأمين قولي فيه ( خليفةُ الله خير منتخَبِ ... لِخير أم من هاشم وأبِ ) ( أكرمْ بعِرقين يجريان به ... إلى الإمام المنصور في النسب ) طرب ثم قال للفضل بن الربيع بحياتي أوقر له زورقه دراهم فقال نعم يا سيدي فلما خرجنا طالبته بذلك فقال أمجنون أنت من أين لنا ما يملأ زورقك ثم صالحني على مائة ألف درهم فقبضتها أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني محمد بن عبد الله المدني قال حدثني عبد الله بن أحمد التيمي ابن أخت أبي محمد التيمي الشاعر قال أنشدني خالي لنفسه قوله ( لا تخضعنّ لمخلوق على طمعٍ ... فإن ذاك مُضرٌّ منك بالديِّن ) ( وارغب إلى الله مما في خزائنه ... فإنما هو بين الكاف والنون ) ( أما ترى كلّ مَن ترجو وتأملُه ... من الخلائق مسكين ابن مسكين ) صوت ( ألم تَرَ أنني أفنيتُ عُمري ... بمَطلَبها ومطلبُها عسيرُ ) ( فلما لم أجدْ سبباًإليها ... يُقرِّبني وأعيتني الأمور ) ( حججت وقلت قد حجَّت جِنَان ... فيجمعُني وإياها المسير ) الشعر لأبي نواس والغناء للزبير بن دحمان رمل بالوسطى من رواية أحمد بن المكي وبذْل وغناني محمد بن إبراهيم قريض الجرحي رحمه الله فيه لحناً من خفيف الثقيل فسألته عن صانعه فلم يعرف أخبار أبي نواس وجنان خاصة إذا كانت أخباره قد أ فردت خاصة كانت جنان هذه جارية آل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي المحدث الذي كان ابن مناذر يصحب ابنه عبد المجيد ورثاه بعد وفاته وقد مضت أخبارهما وكانت حلوة جميلة المنظر أديبة ويقال إن أبا نواس لم يصدق في حبه امرأة غيرها أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إسحاق بن محمد عن أبي هفان عن أصحاب أبي نواس قالوا كانت جنان جارية حسناء أديبة عاقلة ظريفة تعرف الأخبار وتروي الأشعار قال اليؤيؤ خاصة وكانت لبعض الثقفيين بالبصرة فرآها أبو نواس فاستحلاها وقال فيها أشعاراً كثيرة فقلت له يوماً إن جنان قد عزمت على الحج فكان هذا سبب حجه وقال أما والله لا يفوتني المسير معها والحج عامي هذا إن أقامت على عزيمتها فظننته عابثاً مازحاً فسبقها والله إلى الخروج بعد أن علم أنها خارجة وما كان نوى الحج ولا أحدث عزمه له إلا خروجها وقال وقد حج وعاد ( ألم تَر أنني أفنيت عُمري ... بمطلَبِها ومطلبُها عسير ) ( فلما لم أجدْ سبباً إليها ... يقرِّبني وأعيتني الأمور ) ( حججْت وقلت قد حجَّت جِنان ... فيجمعُني وأياها المسير ) قال اليؤيؤ فحدثني من شهده لما حج مع جنان وقد أحرم فلما جنه الليل جعل يلبي بشعر ويحدو به ويطرب فغنى به كل من سمعه وهو قوله ( إلهنا ما أَعد لكْ ... مليك كلِّ من ملكْ ) ( لبيَّك قد لبيتُ لك ... لبيّك إنَّ الحمدَ لك ) ( والملكَ لا شريك لك ... والليلَ لما أن حلكَ ) ( والسابحاتِ في الفلك ... على مجاري المُنْسَلَك ) ( ما خاب عَبدٌ أمَّلك ... أنت له حيث سلك ) ( لولاك يا ربِّ هلك ... كلُّ نبيّ وملَك ) ( وكلُّ من أهلّ لك ... سبّح أو لبَّى فلَك ) ( يا مخطئاً ما أغفلك ... عجِّل وبادرْ أجَلَك ) ( واختمْ بخير عملك ... لبيك إن الملك لَكْ ) ( والحمد والنعمة لك ... والعزَّ لاشريك لك ) أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال كانت جنان التي يذكرها أبو نواس جارية لآل عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وفيها يقول ( جَفنُ عيني قد كاد يَسْقُط ... من طُول ما اختلجْ ) ( وفؤادي من حَرِّء حُبك ... والهجرِ قد نَضِج ) ( خبِّريني فدَتك نفسي ... وأهلي متى الفرج ) ( كان ميعادُنا خروجَ ... زياد فقد خرج ) ( أنت مِن قتل عائذ ... بك في أضيق الحرج ) أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني الجماز قال ابن عمار وحدثني به قليب بن عيسى قال كانت جنان قد شهدت عرساً في جوار أبي نواس فانصرفت منه وهو جالس معنا فرآها فأنشدنا بديها قوله ( شَهِدتْ جَلْوةَ العروس جِنانٌ ... فاستمالت بِحُسنِها النظارةْ ) ( حسِبوها العَروسَ حين رأوها ... فإليها دون العَروس الإشارة ) ( قال أهلُ العروسِ حينَ رأوها ... ما دهانا بها سواكِ عمارةْ ) قال وعمارة زوج عبد الرحمن الثقفي وهي مولاة جنان أخبرني محمد بن يحيي الصولي ومحمد بن خلف قالا حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن محمد بن عمر قال غضبت جنان من كلام كلمها به أبو نواس فأرسل يعتذر إليها فقالت للرسول قل له لا برح الهجران ربعك ولا بلغت أملك من أحبتك فرجع إليه فسأله عن جوابها فلم يخبره فقال ( فدَيتُك فيم عَتُبك مِن كلامٍ ... نَطقت به على وجهٍ جميل ) ( وقولُك للرسول عليك غَيرِي ... فليس إلى التواصلِ من سبيل ) ( فقدْ جاء الرسول له انكسارٌ ... وحال ما عليها من قَبول ) ( ولو رَدّت جِنانُ مَردٌ خيرٍ ... تَبيّن ذاك في وجهِ الرسول ) قال أبو خالد يزيد بن محمد وكان أبو نواس صادقاً في محبته جنان من بين من كان ينسب به من النساء ويداعبه ورأيت أصحابنا جميعاً يصححون ذاك عنه وكان لها محباً ولم تكن تحبه فمما عاتبها به حتى استمالها بصحة حبه لها فصارت تحبه بعد نبوها عنه قوله ( جِنانُ إنْ جُدتِ يا منايَ بما ... آمل لم تَقطُر السماءُ دما ) ( وإن تَمادَيْ ولا تَماديَت في ... منعِك أٌصبحْ بِقَفْرةٍِ رمَما ) ( عَلِقْتُ من لو أتى على أنفُس الماضيين ... والغابرين ما نَدما ) ( لو نظرَتْ عينُه إلى حجر ... وَلّد فيه فتُوُرها سَقَما ) أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثني محمد بن القاسم عن أبي هفان عن الجماز و أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني الجماز قال كنت عند أبي نواس جالساً إذ مرت بنا امرأة ممن يداخل الثقفيين فسألها عن جنان وألحف في المسألة واستقصى فأخبرته خبرها وقالت قد سمعتها تقول لصاحبة لها من غير أن تعلم أني أسمع ويحك قد آذاني هذا الفتى وأبرسني وأحرج صدري وضيق علي الطرق بحدة نظره وتهتكه فقد لهج قلبي بذكره والفكر فيه من كثرة فعله لذلك حتى رحمته ثم التفتت فأمسكت عن الكلام فسر أبو نواس بذلك فلما قامت المرأة أنشأ يقول ( يا ذا الذي عن جِنانٍ ظل يُخِبرنا ... بالله قٌل وأعِد يا طيَّبَ الخَبر ) ( قال اشتَكتك وقالت ما ابتليت به ... أراه من حَيثُما أقبلتُ في أثَري ) ( ويعمل الطرفَ نحوي إن مررتُ به ... حتى لَيُخجِلني من حِدّة النظرِ ) ( وإن وقفْت له كيما يكلِّمني ... في الموضع الِخْلو لم ينطِقْ من الحَصَر ) ( ما زال يفعل بي هذا ويُدْمِنه ... حتى لقد صار من همِّي ومن وَطري ) أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي وأحمد بن سليمان بن أبي شيخ قالا قال ابن عائشة وأخبرني الحسن بن علي وابن عمار عن الغلابي عن ابن عائشة قال ابن عمار وحدثت به عن الجماز وذكره لي محمد بن داود الجراح عن إسحاق النخعي عن أحمد بن عمير أن محمد بن حفص بن عمر التميمي وهو أبو ابن عائشة انصرف من المسجد وهو يتولى القضاء فرأى أبا نواس قد خلا بأمرأة يكلمها وقال أحمد بن عمير في خبره وكانت المرأة قد جاءته برسالة جنان جارية عمارة امرأة عبد الوهاب بن عبد المجيد فمر به عمر بن عثمان التيمي وهو قاضي البصرة هكذا ذكر أحمد بن عمير وحده وذكر الباقون جميعاً أنه محمد بن حفص قال الجماز وكانت عليه ثياب بياض وعلى رأسه قلنسوة مضربة فقال له اتق الله قال إنها حرمتي قال فصنها عن هذا الموضع وانصرف عنه فكتب إليه أبو نواس صوت ( إنّ التي أبصرْتَها ... بِكْراً أكلّمها رسولُ ) ( أدَّت إليّ رسالةً ... كادت لها نَفْسي تسيل ) ( من ساحر العينين يجذب ... خصرَه رِدْفٌ ثقيل ) ( متقلِّد قَوسَ الصِّبا ... يَرْمي وليس له رسيل ) ( فلو أنّ أُذْنَك بيننا ... حتى تَسمَّع ما تقول ) ( لرأيت ما استقْبحتَ من ... أمري هو الأمر الجميل ) في هذه الأبيات لحنان من الرمل و خفيفه كلاهما لأبي العبيس بن حمدون قال ابن عمير ثم وجه بها فألقيت في الرقاع بين يدي القاضي فلما رآها ضحك وقال إن كانت رسولاً فلا بأس وقال ابن عائشة في خبره فجاءني برقعة فيها هذه الأبيات وقال لي ادفعها إلى أبيك فأوصلتها إليه ووضعتها بي يديه فلما قرأها ضحك وقال قل له إني لا أتعرض للشعراء حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال كان أبو عثمان أخا مولى جنان وكان مولاها أبو مية زوج عمارة وهي مولاتها وكانت له بحكمان ضيعة كان ينزلها وهو ابن عم له يقال له أبو مية فقال أبو نواس فيه قوله ( أسأل القادِمَين من حَكَمانِ ... كيف خلَّفتما أبا عثمان ) ( وأبا مَيَّة المهذَّب والماجدَ ... والمرتَجى لِرَيب الزمان ) ( فيقولان لي جِنانٌ كما سرّكَ ... في حالها فَسَلْ عن جِنان ) ( ما لَهمْ لا يباركُ اللهُ فيهمْ ... كيف لم يُغنِ عندهمْ كِتماني ) لم تكن جنان في موضع عشق فأخبرني ابن عمار قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عبد الملك بن مروان الكاتب قالا كنت جالساً بسر من رأى في شارع أبي احمد فأنشدني قول أبي نواس ( أسألُ المقبِلَيْن من حَكَمانِ ... كيف خَلَّفتما أبا عثمانِ ) وإلى جانبي شيخ جالس فضحك فقلت له لقد ضحكت من أمر فقال أجل أنا أبو عثمان الذي قال أبو نواس فيه هذا الشعر وأبو مية ابن عمي وجنان جارية أخي ولم تكن في موضع عشق ولا كان مذهب أبي نواس النساء ولكنه عبث خرج منه أخبرني علي بن سليمان قال قال لي أبو العباس محمد بن يزيد قال النابغة الجعدي ( أكْنِي بِغَير اسمها وقد عَلِم الله ... خَفِياتِ كلِّ مُكْتَتمِ ) وهو سَبق الناسَ إلى هذا المعنى وأخذوه جميعاً منه وأحسنُ مَن أخذه أبو نواس حيث يقول ( أسألُ المُقبلَين من حكمانِ ... كيف خلّفُتُما أبا عثمانِ ) ( فيقولان لِي جنانُ كما سرّك ... في حالِها فَسَلْ عن جنان ) ( مالَهمْ لا يبارك الله فيهمْ ... كيف لم يُغنِ عندهمْ كِتماني ) أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال أنشدني أحمد بن محمد بن صدقة الأنباري لأبي نواس يذكر مأتماً بالبصرة وحضرته جنان ( يا مًنسِي المأتم أشجانَه ... لمَّا أتاهمْ في المُعزِّينا ) ( سَرَتْ قِناعَ الوشيِ عن صُورة ... ألبسها الله التّحاسينا ) ( فاستفتنَتهنّ بتِمثالها ... فهنّ للتكليف يبكينا ) ( حَقَّ لِذلك الوجهِ أن يزدهِي ... عن حزنِه مَنْ كان محزونا ) أخبرني عمي قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثنا عبد الملك بن عمر بن أبان النخعي وكان صديقاً لأبي نواس أن أبا نواس أشرف من دار على منزل عبد الوهاب الثقفي وقد مات بعض أهله وعندهم مأتم وجنان واقفة مع النساء تلطم وجهها وفي يدها خضاب فقال ( يا قمراً أرَزه مأتَمٌ ... يَندُب شجواً بين أترابِ ) ( يَبكي فيُذرِي الدُّرَّ من عينِه ... ويَلطِم الوردَ بِعُنابِ ) ( لا تبْكِ ميْتاً حلَّ في حُفرةٍ ... وابْكِ قتيلاً لَكَ بالبابِ ) ( أبرَزه المأتمُ لي كارهاً ... بِرَغْم دايات وحجّاب ) ( لا زال موتاً دَأبُ أحبابه ... ولا تَزَل رؤيتَه دابي ) فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن القاسم حدثني محمد بن عائشة قال قال لي سفيان بن عيينة لقد أحسن بصريكم هذا أبو نواس حيث يقول وشدد الواو وفتح النون ( يا قَمَرا أبصرْتُ في مأتمٍ ... يَندُب شَجْواً بين أتراب ) ( يَبكي فُيذرِي الدُّرَّ من عينِه ... ويلْطِم الوردَ بعُنّاب ) قال وجعل يعجب من قوله ويلطم الورد بعناب وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد قال حدثني حسين بن الضحاك قال أنشد ابن عيينة قول أبي نواس ( يَبكي فُيذْري الدُّرَّ من طَرْفِه ... ويلطِمُ الوَرْدَ بعُنَّاب ) فعجبتُ منه وقال آمنت بالذي خلَقه وقد قيل إن أبا نواس قال هذا الشعر في غير جنان أخبرني بذلك الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني بعض الصيارف بالكرخ وسماه قال كان حارس درب عون يقال له المبارك وكان يلبس ثيابا نظيفة سرية ويركب حماراً فيطوف عليه السوق بالليل ويكريه بالنهار فإذا رآه من لا يعرفه ظن أنه من بعض التجار وكان يصل إليه في كل شهر من السوق ما يسعه ويفضل عنه وكانت له بنت من أجمل النساء فمات مبارك وحضره الناس فلما أخرجت جنازته خرجت بنته هذه حاسرة بين يديه فقال أبو نواس فيها ( يا قمراً أبزَزه مأْتمٌ ... يندُب شَجْواً بين أتراب ) وذكر الأبيات كلَّها أخبرني محمد بن جعفر قال حدثني أحمد بن القاسم عن أبي هفان عن الجماز واليؤيؤ وأصحاب أبي نواس أن جنان وجهت إليه قد شهرتني فاقطع زيارتك عني أياماً لينقطع بعض القالة ففعل وكتب إليها ( إنِّا أهتجرنا للناسِ إذ فَطِنوا ... وبينَنا حين نلتقي حَسَنُ ) ( نُدافع الأمر وهْو مُقْتَبِلٌ ... فشبّ حتى عليه قد مَرنوا ) ( فليس يُقذِي عيناً مُعايَنةٌ ... له وما إنْ لمُجّه أُذن ) ( ويحَ ثَقيفٍ ماذا يضَرّهُمُ ... أنْ كان لي في ديارهمْ سكَنُ ) ( أرْيَبُ ما بيننا الحديثُ فإن ... زِدنا فزيدوا وما لِذا ثَمن ) أخبرني الحسنُ بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني ابن أبي سعد قال بلغني أن أبا نواس كتب إلى جنان من بغداد ( كَفَى حَزناً ألاّ أرى وجهَ حِيلةٍ ... أزورُ بها الأحبابَ في حَكَمانِ ) ( وأُقسِمُ لولا أن تَنال مَعاشرٌ ... جِناناً بما لا أشتهي لِجِنانِ ) ( لأصبحتُ منها دانَي الدارِ لاصقاً ... ولكنّ ما أخشَى فُديِتِ عداني ) ( فواحَزنَا حُزْناً يؤدّي إلى الردى ... فأصبحَ مأثوراً بكلِّ لِسان ) ( أُراني انقَصَتْ أيامُ وصليَ منكُم ... وآذن فيكم بالوَداع زماني ) أخبرني الحسنُ قال حَدْثنا ابنُ مَهْرويْه عن يحيى بن محمد عن الخزيمي قال بلغ أبا نواس أن امرأة ذكرت لجنان عشقه لها فشتمته جنان وتنقصته وذكرته أقبح الذكر فقال ( وابِأبي مَنْ إذا ذُكرتُ له ... وطولُ وَجدي به تَنْقّصني ) ( لوْ سألوه عن وَجهِ حُجّته ... في سبِّه لي لقال يَعشقني ) ( نَعم إلى الحشرِ والتّنادِ نَعَمْ ... أعشقُه أو أُلفَّ في كفني ) ( أصِيحُ جَهراً لا أسْتَسِرُّبه ... عَنَّفَني ... فيه مَن يُعنفني ) ( يا معشرَ الناسِ فاسمعوه وعُوا ... أنَّ جِناناً صديقةُ الحَسَن ) فبلغها ذلك فهجرته وأطالت هجره فرآها ليلة في منامه وأنها قد صالَحته فكتب إليها ( إذا التقى في النوم طَيفاناً ... عاد لنا الوصلُ كما كانا ) ( يا قرَّة العينِ فما بالنا ... نَشقى ويلتذُّخيالانا ) ( لو شئتِ إذ أحسنْتِ لي في الكرى ... أتمَمْتِ إحسانك يقطاناً ) ( يا عاشقين اصطلَحا في الكرى ... وأصبَحا غَضبى وغضبانا ) ( كذلك الأحلامُ غَدّارةٌ ... وربما تَصْدقُ أحياناً ) الغناء في هذه الأبيات لابن جامع ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وقال الخزيمي ورآها يوماً في ديار ثقيف فجبهته بما كره فغضب وهجرها مدة فأرسلت إليه رسولاً تصالحه فرده ولم يصالحها ورآها في النوم تطلب صلحه فقال ( دَسّتْ له طَيفها كيما تصالِحُه ... في النوم حين تأبَّى الصلحَ يقظانا ) ( فلم يَجدْ عند طَيفي طَيفُها فَرَجاً ... ولا رثى لتشكَّيه ولا لانا ) ( حَسبتِ أنّ خيالي لا يكون لِما ... أكون من أجلِه غضبانَ غضبانا ) ( جِنانُ لا تَسأليني الصلحَ سُرعةَ ذا ... فلم يكن هِيِّناً منك الذي كانا ) وأنشدني علي بن سليمان الأخفش لأبي نواس في جنان ( أما يَفنى حديثُك عن جِنانِ ... ولا تُبقِي عَلَى هذا اللسانِ ) ( أكُلَّ الدهرِ قلتُ لها وقالت ... فكَم هذا أما هذا بِفانِ ) ( جعلْتَ الناسَ كلُّهُم سواءً ... إذا حدّثْتَ عنها في البيانِ ) ( عدوُّك كالصديق وذا كهذا ... سواءٌ والأباعدُ كالأداني ) ( إذا حدَّثتَ عن شأْنٍ توالت ... عجائبُه أتيتَهُم بشانِ ) ( فلو مَوَّهت عنها باسمِ أُخرى ... علِمنا إذ كنَيت مَن أنت عانِ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثني يحي بن محمد السلمي قال جدثني أبو عكرمة الضبي أن رجلاً قدم البصرة فاشترى جنان من مواليها ورحل بها فقال أبو نواس في ذلك ( أمَّا الديارُ فقلَّما لبثوا بها ... بين استياق العيس ِوالرُّكْبانِ ) ( وضَعوا سِياطَ السّوْق في أعناقها ... حتى اطّلعْن بِهم على الأوطان ) أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثني أبو عثمان الأشنانداني قال كتب أبو نواس إلى جنان ( أكثري المَحْوَ في كتابك وامحيه ... إذا محَوْته باللسان ) ( وأمري بالمحاء بين ثناياك ... العذابِ المُفلَّجات الحسان ) ( إنني كلما مررتُ بِسَطرٍ ... فيه مَحوٌ لطعته بلِساني ) ( تلك تَقبيلةٌ لكمْ من بَعيد ... أُهدِيتْ لي وما بَرِحتُ مكاني ) صوت ( تَجنَّى علينا آلُ مكتوبةَ الذَّنبا ... وكانوا لنا سلْماً فأضحَوْا لنا حَرْبا ) ( يقولون عزِّ القلبَ بعد ذَهابه ... فقلت ألا طُوبايَ لو أن لي قلباً ) عروضه من الطويل الشعر لابن أبي عيينة والغناء لسليمان أخي جحظة رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة نسب ابن أبي عيينة وأخباره أبو عيينة فيما أخبرنا به علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد اسمه وكنيته أبو المنهال قال وكل من يدعى ابا عيينة من آل المهلب فأبو عيينة اسمه وكنيته أبو المنهال وكل من يدعى أبارهم من بني سدوس فكنيته أبو محمد وابن أبي عيينة هو محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة وقال أبو خالد الأسلمي هو أبو عيينة بن المنجاب بن أبي عيينة وهو الذي كان يهجو ابن عمه خالداً واسم أبي صفرة ظالم بن سراق وقيل غالب بن إسراق بن صبح بن كندي بن عمرو بن عدي بن وائل بن الحارث بن العتيك بن الأسد بن عمران بن الوضاح بن عمرو بن مزيقياء بن حارثة الغطريف بن امرىء القيس البطريق بن ثعلبة البهلول بن مازن زاد الراكب بن الأزد هذا النسب الذي عليه آل المهلب وذكر غيرهم أن أصلهم من عجم عمان وأنهم تولوا الأزد فلما سار المهلب وشرف وعلا ذكره استلحقوه وممن ذكر ذلك الهيثم بن عدي وأبو عبيدة وابن مزروع وابن الكلبي وسائر من جمع كتاباً في المثالب وهجتهم به الشعراء فأكثرت أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال أخبرني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حميد بن سليمان العدوي قال أخبرني الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش الهمذاني قال وفد ابن الجلندى في الأزد أزد عمان ومواليهم وأحلافهم فكان فيمن وفد منهم أبو صفرة وكان يلقب بذلك لأنه كان يصفر لحيته فدخل على عمر مع ابن الجلندي ولحيته مخضوبة مصفرة فقال عمر لابن الجلندي أكل من معك عربي قال لا فينا العربي وفينا غير ذلك فالتفت عمر رحمه الله إلى أبي صفرة فقال له أعربي أنت قال لا أنا ممن من الله عليه بالإسلام قال وقدم الحكم بن أبي العاص الثقفي أخو عثمان بأعلاج من شهرك في خلافة عمر قد أسلموا فأمر عمر عثمان بن أبي العاص أن يختنهم وقد كان أبو صفرة حاضراً فقال ما لهؤلاء يطهرون ليصلوا قال إنهم يختنون قال إنا والله هكذا مثلهم قال فسمع ذلك عثمان بن أبي العاص فأمر بأبي صفرة فأجلس على جفنة فختن وإنه لشيخ أشمط فكان بها من قال لسنا نشك في أن زوجته كذلك فأحضرت وهي عجوز أدماء فأمر بها القابلة فنظرت إليها وكشفتها وإذا هي غير مختونة وذلك منها قد أحشف فأمر بها فخفضت وقال في ذلك زياد الأعجم وقد غضب على المهلب ( نحن قطعنا من أبي صُفرةٍ ... قُلْفَته كي يدخل البَصْرَهْ ) ( لما رأى عُثمانُ غُر مولَه ... أتَنَّ عَلَى قُلْفَته الشّفْره ) وليس هذا من الأقوال المعول عليها لأن أصل المثالب زياد لعنه الله فإنه لما ادعي إلى أبي سفيان وعلم أن العرب لا تقر له بذلك مع علمها بنسبه ومع سوء آثاره فيهم عمل كتاب المثالب فألصق بالعرب كلها كل عيب وعار وحق وباطل ثم بنى على ذلك الهيثم بن عدي وكان دعيا فأراد أن يعر أهل البيوتات تشفياً منهم وفعل ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى وكان أصله يهودياً أسلم جده على يدي بعض آل أبي بكر الصديق رضي الله عنه فانتمى إلى ولاء بني تيم فجدد كتاب زياد وزاد فيه ثم نشأ غيلان الشعوبي لعنه الله وكان زنديقا ثنويا لا يشك فيه عرف في حياته بعض مذهبه وكان يورّى عنه في عوراته للإسلام بالتشعّب والعصبية ثم انكشف أمره بعد وفاته فأبدع كتاباً عمله لطاهر بن الحسين وكان شديد التشعّب والعصبية خارجاً عن الإسلام بأفاعيله فبدأ فيه بمثالب بني هاشم وذكر مناكحهم وأمهاتهم وصنائعهم وبدأ منهم بالطيب الطاهر رسول الله وذكره ثم والى بين أهل بيته الأذكياء النجباء عليهم السلام ثم ببطون قريش على الولاء ثم بسائر العرب فألصق بهم كل كذب وزور ووضع عليهم كل خبر باطل وأعطاه طاهر على ذلك مائتي ألف درهم فيما بلغني وإنما جرّ هذا القول ذكر المهلب وما قيل فيه وأني ذكرته فلم أجد بداً من ذكر ما روي فيه وفيما مرّ على أهل النسب ثم قلت ما عندي عبد الملك يأمر بإحراق كتاب المثالب أخبرني حبيب بن نصر قال أخبرني عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيي أبو عثمان عن أبيه قال دخل بعض الناس على عبد الملك بن مروان فقال له هل عندك كتاب زياد في المثالب فتلكأ فقال له لا بأس عليك وبحقي إلا جئتني به فمضى فجاء به فقال له اقرأ علي فقرأه وجعل عبد الملك يتغيظ ويعجب مما فيه من الأباطيل ثم تمثل قول الشاعر ( وأجرأْ مَنْ رأيتُ بظَهْر غَيْبٍ ... عَلَى عَيْب الرّجال أُولُو العُيُوب ) ثم أمر بالكتاب فأحرق رجع الخبر إلى سياقه أخبار ابن أبي عيينة وهو شاعر مطبوع ظريف غزل هجاءٌ وأنفد أكثر أشعاره في هجاء ابن عمه خالد وأخبارهما تذكر على أثر هذا الكلام وما يصلح تصدير أخباره به وكان من شعراء الدولة العباسية من ساكني البصرة حدثني عمي والصولي قالا حدثنا أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثني أبي قال أبو عيينة اسمه كنيته وهو ابن محمد بن أبي عيينة بن المهلب بن أبي صفرة وأخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني العنزي قال حدثني أبو خالد الأسلمي قال أبو عيينة الشاعر هو أبو عيينة بن المنجاب بن أبي عيينة بن المهلب وكان محمد بن أبي عيينة أبو أبي عيينة الشاعر يتولى الري لأبي جعفر المنصور ثم قبض عليه وحبسه وغرمه وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال قال وهب بن جرير رأيت في منامي كأن قائلاً يقول لي ( ما يلقى أبو حربِ ... تعالى الله من كرب ) فلم ألبث أن أخذ المنصور أبا حرب محمد بن أبي عيينة المهلبي فحبسه وكان ولاه الري فأقام بها سنين أخبرني عيسى بن الحسين الوراق ومحمد بن يحيي الصولي وعمي قالوا حدثنا الحزنبل الأصبهاني قال حدثني الفيض بن مخلد مولى أبي عيينة بن المهلب قال كان أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة يهوى فاطمة بنت عمر بن حفص الملقب هزار مرد وكانت امرأة نبيلة شريفة وكان يخاف أهلها أن يذكرها تصريحا ويرهب زوجها عيسى بن سليمان فكان يقول الشعر في جارية لها يقال لها دنيا وكانت قيمة دارها ووالية أمورها كلها وأنشدنا لابن أبي عيينة فيها ويكني باسم دنيا هذه ( ما لِقلْبي أرقَّ من كلِّ قلبِ ... ولِحُبِّي أشدَّ من كل حبّ ) ( ولدنيا على جُنوني بدنيا ... أشتهي قُربَها وتكرهُ قُربي ) ( نَزلَت بي بليّةٌ من هواها ... والبلايا تكون من كلِّ ضَرب ) ( قل لدنيا إن لم تُجبك لِما بي ... رَطبةً مِن دموع عينَي كُتْبي ) ( فعلام انتهرتِ بالله رسْلي ... وتهددِتهم بحبس وضرب ) ( أيُّ ذنب أذنبتُه ليت شِعري ... كان هذا جزاءه أيُّ ذنب ) أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد قال كان أبو عيينة من أطبع الناس وأقربهم مأخذاً من غير أدب موصوف ولا رواية كثيرة وكان يقرب البعيد ويحذف الفضول ويقل التكلف وكان أصغر من أخيه عبد الله ومات قبله وقيل لعبد الله أنت أشعر أم أخوك فقال لو كان له علمي لكان أشعر مني وكان يتعشق فاطمة بنت عمر بن حفص هزار مرد التي تزوجها علي بن سليمان ويسر عشقها ويلقبها دنيا كتمانا لأمرها وكانت امرأة جليلة نبيلة سرية من النساء وكان أبوها من أشد الفرسان وشجعانهم فذكر عيسى بن جعفر أن عيسى بن موسى قال للمهلب بن المغيرة بن المهلب أكان يزيد بن خالد أشجع أم عمر بن حفص هزار مرد فقال المهلب لم أشهد من يزيد ما شهدته من عمر بن حفص وذلك أني رأيته يركض في طلب حمار وحشي حتى إذا حازاه جميع جراميزه وقفز فصار على ظهره فقمص الحمار وجعل عمر بن حفص يحز معرفته إما بسيف وإما بسكين معه حتى قتله قال محمد بن يزيد وحدثت عن محمد بن المهلب أنه أنكر أن يكون أبو عيينة يهوى فاطمة وقال إنما كان جندياً في عداد الشطار وكانت فاطمة من أنبل النساء وأسراهن وإنما كان يتعشق جارية لها وهذه الأبيات التي فيها الغناء من قصيدةٍ جيدة مشهورة من شعره يقولها في فاطمة هذه أو جاريتها ويكنى عنها بدنياً فمما اختير منها قوله ( وقالوا تَجَنّبْنَا فقلت أبْعد ما ... غَلَبتُمْ عن قلبي بسُلطانكم غصبا ) ( غِضابٌ وقد مَلّوا وقوفي ببابهمْ ... ولكنّ دنيا لا ملولاً ولا غضبى ) ( وقد أرسلَتْ في السرّ أني بريَّة ... ولم تَرَ لي فيما تَرى منهمُ ذَنباً ) ( وقالت لكَ العُتبى وعِندي لك الرضا ... وما إن لهمْ عندي رضاءٌ ولا عُتبى ) ( ونُبئتها تلهو إذا اشتد شوقُها ... بشعري كما تُلهي المغنِّيةُ الشَّربا ) ( فأحببتُها حُبّاً يقَرّ بعينِها ... وحُبِّي أحببتُ لا يشبه الحبا ) ( فيا حسرتا نَغّصتُ قُربَ ديارها ... فلا زُلفةً منها أرجّي ولا قُربا ) ( لقد شَمِت الأعداء أن حيل بينها ... وبيني ألاَ للشامتين بنا العُقْبَى ) ومما قاله فيها وغني فيه صوت ( ضيّعتِ عهدَ فتى لِعهدك حافظٍ ... في حفظِه عَجَبٌ وفي تضييعكِ ) ( ونأيت عنه فما له من حِيلة ... إلا الوقوفُ إلى أوانِ رجوعكِ ) ( متخشِّعاً يُذْري عليكِ دموعَهُ ... أسفاً ويَعجَب من جُمود دموعكِ ) ( إن تقتليه وتذهبي بفؤاده ... فبِحُسن وجهك لا بحسن صنيعكِ ) عروضه من الكامل الغناء في هذه الأبيات من الثقيل الأول بالوسطى ذكر عمرو بن بانة أنه له وذكر الهشامي أنه لمحمد بن الحارث بن بسخنر وذكر عبد الله بن موسى بن محمد بن إبراهيم الإمام أنه لإبراهيم الموصلي فذكر العتابي ومحمد بن الحسن جميعا أن محمد بن أحمد بن يحيي المكي حدثهما قال حدثني عمرو بن بانة قال ركبت يوما إلى دار صالح بن الرشيد فاجتزت بمحمد بن جعفر بن موسى الهادي وكان معاقراً للصبوح فألفيته في ذلك اليوم خالياً منه فسألته عن السبب في تعطيله إياه فقال نيران علي غضبى يعني جارية لبعض النخاسين ببغداد وكانت إحدى المحسنات وكانت بارعة الجمال ظريفة اللسان وكان قد أفرط في حبها حتى عرف به فقلت له فما تحب قال تجعل طريقك على مولاها فإنه يستخرجها إليك فإذا فعل دفعت رقعتي هذه إليها ودفع إلي رقعة فيها ( ضيعتِ عهدَ فتىً لعهدِك حافظٍ ... في حفظِه عَجَب وفي تضييعك ) ( إن سُمتِه أن تذهبي بِفؤاده ... فبِحُسن وجهِك لا بحسن صنيعك ) فقلت له نعم أنا أتحمل هذه الرسالة وكرامة على ما فيها حفظاً لروحك عليك فإني لا آمن أن يتمادى بك هذا الأمر فأخذت الرقعة وجعلت طريقي على منزل النخاس فبعثت إلى الجارية أُخرجي فخرجت فدفعت إليها الرقعة وأخبرتها بخبري فضحكت ورجعت إلى الموضع الذي أقبلت منه فجلست جلسة خفيفة ثم إذا بها قد وافتني ومعها رقعة فيها صوت ( وما زلت تعصيني وتغُري بيَ الردى ... وتهجُرني حتى مَرنتَ على الهجر ) ( وتَقطع أسبابي وتنسى مودتي ... فكيف تَرى يا مالِكي في الهوى صبري ) ( فأصبحت لا أدري أيأساً تصبُّري ... على الهجر أم جٍدَّ البصيرة لا أدري ) غنّى في هذه الأبيات عمْرو بنُ بانةَ ولحنه ثقيل أولُ بالبِنصر و لِمقَّاسة بن ناصح فيها ثقيل آخر بالوُسطى لحن عمرو في الأول والثالث بغير نشيد قال فأخذْت الرّقعة منها وأوصلْتها إليه وصرت إلى منزلي فصنَعْت في بَيتَي محمد بن جعفر لحناً وفي أبياتها لحناً ثم صرت إلى الأمير صالح بن الرشيد فعرفته ما كان من خبري وغنيته الصوتين فأمر بإسراج دوابه فأسرجت وركب فركبت معه إلى النخاس مولى نيران فما برحنا حتى اشتراها منه بثلاثة آلاف دينار وحملها إلى دار محمد بن جعفر فوهبها له فأقمنا يومنا عنده أخبرنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال دخلت على الواثق يوماً وهو خليفة و رباب في حجره جالسة وهي صبية وهو يلقي عليها قوله ( ضيّهتِ عهدَ فتى لِعهدك حافظٍ ... في حفظه عجَب وفي تَضييعك ) وهي تغنيه ويردده عليها فما سمعت غناء قط أحسن من غنائهما جميعاً وما زال يردده عليها حتى حفظته رجع الخبر إلى حديث أبي عيينة أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد قال قال عبد الله بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة في فاطمة التي كان يشبب بها أخوه بنت عمر بن حفص لما تزوجها عيسى بن سليمان بن علي وكان عيسى مبخّلاً وكانت له محابس يحبس فيها البياح ويبيعه وكانت له ضيعة تعرف بدالية عيسى يبيع منها البقول والرياحين وكان أول من جمع السماد بالبصرة وباعه فقال فيه أبو الشمقمق ( إذا رزُق العبادُ فإنّ عيسى ... له رِزقٌ من أسْتاه العِبادِ ) فلما تزوجّ عيسى فاطمةَ بنتَ عُمرَ بنِ حفص قال عبد الله بن محمد بن أي عيينة في ذلك ( أفاطَم قد زُوِّجْتِ عيسى فأبشري ... لديه بِذُلٍّ عاجلٍ غير آجلِ ) ( فإنكِ قد زوّجتِ عن غير خبرة ... فتىً من بني العباس ليس بعاقل ) ( فإن قُلتِ مِن رَهط النبي فإنّه ... وإن كان حرَّ الأصلِ عبدُ الشمائل ) ( وقد قال فيه جعفرٌ ومحمد ... أقاويل حتى قالها كلُّ قائل ) ( وما قلتُ ما قالا لأنك أُختُنا ... وفي البيت منِّا والذُّرا والكواهل ) ( ولعمري لقد أثبتِّه في نِصابه ... بأن صرْتِ منه في مَحلٍّ الحلائل ) ( إذا ما بَنُو العباسِ يوماً تنازعوا ... عُرا المجد واختاروا كرامَ الخصائل ) ( رأيتَ أبا العباس يسمو بِنفسِه ... إلى بَيع بَيّاحاته والمباقلِ ) قال مؤلف هذا الكتاب وكان عبد الله أخو أبي عيينة شاعراً وكان يقدم على أخيه فأخبرني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال قال إسحاق الموصلي شعر عبد الله بن أبي عيينة أحب إلي من شعر أبيه وأخيه قال وكان عبد الله صديقاً لإسحاق قال محمد بن يزيد ومما قاله في فاطمة وصرح بذكر القرابة بينهما وحقق على نفسه أنه يعنيها قوله ( دعَوتُكِ بالقرابةِ والجِوار ... دعاءَ مصرِّحٍ بادي السِّرار ) ( لأني عنكِ مشغولٌ بِنفسي ... ومحترِقٌ عليك بغيرِ نار ) ( وأنت تَوقَّرين وليس عندي ... على نار الصبابةِ مِن وقار ) ( فأنتِ لأن ما بكِ دونَ ما بي ... تُدارين العدوَّ ولا أداري ) ( ولَوْ واللهِ تشتاقين شوقي ... جَمحْتِ إلى مُخالعة العِذار ) ( ألا يا وهبُ فيمَ فضحْتَ دُنيا ... وبُحتَ بسِرِّها بين الجواري ) ( أما والراقصات بكلِّ واد ... غوادٍ نحوَ مكةَ أو سَواري ) ( لقد فضلتْكِ دنيا في فؤادي ... كفضل يَدِي اليمين عَلَى اليسار ) ( فقُولي ما بدا لك أن تقولي ... فإني لا ألومك أن تضاري ) نماذج من جيّد شعره في فاطمة قال وقال فيها وهو من ظريف أشعاره ( رَقَّ قلبي لكِ يا نورَ عَيني ... وأبى قلبُك لي أن يَرِقَّا ) ( فأَراكِ الله موتي فإنِّي ... لستُ أرضى أن تموتي وأبقى ) ( أنا مِن وجدٍِبدنيايَ منها ... ومِنَ العُذَّال فيها مُلَقَّى ) صوت ( زعموا أني صديقٌ لدُنيا ... ليت ذا الباطلَ قد صار حقّا ) في هذا البيت ثم الذي قبله ثم الأول لإبراهيم لحن ماخوري بالوسطى عن الهشامي قال وقال فيها أيضاً في هذا الوزن وفيه غناء محدث رمل طنبوري ( عَيشُها حُلو وعيشُك مُرُّ ... ليس مسرورٌ كمن لا يُسَرُّ ) ( كَمَدٌ في الحبّ تَسخُن فيه ... عينُه أكثرَ مما تَقَرُّ ) ( قلتُ للاّئِم فيها الْه عنها ... لا يَقعْ بيني وبينك شَرُّ ) ( أتُراني مُقْصراً عن هواها ... كلُّ مملوكٍ إذا ليَ حرُّ ) وقال فيها أيضاً وأنشدناه الأخفش عن المبرد وأنشدناه محمد بن العباس اليزيدي قال أنشدني عمي عبيد الله لأبي عيينة ( حين قالت دنيا عَلامَ نهاراً ... زُرتَ هلا انتظرتَ وقت المساء ) ( إن تكن مُعْجَباً برأيك لا تَفْرَق ... فاستحْي يا قليلَ الحياء ) ( ذاك إذ رُوحها ورُوحي مِزاجان ... كأصفى خمرٍ بأعذَب ماء ) قال محمد بن يزيد وقد أخذ هذا المعنى غيره منه ولم يسمه وهو البحتري فقال صوت ( جَعلتُ حبَّكِ من قلبي بمنزلة ... هي المصافاةُ بين الماء والراحِ ) ( تهتزّ مثلَ اهتزاز الغصن حرّكه ... مرورُ غيثٍ من الوَسْميّ سَحّاح ) الغناء في هذين البيتين لرذاذثقيل أول مطلق في مجرى البنصر ومما قاله أبو عيينة في فاطمة هذه وكنى فيه بدنيا قوله صوت ( ألمْ تَنْهَ قلبَك أن يعشَقا ... ومالكَ والعشقَ لولا الشّقا ) ( أمِن بَعدِ شُربِك كأسَ النُّهى ... وشَمِّك ريحانَ أهلِ التُّقى ) ( عَشِقتَ فأصبحتَ في العالمين ... أشهرَ مِن فرسٍ أبلَغا ) ( أدُنيايَ من غَمر بَحْر الهوى ... خذي بِيدي قبل أن أغرقَا ( أنا ابنُ المهلَّب ما مثله ... لو أنَّ الخلد لي مرتقى ) غنى فيه أبو العُبَيس بن حمدون ولحنه ثاني ثقيل مطلق وفيه لعريب ثقيل أول رواه أبو العببيس عنها وهذه قصيدة طويلة يذكر فيها دنيا ويفخر بعقب النسيب بأبيه ويذكر مآثر المهلّب بالعراق ولكن مما قاله في دنيا منها قوله ( أدُنياي من غَمر بحرِ الهوى ... خُذي بِيدي قبل أن أغرَقا ) ( أنا لكِ عبدٌ فكوني كمَن ... إذا سرّه بعدُه أعتقَا ) ( ألم أخدعِ الناسَ عن وصلِها ... وقد يَخدعُ العاقلُ الأحمقَا ) ( بلى فسبقتُهمُ إنني ... أُحبّ إلى الخيرِ أن أسبقَا ) ( ويومَ الجنازةِ إذ أرسلَتْ ... على رُقعةٍ أن جُزِ الخَندقَا ) ( وعُجْ ثَمَّ فانظر لنا مجلِساً ... برفق وإياك أن تَخرَقا ) ( فجئنا كغُصنَين مِن بانةٍ ... قرِينَين خِدْنين قد أورقَا ) ( فقالت لأختٍ لها استنشدِيه ... من شعرِه المحكم المنتقى ) ( فقلْتُ أمرتِ بكتمانِه ... وحذَّرتِ إن شاعَ أن يسرَقَا ) ( فقالت بِعيشِك قولي له ... تمنَّع لعلك أن تنفُقَا ) ومن مشهور قوله في دنيا وهو مما تهتك فيه وصرّح وأفحش وهي من جيد قوله قصيدته التي يقول فيها ( أنا الفارغُ المشغولُ والشوقُ آفتي ... فلا تسألوني عن فَراغي وعن شُغلي ) ( عجبْتُ لِترك الحبّ دنيا خليةً ... وإعراضه عنها وإقباله قُبْلي ) ( وما بالهُا لما كتْبتُ تهاونت ... بكُتْبي وقد أرسلْتُ فانتهزت رُسلي ) ( وقد حلفَتْ ألاّ تَخطّ بكفّها ... إلى قابلٍ خطا إليّ ولا تُملي ) ( أبخْلاً علينا كلُّ ذا وقطيعةً ... قضيتِ لدَينا بالقطيعة والبخل ) ( سلُوا قلبَ دنيا كيف أطلقَه الهوى ... فقد كان في غُلٍّ وثيقٍ وفي كَبْل ) ( فإن جَحَدَت فاذكر لها قصر مَعبَد ... بمَنْصَفِ ما بين الأُبُلّة والحبل ) ( ومَلعَبنا في النهرِ والماءُ زاخر ... قَرينَين كالغصنَين فَرْعين في أصل ) ( ومن حولِنَا الرّيحانُ غَضّاً وفوقَنا ... ظِلالٌ من الكَرْمِ المعرِّش والنخل ) ( إذا شئتُ مالت بي إليها كأنني ... إلى غصن بانٍ بين دِغضَين من رَمل ) ( لياليَ ألقاني الهوى فاستضفتهُا ... فكانت ثناياها بِلا حِشمة نُزلي ) ( وكم لذّةٍ لي في هواها وشهوةٍ ... ورَكْضي إليها راكباً وعلى رِجل ) ( وفي مأتمِ المهديّ زاحمْتُ ركنَهَا ... برُكنِي وقد وطَّنت نفسي على القتل ) ( وبِتنَا عَلَى خوفٍ أُسكَن قلبها ... بِيُسراي واليمنى عضلَى قائم النَّصل ) ( فيا طيبَ طعمِ العيش إذ هي جارةٌ ... وإذ نفسُها نفسي وإذ أهلُها أهلي ) ( وإذ هي لا تعتلّ عني بِرقبَةٍ ... ولا خوفِ عينٍ من وُشاةٍولا بَعل ) ( فقد عَفَت الأثارُ بيني وبينها ... وقد أوحشَت مني إلى دارها سُبْلي ) ( ولما بلوتُ الحبَّ بعد فِراقها ... قضَيت عَلَى أم المحبين بالثُّكل ) ( وأصبحْت معزولاً وقد كنت والياً ... وشتان ما بين الولاية والعزل ) ومما قاله فيها وفيه غناء صوت ( ألا في سبيل اللهِ ما حلّ بي منكِ ... وصبرُكِ عني لا صبرَ لي عنكِ ) ( وتركُك جِسمي بعد أخذكِ مهجتي ... ضئيلاً فهلاَّ كَان من قَبْل ذا تركي ) ( فهل حاكِمٌ في الحب يَحكُم بيننا ... فيأْخذَ لي حقي ويُنصفَني منك ) لسليم في هذه الأبيات هزج مطلق في مجرى الوسطى وفي هذه القصيدة يقول يصف قصرا كانوا فيه وهي من عجيب شعره ( لقد كنتُ يومَ القَصر مما ظَننْت بي ... بريئاً كما أني بريءٌ من الشِّركِ ) ( يذَكَّرني الفِردَوسَ طوراً فأرعَوِي ... وَطوراً يواتيني إلى القَصف والفتك ) ( بِغَرسٍ كأبكار الجواري وتُرْبةٍ ... كأن ثراها ماءُ وَردٍ على مسك ) ( وسِرْبٍ من الغِزلان يَرتعْن حولهَ ... كما استُلّ منظوم من الدُّر من سِلك ) ( وورقاء تحكي المَوصِليّ إذا غَدت ... بِتغريدها أحبِبْ بها وَيمَن ولا تحكِي ) ( فيا طِيبَ ذاك القصرِ قصراً ومنزلاً ... بأفيحِ سهلٍ غيرِ وَعْر ولا ضَنْك ) ( كأن قصورَ القومِ ينظرن حولَه ... إلى مَلِكٍ مُوف عَلَى مٍنبر المُلك ) ( يُدِلّ عليها مستطيلاً بِظِله ... فيَضحك منها وهي مُطرقةٌ تبكي ) الفضل بن الربيع إنه أشعر أهل زماننا أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن عمرو الأنصاري قال سمعت الأصمعي يذكر أن الفضل بن الربيع قال لجلسائه من أشعر أهل عصرنا فقالوا فأكثروا فقال الفضل بن الربيع أشعر أهل زماننا الذي يقول في قصر عيسى بن جعفر بالخريبة يعني أبا عيينة ( زُرْ واديَ القَصْرُ والوادي ... وحبّذا أهلُه من حاضر بادي ) ( تُرْفاً قَراقيرُه والعِيسُ واقفة ... والضبّ والنونُ والملاّح والحادي ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن مجمع قال تزوج سعيد بن عباد بن حبيب بن المهلب بنت سفيان بن معاوية بن المهلب وقد كان تزوجها قبله رجلان فدفنتهما فكتب إليه أبو عيينة ( رأيتَ أثاثهَا فرغبتَ فيه ... وكم نَصبتْ لغيرك بالأثاث ) ( إلى دار المنون فجهّزتْهم ... تَحُثّهمُ بأربعةٍ حِثاث ) ( فَصَيّرْ أمرَها بيدَيْ أبيها ... وعَيشِك من حِبالك بالثلاث ) ( وإلا فالسلامُ عليك منّي ... سأبدأ من غدٍ لك بالمراثي ) أخبرني محمد بن مزيد الصولي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان علي بن هشام قد دعاني ودعا أبا عيينة وتأخرت عنه حتى اصطحبنا شديداً وتشاغلت برجل كان عندي من الأعراب وكان فصيحا لأكتب عنه وكان عنده بعض من يعاديني قال حماد كأنه يومئ بهذا القول إلى إبراهيم بن المهدي فسأل ابا عيينة أن يعاتبني بشعر ينسبني فيه إلى الخلف فكتب إلى الخلف فكتب إلى ( يا مليئاً بالوعد والخُلف والمَطْلِ ... بطيئاً عن دَعوة الأصحاب ) ( لَهْجاً بالأعراب إنّ لدينا ... بعضَ من تشتهي من الأعراب ) ( قد عرفنا الذي شُغلتَ به عنّا ... وإن كان غير ما في الكِتاب ) قال فكتبت إلى الذي حمل أبا عيينة على هذا يعني إبراهيم بن المهدي ( قد فهِمتُ الكتابَ أصلحك الله ... وعندي إليك ردُّ الجوابِ ) ( ولَعَمري ما تُنصفون ولا كان ... الذي جاء منكمُ في حِسابي ) ( لَسْتُ آتيك فاعلَمَنّ ولا لي ... فيك حظ مِن بَعْدِ هذا الكتاب ) أخبرني عيسى بن الحسين الوراقي قال حدثني عبد الله بن أبي سعدقال حدثني إبراهيم بن إسحاق العمري قال حدثنا أبو هاشم الإسكندراني عن ابن أبي لهيعة قال ( حفر حفرٌ في بعض أفنية مكة فوجد فيه حجر عليه منقوش ( ما لا يكون فلا يكون بحيلةٍ ... أبداً وما هو كائنٌ فيكون ) ( سيكون ما هو كائن في وقتِه ... وأخو الجهالةِ مُتَعب محزون ) ( يَسعى القويُّ فلا يَنال بسعيه ... حظّاً ويحظى عاجزٌ ومَهين ) قال ابن أبي سعد هكذا في الحديث وقد أنشدني هذه الأبيات جماعة لأبي عيينة حدثني عمي قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال حدثني علي بن عمروس الأنصاري عن الأصمعي قال قال لي الفضل بن الربيع يا أصمعي من أشعر أهل زمانك فقلت أبو نواس قال حيث يقول ماذا قلت حيث يقول ( أما تَرَى الشمسَ حَلّت الحمَلا ... وقام وزنُ الزمان فاعتدلا ) فقال والله إنه لذهن فطن وأشعر عندي منه أبو عيينة حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي اليزيد عن إسحاق أنه أنشده لأبي عيينة في دنيا التي كان يشبب لها وقد زوجت وبلغه أنها تهدى إلى زوجها وكان إسحاق يستحسن هذا الشعر ويستجيده ( أرى عهدَها كالورْد ليس بِدائمٍ ... ولا خيرَ فيمن لا يدوم له عهدُ ) ( وعهدي لها كالآس حسناً وبهجة ... له نضرةٌ تبقى إذا ما انقضى الورد ) ( فما وَجَد العُذريُّ إذ طال وَجدُه ... بعفراء حتى سَلَّ مهجتَه الوجد ) ( كوَجدي غداة البين عند التفاتها ... وقد شفّ عنها دون أترابها البُرد ) ( فقلْتُ لأصحابي هي الشمس ضوءها ... قريب ولكن في تناوُلِها بُعد ) ( وإنّي لمن تُهدَى إليه لَحاسد ... جرى طائري نَحساً وطائره سعد ) أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال سألت أبي عن دنيا التي ذكرها أبو عيينة بن محمد بن أبي عينة في شعره وقلت إن قوماً يقولون إنها كانت أمة لبعض مغني البصرة فقال لا يا بني هي فاطمة بنت عمر بن حفص هزار مرد بن عثمان قبيصة أخي المهلب وكان عيسى بن سليمان بن علي أخو جعفر ومحمد ابني سليمان تزوجها وهجاه عبد الله بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة فقال ( أفاطم قد زُوِّجتِ عيسى فأبشري ... لديه بِذُلٍّ عاجلٍ غير آجل ) ( فإنكِ قد زُوِّجت عن غير خِبرة ... فتىً مِن بني العباسِ ليس بعاقل ) وذكر باقي الأبيات وقد مضَت متقدماً قال أحمد بن يزيد ثم أنشدني أبي لأبي عيينة يصرح بنسبه الجامع له ولفاطمة من أبيات له ( ولأنْتِ إن متُّ المصابةُ بي ... فتجنَّبي قتلي بلا وِتر ) ( فلئن هلكْتُ لَتَلْطِمِنْ جزعاً ... خدّيك قائمةً على قبري ) قال أحمد وأنشدني أبي أيضاً في تصديق ذلك وأنه كان يكني بدنيا عن غيرها ( ما لِدُنيا تجفوكَ والذنبُ منها ... إنَّ هذا منَها لَخَبُّ ومَكر ) ( عرفَتْ ذنبَها إليّ فقالت ... ابدأوا القومَ با لصياح يَفرّوا ) ( قد أمرْتُ الفؤادَ بالصبر عنها ... غَير أنْ ليس لي مع الحبّ أمر ) ( وكتمْتُ اسمَها حِذاراً من الناس ... ومِن شرّهم وَفي الناس شرّ ) ( ويقولون بُحْ لنا باسم دُنيَا ... واسمُ دنَيا سرٌّ على الناس ذخر ) ( ثم قالوا ليعلموا ذات نفسي ... أَعوانٌ دنياك أم هيَ بِكر ) ( فتنفسْت ثم قلت أبكر ... شَبّ يا إخوتي عن الطَّوق عمرو ) أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني أبو خالد الأسلمي قال كان ابن أبي عيينة المهلبي صديقي وهو أبو عيينة بن المنجاب بن أبي عيينة فجاءه رجل من جيرانه كان يستثقله فسأله حاجة فقضاها ثم سأله أخرى فوعده بها ثم سأله ثالثة فقال ( خفِّف عَلَى إخوانك المُؤَنا ... إن شئت أن تَبْقَى لهم سكًناً ) ( لا تُلحفنَّ إذا سألت ففي الإجحاف ... إجحاف بهم وعنَا ) فقام الرجل وانصرف ابن أبي عيينة وأمير البصرة أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد قال حدثني المبرد قال وفد ابن أبي عيينة إلى طاهر بن الحسين يسأله أن يعزل أمير البصرة وكان من قبله فدافعه وعرض عليه عوضاً خطيراً من حاجته ووعده أن يستصلح له ذلك الأمير ويزيله عما كرهه فأبى عزله وأجزل صلته فقال ابن أبي عيينة فيه ( يا ذا اليمينَين قد أوقرتَني مِنَنا ... تَتَرى هي الغاية القصوى من المنَنِ ) ( ولستُ أسطيع مِن شكر أجيء به ... إلا استطاعةَ ذي رُوح وذي بدن ) ( لو كنتُ أعرف فوقَ الشكر منزلة ... أوفى مِن الشكر عند اللهِ في الثمنِ ) ( أخلصْتُها لك من قلبي مهذَّبةً ... حَذْواً عَلَى مثل ما أوليتَ من حسن ) أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي عن أبي عكرمة عامر بن عمران وأخبرني به عمي عن أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه قال كان إسماعيل بن سليمان والياً على البصرة خليفة لطاهر بن الحسين فأساء مجاورة ابن أبي عيينة حتى تباعد بينهما وقبح وأظهر إسماعيل تنقصه وعيبه فخرج إلى طاهر ليشكو إسماعيل ويسعى في عزله عن البصرة فبعد ذلك عليه بعض البعد وسافر طاهر بن الحسين إلى وجه أمر بالخروج إليه فصحبه ابن أبي عيينة في سفره فتذمم من ذلك وأمر بإيصاله إليه فلما دخل ابن أبي عيينة إليه سأله عن حوائجه وأدناه وأمره برفعها فأنشده ( مَن أوحشَتْه البلادُ لم يُقِم ... فيها ومَن آنسَته لم يَرِم ) ( ومَن يَبتْ والهمومُ قادحة ... في صدرِه بالزِّناد لم ينم ) ( ومَن ير النقص من مواطئه ... يُزل عن النقص مَوطِىء القدم ) ( والقرب ممن ينأى بجَانبه ... صدع عَلَى الشعب غير ملتئم ) ( ورُبّ أمر يعيا اللبيبُ به ... يظلّ منه في حيرة الظُّلم ) ( صَبرٌ عليه كَظْمٌ عَلَى مَضَض ... وَتَرْكهُ من مواقع الندم ) ( ياذا اليمينَين لم أزرْك وَلم ... آتك من خَلّة ومن عَدَم ) ( إني من الله في مَراح غِنى ... وَمُغتذىً واسعٍ وفي نِعم ) ( زارتك بِي هِمةٌ مُنازِعة ... إلى العلا مِن كرائم اللهِمم ) ( وإنني لِلجميل محتمِل ... فِي القَدْر من مَنصِبي ومن شيمي ) ( وقد تعلَّقْت منك بالذمم الكبرى ... التي لا تَخيبُ في الذمم ) ( فإن أنلْ بُغْيتي فأنت لها ... في الحق حقِّ الرجاء والرَّحم ) ( وإن يَعُقْ عائقٌ فلستَ على ... جميلِ رأيٍ عندي بمتَّهَم ) ( في قدَر اللهِ ما أحمَّلُه ... تعويق أمري في اللَّوح والقلم ) ( لم يَضق الصبرُ والفِجاجُ على ... حُرّ كريمِ بالصبر معتصم ) ( ماضٍ كحدّ السنان في طرفِ العاملِ ... أو حَدِّ مصلَت خَذِم ) ( إذا ابتلاه الزمانُ كشّفه ... عن ثوب حُرّيةٍ وعن كرم ) ( ما ساء ظني إلا بِواحدة ... في الصدر محصورةٍ عن الكلِم ) ( ليَهْنَ قومٌ جُزْتَ المدى بهمُ ... ولم تقصّر فيهم ولم تُلم ) ( وليس كلُّ الدّلاءِ راجعةً ... بالنِّصف من مَلئها إلى الوَذم ) ( تَرجع بالحَمْأَة القليلة أحياناً ... ورَنْق الصّبابةِ الأمم ) ( ما تُنبت الأرضُ كلَّ زَهرتها ... ولا تَعُمّ السماءُ بالدِّيَم ) ( ما فيّ نَقص عن كلّ منزلة ... شريفةٍ والأمور بالقِسَم ) فأجابه طاهر ( مَن تستضفْه الهمومُ لم يَنَمِ ... إلاَّ كَنومِ المريض ذي السّقم ) ( ولا يزَلْ قلبُه يكابِد ما ... تُولد فيه الهمومُ من ألم ) ( وقد سمعْتُ الذي هتفْتَ به ... وما بأُذني عنك من صممِ ) ( وقد عَلمنا أنْ لستَ تَصحبنا ... لِفَاقةٍ فيك لا ولا عَدم ) ( إلا لِحقٍّ وحُرمةٍ وعلى ... مثلك رَعيُ الحقوق والحُرَمِ ) ( أنتَ امرُؤٌ لا تزول عن كرمٍ ... إلا إلى مثلِه من الكرم ) ( وأنت من أُسرةٍ جَحَا جة ... فازوا بحسنِ الفعال والشِّيم ) ( فما تَرُمْ مِن جسيم منزلةٍ ... فالحكم فيه إليك فاحتكم ) ( إن كنت مُستسقياً سَماحتنا ... منا تجُدْكَ اليدان بالدِّيم ) ( أو تَرْمِ في بَحرنا بدَلوك لا ... نُعدمِك مَلئاً لها إلى الوَذم ) ( إنا أُناس لنا صنائعُنا ... في العُرْب معروفةٌ وفي العجم ) ( مغتَنِمو كسبِ كلَّ مَحْمَدةٍ ... والكسبُ لِلحمد غيرُ مغَتنم ) فاحتكم عليه أبو عُيَينة في عزْل إسماعيلَ بن جعفر عن البصرة فعزله عنها وأَمر له بمائة أَلفِ درهم فقال أبو عُيَينْة في عزْله إسماعيل بنَ جعفر عن إمارة البصرة ( لا تَعدَمِ العَزْل يا أبا الحسنِ ... ولا هُزَالاً في دولة السِّمَن ) ( ولا انتقالاً من دارِ عافية ... إلى ديارِ البلاء والمِحن ) ( أنا الذي إن كفرْتَ نِعمته ... أذاب ما في جنبَيك من عُكَن ) حدثني عيسى بن الحسين قال حدثني محمد بن عبد الله الحزنبل الأصبهاني قال كان ابن أبي عيينة قد هجا نزاراُ بقصيدة له مشهورة وفضل عليها قحطان فقال ابن زعبل يهجوه ويردد عليه واسمه عمرو بن زعبل ( بُنَيّ أبي عُيَيْنة ما ... نطقْتَ به من الَّلغط ) ( على ما أنت ملتحِف ... من الأوجاع في الوسط ) ( لِما في الدُّبْر من نَغَل ... وما في العِرْضِ من سَقط ) ( أتتنا الخَمسُ والمائتان ... بالنِّعماء والغِبَط ) ( أمير من هلالٍ مستطيل ... الباع منبَسط ) ( شريف ليس بالمدخول ... في عِرضٍ ولا رَهَط ) ( أظنك مِن يديه واقعاًلا ... شك في وَرَط ) ( ووالي الخَرجِ فياض اليَدَيْن ... بنائل سَبِط ) ( له نِعَم حباك بها ... فلم تَحفظ ولم تَحُطِ ) ( وقاضٍ من أمير المؤمنين ... يقوم بالقِسَط ) ( يَسرُّكَ أنه من آل ... قحطانٍ على شحَط ) ( وأنك إن ذُكرتَ يقال ... شيخٌ فاسقُ الشمَط ) ( اعبدٌ من عَبيد عُمان ... عاب مناقب السّبط ) ( وتهجو الغرّ من مُضر ... كفى هذا من الشّطط ) ( تَيمّمْ في مُقَيَّرة ... مَسيراً غير مغتبط ) ( مجوّفةٍ مزيَّنة ... بِوَدْع لاح كالرّقَط ) ( بنُوك تَجرها بالقَلْس ... مؤتزرين بالفُوَط ) ( متى غمسوا مَرادَيهمْ ... لِجدّ السير تَحتلط ) ( وأنتَ بموضع السُّكان ... يُمسكِه بلا غلط ) ( عليك عباءةُ مشكوكةٌ ... بالشوك لم تُخَطِ ) ( فطيَّبَ ريحَ بلدتنا ... فِرارُك خيفةَ الشَّرَطِ ) ( وأنك قد عُرفتَ بكثرة ... التخليط والغلط ) ( ترى الخُسران إن لم تَزْنِ ... في يوم ولم تَلُط ) يفرّ إلى عمان خوفاً من المأمون قال وكان ابن أبي عيينة لما هجا نزاراً بلغ شعرُه المأمون فنذر دمه فهرب من البصرة وركب البحر إلى عُمان فلم يزل بها متوارياً في نواحي الأزد حتى مات المأمون أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني ابن مهرويه عن أبيه بقصة ابن أبي عيينة مع ابن زعبل فذكر نحو الخبر المتقدم حدثني عمي قال حدثني أحمد بن يزيد المهلبي قال حدثني أبي قال كان ابن عيينة يشبب بوهبه جارية القروي وهي التي يقول فيها فروج الزنى قوله ( يا وهب لم يَبقَ لي شيء أُسَرّ به ... إلا الجلوس فتسقيني وأسقيكِ ) ثم عدل عن التشبيب بها إلى دنيا وذكرهما جميعاً في شعره فقال ( أرسلَتْ وَهبةُ لما رأتني ... بَعد سُقْم من هواها مُفيقاً ) ( أتغيّرْت كأن لم تكن لي ... قبل أن تعرفَ دُنيا صديقاً ) ( قد لَعَمري كان ذاك ولكن ... قَطعَتْ دُنيا عليك الطريقا ) أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن يزيد عن أبيه قال لما ولي عمر بن حفص هزار مرد البصرة قال ابن أبي عيينة في ذلك وفي دنيا يكنى بها عن فاطمة بنت عمر بن حفص صاحبته ( هنيئاً لِدنيا هنيئاً لها ... قدومُ أبيها على البَصْرهْ ) ( على أنها أظهرَتْ نَخْوة ... وقالت لِيَ المُلكُ والقدرهْ ) ( فيا نورَ عيني كذا عاجلاً ... عليّ تطاولْتِ بالإمرهْ ) قال وهذا دليل على أنه كان يكنى عن فاطمة بدنيا لا أنه يهوى جاريتها دنيا قال أحمد بن يزيد وفيها يقول أيضاً ( يا حسنَها يومَ قالت لي مُودِّعة ... لا تنسَ ما قلت من فيها إلى أُذني ) ( كأنني لم أصِلْ دنيا علانيةٌ ... ولم أزُر أهل دنيا زَورةَ الخَتَن ) ( جِسمي معي غير أن الروحَ عندكُم ... فالرُّوحُ في وطنٍ والجسمُ في وطن ) ( فلْيعجب الناسُ مني أنّ لي جسداً ... لا رُوحَ فيه ولي رُوحٌ بلا بدن ) وفي هذه الأبيات هزَج طُنبوريّ مُحدَث أخبرني عمي قال حدثني أحمدُ بنُ يزيدَ عن أبيه قال وَرد على ابنِ أبي عُيينة كتابٌ من بعض أهله بأن أخاه داودَ خرج إليه ببريد فمات بهمذان فقال ابنُ أبي عُيينة عند ذلك يرثيه ( أنائحةَ الحمَام قٍفي فنوحي ... على داودَ رَهنا في ضريح ) ( لدى الأجيال من هَمذان راحت ... به الأيام للموت المُريح ) ( لمَ يشهدْ جنازتَه البواكي ... فتبكيَه بمُنَهلٍّ سَفوح ) ( وكُوني مثلَه إذ كان حياُ ... جواداُ بالغَبوقِ وبالَصَّبوح ) ( أنائحةَ الحَمامِ فلا تشّحي ... عليه فليس بالرجل الشحيح ) ( ولا بمُثمَّرٍ مالاً لِدُنيا ... ولا فيها بمِغمار طموح ) ( يبيع كثير ما فيها بباق ... ثمين من عواقبه ربيح ) ( ومن آل المهلّب في لُباب ... لُبابِ الخالص المحْضِ الصريح ) ( همو أبناءُ آخرة ودنيا ... وأهدافُ المراثي والمديح ) أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن يزيد عن أبيه قال قدم أبو عيينة إلى الكوفة في بعض حوائجه فعاشره جماعة من وجوه أهلها وأقام بها مدة وألف فيها قينة كان يعاشرها وأحبها حباً شديداً فقال فيها ( لَعَمري لقد أُعطيتُ بالكوفة المُنى ... وفوق المُنى بالغانيات النَّواعم ) ( ونادمْتُ أختَ الشمس حسناً فوافقت ... هواي ومثلي مثلَها فليُنادمِ ) ( وأنشدْتُها شعري بِدُنيا فعر بَدَت ... وقالت مَلولٌ عهدُه غيرُ دائم ) ( فقلْتُ لها يا ظبيَة الكوفة اغفِري ... فقد تبْتُ مما قلْتُ توبةَ نادم ) ( فقالت قد استوجَبْتَ منا عقوبة ... ولكن سنَرعى فيك رُوحَ ابنِ حاتمِ ) ( قال أحمد بن يزيد قال لي أبي كان لابن أبي عيينة بستان وضيعةٌ في بعض قطائع المهلب بالبصرة فأوطنها وصيرها منزلة وأقام بها وفيها يقول ( يا جنةً فاقت الجِنان فما ... تَبلغُها قيمةٌ ولا ثمَنُ ) ( ألِفتُها فاتخذْتُها وطناً ... إنّ فؤادي لأهلِها وطن ) ( زُوِّج حيتانُها الضِّبَابَ بها ... فهذه كَنَّةُ وذا خَتن ) ( فانظرْ وفكِّر فيما نطقْتُ به ... إنّ الأريبَ المفكِّر الفطن ) ( مِن سفن كالنَّعامِ مُقبلة ... ومن نَعام كأنها سفن ) أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن أبا عيينة أنشده لنفسه صوت ( لا يكن منكِ ما بدا لي بعينيكِ ... من اللحظِ حِيلةً واختداعا ) ( إن يكن في الفؤاد شيء وإلاّ ... فدَعيني لا تقتليني ضَياعاً ) ( فلَعلِّي إذا قربتُ تباعدْتِ ... وأظهرْتِ جَفوة وامتناعا ) ( حين نفسي لا تستطيع لِما قد ... وقَعَت فيه مِن هواها ارتجاعا ) في هذه الأبيات رمل مطلق محدث أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن يزيد قال حدثني أبي قال كان عبد الله بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة شاعراً وهو القائل يعاتب محمد بن يحيى بن خالد البرمكي بأبيات رائية أولها ( اسلَمْ وإن كان فيك عنّي ... قَبْضٌ لِكفّيك وازورارُ ) ( تَلحظني عابساً قطوباً ... كأنما بي إليك ثار ) ( لو كان أمر عتبتَ فيه ... يجوز منه لِيَ اعتذار ) ( أو كنتُ سآلة حريصاً ... لحانَ مِنّي لك الفِرار ) ( أو كنتُ نَذلاً عَديمَ عقل ... لا مَنصِبٌ لي ولا نِجار ) ( أوْ لم أكن حاملاً بِنفسي ... ما تحمل الأنفُس الكبار ) ( وأنني من خِيار قومي ... وكلُّ أهلي فتى خيار ) ( عذرْتُ إن نالني جفاء ... منك وإن نالني ضِرار ) ( لكنّ ذنبي إليك أني ... قحطانُ لي الجَدّ لا نِزار ) ( عليك مني السلام هذا ... أوانُ يَنأى بيَ المزار ) ( ما كنت إلا كلَحم مَيْت ... دعا إلى أكله اضطرار ) ( راحَت عَلَى الناسِ لابنِ يحيى ... محمدٍ دِيمةٌ غزِار ) ( ولم يكن ما أنلْتُ منه ... بقدْر ما يَنجلي الغبار ) ( قد أصبح الناسُ في زمان ... أعلامُه السِّفْلة الشِّرار ) ( يستأخر السابقُ المُذَكّى ... فيه ويَستقدِم الحِمار ) ( وليس لِلمرء ما تمنى ... يوماً وما إنْ له اختيار ) ( ما قدّر اللهُ فهْو آت ... وفي مقاديره الخيار ) يهجو قبيصة بن روح المهلبي أخبرني عمي قال حدثنا أبو هفان قال كان ابن أبي عيينة قد قصد ربيعة بن قبيصة بن روح بن حاتم المهلبي واستماحه فلم يجد عنده ما قدر فيه فانصرف مغاضباً فوجه إليه داود بن مزيد بن حاتم بن قبيصة فترضاه وبلغ ما أحبه ورضيه من بره ومعونته فقال يمدحه ويهجو قبيصة ( أقَبيص لستً وإن جهدتَ بمُدرك ... سعيَ ابن عمك ذي العلا داود ) ( شتان بينك يا قبيص وبينه ... إن المذمَّمَ ليس كالمحمود ) ( اختار داودٌ بِناءَ محامد ... واخترت أكلَ شَبارق وثَريد ) ( قد كان مَجدُ أبيك لو أحببته ... رَوْحٍ أبي خَلَف كَمَجد يزيدِ ) ( لكن جرَى داود جَريَ مبرِّز ... فحوَى المَدى وجريتَ جريَ بليد ) ( داودُ محمود وأنت مذمَّم ... عجباً لذاك وانتما من عود ) ( ولرُبّ عُود قد يُشقّ لِمسجد ... نِصفاً وسائُره لِحُش يهود ) ( فالحشّ أنت له وذاك لِمسجد ... كم بين موضع مَسْلحٍ وسجود ) ( هذا جزاؤك يا قبيص لأنه ... جادت يداه وأنت قُفل حديد ) حدَّثني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق حدثني أبي قال كانت لأبي حذيفة مولى جعفر بن سليمان جارية مغنية يقال لها بستان فبلغه أن أبا عيينة بن محمد بن عيينة ذكر لبعض إخوانه محبته لها ولاستماع غنائها فدعاه وسأله أن يطرح الحشمة بينه وبينه فأجابه إلى ذلك وقال لما سكر وانصرف من عنده في ذلك ( ألم تَرَني على كسَلِي وفَتري ... أجبت أبا حُذيفة إذ دعاني ) ( وكنتُ إذا دُعيت إلى سماع ... أجبْتُ ولم يكن منِّي تواني ) ( كأنّا من بشاشتِنا ظلِلنا ... بِيومٍ ليس من هذا الزمان ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عثمان قال كانت لعيسى بن موسى ضيعة إلى جانب ضيعة ابن أبي عيينة بالبصرة وكان له إلى جانب ضيعته سماد كثير فسأله أن يعطيه بعضه ليعمر ابن أبي عيينة به ضيعته فلم يفعل فقال فيه ( رأيت الناسَ هَمُّهم المعالي ... وعيسى همُّه جمع السّماد ) ( ورِزق العالمين بِكَف ربيِّ ... وعيسى رزقُه في أسْتِ العباد ) هكذا ذكره ابن مهرويه وهذا بيت فاسد وإنما هو ( إذا رُزق العبادُ فإنّ عيسى ... له رِزق من استاه العباد ) أخباره مع ابن عمه خالد ولابن أبي عيينة مع ابن عمه خالد أخبار جمة اذكرها ها هنا والسبب الذي حمله على هجائه أخبرني علي بن سليمان الأخفش ببعضها عن محمد بن يزيد المبرد وببعضها عن أحمد بن يزيد المهلبي عن أبيه وقد جمعت روايتهما فيما اتفقا عليه ونسبت كل ما انفرد به أحدهما أو خالف فيه إليه وذكرت في فصول ذلك وخلاله ما لم يأتيا به مما كتبته عن الرواة قالا جميعاً ولي خالد بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب جرجان فسأل يزيد بن حاتم أبا عيينة أن يصحبه ويخرج معه ووعده الإحسان والولاية وأوسع له المواعيد وكان أبو عيينة جنديا فجرد اسمه في جريدته وأخرج رزقه معه فلما حصل لجرجان أعطاه رزقه لشهر واحد واقتصر على ذلك وتشاغل عنه وجفاه فبلغه أنه قد هجاه وطعن عليه وبسط لسانه فيه وذكره بكل قبيح عند أهل عمله ووجوه رعيته فلم يقدر على معاقبته لموضع أبيه وسنه ومحله في أهله فدعا به وقال له إنه قد بلغني أنك تريد أن تهرب فإما أن أقمت لي كفيلاً برزقك أو رددته فأتاه بكفيل فأعنته ولم يقبله ولم يزل يردده حتى ضجر فجاءه بما قبض من الرزق فأخذه ولجّ أبو عيينة في هجائه وأكثر فيه حتى فضحه فقال في هذا عن أحمد بن يزيد المهلبي ( دنيا دعوتك مسرْعاً فأجيبي ... وبما اصطفَيتُك في الهوى فأثيبي ) ( دومي أَدُمْ لك بالصفاء على النوَى ... إني بِعهدكِ واثقٌ فثقي بي ) ( ومِن الدليل على اشتياقي عَبْرتي ... ومَشيبُ رأسي قبلَ حينِ مشيبي ) ( أبْكي إليك إذا الحمامةُ طَرّبت ... يا حسَن ذاك إليّ من تطريب ) ( تبكي على فَنَنِ الغصونِ حزينةً ... حُزنَ الحبيبة من فِراق حبيب ) ( وأنا الغريبُ فلا أُلامُ على البُكا ... إن البُكا حسَنٌ بِكلِّ غريب ) ( أفلا يُنَادَى للقِفُول بِرحلة ... تَشفي جَوىً من أنفسٍ وقلوب ) ( مالي اصطفَيت على التعسفِ خالداً ... واللهِ ما أنا بعدَها بأريب ) ( تبّاً لصحبة خالدٍ من صحبة ... ولِخَالدِ بنِ يزيدَ من مصحوب ) ( يا خالد بنَ قبِيصةٍ هيّجت بي ... حَرْباً فدُونك فاصطبر لحروبي ) ( لما رأيت ضميرَ غِشك قد بدا ... وأبيْتَ غير تَجَهُّم وقُطوب ) ( وعرفْت منك خلائقاً جرّبتها ... ظهَرَتْ فضائحُهَا على التجريب ) ( خلّيتُ عنك مُفارقاً لك عن قِلىً ... ووهبْتُ للشيطان منك نصيبي ) ( فلئن نظرْتُ إلى الرصافة مرة ... نظراً يُفَرجُ كُربةَ المكروب ) ( لأمزّقنّك قائماً أو قاعداً ... ولأروينّ عليك كلّ عجيب ) ( ولتأتينَّ أباك فيك قصائد ... حبَّرتها بتَشكُّر مقلوب ) ( ولَيُنْشدَنّ بها الإمام قصيدة ... ولتُشْتَمَنّ وأنت غير مهيب ) ( ولأوذِينّك مثلما آذيتني ... ولأُشليَنَّ على نعاجك ذيبي ) قال أحمد بن يزيد في خبره حدثني أبي قال أعرس داود بن محمد بن أبي عيينة أخو أبي عيينة بالبصرة وأخوه غائب يومئذٍ مع ابن عمه خالد بجرجان فكتب داود إلى أخيه يخبره بسلامته وسلامة أهل بيته وبخبرٍ نقله أهله إليه فقال أبو عيينة في ذلك ( ألا ما لِعَينِك معتلَّه ... وما لِدموعك منهلّهْ ) ( وكيف يُجُرجان صبرُ امرئٍ ... وحيدٍ بها غيرِ ذِي خُلّهْ ) ( وأَطْولْ بلَيْلِك أطْوِل به ... إذا عسكر القوم بالأثْلهْ ) ( وراعَك مِن خيلِه حاشر ... مِن القومِ ليست له قِبله ) ( يسوقك نحوهمُ مكرهاً ... وداودُ بالمِصر في غفله ) ( عَروس ينعَّمُ مِن تحته ... سَرِيرٌ ومِن فوقه كِلَّه ) ( وما مُدْنَفٌ بين عُوّاده ... ينادي وفي سمعه ثَقْله ) ( بأوجعَ منّي إذا قيل لي ... تأهب إلى الريّ بالرِّحْلَهْ ) ( ومالي وللرَّيّ لولا الشقاءُ ... إن كنتَ عنها لفي عُزله ) ( أُكلَّف أجبَالها شاتياً ... على فَرَس أو على بَغْلهْ ) ( وأهْونُ مِن ذَاك لو سهَّلوه ... ركوبُ القراقير في دجلهْ ) ( تَروح إلينا بها طَرْبة ... رواحَ الندامى إلى دلّه ) ( أخالدُ خذ من يدي لَطمة ... تَغيظ ومن قدَمِي رَكْله ) ( جمعْتَ خصال الردَى جملة ... وبعْتَ خصال الندى جمله ) ( فمالَك في الخير مِن خَلة ... وكم لك في الشر من خله ) ( ولما تَناضَل أهلُ العلا ... نُضلْتَ فاذعنْتَ للنَّضله ) ( فما لَكَ في المجد يا خالدٌ ... مُقَرْطَسة لا ولا خصله ) ( وأسرعتَ في هدم ما قد بَنى ... أبوك وأشياخُه قبله ) ( وكانت من النَّبْع عيدانُهم ... نُضاراً وعودُك من أثْله ) ( فيا عجبا نَبْعةٌ انبتَت ... خِلافاً ورَيحانةٌ بقَله ) ( ثيابُك لِلْعبد مطوية ... وعِرضك للشتم والبِذله ) ( أجعْتَ بنيك وأعرَيْتَهم ... ولم تُؤتَ في ذاك من قِلّه ) ( إذا ما دُعينا لِقبضِ العطاء ... وهيأت كيسَك للغلّةْ ) ( وجُلَّةُ تًمْر تُغادَى بها ... فتأتي على آخر الجلّةْ ) ( وتُقصِي بَنيك وهُم بالعراء ... نُزْلُهُمُ الملحُ والمُلّة ) ( ولو كان خُبز وتًمر لَديك ... لَمَا طمِعوا منك في فَضلهْ ) ( وتُصبح تَقْلِس عن تُخمة ... كأنّ جُشَاءكَ عن فُجْلهْ ) ( إذا الحيّ راعَهُم رائع ... فأوهَنُ من غادة طَفلهْ ) ( وليثُ يصول على قِرْنه ... إذا ما دُعيت إلى أكلهْ ) ( فلله دَرّك عند الِخونِ ... مِن فارس صادقِ الحملهْ ) ( وإن جاءك الناسُ في حاجة ... تفكرْتَ يومين في العِلهْ ) ( وتلقاهُم أبداً كالِحاً ... كأنْ قد عضَضْتَ على بَصْلهْ ) ( فهذا نصيبيَ من خالد ... لكم هَنة بَتّةً بتلهْ ) وإني لِصحبتهِ مبغض ... ولا خير في صحبة السِّفْلهْ ) حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي قال حدثني أبو الحسن بن المنجم قال رأيت مسلم بن الوليد الأنصاري يوماً عند أبي ثم خرج من عنده فلقيه ابن أبي عيينة فسلم عليه وتحفى به ثم قال له ما خبرك مع خالد قال الخبر الذي تعرفه ثم أنشده قوله فيه ( يا حفصُ عاطِ أخاك عاطِهْ ... كأساُ تُهيج من نشاطِهْ ) قال ومسلم يبتسم من هجائه إياه حتى مر فيها كلها ثم ختمها بقوله ( وإذا تطاولت الرؤوس ... ُ فغطِّ رأسَك ثم طاطِهْ ) فقال مسلم مه إنا لله هتكته والله وأخزيته وإنما كنت أظن أنك تمزح وتهزل إلى آخر قولك حتى ختمته بالجد القبيح وأفرطت فيما خرجت به إليه ثم مضى وهو يقول فضحته والله هتكته والله أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن يزيد قال حدثني أبي قال لقي دعبل أبا عيينة فقال له ( ياحفصِ عاط أخاكَ عاطِهْ ... كأساً تُهيج من نشاطِهْ ) ( صِرْفاً يعود لِوقعِها ... كالظبي أُطلق من رِباطه ) ( صَبًّا طوَتْ عنه الهمومُ ... نَعيمه بعد انبساطه ) ( فبكى وحقّ له البكا ... لشقائه بعد اغتباطه ) ( جَزِعَ المخنَّثُ خالد ... لمّا وقعتُ على قِماطه ) ( فانظر إلى نزواته ... من مَنطِقي وإلى اختلاطه ) ( دَعني وإيّا خالدٍ ... فلأقطعنّ عُرَى نِياطه ) ( إني وجدْتُ كلامَه ... فيه مَشابِهُ من ضُراطه ) ( رجُلٌ يَعدّ لك الوعيد ... إذا وطئتَ عَلَى بساطه ) ( وإذا انتظرْتَ غداءه ... فخَفِ البوادر من سياطهْ ) ( يا خالِ صَدّ المجدُ عنك ... فلن تجوزَ عَلَى صراطه ) ( وعَرِيتَ من حُلل الندَى ... عُرْيَ اليتيم ومن رياطه ) ( فإذ تطاولَت الرؤوس ... فغطِّ رأْسك ثم طاطه ) فقال له دعبل أغرقت والله في النزع وأسرفت وهتكت ابن عمك وقتلته وغضضت منه وإنما استنشدتك وأنا أظن أنك قلت كما يقول الناس قولاً متوسطاً ولو علمت أنك بلغت به هذا كله لما استنشدتك أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي وعمي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الحسين بن السري قال لقي دعبل أبا عيينة فقال له أنشدني بعض ما قلت في ابن عمك ثم ذكر الخبر مثل ما ذكره أحمد بن يزيد وقال فيه إنما ظننت أنك قلت فيه قولاً أبقيت معه عليه بعض الإبقاء ولو علمت أنك بلغت به هذا كله وأغرقت هذا الإغراق ما استنشدتك وجعل يعيد ( فغط رأسك ثم طاطه ... ) ويقول قتله والله نماذج من هجائه في خالد أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال ومن مختار ما قاله في خالد قوله ( قُل لِدُنيا باللهِ لا تقطعينا ... واذكرينا في بعضِ ما تذكرينا ) ( لا تَخوني بالغيبِ عهدَ صديقٍ ... لم تخافيهِ ساعةً أن يخونا ) ( واذكري عيشنا وإذ نَفَض الرَّيح ... علينا الخِيريّ والياسَمينا ) ( إذ جعلْنا الشاهِسْفرام فِراشاً ... مِن أذى الأرض والظلالَ غصونا ) ( حفِظ الله اخوتي حيث كانوا ... من بِلادٍ سارين أم مُدْلجينا ) ( فِتيةٌ نازحون عن كلّ عَيب ... وهُم في المكارم الأولونا ) ( وهو الأكثرون يَعلم ذاك الناسُ ... والأطيبون لِلأَطيبينا ) ( أزعجَتْني الأقدار عنهم وقد كنتُ ... بقُربي منهم شحيحاً ضنيناً ) ( وتَبدلْتُ خالداً لعنةُ الله ... عليه ولعنةُ اللاعنينا ) ( رجل يَقهر اليتيمَ ولا يؤتي ... زكاةً ويَنهر المسكينا ) ( ويصون الثيابَ والعِرضُ بالٍ ... ويرائي ويمنع الماعونا ) ( نزع الله منه صالح ما أعطاه ... آمين عاجلاً آمينا ) ( فلَعَمر المبادرِين إلى مكة ... وفداً غادين أو رائحينا ) ( إن أضيافَ خالدٍ وبنيه ... ليَجوعون فوق مايشبعونا ) ( وتراهمْ من غير نُسْك يصومون ... ومن غير عِلّة يحتمونا ) ( يا بني خالدٍ دعُوه وفرُّوا ... كم على الجوع ويْحَكم تصبرونا ) قال محمد بن يزيد ومن مشهور شعره فيه قصيدته التي أولها ( ألا خبّروا إن كان عندكم خبَرْ ... أنقفُل أم نَثوي على الهمّ والضّجرَ ) ( نفى النومَ عن عيني تعرُّض رحلة ... بها الهمُّ واستولى بها بعده السهر ) ( فإن أشكُ من ليلِي بجُرجان طولَه ... لقد كنتُ أشكو فيه بالبصرة القِصر ) ( فيا حبَّذا بطنُ الخَرير وظهرُه ... ويا حسن واديه إذا ماؤه زَخَر ) ( ويا حبَّذا نهرُ الأبلَّةِ مَنْظراً ... إذا مَدَّ في إبانه النهرُ أو جَزَرْ ) ( وفتيانُ صِدق همُّهم طلبُ العلا ... وسيماهمُ التحجيل في المجد والغَرَر ) ( لَعمري لقد فارقتُهم غيرَ طائع ... ولا طيَّبٍ نفساً بذاك ولا مُقِر ) ( وقائلةٍ ماذا نأى بك عنهُم ... فقلتُ لها لا عِلمَ لي فَسَلي القدر ) ( فيا سَفَراً أودى بلَهوي ولذتي ... ونغصني عيشي عَدِمتك من سَفر ) ( دعوني وإيّا خالدٍ بعد ساعة ... سيَحمله شِعري على الأبلق الأغرّ ) ( كأني بِصدق القول لما لقيتُه ... وأعلمته ما فيه ألقمتُه الحجر ) ( دنِيء به عن كل خير بَلادةٌ ... لِكلِّ قبيحٍ عن ذراعيه قد حَسَر ) ( له منظر يحمِي العيون سماجة ... وإن يُختبَر يوماً فيا سوء مُختَبَر ) ( أبوك لنا غيثٌ يعاش بوَبْله ... وأنت جَراد ليس يُبقي ولا يذر ) ( له أثر في المكرمات يسرّنا ... وأنت تُعفّي دائماً ذلك الأثر ) ( لقد قُنِّعتْ قَحطان خزياً بخالد ... فهل لكِ فيه يخزك الله يا مضر ) أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال أنشد الرشيد قول ابن أبي عيينة ( لقد قُنّعتْ قحطانُ خزياً بِخالد ... فهل لك فيه يخزك الله يا مضر ) فقال الرشيد بل يوقّرون ويشكرون أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال لنا أبو العباس محمد بن يزيد لم يجتمع لأحد من المحدثين في بيت واحد هجاء رجل ومديح أبيه كما اجتمع لابن أبي عيينة في قوله ( أبوك لنا غيثٌ نعيش بِوَبْلِه ... وأنت جراد ليس يبقي ولا يذر ) وقال محمد بن يزيد ومن جيد قوله أيضاً يهجو خالداً هذا ( على إخوتي مني السلامُ تحيةً ... تحيةَ مُثنٍ بِالأخُوِّةِ حامدِ ) ( وقل لهمُ بعد التحية أنتمُ ... بِنفسي ومالي من طَريف وتالد ) ( وعَزَّ عليهمْ أن أقيم ببَلدة ... أخا سَقَم فيها قليلَ العوائد ) ( لئن ساءهم ما كان مِن فِعل خالد ... لقد سرهم ما قد فعلْتُ بخالد ) ( وقد علموا أن ليس مني بِمفلت ... ولا يومُه المسكين مِني بواحد ) ( أخالدُ لا زالت من الله لعنةٌ ... عليك وإن كنت ابن عمي وقائدي ) ( أخالدُ كانت صحبَتيك ضلالةً ... عَصيتُ بها ربِّي وخالفْتُ والدي ) ( وأرسل يَبغي الصلحَ لما تكنَّفت ... عوارضَ جنبَيه سياطُ القصائد ) ( فأرسلتُ بعد الشرّ أني مسالم ... إلى غير مالا تشتهي غيرُ عائد ) أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال زعم القحذمي أن الرشيد قال للفضل بن الربيع من أهجى المحدثين عندك يا فضل في عصرنا هذا قال الذي يقول في ابن عمه ( لو كما يَنقص يزداد ... إذاً نال السماء ) ( خالدُ لولا أبوه ... كان والكلبَ سواء ) ( أنا ما عشتُ عليه ... أسوأُ الناس ثناء ) ( إنّ مَنْ كان مسيئاً ... لحقيق أن يُساء ) فقال الرشيد هذا ابن أبي عيينة ولعمري لقد صدقت أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال كان ابن أبي عيينة مع ابن عمه خالد بجرجان فأساء به وجفاه وكان لابن أبي عيينة صديقان من جند خالد من أهل البصرة أحدهما مهلبي والآخر مولى للأزد وكلهم شاعر ظريف فكانوا يمدحون السراة من أهل جرجان فيصيبون منهم ما يقوتهم وولي موسى الهادي الخلافة فكتب ابن أبي عيينة إلى من كان في خدمة الخلفاء من أهله بهذه القصيدة ( كيف صَبري ومنزلي جُرْجانُ ... والعراق البلادُ والأوطانُ ) ( نحن فيها ثلاثةٌ حُلفَاء ... ونَدامَى على الهوَى إخوانُ ) ( نتساقى الهوَى ونَطرب للِذّكر ... كما تُطرِب النشاوَى القِيانُ ) ( وإذا ما بكى الحمامُ بكَينا ... لِبُكاه كأننا صبيانُ ) ( يا زماني الماضي بِبغدادَ عُدْ ... لي طالما قد سَررْتَني يا زمانُ ) ( يا زماني المسيء أحسنْ فقِدْما ... كان عندي مِن فعلك الإحسانُ ) ( ما يريد العُذّال مني أمَا يتُرك ... أيضاً بِغَمه الإنسان ) ( ويقولون أملُك هواك وأقصِر ... قلت مالِي على الهوَى سلطانُ ) ( أيها الكاتمُ الحديُثَ وقد طال ... به الأمرُ وانتهى الكتمانُ ) ( قد لعَمري عرّضْتَ حيناً فَبيّنْ ... ليس بعد التعريض إلا البيانُ ) ( واتخِذ خالداً عدوَّا مبيناً ... ما تعادَى الإنسان والشيطانُ ) ( وإلهُ عنه فما يضرّك منه ... عَضُّ كلبٍ ليست له أسنانُ ) ( ولعَمْري لولا أبوه لنالَته ... بسوء منّي يدٌ ولسانُ ) ( قل لفِتياننا المقيمين بالبابِ ... ثِقوا بالنجاح يا فتيانُ ) ( لا تخافوا الزمانَ قد قام موسى ... فَلكُمْ من ردَى الزمان أمانُ ) ( أوَلم تأته الخلافةُ طوعاً ... طاعةً ليس بعدها عصيانُ ) ( فهْي منقادة لموسى وفيها ... عن سواه تَقاعسٌ وحِرانُ ) ( قل لموسى يا مالكَ المُلك طوعاً ... بِقياد وفي يديك العِنانُ ) ( أنت بَحر لنا ورأيك فينا ... خيرُ رأيٍ رأى لنا سلطانُ ) ( فاكفِنا خالداً فقد سامنا الخسفَ ... رماه لحتفه الرحمنُ ) ( كَمْ إلى كم يُغضَى على الذّل منه ... وإلى كم يكون هذا الهوانُ ) قال فلما قرأ هذه القصيدة موسى الهادي أمر له بصلة وأعطاه ما فات من رزقه وأقفله من جيش خالد إليه صوت ( أين مَحلّ الحيِّ يا وادي ... خبِّر سقاك الرائح الغادي ) ( مُستصحِب لِلحرب خَيفانةً ... مثلَ عُقاب السَّرحة العادي ) ( بين خُدور الظُّن محجوبةٌ ... حَدا بِقلبي معها الحادي ) ( وأسْمراً في رأسه أزرق ... مِثلُ لِسان الحية الصادي ) الشعر لِدعبل بن علي الخزاعي والغناء لأحمد بن يحيى المكي خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن أبي عبد الله الهشامي أخبار دعبل بن علي ونسبه هو دعبل بن علي بن رزين بن سليمان بن تميم بن نهشل بن خداش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزيمة بن سلامان بن أسلم بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر بن مزيقيا ويكنى أبا علي شاعر متقدم مطبوع هجاء خبيث اللسان لم يسلم عليه أحد من الخلفاء ولا من وزرائهم ولا أولادهم ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يحسن ولا أفلت منه كبير أحد وكان شديد التعصب على النزارية للقحطانية وقال قصيدة يرد فيها على الكميت بن زيد ويناقضه في قصيدته المذهبة التي هجا بها قبائل اليمن ( ألا حُيِّيتِ عنا يا مرينا ... ) فرأى النبي في النوم فنهاه عن ذكر الكميت بسوء وناقضه أبو سعد المخزومي في قصيدته وهاجاه وتطاول الشر بينهما فخافت بنو مخزوم لسان دعبل وأن يعمهم بالهجاء فنفوا أبا سعد عن نسبهم وأشهدوا بذلك على أنفسهم تشيع دعبل وكان دعبل من الشيعة المشهورين بالميل إلى علي صلوات الله عليه وقصيدته ( مدارس آيات خلَت من تلاوة ... ) من أحسن الشعر وفاخر المدائح المقولة في أهل البيت عليهم السلام وقصد بها أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام بخراسان فأعطاه عشرة آلاف درهم من الدراهم المضروبة باسمه وخلع عليه خلعة من ثيابه فأعطاه بها أهل قم ثلاثين ألف درهم فلم يبعها فقطعوا عليه الطريق فأخذوها فقال لهم إنها إنما تراد لله عز و جل وهي محرمة عليكم فدفعوا إليه ثلاثين ألف درهم فحلف ألا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في كفنه فأعطوه فردكم فكان في أكفانه وكتب قصيدته مدارس آيات فيما يقال على ثوب وأحرم فيه وأمر بأن يكون في أكفانه ولم يزل مرهوب اللسان وخائفاً من هجائه للخلفاء فهو دهره كله هارب متوار حدثني إبراهيم بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم بن قتيبة قال رأيت دعبل بن علي وسمعته يقول أنا أحمل خشبتي على كتفي منذ خمسين سنة لست أجد أحداً يصلبني عليها حدثني عمي قال حدثنا ميمون بن هرون قال قال إبراهيم بن المهدي للمأمون قولاً في دعبل يحرضه عليه فضحك المأمون وقال إنما تحرضني عليه لقوله فيك ( يا معشر الأجناد لا تَقنطوا ... وارضَوْا بما كان ولا تسخطوا ) ( فسوف تعطَون حُنَيْنِيّة ... يلتذها الأمَرد والأشمط ) ( والمَعْبَدِيّات لِقُوّادِكم ... لا تَدخلُ الكِيس ولا تربط ) ( وهكذا يَرزق قُوّادَه ... خليفةٌ مصحفُه البَرْبَط ) فقال له إبراهيم فقد والله هجاك أنت يا أمير المؤمنين فقال دع هذا عنك فقد عفوت عنه في هجائه إياي لقوله هذا وضحك ثم دخل أبو عباد فلما رآه المأمون من بعد قال لإبراهيم دعبل يجسر على أبي عباد بالهجاء ويحجم عن أحد فقال له وكأن أبا عباد أبسط يداً منك يا أمير المؤمنين قال لا ولكنه حديد جاهل لا يؤمن وأنا أحلم وأصفح والله ما رأيت أبا عباد مقبلاً إلا أضحكني قول دعبل فيه ( أوْلَى الأمور بضيعة وفساد ... أمرّ يدبِّره أبو عبّاد ) ( وكأنه من دَير هِزْقَل مُفِلت ... حَرِدٌ يجرّ سلاسل الأقٌياد ) أخبرني الحسن بن علي الخَفّاف قال حدثني محمد بن القاسم بن مَهْرويه قال حدثني أبي قال أخبرني دعبل بن علي قال قال لي أبي علي بن رزين ما قلت شيئاً من الشعر قط إلا هذه الأبيات ( خليلَيّ ماذا أرتجي مِن غد امرىء ... طوى الكشحَ عنّي اليومَ وهْو مكين ) ( وإن امرأ قد ضَنّ منه بمَنطِق ... يُسَدّ به فقرُ امرىء لضنين ) وبيتين آخرين وهما ( أقول لمَّا رأيتُ الموتَ يطلبني ... يا ليتني دِرهم في كِيس ميّاح ) ( فيا له درهماً طالت صيانته ... لا هالك ضَيعةً يوماً ولا ضاح ) أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الكاتب قال حدثني أبو هفان قال قال لي دعبل قال لي أبو زيد الأنصاري مم اشتق دعبل قلت لا أدري قال الدعبل الناقة التي معها ولدها أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني العنزي قال حدثني محمد بن أيوب قال دعبل اسمه محمد وكنيته أبو جعفر ودعبل لقب لقب به وحدثني بعض شيوخنا عن أبي عمرو الشيباني قال الدعبل البعير المسن أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال سمعت حذيفة بن محمد الطائي يقول الدعبل الشيء القديم قال ابن مهرويه سمعت أبي يقول ختم الشعر بدعبل قال وقال أبي كان أبو محلم يقول ختم الشعر بعمارة بن عقيل أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال سمعت أبي يقول لم يزل دعبل عند الناس جليل القدر حتى رد على الكميت بن زيد ( ألا حُيِّيت عنا يا مرينا ... ) فكان ذلك مما وضعه قال وقال فيه أبو سعد المخزومي ( وأعجبُ ما سمعنا أو رأينا ... هجاءٌ قالَه حيّ لمَيْتِ ) ( وهذا دِعبل كَلِفٌ مُعَنَّى ... بتسطير الأهاجي في الكُميت ) ( وما يهجو الكميت وقد طواه الردى ... إلا ابن زانية بزيتت ) أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن زيد قال حدثني دعبل قال كنت جالساً مع بعض أصحابنا ذات يوم فلما قمت سأل رجل لَمْ يعرفني أصحابنا عني فقالوا هذا دعبل فقال قولوا في جليسكم خيراً كأنه ظن اللقب شتماً أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد قال حدثني دعبل قال صرع مجنون مرة فصحت في أذنه دعبل ثلاث مرات فأفاق وأخبرني بهذين الخبرين الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن محمد بن يزيد عن دعبل وزاد فيه قال دعبل وصرع مرة مجنون بحضرتي فصحت به دعبل ثلاث مرات فأفاق من جنونه سبب خروجه من الكوفة أخبرني محمد بن عمران الصيرفي أبو أحمد قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن عمرو بن شيبان قال حدثني أبو خالد الخزاعي الأسلمي قال العنزي وقد كتبت عن أبي خالد أشياء كثيرة ولم أكتب عنه هذا الخبر قال كان سبب خروج دعبل بن علي من الكوفة أنه كان يتشطر ويصحب الشطار فخرج هو ورجل من أشجع فيما بين العشاء والعتمة فجلسا على طريق رجل من الصيارفة وكان يروح كل ليلة بكيسه إلى منزله فلما طلع مقبلاً إليهما وثبا إليه فجرحاه وأخذا ما في كمه فإذا هي ثلاث رمانات في خرقة ولم يكن كيسه ليلتئذ معه ومات الرجل مكانه واستتر دعبل وصاحبه وجد أولياء الرجل في طلبهما وجد السلطان في ذلك فطال على دعبل الإستتار فاضطر إلى أن هرب من الكوفة قال أبو خالد فما دخلها حتى كتبت إليه أعلمه أنه لم يبق من أولياء الرجل أحد أخبرني محمد بن عمران قال حدثني أبو خالد الخزاعي الأسلمي قال قلت لدعبل ويحك قد هجوت الخلفاء والوزراء والقواد ووترت الناس جميعاً فأنت دهرك كله شريد طريد هارب خائف فلو كففت عن هذا وصرفت هذا الشر عن نفسك فقال ويحك إني تأملت ما تقول فوجدت أكثر الناس لا ينتفع بهم إلا على الرهبة ولا يبالي بالشاعر وإن كان مجيداً إذا لم يخف شره ولمن يتقيك على عرضه أكثر ممن يرغب إليك في تشريفه وعيوب الناس أكثر من محاسنهم وليس كل من شرفته شرف ولا كل من وصفته بالجود والمجد والشجاعة ولم يكن ذلك فيه انتفع بقولك فإذّا رآك قد أوجعت عرض غيره وفضحته اتقاك على نفسه وخاف من مثل ما جرى على الآخر ويحك يا أبا خالد إن الهجاء المقذع آخذ بضبع الشاعر من المديح المضرع فضحكت من قوله وقلت هذا والله مقال من لا يموت حتف أنفه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الحمدوي الشاعر قال سمعت دعبل بن علي يقول أنا ابن قولي ( لا تَعجبني يا سلم مِن رجل ... ضحك المَشيبُ برأسه فبكى ) وسمعت أبا تمام يقول أنا ابن قولي ( نَقّل فؤادكَ حيث شئت من الهوى ... ما الحبّ إلا للحبيب الأول ) قال الحمدوي وأنا ابن قولي في الطيلسان ( طال تَردادُه إلى الرَّفْو حتى ... لو بعثناه وحده لتهدّى ) قال الحمدوي معنى قولنا انا ابن قولي أي أني به عرفت أخبرني علي بن صالح قال حدثني أبو هفان قال قال مسلم بن الوليد ( مستعبِرٌ يبكي على دِمنة ... ورأسه يضحك فيه المَشيبْ ) فسرقه دعبل فقال ( لا تعجبي يا سلم من رَجل ... ضحك المَشيب برأسه فبكى ) فجاء به أجود من قول مسلم فصار أحق به منه قال أبو هفان فأنشدت يوماً بعض البصريين الحمقى قول دعبل ( ضحك المَشيب برأسه فبكى ... ) فجاءني بعد أيام فقال قد قلت أحسن من البيت الذي قاله دعبل فقلت له وأي شيء قلت فتمنع ساعة ثم قال قلت ( قهقَه في رأسك القَتيرُ ... ) أخبرني بهذه الحكاية الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي هفان قال ذكر نحوه وزاد فيه ابن مهرويه وحدثني الحمدوي قال سمع رجل قول المأمون ( قبلتُه من بَعيد ... فاعتلّ من شفتيه ) فقال ( رَقَّ حتى تورّمَتْ شفتاه ... إذ توهّمْتُ أن أقِّبل فاه ) أخبرني علي بن الحسن قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أبو ناجية وزعم أنه من ولد زهير بن أبي سلمى قال كنت مع دعبل في شهرزور فدعاه رجل إلى منزله وعنده قينة محسنة فغنت الجارية بشعر دعبل ( أين الشباب وأيةً سلَكا ... لا أين يُطلب ظلَّ بل هلكَا ) قال فارتاح دعبل لهذا الشعر وقال قد قلت هذا الشعر منذ سبعين سنة نسبة هذا الصوت صوت ( أين الشبابُ وأيةً سلكا ... لا أين يطلب ضلّ بل هَلَكا ) ( لا تعجَبي يا سَلم من رجل ... ضحِك المشيبُ برأسه فبكى ) ( يا ليت شِعري كيف نَوْمُكما ... يا صاحبي إذا دَمِي سُفِكا ) ( لا تأخذوا بِظُلامتي أحداً ... قلبي وطرْفي في دَمي اشتركا ) قال والغناء لأحمد بن المكي ثقيل أول بالوسطى مطلق أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو المثنى أحمد بن يعقوب ابن أخت أبي بكر الأصم قال كنا في مجلس الأصمعي فأنشده رجل لدعبل قوله ( لا تعجَبي يا سَلم من رجل ... ضحِك المشيبُ برأسه فبكى ) فاستحسناه فقال الأصمعي إنما سرقه من قول الحسين بن مطير الأسدي ( أين أهلُ القِباب بالدهناء ... أين جيراننا على الأحساء ) ( فارقونا والأرْضُ مُلْبَسَةٌ نَوْرَ ... الأقاحي تُجاد بالأنواء ) ( كلَّ يوم يأُقحُوان جديد ... تَضحك الأرضُ من بُكاء السماء ) نماذج من هجائه أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن خالد قال ================================= ج38.. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني كنا يوماً بدار صالح بن علي من عبد القيس ببغداد ومعنا جماعة من أصحابنا فسقط على كنينة في سطحه ديك طار من دار دعبل فلما رأيناه قلنا هذا صيدنا فأخذناه فقال صالح ما نصنع به قلنا نذبحه فذبحناه وشويناه وخرج دعبل فسأل عن الديك فعرف أنه سقط في دار صالح فطلبه منا فجحدناه وشربنا يومنا فلما كان من الغد خرج دعبل فصلى الغداة ثم جلس على المسجد وكان ذلك المسجد مجمع الناس يجتمع فيه جماعة من العلماء وينتابهم الناس فجلس دعبل على المسجد وقال ( أسْرَ المؤذِّنَ صالحٌ وضيوفُه ... اسْرَ الكميّ هفا خلال الماقِط ) ( بَعثوا عليه بَنيهُمُ وبناتِهم ... من بين ناتفةٍ وآخر سامط ) ( يتنازعون كأنهم قد أوثقوا ... خاقان أو هزموا كتائب ناعط ) ( نهشوه فانتزُعَت له أسنانهم ... وتهشمَت أقفاؤهم بالحائط ) قال فكتبها الناس عنه ومضوا فقال لي أبي وقد رجع إلى البيت ويحكم ضاقت عليكم المآكل فلم تجدوا شيئاً تأكلونه سوى ديك دعبل ثم أنشدنا الشعر وقال لي لا تدع ديكاً ولا دجاجة تقدر عليه إلا اشتريته وبعثت به إلى دعبل وإلا وقعنا في لسانه ففعلت ذلك قال وناعط قبيلة من همدان ومجالد بن سعيد ناعطي قال وأصله جبل نزلوا به فنسبوا إليه أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال كان دعبل ينشدني كثيراً هجاء قاله فأقول له فيمن هذا فيقول ما استحقه أحد بعينه بعد وليس له صاحب فإذا وجد على رجل جعل ذلك الشعر فيه وذكر اسمه في الشعر وقد أخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أحمد بن أبي كامل بهذا الخبر بعينه وزاد فيه فيما ذكر ابن أبي كامل أنه كان عند صالح هذا في يوم أخذه ديك دعبل قال وهو صالح بن بشر بن صالح بن الجارود العبدي أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني أحمد بن محمد بن أبي أيوب قال مدح دعبل أبا نضير بن حميد الطوسي فقصر في أمره ولم يرضه من نفسه فقال عند ذلك دعبل فيه يهجوه ( أبا نَضِير تَحلحلْ عن مجالِسنا ... فإن فيك لمن جاراك منتقَصا ) ( أنت الحِمار حُرناً إن وقعتَ به ... وإن قصدْتَ إلى معروفه قَمَصا ) ( إني هززْتُك لا آلوك مجتهِداً ... لو كنتَ سيفاً ولكني هززْت عصا ) قال فشكاه أبو نَضير إلى أبي تمام الطائي واستعان به عليه فقال أبو تمام يجيب دعبلا عن قوله ويهجوه ويتوعده ( أَدعبِلُ إن تطاولَت الليالي ... عليك فإن شِعري سمّ ساعَهْ ) ( وما وَفد المشيب عليك إلا ... بأخلاق الدناءة والضّراعه ) ( ووجهُك إن رضيتَ به نَديماً ... فأنت نَسيج وحدِك في الرّقاعه ) ( ولو بُدّلتَه وجهاً بوَجه ... لما صلَّيتَ يوماً في جماعه ) ( ولكن قد رُزقْت به سِلاحاً ... لو استعصَيتَ ما أعطيتَ طاعه ) ( مَناسِب طَيئٍ قُسمَت فدعها ... فليسَتْ مثلَ نِسبتك المُشاعه ) ( وروّح مَنْكِبيك فقد أعيدا ... حُطاماً من زِحامك في خُزاعه ) قال العنزي يقول إنك تزاحم خزاعة تدعي أنك منهم ولا يقبلونك أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني محمد بن أحمدبن أيوب قال تعرض الخاركي النصري وهو رجل من الأزد لدعبل بن علي فهجاه وسبه فقال فيه دعبل ( وشاعرٍ عرّض لي نفسَه ... لخارك آباؤه تَنْمِي ) ( يَشُم عرضي عند ذكري وما ... أمسى ولا أصبح مِن همي ) ( فقلت لا بل حبذا أمُّه ... خيّرةٍ طاهرة عِلمي ) ( أكذِبُ والله علىأمه ... ككِذبه كان على أمي ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال لقيت دعبل بن علي فقلت له أنت أجسر الناس عندي وأقدمهم حيث تقول ( إني مِن القوم الذين سيوفُهم ... قتلَتْ أخاك وشرّفتك بمقعد ) ( رَفعوا محَلك بَعد طولِ خُموله ... واستنقذوك من الحَضيض الأوهد ) فقال يا أبا إسحق أنا أحمل خشبتي منذ أربعين سنة فلا أجد من يصلبني عليها أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال قال دعبل بن علي يرثي ابن عم له من خزاعة نعي إليه قال محمد بن يزيد ولقد أحسن فيها ما شاء ( كانت خزاعة ملء الأرض ما اتسعت ... فَقَّص مر الليالي من حواشيها ) ( هذا أبو القاسم الثاوي ببَلْقعة ... تَسقي الرياح عليه من سوافيها ) ( هبت وقد علمت أن لا هبوب به ... وقد تكون حسيراً إذ يباريها ) ( أضحى قرى للمنايا إذ نزلن به ... وكان في سالف الأيام يقريها ) حدثني الحسن بن مهرويه عن أبيه فذكر أن المنعي إلى دعبل أبو القاسم المطلب بن عبد الله بن مالك وأنه نعي إلى دعبل وكان هو بالجبل فرثاه بهذه الأبيات أخبرني الأخفش قال حدثنا محمد ين يزيد قال بلغ إسماعيل بن جعفر بن سليمان أن دعبلاً هجاه فتوعده بالمكروه وشتمه وكان إسماعيل بن جعفر على الأهواز فهرب من زيد بن موسى بن جعفر بن محمد لما ظهر وبيض في أيام أبي السرايا فقال دعبل بن علي يعير إسماعيل بذلك ( لقد خلّف الأهوازَ من خلف ظَهره ... يريد وراء الزاب من أرض كَسْكَر ) ( يهوِّل إسماعيلُ بالبيض والقنا ... وقد فرّ مِن زيد بن موسى بن جعفر ) ( وعاينته في يومَ خلّى حريمَه ... فيا قبحَها منه ويا حسنَ منظر ) دعبل يتشطر وهو شاب أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني ابن الأعرابي عن أبي خالد الأسلمي قال كان دعبل بن علي الخزاعي بالكوفة يتشطر وهو شاب وكانت له شعرة جعدة وكان يدهنها ويرجلها حتى تكاد تقطر دهناً وكان يصلت على الناس بالليل فقتل رجلاً صَيرفياً وظن أن كيسه معه فوجد في كمه رماناً فهرب من الكوفة وكنت إذا رأيت دعبلاً يمشي رأيت الشطارة في مشيته وتبختره أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني الحسن بن أبي السري قال كان عمير الكاتب أقبح الناس وجهاً فلقي دعبلاً يوماً بكرة وقد خرج لحاجة له فلما رآه دعبل تطير من لقائه فقال فيه ( خَرجتُ مبكراً من سُرَّ مَن را ... أبادر حاجة فإذا عُمَيرُ ) ( فلم أثنِ العِنان وقلت أمضي ... فوجهك يا عميرُ خِراً وخَير ) أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني الحسن بن أبي السري قال حدثني دعبل قال مدحت عبد الرحمن بن خاقان وطلبت منه برذوناً فبعث إلي ببرذون غامز فكتبت إليه ( حملتَ على قارح غامز ... فلا لِلركوب ولا للثمنْ ) ( حملتَ على زَمِنٍ ظالع ... فسوف تُكافا بشُكر زمِن ) فبعث إلي ببرذون غيره فاره بسرجه ولجامه وألفي درهم قال ابن مهرويه وحدثني إسحاق بن إبراهيم العكبري عن دعبل أنه مدح يحيى بن خاقان فبعث إليه بهذا البرذون أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال قال الحسين بن دعبل كان أبي يختلف إلى الفضل بن العباس بن جعفر بن محمد بن الأشعث وهو خرجه وفهمه وأدبه فظهر له منه جفاء وبلغه أنه يعيبه ويذكره وينال منه فقال يهجوه ( يا بؤسَ للفضل لو لم يأت ما عابه ... يستفرغ السم من صماء قرضابه ) ( ما إن يزال وفيه العيب يجمعه ... جهلاً لأعراض أهل المجد عيّابه ) ( إن عابني لم يَعب إلا مِؤدِّبَه ونفسَه عاب لما عاب أدَّابه ) ( فكان كالكلب ضَرّاه مكلِّبُه ... لِصيده فعدا فاصطاد كَلاّبه ) أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو جعفر العجلي قال كان أحمد بن أبي داود يطعن على دعبل بحضرة المأمون والمعتصم ويسبه تقرباً إليهما لهجاء دعبل إياهما وتزوج ابن أبي داود امرأتين من بني عجل في سنة واحدة فلما بلغ ذلك دعبلا قال يهجوه ( غَصبْتَ عِجلاً على فَرَجَين في سنة ... أفسدتَهُمْ ثم ما أصلحْتَ من نَسبكْ ) ( ولو خَطبْتَ إلى طَوق وأسرتِه ... فزوجوك لما زادوك في حسبك ) ( بِك من هوِيت ونَلْ ما شئت من نَشَب ... أنت ابنُ زرياب منسوباً إلى نَشبك ) ( إن كان قوم أراد الله خِزيهمُ ... فزوجوك ارتغاباً منك في ذهبك ) ( فذاك يوجِب أن النبْعَ تجمعه ... إلى خلافك في العيدان أو غَربك ) ( ولو سكَتّ ولم تخطب إلى عرب ... لما نشبْتَ الذي تطويه من سبيك ) ( عُدّ البيوتَ التي ترضى بِخطبتها ... تجد فَزارةً العكليَّ من عرَبك ) قال فلقيه فزارة العكلي فقال له يا أبا علي ما حملك على ذكري حتى فضحتني وأنا صديقك قال يا أخي والله ما اعتمدتك بمكروه ولكن كذا جاءني الشعر لبلاء صبه الله عز و جل عليك لم أعتمدك به أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني أبو خالد الأسلمي الكوفي قال اجتمعت مع دعبل في منزل بعض أصحابنا وكانت عنده جارية مغنية صفراء مليحة حسنة الغناء فوقع لها العبث بدعبل والعنت والأذى له ونهيناها عنه فما انتهت فأقبل علينا فقال اسمعوا ما قلت في هذه الفاجرة فقلنا هات فقد نهيناها فلم تنته فقال ( تَخضِب كفّا قُطعت من زَندها ... فتخضِب الحنّا من مُسوّدها ) ( كأنها والكحل في مِرْودها ... تَكحَل عينيها ببعض جلدها ) ( أشبهُ شيء آسْتُها بخدّها ... ) قال فجلست الجارية تبكي وصارت فضيحة واشتهرت بالأبيات فما انتفعت بنفسها بعد ذلك دعبل يُحبس ويُضرب أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني هارون قال حدثني أبي وخالدٌ قالا كان دعبل قد جنى جناية بالكوفة وهو غلام فأخذه العلاء بن منظور الأسدي وكان على شرطة الكوفة من قبل موسى بن عيسى فحبسه فكلمه فيه عمه سليمان بن رزين فقال أضربه أنا خير من أن يأخذه غريب فيقطع يده فلعله أن يتأدب بضربي إياه ثم ضربه ثلثمائة سوط فخرج من الكوفة فلم يدخلها بعد ذلك إلا عزيزاً أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال كان دعبل يخرج فيغيب سنين يدور الدنيا كلها ويرجع وقد أفاد وأثرى وكانت الشراة والصعاليك يلقونه فلا يؤذونه ويؤاكلونه ويشاربونه ويبرونه وكان إذا لقيهم وضع طعامه وشرابه ودعاهم إليه ودعا بغلاميه ثقيف وشعف وكانا مغنيين فأقعدهما يغنيان وسقاهم وشرب معهم وأنشدهم فكانوا قد عرفوه وألفوه لكثرة أسفاره وكانوا يواصلونه ويصلونه وأنشدني دعبل بن علي لنفسه في بعد أسفاره ( حللْتُ محلاً يقصر البرق دونه ... ويعجِز عنه الطيفُ أن يتجشما ) أخبرني الحسنُ بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال قال لي البحتري دعبل بن علي أشعر عندي من مسلم بن الوليد فقلت له وكيف ذلك قال لأن كلام دعبل أدخل في كلام العرب من كلام مسلم ومذهبه أشبه بمذاهبهم وكان يتعصب له أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا الفضل بن الحسن بن موسى البصري قال بات دعبل ليلة عند صديق له من أهل الشأم وبات عندهم رجل من أهل بيت لهياني يقال له حوى بن عمرو السككي جميل الوجه فدب إليه صاحب البيت وكان شيخاً كبيراً فانياً قد أتى عليه حين فقال فيه دعبل ( لولا حوىً لبيت لهياني ... ما قام أَير العزب الفاني ) ( له دواة في سراويله ... يليقها النازح والداني ) قال وشاع هذان البيتان فهرب حوى من ذلك البلد وكان الشيخ إذا رأى دعبلاً سبه وقال فضحتني أخزاك الله أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني محمد بن الأشعث قال سمعت دعبلاً يقول ما كانت لأحد قط عندي منة إلا تمنيت موته أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا محمد بن عمر الجرجاني قال دخل دعبل بن علي الري في أيام الربيع فجاءهم ثلج لم يروا مثله في الشتاء فجاء شاعر من شعرائهم فقال شعراً وكتبه في رقعة هو ( جاءنا دِعبِل بِثلج من الشعر ... فجادت سماؤنا بالثلوج ) ( نزل الرّيّ بعد ما سكن البردُ ... وقد أينَعَتْ رياض المروج ) ( فكسانا بِبرده لا كساه الله ... ثوباً من كُرْسُف محلوج ) قال فألقى الرقعة في دِهليز دِعبِل فلما قرأها ارتحل عن الرّيّ أخبرني محمد بن عمران قال حدثنا العنزي قال حدثنا أبو خالد الأسلمي قال عرضت لدعبل حاجة إلى صالح بن عطية الأضجم فقصر عنها ولم يبلغ ما أحبه دعبل فيها فقال يهجوه ( أحسنُ ما في صالح وجهه ... فقِسْ على الغائب بالشاهد ) ( تأملَتْ عيني له خِلقة ... تدعو إلى تَزنية الوالد ) فتحمل عليه صالح بي وبجماعة من إخوانه حتى كف عنه وعرض عليه قضاء الحاجة فأباها أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال فخر قوم من خزاعة على دعبل بن علي يقال لهم بنو مكلم الذئب وكان جدهم جاء إلى النبي أن الذئب أخذ من غنمه شاة فتبعه فلما غشيه بالسيف قال له ما لي ولك تمنعني رزق الله قال فقلت يا عجبا لذئب يتكلم فقال أعجب منه أن محمداً نبي قد بعث بين أظهركم وأنتم لا تتبعونه فبنوه يفخرون بتكليم الذئب جدهم فقال دعبل بن علي يهجوهم تِهْتُمْ علينا بأنّ الذئب كلمكمْ ... فقد لَعَمري أبوكم كلَّم الذيبا ) ( فكيف لو كلّم الليثَ الهصورَ إذا ... أفَنيتم الناسَ مأكولاً ومشروبا ) ( هذا السُّنَيدي لا أصل ولا طُرَف ... يكلّم الفيل تصعيداً وتصويباً ) دعبل يهجو محمد بن عبد الملك الزيات حدثني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أبي قال كان دعبل قد مدح محمد بن عبد الملك الزيات فأنشده ما قاله فيه وفي يده طومار قد جعله على فمه كالمتكئ عليه وهو جالس فلما فرغ أمر له بشيء لم يرضه فقال يهجوه ( يا مَن يُقلِّب طُوماراً ويلثَمه ... ماذا بقلبك من حُبِّ الطوامير ) ( فيه مَشابِه من شيء تُسَرّ به ... طُولاً بطول وتدويراً بتدوير ) ( لو كنْتَ تجمعَ أموالاً كَجَمْعِكها ... إذا جمعْتَ بيوتاً من دنانير ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبي قال نزل دعبل بحمص على قوم من أهلها فبرّوه ووصلوه سوى رجلين منهم يقال لأحدهما أشعث وللآخر أبو الصّناع فارتحل من وقته من حمص وقال فيهما يهجوهما ( إذا نَزل الغريب بأرض حِمص ... رأيتَ عليه عِزّ الإمتناع ) ( سُموُّ المكرمات بآل عيسى ... أحَلّهُم على شرف التّلاع ) ( هناك الخزّ يلبَسه المُغَالِي ... وعيسى منهمُ سَقَط المتاع ) ( فَسدَّد لاست أشعثَ أيرَ بَغل ... وآخرَ في حِرِأمّ أبي الصناع ) ( فليس بِصانع مَجداً ولكن ... أضاع المجدَ فهْو أبو الضياع ) أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه عن الحسين بن دعبل قال قال أبي في الفضل بن مروان ( نصحْتُ فأخلصْتُ النصيحة للفضل ... وقلت فسيّرْتُ المقالة في الفضل ) ( ألا إنّ في الفضل بن سهل لَعبرة ... إن اعتبر الفضلُ بنُ مروان بالفضل ) ( وللِفضل في الفضل بن يحيى مواعظ ... إذا فكّر الفضل بنُ مروان في الفضل ) ( فابقِ جميلاً من حديث تَفُز به ... ولا تدَع الإحسان والأخذَ بالفضل ) ( فإنك قد أصبحت للمُلك قَيِّماً ... وصرْت مكانَ الفضل والفضلِ والفضل ) ( ولم أرَ أبياتاً من الشِّعر قبلها ... جميعُ قوافيها على الفضل والفضل ) ( وليس لها عَيب إذا هي أَنشدَت ... سوى أن نصحي الفضل كان من الفضل ) فبعث إليه الفضل بن مروان بدنانير وقال له قدقبلت نصحك فاكفني خيرك وشرك حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هرون قال حدثني أبو الطيب الحراني قال أنشد رجل دعبل بن علي شعرا له فجعل يعيبه وينبهه على خطئه فيه بيتاً بيتاً ويقول أي شيء صنعت بنفسك ولم تقول الشعر إذا لم تقدر إلا على مثل هذا منه إلى أن مر له بيت جيد فقال دعبل أحسنت أحسنت ما شئت فقال له يا أبا علي أتقول لي هذا بعد ما مضى فقال له يا حبيبي لو أن رجلا ضرط سبعين ضرطة ما كان بمنكر أن يكون فيها دستنبوية واحدة أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن حاتم المؤدب قال قيل للمأمون إن دعبل بن علي قد هجاك فقال وأي عجب في ذاك هو يهجو أبا عباد ولا يهجوني أنا ومن أقدم على جنون أبي عباد أقدم على حلمي ثم قال للجلساء من كان منكم يحفظ شعره في أبي عباد فلينشدنيه فأنشده بعضهم ( أولى الأمور بضَيعة وفساد ... أمرٌ يدبِّره أبو عبّاد ) ( خَرِقٌ على جلسائه فكأنهم ... حضروا لملْحَمَة ويوم جِلاد ) ( يَسْطو على كُتابه بِدواته ... فمُضَمَّخ بِدَمٍ ونَضْحِ مداد ) ( وكأنه من دَبْر هِزْقِلَ مُفلِت ... حَرِدٌ يَجر سلاسل الأقياد ) ( فاشدد أميرَ المؤمنينَ وثاقه ... فأصَحّ منه بقيّةُ الحداد ) قال وكان بقية هذا مجنوناً في المارستان فضحك المأمون وكان إذا نظر إلى أبي عباد يضحك ويقول لمن يقرب منه والله ما كذب دعبل في قوله حدثني جحظة عن ميمون بن هارون فذكر مثله أو قريبا منه أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار ومحمد بن أحمد الحكيم قالا حدثنا أنس بن عبد الله النبهاني قال حدثني علي بن المنذر قال حدثني عبد الله بن سعيد الأشقري قال حدثني دعبل بن علي قال لما هربت من الخليفة بت ليلة بنيسابور وحدي وعزمت على أن أعمل قصيدة في عبد الله بن طاهر في تلك الليلة فإني لفي ذلك إذ سمعت والباب مردود علي السلام عليكم ورحمة الله أنج يرحمك الله فاقشعر بدني من ذلك ونالني أمر عظيم فقال لي لا تُرع عافاك الله فإني رجل من إخوانك من الجن من ساكني اليمن طرأ إلينا طارئ من أهل العراق فأنشدنا قصيدتك ( مدارس آياتٍ خلَت من تلاوة ... ومنزلُ وحي مقفرُ العرَصات ) فأحببت أن أسمعها منك قال فأنشدته إياها فبكى حتى خر ثم قال رحمك الله ألا أحدثك حديثاً يزيد في نيتك ويعينك على التمسك بمذهبك قلت بلى قال مكثت حيناً أسمع بذكر جعفر بن محمد عليه السلام فصرت إلى المدينة فسمعته يقول حدثني أبي عن أبيه عن جده أن رسول الله قال علي وشيعته هم الفائزون ثم ودعني لينصرف فقلت له يرحمك الله إن رأيت أن تخبرني باسمك فافعل قال أنا ظبيان بن عامر أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي وأخبرني به الحليمي عن يعقوب بن إسرائيل عن إسحاق النخعي قال كنت جالساً مع دعبل بالبصرة وعلى رأسه غلامه ثقيف فمر به أعرابي يرفل في ثياب خز فقال لغلامه ادع لي هذا الأعرابي فأومأ الغلام إليه فجاء فقال له دعبل ممن الرجل قال من بني كلاب قال من أي كلاب أنت قال من ولد أبي بكر فقال دعبل أتعرف القائل ( ونُبئْتُ كلباً من كلاب يسبني ... ومحض كلاب يقطع الصلوات ) ( فإن أنا لم أُعلم كلاباً بأنها ... كلاب وأني باسل النِّقَمات ) ( فكان إذاً من قيس عَيلان والدي ... وكانت إذاً أمي من الحَبَطات ) قال وهذا الشعر لدعبل يقوله في عمرو بن عاصم الكلابي فقال له الأعرابي ممن أنت فكره أن يقول له من خزاعة فيهجوهم فقال أنا أنتمي إلى القوم الذين يقول فيهم الشاعر ( أناس عليُّ الخيرِ منهم وجعفر ... وحمزة والسَّجَّادُ ذو الثَّفِنات ) ( إذا فخَروا يوماً أتَوا بمحمد ... وجبريلَ والفرقان والسُّوَرات ) فوثب الأعرابي وهو يقول ما لي إلى محمد وجبريل والفرقان والسورات مرتقى أخبرني الكوكبي قال حدثني ابن عبدوس قال سأل دعبل نصر بن منصور بن بسام حاجة فلم يقضها لشغل عرض له دونها فقال يهجو بني بسام ( حواجبٌ كالجبال سودٌ ... إلى عثانين كالمخالي ) ( وأوجُهٌ جَهْمة غِلاظٌ ... عُطْل من الحسن والجمال ) أخبرني الكوكبي قال حدثني ميمون بن هرون قال لما ولي أحمد بن أبي خالد الوزارة في أيام المأمون قال دعبل بن علي يهجوه ( وكان أبو خالد مَرّة ... إذا بات متّخماً عاقدا ) ( يضيق بأولاده بطنُه ... فيخراهمُ واحداً واحدا ) ( فقد ملأ الأرض من سَلحه ... خنافسَ لا تشبه الوالدا ) هرب إلى الجبل وهجا المعتصم أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو ناجية قال كان المعتصم يبغُض دعبلا لطول لسانه وبلغ دعبلاً أنه يريد اغتياله وقتله فهرب إلى الجبل وقال يهجوه ( بكى لِشتات الدِّين مكتئب صبّ ... وفاض بفَرْط الدمع من عينه غربُ ) ( وقام إمام لم يكن ذا هداية ... فليس له دين وليس له لبُّ ) ( وما كانت الآباء تأتي بمثلِه ... يُملَّك يوماً أو تَدينُ له العُرب ) ( ولكن كما قال الذين تتابعوا ... مِن السلَف الماضين إذ عظُم الخطب ) ( ملوك بني العباس في الكُتْب سبعة ... ولم تأتنا عن ثامن لهمُ كتب ) ( كذلك أهلُ الكهف في الكهفِ سبعة ... خيارٌ إذا عُدّوا وثامنهُم كلب ) ( وإني لأُعلي كلبَهم عنك رفعةً ... لأنك ذو ذَنْب وليس له ذَنْب ) ( لقد ضاع ملكُ الناس إذ ساس ملكَهم ... وَصيف وأشناسٌ وقد عظُم الكرب ) ( وفضلُ بنُ مروانٍ يُثلِّم ثَلَمةً ... يظل لها الإسلام ليس له شَعْب ) أخبرني عمي قال حدثني ميمون بن هرون قال لما مات المعتصم قال محمد بن عبد الملك الزيات يرثيه ( قد قلتُ إذ غيّبوه وانصرفوا ... في خَير قبرٍ لِخَير مدفون ) ( لن يَجبُر الله أمةً فقدت ... مثلَك إلا بمثل هارون ) فقال دعبل يعارضه ( قد قلْتُ إذ غيّبوه وانصرفوا ... في شرّ قبرٍ لشر مدفون ) ( اذهب إلى النار والعذاب فما ... خِلْتُك إلا من الشياطين ) ( ما زلْتَ حتى عقدتَ بيعة مَن ... أضرّ بالمسلمين والدين ) قال عمي حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال أنشد دعبل بن علي يوماً قول بعض الشعراء ( قد قلتُ إذ غيّبوه وانصرفوا ... ) وذكر البيتين والجواب ولم يسم قائل المرثية ولا نسبه إلى محمد بن عبد الملك الزيات ولا غيره أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال سألت دعبلا عن هذه الأبيات ( ملوكُ بني العباس في الكتْب سبعة ... ) فأنكر أن تكون له فقلت له فمن قالها قال من حشا الله قبره ناراً إبراهيم بن المهدي أراد أن يغري بي المعتصم فيقتلني لهجائي إياه أخبرني عمي والحسن بن علي جميعا قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال كنت عند أحمد بن المدبر ليلة من الليالي فأنشدته لدعبل في أحمد بن أبي داود قوله ( إنّ هذا الذي دُواد أبوه ... وإياد قد أكثر الأنباء ) ( ساحقتْ أُمّه ولاط أبوه ... ليت شِعري عنه فمِن أين جاء ) ( جاء مِن بين صخرَين صلوتَينْ ... عَقامَين يُنِيتان الهَباء ) ( لا سِفاحٌ ولا نِكاح ولا ما ... يوجب الأمهاتِ والآباء ) قال فاستعادها أربع مرات فظننت أنه يريد أن يحفظها ثم قال لي جئني بدعبل حتى أوصله إلى المتوكل فقلت له دعبل موسوم بهجاء الخلفاء والتشيع وإنما غايته أن يخمل ذكره فأمسك عني ثم لقيت دعبلافحدثته بالحديث فقال لو حضرت أنا أحمد بن المدبر لما قدرت أن أقول أكثر مما قلت أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن جرير قال أنشدني عبيد الله بن يعقوب هذا البيت وحده لدعبل يهجو به المتوكل وما سمعت له غيره فيه ( ولست بقائل قَذْعاً ولكن ... لأمرٍ ما تعبَّدك العبيد ) قال يرميه في هذا البيت بالأبنة أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال كنت مع دعبل بالصيمرة وقد جاء نعي المعتصم وقيام الواثق فقال لي دعبل أمعك شيء تكتب فيه فقلت نعم وأخرجت قرطاساً فأملى علي بديها ( الحمدُ لله لا صبر ولا جلَدُ ... ولا عزاء إذا أهلُ البَلا رَقدوا ) ( خليفةٌ مات لم يَحزن له أحد ... وآخرٌ قام لم يَفرح به أحد ) حدثني عمي قال حدثنا أحمد بن عبيد الله بن ناصح قال قلت لدعبل وقد عرض علي قصيدة له يمدح بها الحسن بن وهب أولها ( أعاذِلَتي ليس الهوَى من هوائيا ... ) فقلت له ويحك أتقول فيه هذا بعد قولك ( أين مَحَلّ الحيِّ يا حادي ... خبِّر سقاك الرائحُ الغادي ) وبعد قولك ( قالت سلاَمة أينُ المال قلت لها ... المال ويحِك لاقى الحمدَ فاصطحبا ) وبعد قولك ( فَعَلى أيمانِنا يجري الندَى ... وعلى أسيافنا تجري المُهجْ ) والله إني أراك لو أنشدته إياها لأمر لك بصَفع قفاك فقال صدقت والله ولقد نبهتني وحذرتني ثم مزقها أخبرني عمي قال حدثني العنزي قال حدثني الحسين بن أبي السري قال غضِب دعبل على أبي نصر بن جعفر بن محمد بن الأشعث وكان دعبل مِؤدبه قديما لشيء بلغه عنه فقال يهجو أباه ( ما جعفرُ بنُ محمدِ بنِ الأشعث ... عندي بخيرٍ أبوّةً من عَثعثِ ) ( عبثا تُمارسُ بي تُمَارسُ حية ... سَوّارة إن هِجتَها لم تلبث ) ( لو يَعلم المغرور ماذا حاز من ... خزي لوالده إذاً لم يعبث ) قال فلقيه عثعث فقال له عليك لعنة الله أي شيء كان بيني وبينك حتى ضربت بي المثل في خسة الآباء فضحك وقال لا شيء والله اتفاق اسمك واسمِ ابن الأشعث في القافية أولا ترضى أن أجعلَ أباك وهو أسود خيراً من آباء الأشعث بن قيس أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن سهل القاري وكان يلقب أرزة قال حدثني دعبل بن علي الخزاعي قال كتبت إلى أبي نهشل بن حميد الطوسي قوله ( إنما العيش في مُنادمِة الإخوان ... لا في الجلوس عند الكَعَابِ ) ( وبِصِرْفٍ كأنها ألسُن البرَق ... إذا استعرضَت رقيق السحاب ) ( إن تكونوا تركتمُ لذة العيش ... حِذار العِقاب يومَ العقاب ) ( فدَعُوني وما ألذّ وأهوَى ... وادفعوا بي في صدر يوم الحساب ) دعبل وعلي بن موسى الرضا أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني موسى بن عيسى المروزي وكان منزله بالكوفة في رحبة طيىء قال سمعت دعبل بن علي وأنا صبي يتحدث في مسجد المروزية قال دخلت على علي بن موسى الرضا عليهما السلام فقال لي أنشدني شيئاً مما أحدثت فأنشدته ( مدارس آيات خلَتْ من تلاوة ... ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرَصات ) حتى انتهيت إلى قولي ( إذا وُتِروا مدّوا إلى واتريهمُ ... أكفّاً عن الأوتار منقبضات ) قال فبكى حتى أغمي عليه وأومأ إلي خادم كان على رأسه أن اسكت فسكت ساعة ثم قال لي أعد فأعدت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضاً فأصابه مثل الذي أصابه في المرة الأولى وأومأ الخادم إلي أن اسكت فسكت فمكث ساعة أخرى ثم قال لي أعد فأعذت حتى انتهيت إلى هذا البيت أيضاً فأصحابه مثل الذي أصابه في المرة الأولى وأومأ الخادم إلي أن اسكت فسكت فمكث ساعة أخرى ثم قال لي أعد فأعدت حتى انتهيت إلى آخرها فقال لي أحسنت ثلاث مرات ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم مما ضرب باسمه ولم تكن دفعت إلى أحد بعد وأمر لي من في منزله بحلي كثير أخرجه إلي الخادم فقدمت العراق فبعت كل درهم منها بعشرة دراهم اشتراها مني الشيعة فحصل لي مائة ألف درهم فكان أول مال اعتقدته قال ابن مهرويه وحدثني حذيفة بن محمد أن دعبلاً قال له إنه استوهب من الرضا عليه السلام ثوباً قد لبسه ليجعله في أكفانه فخلع جبة كانت عليه فأعطاه إياها وبلغ أهل قم خبرها فسألوه أن يبيعهم إياها بثلاثين ألف درهم فلم يفعل فخرجوا عليه في طريقه فأخذوها منه غصباً وقالوا له إن شئت أن تأخذ المال فافعل والا فأنت أعلم فقال لهم إني والله لا أعطيكم إياها طوعاً ولا تنفعكم غصباً وأشكوكم إلى الرضا عليه السلام فصالحوه على أن أعطوه الثلاثين الألف الدرهم وفْرد كم من بطانتها فرضي بذلك أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال بويع إبراهيم بن المهدي ببغداد وقد قل المال عنده وكان قد لجأ إليه أعراب من أعراب السواد وغيرهم من أوغاد الناس فاحتبس عنهم العطاء فجعل إبراهيم يسوفهم ولا يرون له حقيقة إلى أن خرج إليهم رسوله يوما وقد اجتمعوا وضجوا فصرّح لهم بأنه لا مال عنده فقال قوم من غوغاء أهل بغداد أخرجوا إلينا خليفتنا ليغني لأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات ولأهل هذا الجانب ثلاثة أصوات فتكون عطاء لهم فأنشدني دعبل بعد ذلك بأيام قوله ( يا معشَرَ الأجناد لا تقنَطوا ... وارضَوْا بما كان ولا تَسخطوا ) ( فسوف تعطَون حُنَيْنِيّة ... يلتذها الأمرد والأشمط ) ( والمعبَدِيّات لقوّادكم ... لا تدخل الكِيس ولا تُربط ) ( وهكذا يَرزق قوّاده ... خليفةٌ مُصحفُه البَرْبط ) وزادني فيها جعفر بن قدامة ( قد خَتم الصك بأرزاقكم ... وصحّح العزمَ فلا تسخطوا ) ( بَيعة إبراهيم مشؤومة ... يُقتَل فيها الخلق أو يُقْحَطُ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو علي يحيى بن محمد بن ثوابةالكاتب قال حدثني دعبل قال كان لي صديق متخلف يقول شعرا فاسدا مرذولا وأنا أنهاه عنه إذا أنشدني فأنشدني يوما ( إنّ ذا الحُبّ شديدٌ ... ليسَ يُنجيه الفِرارُ ) ( ونجا مَن كان لا يعشق ... من ذلّ المخازي ) فقلت له هذا لا يجوز البيت الأول على الراء والبيت الثاني على الزاي فقال لا تنقطه فقلت له فالأول مرفوع والثاني مخفوض فقال أنا أقول له لا تنقطه وهو يشكله أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا محمد بن زكريا بن ميمون الفرغاني قال سمعت دعبل بن علي يقول في كلام جرى ليسك فأنكرته عليه فقال دخل زيد الخيل على النبي له يا زيد ما وصف لي رجل إلا رأيته دون وصفه ليسك يريد غيرك أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا علي بن عبد الله بن سعد قال قال لي دعبل وقد أنشدته قصيدة بكر بن خارجة في عيسى بن البراء النصراني الحربي ( زُنّارُه في خصره معقود ... كأنه من كبِدي مقدود ) فقال والله ما أعلمني حسدت أحداً على شعر كما حسدت بكراً على قوله كأنه من كبدي مقدود أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال سمعت الجاحظ يقول سمعت دعبل بن علي يقول مكثت نحو ستين سنة ليس من يوم ذرّ شارقه إلا وأنا أقول فيه شعراً أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال سمعت دعبل بن علي يقول دخلت على أبي الحارث جميز وقد فلج لأعوده وكان صديقي فقلت ما هذا يا أبا الحارث فقال أخذت من شعري ودخلت الحمام فغلط بي الفالج وظن أني قد احتجمت فقلت له لو تركت خفة الروح والمجون في موضع لتركتهما في هذا الموضع وعلى هذه الحال المأمون يسأل عن شعره أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أحمد بن صدقة قال حدثني أبي قال حدثني عمرو بن مسعدة قال حضرت أبا دلف عند المأمون أي شيء تروي لأخي خزاعة يا قاسم فقال وأي أخي خزاعة يا أمير المؤمنين قال ومن تعرف فيهم شاعراً فقال أما من أنفسهم فأبو الشيص ودعبل وابن أبي الشيص وداود بن أبي رزين وأما من مواليهم فطاهر وابنه عبد الله فقال ومن عسى في هؤلاء أن يسأل عن شعره سوى دعبل هات أي شيء عندك فيه فقال وأي شيء أقول في رجل لم يسلم عليه أهل بيته حتى هجاهم فقرن إحسانهم بالإساءة وبذلهم بالمنع وجودهم بالبخل حتى جعل كل حسنة منهم بإزاء سيئة قال حين يقول ماذا قال حين يقول في المطلب بن عبد الله بن مالك وهو أصدق الناس له وأقربهم منه وقد وفد إليه إلى مصر فأعطاه العطايا الجزيلة وولاه ولم يمنعه ذلك من أن قال فيه ( اضرِب ندَى طلحةِ الطّلحات متئداً ... بلَوْم مطّلب فينا وكن حكما ) ( تخرجْ خزاعة من لؤم ومن كرم ... فلا تُحسُّ لها لؤماً ولا كرما ) قال فقال المأمون قاتله الله ما أغوصه وألطفه وأدهاه وجعل يضحك ثم دخل عبد الله بن طاهر فقال له أي شيء تحفظ يا عبد الله لدعبل فقال أحفظ أبياتاً له في أهل بيت أمير المؤمنين قال هاتها ويحك فأنشده عبد الله قول دعبل ( سَقياً ورَعياً لأيام الصباباتِ ... أيام أرفُل في أثواب لذاتي ) ( أيام غصني رَطيب من لَيانته ... أصبو إلى غير جارات وكَنّات ) ( دعْ عنك ذكرَ زمان فات مطلبُه ... واقذِف برِجلِك عن مَتن الجهالات ) ( واقصِد بكل مديح أنت قائله ... نحو الهُداة بنى بَيت الكرامات ) فقال المأمون إنه قد وَجد والله مقالاً فقال ونال ببعيد ذكرهم مالا يناله في وصف غيرهم ثم قال المأمون لقد أحسن في وصف سفر سافره فطال ذلك السفر عليه فقال فيه ( ألمْ يأنِ للسَّفر الذين تَحملوا ... إلى وطنٍ قبل الممات رجوع ) ( فقلتُ ولم أملكِ سوابق عَبرة ... نطقن بما ضُمت عليه ضلوع ) تبيّنْ فكم دار تفرّق شَمْلها ... وشملٍ شتيت عاد وهو جميع ) ( كذاك الليالي صرفُهنّ كما ترى ... لكل أناس جَدْبةٌ وربيع ) ثم قال ما سافرت قطّ إلا كانت هذه الأبيات نُصب عيني في سفري وهجيري ومسليتي حتى أعود أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني المبرد ومحمد بن الحسن بن الحرون قالا قال دعبل خرجت إلى الجبل هارباً من المعتصم فكنت أسير في بعض طريقي والمكاري يسوق بي بغلاً تحتي وقد أتعبني تعباً شديداً فتغنى المكاري في قولي ( لا تَعجبي يا سلم من رجل ... ضحِك المشيب برأسه فبكى ) فقلت له وأنا أريد أن أتقرب إليه وأكف ما يستعلمه من الحث للبغل لئلا يتعبني تعرف لمن هذا الشعر يا فتى فقال لمن ناك أمه وغرم درهمين فما أردي أي أموره أعجب من هذا الجواب أم من قلة الغرم على عظم الجناية حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال حضرت مجلس محمد بن طاهر وحضرته مغنية يقال لها شنين مشهورة فغنت ( لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى ) ثم غنت بعده ( لقد عجبَتْ سلمى وذاك عجيب ... ) فقلت لها ما أكثر تعجب سلمى هذه فعلمت أني أعبث بها لأسمع جوابها فقالت متمثلة غير متوقفة ولا متفكرة ( فهُلك الفتى ألا يَراح إلى نَدىً ... وألا يَرى شيئاً عجيباً فيعجبا ) فعجبت والله من جوابها وحدته وسرعته وقلت لمن حضر والله لو أجاب الجاحظ هذا الجواب لكان كثيراً منه مستظرفاً نسبة هذا الصوت صوت ( لقد عجِبَت سلمى وذاك عجيب ... رأت بيَ شيباً عجّلته خُطوب ) ( وما شيبَّتْني كَبرةٌ غير أنني ... بِدَهر به رأس العظيم يشيب ) الغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالوسطى من كتاب ابنه أحمد حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد المرتجل بن أحمد بن يحيى المكي قال كان أبي صديقاً لدعبل كثير العشرة له حافظاً لغيبه وكل شعر يغنى فيه لدعبل فهو من صنعة أبي و غناني من صنعة أبيه في شعر دعبل والطريقة فيه خفيف ثقيل في مجرى البنصر صوت ( سَرَى طيفُ ليلى حين آن هُبوبُ ... وقضّيتُ شوقاً حين كاد يذوب ) ( فلم أرَمطروقاً يُحَلّ بِرَحله ... ولا طارقاً يَقرى المنى ويُثيب ) وأنشدني عمي هذين البيتين عن أحمد بن أبي طاهر وابن مهرويه جميعاً لدعبل حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال سألت دعبلا من الذي يقول ( ملوك بني العباس في الكتْبِ سبعة ) فقال من أضرم الله قبره ناراً إبراهيم بن المهدي قال ابن أبي سعد وحدثني عبد العزيز بن سهل أنه سأله عنها فاعترف بها حدثني عمي قال أنشدني ابن أخي دعبل لعمه في طاهر بن الحسين وكان قد نقم عليه أمراً أنكره منه ( وذي يمينَين وعينٍ واحدهْ ... نُقصانُ عَين ويمينٌ زائدهْ ) ( نَزْرُ العطيات قليل الفائدهْ ... أعضّه الله بِبَظْر الوالدهْ ) حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال كان دعبل قد مدح دينار بن عبد الله وأخاه يحيى فلم يرض ما فعلاه فقال يهجوهما ( ما زال عصياننا للهِ يُرذِلنا ... حتى دُفعنا إلى يحيى ودينارِ ) ( وَغْدَين عِلْجَين لم تُقطَع ثمارها ... قد طال ما سَجدا للشمس والنار ) قال وفيهما وفي الحسن بن سهل يقول أيضاً دعبل يهجوهم والحسن بن رجاء وأبيه أيضاً ( ألا فاشتروا مِني ملوك المخزمِ ... أبِعْ حَسناً وابني رجاء بدرهمِ ) ( وأعط رجاء فوق ذاك زيادة ... وأسمحْ بدينار بغير تندُّم ) ( فإن رُدّ من عيب عليّ جميعُهم ... فليس يَردُّ العيبَ يحيى بنُ أكثم ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو الطيب الحراني قال كان دعبل منحرفا عن الطاهرية مع ميلهم إليه وأياديهم عنده فأنشدني لنفسه فيهم ( وأبقى طاهر فينا ثلاثاً ... عجائبَ تُسْتَخَفّ لها الحلوم ) ( ثلاثةَ أعبد لأب وأم ... تُمَيّز عن ثلاثتِهم أُروم ) ( فبعضٌ في قريش منتماه ... ولا غَيرٌ ومجهول قديم ) ( وبعضهُم يَهشّ لآل كسرى ... ويزعم أنه عِلْج لئيم ) ( فقد كثرَتْ مناسبهم علينا ... وكلُّهم عَلَى حال زنيم ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبي قال كان صالح بن عطية الأضجم من أبناء الدعوة وكان من أقبح الناس وجها وكان ينزل واسطا فقال فيه دعبل ( أحسنُ ما في صالح وجهُهُ ... فقِس على الغائب بالشاهدِ ) ( تأملَتْ عينِي له خِلقةً ... تدعو إلى تزنيه الوالد ) قال وقال فيه أيضا وخاطب فيها المعتصم ( قل لِلإمام إمامِ آل محمد ... قول امرئ حَدِبٍ عليكَ مُحام ) ( أنكرْتُ أن تفتر عنك صنيعةٌ ... في صالح بنِ عطيةَ الحجّام ) ( ليس الصنائعُ عنده بِصنائع ... لكنهن طوائل الإسلام ) ( اضرب به جيشَ العدوّ فوجهُه ... جيش من الطاعون والبِرسام ) دعبل ومسلم بن الوليد أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني إبراهيم بن محمد الوراق قال حدثني الحسين بن أبي السري قال قال لي دعبل ما زلت أقول الشعر وأعرضه على مسلم فيقول لي اكتم هذا حتى قلت ( أين الشباب وأيةً سَلكاً ... لا أين يطلب ضلّ بل هلكا ) فلما أنشدته هذه القصيدة قال اذهب الآن فأظهر شعرك كيف شئتَ لمن شئت قال إبراهيم وحدثني الفتح غلام أبي تمام الطائي وكان أبو سعيد الثغري اشتراه له بثلثمائة دينار لينشد شعره وكان غلاماً أديبا فصيحا وكان إنشاد أبي تمام قبيحاً فكان ينشد شعره عنه فقال سألت مولاي أبا تمام عن نسب دعبل فقال هو دعبل بن علي الذي يقول ( ضحك المشيب برأسه فبكى ... ) قال الفتح وحدثني مولاي أبو تمام قال ما زال دعبل مائلاً إلى مسلم بن الوليد مقراً بأستاذيته حتى ورد عليه جرجان فجفاه مسلم وكان فيه بخل فهجره دعبل وكتب إليه ( أبا مَخْلد كنا عقيدَيْ مودة ... هوانَا وقلبانا جميعاً مَعاً مَعا ) ( أحُوطك بالغيبِ الذي أنت حائطي ... وأيجع إشفاقاً لأن تتوجعا ) ( فصيّرتَني بعد انتكاسك متْهماً ... لنفسي عليها أرهب الخلق أجمعا ) ( غششْتَ الهوَى حتى تداعت أصوله ... بنا وابتذلّتَ الوصل حتى تقطعا ) ( وأنزلتَ من بين الجوانح والحشا ... ذخيرة وُد طالما تَمنعا ) ( فلا تعذلنَّي ليس لي فيك مطمع ... تخرقتَ حتى لم أجد لك مَرْقعا ) ( فهبك يميني استأكلَتْ فقطعتُها ... وجشّمت قلبي صبره متشجعا ) ويروى وحملت قلبي فقدها قال ثم تهاجرا فما التقيا بعد ذلك أخبرني محمد بن خلف قال حدثني إبراهيم بن محمد قال حدثنا الحسين بن علي قال قلت لابن الكلبي إن دعبلاً قطعي فلو أخبرت الناس أنه ليس من خزاعة فقال لي يا فاعل مثل دعبل تنفيه خزاعة والله لو كان من غيرها لرغبت فيه حتى تدعيه دعبل والله يا أخي خزاعة كلها دعبل والمطلب بن عبد الله بن مالك أخبرني محمد بن المرزبان قال حدثني إبراهيم بن محمد الوراق عن الحسين بن أبي السري عن عبد الله بن أبي الشيص قال حدثني دعبل قال حججت أنا وأخي رزين وأخذنا كتباً إلى المطلب بن عبد الله بن مالك وهو بمصر يتولاها فصرنا من مكة إلى مصر فصحبنا رجل يعرف بأحمد بن فلان السراج نسي عبد الله بن أبي الشيص اسم أبيه فما زال يحدثنا ويؤانسنا طول طريقنا ويتولى خدمتنا كما يتولاها الرفقاء والأتباع وأريناه حسن الأدب وكان شاعراً ولم نعلم وكتمنا نفسه وقد علم ما قصدنا له فعرضنا عليه أن يقول في المطلب قصيدة ننحله إياها فقال إن شئتم وأرانا بذلك سروراً وتقبلاً له فعملنا قصيدة وقلنا له تنشدها المطلب فإنك تنتفع بها فقال نعم ووردنا مصر به فدخلنا إلى المطلب وأوصلنا إليه كتباً كانت معنا وأنشدناه فسر بموضعنا ووصفنا له أحمد السراج هذا وذكرنا له أمره فأذن له فدخل عليه ونحن نظن أنه سينشد القصيدة التي نحلناه إياها فلما مثل بين يديه عدل عنها وأنشده ( لم آت مطّلِباً إلا بمطّلب ... وهمةٍ بلَغت بي غاية الرُّتب ) ( أفردتُه برجاء أن تشاركه ... فيّ الوسائل أو ألقاه في الكتب ) قال وأشار إلى كتبي التي أوصلتها إليه وهي بين يديه فكان ذلك أشد من كل شيء مر بي منه علي ثم أنشده ( رحلْت عَنْسي إلى البيت الحرام على ... ما كان من وصَب فيها ومن نَصَب ) ( ألقى بها وبوجهي كلَّ هاجرة ... تكاد تقدح بين الجلد والعصَب ) ( حتى إذا ما قَضَتْ نُسْكي ثَنَيت لها ... عِطف الزّمام فأمَت سيدَ العرب ) ( فيمّمْتك وقد ذابت مفاصلها ... من طول ما تعَبٍ لاقت ومن نَقب ) ( إني استجرْت بإستارين مستلِماً ... رُكنَين مطّلباً والبيتَ ذا الحُجُب ) ( فَذاك للآجل المأمول ألمَسه ... وأنت للعاجل المرجّو والطلب ) ( هذا ثنائي وهذي مصر سانحةً ... وأنت أنت وقد نادْيتُ من كثَب ) قال فصاح مّطلب لبيك لبيك ثم قام إليه فأخذه بيده وأجلسه معه وقال يا غلمان البدر فأحضرت ثم قال الخلع فنشرت ثم قال الدواب فقيدت فأمر له من ذلك بما ملأ عينه وأعيننا وصدورنا وحسدناه عليه وكان حسدنا له بما أتفق له من القبول وجودة الشعر وغيظنا بكتمه إيانا نفسه واحتياله علينا أكثر وأعظم فخرج بما أمر له به وخرجنا صفرا فمكثنا أياماً ثم ولى دعبل بن علي أسوان وكان دعبل قد هجا المطلب غيظاً منه فقال ( تُعَلِّق مصرُ بك المخزِيات ... وتبصقُ في وجهك المَوْصلُ ) ( وعاديتَ قوماً فما ضَرّهم ... وشرّفتَ قوماً فلم ينبُلوا ) ( شِعارك عند الحروب النجاء ... وصاحِبُك الأخور الأفشل ) ( فأنت إذا ما التقَوا آخرٌ ... وأنت إذا انهزموا أول ) وقال فيه ( اضرِبْ ندَى طلحِة الطلحات متئّداً ... بِلؤم مطّلب فينا وكن حكَما ) ( تخرج خزاعة من لؤم ومن كرم ... فلا تعدُّ لها لؤماً ولا كرما ) قال وكانت القصيدة التي مدح بها دعبل المطلبَ قصيدته المشهورة التي يقول فيها ( أبْعدَ مصرٍ وبعد مطّلب ... ترجو الغِنى إن ذا من العجب ) ( إن كاثرونا جئنا بأسرته ... أو واحدونا جئنا بمطّلب ) قال وبلغ المطلبَ هجاؤه إياه بعد أن ولاه فعزله عن أسوان فأنفذ إليه كتاب العزل مع مولى له وقال انتظره حتى يصعد المنبر يوم الجمعة فإذا علاه فأوصل الكتاب إليه وامنعه من الخطبة وأنزله عن المنبر واصعد مكانه فلما أن علا المنبر وتنحنح ليخطب ناوله الكتاب فقال له دعبل دعني أخطب فإذا نزلت قرأته قال لا قد أمرني أن أمنعك الخطبة حتى تقرأه فقرأه وأنزله عن المنبر معزولاً قال فحدثني عبد الله بن أبي الشيص قال قال لي دعبل قال لي المطلب ما تفكرت في قولك قط ( إن كاثرونا جئنا بأسرته ... أو واحدونا جئنا بمطلب ) إلا كنت أحب الناس إلي ولا تفكرت والله في قولك لي ( وعاديْتَ قوماً فما ضرهم ... وقدّمتَ قوماً فلم ينبُلوا ) إلا كنت أبغض الناس إلي قال ابن المرزبان حدثني من سأل الرياشي عن قوله إستارين قال يجوز على معنى إستار كذا وإستار كذا وأنشدنا الرياشي ( سعى عقالاً فلم يترك لنا سبَدا ... فكيف لو قد سعَى عمرو عِقالَين ) ( لأصبَح القوم أوفاضاً فلم يجدوا ... يوم الترحل والهيجا جِمالين ) أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد العزيز بن سهل قال لما قصد دعبل عبد المطلب بن عبد الله بن مالك إلى مصر ولم يرض ما كان منه إليه قال فيه ( أمطّلبٌ أنت مستعذٍب ... حُمَيّا الأفاعي ومستقبِلُ ) ( فإن أشفِ منك تكن سُبّة ... وإن أعفُ عنك فما تعقل ) ( ستأتيك إما وردْتَ العراق ... صحائفُ يأثِرها دِعبل ) ( منمَّقةٌ بين أثنائها ... مَخازٍ تَحُطُّ فلا تَرحل ) ( وضعْتَ رجالاً فما ضرّهم ... وشرّفت قوماً فلم ينبُلوا ) ( فأيُّهم الزَّين وسْط المَلا ... عطيةُ أم صالحُ الأحول ) ( أم الباذِنجانيّ أم عامر ... أمينُ الحمَام التي تَزْجُل ) ( تُنَوِّط مصرُ بك المخزيات ... وتبصق في وجهك الموصل ) ( ويومَ السّراة تحسّيتَها ... يطيب لدى مثلِها الحنظل ) ( توليتَ ركْضاً وفتياننا ... صدورُ القنا فيهمُ تعمَل ) ( إذا الحربُ كنت أميراً لها ... فحظهمُ منك أن يُقتَلوا ) ( فمِنك الرؤوس غداةَ اللقاء ... وممن يحاربك المُنْصُل ) ( شِعارك في الحرب يومَ الوغى ... إذا انهزَموا عجِّلوا عجِّلوا ) ( هزائمك الغُرُّ مشهورة ... يُقرطِس فيهن من ينضُل ) ( فأنتَ لأوّلهم آخرٌ ... وأنت لآخرهم أول ) أخبرني عمي أنشدنا المبرد لدعبل يهجو المطلب بن عبد الله ويعيره بغلامين علي وعمرو وكان يتهم بهما ( فأيرُ عليٍّ له آلة ... وفَقْحة عمرو له ربه ) ( فَطوراً تصادفه جَعبةٌ ... وطوراً تصادفه حربه ) وأنشدني ابن عمار عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ لدعبل يمدح المطلب بن عبد الله بن مالك وفيه غناء صوت ( زَمَنِي بمطَّلب سُقِيتَ زماناً ... ما كنْتَ إلا روضة وجِنانا ) ( كُلُ الندى إلا نداكَ تكلُّفٌ ... لم أرضَ بعدك كائناً مَن كانا ) ( أصلحتَني بالبرّ بل أفسدتَني ... فتركتَني أتسخّط الإحسانا ) وقد أخبرني بخبره الأول الطويل مع المطلب الحسن بن علي عن أحمد بن محمد حدان عن أحمد بن يحيى العدوي أن سبب سخطه على المطلب أن رجلاً من العلويين كان قد تحرك بطنجة فكان يبث دعاته إلى مصر وخافه المطلب فوكل بالأبواب من يمنع الغرباء دخولها فلما جاء دعبل منع فأغلظ للذي منعه فقنعه بالسوط وحبسه فمضى رزين فأخبر المطلب فأمر بإطلاقه ودعا به فخلع عليه فقال له لا أرضى أو تقتل الموكل بالباب فقال له هذا لا يمكن لأنه قائد من قواد السلطان فغضب ثم أنشده الرجل الأبيات المذكورة فأجازه وحكى أن اسمه محمد بن الحجاج لا أحمد بن السراج وسائر الخبر مثله دعبل والمخزومي وكان سبب مناقضته أبا سعد المخزومي وما خرج إليه الأمر بينهما قول دعبل قصيدته التي هجا فيها قبائل نزار فحمي لذلك أبو سعد فهجاهم فأجابه أبو سعد ولجّ الهجاء بينهما وروي أنه نزل بقوم من بني مخزوم فلم يضيّفوه فهجاهم فأجابهم أبو سعد ولجّ الهجاء بينهما أخبرني عمي والحسن بن علي الخفاف قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن الأشعث قال حدثني دعبل أنه ورزيناً العروضي نزلا بقوم من بني مخزوم فلم يقروهما ولا أحسنوا ضيافتها فقال دعبل فقلت فيهم ( عِصابةٌ من بني مخزومَ بِتُّ بهم ... بحيث لا تطمع المِسحاة في الطين ) ثم قلت لرزين أجز فقال ( في مَضغ أعراضهم من خبزهم عِوَض ... بني النفاق وأبناء الملاعين ) قال ابن الأشعث فكان هذا أول الأسباب في مهاجاته لأبي سعد أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني العنزي قال حدثني علي بن عمرو الشيباني أن الذي هاج الهجاء بين أبي سعد و دعبل قصيدته القحطانية التي هجا فيها نزاراً فأجابه عنها أبو سعد ولج الهجاء بينهما أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال كان سبب وقوع الهجاء بين دعبل وأبي سعد قول دعبل في قصيدة يفخر فيها بخزاعة ويهجو نزاراً وهي التي يقول فيها ( أتانا طالباً وَعْرا ... فأعقبناه بالوَعر ) ( وتَرْناه فلم يَرض ... فأعقبناه بالوِتر ) فغضب أبو سعد وقال قصيدته التي يقول فيها لدعبل وهي مشهورة ( وبالكَرخ هوىً أبقى ... على الدهر من الدهر ) ( هوىً والحمد لله ... كفاني كُلفة العذر ) قال ثم التحم الهجاء بينهما بعد ذلك أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن هارون قال دخلت على أبي سعد الخزومي يوماً وهو يقول وأي شيء ينفعني أجود الشعر فلا يروى ويرذل فيروى ويفضحني برديئه ولا أفضحه بجيدي فقلت من تعني يا أبا سعد فقال من تراني أعني إلا من عليه لعنة الله دعبلاً فقلت فيه ( لَيْسَ لُبْس الطيالِس ... مِن لِباس الفوارسْ ) ( لاولا حَوْمَةُ الوغى ... كصُدور المجالس ) ( ضَرْبُ أوتار نَفْنف ... غيرُ ضرب القوانس ) ( وظُهور الجياد غير ... ظهور الطِنافس ) ( ليس مَن ضارسَ الحروب ... كمن لمْ يُضارس ) ( بِأبي غرسُ فِتية ... من كرام المغارس ) ( فتية من بني المُغيرة ... شمّ المعاطس ) ( يِطعمون السديف في ... كل شهباء دامس ) ( في جِفانٍ كأنها ... من جفان العرائس ) ( ثم يمشون في السّنَّور ... مشيَ العنابس ) ( ويخوضون باللواء ... دماءَ الأبالس ) ( نحن خير الأنامِ عند ... قياس المُقايس ) فوالله ما التفَت إليها في مصرنا هذا إلا علماء الشعر وقال هو فيّ ( يا أبا سعدٍ قَوْصَره ... زاني الأخت والمَرَه ) ( لو تراه مُحَنَّباً ... خلته عَقدَ قنطره ) ( أو ترى الأير في آسته ... قلت ساقٌ بمِقطره ) قال فوالله لقد رواه صبيان الكتاب ومارة الطريق والسفل أجتاز والسفل فما اجتاز بموضع إلا سمعته من سفلة يهذرون به فمنهم من يعرفني فيعيبني به ومنهم من لا يعرفني فأسمعه منه لسهولته على لسانه أخبرني محمد بن عمران الصيرفي ومحمد بن يحيى الصولي وعمي قالوا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن أبي عمرو الشيباني قال جاءني إسماعيل بن إبراهيم بن ضمرة الخزاعي فقال لي إني سألت دعبلا أن اقرأ عليه قصيدته التي يناقض بها الكميت ( أفيقي من مَلامك يا ظعينا ... كفاك اللومَ مرُّ الأربعينا ) فقال لي إسماعيل قال لي دعبل يا أبا الحسن فيها أخبار وغريب فليكن معك رجل يقرأها عليّ وأنت معه فيكون أهون علي منك فقلت له لقد اخترت صديقا لي يقال له علي فقال أمن العرب هو قلت نعم قال من أي العرب قلت من بني شيبان قال شيبان كندة فقلت بل شيبان ربيعة فقال لي ويحك أتأتيني برجل أسمعه ما يكره في قومه فقلت له إنه رجل يحتمل ويحب أن يسمع ماله وعليه فقال في مثل هذا رغبة فأتني به فصرنا إليه فلما لقيه قال قد أخبرني عنك أبو الحسن بما سررت به أن كنت رجلا من العرب تحب أن تمسع ما لك وعليك لكيلا تغبن فقرأنا عليه الشعر حتى انتهينا في القصيدة إلى قوله ( مِنَ أي ثَنيّة طلعَت قريش ... وكانوا معشراً متنّبطينا ) فقال دعبل معاذ الله أن يكون هذا البيت لي ثم قال لعنه الله وانتقم منه يعني أبا سعد المخزومي دسّه والله في هذا الشعر وضرب بيده إلى سكين كانت معه فجرد البيت بحدها ثم قال لنا أحدثكم عنه بحديث طريف جاءني يوماً ببغداد أشد ما كان بيني وبينه من الهجاء وبين يدي صحيفة ودواة وأنا أهجوه فيها إذ دخل علي غلام لي فقال أبو سعد المخزومي بالباب فقلت له كذبت فقال وهو عارف بأبي سعد بلى والله يا مولاي فأمرته برفع الدواة والجلد الذي كان بين يدي وأذنت له في الدخول وجعلت أحمد الله في نفسي فأقول الحمد لله الذي أصلح بيني وبينه من هتك الأعراض وذكر القبيح وكان الابتداء منه فقمت إليه وسلمت عليه وهو ضاحك مسرور فأبديت له مثل ذلك من السرور به ثم قلت أصبحت والله حاسدا لك قال على ماذا يا أبا علي فقلت بسبقك إياي إلى الفضل فقال لي أنا اليوم في دعوى عندك فقلت قل ما أحببت فقال إن كان عندك ما نأكله وإلا ففي منزلي شيء معد فسألت الغلمان فقالوا عندنا قدر أمسية فقال غاية واتفاق جيد فهل عندك شيء نشربه وإلا وجهت إلى منزلي ففيه شراب معد فقلت له عندنا ما نشرب فطرح ثيابه ورد دابته وقال أحب ألا يكون معنا غيرنا فتغدينا وشربنا فلما أن أخذ الشراب منا قال مر غلاميك يغنياني فأمرت الغلامين فغنياه فطرب وفرح واستحسن الغناء حتى سرني وأطربني معه ثم قال حاجتي إليك يا أبا علي أن تأمرهما بأن يغنياني في هجائك لي وكان الغلامان لكثرة ما يسمعانه مني في هجائي قد حفظا منه أشياء ولحناها فقلت له سبحان الله يا أبا سعد قد طفئت النائرة وذهبت العداوة بيننا وانقطع الشر فما حاجتك إلى هذا فقال لي سألتك بالله إلا فعلت فليس يشق ذلك علي ولو كرهته لما سألته فقلت في نفسي أترى أبا سعد يتماجن علي يا غلمان غنوه بما يريد فقال غنوه ( يا أبا سعد قوْصَرَة ... زاني الأخت والمره ) فغنوه وهو يحرك رأسه وكتفيه ويطرب ويصفق فما زلنا يومنا مسرورين فلما ثمل ودعني وقام فانصرف وأمرت غلماني فخرجوا معه إلى الباب فإذا غلام منهم قد انصرف إلي بقطعة قرطاس وقال دفعها إلي أبو سعد المخزومي وأمرني أن أدفعها إليك فقرأتها فإذا فيها ( لِدعبلٍ مِنّهَ يَمنُّ بها ... فلست حتى الممات أنساها ) ( أدخلَنا بيته فأكرمنا ... ودَس بامرأته فنكناها ) فقال ويلي على ابن الفاعلة هاتوا جلداً وداوة قال فردوهما علي فعدت غلى هجائه ولقيته بعد يومين أو ثلاثة فما سلم علي ولا سلمت عليه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا علي بن عبد الله بن سعد أنه سمع دعبلاً يحدث بخيره هذا مع أبي سعد فذكر نحو ما ذكره العنزي أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال رأيت دعبلاً قد لقي أبا سعد في الرصافة وعليهما السواد وسيفاهما على أكتافهما فشد دعبل على أبي سعد فقنعه فركض أبو سعد بين يديه هارباً وركض دعبل في أثره وهو يهرب منه حتى غاب قال وكنت أرى ابا سعد يجلس مع بني مخزوم في دار المأمون فتظلموا منه إلى المأمون وذكروا أنهم لا يعرفون له فيهم نسباً فأمرهم المأمون بنفيه فانتفوا منه وكتبوا بذلك كتاباً فقال دعبل فيه يذكر ذلك من قصيدة طويلة ( غير أن الصِّيد منهمْ ... قنّعوه بخَزايه ) ( كتبوا الصّك عليه ... فَهْو بين الناس آيه ) ( فإذا أقبل يوماً ... قيل قد جاء النُّفَايه ) وقال فيه أيضاً ( همُ كتبوا الصّك الذي قد علمته ... عليك وشنّوا فوق هامتك القفدا ) قال وكان إذا قيل له بعد ذلك شيء في نسبه قال أنا عبد ابن عبد قال ونظر دعبل فرأى على أبي سعد قباء مروياً مصبوغاً بسواد فقال هذا دعي على دعي أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن مروان مولى الهادي قال لقيني أبو سعد المخزومي على ظهر الطريق فقال لي يا أحمد أنا أدرس شكايتك إلى أبيك قال فقلت ولم أبقاك الله قال فما فعل دفتر البزاريات قلت هو ذا أجيئك به فلما صليت الظهر جئت بالدفتر أريده فمررت بدعبل فدققت بابه فسمعته يقول لجاريه له أنظري من بالباب فقالت له أحمد بن مروان فقال افتحي له فلما دخلت قلت له أيش هو دراهم من الأسماء قال سميتم جواريكم دنانير فسمينا جوارينا بدراهم ثم قال ما هذا معك قلت دفتر فيه شعر أبي سعد في البزاريات فأخذه فنظر فيه وابنه علي بن دعبل بن علي معه فلما بلغ من نظره إلى شعره الذي يقول فيه ( مالت إلى قلبك أحزانه ... فهو مُجِمُّ الهم خزّانه ) قال له ابنه علي فما كان عليه يا أبت لو قال في شعره ( عادت إلى قلبك أحزانه ... ) فقال دعبل صدقت والله يا بني أنت والله أشعر منه ثم قال إنه أملى علي دعبل إملاء ( ما كنت أحسب أنّ الدهر يُمهلني ... حتى أرى أحداً يهجوه لا أحدُ ) ( إني لأعجب ممن في حقيبته ... من المنِيِّ بُحورٌ كيف لا يلد ) ( فإن سمِعت به بعْتُ القنا عبثاً ... فقد أراد قَناً ليست له عُقَدُ ) ثم صرت إلى أبي سعد فلما رآني من بعيد قال يا أحمد من أين أقبلت قلت من عند دعبل قال وما دعبلت عنده فأنشدته شعر دعبل فيه وأخبرته بما قال ابنه في شعره فقال صدق والله في أي سن هو قلت قد بلغ فدعا بدواة وقرطاس وقال اكتب فكتبت ( لا والذي خلق الصهباء من ذهب ... والماء من فِضة لا ساد مَن بَخِلا ) ( يقول لي دِعِبل في بطنه حبل ... ولو أصابت ثيابي دِعِبل حَبِلا ) ( ودِعبل رجل ما شئتَ من رجل ... لو كان أسفلُه من خلقه رجُلا ) قال ثم هجاني أبو سعد فقال ( عدُوُّ راح في ثوبَيْ صديق ... شريك في الصَبوح وفي الغَبوق ) ( له وجهان ظاهره ابنُ عمٍ ... وباطنه ابنُ زانية عتيق ) ( يَسُرُّك معلِناً ويَسُوءُ سرَّاً ... كذاك يكون أبناء الطريق ) أخبرني عمي والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا أبو ناجية شيخ من ولد زهير بن أبي سلمى قال حضرت بني مخزوم وهم ببغداد وقد اجتمعوا على أبي سعد لما لجّ الهجاء بينه وبين دعبل وقد خافوا لسان دعبل وأن يقطعهم ويهجوهم هجاء يعمهم جميعاً فكتبوا عليه كتاباً وأشهدوا أنه ليس منهم فحدثني غير واحد أنه أتى حينئذٍ بخاتمه النقاش فنقش عليه أبو سعد العبد ابن العبد بريء من بني مخزوم تهاونا بما فعلوه أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال كان أبو سعد المخزومي قد كان يستعلي على دعبل في أول أمره وكان يدخل إلى المأمون فينشده هجاء دعبل وللخلفاء ويحرضه عليه وينشده جوابه فلم يجد عند المأمون ما أراده فيه وكان يقول الحق في يدك والباطل في يد غيرك والقول لك ممكن فقل ما يكذبه فأما القتل فإني لست أستعمله فيمن عظم ذنبه أفأستعمله في شاعر فاعترض بينهما ابن أبي الشيص فقال يهجو أبا سعد ( أنا بشّرت أبا سعد ... فأعطاني البشارَهْ ) ( بأبٍ صِيدَ له بالأمس ... في دار الإماره ) ( فَهْو يوماً من تميم ... وهو يوماً من فَزاره ) ( كلَّ يوم لأبي سعد ... على الأنساب غاره ) ( خزَمت مخزوم فاه ... فادعاها بالإشارة ) قال وقال فيه ابن أبي الشيص أيضاً ( أبا سعد بحق الخمس ... والمفروضِ من صومكْ ) ( أقلْتَ الحق في النسبة ... أمن تحلُم في نومك ) ( أبنْ لي أيّها المَعْرور ... مِمّن أنت في قومك ) ( فولّى قائلاً لو شئتَ ... قد أقصرْتَ من لومك ) ( ودعني أك من شئتُ ... إذا لم أك من قومك ) وقال فيه دعبل ( إن أبا سعد فتى شاعرُ ... يٌعرف بالكُنية لا الوالدِ ) ( يَنْشُد في حيّ معدٍّ أباً ... ضلَّ عن المنشود والناشد ) ( فرحمةُ الله على مسلم ... أرشد مفقوداً إلى فاقد ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن عثمان الطبري قال سمعت دعبل بن علي يقول لما هاجيت أبا سعد أخذت معي جوزاً ودعوت الصبيان فأعطيتهم منه وقلت لهم صيحوا به قائلين ( يا أبا سعد قَوْصَره ... زانيَ الأخت والمَرهْ ) فصاحوا به فغلبته أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن مروان قال حدثني أبو سعد المخزومي واسمه عيسى بن خالد بن الوليد قال أنشدت المأمون قصيدتي الدالية التي رددت فيها على دعبل قوله ( ويسومني المأمون خطةَ عاجز ... أوَ ما رأى بالأمس رأس محمد ) وأول قصيدتي ( أخذ المشيبُ من الشباب الأغيد ... والنائبات من الأنام بمرصَد ) ثم قلت له يا أمير المؤمنين ائذن لي أن أجيئك برأسه قال لا هذا رجل فخر علينا فافخر عليه كما فخر علينا فأما قتله بلا حجة فلا أخبرني عمي والحسن بن علي عن أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أبو السري عمرو الشيباني قال نظر دعبل يوماً في المرآة فجعل يضحك وكانت في عنفقته سلعة فقلت له من أي شيء تضحك قال نظرت إلى وجهي في المرآة ورأيت هذه السلعة التي في عنفقتي فذكرت قول الفاجر أبي سعد ( وسَلْعَة سَوء به سَلْعَةٌ ... ظلمتُ أباه فلم ينتصر ) أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال قال عبد الله بن الحسن بن أحمد مولى عمر بن عبد العزيز قال حدثنا محمد بن علي الطالبي قال لقيت دعبل بن علي فحدثني أن أبا عمرو الشيباني سأله ما هو دعبل فقلت له لا أدري فقال إنها الناقة المسنة قال محمد بن علي الطالبي ثم تحدثنا ساعة فقلت أما ترى لأبي سعد يا أبا علي وانهماكه في هجائك فقال دعبل لكني لم أقل فيه إلا أبياتاً سخيفة يلعب بها الصبيان والإماء وأنشدني قوله فيه ( يا أبا سعد قَوْصَره ... زاني الأخت والمره ) ( لو تراه محنّباً ... خلته عقد قنطره ) ( أو ترى الأير في استه ... قلتَ ساقٌ بمِقطَره ) قال محمد فقلت لدعبل دع عنك ذا فقد الله أوجعك الرجل فإن أجبته بجواب مثله انتصفت وإلا فإن هذا اللغو الذي فخرت به يسقط وتفضح آخر الدهر قال ثم أنشدته قول أبي سعد فيه ( لم يبقَ لي لذةٌ من طِيَّةٍ بدَدِ ... ولا المنازلِ من خَيْف ولا سَنَد ) ( أبَعد خمسين عادت جاهليتُه ... يا ليت ما عاد منها اليومَ لم يَعد ) ( وما تُريد عيونُ العِين من رجل ... كرّ الجديدان في أيامه الجُدُد ) ( أبدى سرائرَه وَجْداً بغانية ... ولو أطاع مشيبَ الرأس لم يجِد ) ( واستمطرتُ عبراتِ العَين منزلةٌ ... لم يبقَ منها سوى الآريِّ والوتد ) ( وما بكاؤك داراً لا أنيس بها ... إلا الخواضبُ من خيطانها الرُّبُدِ ) ( لدِعبل وطَرٌ في كل فاحشة ... لَوْ بادَ لؤم بني قحطانَ لم يَبِد ) ( ولي قوافٍ إذا أنزلتُها بلداً ... طارتْ بهن شياطيني إلى بلَد ) ( لم ينجُ من خيرِها أو شرّها أحدُ ... فاحذَر شآبيبَها إن كنت مِن أحد ) ( إنّ الطِّرمَّاح نالَته صواعقُها ... في ظلمة القبر بين الهام والصُّرَد ) ( وأنت أولى بها إذ كنت وارثه ... فابعُد وجهدُك أن تنجو على البُعد ) ( تهجو نِزاراً وترعى في أرومتِها ... وتنتَمي في أناس حاكةِ البُرُد ) ( إني إذا رجُل دبَّت عقاربه ... سقيتُه سم حيّاتي فلم يَعُدِ ) ( زدني أزدك هواناً أنت موضعه ... ومَن يزيد إذا ما نحن لم نَزد ) ( لو كنتَ متئداً فيما تُلفقه ... لكان حظك منه حظ متئد ) ( أو كنتَ معتمِداً منه على ثقة ... من المكارم قلنا طَوْل معتمد ) ( لقد تقلدْتَ أمراً لست نائله ... بلا ولِيّ ولا مولى ولا عضُد ) ( وقد رميتَ بياض الشمس تحسبه ... بياض بطنِك من لُؤم ومن نكَد ) ( لا تُوعدنّي بقوم أنت ناصرهم ... واقعد فإنك نَوْمانٌ من القَعَد ) ( لله معتصم بالله طاعتُه ... قضية من قضايا الواحد الصمد ) قال فلما أنشدتها دعبلا قال أنا أشتمه وهو يشتمني فما إدخال المعتصم بيننا وشق ذلك عليه وخافه ثم قال نقيض هذه القصيدة ( منازل الحيّ من غُمدان فالنَّضَدِ ... ) وهي طويلة مشهورة في شعره هكذا قال العنزي في الخبر ولم يأت بها حدثنا محمد قال حدثنا العنزي قال حدثني عبد الله بن الحسين عن محمد بن علي الطالبي قال عبر دعبل الجسر ببغداد وأبو سعد واقف على دابته عند الجسر وعليه ثوب صوف مشبه بالخز مصبوغ فضرب دعبل بيده على فخده وقال دعيّ على دعي حديث عن شبه بين عبد الله بن طاهر والضبيّ عن نسبه أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني صهر المبرد قال حدثني محمد بن موسى الضبي راوية العتابي وكان نديما لعبد الله بن طاهر قال بينما هو ذات ليلة يذاكرنا بالأدب وأهله وشعراء الجاهلية والإسلام إذ بلغ إلى ذكر المحدثين حتى انتهى إلى ذكر دعبل فقال ويحك يا ضبيّ إني أريد أن أحدثك بشيء على أن تستره طول حياتي فقلت له أصلحك الله أنا عندك في موضع ظنه قال لا ولكن أطيب لنفسي أن توثق لي الأيمان لأركن إليها ويسكن قلبي عندها فأحدثك حينئذٍ قال قلت إن كنت عند الأمير في هذه الحال فلا حاجة به إلى إفشاء سره إلي واستعفيته مراراً فلم يعفني فاستحييت من مراجعته وقلت فلير الأمير رأيه فقال لي يا ضبي قل والله قلت فأمرها علي غموسا مؤكدة بالبيعة والطلاق وكل ما يحلف به مسلم ثم قال أشعرت أن دعبلا مدخول النسب وأمسك فقلت أعز الله الأمير أفي هذا أخذت العهود والمواثيق ومغلظ الأيمان قال إي والله فقلت ولم قال لأني رجل لي في نفسي حاجة ودعبل رجل قد حمل نفسه على المهالك وحمل جذعه على عنقه فليس يجد من يصلبه عليه وأخاف إن بلغه أن يقول فيّ ما يبقى عليّ عاره على الدهر وقصاراي إن ظفرت به وأسلمته اليمن وما أراها تفعل لأنه اليوم لسانها وشاعرها والذابُّ عنها والمحامي لها والمرامي دونها فأضربه مائة سوط وأثقله حديداً وأصيره في مطبق باب الشام وليس في ذلك عوض مما سار فيّ من الهجاء وفي عقبي من بعدي فقلت ما أراه يفعل ويقدم عليك فقال لي يا عاجز أهون عليه مما لم يكن أتراه أقدم على الرشيد والأمين والمأمون وعلى أبي ولا يقدم علي فقلت فإذا كان الأمر كذا فقد وفق الأمير فيما أخذه عليّ قال وكان دعبل صديقا لي فقلت هذا شيء قد عرفته فمن أين قال الأمير إنه مدخول النسب وهو في البيت الرفيع من خزاعة ولا يتقدمهم غير بني أهبان مكلّم الذئب فقال أسمع أنه كان أيام ترعرع خاملا لا يؤبه له وكان ينام هو ومسلم بن الوليد في إزار واحد لا يملكان غيره ومسلم أستاذه وهو غلام أمرد يخدمه ودعبل حينئذٍ لا يقول شعراً يفكر فيه حتى قال ( لا تعجبني يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى ) وغنى فيه بعض المغنين وشاع فغني به بين يدي الرشيد إما ابن جامع أو ابن المكي فطرب الرشيد وسأل عن قائل الشعر فقيل له دعبل بن علي وهو غلام نشأ من خزاعة فأمر بإحضار عشرة آلاف درهم وخِلْعة من ثيابه فأحضر ذلك فدفعه مع مركب من مراكبه إلى خادم من خاصته وقال له اذهب بهذا إلى خزاعة فاسأل عن دعبل بن علي فإذا دللت عليه فأعطه هذا وقل له ليحضر إن شاء وإن لم يجب ذلك فدعه وأمر للمغني بجائزة فسار الغلام إلى دعبل وأعطاه الجائزة وأشار عليه بالمسير إليه فلما دخل عليه وسلم أمره بالجلوس فجلس واستنشده الشعر فأنشده إياه فاستحسنه وأمره بملازمته وأجرى عليه رزقا سنيا فكان أول من حرضه على قول الشعر فوالله ما بلغه أن الرشيد مات حتى كافأه على ما فعله من العطاء السني والغنى بعد الفقر والرفعة بعد الخمول بأقبح مكافأة وقال فيه من قصيدة مدح بها أهل البيت عليهم السلام وهجا الرشيد ( وليس حيّ من الأحياء نعلَمه ... من ذي يمانٍ ومن بَكرٍ ومن مُضر ) ( إلا وهمْ شركاءُ في دمائهم ... كما تشارَك أيسار عَلَى جُزر ) ( قَتلٌ وأسر وتحريق ومنهبة ... فعل الغُزاة بأرض الروم والخَزَر ) ( أرى أمية معذورين إن قَتلوا ... ولا أرى لبني العباس من عذُر ) ( اربع بطُوس عَلَى القبر الزكي إذا ... ما كنت تربَع من دين عَلَى وطَر ) ( قبران في طُوسَ خيرُ الناس كلِّهم ... وقبرُ شرِّهم هذا من العِبَر ) ( ما ينفع الرّجسَ من قُرب الزكيّ ولا ... عَلَى الزكيّ بقُرب الرجس مِن ضرر ) ( هيهات كلّ امرئ رهن بما كسبت ... له يداه فخذ ما شئت أو فذَر ) يعني قبر الرشيد وقبر الرضا عليه السلام فهذه واحدة وأما الثانية فإن المأمون لم يزَل يطلبه وهو طائر على وجهَه حتى دسّ إليه قوله ( عِلْم وتحكيمٌ وشَيْبُ مَفارق ... طمَّسْنَ رَيعان الشباب الرائق ) ( وإمارة في دولة ميمونة ... كانت على اللذات أشغبَ عائق ) ( أنّى يكون وليس ذاك بكائن ... يَرِث الخلافةَ فاسق عن فاسق ) ( إن كان إبراهيم مصطلعاً بها ... فَلَتصْلُحَنْ من بعده لمُخارق ) فلما قرأها المأمون ضحك وقال قد صفحت عن كل ما هجانا به إذ قرن إبراهيم بمخارق في الخلافة وولاه عهده وكتب إلى أبي أن يكاتبه بالأمان ويحمل إليه مالاً وإن شاء أن يقيم عنده أو يصير إلى حيث شاء فليفعل فكتب إلي أبي بذلك وكان واثقا به فصار إليه فحمله وخلع عليه وأجازه وأعطاه المال وأشار عليه بقصد المأمون ففعل فلما دخل وسلّم عليه تبسم في وجهه ثم قال أنشدني ( مدارسُ آيات خلَتْ من تلاوة ... ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرَصات ) فجزع فقال له لك الأمان فلا تخف وقد رويتها ولكني أحب سماعها من فيك فأنشده إياها إلى آخرها والمأمون يبكي حتى أخضل لحيته بدمعه فوالله ما شعرنا به إلا وقد شاعت له أبيات يهجو بها المأمون بعد إحسانه إليه وأنسه به حتى كان أول داخل وآخر خارج من عنده أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو بكر العامري قال استدعى بعض بني هاشم دعبل وهو يتولى للمعتصم ناحية من نواحي الشام فقصده إليها فلم يقع منه بحيث ظن وجفاه فكتب إليه دعبل ( دَلّيتَني بغُرور وعدك في ... متلاطمٍ من حَوْمة الغرقِ ) ( حتى إذا شمِت العدوُّ وقد ... شُهر انتقاصُك شهرةَ البَلَق ) ( أنشأتَ تحلف أنّ وُدَّك لي ... صافٍ وحبلك غيرُ منحذق ) ( وحسبتَني فَقْعا بِقَرْقَرة ... فوطئتَني وَطئاً على حنَق ) ( ونصبتَني عَلماً على غَرَض ... تَرْمِينِيَ الأعداءُ بالحدق ) ( وظننتَ أرض الله ضيِّقة ... عني وأرضُ الله لم تضق ) ( من غير ما جُرمٍ سوى ثقة ... منّي بوعدك حين قلتَ ثِق ) ( ومودةٍ تحنو عليك بها ... نفْسي بلا منّ ولا ملق ) ( فمتى سألتك حاجةً أبداُ ... فاشدُد بها قُفْلاً على غلق ) ( وقفِ الإِخاء على شفا جُرُف ... هارٍ فبِعْه بيعة الخَلق ) ( وأعدّ لي قُفلاً وجامعة ... فاشدد يَدَيّ بها إلى عنقي ) ( أُعفيك مما لا تحبُّ بها ... واسدُد عليّ مذاهب الأفق ) ( ما أطولَ الدنيا وأعرضها ... وأدلّني بمسالك الطرق ) يهرب بعد اتهامه بشتم صفية بنت عبد المطلب أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبي قال قدم دعبل الدينور فجرى بينه وبين رجل من ولد الزبير بن العوام كلام وعربدة على النبيذ فاستعدى عليه عمرو بن حميد القاضي وقال هذا شتم صفية بنت عبد المطلب واجتمع عليه الغوغاء فهرب دعبل وبعث القاضي إلى دار دعبل فوكل بها وختم بابه فوجه إليه برقعة فيها ما رأيت قط أجهل منك إلا من ولاك فإنه أهل يقضي في العربدة على النبيذ ويحكم على خصم غائب ويقبل عقلك أني رافضي شتم صفية بنت عبد المطلب سخنت عينك أفمن دين الرافضة شتم صفية قال أبي فسألني الزبيري القاضي عن هذا الحديث فحدثته فقال صدق والله دعبل في قوله لو كنت مكانه لوصلته وبررته أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن سهل القارىء قال حدثني دعبل قال كتبت إلى أبي نهشل بن حميد وقد كان نسك وترك شرب النبيذ ولزم دار الحرم ( إنما العَيش في منادمة الإخوان لا في الجلوس عند الكعاب ) ( وبِصِرْفٍ كأنها ألُسن البرق ... إذا استعرَضَتْ رقيقَ السحاب ) ( إن تكونوا تركتمُ لذة العيش ... حِذَار العِقاب يومَ العقاب ) ( فدعُوني وما ألذُ وأهوَى ... وادفعو بي في نحر يوم الحساب ) قال فكان بعد ذلك يدعوني وسائر ندمائي فنشرب بين يديه ويستمع الغناء ويقتصر على الأنس والحديث أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا إبراهيم بن المدبر قال كنت أنا وإبراهيم بن العباس رفيقين نتكسب بالشعر قال و أنشدني قصيدة دعبل في المطلب بن عبد الله ( أمطّلِبٌ أنت مستعذِب ... سمامَ الأفاعي ومستقبِلُ ) قال وقال لي دعبل نصفها لإبراهيم بن العباس كنت أقول مصراعاً فيجيزه ويقول هو مصراعاُ فأجيزه قال ابن مهرويه وحدثني إبراهيم بن المدبر أن دعبلاً قصد مالك بن طوق ومدحه فلم يرض ثوابه فخرج عنه وقال فيه ( إن ابنَ طَوقٍ وبنى تغلِب ... لو قُتلوا أو جُرحوا قُصْره ) ( لم يأخذوا من دِية درهماً ... يوماً ولا من أرْشِهمْ بعره ) ( دِماؤهم ليس لها طالب ... مَطْلولةٌ مثلُ دم العُذْره ) ( وجوههم بيض وأحسابهم ... سود وفي آذانهم صُفره ) حدثنا محمد بن عمران الصيرفي قال حدثني العنزي قال حدثنا عبد الله بن الحسن قال حدثني عمر بن عبد الله أبو حفص النحوي مؤدب آل طاهر قال دخل دعبل بن علي على عبد الله بن طاهر فأنشده وهو ببغداد ( جئتُ بلا حُرمة ولا سبب ... إليك إلا بحرمة الأدب ) ( فاقض ذِمامي فإنني رجل ... غيرُ ملحّ عليك في الطلب ) قال فانتعل عبد الله ودخل إلى الحرم ووجه إليه بصرة فيها ألف درهم وكتب إليه ( أعجلتَنا فأتاك عاجلُ بِرّنا ... ولو انتظرْتَ كثيره لم يَقلِلِ ) ( فخُذ القليل وكن كأنك لم تسلْ ... ونكونُ نحن كأننا لم نفعل ) أخبرني أحمد بن عاصم الحلواني قال حدثنا أبو بكر المدائني قال حدثنا أبو طالب الجعفري ومحمد بن أمية الشاعر جميعاً قالا هجا دعبل بن علي مالك بن طوق فقال ( سأْلتُ عنكمْ يا بني مالكٍ ... في نازح الأرضين والدّانيه ) ( طُرّاً فلم تُعرف لكم نِسبة ... حتى إذا قلتُ بني الزانية ) ( قالوا فدَع داراً على يَمْنةٍ ... وتلك ها دارُهمُ ثانيه ) ( لا حدَّ أخشاه على ... من قال أمّك زانيه ) وقال أيضاً في ( يا زانيَ ابنَ الزانِ إبن ... الزانِ إبنَ الزانية ) ( أنتَ المردَّد في الزناء ... على السنينَ الخاليه ) ( ومردَّد فيه على ... كرٍّ السنينَ الباقيه ) وبلغت الأبيات مالكاً فطلبه فهرب فأتى البصرة وعليها إسحاق بن العباس بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان بلغه هجاء دعبل وابن أبي عيينة نزاراً فأما ابن أبي عيينة فإنه هرب منه فلم يظهر بالبصرة طول أيامه وأما دعبل فإنه حين دخل البصرة بعث فقبض عليه ودعا بالنطع والسيف ليضرب عنقه فجحد القصيدة وحلف بالطلاق على جحدها وبكل يمين تبرىء من الدم أنه لم يقلها وأن عدواً له قالها إما أبو سعد المخزومي أو غيره ونسبها إليه ليغري بدمه وجعل يتضرع إليه ويقبل الأرض ويبكي بين يديه فرق له فقال أما إذا أعقيتك من القتل فلا بد من أن أشهرك ثم دعا بالعصا فضربه حتى سلح وأمر به فألقي على قفاه وفتح فمه فرد سلحه فيه والمقارع تأخذ رجليه وهو يحلف ألا يكف عنه حتى يستوفيه ويبلعه أو يقتله فما رفعت عنه حتى بلع سلحه كله ثم خلاه فهرب إلى الأهواز وبعث مالك بن طوق رجلاً حصيفاً مقداماً وأعطاه سما وأمره أن يغتاله كيف شاء وأعطاه على ذلك عشرة آلاف درهم لم يزل يطلبه حتى وجده في قرية من نواحي السوس فاغتاله في وقت من الأوقات بعد صلاة العتمة فضرب ظهر قدمه بعكاز لها زج مسموم فمات من غد ودفن بتلك القرية وقيل بل حمل إلى السوس فدفن فيها وأمر إسحاق بن العباس شاعراً يقال له الحسن بن زيد ويكنى أبا الذلفاء فنقض قصيدتي دعبل وابن أبي عيينة بقصيدة أولها ( أما تَنفك متبولاً حزيناً ... تحبّ البيض تَعصِي العاذلينا ) يهجو بها قبائل اليمن ويذكر مثالبهم وأمره بتفسير ما نظمه وذكر الأيام والأحوال ففعل ذلك وسماها الدامغة وهي إلى اليوم موجودة صوت ( أتهجر مَن تُحب بغير جرم ... أسأتَ إذاً وأنت له ظلوم ) ( تؤرقني الهموم وأنت خِلْوٌ ... لعمرُك ما تؤرقك الهموم ) الشعر لجعيفران الموسوس أنشدنيه عمي عن عبد الله بن عثمان الكاتب عن أبيه عن جده وأنشد فيه جحظة عن خالد الكاتب له وأنشدنيه ابن الوشاء عن بعض شيوخه عن سلمة النحوي له ووجدته في بعض الكتب منسوباً إلى أم الضحاك المحاربية والقول الأول أصح والغناء لابن أبي قباحة ثاني ثقيل بالوسطى في مجرى البنصر وفي أبيات أخر من شعر جعيفران غناء فإن لم يصح هذا له فالغناء له في أشعاره الأخر صحيح منها ( ما يفعلُ المرء فهو أهلُه ... كلُّ امرئٍ يشبهه فعلُه ) ( ولا ترى أعجز من عاجز ... سكّتنا عن ذمّه بِذلُه ) الشعر لجعيفران والغناء لمتيم ومما وجدته من الشعر المنسوب إليه في جامعه وفيه له غناء ( قلبي بِصاحبة الشُّنوف مُعَلَّقُ ... وتفِرُّ صاحبة الشنوف وألَحق ) أخبار جعيفران ونسبه هو جعيفران بن علي بن أصفر بن السريّ بن عبد الرحمن الأبناوي من ساكني سرّ من رأى ومولده ومنشؤه ببغداد وكان أبوه من أبناء الجند الخراسانية وكان يتشيع ويكثر لقاء أبي الحسن علي بن موسى بن جعفر أخبرني بذلك أبو الحسن علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب عن أبيه وأهله وكان جعيفران أديباً شاعراً مطبوعاً وغلبت عليه المرة السوداء فاختلط وبطل في أكثر أوقاته ومعظم أحواله ثم كان إذا أفاق ثاب إليه عقله وطبعه فقال الشعر الجيد وكان أهله يزعمون أنه من العجم ولد أذين فأخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن مهرويه قال حدثني علي بن سليمان النوفلي قال حدثني صالح بن عطية قال كان لجعيفران الموسوس قبل أن يختلط عقله أب يقال له علي بن أصفر وكان دهقان الكرخ ببغداد وكان يتشيع فظهر على ابنه جعيفران أنه خالفه إلى جارية له سرية فطرده عن داره وحجّ فشكا ذلك إلى موسى بن جعفر فقال له موسى إن كنت صادقا عليه فليس يموت حتى يفقد عقله وإن كنت قد تحققت ذلك عليه فلا تساكنه في منزلك ولا تطعمه شيئاً من مالك في حياتك وأخرجه عن ميراثك بعد وفاتك فقدم فطرده وأخرجه من منزله وسأله الفقهاءعن حيلة يشهد بها في ماله حتى يخرجه عن ميراثه فدلّوه على السبيل إلى ذلك فأشهد به وأوصى إلى رجل فلما مات الرجل حاز ميراثه ومنع منه جعيفران فاستعدى عليه أبا يوسف القاضي فأحضر الوصيّ وسأل جعيفران البينة على نسبه وتركة أبيه فأقام على ذلك بينة عدة وأحضر الوصي بيّنة عدولا على الوصية يشهدون على أبيه بما كان احتال به عليه فلم ير أبو يوسف ذلك شيئاً وعزم على أن يورثه فدفعه الوصي عن ذلك مرات بعلل ثم عزم أبو يوسف على أن يسجل لجعيفران بالمال فقال له الوصي أيها القاضي أنا أدفع هذا بحجة واحدة بقيت عندي فأبى أبو يوسف أن يقبل منه وجعل جعيفران يحرّج عليه ويقول له قد ثبت عندك أمري فبأي شيء تدافعني وجعل الوصي يسأله أن يسمع منه منفردا فيأبى ويقول لا أسمع منك إلا بحضرة خصمك فقال له أجّلني إلى غد فأجله فجاء إلى منزله وكتب رقعة خبره فيها بحقيقة ما أفتى به موسى بن جعفر ودفعها إلى صديق لأبي يوسف فدفعها إليه فلما قرأها دعا الوصي واستحلفه أنه قد صدق في ذلك فحلف باليمين الغموس فقال له اغد عليّ غدا مع صاحبك فحضر وحضر جعيفران معه فحكم عليه أبو يوسف للوصي فلما أمضى الحكم عليه وسوس جعيفران واختلط منذ يومئذٍ وأخبرني بجمل أخباره المذكورة في هذا الكتاب علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب عن شيوخ له أخذها عنهم وإجازات وجدتها في الكتب ولم أر أخباره عند أحد أكثر مما وجدتها إلا ما أذكره عن غيره فأنسبه إليه قال علي بن العباس وذكر عبد الله بن عثمان الكاتب أن أباه عثمان بن محمد حدثه قال كنت يوماً برصافة مدينة السلام جالسا إذ جاءني جعيفران وهو مغضب فوقف علي وقال ( استوجب العالَم مِني القتلا ... ) فقلت ولم يا أبا الفضل فنظر إلي نظرة منكرة خفت منها وقال ( لمّا شَعرت فرأوني فحلا ... ) ثم سكت هنيهة وقال ( قالوا عليَّ كذِباً وبُطْلاً ... إنيَ مجنون فقَدتُ العقلا ) ( قالوا المحال كذِباً وجهلاً ... أقبحْ بهذا الفعل منهم فعلا ) ثم ذهب لينصرف فخفت أن يؤذيه الصبيان فقلت اصبر فديتك حتى أقوم معك فإنك مغضب وأكره أن تخرج على هذه الحال فرجع إلي وقال سبحان الله أتراني أنسبهم إلى الكذب والجهل وأستقبح فعلهم وتتخوف مني مكافأتهم ثم إنه ولّى وهو يقول ( لستُ بِراضٍ من جَهول جهلا ... ولا مجازيه بِفعل فِعلا ) ( لكنْ أرى الصفح لِنفسي فضلا ... مَن يُرِد الخيرَ يجدْه سهلا ) ثم مضى وقال علي بن العباس وقال عثمان بن محمد قال أبي كنت أشرف مرة من سطح لي على جعيفران وهو في دارٍ وحده وقد اعتلّ وتحركت عليه السوداء فهو يدور في الدار طول ليلته ويقول ( طاف به طَيف من الوسواسِ ... نَفّر عنه لَذَّةَ النُّعاسِ ) ( فما يُرَى يأنس بالأناس ... ولا يلَذّ عِشْرة الجُلاّس ) ( فهو غريب بين هذا الناس ... ) حتى أصبح وهو يرددها ثم سقط كأنه بقلة ذابلة قال علي وحدثني علي بن رستم النحوي قال حدثني سلمة بن محارب قال مررت ببغداد فرأيت قوما مجتمعين على رجل فقلت ما هذا فقالوا جعيفران المجنون فقلت قل بيتاً بنصف درهم قال هاته فأعطيته فقال ( لجَّ ذا الهمُّ واعتلَج ... كلّ همّ إلى فرج ) ثم قال زد إن شئت حتى أزيدك قال علي وحدثني عبد الله بن عثمان عن أبيه قال غاب عنا جعيفران أياماً ثم جاءنا والصبيان يشدون خلفه وهو عريان وهم يصيحون به يا جعيفران يا خرا في الدار فلما بلغ إلي وقف وتفرقوا عنه فقال يا أبا عبد الله ( رأيتُ الناس يدعوني ... بمجنون على حالي ) ( وما بي اليومَ من جِنٍّ ... ولا وسواسِ بَلبال ) ( ولكنْ قولُهم هذا ... لإفلاسي وإقلالي ) ( ولو كنت أخا وَفْرٍ ... رَخيّاً ناعمَ البال ) ( رأوني حسن العقل ... أحُلّ المنزل العالي ) ( وما ذاك على خُبرٍ ... ولكن هيبةُ المال ) قال فأدخلته منزلي فأكل وسقيته أقداحاً ثم قلت له تقدر على أن تغير القافية فقال نعم ثم قال بديهة غير مفكر ولا متوقف ( رأيتُ الناس يرمونِيَ ... أحياناً بوِسواسِ ) ( ومَن يَضبِط يا صاح ... مقالَ الناس في الناس ) ( فدَعْ ما قاله الناس ... ونازع صفوة الكاس ) ( فتى حُراً صحيح الوُدّذ ... برٍّ وإيناس ) ( فإن الخلْق مَغْرُور ... بأمثالي وأجناسي ) ( ولو كنتُ أخا مال ... أتَوني بين جُلاّسي ) ) ( يُحِبوني ويَحْبوني ... على العينين والراس ) ( ويدعوني عزيزاً غير ... أنّ الذل إفلاسي ) ثم قام يبول فقال بعض من حضر أي شيء معنى عشرتنا هذا المجنون العريان والله ما نأمنه وهو صاح فكيف إذا سكر وفطن جعيفران للمعنى فخرج إلينا وهو يقول ( وندامَى أكلوني ... إذ تغيّبْتُ قليلا ) ( زعموا أنِّي مجنونٌ ... أرى العُرْي جميلا ) ( كيف لا أعرَى وما أُبصر ... في الناس مثيلا ) إن يكن قد ساءكم قُربي ... فخلُّوا لي سبيلا ) ( وأتمّوا يومكم ... سرّكم الله طويلا ) قال فرققنا له واعتذرنا إليه وقلنا له والله ما نلتذ إلا بقربك وأتيناه بثوب فلبسه وأتممنا يومنا ذلك معه أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال تقدم جعيفران إلى أبي يوسف الأعور القاضي بسر من رأى في حكومة في شيء كان في يده من وقف له فدفعه عنه وقضى عليه فقال له أراني الله أيها القاضي عينيك سواء فأمسك عنه وأمر برده إلى داره فلما رجع أطعمه ووهب له دراهم ثم دعا به فقال له ماذا أردت بدعائك أردت أن يرد الله على بصري ما ذهب فقال له والله لئن كنت وهبت لي هذه الدراهم لأسخر منك لأنت المجنون لا أنا أخبرني كم من أعور رأيته عمي قال كثيراً قال فهل رأيت أعور صح قط قال لا قال فكيف توهمت عليّ الغلط فضحك وصرفه جعيفران يمدح أبا دلف أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثني أحمد بن القاسم البرتي قال حدثني علي بن يوسف قال كنت عند أبي دلف القاسم بن عيسى العجلي فاستأذن عليه حاجبه لجعيفران الموسوس فقال له أي شيء اصنع بموسوس قد قضينا حقوق العقلاء وبقي علينا حقوق المجانين فقلت له جعلت فداء الأمير موسوس أفضل كثير من العقلاء وإن له لسانا يتّقى وقولا مأثورا يبقى فالله الله أن تحجبه فليس عليك منه أذى ولا ثقل فأذن له فلما مثل بين يديه قال ( يا أكرمَ العالم موجودا ... ويا أعزّ الناسِ مفقودا ) ( لما سألتُ الناسَ عن واحدٍ ... أصبح في الأمة محموداً ) ( قالوا جميعاً إنه قاسمٌ ... أشبهَ آباءً له صِيدا ) ( لو عبدوا شيئاً سوى ربهم ... أصبحْت في الأمة معبودا ) ( لا زِلْتَ في نعْمى وفي غبطةٍ ... مكرَّماً في الناس معدوداً ) قال فأمر له بكسوة وبألف درهم فلما جاء بالدراهم أخذ منها عشرة وقال تأمر القهرمان أن يعطيني الباقي مفرقاً كلما جئت لئلا يضيع مني فقال للقهرمان أعطه المال وكلما جاءك فأعطه ما شاء حتى يفرّق الموت بيننا فبكى عند ذلك جعيفران وتنفس الصعداء وقال ( يموت هذا الذي أراه ... وكلُّ شيء له نفاد ) ( لو غيرَ ذي العرش دام شيء ... لدام ذا المُفْضِلُ الجواد ) ثم خرج فقال أبو دلف أنت كنت أعلم به مني قال وغير عني مدة ثم لقيني وقال يا أبا الحسن ما فعل أميرنا وسيدنا وكيف حاله فقلت بخير وعلى غاية الشوق إليك فقال أنا والله يا أخي أشوق ولكني أعرف أهل العسكر وشرههم وإلحاحهم والله ما أراهم يتركونه من المسألة ولا يتركهم كرمه أن يخليهم من العطية حتى يخرج فقيراً فقلت دع هذا عنك وزره فإن كثرة السؤال لا تضر بماله فقال وكيف أهو أيسر من الخليفة قلت لا قال والله لو تبذل لهم الخليفة كما يبذل أبو دلف وأطعمهم في ماله كما يطعمهم لأفقروه في يومين ولكن اسمع ما قلته في وقتي فقلت هاته يا أبا الفضل فأنشأ يقول ( أبا حسنٍ بلِّغَنْ قاسماً ... بأنِّي لم أجْفُه عن قلبي ) ( ولا عن مَلال لإتيانه ... ولا عن صدود ولا عن غِنى ) ( ولكن تعفّفتُ عن ماله ... وأصفيتُه مِدْحتي والثنا ) ( أبو دُلَف سيّد ماجد ... سنيّ العطية رَحب الفِنا ) ( كريمٌ إذا انتابه المعتفون ... عمَّهمُ بجزيل الحِبا ) قال فأبلغتها أبا دلف وحدثته بالحديث الذي جرى فقال لي قد لقيته منذ أيام فلما رأيته وقفت له وسلّمت عليه وتحفيت به فقال لي سر أيها الأمير على بركة الله ثم قال لي ( يا مُعدِيَ الجود على الأموالِ ... ويا كريمَ النفْس في الفعال ) ( قد صُنَتني عن ذِلة السؤالِ ... بِجُودك الموفِي على الآمال ) ( صانك ذو العزة والجلال ... مِن غِيَر الأيام والليالي ) قال ولم يزل يختلف إلى أبي دلف ويبره حتى افترقا جعيفران يهجو نفسه سمعت عبد الله بن أحمد عم أبي رحمه الله يحدث فحفظت الخبر ولا أدري أذكر له إسناداً فلم أحفظه أم ذكره بغير إسناد قال كان جعيفران خبيث اللسان هجاء لا يسلم عليه أحد فاطلع يوما في الحب فرأى وجهه قد تغير وعفا شعره فقال ( ما جَعفرٌ لأبيه ... ولا له بشبيه ) ( أضحى لقوم كثير ... فكلّهم يدعيه ) ( هذا يقول بُنَيِّي ... وذا يخاصم فيه ) ( والأمُّ تضحك منهم ... لِعلمها بأبيه ) حدثني محمد بن الحسن الكندي خطيب القادسية قال حدثني رجل من كتاب الكوفة قال اجتاز بي جعيفران مرة فقال أنا جائع فأي شيء عندك تطعمني فقلت سلق بخردل فقال اشتر لي معه بطيخاً فقلت أفعل فادخل وبعثت بالجارية تجيئه به وقدمت إليه الخبز والخردل والسلق فأكل منه حتى ضجر وأبطأت الجارية فأقبل علي وقد غضب فقال ( سَلَقَتْنا وخَرْدَلت ... ثم ولّت فأدبَرَت ) ( وأراها بوِاحد ... وافرِ الأير قد خلَت ) قال فخرجت يشهد الله أطلبها فوجدتها خالية في الدهليز بسائس لي علي ما وصف صوت ( ولها مَرْبَعٌ بِبُرْقَة خاخٍ ... ومَصِيف بالقصر قصرِ قُباءِ ) ( كفَّنوني إن متّ في دِرع أروَى ... واجعلوا لي مِنْ بئر عُروة مائي ) ( سُخنةٌ في الشتاء باردة الصيف ... سراجٌ في الليلة الظلماء ) الشعر للسرِيّ بن عبد الرحمن والغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي قال وفيهما يعني الثالث والأول رمل مطلق في مجرى الوسطى أخبار السري ونسبه السري بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري ولجده عويم بن ساعدة صحبة بالنبي والسري شاعر من شعراء أهل المدينة وليس بمكثر ولا فحل إلا أنه كان أحد الغزلين والفتيان والمنادمين على الشراب كان هو وعتير بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف وجبير بن أيمن وخالد بن أبي أيوب الأنصاري يتنادمون قال وفيهم يقول ( إذا أنت نادمتَ العُتَير وذا الندى ... جُبيَراً ونازعتَ الزّجاجة خالداً ) ( أمِنتَ بإذنِ الله أن تُقرع العصا ... وأن يُنْبِهوا من نومة السُّكْر راقداً ) غناه الغَريض ثقيلاً وكان السري هذا هجا الأحوص وهجا نصيباً فلم يجيباه أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني عمي وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبي قالا حبس النصيب في مسجد النبي فأنشد وكان إذا أنشد لوي حاجبيه وأشار بيده فرآه السري بن عبد الرحمن الأنصاري فجاءه حتى وقف بإزائه ثم قال ( فقدتُ الشعرَ حين أتى نُصيباً ... ألم تَسْتَحْيِ من مَقْتِ الكرام ) ( إذا رَفع ابنُ ثَوبة حاجبَيه ... حسبت الكلبَ يُضربُ في الكِعام ) قال فقال نصيب من هذا فقالوا هذا ابن عويم الأنصاري قال قد وهبته لله عز و جل ولرسوله ولعويم بن ساعدة قال وكان لعويم صحبة ونصرة أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي عن عبد الرحمن بن عبد الله العمري قال كان السري قصيراً دميماً أزرق وكان يهوى امرأة يقال لها زينب ويشبب بها فخرج إلى البادية فرآها في نسوة فصار إلى راع هناك وأعطاه ثيابه وأخذ منه جبته وعصاه وأقبل يسوق الغنم حتى صار إلى النسوة فلم يحفلن به وظنن أنه أعرابي فأقبل يقلب بعصاه الأرض وينظر إليهن فقلن له أذهب منك يا راعي الغنم شيء فأنت تطلبه فقال نعم قال فضربت زينب بكمها على وجهها وقالت السري والله أخزاه الله فأنشأ يقول صوت ( ما زال فينا سقيمٌ يُسْتَطبُّ له ... من ريح زينبَ فينا ليلةَ الأحدِ ) ( حُزْتِ الجَمالَ ونشراً طيبِّاً أرِجاً ... فما تُسمَّينَ إلا مِسكة البلدِ ) ( أما فؤادي فشيء قد ذهبتِ به ... فما يضرُّكِ ألا تَحرُبي جسدي ) المهدي يستحسن شعره في الغزل أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب الزبيري قال قال أبي قال لي المهدي أنشدني شعراً غزلاً فأنشدته قول السري بن عبد الرحمن ( ما زال فينا سقيمٌ يستَطبُّ له ... من ريحِ زينبَ فينا ليلةَ الأحدِ ) فأعجبته وما زال يستعيدها مراراً حتى حفظها أخبرني الحسن قال حدثني أحمد قال حدثني محمد بن سلام الجمحي قال كان السري بن عبد الرحمن ينادم عتير بن سهل بن عبد الرحمن بن عوف وجبير بن أيمن بن أم أيمن مولى النبي وخالد بن أيوب الأنصاري وكانوا يشربون النبيذ وكلهم كان على ذلك مقبول الشهادة جليل القدر مستوراً فقال السري ( إذا أنتَ نادمتَ العُتيْرَ وذا الندى ... جُبَيراً ونازعتَ الزجاجةَ خالداً ) ( أمِنتَ بإذنِ الله أن تُقرَع العصا ... وأن يُنْبهوا من نومة السُّكر راقداً ) فقالوا قبحك الله ماذا أردت إلى التنبيه علينا والإذاعة لسرنا إنك لحقيق ألا ننادمك قال والله ما أردت بكم سوءاً ولكنه شعر طفح فنفثته عن صدري قال وخالد بن أبي أيوب الأنصار ي الذي يقول صوت ( ألا سقَّني كأسي ودع قول مَن لحَى ... ورَوِّ عظاماً قَصْرُهن إلى بِلى ) ( فإن بُطُوء الكأس مَوْتٌ وحبسَها ... وإنَّ دِراك الكأس عندي هو الحيا ) الغناء في هذين البيتين هو لعبد الله بن العباس الربيعي خفيف رمل بالبنصر عن عمرو بن بانة أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني سليمان بن أبي شيخ قال حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري قال حدثني مصعب بن عثمان قال حدثني عبيد الله بن عروة بن الزبير قال خرجت وأنا غلام أدور في السكك بالمدينة فانتهيت إلى فناء مرشوش وشاب جميل الوجه جالس فلما رآني دعاني ثم قال لي من أنت يا غلام فقلت عبيد الله بن عروة بن الزبير فقال اجلس فجلست فدعا بالغداء فتغدينا جميعا ثم قال يا جارية فأقبلت جارية تتهادى كأنها مهاة وفي يدها قنينية فيها شراب صاف وقلة ماء وكأس فقال لها اسقيني فصبت في الكأس وسكبت عليه ماء وناولته فشرب ثم قال اسقيه فصبت في الكأس وسكبت عليه ماء وناولتني فلما وجدت رائحته بكيت فقال ما يبكيك يا بن أخي فقلت إن أهلي إن وجدوا رائحة هذامني ضربوني فأقبل على الجارية بوجهه وقال لها يخاطبها ( ألا سقّني كأسي ودعْ عنكَ من أبى ... وروَّ عظاماً قَصْرُهن إلى بِلى ) فأخذته من يدي وأعطتْه فشربه وقمت فلما جاوزته سألت عنه فقيل لي هذا خالد بن أبي أيوب الأنصاري الذي يقول فيه الشاعر ( إذا أنتَ نادمت العُتَيْر وذا النّدى ... جُبَيْراً ونازعتَ الزجاجة خالداً ) ( أمِنت بإذن الله أن تقرعَ العصا ... وأن يوقظُوا من سَكرةِ النوم راقدا ) ( وصرتَ بحمدِ الله في خير عُصبةٍ ... حسانِ النّدَامى لا تخاف العَرابدا ) السري وابن الماجشون أخبرنا وكيع قال حدثنا محمد بن علي بن حمزة قال حدثني أبو غسان عن محمد بن يحيى بن عبد الحميد قال كان السري بن عبد الرحمن يختلف إلى فتية فجاء ابن الماجشون فقال لا أدخل حتى يخرج السري فأخرجته فقال السري ( قَبّح الله أهلَ بيتِ بِسَلْع ... أخرجوني وأدخلوا الماجشونا ) ( أدخَلوا هِرةً تُلاعب قِرداً ... ما نراهُم يرَوْن ما يصنعونا ) أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب قال أنشدني أبي للسري بن عبد الرحمن في أمة الحميد بنت عبد الله بن عباس وفي ابنتها أمة الواحد ( أمَةُ الحميدِ وبنتُها ... ظَبيانِ في ظلِّ الأراك ) ( يَتتبَّعان بَرِيره ... وظلالَه فهما كذاك ) ( حُذِيَ الجَمَالُ عليهما ... حَذْوَ الشَّراك على الشراك ) أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال حدثني يحيى بن عثمان بن أبي قباحة الزهري قال أنشدني أبو غسان صالح بن العباس بن محمد وهو إذ ذاك على المدينةللسري بن عبد الرحمن ( ليتَني في المؤذِّنين نَهاراً ... إنهم يبصرون مَن في السطوح ) ( فيشيرون أو يُشار إليهمْ ... حبّذا كل ذات جِيدٍ مليحِ ) قال فأمر صالح بسدّ المنار فلم يقدر أحد على أن يطلع رأسه حتى عزل صالح أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني زبير بن بكار عن عمه ( أن السري بن عبد الرحمن وقف على عمر بن عمرو بن عثمان وهو جالس على بابه والناس حوله فأنشأ يقول ( با بن عثمانَ يا بنَ خير قريشٍ ... أبْغني ما يَكفُّني بقُباءِ ) ( ربما بَلَّني نداك وجَلَّى ... عن جبيني عجاجةَ الغُرَماءْ ) فأعمره أرضاً بقباء وجعلها طعمة له أيام حياته فلم تزل في يده حتى مات أخبرني وسواسة بن الموصلي قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن عزيز بن طلحة قال قال معبد خرجت من مكة أريد المدينة فلما كنت قريبا من المنزل أريت بيتاً فعدلت إليه فإذا فيه أسود عنده حبان من ماء وقد جهدني العطش فسلمت عليه واستسقيت فقال تأخر عافاك الله فقلت يا هذا اسقني بسرعة من الماء فقد كدت أموت عطشا فقال والله لا تذوق منه جرعة ولو مت فرجعت القهقرى وأنخت راحلتي واستظللت بظلها من الشمس ثم اندفعت أغني ليبتل لساني ( كفَّنوني إن مت في درع أروى ... واستقوا لي من بئر عروة مائي ) فإذا أنا بالأسود قد خرج إلي ومعه قدح خيشاني فيه سويق ملت بماء بارد فقال هل لك في هذا أرب قلت قد منعتني ما هو أقل منه الماء فقال اشرب عافاك الله ودع عنك ما مضى فشربت ثم قال أعد فديتك الصوت فأعدته فقال هل لك بأبي وأمي أن أحمل لك قربة من ماء وأمشي بها معك إلى المنزل وتعيد علي هذا الصوت حتى أتزود منه وكلما عطشت سقيتك قلت افعل ففعل وسارمعي فما زلت أغنيه إياه وكلما عطشت استقيته حتى بلغت المنزل عشاء صوت ( سلَبَ الشبابُ رِداءه ... عنِّي ويتبعهُ إزارهْ ) ( ولقد تحلُ عليّ حلته ... ويعجبني افتخارهْ ) ( سائلْ شبابي هل مستُ ... بسَوْءةٍ أو ذَل جاره ) ( ما إن ملكت المال إلاّ ... كان لي وله خياره ) ويروى هل أسأت مساكه الشعر لمسكين الدارمي والغناء لمقاسه بن ناصح خفيف رمل بالبنصر عن عمرو أخبار مسكين ونسبه مسكين لقب غلب عليه واسمه ربيعة بن عامر بن أنيف بن شريح بن عمرو بن زيد بن عبد الله بن عدس بن دارم بن مالك بن زيد مناة بن تميم وقال أبو عمرو الشيباني مسكين بن أنيف بن شريح بن عمرو بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم قال أبو عمرو وإنما لقب مسكيناً لقوله ( أنا مسكينٌ لمن أنكرني ... ولِمَن يَعرفني جِدّ نُطُق ) ( لا أبيع الناسَ عِرضي إنني ... لو أبيع الناسَ عِرضي لَنَفق ) وقال أيضاً ( سُمّيتُ مسكيناً وكانت لجاجةً ... وإني لمسكين إلى الله راغبُ ) وقال أيضاً ( إنْ أُدعَ مسكيناً فلست بمنكَرٍ ... وهل ينُكرَنَّ الشمسُ ذَرّ شعاعُها ) ( لَعَمرك ما الأسماءُ إلا علامةٌ ... منارٌ ومن خير المنارِ ارتفاعها ) شاعر شريف من سادات قومه هاجى الفرزدق ثم كافّه فكان الفرزدق بعد ذلك في الشدائد التي أفلت منها مسكين والفرزدق حدثني حبيب بن أوس بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة قال كان زياد قد أرعى مسكينا الدارمي حمى له بناجية العذيب في عام قحط حتى أخصب الناس وأحيوا ثم كتب له بئر وتمر وكساه قال فلما مات زياد رثاه مسكين فقال ( رأيتُ زيادةَ الإسلام ولّت ... جِهاراً حين ودّعَنا زيادُ ) فعارضه الفرزدق وكان منحرفاً عن زياد لطلبه إياه وإخافته له فقال ( أمسكينُ أبكى الله عينَك إنما ... جرَى في ضلال دَمْعُها فتحدّرا ) ( بكيتَ على عِلْج بمَيسان كافر ... ككسرى على عِدِّانِه أو كقيصرا ) ( أقول له لما أتاني نعيُّه به ... لا بظبي بالصريمة أعفرا ) فقال مسكين يجيبه ( ألا أيها المرء الذي لستُ قاعداً ... ولا قائماً في القوم إلا انبرى ليا ) ( فجئني بعمٍّ مثل عميَ أو أبٍ ... كمثل أبي أو خالِ صدق كخاليا ) ( كعمرو بن عمرو أو زرارةَ ذي الندى ... أو البِشْر من كلٍّ فرعتُ الروابيا ) قال فأمسك الفرزدق عنه فلم يجبه وتكافّا أخبرني ببعض هذا الخبر أو خليفة عن محمد بن سلاّم فذكر نحواً مما ذكره أبو عبيدة وزاد فيه قال والبشر خال لمسكين من النَّمِر بن قاسِط وقد فخرَبه فقال ( شُرَيحٌ فارس النعمان عمّي ... وخالي البِشرُ بشرُ بني هلال ) ( وقاتِلُ خالِه بأبيه منا ... سماعةُ لم يبع حسباً بمال ) وأخبرني عمي قال حدثنا الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو عن أبيه بمثل هذه الحكاية وزاد فيها قال فتكافّا واتقاه الفرزدق أن يعين عليه جريراً واتقاه مسكين أن يعين عليه عبد الرحمن بن حسان بن ثابت ودخل شيوخ بني عبد الله وبني مجاشع فتكافا وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة عن أبي عمرو قال قال الفرزدق نجوت من ثلاثة أشياء لا أخاف بعدها شيئا نجوت من زياد حين طلبني ونجوت من ابني رميلة وقد نذرا دمي وما فاتهما أحد طلباه قطُّ ونجوت من مهاجاة مسكين الدارمي لأنه لو هجاني اضطرني أن أهدم شطر حسبي وفخري لأنه من بحبوحة نسبي وأشراف عشيرتي فكان جرير حينئذ ينتصف من بيدي ولساني أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمود بن داود عن أبي عكرمة عامر بن عمران عن مسعود بن بشر عن أبي عبيدة أنه سمعه يقول أشعر ما قيل في الغيرة قول مسكين الدارمي ( ألا أيها الغائر المستشيط ... فيم تغار إذا لم تُغَرْ ) ( فما خير عِرْس إذا خفتَها ... وما خير عِرس إذا لم تُزر ) ( تغار على الناس أن ينظروا ... وهل يَفْتِن الصالحاتِ النظَرْ ) ( وإني سأُخلي لها بيتها ... فتحفظ لي نفسها أو تذر ) ( إذ اللهُ لم يُعطني حُبَّها ... فلن يُعطِيَ الحُبَّ سوطٌ مُمَر ) مسكين ومعاوية أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثني عبد الله بن بشير قال أخبرني أيوب بن أبي أيوب السعدي قال لما قدم مسكين الدارمي على معاوية فسأله أن يفرض له فأبى عليه وكان لا يفرض إلا لليمن فخرج من عنده مسكين وهو يقول ( أخاكَ أخاكَ إن مَن لا أخا ... له كساعٍ إلى الهيجا بغير سلاح ) ( وإن ابنَ عم المرء فاعلم جَناحه ... وهل ينهض البازي بغير جَناح ) ( وما طالب الحاجات إلا مغرّر ... وما نال شيئاً طالب كنجاح ) قال السعدي فلم يزل معاوية كذلك حتى غزت اليمن وكثرت وضعضعت عدنان فبلغ معاوية أن رجلاً من أهل اليمن قال يوما لهممت ألا أدع بالشأم أحداً من مضر بل هممت ألا أحل حبوتي حتى أخرج كل نزاري بالشأم فبلغت معاوية ففرض من وقته لأربعة آلاف رجل من قيس سوى خندف وقدم على تفيئة ذلك عطارد بن حاجب على معاوية فقال له ما فعل الفتى الدارمي الصبيح الوجه الفصيح اللسان يعني مسكيناً فقال صالح يا أمير المؤمنين فقال أعلمه أني قد فرضت له في شرف العطاء وهو في بلاده فإن شاء أن يقيم بها أني قد فرضت له في شرف العطاء وهو في بلاده فإن شاء أن يقيم بها أو عندنا فليفعل فإن عطاءه سيأتيه وبشره أني قد فرضت لأربعة آلف من قومه من خندف قال وكان معاوية بعد ذلك يغزي اليمن في البحر ويغزي قيسا في البر فقال شاعر اليمن ( ألا أيها القوم الذين تجمعوا ... بعَكَّا أُناسٌ أنتُم أم أباعر ) ( أتُتْرك قيسٌ آمنين بدارهم ... ونركب ظَهر البحر والبحر زاخر ) ( فوالله ما أدري وإني لسائل ... أهمدانُ يُحمى ضَيْمها أم يُحابر ) ( أمِ الشرف الأعلى منَ أولاد حِمير ... بنو مالك إذ تَستمر المرائر ) ( أأوصى أبوهم بينهم أن تَواصَلوا ... وأوصى أبوكم بينكم أن تدابروا ) قال ويقال إن النجاشي قال هذه الأبيات أخبرني بذلك عبد الله بن أحمد بن الحارث العدوي عن محمد بن عائد عن الوليد بن مسلم عن إسماعيل بن عياش وغيره قالوا فلما بلغت هذه الأبيات معاوية بعث إلى اليمن فاعتذر إليهم وقال ما أغرينكم البحر إلا لأني أتيمن بكم وأن في قيس نكدا وأخلاقاً لا يحتملها الثغر وأنا عارف بطاعتكم ونصحكم فأما إذ قد ظننتم غير ذلك فأنا أجمع فيه بينكم وبين قيس فتكونون جميعاً فيه وأجعل الغزو فيه عقبا بينكم فرضوا فعل ذلك فيما بعد حدثني الحسن بن علي قال حدثنا أحمدبن زهير بن حرب قال حدثني مصعب بن عبد الله قال وحدثنيه زبير عن عمه قال كان أصاغر ولد مروان في حجر ابنه عبد العزيز بن مروان فكتب عبد العزيز إلى بشر كتابا وهو يومئذٍ على العراق فورد عليه وهو ثمل وكان فيه كلام أحفظه فأمر بشر كاتبه فأجاب عبد العزيز جواباً قبيحاً فلما ورد عليه علم أنه كتبه وهو سكران فجفاه وقطع مكاتبته زمانا وبلغ بشراً عتبه عليه فكتب إليه لولا الهفوة لم احتج إلى العذر ولم يكن لك في قبوله مني الفضل ولو احتمل الكتاب أكثر مما ضمنته لزدت فيه وبقية الأكابر على الأصاغر من شيم الأكارم ولقد أحسن مسكين الدارمي حين يقول ( أخاك أخاك إنَّ من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح ) ( وإن ابنَ عمّ المرء فاعلم جناحُه ... وهل ينهض البازي بغير جناح ) قال فلما وصل كتابه إلى عبد العزيز دمعت عينه وقال إن أخي كان منتشياً ولولا ذلك لما جرى منه ما جرى فسلوا عمن شهد ذلك المجلس فسئل عنهم فأخبر بهم فقبل عذره وأقسم عليه ألا يعاشر أحداً من ندمائه الذين حضروا ذلك المجلس وأن يعزل كاتبه عن كتابته ففعل أخبرني محمد بن الحسين الكندي خطيب القادسية قال حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة عن أبي عمرو قال كان الفرزدق يقول نجوت من ثلاث أرجو ألا يصيبني بعدهن شر نجوت من زياد حين طلبني وما فاته مطلوب قط ونجوت من ضربة رئاب بن رميلة أبي البذال فلم يقع في رأسي ونجوت من مهاجاة مسكين الدارمي ولو هاجيته لحال بيني وبين بيت بني عمي وقطع لساني عن الشعراء أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أبو العيناء عن الأصمعي قال خطب مسكين الدارمي فتاة من قومه فكرهته لسواد لونه وقلة ماله وتزوجت بعده رجلاً من قومه ذا يسار ليس له مثل نسب مسكين فمر بهما مسكين ذات يوم وتلك المرأة جالسة مع زوجها فقال ( أنا مسكين لِمَن يعرفني ... لَونيَ السُّمرة ألوانُ العَربْ ) ( مَن رأى ظبياً عليه لؤلؤ ... واضحَ الخدين مقروناً بضب ) ( أكْسَبتْه الورِقُ البيضُ أباً ... ولقد كان وما يُدعى لأب ) ( رُبَّ مهزولٍ سمينٌ بيتُه ... وسمينِ البيت مهزُول النسب ) ( أصبحتْ تُرزَق مِن شحم الذُّرا ... وتخال اللؤم دُرّا يُنتهَب ) ( لا تَلُمها إنها من نِسوة ... صَخِباتٍ مِلْحُها فوق الرُّكب ) ( كشَموسِ الخيلِ يبدو شَغْبُها ... كلما قيل لها هالٌ وَهَب ) يزيد بن معاوية يستعين بمسكين أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق الموصلي قال حدثني أبي عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش قال كان يزيد بن معاوية يؤثر مسكيناً الدارمي ويصله ويقوم بحوائجه عند أبيه فلما أراد معاوية البيعة ليزيد تهيب ذلك وخاف ألا يمالئه عليه الناس لحسن البقية فيهم وكثرة من يرشح للخلافة وبلغه في ذلك ذرء وكلام كرهه من سعيد بن العاص ومروان بن الحكم وعبد الله بن عامر فأمر يزيد مسكيناً أن يقول أبياتاً وينشدها معاوية في مجلسه إذا كان حافلاً وحضره وجوه بني أمية فلما اتفق ذلك دخل مسكين إليه وهو جالس وابنه يزيد عن يمينه وبنو أمية حواليه وأشراف الناس في مجلسه فمثل بين يديه وأنشأ يقول ( إن أُدْع مسكيناً فإني ابن معشر ... من الناسِ أَحمِي عنهمُ وأذودُ ) ( إليك أميرَ المؤمنين رَحْلتُها ... تُثير القطا ليلاً وهنّ هُجود ) ( وهاجرةٍ ظلت كأن ظباءها ... إذا ما اتّقَتْها بالقرون سجود ) صوت ( ألا ليت شعري ما يقول ابن عامر ... ومروانُ أم ماذا يقول سعيد ) ( بَنِي خلفاءِ اللهِ مهلاً فإنما ... يُبوِّئها الرحمنُ حيث يريد ) ( إذا المنبر الغربي خلاَّه ربه ... فإن أميرَ المؤمنين يزيد ) الغناء لمعبد ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة ( على الطائر الميمون والجَدُّ صاعد ... لِكلِّ أناس طائر وجُدود ) ( فلا زلتَ أعلى الناس كعباً ولا تَزَل ... وفود تُسَاميها إليك وفود ) ( ولا زال بَيت المُلك فوقَك عالياً ... تُشَيَّد أطناب له وعَمود ) ( قُدُور ابنِ حرب كالجوابي وتحتها ... أثافٍ كأمثال الرئال رُكود ) فقال له معاوية ننظر فيما قلت يا مسكين ونستخير الله قال ولم يتكلم أحد من بني أمية في ذلك إلا بالإقرار والموافقة وذلك الذي أراده يزيد ليعلم ما عندهم ثم وصله يزيد ووصله معاوية فأجزلا صلته أخبرني محمد بن خلف قال حدثنا العنزي قال حدثنا أبو معاوية بن سيعد بن سالم قال قال لي عقيد غنيت الرشيد ( إذا المنبِبر الغربي خلاَّه ربه ... ) ثم فطنت لخطابي ورأيت وجه الرشيد قد تغير قال فتداركتها وقلت ( فإن أمير المحسنين عقيد ... ) فطرب وقال أحسنت والله بحياتي قل ( فإن أمير المؤمنين عقيد ... ) فوالله لأنت أحق بها من يزيد بن معاوية فتعاظمت ذلك فحلف لا أغنيه إلا كما أمر ففعلت وشرب عليه ثلاثة أرطال ووصلني صلة سيئة أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال حدثني عمي قال كانت لمسكين الدارمي امرأة من منقر وكانت فاركاً كثيرة الخصومة والمماظة فجازت به يوماً وهو ينشد قوله في نادي قومه ( إن أُدْع مسكيناً فما قَصَرَتْ ... قِدْري بيوتُ الحي والجُدْرُ ) فوقفت عليه تسمع حتى إذا بلغ قوله ( ناري ونارُ الجار واحدة ... وإليه قَبلي تُنزَل القِدر ) فقالت له صدقت والله يجلس جارك فيطبخ قدره فتصطلي بناره ثم ينزلها فيجلس يأكل وأنت بحذائه كالكلب فإذا شبع أطعمك أجل والله إن القدر لتنزل إليه قبلك فأعرض عنها ومر في قصيدته حتى بلغ قوله ( ما ضَرَّ جاراً لِي أجاوره ... ألا يكون لبيته ستر ) فقالت له أجل إن كان له ستر هتكته فوثب إليها يضربها وجعل قومه يضحكون منهما وهذه القصيدة من جيد شعره صوت ( يا فرحتا إذ صَرَفْنا أوجه الإبلِ ... نحو الأحبة بالإزعاج والعجَلِ ) ( نحثُّهن وما يؤتَيْن من دأب ... لكنَّ للشوق حثاً ليس للإِبل ) الشعر لأبي محمد اليزيدي والغناء لسليمان ثقيل أول بالبنصر عن عمرو والهشامي أخبار أبي محمد ونسبه أبو محمد يحيى بن المبارك أحد بني عدي بن عبد شمس بن زيد مناة بن تميم سمعت أبا عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد اليزيدي يذكر ذلك ويقول نحن من رهط ذي الرمة وقيل أنهم موالي بني عدي وقيل لأبي محمد اليزيدي لأنه كان فيمن خرج مع إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بالبصرة ثم توارى زماناً حتى استتر أمره ثم اتصل بعد ذلك بيزيد بن منصور خال المهدي فوصله بالرشيد فلم يزل معه وأدب المأمون خاصة من ولده ولم يزل أبو محمد وأولاده منقطعين إليه وإلى ولده ولهم فيهم مدائح كثيرة جياد وكان أبو محمد عالماً باللغة والنحو راويةً للشعر متصرفاً في علوم العرب أخذ عن أبي عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب النحوي وأكابر البصريين وقرأ القرآن على أبي عمرو بن العلاء وجود قراءته ورواها عنه وهي المعول عليها في هذا الوقت وكان بنوه جميعاً في مثل منزلته من العلم والمعرفة باللغة وحسن التصرف في علوم العرب ولسائرهم علم جيد ونحن نذكر بعد انقضاء أخباره أخبار من كان له شعر وفيه غناء من ولده إذ كنا قد شرطنا ذكر ما فيه صنعة دون غيره فمنهم محمد بن أبي محمد وإبراهيم بن أبي محمد واسماعيل بن أبي محمد كل هؤلاء ولده لصلبه ولكلهم شعر جيد ومن ولد ولده أحمد بن محمد بن أبي محمد وهو أكبرهم وكان شاعراً راوية عالماً ومنهم عبيد الله والفضل ابنا محمد بن محمد وقد رويا عن أكابر أهل اللغة وحمل عنهما علم كثير وآخر من كان بقي من علماء أهل هذا البيت أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد وكان فاضلاً عالماً ثقة فيما يرويه منقطع القرين في الصدق وشدة التوقي فيما ينقله وقد حملنا نحن عنه وكثير من طلبة العلم ورواته علماً كثيراً فسمعنا منه سماعاً جماً فأما ما أذكر ها هنا من أخبارهم فإني أخذته عن أبي عبد الله عن عمية عبيد الله والفضل وأضفت إليه أشياء أخر يسيرة أخذتها عن غيره فذكرت ذلك في مواضعه ورويته عن أهله أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن عمه إسماعيل بن أبي محمد قال حدثني أبي قال كان الرشيد جالساً في مجلسه فأتي بأسير من الروم فقال لدفافة العبسي قم فاضرب عنقه فضربه فنبا سيفه فقال لابن فليح المدني قم فاضرب عنقه فضربه فنبا سيفه أيضاً فقال أصلح الله أمير المؤمنين تقدمتني ضربة عبسية فقال الرشيد للمأمون وهو يومئذٍ غلام قم فداك أبوك فاضرب عنقه فقام فضرب العلج فأبان رأسه ثم دعا بآخر فأمره بضرب عنقه فضربه فأبان رأسه ونظر إلي المأمون نظر مستنطق فقلت ( أبقى دُفافةُ عاراً بعد ضربته ... عند الإمام لِعَبس آخر الأبدِ ) ( كذاك أسرتُه تنبو سيوفهمُ ... كسيف ورقاء لم يقطع ولم يكَد ) ( ما بال سيفْك قد خانتك ضربتُه ... وقد ضربت بسيف غيرِ ذي أود ) ( هلا كضَرْبةِ عبد الله إذ وقعَت ... ففرّقَت بين رأس العلج والجسد ) قال إسماعيل بن أبي محمد في أخباره كان حمويه ابن أخت الحسن الحاجب وسعيد الجوهري واقفين فذكرا أبا محمد يعني أباه والكسائي ففضل حمويه الكسائي على أبي محمد وفضل سعيد الجوهري أبا محمد على الكسائي وطال الكلام بينهما إلى أن تراضيا برجل يحكم بينهما فتراهنا على أن من غلب أخذ برذون صاحبه فجعلا الحكم بينهما أبا صفوان الأحوزي فلما دخل سألاه فقال لهما لو ناصح الكسائي نفسه لصار إلى أبي محمد وتعلم منه كلام العرب فما رأيت أحداً أعلم منه به فأخذ الجوهري دابة حمويه وبلغ أبا محمد اليزيدي هذا الخبر فقال ( يا حَمَويه اسمع ثَناً صادقاً ... فيك وما الصادق كالكاذبِ ) ( يا جالبَ الخزي على نفسه ... بُعْداً وسًحقاً لكَ من جالب ) ( إنْ فخَر الناس بآبائهم ... آتيتَهم بالعجب العاجب ) ( قلت وأدْغمتَ أباً خاملاً ... أنا ابنُ أخت الحسن الحاجب ) ابو محمد وسلم الخاسر قال إسماعيل وحدثني أبي قال كنت ذات يوم جالساً أكتب كتاباً فنظر فيه سلم الخاسر طويلاً ثم قال ( أَيْر يحيى أخط من كفّ يحيى ... إنّ يحيى بأَيره لخَطُوطُ ) فقال أبو محمد يحيى ( أمُّ سَلْم بذاك أعلمُ شيء ... إنها تحت أَيره لضَروطُ ) ( ولها تارةً إذا ما علاها ... أَزْملٌَ مِن وِداقِها وأطِيط ) ( أمُّ سَلم تُعلِّم الشّعرَ سلماً ... حبّذا شِعر أمك المنقوط ) ( ليت شعري ما بالُ سلم بنِ عمرو ... كاسفَ البال حين يُذكَر لوط ) ( لا يصلِّي عليه فيمن يصلِّي ... بل له عند ذكره تَثْبيط ) فقال له سلم ويحك ما لك خبثت أي شيء دعاك إلى هذا كله فقال أبو محمد بدأت فانتصرت والبادي أظلم قال أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي حدثني عبيد الله وعمي أبو القاسم عن أبي علي إسماعيل قال قال لي أبي قال سلم الخاسر يوماً يا أبا محمد قل أبياتاً على قول امرىء القيس ( رُبّ رامٍ من بني ثُعَلٍ ... ) ولا أبالي أن تهجوني فيها فقلت ( رُبّ مغمومٍ بعافية ... غَمَط النُعماء من أشَرِهْ ) ( مُوردٌ أمراً يُسَرّ به ... فرأى المكروه في صدَرهْ ) ( وامرىءٍ طالت سلامته ... فرماه الدهر من غِيّرهْ ) ( بسهام غير مُشوِية ... نقضَت منه عُرا مِرَره ) ( وكذاك الدهرُ مختلِف ... بالفتى حالين من عُصًرهْ ) ( يخلِط العُسْرى بمَيسرة ... ويَسارُ المرء في عُسُرهْ ) ( عقّ سلم أمَّه سفهاً ... وأبا سلم على كبرهْ ) ( كلَّ يوم خلفَه رجل ... رامح يسعى على أثره ) ( يُولج الغُرمْول سبّته ... كَولُوج الضّبّ في جُحُرهْ ) فانصرف سلم وهو يشتِمهُ ويقول ما يحل لأحد أن يكلمك قال وقال لي يوماً أبو حنش الشاعر يا أبا محمد قل أبياتاً قافيتها على هاءين فقلت له على أن أهجوك فيها فقال نعم فقلت ( قلتُ ونفسي جَمٌّ تأوُهها ... تصبو إلى إلفها وأندَهُها ) ( سقياً لصنعاء لا أرى بلداً ... أوطَنه المُوطنون يشبهها ) ( حِصْناً وحُسناً ولا كبهجتها ... أعذَى بلادٍ عذاً وأنزهها ) ( يعرف صنعاء مَن أقام بها ... أرغدُ أرض عيشاً وأرفهها ) ( أبلغْ حضيراً عنّي أبا حنَش ... عائرةً نحوَه أوجِّهها ) ( تأتيه مثلَ السهام عامدة ... عليه مشهورةً أُدَهْدهها ) ( كُنَيتُه طرحُ نون كنيتِه ... إذا تهجيّتَها ستفقهها ) يريد إسقاط النون من أبي حنش حتى يكون أبا حش قال أبو عبد الله وحدثني عمي قال حدثني الطلحي وكان له علم وأدب قال اجتمعت مع أبي محمد عند يونس بن الربيع وكان قد دعانا فأقمنا عنده فاتفق مجلسي إلى جنب مجلس أبي محمد فقام يونس لحاجته وكان جميلا وسيما فالتفت إلى اليزيدي فقال ( وفتى كالقناة في الطّرْف منه ... إن تأملتَ طرفَه استرخاءُ ) ( فإذا الرامح المُشيح تلاه ... وضع الرمح منه حيث يشاء ) أبو محمد وقتيبة الخراساني قال وحدثني عمي عن عمه إسماعيل عن أبي محمد قال كان قتيبة الخراساني صاحب عيسى بن عمر يأتيني فيسألني عن مسائل كالمتعنت فإذا أجبته عنها انصرف منكسرا وكان أفطس فقلت له يوماً ( أَمُخْبِري أنت يا قتيبةُ عن ... أنفِك أم أنت كاتمٌ خبرهْ ) ( بأي جُرم وأيّ ذنب تَرى ... سوّت بخدَّيك أنفَك البقَره ) ( فصيَّرتْه كفَيْشة نبتَت ... في وجهِ قرد مفضوضة الكمَره ) ( قد كان في ذاك شاغل لك عن ... تفتيش باب العرفان والنكره ) وقلت فيه أيضاً ( إذا عافى مَليك الناس عبدا ... فلا عافاك ربّك يا قُتَيْبه ) ( طلبتَ النحو مذ أن كنت طفلاً ... إلى أن جلّلتك قبُحْتَ شيبه ) ( فما تزداد إلا النقصَ فيه ... وأنت لدى الإياب بِشَرّ أوبه ) ( وكنتَ كغائب قد غاب حيناً ... فطال مُقامُه وأتى بخيبه ) قال أبو محمد كان عيسى بن عمر أعلم الناس بالغريب فأتاني قتيبة الخراساني هذا فقال لي أفدني شيئاً من الغريب أعاني به عيسى بن عمر فقلت له أجود المساويك عند العرب الأراك وأجود الأراك عندهم ما كان متمئراً عجارما جيداً وقد قال الشاعر ( إذا استكْتَ يوماً بالأراك فلا يَكن ... سواكك إلا المتمئرَّ العُجارما ) يعني الأير قال فكتب قتيبة ما قلت له وكتب البيت ثم أتى عيسى بن عمر في مجلسه فقال يا أبا عمر ما أجود المساويك عند العرب فقال الأراك يرحمك الله فقال له قتيبة أفلا أهدي إليك منه شيئا متمئراً عجارما فقال أهده إلى نفسك وغضب وضحك كل من كان في مجلسه وبقي قتيبة متحيراً فعلم عيسى أنه قد وقع عليه بلاء فقال له ويلك من فضحك وسخر منك بهذه المسألة ومن أهلكك ودمر عليك قال أبو محمد اليزيدي فضحك عيسى حتى فحص برجله وقال هذه والله من مزحاته وبلاياه أراه عنك منحرفا فقد فضحك فقال قتيبة لا أعاود مسألته عن شيء حدثني عمي قال حدثني عبيد الله بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي أبو جعفر قال سمعت جدي أبا محمد يقول صرت يوما إلى الخليل بن أحمد والمجلس غاص بأهله فقال لي ها هنا عندي فقلت أضيّق عليك فقال إن الدنيا بحذافيرها تضيق عن متباغضين وإن شبرا في شبر لا يضيق عن متحابين قال وكان الخليل لأبي محمد صافي الود حدثنا اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني أخي أحمد قال سمعت جدي أبا محمد يقول كنت ألقى الخليل بن أحمد فيقول لي أحب أن يجمع بيني وبين عبد الله بن المقفع وألقى ابن المقفع فيقول أحب أن يجمع بيني وبين الخليل بن أحمد فجمعت بينهما فمر لنا أحسن مجلس وأكثره علما ثم افترقنا فلقيت الخليل فقلت له يا أبا عبد الرحمن كيف رأيت صاحبك قال ما شئت من علم وأدب إلا أني رأيت كلامه أكثر من علمه ثم لقيت ابن المقفع فقلت كيف رأيت صاحبك فقال ما شئت من علم وأدب إلا أنّ عقله أكثر من علمه ناظر الكسائي وغلبه حدثنا اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني أخي أحمد بن محمد قال حدثني أبي محمد بن أبي محمد قال قال لي أبو محمد كنا مع المهدي ببلد في شهر رمضان قبل أن يستخلف بأربعة أشهر وكان الكسائي معنا فذكر المهدي العربية وعنده شيبة بن الوليد العبسي عم دفافة فقال المهدي نبعث إلى اليزيدي والكسائي وأنا يومئذٍ مع يزيد بن المنصور خال المهدي والكسائي مع الحسن الحاجب فجاءنا الرسول فجئت أنا فإذا الكسائي على الباب قد سبقني فقال يا أبا محمد أعوذ بالله من شرّك فقلت والله لا تؤتى من قبلي حتى أوتى من قبلك فلما دخلنا عليه أقبل علي وقال كيف نسبوا إلى البحرين فقالوا بحراني ونسبوا إلى الحصنين فقالوا حصني ولم يقولوا حصناني كما قالوا بحراني فقلت أصلح الله الأمير لو أنهم نسبوا إلى البحرين فقالوا بحري لم يعرف أإلى البحرين نسبوا أم إلى البحر فلما جاؤوا إلى الحصنين لم يكن موضع آخر يقال له الحصن ينسب إليه غيرهما فقالوا حصني قال أبو محمد سمعت الكسائي يقول لعمر بن بزيع وكان حاضراً لو سألني الأمير لأخبرته فيها بعلة هي أحسن من هذه قال أبو محمد قلت أصلح الله الأمير إن هذا يزعم أنك لو سألته لأجاب بأحسن مما أجبت به قال فقد سألته فقال الكسائي لما نسبوا إلى الحصنين كانت فيه نونان فقالوا حصني اجتزاء بإحدى النونين عن الأخرى ولم يكن في البحرين إلا نون واحدة فقالوا بحراني فقلت أصلح الله الأمير فكيف تنسب رجلا من بني جنان فإنه يلزمه على قياسه أن يقول جني إن في جنان نونين فإن قال ذلك فقد سوّى بينه وبين المنسوب إلى الجن قال فقال لي المهدي وله تناظرا في غير هذا حتى نسمع فتناظرنا في مسائل حفظ فيها قولي وقوله إلى أن قلت له كيف تقول إن من خير القوم أو خيرهم نيةً زيد قال فأطال الفكر لا يجيب فقلت لأن تجيب فتخطئ فتتعلم أحسن من هذه الإطالة فقال إن من خير القوم أو خيرهم نية زيداً قال فقلت أصلح الله الأمير ما رضي أن يلحن حتى لحن وأحال قال وكيف قلت لرفعه قبل أن يأتي باسم إن ونصبه بعد رفعه فقال شيبة بن الوليد أراد بأو بل فرفع هذا معنى فقال الكسائي ما أردت غير ذلك فقلت فقد أخطأ جميعا أيها الأمير لو أراد بأو بل رفع زيداً لأنه لا يكون بل خيرهم زيداً فقال المهدي يا كسائي لقد دخلت علي مع مسلمة النحوي وغيره فما رأيت كما أصابك اليوم قال ثم قال هذان عالمان ولا يقضي بينهما إلا أعرابي فصيح يلقى عليه المسائل التي اختلفا فيها فيجيب قال فبعث إلى فصيح من فصحاء الأعرب قال أبو محمد وأطرقت إلى أن يأتي الأعرابي وكان المهدي محبا لأخواله ومنصور بن يزيد بن منصور حاضر فقلت أصلح الله الأمير كيف ينشد هذا البيت الذي جاء في هذه الأبيات ( يا أيها السائلي لأُخبره ... عمن بصنعاءَ من ذوي الحسبِ ) ( حِمْيرُ سادتُها تُقر لها ... بالفضل طرّاً جحاجح العرب ) ( وإنَّ من خيرهم وأكرمهمْ ... أو خيرَهم نية أبو كرب ) قال فقال لي المهدي كيف تنشده أنت فقلت أو خيرهم نية أبو كرب على إعادة إن كأنه قال أو إن خيرهم نية أبو كرب فقال الكسائي هو والله قالها الساعة قال فتبسم المهدي وقال إنك لتشهد له وما تدري قال ثم طلع الأعرابي الذي بعث إليه فألقيت عليه المسائل فأجاب فيها كلها بقولي فاستفزني السرور حتى ضربت بقلنسيتي الأرض وقلت أنا أبو محمد فقال لي شيبة أتتكنى باسم الأمير فقال المهدي والله ما أراد بذلك مكروها ولكنه فعل ما فعل للظفر وقد لعمري ظفر فقلت إن الله عز و جل أنطقك أيها الأمير بما أنت أهله وأنطق غيرك بما هو أهله قال فلما خرجنا قال لي شيبة أتخطّئني بين يدي الأمير أما لتعلمن قلت قد سمعت ما قلت وأرجو أن تجد غبها ثم لم أصبح حتى كتبت رقاعاً عدة فلم أدع ديوانا إلا دسست إليه رقعة فيها أبيات قلتها فيه فأصبح الناس يتناشدونها وهي ( عِش بِجَدٍّ ولا يضرُّك نَوك ... إنما عَيش من تَرى بالجُدودِ ) ( عِش بِجَدّ وكن هَبنّقة القيسيّ ... نَوكاً أو شيبَة بنَ الوليد ) ( شيب يا شيب يا جُدَدي بني القعْقاع ... ما أنت بالحليم الرشيد ) ( لا ولا فيك خَلَّةٌ من خلال الخير ... أحرزْتها لحزم وجود ) ( غيرَ ما أنك المجيد لتقطيع ... غناءٍ وضرب دُفّ وعود ) ( فعلَى ذا وذاك يحتمِل الدهر ... مجيداً له وغير مجيد ) قال وقال أبو محمد اليزيدي يهجو خلفا الأحمر أستاذ الكسائي أنشدنيه عمي الفضل ( زعم الأحمر المَقيت عليٌّ ... والذي أمّه تُقِرّ بمقتهْ ) ( أنه علَّم الكسائي نحواً ... فلئن كان ذا كذاك فبِاسته ) الرشيد يأمر له بمال فيستعين بأصحابه على تعجيله وبهذا الإسناد عن أبي محمد قال أمر لي الرشيد بمال وحضر شخوصه إلى السن فأتيت عاصماً الغساني وكان أثيراً عند يحيى بن خالد فقلت له إن أمير المؤمنين قد أمر لي بمال وقد حضر من شخوصه ما قد علمت فأحب أن تذكر أبا علي يحيى بن خالد أمره ليعجله إلي فقال نعم ثم عدت بعد ذلك بيومين فقال لي يتفخم في لفظه ما أصبت بحاجتك موضعاً قال قلت فاجعلها منك أكرمك الله ببال فلما خرجت لحقني بعض من كان في المجلس فقال لي يا أبا محمد إني لأربأ بك أن تأتي هذا الكلب أو تسأله حاجة قلت وكيف قال سمعته يقول وقد وليت لو أن بيدي دجلة والفرات ما سقيت هذا منها شربة فقيل له ولم ذاك أصلحك الله فإن له قدرا وعلما قال لأنه من مضر ما رأيت مضريا قط يحب اليمانية قال فأحببت ألا أعجل فعدت إليه من غد فقلت هل كان منك أكرمك الله في الحاجة شيء فقال والله لكأنك تطلبنا بدين فتحقق عندي ما بلغني عنه فقلت له لا قضى الله هذه الحاجة على يدك ولا قضى لي حاجة أبداً إن سألتكها والله لا سلّمت عليك مبتدئاً أبداً ولا رددت عليك السلام إن بدأتني به ونفضت ثوبي وخرجت فإني لأسير وأفكر في الحيلة لحاجتي إذا براكب يركض حتى لحقني فقال بعثني إليك أبو علي يحيى بن خالد لتقف حتى يلحقك فرجعت مع رسوله إليه فلقيته وكان قريبا فسلمت عليه ثم سايرته فقال لي إن أمير المؤمنين أمرني أن آمرك بطلب مؤدّب لابنه صالح فإني أحدّثك حديثاً حدثني به أبي خالد بن برمك أن الحجاج بن يوسف أراد مؤدباً لولده فقيل له ها هنا رجل نصراني عالم وها هنا مسلم ليس علمه كعلم النصراني قال ادعوا لي المسلم فلما أتاه قال ألا ترى يا هذا أنّا قد دللنا على نصراني قد ذكروا أنه أعلم منك غير أني كرهت أن أضم إلى ولدي من لا ينبّههم للصلاة عند وقتها ولا يدلهم على شرائع الإسلام ومعالمه وأنت إن كان لك عقل قادر على أن تتعلم في اليوم ما يعلمه أولادي في جمعة وفي الجمعة ما يعلمهم في الشهر وفي الشهر ما يعلمهم في سنة ثم قال لي يحيى فينبغي يا أبا محمد أن نؤثر الدين على ما سواه فقلت له قد أصبت من أرضاه وذكرت له الحسن بن المسور فضمه إليه ثم سألني من أين أقبلت فأخبرته بخبر عاصم وما كان منه فقلت له قد حضر هذا المسير ولست أدري من أي وجه أتقاضاه فضحك وقال ولم لا تدري الق صديقك جعفراً يعني ابنه حتى يكلم أمير المؤمنين أو يذكرني حاجتك فقد تركته على المضي الساعة فانثنيت إلى جعفر وقلت له في طريقي ( يا سائلي عما أخبره ... عن جعفر كرماً وعن شيمهْ ) ( إن ابن يحيى جعفراً رجل ... سِيطَ السماحُ بلحمه ودمه ) ( فعليه لا أبداً محرمةٌ ... وكلامه وقف على نَعَمه ) ( وترى مُسابقَه ليدركه ... بمكان حَذْو النعل من قدمه ) فلما دخلت إليه أخبرته الخبر وأنشدته الأبيات وأعلمته ما أمرني به أبوه فقال لي قل بيتين تدكره فيهما إلى أن أجدد طهرا واكتبهما حتى يكونا معي فأذكر بهما حاجتك فقلت نعم يا سيدي وأخذت الدواة وكتبت ( أحقُّ مَن أنجز موعودَه ... خليفةُ الله على خلقهِ ) ( ومَن له إرث نبيّ الهدى ... بالحق لا يُدفَع عن حقه ) ( يُنسب في الهَدْي إلى هَدِيِه ... بِرّاً وفي الصدق إلى صدقه ) ( ومَن له الطاعة مفروضة ... لائحة بالوحي في رَقِّه ) ( والراتقُ الفتقِ العظيم الذي ... لا يقدر الناس على رتْقه ) قال فأخذ الشعر ومضى إلى الرشيد في حاجتي وأقرأه إياه فصك إلي بالمال عليه وقبضته بعد ذلك بيوم وأنشأت أقول في الغساني ( ألا طَرَقتْ أسماء أم أنت حالِم ... فأهلاً بطيف زار والليل عاتمُ ) ( إذا قيل أيُّ الناس أعظم جفوةً ... وألأمُ قيل الجر مقانيُّ عاصم ) ( دَعِيّ أجاءته إلى اللؤم دعوة ... ومغرِس سَوء لؤمه متقادم ) ( شَهِيدي على أن ليس حراً صَلِيبةً ... صفيحةُ وجه ابنِ استِهَا واللهازم ) ( صفيحة دَقّاق أبوه شبيهه ... وجدّاه سمَّاك لئيم وحاجم ) ( أعاصمُ خلِّ المكرمات لأهلها ... وأغْض عَلَى لؤم ووجهُك سالم ) ( فكيف تنَال الدهر مجداً وسودَداً ... وفي كل يوم كوكبٌ لك ناجم ) ( وأصلك مدخول وفِسقك ظاهر ... وعَجْبك مهموز وعَرْدك عارم ) ( تُصانع غساناً لتُلَحق فيهُم ... ورُبَ دَعِيّ ألحقته الدراهم ) ( فإن راب رَيب أو أَصابتك شدة ... رجعتَ إلى شَلْثى وأنفك راغم ) قال وكان اسم ابن شلثى ... فصيره صلتاً ( إذا عَاصما يوماً أتيتَ لحاجة ... فلا تلقَه إلا وأَيرك قائم ) ( وعرِّض له من قبل ذاك بأمرَدِ ... وضيء وسِيم أثقَلْته المآكم ) ( وإلا فلا تسأله ما عِشت حاجة ... ولا تبكه إن أعولَتْه المآتم ) قال فلما حدث ببني برمك ما حدث قبضت ضيعته في المقبوض من ضياع أسبابهم فصار إلي وكلمني في أمرها وسألني كلام الجوهري في ذلك فقمت له حتى ردت الضيعة عليه فجاءني يشكرني ويعتذر مما جرى من فعله المتقدم فقلت له تناس ما مضى فلست ممن يكافئ على سوء أحداً أبو محمد يهجو أبا عبيدة قال أبو محمد كان أبو عبيدة يجلس في مسجد البصرة إلى سارية وكنت أنا وخلف الأحمر نجلس جميعاً إلى أخرى وكان أبو عبيدة من أعضه الناس للناس وأذكرهم لمثالبهم فقال لأصحابه أترون الأحمر واليزيدي إنما يجتمعان على الوقيعة للناس وذكرمساويهم وبلغني ذلك وأنه قد رمانا بمذهبه فقلت لخلف دعه فأنا أكفيكه فلما كان من الأذان جئت أنا وخلف إلى المسجد فكتبت على الجص في الموضع الذي كان يجلس فيه أبو عبيدة ( صلى الإله عَلَى لوط وشيعتِه ... أبا عبيدة قل بالله آمينا ) قال وأصبح الناس وجاء أبو عبيدة فجلس وهو يعلم ما فوق رأسه مكتوبا وأقبل الناس ينظرون إلى البيت ويضحكون ورفع أبو عبيدة رأسه ونظر إليه فخجل ولم يزل منكساً رأسه حتى انصرف الناس وأنا وخلف ناحيةً ننظر إلى ما به ثم قمنا حتى وقفنا عليه فقلنا له ما قال صاحب هذا البيت إلا حقاً نعم فصلى الله على لوط فأقبل عليّ وقال قد علمت من أين أتيت ولن أعاود التعرض لتلك الجهة ولم يعد لذكرنا بعد ذلك وقال أبو محمد اعتللتُ علة من حمى ربع طالت عليّ أشهراً فجفاني يزيد بن منصور ولم يمر بي في علتي ولم يتفقدني كما ينبغي فكتبت رقعة إليه ضمنتها هذه الأبيات ( قل للأمير الذي يرجو نوافِلَه ... مَن جاء طالباً للخير منتابا ) ( إني صحبتك دهراً كلَّ ذاك أرى ... مِنْ دون خَيرك حُجَّاباً وأبواباً ) ( وَكم ضريكٍ أجاءته شقاوَتُه ... إليك إذا أنشَبتْ ضَراؤها نابا ) ( فما فتحتَ له باباً لميسرة ... وَلا سددتَ له من فاقة بابا ) ( كغائب شاهدٌ يخفي عليك كما ... من غاب عنك فوافى حظُّه غابا ) فلما قرأها قال جفونا أبا محمد وأحوجناه إلى استبطائناً والله المستعان وبعث إليه بصلة أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال حدثني محمد بن عبد الرحمن بن الفهم وكان من أصحاب الأصمعي قال كان خلف الأحمر يعبث بأبي محمد اليزيدي عبثاً شديداً وربما جدّ فيه وأخرجه مخرج المزح فقال فيه ينسبه إلى الّلواط ( إني ومَن وَسَج المَطيُّ له ... حُدْبَ الذرى أذقانها رُجُفُ ) ( يَطرحن بالبِيد السِّحال إذا ... حثّ النجاءَ الركبُ وازدَهفوا ) ( والمُحرمِين لِصَوتهم زَجَل ... بِفِناء كعبته إذا هتفوا ) ( وإذا قطَعْن مسافَ مَهْمَهة ... قَذَفٍ تعرّض دونها شَرَف ) ( وافَتْ بهمْ خُوص محزَّمة ... مثلُ القِسيِّ ضوامرٌ شُسُف ) ( مِنّي إليه غيرَ ذي كذِب ... ما إن رأى قوم ولا عرَفوا ) ( في غابر الناس الذين بقُوا ... والفُرَّطِ الماضين إذ سَلفوا ) ( أحداً كيحيى في الطعان إذا افتَرش ... القنا وتضعضع الحَجَف ) ( في مَعرك يُلقى الكَمِيّ به ... للوجه منبطحاً وينحرف ) ( وإذا أكبّ القِرن يُتِبعه ... طعناً دُوَين صَلاه ينخسف ) ( للهِ دَرُّك أيّ ذي نُزُلٍ ... في الحرب إذ همّوا وإذ وقفوا ) ( لا تخطىء الوجعاء ألّته ... ولا تُصدّ إذا همُ زحفوا ) ( وله جِياد لا يُفِرّطها الإحلال ... والمضمار والعلف ) ( جُرْد يهان لها السَّوق وألبان ... اللِّقاح كأنها نُزُف ) ( مُرْد وأطفال تخالهم ... دُرّاً تَطابق فوقه الصَّدَف ) ( فهمُ لديه يعكُفون به ... والمَرء منه اللِّين واللُطف ) ( ومتَى يشا يُجنَب له جَذع ... نَهْدٌ أسيل الخد مشترف ) ( يمشي العِرَضْنَةَ تحت فارسه ... عَبْلَ الشوَى في متنه قَطف ) ( رَبِذٌ إذا عرِقت مَغابِنه ... ذَهَب السكون وأقبل العُنف ) ( فأعدِّ ذاك لسرجه وله ... في كل غادية لها عُرُف ) ( في حَقْوه عَردٌ تَقدّمُه ... صلعاء في خرطومها قَلَف ) ( جرداء تُشحَذ بالزاق إذا ... دُعيَت نزال وهبّ مرتدِف ) ( أوفى على قِيدِ الذراع شديدُ ... الجَلْز في يافوخه جَوَف ) ( خاظٍ مُمَرّ متنُه ضَرِم ... لا خانه خَوَر ولا قَضَف ) ( عَرْدُ المَجس بمتنه عُجَر ... في جِذره عن فخذه جنَف ) ( فلوَ أن فياضاً تأمله ... نادى بجهد الويل يلتهف ) ( وإذا تمسّحه لِعادته ... ودنا الطعان فمِدْعَس ثَقِف ) ( وإذا رأى نفَقاً رَبَا ونزا ... حتى يكاد لعابه يكف ) ( لا ناشئاً يُبِقي ولا رجلاً ... فنِداً وهذا قلبه كلِف ) ( يا ليتني أدري أمُنجيتي ... وجناءُ ناجيةٌ بها شَدَف ) ( من أن تعلقني حبائلُه ... أو أن يواري هامتِي لُجُف ) ( ولقد أقول حِذارَ سطوته ... إيهاً إليك توَقّ يا خلَف ) ( ولو أن بيتك في ذُرا علَم ... مِن دون قلة رأسه شَعَف ) ( زَلِقٍ أعاليه وأسفلُه ... وعر التنائف بيتها قذف ) ( لَخَشيت عَرْدَك أن يُبِّيتَني ... أن لم يكن ليَ عنه منصرَف ) قال الأصمعي فحدثني شيخ من آل أبي سفيان بن العلاء أخي أبي عمرو بن العلاء قال أنشدت قصيدة خلف الفائية هذه وأعرابي جالس يسمع فلما سمع قوله ( فإذا أكب القرنَ أتبعه ... طعناً دُوَين صَلاه ينخسف ) قال الأعرابي وأبيك لقد أحب أن يضعه في حاق مقيل ضرطته أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني ابن الفهم قال حدثني الأصمعي قال كنت مع خلف جالسا فجرى كلام في شيء من اللغة وتكلم فيه أبو محمد اليزيدي وجعل يشغب فقال لي خلف دعني من هذا يا أبا محمد وأخبرني من الذي يقول ( فإذا انتشأتُ فإنني ... رب الحُرَيبة والرُّمَيح ) ( وإذا صحوتُ فإنني ... رب الدُّوَيّة واللوَيح ) يعرّض به أنه معلم وأنه يلوط فغضب اليزيدي وقام فانصرف أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني طلحة الخزاعي قال حدثني أبو سعيد عثمان بن يوسف الحنفيُّ قال غاضب أبو محمد اليزيدي مواليه بني عدي رهط ذي الرمة من بني تميم لأمر استنهضهم فيه فقعدوا عنه فقال يهجوهم ( يا أيها السائل عن قومنا ... لمّا رأى بِزَّةَ أحبارهم ) ( وحُسن سَمْت منهُم ظاهراً ... إعلانُهم ليس كإسرارهم ) ( سائلْ بهم أحمرَ أو غيرَه ... يُنبيك عن قومي وأخبارهم ) ( قوم كرام ما عدا أنهم ... صولتهم منهم على جيرانهم ) ( أسد على الجيران أعداؤهم ... آمنة تخطر في دارهم ) ( لو جاءهم مقتبساً جارُهم ... ما قبسوه الدهر من نارهم ) ( وقد وترناهمْ فلم نخش مَن ... ينهض في سيره أو ثارهم ) ( أحسنُ قوم لمواليهمُ ... إن أيسروا يَوماً لأيسارهم ) ( شهادة الزور لهم عادة ... حقاً بها قيمة أخبارهم ) ( وما لهم مجد سوى مسجد ... به تعدَّوا فوق أطوارهم ) ( لو هُدم المسجد لم يُعرفوا ... يوماً ولم يسمع بأخبارهم ) مدحه المأمون عندما بلغ وصار في حدّ الرجال أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني عمي عبيد الله قال حدثني عمي إسماعيل وأخي أحمد قالا لما بلغ المأمون وصار في حد الرجال أمرنا الرشيد أن نعمل له خطبة يقوم بها يوم الجمعة فعملنا له خطبته المشهورة وكان جهير الصوت حسن اللهجة فلما خطب بها رقَّت قلوب الناس وأبكى من سمعه فقال أبو محمد اليزيدي ( لِتَهْنِ أميرَ المؤمنين كرامةٌ ... عليه بها شكرُ الإله وُجوبُ ) ( بأن وليّ العهد مأمونَ هاشم ... بدا فضله إذ قام وهو خطيبُ ) ( ولما رماه الناس من كل جانب ... بأبصارهم والعُود منه صليب ) ( رماهم بقول أنصتوا عجباً له ... وفي دونه للسامعين عجيب ) ( لما وعَت آذانُهم ما أتى به ... أنابَتْ ورقَّت عند ذاك قلوب ) ( فأبكى عيونَ الناسَ أبلغُ واعظ ... أغرُّ بِطاحيُّ النَّجار نجيب ) ( مَهيب عليه لِلوقار سكينة ... جريء جَنانٍ لا أكَعّ هيوب ) ( ولا واجبٌ فوق المنابر قلبُه ... إذا ما اعترى قلبَ النجيب وجيب ) ( إذا ما علا المأمونُ أعوادَ منبر ... فليس له في العالمين ضريب ) ( تصدَّع عنه الناس وهو حديثهم ... تَحدث عنه نازح وقريب ) ( شَبيه أمير المؤمنين حَزامةً ... إذا وردَتْ يوماً عليه خطوب ) ( إذا طاب أصل في عُروق مِشاجه ... فأغصانه من طيبه ستطيب ) ( فقل لأمير المؤمنين الذي به ... يقدَّم عبد الله فهو أديب ) ( كأن لم تغب عن بلدة كان والياً ... عليها ولا التدبيرُ منك يغيب ) ( تتبعَ ما يُرضيك في كل أمره ... فسِيرته شخص إليك حبيب ) ( ورِثتم بني العباس إرثَ محمد ... فليس لحَيِّ في التراث نصيب ) ( وإني لأرجو يابن عم محمد ... عطاياك والراجيك ليس يخيب ) ( أثبني على المأمون وابنِي محمداً ... نوالاً فإياه بذاك تثيب ) ( جِناب أمير المؤمنين مُبارَك ... لنا ولكل المؤمنين خصيب ) ( لقد عَمَّهمْ جُود الإمام فكلهم ... له في الذي حازت يداه نصيب ) صوت فلما وصلت هذه الأبيات إلى الرشيد أمر لأبي محمد بخمسين ألف درهم ولابنه محمد بن أبي محمد بمثله أخبرني عمي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي أحمد عن أبيه قال أستأذن أبو محمد الرشيد وهو بالرقة في الحج فأذن له فلما أعاد أنشدنا لنفسه ( يا فرحتا إذ صرفنا أوجه الإبل ... إلى الأحبة بالإزعاج والعَجَل ) ( نحثهن ولا يُؤتَيْن من دأب ... لكنَّ للشوق حثاً ليس للإبل ) ( يا نائياً قرُبَتْ منه وساوسه ... أمسَى قرينَ الهوى والشوقِ والوجل ) ( إن طال عهدك بالأحباب مغترباً ... فإن عهدك بالتسهيد لم يَطل ) ( أمَا اشتفَى الدهرُ من حَرّانَ مُختبَلٍ ... صبِّ الفؤاد إلى حَرانَ مُخْتَبَلِ ) ( عِش بالرجاء وأمّل قرب دراهمُ ... لعل نفسك أن تبقى مع الأمل ) أخبار من له شعر فيه صنعة من ولد أبي محمد اليزيدي وولد ولده فمنهم محمد بن أبي محمد ومما يغنى من شعره قوله صوت ( أتيتُك عائذاً بكَ منك ... لما ضاقت الحِيلُ ) ( وصيَّرني هواك وبَي ... لِحَيني يُضْرَب المثل ) ( فان سلِمَتْ لكم نفسي ... فما لاقيته جَلَل ) ( وإن قَتل الهوى رجلاً ... فإني ذلك الرجل ) الشعر لمحمد بن أبي محمد اليزيدي يكنى أبا عبد الله والغناء لسليم بن سلام ثقيل أول بالبنصر وله أيضاً فيه ماخوري وكان سليم صديق محمد بن أبي محمد اليزيدي كثير العشرة له وليس في شيء من شعره صنعة إلا له وله يقول محمد بن أبي محمد اليزيدي صوت ( بأبي أنتَ يا سُلَيم وأُمي ... ضِقتُ ذَرعاً بهجر من لا أسمِّي ) ( صدّ عنِّي أقَرُّ مَن خلق الله ... لعيني فاشتد غمي وهمي ) ( ما احتيالي إن كان في القدر السابق ... لِلْحَيْنِ أن أموت بسُقمي ) الغناء لسليم خفيف رمل بالوسطى عن عمرو أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن أخيه أبي جعفر عن أبيه محمد بن أبي محمد قال قال لي أبي نظر إليك أبو ظبية العكلي وقد جاءني فقال لي وقد أقبلت ( يَلِد الرجال بَنيهمُ أولادَهمْ ... وولدْتَ أنت أباً من الأولاد ) قال أبو محمد وكتب أبو ظبية يوماً ( أيحيى لقد زُرناك نلتمس الجَدَا ... وأنت امرؤ يرجَى جَداه ونائله ) ( وما صنع المعروف في الناس صانع ... فيُحْمَدَ إلا أنت بالخير فاضله ) ( تخيرك الناسَ الخليفةُ لابنه ... وأحكمْتَ من كل أمر يحاوله ) ( فما ظنَّ ذو ظنٍّ من الناس علمُه ... كعلمك إلا مخطىء الظن فائله ) ( إليك تناهت غايةُ الناس كلِّهم ... إذا اشتبهَتْ عند البصير مسائله ) قال أبو محمد فكتب إليه ( أبا ظبيةَ اسمع ما أقول فخَيْرُ ما ... يقال إذا ما قيل صُدق قائله ) ( إذا شئت فانهَدْ بي إلي من أردتَه ... وأملِّتَ جدواه فإني منازلة ) ( فإن يك تقصير ولا يك عارفاً ... بحقك فاعذلِه فتكثر عواذله ) حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني أخي أحمد عن أبي قال صرت إلى العباس بن الأحنف فقال لي ما حاجتك قلت أمرني أخوك وأبي أن أصير إليك وأستفيد منك فقال لي أتصير إلي وددت أني سبقتك إلى بيتين قلتهما وإني لم أقل من الشعر شيئاً غيرهما فدخلني من السرور ما الله به عليم فقلت وما هما فقال قولك ( يا بَعيد الدار موصولا ... بقلبي ولِساني ) ( رُبما باعدك الدهر ... وأدنتك الأماني ) سرق معنيين من الشعر لمسلم بن الوليد حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن داود الجراح قال حدثني أبو القاسم عبيد الله بن محمد اليزيدي قال حدثني أحمد بن محمد قال سمعت أبي يقول ما سرقت من الشعر شيئاً إلا معنيين قال مسلم بن الوليد ( ذاك ظبي تحيّر الحسنُ في الأركان ... منه وحلّ كل مكانِ ) ( عَرَضَتْ دونه الحِجال فما يل ... قاك إلا في النوم أو في الأماني ) فقلت ( يا بعيد الدار موصولاً ... بقلبي ولساني ) ( ربما باعدك الدهر ... وأدنتك الأماني ) وقال مسلم أيضاً ( متى ما تسمعي بقتيل حُبٍّ ... أُصيب فإنني ذاك القتيلُ ) فقلت أنا ( أتيتكِ عائذاً بكِ منكِ ... لما ضاقت الحِيلُ ) ( وصّيرني هواكِ وبِي ... لحيني يُضْرَب المثل ) ( فإن سلمَتْ لكم نفسي ... فما لاقيته جَلل ) ( وإن قتَل الهوى رجلاً ... فإني ذلك الرجل ) أخبرني محمد بن العباس قال حدثني عمي عبيد الله عن أخيه أبي جعفر قال عتب أبي يعني محمد بن أبي محمد على يونس بن الربيع وكان صديقه فكتب إليه ( سأبكيك حّياً لا بكيتك ميِّتاً ... بأربعة تجري عليك هُمولاً ) ( وأُعفيك ممن طول اللقاء وإنني ... أرى اليوم لا ألقاك فيه طويلاً ) ( فكيف بصبري عنك لا كيف بعدما ... حلِلتَ محلاً في الفؤاد جليلاً ) قال وكتب إليه يونس ( إلى كم قد بَليِت وليس يبلى ... عتاب منك لي أبداً طويلُ ) ( إذا كثر التجنّي من خليل ... ولم تُذنبْ فقد ظَلم الخليل ) أخبرني عمي قال حدثني الحسن بن الفهم قال قال لي أبو سمير عبد الله بن أيوب مولى بني أمية بات عندي ليلة محمد بن أبي محمد اليزيدي فظهر لنا قنفذ فقلت له قل فيه شيئا فأنشأ يقول ( وطارقِ ليل زارنا بعد هَجْعة ... من الليل إلا ما تحدث سامرُ ) ( فقلْتُ لعبد الله ما طارقُ أتى ... فقال امرؤ سبَقت إليه المقادر ) ( قَرَيناه صفو الزاد حين رأيته ... وقد جاء خفَّاق الحشا وهو سادر ) ( جميل المحَيّا والرضا فإذا أبى ... حمَتْه من الضيم الرماح الشَّواجر ) ( ولست تراه واضعاً لسلاحه ... مدى الدهر موتوراً ولا هو واتر ) حدثنا اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال حدثني أبو صالح بن يزداد قال حدثني أبي قال جاء محمد بن أبي محمد اليزيدي إلى باب المأمون وأنا حاضر فاستأذن فقال الحاجب قد أخذ دواء وأمرني ألا آذن لأحد قال فأمرك ألا توصل إليه رقعة قال لا فدفع إليه رقعة فيها ( هدّيتَي التحيةُ للإمام ... إمام العدل والملِك الهمام ) ( لأني لو بّذْلت له حياتي ... وما هوى لقلاّ للإمام ) ( أراك من الدواء اللَّهُ نفعاً ... وعافيةً تكون إلى تمام ) ( وأعقبك السلامةَ منه رَبِّ ... يُريك سلامة في كل عام ) ( أتأذن في السلام بلا كلام ... سوى تقبيل كفك والسلام ) قال فأوصلها وخرج فأذن له فدخل وسلم وحملت معه ألفا دينار حدثني عمي قال حدثني الفضل اليزيدي قال حدثني أخي أحمد عن أبي قال دخلْتُ إلى المعتصم وهو ولي عهد وقد طلع القمر فتنفس ثم قال يا محمد قل أبياتاً في معنى طلوع القمر فإنه غاب مدة كما غاب محبوب عن حبيبه ثم طلع فإن كان كما أحب فلك بكل بيت مائة دينار فقلت صوت ( هذا شبيه الحبيب قد طلعا ... غاب كما غاب ثم قد لمعا ) ( وما أرى غيرَه يشاكله ... فاسأله بالله عنه ما صنعا ) ( فرّق بيني وبينه قدر ... هو الذي كان بيننا جمَعا ) ( فهل له عودة فأرقبَها ... كما رأينا شِبهه رجعا ) فقال أحسنت وحياتي ثم قال لعلويه غن في هذه الأبيات وكان حاضراً فغنى فيها وشرب عليها ليلته وأمر لي بأربعمائة دينار ولعلويه بمثلها لحن علوية في هذه الأبيات رمل المأمون يحكم له بثلاثة آلاف دينار حدثني عمي قال حدثنا الفضل بن محمد قال حدثني أخي عن أبي قال شكوت إلى المأمون ديناً علي فقال إن عبد الله بن طاهر اليوم عندي وأريد الخلوة معه فإذا علمت بذلك فاستدع أن يكون دخولك أو إخراجه إليك فإني سأحكم لك عليه بمال فلما علمت أنهم قد جلسوا للشرب صرت إلى الدار وكتبت بهذين البيتين ( يا خير سادات وأصحاب ... هذا الطفَيليُّ على البابِ ) ( فصِّيروا لي معكمْ مجلساً ... أو أخرِجُوا لي بعض أصحابي ) وبعثت بهما إليه فلما قرأهما قال صدق اكتبوا إليه وسلوه أن يختار فكتب إلي أما وصولك فلا سبيل إليه ولكن من تختار لنخرجه إليك فتمضي معه فكتب ما كنت لأختار على أبي العباس أحداً فقال له المأمون قم إلى صديقك فقال يا أمير المؤمنين إن رأيت أن تعفيني من ذلك أتخرجني عما شرفتني به من منادمتك وتبدلني بها منادمة ابن اليزيدي قال لا بد من ذلك أو ترضيه قال فيلحتكم قال أخاف أن يشتط أو تقصر أنت ولكني أحكم فأعدل قال قد رضيت قال تحمل إليه ثلاثة آلاف دينار معجلة قال قد فعلت فأمر صاحب بيت المال أن يحملها معي وأمر عبد الله بردها إلى بيت المال حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال كان محمد بن أبي أحمد اليزيدي يعشق جارية لسحاب يقال لها عليا وكانت من أظرف النساء لساناً وأحسنهن وجهاً وغناء فأعطي بها ثلاثة آلاف دينار فلم تبع واشتراها المعتصم بخمسة آلا ف دينار وذلك في خلافة المأمون وكان علي بن الهيثم جونقاً صديقاً لمحمد بن ابي أحمد اليزيدي فبلغ المأمون الخبر فدعا محمداً وقال ما قصتك مع عليا قال قد قلت في ذلك أبياتاً فإن أذن أمير المؤمنين أنشدتها قال هاتها فأنشده ( أشكو إلى الله حُبي للعَليّينا ... وأنني فيهمُ ألقَى الأمرينا ) ( حَسْبي علًّيا أمير المؤمنين فقد ... أصبحتُ حقًّا أرى حبّي له دِينا ) ( وحبَّ خٍلِّي وخُلصاني أبي حسن ... أعني علّياً قريعَ التغلَبيينا ) ( ورِقتي لبُنَيٍّ لي أُصِبت به ... وَجْدِي به فوق وجد الآدميينا ) ( ورابع قد رمى قلبي باسهمه ... فجُزْت في حبه حدّ المحبينا ) ( وبعض من لا أسمِّي قد تمَّلكه ... فرُحتُ عنه بما أعيا المداوينا ) ( أتاه بالدين والدنيا تمكُّنُه ... فلم يدَع ليَ لا دُنيا ولادِينا ) قال فقال المأمون لولا أنه أبو إسحاق لانتزعتها منه ولكن هذا ألف دينار فخذه عوضاً ولقيني المعتصم في الدار فقال لي يا محمد قد علمت ما آل إليه أمر فلانة فلا تذكرنها فقلت السمع والطاعة لأمرك أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو العباس محمد بن الحسن بن دينار مولى بني هاشم قال حدثني جعفر بن محمد اليزيدي عن أبيه محمد بن أبي محمد قال كنت عند المأمون فقال لي يا محمد قل شعراً في نحو هذين البيتين ( صحيح يودّ السُّقم كيما تعودُه ... وإن لم تَعُده عاد منها رسولُها ) ( لِيعلم هل ترتاع عند شَكاته ... كما قد يروع المُشفقات خليلها ) قال فقلت ( صحيحُ وَدّ لو أمسى عليلا ... لتكتبَ أو يرى منكم رسولا ) ( رآك تسومُه الهجران حتى ... إذا ما اعتلّ كنت له وَصولا ) ( فودّ ضَنا الحياة بوصل يوم ... يكون على هواكَ له دليلا ) ( هما موتان موت هوى وهَجرٍ ... وموت الهجر شرُّهما سبيلا ) قال فأمر لي بعشرة آلاف درهم أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثني أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي عن أبيه قال دخلت على المأمون وهو يشرب وعنده عريب ومحمد بن الحارث بن بسخنر يغنيانه فقال أطعموا محمداَ شيئاً فقلت قد بدأت بذلك في دار أمير المؤمنين فقال أما ترى كيف عتق هذا الشراب حتى لم يبق إلا أقله ما أحسن ما قيل في قديم الشراب فقلت قول الحكمي ( عتقت حتى لو اتّصلتْ ... بلسان ناطق وفمِ ) ( لاحتبتْ في القوم ماثلةً ... ثم قصت قصّة الأممِ ) فقال هذا كان في نفسي ثم قال اسقوا محمداً رطلين وأعطوه عشرين ألف درهم ثم نكت في الأرض ورفع رأسه ثم قال يا محمد ( إنّي وأنت رضيعا قهوةٍ لطفتْ ... عن العِيانِ ودقّت عن مَدَى الفَهِمِ ) ( لم نرتضعْ غيرَ كأسٍ دَرُّها ذهبٌ ... والكأسُ حُرْمتها أولى من الرَّحمِ ) قال والشعر له قاله في ذلك الوقت ومما فيه غناء من شعر محمد بن أبي محمد أنشدناه محمد بن العباس عن عمه عبيد الله عن أخيه أحمد صوت ( أنت امرؤ متجنٍّ ... ولسْت بالغضبان ) ( أنت امرؤ لك شأنٌ ... فيما أرى غير شَانِي ) ( صرّحْ بما عنه أكْنِي ... أكفّ عنك لسانِي ) ( حَسْبي أسأَتُ فهلا ... مَنَنْتَ بالغفران ) ومنها صوت ( يا أحسن الأمّة في ... عيني أمَا ترحمُنِي ) ( أمَا تراني كامداً ... موكَلاً بالحزَنِ ) ( أمَا ترى فيك مُدَاراتِي ... لأهْلِ الظنَنِ ) ( أصرفُ طَرْفي عنك خَوْفاً ... منه أن يَفْضَحَنِي ) ( يَرَانيَ الله وما ألْقى ... وإنْ لَمْ تَرَنِي ) وممن له شعر فيه صنعة من ولد أبي محمد اليزيدي لصلبه إبراهيم صوت ( لا تلحَني إِن منحتُ عشقاً ... مَن كان للعشق مستحِقاً ) ( ولم يقدِّمْ عليّ خَلقا ... ولم أقدّم عليه خلقا ) ( يملك رِقّي ولست أبغي ... من مِلكه ما حييت عتقا ) ( لم أر فيمن هوِيت خَلقا ... أعطفَ منه ولا أرقَّا ) الشعر لإبراهيم بن محمد اليزيدي والغناء لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل مطلق وفيه لعريب رمل مزموم أخبار إبراهيم أخبرني عمي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثنا أحمد عن عمه إبراهيم قال كنت مع المأمون في بلد الروم فبينا أنا في ليلة مظلمة شاتية ذات غيم وريح وإلى جانبي قبة فبرقت برقة وإذا في القبة عريب قالت إبراهيم بن اليزيدي فقلت لبيك فقالت قل في هذا البرق أبياتاً ملاحاً لأغني فيها فقلت ( ماذا بقلبي من أليم الخَفْقِ ... إذا رأيتُ لمعان البرْقِ ) ( مِن قِبَل الأُرْدُنِّ أو دمشق ... لأنّ مَن أهوى بذاك الأفْق ) ( فارقتُه وهو أعز الخلق ... عليّ والزُور خلاف الحق ) ( ذاك الذي يملك مني رقي ... ولست أبغي ما حييت عتقي ) قال فتنفست نفساً ظننته قد قطع حيازيمها فقلت ويحك على من هذا فضحكت ثم قالت على الوطن فقلت هيهات ليس هذا كله للوطن فقالت ويلك أفتراك ظننت أنك تستفزني والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس فادعاها أكثر من ثلاثين رئيساً والله ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا اليوم إبراهيم في سيحان أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي عن عمي إبراهيم بن أبي محمد أنه كان مع المعتصم لما خرج إلى الغزو قال فكتب في رفقة فيها فتى من أهل البصرة ظريف أديب شاعر راوية فكان لي فيه أنس وكنا لا نفترق حتى غزونا وعدنا فعاد إلى البصرة وكان له بستان حسن بسيحان فكان أكثر مقامه به وعزم لي على الشخوص إلى البصرة لحاجة عرضت لي فكان أكثر نشاطي لها من أجله فوردتها ونظرت فيما وردت له ثم سألت عنه ومضيت إليه فكان أن يستطار بي فرحاً وأقمت بسيحان معه أياماً وقلت في بعضها وقد اصطبحنا في بستانه ( يا مسعدَيّ بسيحانٍ فدَيتكما ... حُثا المدامة في أكناف سيحانا ) ( نَهْر كريم من الفِردوس مَخرجه ... بذاك خبّرنا من كان أنبانا ) ( لا تحسداني رَواحاً أو مباكرة ... طِيبَ المسير على سيحان أحياناً ) ( بشَطّ سيحان إنسان كلِفْت به ... نفسي تقي ذلك الإنسان إنساناً ) ( ريَّاه ريحاننا والكأسُ معملة ... لا شيء أطيب من رّياه ريحانا ) ( حُثا شَرابكما حتى أرى بكما ... سًكراً فإنيَ قد أمسيت سكرانا ) ( رَيّا الحبيب وكأسٌ من معتّقه ... يُهيجّان لنفس الصّبَ أشجاناً ) ( سَقياً لسيحانَ من نهر ومن وطن ... وساكنيه من السكان مَن كانا ) ( هُم الذين عقَدنا الودّ بينهًم ... وبيننا وهُمُ في دَير مُرّانا ) أخبرني محمد بن العباس قال حدثني عمي عبيد الله عن جماعة من أهلنا أن إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي كان يعاشر أبا غسان مولى منيرة وكانت له جارية مغنية يقال لها جاني فدعاه يوماً أبو غسان وجلسنا للشرب فقال له لو دعوت ابن أخيك يعني محمد بن أبي محمد لنأنس به فكتب إليه إبراهيم ( يا أكرمَ الناس طُرَّا ... وأكرم الفتيانِ ) ( بادِرْ إلينا لكيما ... تُسقَى سُلاف الدِّنانِ ) ( على غِناء غزال ... مُهَفهَفٍ فَتّان ) ( اشرَب على وجه جانٍ ... شرابَك الخًسرَواني ) ( فما لِجانٍ نظير ... ومالها من مُدان ) ( إلا الذي هو فَرد ... وماله من ثان ) ( أعنِي الهلال لِسِتِّ ... في شهره وثمان ) ( للناس بَدرٌ منير ... يُرى بكل مكان ) ( وما لنا غيرُ بدر ... لدى أبي غسان ) ( ذٍكْراه في كل وقت ... موصولة بلساني ) ( سبَيتُه وسباني ... فحُبُّه قد براني ) ( مِن ثم لستَ ترانِي ... أصبو إلى إنسان ) أنشدنا أبو عبيد الله اليزيدي عن عمه الفضل لإبراهيم بن أبي محمد اليزيدي في بعض إخوانه وقد رأى منه جفوة ثم عاد واستصلحه فكتب إليه ( مَن تاه واحدة فتِهْ عَشْرا ... كي لا يجوز بنفسه القدرا ) ( وإذا زها أحد عليك فكن ... أزهى عليه ولا تكن غُمْراً ) ( أرأيتَ مَن لم ترجُ منفعة ... منه ولم تحذر له ضَرا ) ( لم يُستذَلَّ وتُستذلُّ له ... بل كن أشد إذا زها كِبرا ) يشرب ويعربد في مجلس شراب مع المأمون حدثني عمي والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي عن جعفر بن المأمون قال دخل إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي على أبي وهو يشرب فأمره بالجلوس فجلس وأمر له بشراب فشرب وزاد في الشرب فسكر وعربد فأخذ علي بن صالح صاحب المصلى بيده فأخرجه فلما أصبح كتب إلى أبي ( أنا المذنب الخطّاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لَمَا عُرِف العفو ) ( ثمِلت فأبدتْ منّي الكاس بعض ما ... كرهتُ وما إن يستوي السكر والصحو ) ( ولولا حُمَيا الكأس كان احتمال ما ... بَدَهتُ به لا شك فيه هو السَّرو ) ( ولا سيما إذ كنتُ عند خليفةٍ ... وفي مجلس ما إن يجوز به اللغو ) ( تنصلت من ذنبي تنصُّل ضارع ... إلى من لديه يُغْفَرُ العمد والسهو ) ( فإن تعف عني تُلْفِ خطويَ واسعاً ... والاّ يكن عفو فقد قصر الخطو ) حدثني عمي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال جاء عمي إبراهيم إلى هارون بن المأمون فصادفه قد خلا هو وجماعة من المعتزلة فلم يصل إليه وحجب عنه فكتب إليه ( غلبَتْ عليكم هذه القَدَريَّهْ ... فعليكُم مني السلام تحيهْ ) ( آتيكمُ شوقاً فلا ألقاكُمُ ... وهمُ لدَيكم بُكرةً وعشيهْ ) ( هرونُ قائدهم وقد حَفّتْ به ... أشياعه وكفى بتلك بليه ) ( لكنّ قائدَنا الإمام ورأينا ... ما قد رآه فنحن مأونية ) أخبرني عمي قال حدثني الفضل قال كان لعمي إبراهيم ابن يقال له إسحاق وكان يألف غلاما من أولاد الموالي فلما خرج المعتصم إلى الشام خرج إبراهيم معه وخرج الغلام الذي يألفه في العسكر وعرف إبراهيم أنه قد صحب فتى من فتيان العسكر غير ابنه فكتب عمي إبراهيم إلى ابنه ( قل لأبي يعقوب إن الذي ... يعرفه قد فعل الحُوبا ) ( كان محِبّاً لك فيما مضى ... فالآن قد صادف محبوبا ) ( يركب هذا ذا وذا ذا فما ... ينفك تصعيداً وتصويبا ) فرأس إسحاق فدَيناه فما ... ينفك تصعيداً وتصويباً ) ( أرى قروناً قد تَجلّلنه ... منصوبةً شُعِّبن تشعيبا ) ( أظنه يعجِز عن حملها ... إذ رُكّبت في الرأس تركيبا ) ( يا رحمتا لابني على ضعفه ... يحمل منهن أعاجيبا ) حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي قال كتبت إلى عمي إبراهيم أستعين به في حاجة لي وأستزيده من عنايته بأموري وأطالبه أن يتوفر نصيبي لديه وفيما أبتغيه منه فكتب إلي ( فدَيتك لو لم تكن لي قريباً ... وكنت امرأ أجنبيِّا غربيا ) ( مع البر منك وما يستجر ... به مسخفاً إليك اللبيبا ) ( لما إن جعلْت لخلق سواك ... مثلَ نصيبك مني نصيبا ) ( وكنتَ المقدّم ممن أودّ ... وازداد حقك عندي وُجوبا ) ( تَلطّفْ لما قد تكلمت فيه ... فما زلتَ في الحاج شهماً نجيبا ) ( وراوض أبا حسن إن رأيت ... واحتل بِرفقك حتى يجيبا ) ( فإن هو صار إلى ما تريد ... وإلا استعنتَ عليه الحبيبا ) ( وما لا يخالف ما تشتهيه ... لِتلفِيَه غيرَ شك مجيبا ) ( يودك خاقان وُدِّا عجيبا ... كذاك الأديب يحب الأديبا ) ( وأنت تكافيه بل قد تزيد ... عليه وتجمع فيه ضروبا ) ( تُثيب أخاك على الورد منه ... وذو اللب يأنف ألا يثيبا ) ( ولا سيما إذ بَراه الإله ... كالبدر يدعو إليه القلوبا ) ( يرى المُتمَنِّي له رِدْفَه ... كثيباً وأعلاه يحكي القضيبا ) ( وقد فاق في العلم والفهم منه ... كما تم مِلْحاً وحسناً وطيباً ) ( ويبلغ فيما يقولون ليس ... يعاف إذا ناولوه القضيبا ) ( ولكنه وافَق الزاهدين ... فخاب وقد ظن أن لن يخيبا ) ( وإن ركِب المرء فيه هواه ... عاث فتطهيره أن يثوبا ) ( إذا زارت الشاة ذئباً طبيباً ... فلا تأمنَنّ على الشاة ذيبا ) ( وعند الطبيب شفاء السقيم ... إذا اعتلّ يوماً وجاء الطبيبا ) ( ولستَ ترى فارساً في الأنام ... إلا وَثُوباً يجيد الركوبا ) أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال وحدثني أخي أحمد قال زامل المأمون في بعض أسفاره بين يحيى بن أكثم وعبّادةَ المخنَّث فقال عمي إبراهيم في ذلك ( وحاكمِ زاملَ عبّاده ... ولم يزل تلك له عاده ) ( لو جاز لي حُكم لما جاز أن ... يحكم في قيمة لُبّاده ) ( كم منِ غلام عزّ في أهله ... وافتْ قفاه منه سجاده ) وقال في يحيى أيضاً ( وكنا نرجيّ أن نرى العدل ظاهراً ... فأعقبنا بعد الرجاء قُنوط ) ( متى تصلحُ الدنيا ويصلحُ أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط ) وأخبرني عمي حدثنا أبو العيناء قال نظر المأمون إلى يحيى بن أكثم يلحظ خادماً له فقال للخادم تعرض له إذا قمت فإني سأقوم للوضوء وأمره ألا يبرح وعد إليّ بما يقول لك وقام المأمون وأمر يحيى بالجلوس فلما غَمزه الخادم بعينه قال يحيى ( لولا أنتم لكنا مؤمنين ) فمضى الخادم إلى المأمون فأخبره فقال له عد إليه فقال له ( أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين ) فخرج الخادم إليه فقال له ما أمره به المأمون فأطرق يحيى وكاد يموت جزعا وخرج المأمون وهو يقول ( متى تصلحُ الدنيا ويصلحُ أهلها ... وقاضي قضاة المسلمين يلوط ) قم وانصرف واتق الله وأصلح نيتك حدثنا اليزيدي قال حدثني ابن عمي إسحاق بن إبراهيم بن أبي محمد اليزيدي عن أبيه إبراهيم قال كنت عند المأمون يوماً وبحضرته عريب فقالت لي على سبيل الولع بي يا سلعوس وكان جواري المأمون يلقبنني بذلك عبثاً فقلت لها ( قًلْ لعريبٍ لا تكوني مسلعسه ... وكوني كتنريفٍ وكوني كمونسه ) فقال المأمون ( فإن كثَرت منك الأقاويل لم يكن ... هنالك شك أنّ ذا منك وسوسة ) قال فقلت كذا والله يا أمير المؤمنين أردت أن أقول وعجبت من ذهن المأمون وممن غني في شعره من ولد أبي محمد اليزيدي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي محمد فمن ذلك صوت ( شوقي إليك على الأيام يزداد ... والقلب مُذ غبْت للأحزان معتادُ ) ( يا لهفَ نفسي على دهر فُجعتُ به ... كأنَّ أيامه في الحسن أعياد ) الشعر لأحمد بن محمد بن أبي محمد والغناء لبحر هزج وفيه ثاني ثقيل مطلق ذكر الهشامي أنه لإسحاق وما أراه أصاب ولا هو في جامع إسحاق ولا يشبه صنعته وكان أحمد راوية لعلم أهله فاضلا أديبا وكان أسن ولد محمد بن أبي محمد وكان إخوته جميعا يأثرون علوم جدهم وعمومتهم عنه وقد أدرك أبا محمد وأظن أنه روى عنه أيضاً إلا أني لم أذكر شيئاً من ذلك وقت ذكري إياه فأحكيه عنه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي أبو جعفر قال كنت عند جعفر بن المأمون مقيما فلما أردت الانصراف منعني فبتّ عنده وزارته لما أصبحنا عريب في جواريها وبتّ فاحتبسها من غد فاستطبت المقام أيضاً فأقمت فكتب إلي عمي إبراهيم بن محمد اليزيدي ( شردْتَ يا هذا شُرود البعيرْ ... وطالت الغيبة عند الأميرْ ) ( أقمتَ يومين وليليهما ... وثالثاً تُحبَى ببرٍّ كَثير ) ( يومُ عَريبٍ مع إحسانها ... إن طالت الأيامُ يوم قصير ) ( لها أغانٍ غيرُ مملولة ... منها ولا تخلقُ عند الكرور ) غيرُ مَلوم يا أبا جعفر ... أن تؤثر اللهو ويومَ السرور ) ( فاجعل لك منا نصيباً فما ... إن كنتَ عن مجلسنا بالنَّفور ) ( وصِر إلينا غير ما صاغر ... أصارك الرحمن خيرَ المصير ) ( إن لم يكن عندي غِناء ولا ... عُود فعندي القَمْر بالنردشير ) ( والذّكر بالعلم الذي قد مضى ... بأهله حادثُ صَرْفِ الدهور ) ( وهو جديد عندنا نهجه ... أعلامه تحويه منا الصدور ) ( فالحمد لله على كل ما ... أولى وأبلى ولِربِّي الشُكور ) حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال سمعت أخي أبا جعفر أحمد بن محمد يقول دخلت إلى المعتصم يوما وبين يديه خادم وضيء جميل وسيم فطلعت عليه الشمس فما رأيت أحسن منها على وجهه فقال لي يا أحمد قل في هذا الخادم شيئاً وصفْ طلوع الشمس عليه وحسنها فقلت ( قد طلعَتْ شمس على شمس ... وطاب لي الهوى مع الأنس ) ( وكنت أَقلِي الشمس فيما مضى ... فصرتُ أشتاق إلى الشمس ) حدثني اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال كتب إلى أخي بعض إخوانه ممن كان يألفه ويديم زيارته ثم انقطع عنه يعتذر إليه من تأخره عنه فكتب إليه ( إني امرؤ أعذِر إخواني ... في تركهم بِرِّي وإتياني ) ( لأنه لا لهو عندي ولا ... لي اليومَ جاهٌ عند سلطان ) ( وأكثر الإخوان في دهرنا ... أصحاب تمييز ورُجحان ) ( فمَن أتاني مُنْعماً مُفْضلاً ... فشكرُه عنديَ شكرانِ ) - ( ومَن جفاني لم يكن لومُه ... عندي ولا تعنيفُه شاني ) ( أعفو عن السيّئ من فِعلهم ... وأُتبع الحسنَى بإحسان ) ( حسْبُ صديقي أنه واثق ... مني بإسراري وإعلاني ) ينشد المأمون شعراً وهو لا يزال غلاماً حدثني اليزيدي قال حدثني أبي عن عمي عن أبي جعفرٍ أحمد بن محمد قال دخلت على المأمون وهو في مجلس غاصّ بإهله وأنا يومئذٍ غلام فاستأذنت في الإنشاد فأذن فأنشدته مديحا لي مدحته به وكان يستمع للشاعر ما دام في تشبيب أو وصف ضرب من الضروب حتى إذا بلغ إلى مديحه لم يسمع منه إلا بيتين أو ثلاثة ثم يقول للمنشد حسبك ترفعا فأنشدته ( يا من شكوت إليه ما ألقاه ... وبذلتُ من وَجدي له أقصاهُ ) ( فأجابني بخلاف ما أمّلْتُه ... ولربما مُنع الحريصُ مناه ) ( أترى جميلاً أن شكا ذو صَبْوة ... فهجرتَه وغضبتَ من شكواه ) ( يكفيك صمت أو جواب مِؤيس ... إن كنت تَكره وصله وهواه ) ( موت المحب سعادة إن كان مَن ... يهواه يزعم أن ذاك رضاه ) فلما صرت إلى المديح قلت ( أبقى لنا الله الإمامَ وزاده ... عزّاً إلى العز الذي أعطاه ) ( فالله مكرمنا بأنا معشر ... عُتقاء من نعم العباد سواه ) فسر بذلك وضحك وقال جعلنا الله وإياكم ممن يشكر النعمة ويحسن العمل أخبرنا محمد بن العباس قال حدثني أبي عن أخيه أبي جعفر قال دخلت يوماً على المأمون بقارا وهو يريد الغزو فأنشدته شعراً مدحته فيه أوله ( يا قصًر ذا النّخلات من بارا ... إني حللتُ إليك من قارا ) ( أبصرتُ أشجاراً على نهر ... فذكرتُ أشجاراً وأنهارا ) ( لله أيامٌ نعِمتُ بها ... بالقُفص أحياناُ وفي بارا ) ( إذ لا أزال أزور غانية ... ألهو بها وأزور خَمّارا ) ( لا أستجيب لِمَن دعا لهُدىً ... وأجيب شطّاراً ودُعّارا ) ( أعصِي النصيحَ وكلّ عاذلة ... وأُطيع أو تاراً ومزمارا ) قال فغضب المأمون وقال أنا في وجه عدو وأحض الناس على الغزو وأنت تذكرهم نزهة بغداد فقلت الشيء بتمامه ثم قلت ( فصحوت بالمأمون عن سُكُري ... ورأيت خير الأمر ما اختارا ) ( ورأيت طاعته مؤديةً ... للفَرض إعلاناً وإسرارا ) ( فخلعتُ ثوب الهزل عن عنقي ... ورضِيتُ دارَ الجِدّ لي دارا ) ( وظللتُ معتصماً بطاعته ... وجِواره وكفَى به جارا ) ( إن حَلّ أرضاً فهْي لي وطن ... وأسير عنها حيثما سارا ) فقال له يحيى بن أكثم ما أحسن ما قال يا أمير المؤمنين أخبر أنه كان في سكر وخسار فترك ذلك وارعوى وآثر طاعة خليفته وعلم أن الرشيد فيها فسكن وأمسك حدثني الصولي قال حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن أبيه قال دعا المعتصم ذات يوم المأمون فجاءه فأجلسه في بيت على سقفه جامات فوقع ضوء الشمس من وراء تلك الجامات على وجه سيما التركي غلام المعتصم وكان المعتصم أوجد الناس به ولم يكن في عصره مثله فصاح المأمون يا أحمد بن محمد اليزيدي وكان حاضراً فقال انظر إلى ضوء الشمس على وجه سيما التركي أرأيت أحسن من هذا قط وقد قلت ( قد طلعت شمس على شمس ... وزالت الوحشة بالأنس ) أجز يا أحمد فقلت ( قد كنت أشنا الشمس فيما مضى ... فصرت أشتاق إلى الشمس ) قال وفطن المعتصم فعض على شفته لأحمد فقال أحمد للمأمون والله لئن لم يعلم الحقيقة من أمير المؤمنين لأقعن معه فيما أكره فدعاه المأمون فأخبره الخبر فضحك المعتصم فقال له المأمون كثر الله في غلمانك مثله إنما استحسنت شيئاً فجرى ما سمعت لا غيره حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني أحمد بن محمد اليزيدي قال كنا بين يدي المأمون فأنشدته مدحاُ فقال لئن كانت حقوق أصحابي تجب علي لطاعتهم بأنفسهم فإن أحمد ممن تجب له المراعاة لنفسه وصحبته ولأبيه وخدمته ولجده وقديم خدمته وحرمته وإنه للعريق في خدمتنا فقلت قد علمتني يا أمير المؤمنين كيف أقول ثم تنحيت ورجعت إليه فأنشدته ( لي بالخليفة أعظم السبب ... فبِه أمنتُ بوائق العَطَب ) ( ملِك غذَتني كفّه وأبي ... قَبلي وجدّى كان قبلَ أبي ) ( قد خصني الرحمن منه بما ... أسمو به في العجم والعرب ) فضحك وقال قد نظمت يا أحمد ما نثرناه هذا آخر أخبار اليزيديين وأشعارهم التي فيها صنعة صوت ( أفي كُلّ يوم أنت من غُبُرِ الهوى ... إلى الشُّمِّ من أعلاه ميلاء ناظر ) ( بعمشاء من طول البكاء كأنما ... بها خزَرٌ أو طرفُها مُتختازر ) عروضه من الطويل والغبر البقية من الشيء يقال فلان في غبر من علته وأكثر ما يستعمل في هذا ونحوه والشم الطوال والأعلام جمع علم وهو الجبل قالت الخنساء ( وإن صخراً لتأتمّ الهداة به ... كأنه عَلمَ في رأسه نار ) والخزر ضيق العين وصغرها ومنه سمي الخزر بذلك لصغر أعينهم قال الراجز ( إذا تخازرت وما بي من خَزَرْ ... ثم كسرت الطرف من غير عورْ ) والشعر لرجل من قيس يقال كعب ويلقب بالمخبل والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى ومن الناس من يروي الشعر لغير هذا الرجل وينسبه إلى ذي الرمة ويجعل فيه مية مكان ميلاء ويقال إن اللحن لابن المكي وقد نسب إلى غيرهما والصحيح ما ذكرناه أولاً أخبار المخبل القيسي ونسبه قال عبد الله بن أبي سعد الوراق فيما أخبرني به حبيب بن نصر المهلبي إجازة عنه حدثني علي بن الصباح بن الفرات قال أخبرني علي بن الحسن بن أيوب النبيل عن رباح بن قطيب بن زيد الأسدي قال كانت عند رجل من قيس يقال له كعب بنت عم له وكانت أحب الناس إليه فخلا بها ذات يوم فنظر إليها وهي واضعة ثيابها فقال يا أم عمرو هل ترين أن الله خلق أحسن منك قالت نعم أختي ميلاء هي أحسن مني قال فإني أحب أن أنظر إليها فقالت إن علمت بك لم تخرج إليك ولكن كن من وراء الستر ففعل وأرسلت إليها فجاءتها فلما نظر إليها عشقها وانتظرها حتى راحت إلى أهلها فاعترضها فشكا إليها حبها فقالت والله يا ابن عم ما وجدت من شيء إلا وقد وقع لك في قلبي أكثر منه وواعدته مرة أخرى فأتتهما أم عمرو وهما لا يعلمان فرأتهما جالسين فمضت إلى إخوتها وكانوا سبعة فقالت إما أن تزوجوا ميلاء كعبا وإما أن تكفوني أمرها وبلغهما الخبر ووقف إخوتها على ذلك فرمى بنفسه نحو الشام حياء منهم وكان منزله ومنزل أهله الحجاز فلم يدر أهله ولا بنو عمه أين ذهب فقال كعب شعره في أرض الغربة ( أَفِي كلِّ يومٍ أنتَ من لاعجِ الهوى ... إلى الشُّمِّ من أعلامِ ميلاء ناظرُ ) ( بعَمْشاء من طولِ البكاء كأنما ... بها خَزَر أوطرفها متخازرُ ) ( تَمنَّى المُنى حتى إذا ملّت المنى ... جرَى واكِفٌ من دمعها متبادرُ ) ( كما أرْفضّ عنها بعد ما ضمّ ضمةً ... بخيط الفتيل اللؤلؤُ المتناثرُ ) قال فرواه عنه رجل من أهل الشام ثم خرج بعد ذلك الشامي يريد مكة فاجتاز بأم عمرو وأختها ميلاء وقد ضل الطريق فسلم عليهما ثم سألهما عن الطريق فقالت أم عمرو يا ميلاء صِفي له الطريق فذكر لما نادت يا ميلاء شعر كعب هذا فتمثل به فعرفت أم عمرو الشعر فقالت يا عبد الله من أين أنت قال رجل من أهل الشام قالت من أين رويت هذا الشعر قال رويته عن أعرابي بالشام قالت أو تدري ما اسمه فقال سمعت أنه كعب فأقسمت عليه لا تبرح حتى تعرف أخوتنا بذلك فنحسن إليك نحن وهم وقد أنعمت علينا قال أفعل وإني لأروي له شعراً آخر فما أدري أتعرفانه أم لا فقالت نسألك بالله إلا أسمعتنا قال سمعته يقول ( خليليّ قد قِسْتُ الأمور ورُمتُها ... بِنَفْسي وبالفِتيان كلِّ زمانِ ) ( فلم أُخفِ سُوءاً للصديق ولم أجدْ ... خليّاً ولا ذا البَث يستويان ) ( من الناس إنسانان دَيني عليهما ... مليئان لو شاءا لقد قَضَياني ) ( خليليّ أمّا أُمُّ عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تَسَلاني ) ( بُلينا بهجران ولم أرَ مثلَنا ... من الناس إنسانين يهتجران ) ( أشدَّ مصافاةً وأبعدَ من قِلىً ... وأعْصَىلِواشٍ حين يكتفيان ) ( تحدَّث طرفانا بما في صدورنا ... إذا استعجَمَت بالمنطق الشفتان ) ( فوالله ما أدري أكلُّ ذَوِي الهوى ... على ما بنا أو نحن مبتَليَان ) ( فلا تَعْجبا مما بيَ اليومَ من هوىً ... فبي كلَّ يوم مثلُ ما تريان ) ( خليليّ عن أيِّ الذي كان بيننا ... من الوصل أم ماضي الهوى تسلان ) ( وكنا كريمي معشرٍ حمَّ بيننا ... هوى فحفِظناه بحسن صِيان ) ( سلاه بأم العَمْرو مَن هي إذ بَدا ... به سقَم جمُّ وطول ضمان ) ( فما زادنا بعد المدى نقْضَ مرة ... ولا رجَعنا من علْمنا ببيان ) ( خليليّ لا والله ما ليَ بالذي ... تريدان من هجر الحبيب يدان ) ( ولا ليَ بالبين اعتلاءٌ إذا نأت ... كما أنتما بالبين معتليان ) قال ونزل الرجل ووضع رحله حتى جاء إخوتهما فأخبراهم الخبر وكانوا مهتمين بكعب وكان كعب أظرفهم وأشعرهم فأكرموا الرجل وحملوه على راحلة ودلوه على الطريق وطلبوا كعباً فوجدوه بالشام فأقبلوا به حتى إذا كانوا في ناحية ماء أهلهم إذا الناسُ قد اجتمعوا عند البيوت وكان كعب ويحك يا غلام من أبوك فقال رجل يقال له كعب قال وعَلى أيَّ شيء قد اجتمع الناس وأحسّ قلبُه بالشرّ قال اجتمعوا على خالتي ميلاء قال وما قصتها قال ماتت فزفر زفرة مات منها مكانَه فدُفن حِذاء قبرها قال وقال كعب وهو بالشام ( أحقاً عبادَ اللهِ أن لستُ ماشياً ... بمرحابَ حتى يُحشَرَ الثقلان ) ( ولا لاهياً يوماً إلى الليل كلِّه ... ببيض لطيفات الخصور رواني ) ( يُمنِّيننا حتى تَرِيعَ قلوبنا ... ويَخلِطن مَطْلاً ظاهراً بِلَيان ) ( فعينيّ ياعينيَّ حتّام أنتما ... بهجران أُمِّ العمرو تختلجان ) ( أمَا أنتما إلا عليَّ طليعةٌ ... على قُرب أعدائي كما تريان ) ( فلو أنّ أُم العمرو وأضحَتْ مقيمة ... بمصر وجثماني بِشحِرِ عُمان ) ( إذاً لرجوتُ اللهَ يجمع شملَنا ... فإنّا على ما كان ملتقيان ) نسبة ما في هذا الخبر من الغناء صوت ( من الناس إنسانان دَيْني عليهما ... مليئان لو شاءا لقد قضياني ) ( خليليّ أما أمّ عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني ) عروضه من الطويل الشعر على ما في هذا الخبر لكعب المذكورة قصته وروى المفضل بن سلمة وأبو طالب بن أبي طاهر هذين البيتين مع غيرهما لابن الدمينة الخثعمي والغناء لإبراهيم الموصلي خفيف رمل بالوسطى ذكره أبو العبيس عنه وذكر ابن المكي أنه لعلويه والأبيات التي ذكرنا أن المفضل بن سلمة وابن أبي طاهر روياها لابن الدمينة مع البيتين اللذين فيهما الغناء هي ( من الناس إنسانان دَيْني عليهما ... مليئان لو شاءا لقد قضياني ) ( خليليّ أما أمّ عمرو فمنهما ... وأما عن الأخرى فلا تسلاني ) ( مَنُوعان ظَلاَّمان ما يُنْصفانني ... بدَليهما والحُسنِ قد خَلَباني ) ( من البيض نجلاء العيون غذَاهما ... نعيمُ وعَيشٌ ضاربٌ بِجِران ) ( أفي كلِّ يومٍ أَنت رامٍ بلادَها ... بعَيْنين إنساناهما غَرِقان ) ( إذا اغرَوْرقت عيناي قال صحابتي ... لقد أُولِعتْ عيناك بالهَمَلان ) وقد روي أيضاً أن هذا البيت ( أَفي كلِّ يومٍ أَنت رامٍ بلادَها ... ) لعروة بن حزام ( ألا فاحملاني بارك الله فيكما ... إلى حاضر الرّوحاء ثم ذراني ) أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أبو سعيد القيسي قال حدثني سليمان بن عبد العزيز قال حدثني خارجة المالي قال حدثني من رأى عروة بن حزام يطاف به حول البيت قال فقلت له من أنت قال أنا الذي أقول ( أفي كلِّ يومٍ أنت رامٍ بلادَها ... بعَينَين إنساناهما غَرِقان ) ( ألا فاحمِلاني بارك اللهُ فيكما ... إلى حاضرِ الرّوحاء ثم ذراني ) فقلت زدني قال لا ولا حرف التغني بالصوت المنسوب إليه يهيج الواثق ويقال إن الذي هاج الواثق على القبض على أحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب أنه غنى هذا الصوت أعني ( مِن الناس إنسانان دَيْنِي عليهما ... ) فدعا خادماً كان للمعتصم ثم قال له اصدقني وإلا ضربت عنقك قال سل يا أمير المؤمنين عما شئت قال سمعت أبي وقد نظر إليك يتمثل بهذين البيتين ويومئ إليك إيماء تعرفه فمن اللذان عنى قال قال لي إنه وقف على إقطاع أحمد بن الخصيب وسليمان بن وهب ألفي دينار وأنه يريد الإيقاع بهما فكان كلما رآني يتمثل بهذين البيتين قال صدقني والله والله سبقاني بهما كما سبقاه ثم أوقع بهما وأخبرني محمد بن يحيى الصولي حدثني ميمون بن هارون قال نظر الواثق إلى أحمد بن الخصيب يمشي فتمثل ( مِن الناس إنسانان دَيْني عليهما ... ) وذكَر البيتين وأشار بقوله ( خليليّ أمّا أم عمرو فمنهما ... ) إلى أحمد بن الخصيب فلما بلغ هذا سليمان بن وهب قال إنا لله أحمد بن الخصيب والله أمُّ عمرو وأنا الأخرى قال ونكبهما بعد أيام وقد قيل إن محمد بن عبد الملك الزيات كان السبب في نكتبهما أخبرنا محمد بن يحيى قال حدثنا عون بن محمد الكندي قال كانت الخلافة أيام الواثق تدور على إيتاخ وعلى كاتبه سليمان بن وهب وعلى أَشناس وكاتبه أحمد بن الخصيب فعمل الوزير محمد بن عبد الملك الزيات قصيدة وأوصلها إلى الواثق على أنها لبعض أهل العسكر وهي ( يابنَ الخلائِف والأملاكِ إن نُسبوا ... حُزْتَ الخلافة عن آبائك الأُوَلِ ) ( أَجُرْتَ أم رقَدتْ عيناك عن عَجب ... فيه البريَّةُ مِن خوف ومن وَهَل ) ( ولّيتَ أربعةًأَمرَ العباد معاً ... وكلُّهم حاطبٌ في حَبْل مُحتْبِل ) ( هذا سليمان قد ملَّكتَ راحتَه ... مشارقَ الأرضِ مِن سهل ومن جبل ) ( ملَّكته السندَ فالشَّحْرين من عَدنٍ ... إلى الجزيرة فالأطراف من مَلَل ) ( خلافةٌ قد حواها وحده فمضَت ... أحكامه في دماء القوم والنَّفَل ) ( وابنُ الخصيب الذي ملَّكت راحته ... خلافَة الشأم والغَازَين والقفل ) ( فَنِيل مصرٍ فبحر الشأم قد جريا ... بِما أَراد من الأموال والحُلل ) ( كأنهمْ في الذي قسّمتَ بينهم ... بَنُو الرشيد زمانَ القَسْم لِلدُّوَل ) ( حوَى سليمان ما كان الأمينُ حوى ... من الخلافة والتبليغِ للأمَل ) ( وأَحمدُ بنُ خصيب في إمارته ... كالقاسم بنِ الرشيد الجامع السبُل ) ( أَصبحتَ لا ناصحٌ يأتيك مستتراً ... ولا علانيةً خوفاً من الحِيل ) ( سَلْ بيتَ مالِكَ أَين المال تعرِفه ... وسل خَرَاجَك عن أَموالِك الجُمل ) ( كم في حبُوسِك ممّن لا ذُنوب لهمْ ... أَسرى التكذُّب في الأقياد والكَبَل ) ( سُمِّيتَ باسمِ الرشيدِ المرتضَى فَبِه ... قِسْ الأمورَ التي تُنجي من الزلل ) ( عِثْ فيهمُ مثل ما عاثت يداه معاً ... على البرامِكِ بالتهديم للقُلَل ) فلما قرأ الواثق الشعر غاظه وبلغ منه ونكب سليمان بن وهب وأحمد بن الخصيب وأخذ منهما ومن أسبابهما ألف ألف دينار فجعلها في بيت المال فقال أحمد بن أبي فنن ( نزلَتْ بالخائنين سَنَه ... سَنَةٌ للناس ممتحِنه ) ( سوّغَت ذا النصح بغيته ... وأزالت دولةَ الخونه ) ( فترَى أهلَ العفافِ بها ... وهمُ في دولةٍ حسنه ) ( وترى مَن جار هِمّتُه ... أن يُؤدِّي كل ما احتجنه ) وقال إبراهيم بن العباس لابن الزيات ( إيهاً أَبا جعفرٍ وللدهر كَرراتٌ ... وعما يرِيبُ متّسَعُ ) ( أرسلتَ ليثاً على فرائسِه ... وأنت منها فانظرْ متى تَقَع ) ( لكنّه قُوتُه وفيكَ له ... وقد تقضّتْ أقواتُه شِبع ) وهي أبيات وقد كان أحمد بن أبي داود حمل الواثق على الإيقاع بابن الزيات وأمر علي بن الجهم فقال فيه ( لَعائِنُ الله مُوَفّراتِ ... مُصَبّحاتٍ ومهجِّراتِ ) ( عَلَى ابنِ عبد المَلِك الزّياتِ ... عرّضَ شَمل المُلك للشتَاتِ ) ( يَرمِي الدواوين بتَوقيعاتِ ... معَقَّدات غيرِ مفتوحاتِ ) ( أَشبه شيء بُرقَى الحَياتِ ... كأنّها بالزيت مدهوناتِ ) ( بعد ركوب الطوف في الفراتِ ... وبَعد بَيعِ الزيت بالحباتِ ) ( سبحان مَن جلّ عن الصفاتِ ... هارون يابن سِّيد الساداتِ ) ( أَما ترى الأمور مهملاتِ ... تشكو إليك عدمَ الكُفاةِ ) وهي أبيات فهّم الواثق بالقبض على ابن الزيات وقال لقد صدق قائل هذا الشعر ما بقي لنا كاتب فطَرح نفسه على إسحاق بن إبراهيم وكانا مجتمعين على عداوة ابن أبي داود فقال للواثق أمثل ابن الزيات مع خدمته وكفايته يفعل به هذا وما جنى عليك وما خانك وإنما دلك على خونة أخذت ما اختانوه فهذا ذنبه وبعد فلا ينبغي لك أن تعزل أحداً أو تعد مكانه جماعة يقومون مقامه فمن لك بمن يقوم مقامه فمحا ما كان في نفسه عليه ورجع له وكان إيتاخ صديقاً لابن أبي داود فكان يغشاه كثيراً فقال له بعض كتابه إن هذا بينه وبين الوزير ما تعلم وهو يجيئك دائماً ولا تأمن أن يظن الوزير بك ممالأة عليه فعرّفه ذلك فلما دخل ابن أبي داود إليه خاطبه في هذا المعنى فقال إني والله ما أجيئك متعززاً بك من ذلة ولا متكثّراً من قلة ولكن أمير المؤمنين رتبك رتبة أوجبت لقاءك فإن لقيناك فله وإن تأخرنا عنك فلنفسك ثم خرج من عنده فلم يعد إليه وفي هذه القصة أخبار كثيرة يطول ذكرها ليس هذا موضعها وإنما ذكرنا ها هنا هذا القدر منها كما يذكر الشيء بقرائنه صوت ( عِشْ فَحبِّيكَ سريعاً قاتِلي ... والضنى إن لم تصلنيَ واصلي ) ( ظَفرَ الشوقُ بقلبٍ دَنِف ... فيك والسُّقم بِجِسْمٍ ناحلِ ) ( فهُما بينَ اكتئابٍ وضنىً ... تَرَكاني كالقضيب الذابِل ) الشعر لخالد الكاتب والغناء للمسْدود رمل مطلق في مجرى الوسطى وذكر جحظة أن هذا الرمل أخذ عنه وأنه أول صوت سمعه فكتبه أخبار خالد الكاتب هو خالد بن يزيد ويكنى أبا الهيثم من أهل بغداد وأصله من خراسان وكان أحد كتاب الجيش ووسوس في آخر عمره قيل إن السوداء غلبت عليه وقال قوم كان يهوى جارية لبعض الوجوه ببغداد فلم يقدر عليها وولاه محمد بن عبد الملك الإعطاء في الثغور فخرج فسمع في طريقه منشداً ينشد ومغنية تغني ( مَن كان ذَا شجَنٍ بالشام يطلبه ... ففِي سِوى الشام أمسى الأهل والشجنُ ) فبكى حتى سقط على وجهه مغشياً عليه ثم أفاق مختلطاً واتصل ذلك حتى وسوس وبطل وكان اتصل بعلي بن هشام وإبراهيم بن المهدي وكان سبب اتصاله بعلي بن هشام أنه صحبه في وقت خروجه إلى قم في جملة كتاب الإعطاء فبلغه وهو في طريقه أن خالداً يقول الشعر فأنس به وسر به وأحضره فأنشده قوله ( يا تاركَ الجِسْمِ بلا قلبِ ... إنْ كنتُ أهواكَ فما ذَنبي ) ( يا مُفْرداً بالحسن أفردتَني ... منك بطول الهَجرِ والعتْب ) إن تَكُ عَيْني أبصرتْ فِتْنَةً ... فهلْ على قلبيَ من عتب ) ( حَسِيبكَ الله لما بي كما ... أنك في فِعلك بي حَسْبي ) للمسدود في هذه الأبيات رمل طنبوري مطلق من رواية الهشامي قال فجعله علي بن هشام في ندمائه إلى أن قتل ثم صحب الفضل بن مروان فذكره للمعتصم وهو بالماحوزة قبل أن يبني سر من رأى فقال خالد ( عزَم السرورُ على المُقام ... بِسُرَّ مَنْ را للإمامِ ) ( بَلَدُ المَسَرّة والفتوحِ ... المستنيراتِ العظام ) ( وتراه أشبَه منزلٍ ... في الأرض بالبلد الحرام ) ( فاللهُ يعمُرُهُ بمَن ... أَضْحَى به عزُّ الأنام ) فاستحسنها الفضل بن مروان وأوصلها إلى المعتصم قبل أن يقال في بناء سر من رأى شيء فكانت أول ما أنشد في هذا المعنى من الشعر فتبرك بها وأمر لخالد بخمسة آلاف درهم وذكر ذلك كله إسماعيل بن يحيى الكاتب وذكر اليوسفي صاحب الرسائل أن خالداً قال أيضاً في ذلك ( بيَّنَ صَفْوُ الزمان عن كَدرِه ... في ضَحِكات الربيع عن زَهَره ) ( يا سُرّ مَن را بوركْت من بَلدٍ ... بُورك في نَبْته وفي شجره ) ( غَرسُ جُدود الأمام ينبته ... بابَكُ والمازِيارُ من ثمره ) ( فالفتح والنصر ينزلان به ... والخِصب في تُرْبه وفي شجره ) فغنى مخارقٌ في هذه الأبيات فسأله المعتصم لمن هذا الشعر فقال لخالد يا أمير المؤمنين قال الذي يقول ( كيفَ تُرْجَى لذاذةُ الإغتماضِ ... لمريضٍ من العيون المِراض ) فقال محمد بن عبد الملك نعم يا أمير المؤمنين هو له ولكن بضاعته لا تزيد على أربعة أبيات فأمر له المعتصم بأربعة آلاف درهم وبلغ خالداً الخبر فقال لأحمد بن عبد الوهاب صاحب محمد بن عبد الملك وقيل لأبي جعفر أعزه الله إذا بلغت المراد في أربعة أبيات فالزيادة فضل قال اليوسفي ولما قال خالد في صفة سر من رأى قصيدته التي يقول فيها ( اسْقِنِي في جرائرٍ وزِقاقِ ... لتُلاقي السرور يوم التلاقِ ) ( من سُلاَفٍ كأنَّ في الكأس منه ... عبراتٍ من مقلَتيْ مشتاقِ ) ( في رياضٍ بسُر مَن را إلى الكرْخ ... ودَعْني من سائر الآفاق ) ( بادِّ كَارَاتِ كل فتح عظيم ... لإمام الهدى أبي إسحاق ) وهي قصيدة لقيه دعبل فقال يا أبا الهيثم كنت صاحب مقطعات فداخلت الشعراء في القصائد الطوال وأنت لا تدوم على ذلك ويوشك أن تتعب بما تقول وتغلب عليه فقال له خالد لو عرفت النصح منك لغيري لأطعتك في نفسي خلاف خالد مع الحلبي الشاعر في معنى شعر قال اليوسفي وحدثني أبو الحسن الشهرزاني أن خالدا وقع بينه وبين الحلبي الشاعر الذي يقول فيه البحتري ( سل الحلبيّ عن حلب ... ) خلافٌ في معنى شعر فقال له الحلبي لا تعد طورك فأخرسك فقال له خالد لست هناك ولا فيك موضع للهجاء ولكن ستعلم أني أجعلك ضحكة سر من رأى وكان الحلبي من أوسخ الناس فجعل يهجو جبته وثيابه وطيلسانه فمن ذلك قوله ( وشاعرٍ ذي منطقٍ رائقِ ... في جبَّةٍ كالعارض البارق ) ( قطعاءَ شلاّءَ رقاعِيَّة ... دَهْريَّة مرقوعة العاتق ) ( قدّمها العُرْيُ على نفسه ... لفضلها في القَدَر السابق ) وقوله ( وشاعرٍ مُقْدِمٍ له قومُ ... ليس عليهمْ في نصرهِ لَومُ ) ( قد ساعدوه في الجوع كلُّهمُ ... فَقْرَى فكلٌّ غَداؤُه الصوم ) ( يأتيكَ في جُبّة مُرَقعةٍ ... أطولُ أعمار مثلِها يومُ ) ( وطيْلسان كالآل يلبسُه ... على قميص كأنه غَيْمُ ) ( من حلبَ في صميم سِفْلِتها ... غِناه فقر وعزُّه ضَيم ) قال وقال فيه ( تاهَ على ربِّه فأفْقرهُ ... حتى رآه الغٍنَى فأنكرهُ ) ( فصار من طول حِرفَةٍ علماً ... يقذفه الرزق حيث أبصرهُ ) ( يا حلبيّاً الإله لَه ... بالتِّيه والفقر حين صوَّرهُ ) ( لَوْ خلطوُه بالمِسكْ وسّخَه ... أو طرَحُوهُ في البحر كدَّره ) حدثني جحظة قال حدثني خالد الكاتب قال دخلت على إبراهيم بن المهدي فاستنشدني فقلت أيها الأمير أنا غلام أقول في شجون نفسي لا أكاد أمدح ولا أهجو فقال ذلك أشد لدواعي البلاء فأنشدته صوت ( عاتبتُ نفسي في هواكَ ... فلم أجِدْها تَقْبَلُ ) ( وأطعتُ داعَيها إليكَ ... ولم أطِعْ مَن يعذل ) ( لا والذي جعل الوجوه ... لحسن وجهك تمثُل ) ( لا قلتُ إن البصرَ عنك ... من التصابي أجمل ) لجحظة في هذه الأبيات رمل مطلق بالوسطى قال فبكى إبراهيم وصاح واي عليك بإبراهيم ثم أنشدته أبياتي التي أقول فيها ( وبكى العاذُل من رَحْمَتي ... فبُكائي لِبُكا العاذل ) وقال إبراهيم يا رشيق كم معك من العين قال ستمائة وخمسون ديناراً قال اقسمها بيني وبين الفتى واجعل الكسر له صحيحاً فأعطاني ثلاثمائة وخمسين ديناراً فاشتريت بها منزلي بساباط الحسن والحسين فواراني إلى يومي هذا حدثني جحظة قال حدثني خالد الكاتب قال قال لي علي بن الجهم هب لي بيتك الذي تقول فيه ( ليتَ مَا أَصْبَحَ مِنْ رقّة ... خدّيك بقَلْبِكْ ) فقلت يا جاهل هل رأيت أحداً يهب ولده وقال أحمد بن إسماعيل الكاتب لقيت خالداً الكاتب ذات يوم فسألته عن صديق له وكان قد باعده ولم أعلم فأنشأ يقول ( ظَعَن الغريبُ لغيبة الأبَد ... حتى المخافة نائيَ البلدِ ) ( حيرانَ يُؤنسه ويكلؤُه ... يومٌ تَوَعَّدهُ بشرِّ غدِ ) ( سنحَ الغُرابُ له بأنكرِ ما ... تغدو النحوسُ به على أحدِ ) ( وابتاع أشأمه بأيمنه الجَدُّ ... العثورُ له يداً بيد ) ( حتى يُنيخ بأرضِ مهْلكةٍ ... في حيثُ لم يولد ولم يلدِ ) ( جزعتْ حليلتُهُ عليه فما ... تخلو من الزفرات والكمد ) ( نزَل الزمانُ بها فأهلكها ... منه وأهدى اليُتم للولد ) ( ظفرتُ به الأيام فانحسرت ... عنه بناقِرَةٍ ولم تكدِ ) ( فتركْنَ منه بعد طِيتِّه ... مثل الذي أبقْين من لُبَد ) قال فقلت له يا أبا الهيثم مذ كم دخلت في قول الهجاء قال مذ سالمت فحوربت وصافيت فتوقفت بين خالد وأبي تمام وقال الرياشي كان خالد مغرماً بالغلمان المرد ينفق عليهم كل ما يفيد فهوي غلاماً يقال له عبد الله وكان أبو تمام الطائي يهواه فقال فيه خالد ( قضيبُ بانٍ جناه وردُ ... تحمله وَجْنَةٌ وخَدُّ ) ( لم أَثْنِ طَرفي إليه إلا ... مات عزاءٌ وعاش وجْدُ ) ( مُلِّك طَوْعَ النفوسِ حتّى ... علَمه الزهوَ حين يبدُو ) ( واجَتَمَع الصدُ فيه حتّى ... ليس لخَلْقٍ سِواه صدّ ) فبلغ أبا تمام ذلك فقال فيه أبياتاً منها ( شْعرُكَ هذا كلُّ مفرطٌ ... في بَرْدِهِ يا خالدُ الباردُ ) فعلمها الصبيان فلم يزالوا يصيحون به يا خالد يا بارد حتى وسوس قال ومن الناس من يزعم أن هذا السبب كان بينه وبين رجل غير أبي تمام وليس الأمر كذلك وكان خالد قد هجا أبا تمام في هذه القصة فقال فيه ( يا معشَرَ المُرْدِ إني ناصح لكمُ ... والمرءُ في القولِ بَيْن الصدقِ والكذب ) ( لا ينكِحَنَّ جبيباً منكمُ أحدٌ ... فإنّ وجعاءه أعدَى من الجرَب ) ( لا تأمنوا أن تَحوُلوا بَعد ثالثَةٍ ... فتركبوا عُمُداً ليستْ من الخشب ) حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسن بن إسحاق قال حدثني خالد الكاتب قال لما بويع إبراهيم بن المهدي بالخلافة طلبني وقد كان يعرفني وكنت متصلاً ببعض أسبابه فأدخلت إليه فقالت أنشدني يا خالد شيئاً من شعرك فقلت يا أمير المؤمنين ليس شعري من الشعر الذي قال فيه رسول الله " إن من الشعر لحكما " وإنما أمزح وأهمل فقال لا تقل هذا فإن جد الأدب وهزله جد هات أنشدني فأنشدته ( عِش فَجُبِّيكَ سريعاً قاتلي ... والضنى إن لم تَصِلنْي واصلي ) ( ظفِرَ الشوق بقَلْبٍ دَنِف ... فيك والسُّقم بجسمٍ ناحل ) ( فهُما بين اكتئاب وضنىً ... تركاني كالقضيب الذابل ) قال فاستملح ذلك ووصلني حدثني حمزة بن أبي سلالة الشاعر الكوفي قال دخلت بغداد في بعض السنين فبينا أنا مار بجنينة إذا أنا برجل عليه مبطنة نظيفة وعلى رأسه قلنسية سوداء وهو راكب قصبة والصبيان خلفه يصيحون به يا خالد يا بارد فإذا آذوه حمل عليهم بالقصبة فلم أزل أطردهم عنه حتى تفرقوا وأدخلته بستاناً هناك فجلس واستراح واشتريت له رطباً فأكل واستنشدته فأنشدني ( قدْ حازَ قلبِي فصار يملِكُهُ ... فكيف أَسْلو وكيف أتركه ) ( رَطِيبُ جسمٍ كالماء تَحْسبه ... يَخْطِر في القلب مِنْه مسلَكُهُ ) ( يكادُ يجري من القميص من النعمة ... لولا القميص يُمسكُهُ ) فاستزدته فقال لا ولا حرف وذكر علي بن الحسين بن أبي طلحة عن أبي الفضل الكاتب أنه دعا خالداً ذات يوم فأقام عنده وخلع عليه فما استقر به المجلس حتى خرج قال فأتبعته رسولاً ليعرف خبره فإذا هو قد جاء إلى غلام كان يحبه فسأل عنه فوجده في دار القمار فمضى إليه حتى خلع عليه تلك الثياب وقبله وعانقه وعاد إلينا فلما جاء خالد أعطيت الغلام الذي وجهنا به دنانير ودعاه فجاء به إلينا وأخفيناه وسألنا خالداً عن خبره فكتمه وجمجم فغمزنا الرسول فأخرجه علينا فلما رآه خالد بكى ودهش فقلنا له لا ترع فإن من القصة كيت وكيت وإنما أردنا أن نعرف خبرك لا أن نسوءك فطابت نفسه وأجلسه إلى جنبه وقال قد بليت بحبه وبالخوف عليه مما قد بلي به من القمار ثم أنشد لنفسه فيه ( مَحِبٌّ شَفَّه ألَمُهْ ... وخامَرَ جْسْمَه سَقَمُهْ ) ( وباح بما يُجَمْجِمهُ ... من الأسرار مكتَتِمهْ ) ( أما تَرْثي لمكتئب ... يُحِبُّك لحمُه ودَمُه ) ( يغار على قميصك حِينَ ... تَلْبَسه ويتّهمهْ ) من شعره في الشوق وذكر علي بن الحسين أيضاً أن محمد بن السري حدثه أنه طال الغيبة عن بغداد وقد وسوس خالد فمر به في الرصافة والصبيان يصيحون به يا غلام الشريطي يا خالد البارد ويرجع إليهم فيضربهم ويزيد ويرميهم قال فقلت له كيف أنت يا أبا الهيثم قال كما ترى فقلت له فمن تعاشر اليوم قال من أحذره فعجبت من جوابه مع اختلاله فقلت له ما قلت بعدي من الشعر قال ما حفظه الناس وأنسيته وعلى ذلك قولي ( كَبدٌ شفها غليلُ التصابي ... بين عَتْب وسَخْطَةٍ وعذاب ) ( كلَّ يومٍ تَدْمَى بجَرح من الشوق ... ونوع مجدَّدٍ من عذاب ) ( يا سقيمَ الجفون أسْقَمِتَ جسمي ... فاشفِني كيف شئت لا بِكَ ما بي ) ( إنْ أكنْ مذْنباً فكن حَسًنَ العفوِ ... أو اجعَلْ سوى الصُّدُود عقابي ) ثم قال يا أبا جعفر جننت بعدك فقلت ما جعلك الله مجنوناً وهذا كلامك لي ونظمك حدثني محمد بن الطلاس أبو الطيب قال حضرت جنازة بعض جيراني فلقيت خالداً في المقبرة فقبضت عليه وقلت أنشدني فذهب ليهرب مني فغمزت على يده غمزة أوجعته فقال خل عني أنشدك فأرخيت يدي عن يده فأنشدني ( لَمْ تَرَ عينٌ نَظرَتْ ... أحسنَ من منظرِهِ ) ( النورُ والنِّعمة والنَّعمة ... في مَخْبرِه ) ( لا تَصلُ الألسنُ بالوصف ... إلى أكثرهِ ) ( كيْف بمَن تَنْتسبُ الشمس ... إلى جوهرهِ ) حدثني عمي رحمه الله قال مر بنا خالد الكاتب ها هنا والصبيان خلفه يصيحون به فجلس إلي فقال فرق هؤلاء عني ففعلت وألحت عليه جارية تصيح يا خالد يا بارد فقال لها مري يا منتنة الكس ويا من كسها دس فقلت يا أبا الهيثم أي شيء معنى دس ها هنا قال تشتهي الأير الصغير الصغير والكبير والوسط ولا تكره منها شيئاً وأقبل الصبيان يصيحون بتلك الجارية بمثل ما قال لها خالد وهي ترميهم وتهرب منهم حتى غابوا معها عنا فأقبل علي خالد متمثلاً فقال ( وما أنا في أمري ولا في خصومتي ... بمهتضَم حَقّي ولا قارعٍ سنِّي ) فاحتسبته عندي يومي ذلك فلما شرب وطابت نفسه أنشدنا لأبي تمام ( أحْبابَه لِمَ تفعلون بِقلْبهِ ... ما ليس يَفْعَلُه به أعداؤهُ ) ( مَطَرٌ مِن العَبراتِ خَدِّي أرضُه ... حتى الصباحِ ومُقْلتايَ سماؤهُ ) ( نفْسي فداءُ محمدٍ ووِقاؤه ... وكذبتُ ما في العالَمينَ فداؤه ) ( أزعمتَ أنَّ البدرَ يحكي وجهه ... والغصن حين يَميدُ فيه ماؤه ) ( اسْكت فأين بهاؤه وكماله ... وجمالُه وحياؤه وضياؤه ) ( لا تَقْرَ أَسَماءَ المَلاحة باطلاً ... فيمن سِواه فإنها أسماؤه ) ثم قال وقد عارضه أبو الهيثم يعني خالداً نفسه فقال ( فديتُ محمداً من كل سوء ... يحاذرِ في رَواح أو غُدوِّ ) ( أيا قمرَ السماء سَفُلتَ حتى ... كأنك قد ضَجِرْتَ من العُلوِّ ) ( رأيتك من حبيبك ذا بِعادٍ ومِمّن لا يُحِبك ذا دُنُوِّ ) ( وحسْبُك حسْرَةً لك من حبيب ... رأيتَ زمامه بيدَيْ عَدُوِّ ) هكذا أخبرني عمي عن خالد وهذه الأبيات أيضاً تروى لأبي تمام وقال ابن أبي طلحة حدثني الهلالي قال مررت بخالد وحوله جماعة ينشدهم فقلت له يا أبا الهيثم سلوت عن صديقك قال لا والله قلت فإنه عليل وما وعدته فسكت ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال ( زَعَمُوا أنني صحوتُ وكلاّ ... أُشْهِدُ الله أنني لن أمَلاّ ) ( كيف صبري يا من إذا ازداد تِيهاً ... أبداً زدتُه خضوعاً وذُلاً ) ثم قال احفظه وأبلغه عني ( بِجِسْمِي لا بجسمِك يا عليلُ ... ويكفيني من الألَمِ القليلُ ) ( تَعدِّاك السَّقام إليَّ إني ... على ما بي لعادِيِه حَمولُ ) ( إذا كنتَ يا أملي صحيحاً ... فحَالفني وسالَمك النحولُ ) ( ألستَ شقيقَ ما ضمّتْ ضُلوعي ... عَلَى أني لِعِلَّتِك العليلُ ) قال وحدثني العباس بن يحيى أنهم كانوا عند علي بن المعتصم فغني في شعر لخالد فأمر بإحضاره وطلب فلم يوجد فوجه إلى غلام كان يتعشقه فأحضر وسأله عنه فدل عليه وقال كنا نشرب إلى السحر وقد مضى إلى حمام فلان وهو يخرج ويجلس عند فلان الفقاعي ودكانه مألف للغلمان المرد والمغنين فبعث إليه فأحضر فلما جلس أخرج علي بن المعتصم الغلام وقال هذا دلنا عليك وهو يزعم أنك تعشقه فقال له الغلام نعم أيها الأمير لو لم يكن من فضيحته إياي إلا أنه إذا لم يوجد أحضرت وسئلت عنه فأقبل عليه خالد وقال ( يا تارِكَ الجسم بلا قلبِ ... إن كنتُ أهواك فما ذنبي ) ( يا مفرداً بالحسن أَفْرَدْتني ... منْك بِطولِ الشوق والحُبِّ ) ( إنْ تَكُ عًيني أبصَرَتْ فتنة ... فِهلْ على قَلْبيَ من عَتب ) ( حَسِيبُكَ الله لَما بي كما ... أنك في فعلِك بي حَسبي ) لجحظة فيه رمل فاستحسن علي الشعر وأمر له بخمسين ديناراً قال حدثني ابن أبي المدور أنه شهد خالداً عند عبد الرحيم بن الأزهر الكاتب وأنه دخل عليهم غلام من أولاد الكتاب فلما رأى خالداً أعرض عنه فقلت له لم أعرضت عن أبي الهيثم فقال والله لو علمت أنه ها هنا ما دخلت إليكم ما يبالي إذا شرب هذين القدحين ما قال ولا من هتك فقال لي خالد ألا تعينني على ظالمي فقلت بلى والله أعينك فأقبل على الفتى وقال صوت ( هَبْني أسأتُ فكان ذَنْبي ... مثلَ ذنْب أبي لَهبْ ) ( فأنا أتوبُ وكم اسأْتَ ... وكم أسأتَ ولم تَتُب ) فما زلنا مع ذلك الفتى نداريه ونستعطفه له حتى أقبل عليه وكلمه وحادثه فطابت نفسه وسر بقية يومه في هذين البيتين لأبي العبيس خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى ولرذاذ خفيف رمل مطلق حدثني عبد الله بن صالح الطوسي أن علي بن المعتصم دعا خالداً يوماً وهو يشرب وقد أخرجت إليه وصيغة من وصفاء حظيته تفاحة معضوضة مغلفة بعثت به إليه ستها فقال ( تفاحةُ خرجتْ بالدُّر مِن فيها ... أشهى إليَّ من الدنيا وما فيها ) ( بيضاءُ في حمرة عُلَّتْ بغاليَةٍ ... كأنما قُطِفت من خَدِّ مُهْديها ) ( جاءت بها قينةٌ من عند غانية ... روحي من السوء والمكروه تَفديها ) ( لو كنتُ ميتاً ونادتني بنغمتها ... إذاً لأسرعتُ من لحدي أُلَبِّيها ) فاستحسن علي بن المعتصم الأبيات وغني فيها وأمر له بتخت ثياب وخمسين ديناراً أخبار المسدود المسدود من أهل بغداد وكان منزله في ناحية درب المفضل في الموضع المعروف بخراب المسدود منسوب إليه وأخبرني جحظة أن اسمه الحسن وكنيته أبو علي وأن أباه كان قصاباً وأنه كان مسدود فرد منخر ومفتوح الآخر وكان يقول لو كان منخري الآخر مفتوحاً لأذهلت بغنائي أهل الحلوم وذوي الألباب وشغلت من سمعه عن أمر دينه ودنياه ومعاشه ومعاده قال جحظة وكان أشجى الناس صوتاً وأحضرهم نادرة ولم يكتسب أحد من المغنين بطنبور ما كسبه وكان مع يساره وقلة نفقته يقرض بالعينة وكانت له صنعة عجيبة أكثرها الأهزاج قال جحظة قال لي مخارق غلامه قال لي وقد صنع هذين البيتين وهما جميعاً هزج صوت ( مَن رَأى العِيسَ عَلَيْها الرِّحال ... إضَمٌ قَصْدٌ لَها أم أُثالُ ) ( لستً أدري حيث حلُّوا ولكن ... حيثما حلُّوا فثَمّ الجَمَالُ ) والآخر ( عُجْ بنا نَجْنِ بِطَرْف العَينِ ... تُفّاحَ الخُدودْ ) ( ونًسَلِّ القلبَ عمّن ... حَظُّنا منه الكدود ) ثم قال والله لا تركت بعدي من يهزج قال جحظة والله ما كذب الواثق ينفي المسدود إلى عمان أخبرني جحظة قال كان الواثق قد أذن لجلسائه ألا يرد أحد نادرة عن أحد يلاعبه فغنى الواثق يوماً ( نظْرت كأني من وراء زُجاجةٍ ... إلى الدارِ مِن ماءِ الصبابة أنظرُ ) وقد كان النبيذ عمل فيه وفي الجلساء فانبعث إليه المسدود فقال أنت تنظر أبداً من وراء زجاجة إن كان في عينيك ماء صبابة أولم يكن فغضب الواثق من ذلك وكان في عينيه بياض ثم قال خذوا برجل العاض بظر أمه فسحب من بين يديه ثم قال ينفى إلى عمان الساعة فنفي من وقته وحدر ومعه الموكلون فلما سلموه إلى صاحب البصرة سأله أن يقيم عنده يوماً ويغنيه ففعل فلما جلسوا للشراب ابتدأ فقال احذروني يا أهل البصرة على حرمكم فقد دخلت إلى بلدكم وأنا أزنى خلق الله قال فقال له الجماز أما يعني أنه أزنى خلق الله أما فغضب المسدود وضرب بطنبوره الأرض وحلف ألا يغني فسأله الأمير أن يقيم عنده وأمر بإخراج الجماز وكل من حضر فأبى ولج فأحدره إلى عمان ومكث الواثق لا يسأل عنه سنة ثم أشتاقه فكتب في إحضاره فلما جاءه الرسول ووصل إلى الواثق قبل الأرض بين يديه فاعتذر من هفوته وشكر التفضيل عليه فأمر بالجلوس ثم قال له حدثني بما رأيت بعدي فقال لي حديث ليس في الأرض أظرف منه وأعاد عليه حديثه بالبصرة فقال له الواثق قبحك الله ما أجهلك ويلك فأنت سوقة أنا ملك وكنت صاحياً وكنت منتشياً وبدأت القوم فأجابوك فبلغ بك الغضب ما ذكرته وما بدأتك فتجيبني وبدأتني من المزح بما لا يحتمله النظير لنظيره ويلك لا تعاود بعدها ممازحة خليفة وإن أذن ذلك في ذلك فليس كل واحد يحضره حلمه كما حضرني فيك أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عون بن محمد قال سمعت حمدون بن إسماعيل يقول لم يكن في الخلفاء أحمد أحلم من الواثق ولا أصبر على أذى وخلاف وكان يعجبه غناء أبي حشيشة الطنبوري فوجد المسدود من ذلك فكان يبلغه عنه ما يكره ويتجاوز عنه وكان المسدود قد هجاه ببيتين فكانا معه في رقعة وفي رقعة أخرى حاجة له يريد أن يرفعها إليه فغلط بين الرقعتين فناوله رقعة الشعر وهو يرى أنها رقعة الحاجة فقرأها وفيها ( مِنَ المسدودِ في الأنفِ ... إلى المَسدود في العَيْنِ ) ( أنا طَبْلٌ له شِقٌ ... فيا طبلاً بشِقَيْنِ ) فلما قرأ الرقعة علم أنها فيه فقال للمسدود خلطت في الرقعتين فهات الأخرى وخذ هذه واحترز من مثل هذا والله ما زاده على هذا القول من اجوبت الموجعة أخبرني جحظة قال تحدث المسدود في مجلس المنتصر بحديث فقال له المنتصر متى كان ذلك قال ليلة لاناه ولا زاجر يعرض له بليلة قتل فيها المتوكل فأغضى المنتصر واحتمله قال وقالت الذكورية يوماً بين يدي المعتمد غن يا مسدود قال نعم يا مفتوحة وقالت له امرأة كيف آخذ إلى شجرة بابك قال قدامك أطعمك الله من ثمرها قال وغنى بين يدي المتوكل فسكته وقال لبكران الشيري تغن أنت فقال المسدود أنا أحتاج إلى مستمع فلم يفهم المتوكل ما قال وقدّم إليه طباخ المتوكل طبقاً وعليه رغيفان ثم قال له أي شيء تشتهي حتى أجيئك به قال خبزاً فبلغ ذلك المتوكل فأمر بالطباخ فضرب مائتي مقرعة قال جحظة وحدثني بعض الجلساء أنه لما وضع الطباخ الرغيفين بين يديه قال له المسدود هذا حرز فأين النير قال ودعاه بعض الرؤساء فأهدى له برذوناً أشهب فارتبطه ليلته فلما كان من غد نفق وبعث إليه يدعوه بعد ذلك فكتب أنا لا أمضي إلى من يعرف آجال الدواب فيهب ما قرب أجله منها قال واستوهب من بعض الرؤساء وبراً فأعطاه سموراً قد قرع بعضه فرده وقال ليس هذا سموراً هذا أشكر صوت ( أجدَّك ما تَعْفُو كُلومُ مُصيبَةٍ ... على صاحبٍ إلا فُجعتُ بصاحبِ ) ( تقَطَّع أحشائي إذا ما ذكرتهمُ ... وتنهلّ عيني بالدموع السواكب ) عروضه من الطويل الشعر لسلمة بن عياش والغناء لحكم وله فيه لحنان رمل بالبنصر وهزج بالوسطى أخبار سلمة بن عياش سلمة بن عياش مولى بني حسل بن عامر بن لؤي شاعر بصري من مخضرمي الدولتين وكان يتدين ويتصون وانقطع إلى جعفر ومحمد ابني سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ومدحهما فأكثر وأجاد ومما مدحمها به وفيه غناء قوله صوت أَرقْتُ وطالت ليلتي بأبانِ ... لِبرْقٍ سَرى بَعد الهدوء يَمانِ ) ( يُضيء بأعلام المدينة هُمَّداً ... غلى أمجٍ فالطلح طلح قنان ) غنى في هذين البيتين دحمان ولحنه ثقيل أول بالوسطى عن عمرو قال وفيه لحن لعطرد يقول فيها ( ورَدْتُ خَليجَي جعفرٍ ومحمدٍ ... وكلَّ بَدِيء من نَداه سقاني ) ( إني لأرجو جعفراً ومحمداً ... لأفضلِ ما يُرْجَى له مَلَكان ) ( هُما ابْنا رسولِ الله وابنا ابنِ عمِّه ... فقد كَرُم الجَدّان والأبوان ) ( ومنها ما ذكره محمد بن داود بن الجراح قوله صوت ( أَنارُ بدَتْ وَهْناً لعينك تُرْمِضُ ... ببغداد أم سارٍ من البرق مُومِضُ ) ( يضِيء سناه مكْفَهِرِّاً كأنه ... حناتِمُ سودٌ أو عِشار تَمَخَّضُ ) غنى فيهما عطرد ثقيلاً أو ل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق يقول فيها ( ولَوْلا انتظاري جعفراً ونَوالَه ... لَمَا كان في بغداد ما أتبرّضُ ) وقد وجدت هذا الشعر لابن المولى في جامع شعره من قصيدة له وأظن ذلك الصحيح لا ما ذكر محمد بن داود من أنها لسلمة بن عياش أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وغيره قال قال سلمة بن عياش وذكر محمد بن داود عن عسل بن ذكوان عن أبي حاتم عن الأصمعي عن سلمة بن عياش مولى بني عامر بن لؤي قال دخلت على الفرزدق السجن وهو محبوس وقد قال قصيدته ( إنّ الذي سَمَك السماءَ بنَى لنا ... بَيْتاً دعائمُه أعزُّ وأطولَ ) وقد أفحم وأجبل فقلت له ألا أرفدك فقال وهل ذاك عندك فقلت نعم ثم قلت ( بَيْتٌ زُرارةُ مُحِتَبٍ بِفنائه ... ومُجاشِع وأبو الفوارس نَهْشَل ) فاستجاد البيت وغاظه قولي له فقال لي ممن أنت فقلت من قريش فقال كل أير حمار من قريش فمن أيها أنت قلت من بني عامر بن يؤي قال لئام والله رضعة جاورتهم بالمدينة فما أحمدتهم فقلت ألأم والله منهم قومك وأرضع جاء رسول مالك بن المنذر وأنت سيدهم وشاعرهم فأخذ بأذنك يقودك حتى احتسبك فما اعترضه أحد ولا نصرك فقال قاتلك الله ما أكرمك وأخذ البيت فأدخله في قصيدته سلمة وبربر الجارية أخبرنا وكيع قال أخبرني محمد بن سعد الكراني قال حدثنا سهل بن محمد قال حدثني العتبي قال كان سلمة بن عياش وأبو سفيان بن العلاء عند محمد بن سليمان وجارية تغنيهم وتسقيهم يقال لها بربر فقال سلمة ( إلى اللهِ أشكو ما أُلاقي من القِلَى ... لأَهلي وما لاقيتُ من حُبِّ بَرْبرِ ) ( على حينَ ودعَّت الصبابةَ والصبا ... وفارقتُ أَخْداني وشمَّرت مِئزَري ) ( نأى جعفرٌ عنَّا وكان لِمثلِها ... وأنتَ لنا في النائباتِ كجعفر ) قال فقال محمد بن سليمان لسلمة خذها هي لك فاستحيا وارتدع وقال لا أريدها فألح عليه في أخذها فقال أعتق ما أ ملك إن أخذتها فقال له أبو سفيان ياسخين العين أعتق ما تملك وخذها فهي خير من كل ما تلك فلما مات أبو سفيان رثاه سلمة فقال ( لَعَمْرُك لا تعفُو كلُومُ مصيبةٍ ... على صاحبٍ إلا فُجِعتُ بصاحبِ ) ( تَقطعُ أحشائي إذا ما ذكرتكم ... وتَنْهلّ عيني بالدموع السواكبِ ) ( وكنتُ أمرأ جلداً على ما يَنُوبني ... ومعترفاً بالصبر عند المصائب ) ( فهَدَّ أبو سفيان رُكني ولم أكنْ ... جَزوعاُ ولا مستنكِراُ للنوائب ) ( غَنِينا مَعا بِضْعاً وستين حِجّةً ... خَلِيلَيْ صفاْر ودُنُا غيرُ كاذب ) ( فأصبحتُ لمّا حالت الأرض دونَه ... على قُرْبِه مِنِّي كمَن لم أصاحب ) وذكر محمد بن داود عن عسل بن ذكوان أن محمد بن سليمان قال له اختر ما شئت غيرها لأن أبا أيوب قد وطئها أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد النحوي قال حدثت من غير وجه عن سلمة بن عياش أنه قال قلت لأبي حية النميري أهزأ به ويحك يا أبا حية أتدري ما يقول الناس قال لا قلت يزعمون أني أشعر منك قال إنا لله هلك والله الناس وفي بربر هذه يقول سلمة بن عياش وفيه غناء وذكر عمر بن شبة أنه لمطيع بن إياس صوت ( أظنُّ الحبَّ من وجْدي ... سيقتُلني على بَرْبَرْ ) ( وبَرْبرُ دُرَّهُ الغواصِ ... مَنْ يَمْلِكُها يُحْبَرْ ) ( فخافِي الله يا بَرْبَرْ ... فقد أفتَنْتِ ذا العسكرْ ) ( بِحُسْنِ الدَّلّ والشكلِ ... ورِيحِ المسك والعَنْبرْ ) ( ووجهٍ يُشْبه البّدْرَ ... وعينَيْ جُؤْذُر أحور ) فيه لحكم ثلاثة ألحان رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق وخفيف رمل عن هارون بن الزيات وهزج عن أبي أيوب المدني أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر شبة قال بربر جارية آل سليمان أعتقت وكان لها جوار مغنيات فيهن جارية اسمها جوهر وكان في البصرة فتى يعرف بالصحاف حسن الوجه فبلغ مطيع بن إياس أنه بات مع جوهر جارية بربر فغاظه ذلك فقال ( ناكَ والله جوهرَ الصحّافُ ... وعلَيها قَميصُها الأفوافُ ) ( شام فيها أيراً له ذا صُلاع ... لم يَخُنْه نَقص ولا إخطاف ) ( زعموها قالت وقد غاب فيها ... قائماً في قيامه استِحْصاف ) ( وهو في جارة استها يتلظَّى ... وبها شهوة له والتهاف ) ( بَعْضَ هذا مهلاً ترفق قليلاً ... ما كذا يا فتى تُناك الظِراف ) قال وقال فيها وقد وجهت بجواريها إلى عسكر المهدي ( خافِي الله يا برْبرْ ... فقد أَفسدْتِ ذا العسكرُ ) ( أَفضْتِ الفِسقَ في الناسِ ... فصار الفِسْقٌ لا يُنْكر ) ( ومَنْ ذا يملِك الناس ... إذا ما أَقبلَتْ بَرْبرْ ) ( وأعطافُ جواريها ... كريح المسك والعنبرْ ) ( وجوهرُ دُرّهُ الغواصِ ... مَنْ يَمْلِكها يُحبرْ ) ( أَلا يا جوهرَ القلْبِ ... لقد زِدْتِ على الجوهرْ ) ( وقد أكملكِ اللهُ ... بحُسْن الدِّل والمنظر ) ( إذا غّنيتِ يا أَحسَنَ خَلقِ اللهِ بالمِزهرْ ) ( فهذا حَزَناً يَبْكي ... وهذا طرَباً يكفُر ) ( وهذا يَشربُ الكأسَ ... وذا من فَرَح ينعِرَ ) ( ولا واللهِ ما المهديَّ ... أَولَى منك بالمنبر ) ( فما عِشْتِ ففي كفيك ... خَلْعُ ابن أَبي جعفر ) قال فبلغ ذلك المهدي فضحك وأَمر لمطيع بصلة وقال أَنفق هذا عليها وسلها أَلا تخلعنا ما عاشت قال وفي جوهر يقول مطيع ( جاريةٌ أَحسنُ مِن حَلْيِها ... وفيه فَضْل الدُّر والجوهرْ ) ( وجِرمُها أطيب من طِيبها ... والطِّيب فيه المسكُ والعنبرْ ) ( جاءت بها بربرُ مَمْكُورةً ... يا حبذا ما جلَبتْ بَربرْ ) قال وقال فيها ( أنتِ يا جوهرُ عِندِي جَوْهَرهُ ... في بياض الدّرة المشتهِره ) ( وإذا غنَّت فنارٌ أُضْرمَت ... قَدَحَتْ في كلّ قلب شَرَره ) صوت ( يا عمودَ الإسلام خير عمود ... والذي صيغ من حياء وجُودِ ) ( إن يوماً أراك فيه ليوم ... طلعت شَمسُه بسعد السعود ) الشعر لأبي العتاهية يمدح محمد الأمين والغناء لإسحاق ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة وإسحاق أخبار لأم جعفر أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا العلائي قال حدثني محمد بن أبي العتاهية قال لما جلس الأمين في الخلافة أنشده أبو العتاهية ( يا بنَ عمِّ النبيِّ خيرَ البَرِيّة ... إنمّا أنتَ رحْمَةٌ للرّعيّهْ ) ( يا إمامَ الهدىالأمينَ المصَفَّى ... بِلُبَاب الخلافةِ الهاشميهْ ) ( لك نفسٌ أمّارة لك بالخير ... وكفُّ بالمكرُمات نَدِيّه ) ( إنّ نفساً تحملَتْ منك ما حُمَّلتَ ... للمسلمين نفسٌ قَويه ) قال ثم خرج إلى دار أم جعفر فقالت له أنشدني ما أنشدت أمير المؤمنين فأنشدها فقالت أين هذا من مدائحك في المهدي والرشيد فغضب وقال إنما أنشدت أمير المؤمنين ما يستملح وأنا القائل فيه ( يا عمودَ الإسلام خيرَ عمود ... والّذي صِيغَ من حياءٍ وَجُودِ ) ( والذي فيه ما يُسَلِّي ذوي الأحزان ... عن كلِّ هالكٍ مفقود ) ( إنّ يوماً أراك فيه لَيَومٌ ... طلعَت شمسه بسعد السعود ) فقالت له الآن وفيت المديح حقه وأمرت له بعشرة آلاف درهم أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن موسى اليزيدي قال حدثني محمد بن الفضل قال كان المأمون يوجه إلى أم جعفر زبيدة في كل سنة بمائة ألف دينار جدد وألف ألف درهم فكانت تعطي أبا العتاهية منها مائة دينار وألف درهم فأغفلته سنة فدفع إلي رقعة وقال ضعها بين يديها فوضعتها وكان فيها ( خبَّرونِي أنَّ في ضرب السَّنهْ ... جُدُداً بيَضاً وصُفْراً حَسَنهْ ) ( سِكَكاً قد أَحْدِثَتْ لم أرها ... مثلَ ما كنت أرى كلّ سَنةْ ) فقالت إنا للهِ أغفلناه فوجهت إليه بوظيفة على يدي حدثني محمد بن موسى قال حدثنا جعفر بن الفضل الكاتب قال أحست زبيدة من المأمون بجفاء فوجهت إلى أبي العتاهية تعلمه بذلك وتأمره أن يعمل فيه أبياتاً تعطفه عليها فقال صوت ( ألا إنّ ريبَ الدهْرِ يُدني ويبعدُ ... ويؤنس بالالاّف طوراً ويفقدُ ) ( أصابتْ لريْبِ الدهْر مني يَدِي يَدِي ... فسلّمتُ للإقدارِ واللهَ أَحْمَدُ ) ( وقلتُ لِرْيبَ الدهْرِ إنْ ذهَبت يَدٌ ... فقد بقيت والحمدُ لله لي يَدُ ) ( إذا بَقِي المأمونُ لي فالرشيدُ لي ... ولِي جعفرٌ لم يفقَدا ومحمدُ ) الغناء لعلّويه قال فحسن موقع الأبيات منه وعاد لها المأمون إلى أكثر مما كان لها عليه وجدت في كتاب محمد بن الحسن الكاتب حدثني هارون بن مخارق قال حدثني أبي قال ظهرت لأم جعفر جفوة من المأمون فبعثت إلي بأبيات وأمرتني أن أغني فيها المأمون إذا رأيته نشيطاً وأسنت لي الجائزة وكان كاتبها قال الأبيات ففعلت فسألني المأمون عن الخبر فعرفته فبكى ورق لها وقام من وقته فدخل إليها فأكب عليها وقبلت يديه وقال لها يا أمه ما جفوتك تعمدا ولكن شغلت عنك بما لا يمكن إغفاله فقالت يا أمير المؤمنين إذا حسن رأيك لم يوحشني شغلك وأتم يومه عندها والأبيات ( ألاَ إن ريبَ الدهرِ يُدْني ويُبعدُ ... ويُؤنس بالأّلاّف طوراً ويُفْقِدُ ) وذكر باقي الأبيات مثل ما في الخبر الأول أبو العتاهية ينظم شعراً عن لسانها للمأمون أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني الحسن بن علي الرازي قال حدثني أبو سهل الرازقي عن أبيه قال عمل أبو العتاهية شعراً على لسان زبيدة بأمرها لما قدم المأمون بغداد أوله ( لخَيرِ إِمامٍ قامَ من خيرِ عنصُرِ ... وأَفضلِ راقٍ فوق أَعواد مِنْبر ) فذكر محمد بن أحمد بن المرزبان عن بعض كتاب السلطان أن المأمون لما قدم مدينة السلام واستقرت به الدار وانتظمت له الأمور أمرت أم جعفر كاتباً لها فقال هذه الأبيات وبعثت بها إلى علويه وسألته أن يصنع فيها لحناً ويغني فيه المأمون ففعل وكان ذلك مما عطفه عليها وأمرت لعلويه بعشرين ألف درهم وقد روي أن الأبيات التي أولها ( يا عمود الإسلام خيرَ عمود ... ) لعيسى بن زينب المراكبي أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني الحسين بن يحيى الكاتب قال حدثنا علي بن نجيح قال حدثني صالح بن الرشيد قال كنا عند المأمون يوما وعقيد المغني وعمرو بن بانة يغنيان وعيسى بن زينب المراكبي حاضر وكان مشهوراً بالأبنة فتغنى عقيد بشعر عيسى ( يا عمودَ الإسلامِ خير عمودِ ... والذي صيغ من حياء وجود ) ( لك عندي في كل يومٍ جَديدٍ ... طُرْفةٌ تستفاد يا بنَ الرشيد ) فقال المأمون لعقيد أنشد باقي هذا الشعر فقال أصون سمع أمير المؤمنين عنه فقال هاته ويحك فقال ( كنتُ في مجلسٍ أنيق ورَيْحان ... وراحٍ ومُسْمِعاتٍ وَعُودِ ) ( فتغنَّى عمرو بن بانةَ إذا ذاكَ ... وهْوَ ممسكٌ بأيْر عقيد ) ( يا عمودَ الإسلام خيرَ عمود ... والذي صيغ من حياءٍ وَجُود ) ( فتنفسْتُ ثم قلت كذا كلُّ ... محبٍّ صبِّ الفؤاد عميد ) فقال المأمون لعيسى بن زينب والله لا فارقتك حتى تخبرني عن تنفسك عند قبض عمرو على أير عقيد لإي شيء هو لا بد من أن يكون ذلك إشفاقاً عليه أو على أن تكون مثله لعن الله تنفسك هذا يا مريب قال وإنما سمي المراكبي لتوليه مراكب المنصور وأمه زينب بنت بشر صاحب طاقات بشر بباب الشام صوت ( لقيتُ من الغانيات العُجابا ... لو أدرك مني العذارَى الشبابا ) ( علام يُكحَّلن حُورَ العيون ... ويُحْدِثْن بَعد الخضابِ الخضابا ) ( ويُبرِقن إلا لما تعلمون ... فلا تمنعُنَّ النساء الضرايا ) الشعر لأيمن بن خريم بن فاتك الأسدي والغناء لإبراهيم الموصلي ولحنه من الثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى من راويةالهشامي أخبار أيمن بن خريم وأيمن بن خريم بن فاتك الأسدي لأبيه صحبة برسول الله ورواية عنه وينسب إلى فاتك وهو جد أبيه وهو أيمن بن خريم بن الأخرم بن عمرو بن فاتك بن القليب بن عمرو بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار وكان أيمن يتشيع وكان أبوه أحد من اعتزل حرب الجمل وصفّين وما بعدهما من الأحداث فلم يحضرها أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني النوشجاني عن العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش عن مجالد قال كان عبد الملك شديد الشغف بالنساء فلما أسن ضعف عن الجماع وازداد غرامه بهن فدخل إليه يوما أيمن بن خريم فقال له كيف أنت فقال بخير يا أمير المؤمنين قال فكيف قوتك قال كما أحب ولله الحمد إني لآكل الجذعة من الضأن بالصاع من البر وأشرب العس المملوء وأرتحل البعير الصضعب وأنصبه وأركب المهر الأرن فأذلّله وأفترع العذراء ولا يقعدوني عنها الكبر ولا يمنعني منها الحصر ولا يُرويني منها الغمر ولا ينقضي مني الوطر فغاظ عبد الملك قوله وحسده فمنعه العطاء وحجبه وقصده بما كره حتى أثّر ذلك في حاله فقالت له امرأته ويحك أصدقني عن حالك هل لك جرم قال لا والله قالت فأي شيء دار بينك وبين أمير المؤمنين آخر ما لقيته فأخبرها فقالت إنا لله من ها هنا أتيت أنا أحتال لك في ذلك حتى أزيل ما جرى عليك فقد حسدك الرجل على ما وصفت به نفسك فتهيأت ولبست ثيابها ودخلت على عاتكة زوجته فقالت أسألك أن تستعدي لي أمير المؤمنين على زوجي قالت وماله قالت والله ما أدري أنا مع رجل أو حائط وإن له لسنين ما يعرف فراشي فسليه أن يفرق بيني وبينه فخرجت عاتكة إلى عبد الملك فذكرت ذلك له وسألته في أمرها فوجه إلى أيمن بن خريم فحضر فسأله عما شكت منه فاعترف به فقال أو لم أسألك عاما أول عن حالك فوصفت كيت وكيت فقال يا أمير المؤمنين إن الرجل ليتجمل عن سلطانه ويتجلد عند أعدائه بأكثر مما وصفت نفسي به وأنا القائل ( لَقيتُ من الغانيات العُجابا ... لو ادرَكَ مني الغواني الشبابا ) ( ولكنَّ جمعَ النساء الحسان ... عناءٌ شديد إذا المرء شابا ) ( ولو كِلتَ بالمدِّ للغانيات ... وضاعفْتَ فوق الثياب الثيابا ) ( إذا لم تُنِلْهُنّ من ذاك ذاك ... جحدنك عند الأمير الكتابا ) ( يَذُدْنَ بكل عصا ذائدٍ ... ويصبِحْن كلَّ غداة صِعابا ) ( إذا لم يُخَالَطْنَ كل الخِلاط ... أصبحن مُخْرنْطماتٍ غضابا ) ( علام يُكَحّلن حور العيون ... ويُحدثْنَ بعد الخضاب الخضابا ) ( ويَعرُكن بالمسْكِ أجيادَهنْ ... ويُدْنِين عند الحِجال العيابا ) ( ويُبرقْن إلا لما تعلمون ... فلا تحرموا الغانيات الضراب ) قال فجعل عبد الملك يضحك من قوله ثم قال أولى لك يابن خريم لقد لقيت منهن ترحاً فما ترى أن نصنع فما بينك وبين زوجتك قال تستأجلها إلى أجل العنين وأدريها العلي أستطيع إمساكها قال أفعل ذلك وردها إليه وأمر له بما فات من عطائه وعاد إلى بره وتقريبه أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال حدثنا الرياشي قال ذكر العتبي أن منازعة بين عمرو بن سعيد وعبد العزيز بن مروان فتعصب لكل واجد منهما أخواله وتداعوا بالسلاح واقتتلوا وكان أيمن بن خريم حاضراً للمنازعة فاعتزلهم هو ورجل من قومه يقال له ابن كوز فعاتبه عبد العزيز وعمرو جميعاً على ذلك فقال ( أأْقتَلُ بينَ حجّاج بن عمرو ... وبين خصيمه عبد العزيز ) ( أنقُتَل ضلَّةً في غير شيء ... ويَبْقى بعدَنا أَهلُ الكنوز ) ( لعمر أَبيك ما أُتيتُ رشدي ... ولا وُفِّقتُ للحِرْز الحريز ) ( فإني تاركٌ لهما جميعاً ... ومعتزلٌ كما اعتزل ابنُ كوز ) أيمن يهجو يحيى بن الحكم أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال أصاب حيى بن الحكم جارية في غزاة الصائفة بها وضح فقال أعطوها أيمن بن خريم وكان موضحاً فغضب وأنشأ يقول ( تركت بني مروان تندى أكفُّهم ... وصاحبتُ يحيى ضلّة من ضلاليا ) ( فإنك لو أشبهتَ مروان لم تَقُل ... لقوميَ هُجراً أَنْ أَتَوك ولاليا ) وانصرف عنه فأتى عبد العزيز بن مروان وكان يحيى محمقاً حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال حدثني مصعب اليزبدي عن أشياخه أن عبد الملك بن مروان قال يا معشر الشعراء تشبهوننا مرة بالأسد الأبخر ومرة بالجبل الأوعر ومرة بالبحر الأجاج ألا قلتم فينا كما قال أيمن بن خريم في بني هاشم ( نهاركُمُ مكابدةٌ وصومٌ ... ولَيْلُكُمُ صلاة واقتراء ) ( وَلِيتم بالقُران وبالتزَكِّي ... فأَسرع فيكُم ذاك البلاء ) ( بكى نجدٌ غداة غدٍ عليكم ... ومكةُ والمدينةُ والجِواء ) ( وحقّ لكل أَرض فارقُوها ... عليكم لا أَبالكمُ البكاء ) ( أَأَجعلكم وأَقواماً سواءً ... وبينكمُ وبينهم الهواء ) ( وهمْ أَرض لأرجُلكم وأَنتم ... لأرؤسهم وأَعينهم سماء ) أخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن أبي همام الوليد بن شجاع قال حدثنا عبد الله بن إدريس قال أصاب أيمن بن خريم امرأة له خطأ يعني قتلها فوداها عبد الملك بن مروان أعطي ورثتها ديتها وكفر عنه كفارة القتل وأعطاه عدة جوار ووهب له مالاً فقال أيمن ( رأَيتُ الغوانيَ شيئاً عُجابا ... لَوَ انسَ مِنيِّ الغواني الشبابا ) ( ولكنَّ جمعَ العذارى الحسانِ ... عناءٌ شديد إذا المرء شابا ) ( ولو كِلتَ بالمُدّ للغانيات ... وضاعفْت فوق الثياب ثيابا ) ( إذا لم تُنِلْهن مِن ذاك ذاك ... بَغَيْنَكَ عِنْد الأمير الكذابا ) ( يَذُدن بكل عَصَا ذائدٍ ... ويًصبحن كل غداة صعابا ) ( إذا لم يُخالَطْنَ كلّ الخِلاط ... تراهنّ مُخَرَنطِماتٍ غِضَابا ) ( عَلامَ يُكَحِّلْن حُور العيون ... ويُحْدِثْنَ بعد الخضاب الخضابا ) ( ويَعرُكن بالمسك أجيادَهنّ ... ويدنين عند الحِجال العِيابا ) ( ويغمِزن إلا لما تعلمون ... فلا تحرموا الغانيات الضِّرابا ) قال فبلغني أن عبد الملك أنشد هذا الشعر فقال نعم الشفيع أيمن لهن وأخبرني أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة وإبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال قال له عبد الملك لما أنشده هذا الشعر ما وصف النساء أحد مثل صفتك وعرفهن أحد معرفتك قال فقال له لئن كنت صدقت في ذلك لقد صدق الذي يقول صوت ( فإن تسألوني بالنساء فإنني ... خبيرٌ بأدواء النساء طبيبُ ) ( إذا شاب رأسُ المرءِ أو قلَّ ماله ... فليس له فِي وُدِّهنّ نصيب ) ( يُرِدْنَ ثراءَ المال حيث علمنه ... وشَرْخُ الشباب عندهن عجيب ) فقال له عبد الملك قد لعمري صدقتما وأحسنتما الشعر لعلقمة بن عبدة والغناء لبسباسة ولحنه خفيف ثقيل أول بالوسطى عن حبش وهذه الأبيات يقولها علقمة بن عبدة يمدح بها الحارث ويسأله إطلاق ابنه شأس وخبره يذكر وخبر الحارث بعد انقضاء أخبار أيمن بن خريم رجع الحديث إلى أخبار أيمن أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني المدائني عن أبي بكر الهذلي قال دخل نصيب يوما إلى عبد العزيز بن مروان فأنشده قصيدة له امتدحه بها فأعجبته وأقبل على أيمن بن خريم فقال كيف ترى شعر مولاي هذا قال هو أشعر أهل جلدته فقال هو أشعر والله منك قال أمِني أيها الأمير فقال إي والله قال لا والله ولكنك طرف ملول فقال لو كنت كذلك ما صبرت على مؤاكلتك منذ سنة وبك من البرص ما بك فقال ائذن لي أيها الأمير في الانصراف قال ذلك إليك فمضى لوجهه حتى لحق ببشر بن مروان وقال فيه ( ركبتُ من المقطّم في جُمادى ... إلى بشرِ بن مروان البَرِيدا ) ( ولو أعطاكَ بشرٌ ألفَ ألفٍ ... رأى حقاً عليه أن يزيدا ) ( أميرَ المؤمنين أقِمْ بِبشر ... عمود الدين إنّ له عمودا ) ( ودِعْ بشراً يقُوّمهم ويُحْدِثْ ... لأهلِ الزيغ إسلاماً جديداً ) ( وإنّا قد وجدنا أُمَّ بشر ... كأُمّ الأُسد مِذْكاراً وَلودا ) ( كأنّ التاج تاجَ أبي هِرَقْلٍ ... جَلَوْهُ لأعظِم الأيام عيداً ) ( يُحالِف لونُه ديباجَ بشر ... إذا الألْوانُ حالفت الخدودا ) يعرض بنمش كان بوجه عبد العزيز فقبله بشر بن مروان ووصله ولم يزل أثيراً عنده أيمن يمدح بشر بن مروان أخبرني عمي قال حدثني الكراني وأبو العيناء عن العتبي قال لما أتى أيمن بن خريم بشر بن مروان نظر الناس يدخلون عليه أفواجاً فقال من يؤذن لنا الأمير أو يستأذن لنا عليه فقيل له ليس على الأمير حجاب ولا ستر فدخل وهو يقول ( يُرَى بارزاً للناس بشرٌ كأنه ... إذا لاح في أثوابه قمَرٌ بَدْرُ ) ( ولو شاء بشرٌ أغلق البابَ دونه ... طماطمُ سودٌ أو صقالبةٌ شُقْر ) ( أبى ذا ولكن سَّهل الإذنَ للتي ... يكون له في غِبِّها الحمد والشكر ) فضحك إليه بشر وقال إنا قوم نحجب الحرم وأما الأموال والطعام فلا وأمر له بعشرةآلاف درهم أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قال حدثني الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن المعتمد بن سليمان قال لما طالت الحرب بين غزالة وبين أهل العراق وهم لا يغنون شيئاً قال أيمن بن خريم ( أتينا بهمْ مائتي فارسٍ ... من السافِكِين الحرامَ العَبيطا ) ( وخمسون من مارقات النساء ... يَسْحَبْنَ لِلمُنديات المُرُوطا ) ( وهُمْ مائتا ألفِ ذي قَوْنَسٍ ... يَئط العراقان منهم أَطيطا ) ( رأيت غزالة إن طَرَّحَت ... بمكةَ هَودَجها والغَبيطا ) ( سَمَتْ للعراقين في جمعها ... فلاقى العراقان منها بطيطا ) ( ألاَ يستحي اللهَ أهلُ العِراقِ ... إن قَلَّدوا الغانيات السُّموطا ) ( وخيلُ غزالةَ تسبي النِّساء ... وتَحوي النَّهابَ وتحوي النبيطا ) ( ولو أنَّ لُوطاً أميرٌ لكم ... لأسْلَمْتُمُ في المُلمّات لُوطا ) صوت ( تصابَيْتَ أم هاجتْ لك الشوقَ زينَبُ ... وكيف تَصَابِي المرء والرأسُ أشيب ) ( إذا قرُبتْ زادتْك شوقاً بِقُرْبِها ... وإن جانبت لم يُسلِ عَنها التجنّب ) ( فلا اليأسُ إن ألممتَ يبدو فترعَوِي ... ولا أنت مردود بما جئت تطلب ) ( وفِي اليأسِ لو يبدُو لك اليأسُ راحةٌ ... وفي الأرض عمَّنْ لا يؤاتيك مذهب ) الشعر لحجية بن المضرب الكندي فيما ذكره إسحاق والكوفيون وذكر الزبير بن بكار أنه لإسماعيل بن يسار وذكر غيره أنه لأخيه أحمد بن يسار والغناء ليونس الكاتب ولحنه من الثقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وفيه ثقيل أول بالبنصر ذكر حبش أنه لمالك وذكر غيره أنه لمعبد أخبار حجبة بن المضرب حدثني ابن عمار قال حدثنا سعيد بن يحيى الأموي وأخبرنا به وكيع عن إسماعيل بن إسحاق عن سعيد بن يحيى الأموي قال حدثني المحبر بن قحذم عن هشام بن عروة عن أبيه قال لما قدم القاسم بن محمد بن أبي بكر وأخته من مصر وأخبرني بهذا الخبر محمد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن عوانة قال كان القاسم بن محمد بن أبي بكر يحدث قال لما قتل معاوية بن حديج الكندي وعمرو بن العاص أبي يعني محمد بن أبي بكر بمصر جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر فاحتملني وأختا لي من مصر وقد جمعت الروايتين واللفظ لابن أبي الأزهر وخبره أتم قال فقدم بنا المدينة فبعثت إلينا عائشة فاحتملتنا من منزل عبد الرحمن إليها فما رأيت والدة قط ولا والداً أبرّ منها فلم نزل في حجرها حتى إذا كان ذات يوم وقد ترعرعنا ألبستنا ثياباً بيضاء ثم أجلست كل واحد منا على فخذها ثم بعثت إلى عمي عبد الرحمن فلما دخل عليها تكلمت فحمدت الله عز و جل وأئثنت عليه فما رأيت متكلماً ولا متكلمة قبلها ولا بعدها أبلغ منها ثم قالت يا أخي إني لم أزل أراك معرضاً عني منذ قبضت هذين الصبيين منك ووالله ما قبضتهما تطاولاً عليك ولا تهمة لك فيهما ولا لشيء تكرهه ولكنك كنت رجلاً ذا نساء وكانا صبيين لا يكفيان من أنفسهما شيئاً فخشيت أن يرى نساؤك منهما ما يتقذرن به من قبيح أمر الصبيان فكنت ألطف لذلك وأحق بولايته فقد قويا على أنفسهما وشبا وعرفا ما يأتيان فهاهما هذان فضمهما إليك وكن لهما كحجية بن المضرب أخي كندة فإنه كان له أخ يقال له معدان فمات وترك أصيبية صغاراً في حجر أخيه فكان أبر الناس بهم وأعطفهم عليهم وكان يؤثرهم على صبيانه فمكث بذلك ما شاء الله ثم إنه عرض له سفر لم يجد بداً من الخروج فيه فخرج وأوصى بهم امرأته وكانت إحدى بنات عمه وكان يقال لها زينب فقال اصنعي ببني أخي ما كنت أصنع بهم ثم مضى لوجهه فغاب أشهراً ثم رجع وقد ساءت حال الصبيان وتغيرت فقال لامرأته ويلك مالي أرى بني معدان مهازيل وأرى بني سماناً قالت قد كنت أواسي بينهم ولكنَّهم كانوا يعبثون ويلعبون فخلا بالصبيان فقال كيف كانت زينب لكم قالوا سيئة ما كانت تعطينا من القوت إلا ملء هذا القدح من لبن وأروه قدحاً صغيرأً فغضب على امرأته غضباً شديداً وتركها حتى إذا أراح عليه راعياً إبله قال لهما اذهب فأنتما وإبلكما لبني معدان فغضبت من ذلك زينب وهجرته وضربت بينه وبينها حجاباً فقال والله لا تذوقين منها صبوحاً ولا غبوقاً أبداً وقال في ذلك ( لجِجْنا وَلجَت هذه في التغضّب ... ولطِّ الحجابِ بيننا والتجنُّبِ ) ( وخطتُ بفردَيْ إثمِدٍ جفنَ عينها ... لتقتلَني وشَدَّ ما حُبُّ زينب ) ( تلومُ على مالٍ شفاني مكانُه ... فَلوُمي حياتي ما بدا لك واغضبي ) ( رحِمت بني مَعْدانَ أنْ قلَّ مالهُمْ ... وحق لهم مِني وربِّ المحصَّب ) ( وكان اليتامى لا يَسُدُّ اختلالهم ... هدايا لهم في كل قَعْبٍ مشعّب ) ( فقلت لعبديْنا أَريحا عليهمُ ... سأجعل بيتي بيتَ آخرَ مُعْزِب ) ( وقلتُ خذوها واعلموا أَن عمّكمْ ... هو اليومَ أَولى منكمُ بالتكسب ) ( عِيالي أَحقُّ أَن ينالوا خصاصةً ... وأَن يشربوا رَنْقاً إلى حين مكسبي ) ( أُحابي بها من لو قصدتُ لمالِه ... حَرِيباً لآساني على كل موكِب ) ( أَخِي والذي إن أَدْعُه لعظِيمة ... يُجِبْني وإن أغضَب إلى السيف يَغْضب ) إلى ها هنا رواية ابن عمار وفي خبر إسحاق قال فلما بلغ زينب هذا الشعر وما وهب زوجها خرجت حتى أتت المدينة فأسلمت وذلك في ولاية عمر بن الخطاب فقدم حجية المدينة فطلب زينب أن ترد عليه وكان نصرانياً فنزل بالزبير بن العوام فأخبره بقصته فقال له إياك وأن يبلغ هذا عنك عمر فتلقى منه أذى وانتشر خبر حجية وفشا بالمدينة وعلم فيم كان مقدمه فبلغ ذلك عمر فقال للزبير قد بلغني قصة ضيفك ولقد هممت به لولا تحرمه بالنزول عليك فرجع الزبير إلى حجية فأعلمه قول عمر فقال حجية في ذلك ( إن الزبيرَ بنَ عوّام تداركني ... منه بسيُب كريم سيْبُه عِصمُ ) ( نفسي فداؤُك مأْخوذاً بحُجزَتها ... إذ شاط لحمي وإذ زلّت بي القدم ) ( إذ لا يَقومُ بها إلا فَتىً أنِفٌ ... عاري الأشاجع في عِرْنينه شَمَمُ ) ثم انصرف من عنده متوجهاً إلى بلده آيساً من زينب كئيباً حزيناً فقال في ذلك ( تصابيتَ أمْ هاجَتْ لك الشوقَ زينبُ ... ) الأبيات المذكور فيها الغناء صوت ( خليلي هُبَّا نَصْطَبِح بسواد ... ونُروِ قُلوباً هامُهُنّ صواد ) ( وقولا لساقينا زياد يُرِقُّها ... فقد هَزَّ بعضَ القوم سقُي زياد ) الشعر والغناء لإسحاق ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر خبر إسحاق مع غلامه زياد هذا الشعر يقوله إسحاق في غلام له مملوك خلاسي يقال له زياد كان مولداً من مولدي المدينة فصيحاً ظريفاً فجعله ساقيه وذكره هو وغيره في شعره فممن ذكره من الشعراء دعبل وله يقول أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري قال كان زياد الذي يذكره إسحاق في عدة مواضع منها قوله ( وقولا لِسَاقينا زيادٍ يُرقّها ... ) وكان نظيف السقي لبقاً فقال فيه دعبل ( يقول زيادٌ قِف بصحبِك مَرةً ... على الرَّبع مالي والوقوفَ على الربْعِ ) صوت ( أدِرْها علَى الحبيب فربَّما ... شربتُ على نَأيْ الأحبة والفَجْع ) ( فما بلغَنْتِني الكأسً إلا شربتُها ... وإلا سًقيتُ الأرضَ كأساً من الدمع ) غنى في البيت الثاني والثالث من هذه الأبيات محمد بن العباس بن عبد الله بن طاهر لحناً من خفيف الثقيل الأول بالبنصر قال أبو الحسن وقد قيل إن هذين البيتين يعني ( خلِيليَّ هُبّا نصطبِحْ بسواد ... ) للأخطل أخبرني علي بن سليمان قال حدثني أبي قال قال لي جعفر بن معروف الكاتب وكان قد جاوز مائة سنة لقد شهدت إسحاق يوماً في مجلس أنس وهو يتغنى هذا الصوت ( خليليَّ هّبا نصطبح بسواد ... ) وغلامه زياد جالس على مسورة يسقي وهو يومئذ غلام أمرد أصفر رقيق البدن حلو الوجه ثم أخذ يراجعه ولا أحد يستطيع يقول له زدني ولا انقصني أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري قال حدثني أحمد بن الهيثم يعني جد أبي رحمه الله قال كنت ذات يوم جالساً في منزلي بسر من رأى وعندي إخوان لي وكان طريق إسحاق في مضيه إلى دار الخليفة ورجوعه منها على منزلي فجاءني الغلام يوماً وعندي أصدقاء لي فقال لي إسحاق بن إبراهيم الموصلي بالباب فقلت له قل له ويلك يدخل أوفي الخلق أحد يستأذن عليه لإسحاق فذهب الغلام وبادرت أسعى في أثره حتى تلقيته فدخل وجلس منبسطاً آنساً فعرضنا عليه ما عندنا فأجاب إلى الشرب فأحضرناه نبيذاً مشمساً فشرب منه ثم قال أتحبون أن أغنيكم قلنا إي والله أطال الله بقاءك إنا نحب ذلك قال فلم لم تسألوني قلنا هبناك والله قال فلا تفعلوا ثم دعا بعود فأحضرناه فاندفع فغنانا فشربنا وطربنا فلما فرغ قال أحسنت أملا فقلنا بلى والله جعلنا الله فداءك لقد أحسنت قال فما منعكم أن تقولوا لي أحسنت قلنا الهيبة والله لك قال فلا تفعلوا هذا فيما تستأنفون فإن المغني يحب أن يقال له غن ويحب أن يقال له إذا غنى أحسنت ثم غنانا صوته ( خليليَّ هُبّا نصطبحْ بسواد ... ) فقلنا له يا أبا محمد من هو زياد الذي عنيته قال هو غلامي الواقف بالباب ادعوه يا غلمان فأدخل إلينا فإذا غلام خلاسي قيمته عشرون ديناراً أو نحوُها فأمسكنا عنه فقال أتسألوني عنه فأعرِّفكم إياه ويخرج كما دخل وقد سمعتم شعري فيه وغنائي أشهدكم أنه حر لوجه الله وأني زوجته أمتي فلانه فأعينوه على أمره قال فلم يخرج حتى أوصلنا إليه عشرين ألف درهم أخرجناها له من أموالنا أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي قال توفي زياد غلام إسحاق الذي يقول فيه ( وقولا لِساقينا زيادٍ يُرِقّها ... ) فقال إسحاق يرثيه ( فَقَدْنا زياداً بعد طول صَحابة ... فلا زال يَسقِي الغيثُ قبرَ زياد ) ( ستبكيك كأسٌ لم تجد من يُديِرُها ... وظمآنُ يستَبْطِي الزجاجة صادِ ) الأمين يطلب إسحاق فيغنيه أخبرني عمي قال حدثني ابن المكي عن أبيه قال اصطبح محمد الأمين ذات يوم وأمر بالتوجيه إلى إسحاق فوُجه إليه عدة رسل كلهم لا يصادفه حتى جاء أحدهم به فدخل منشياً ومحمد مغضب فقال له أين كنت ويلك قال أصبحت يا أمير المؤمنين نشيطاً فركبت إلى بعض المنتزهات فاستطبت الموضع وأقمت فيه وسقاني زياد فذكرت أبياتاً للأخطل وهو يسقيني فدار لي فيها لحن حسن فصنعته فيها وقد جئتك به فتبسم ثم قال هات فما تزال تأتي بما يرضي عنك عند السخط فغناه صوت ( إذا ما زيادٌ علَّني ثم علّني ... ثلاثَ زجاجات لهنّ هَدِيرُ ) ( خرجْت أَجُرُّ الذيل زهواً كأنني ... عليك أَميرَ المؤمنين أَمير ) قال بل على أبيك قبح الله فعلك فما يزال إحسانك في غنائك يمحو إساءتك في فعلك وأمر له بألف دينار الشعر في هذين البيتين للأخطل والغناء لإسحاق رمل بالبنصر ورواية شعر الأخطل ( إذا ما نديمي عَلَّني ثم علّني ... ) وإنما غيّره إسحاق فقال إذا ما زياد أخبرني علي بن سليمان عن محمد بن يزيد النحوي أن عبد الملك بن مروان قال للأخطل ما يدعوك إلى الخمر فوالله إن أولها لمر وإن آخرها لسُكر قال أجل ولكن بينهما حالة ما ملكك عندها بشيء وقد قلت في ذلك ( إذا ما نَديمي عَلَّني ثم عَلّني ... ثلاثَ زجاجات لهنّ هَديرُ ) ( خرجْتُ أجرُّ الذيل زهواً كأنني ... عليكَ أميرَ المؤمنين أمير ) قال فجعل عبد الملك يضحك صوت ( أشارتْ بِطَرْفِ العين خِيفةَ أهلِها ... إِشارةَ محزونٍ ولم تتكلمِ ) ( فأيقنْت أَن الطرف قد قال مَرْحَباً ... وأهلاً وسهلاً بالحبيبِ المسلِّم ) ( هنيئاً لكم حُبِّي وصَفوُ مَوَدّتي ... فقد سِيطَ مِن لَحْمي هَواكِ ومن دَمِي ) الشعر لعمرَ بن أبي ربيعة والغناء لابن عائشة ثاني ثقيل بالبنصر وفيه لدحمان ثقيل أول بالبنصر ويقال إنه لابن سريج وقيل إن الثقيل الأول لابن عائشة والثقيل الثاني لابن سريج وفيه خفيف ثقيل أول ينسب إلى ابن سريج وإلى علي بن الجواريّ خبر لحبابة مع ابن عائشة أخبرني الحسن بن يحيى وابن أبي يحيى الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني قال كانت حبابة جارية يزيد بن عبد الملك معجبة بغناء ابن عائشة وكان ابن عائشة حديث السن فلما طال عهدها به اشتاقت إلى أن تسمع غناءه فلم تدر كيف تصنع فاختلفت هي وسلامة في صوت لمعبد فأمر يزيد بإحضاره ووجه في ذلك رسولا فبعثت حبابة إلى الرسول سراً فأمرته أن يأتي ابن عائشة وأمير المدينة في خفاء ويبلغهما رسالتهما بالخروج مع معبد سراً وقالت قل لهما يستران ذلك عن أمير المؤمنين فلما قدم الرسول إلى عامل المدينة أبلغه ما قالت حبابة فأمر ابن عائشة بالرحلة مع معبد وقال لمعبد انظر ما تأمرك به حبابة فانتبه إليه فقال نعم فخرجا حتى قدما على يزيد وبلغ الخبر حبابة فلم تدر كيف تصنع في أمر ابن عائشة فلما حضر معبد حاكمت سلامة إليه فحكم لها فاندفعت فغنت صوتا لابن عائشة وفيه لابن سريج لحن ولحن ابن عائشة أشهرهما وهو ( أشارت بِطَرْف العين خيفةَ أهلها ... ) فقال يزيد يا حبيبتي أنى لك هذا ولم أسمعه منك وهو على غاية الحسن إن لهذ لشأناً فقالت يا أمير المؤمنين هذا لحن كنت أخذته عن ابن عائشة قال ذلك الصبي قالت نعم وهذا أستاذه وأشارت بيدها إلى معبد فقال لمعبد أهذا لحن ابن عائشة أو انتحله فقال معبد هذا أصلح الله الأمير له فقال يزيد لو كان حاضراً ما كرهنا أن نسمع منه فقال معبد هو والله معي لا يفارقني فقال يزيد ويلك يا معبد احتملنا الساعة أمرك فزدتنا ما كرهنا ثم قال لحبابة هذا والله عملك قالت أجل يا سيدي قال لها هذه الشام ولا تحتمل لنا ما تحتمله المدينة قالت يا سيدي أنا والله أنا أحب أن أسمع من ابن عائشة فأحضر فلما دخل قال له صوتاً غنته حبابة ( أشارت بطرف العين خيفة أهلَها ... ) فغنّاه فقال هو والله يا حبابة منه أحسن منه منك قالت أجل يا سيدي ثم قال يزيد هات يا محمد ما عندك فغنى صوت ( قِف بالمنازِل قبل أن نتفرقا ... واستنطق الربعَ المُحيل المخلِقا ) ( عن عِلْمِ ما فعلَ الخليط لعله ... بجواب رجْعِ حديثهم أن ينطقا ) ( فيبين مِنْ أخبارهم لِمُتيّم ... أمسى وأصبح بالرسوم معلّقا ) ( كلِفاً بَها أبداً تَسُحُّ دموعُهُ ... وَسْطَ الديارِ مسائلاً مستنطقا ) ( ذَرَفَتْ له عين يُرى إنسانُهَا ... في لُجَّةٍ ما مائهَا مغرورقِا ) ( تُجْري محَاجرُهَا الدموعَ كأنَّهَا ... دُرُّ وَهَي من سلكه مستوسقاً ) الغناء لابن عائشة ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى وفيه لشارية خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى ويقال إن فيه لابن جندب وحنين لحنين قال فقال له يزيد أهلا وسهلا بك يابن عائشة فأنت والله الحسن الوجه الحسن الغناء وأحسن إليه ووصله ثم لم يره يزيد بعد هذا المجلس وبعثت إليه حبابة ببر وألطاف وأتبعتها سلامة في ذلك صوت ( لما سمعتُ الديك صاح بسُحْرة ... وتوسط النسران بَطْنَ العَقْرَبِ ) ( وبدا سُهَيل في السماء كأنه ... نور وعَارضه هِجان الرّبَرَب ) ( نبّهتُ ندماني وقلت له اصطبح ... يابن الكرام من الشراب الطيب ) ( صفراء تبرُق في الزجاج كأنها ... حدق الجرادة أو لُعاب الجندب ) الشعر لأبي الهندي والغناء لإبراهيم الموصليّ ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو أخبار أبي الهندي ونسبه اسمه غالب بن عبد القدوس بن شبث بن ربعي وكان شاعراً مطبوعاً وقد أدرك الدولتين دولة بني أمية وأول دولة ولد العباس وكان جزل الشعر حسن الألفاظ لطيف المعاني وإنما أخمله وأمات ذكره بعده من بلاد العرب ومقامه بسجستان وبخراسان وشغفه بالشراب ومعاقرته إياه وفسقه وما كان يتهم به من فساد الدين واستفرغ شعره بصفة الخمر وهو أول من وصفها من شعراء الإسلام فجعل وصفها وكده وقصده ومن مشهور قوله فيها ومختاره ( سقَيتُ أبَا المُطَرّح إذ أتاني ... وذو الرَّعثات منتَصِبٌ يصيحُ ) ( شراباً يهرُب الذِّبَّان منه ... ويَلْثَغ حين يشربه الفصيحُ ) أبو نواس يأخذ معانيه في الخمر من شعره أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني فضل اليزيدي أنه سمع إسحاق الموصلي يوما يقول وأنشد شعراً لأبي الهندي في صفة الخمر فاستحسنه وقَرّظه فذكر عنده أبو نواس فقال ومن أين أخذ أبو نواس معانيه إلا من هذه الطبقة وأنا أوجدكم سلخه هذه المعاني كلَّها في شعره فجعل ينشد بيتاً من شعر أبي الهندي ثم يستخرج المعنى والموضع الذي سرقه الحسن فيه حتى أتى على الأبيات كلها واستخرجها من شعره أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني شيخ من أهل البصرة قال كنا عند أبي عبيدة فأنشد منشد شعراً في صفة الخمر أُنسيه الشيخ فضحك ثم قال هذا أخذه من قول أبي المهندي ( سيُغني أبا الهندي عن وَطْبِ سالم ... أبَاريقُ لم يَعْلق بها وَضَر الزُّبْدِ ) ( مُفَدَّمةٌ قُزٌ كأن رِقابهَا ... رِقابُ بنات الماء تَفْزعُ للرعد ) ( جَلْتْها الجوالي حين طَاب مِزاجها ... وَطَيّبتَها بالمِسك والعنبر والوَرْد ) ( تَمجّ سُلافاً في الأباريق خالصاً ... وفي كلّ كأس من مَهاً حسن القَدِّ ) ( تَضَمّنها زِق أَزَبّ كأنه ... صريعٌ من السودانِ ذو شَعَر جَعْدِ ) نسخت من كتاب ابن النطاح حدثني بعض أصحابنا أن أبا الهندي اشتهى الصبوح في الحانة ذات يوم فأتى خمّاراً بسجستان في محله يقال لها كوه زيان وتفسيره جبل الخسران يباع فيها الخمر والفاحشة ويأوي إليها كل خارب وزانٍ ومغنية فدخل إلى الخمار فقال له اسقني وأعطاه ديناراً فكال له وجعل يشرب حتى سكر وجاء قوم يسألون عنه فصادفوه على تلك الحال فقالوا للخمار ألحقنا به فسقاهم حتى سكروا فانتبه فسأل عنهم فعرّفه الخمار خبرهم فقال له هذا الآن وقت السكر الآن طاب ألحقني بهم فجعل يشرب حتى سكر وانتبهوا فقالوا للخمار ويحك هذا نائم بعد فقال لا ولقد انتبه فلما عرف خبركم شرب حتى سكر فقالوا ألحقنا به فسقاهم حتى سكروا وانتبه فسأل عن خبرهم فعرّفه فقال والله لألحقن بهم فشرب حتى سكر ولم يزل ذلك دأبه ودأبهم ثلاثة أيام لم يلتقوا وهم في موضع واحد ثم تركوا هم الشرب عمداً حتى أفاق فلقوه وهذا الخبر بعينه يحكى لوالبة بن الحباب مع أبي نواس وقد ذكر في أخبار والبة والصحيح أنه لأبي الهندي وفي ذلك يقول ( نَدَامَى بَعْد ثالثةٍ تلاقَوْا ... يَضمُّهمْ بِكُوه زيَانَ راحُ ) ( وقد باكرتُها فترُكت منها ... قتيلاً ما أصابتني جِراح ) ( وقالوا أيّهاالخمارُ مَنْ ذا ... فقال أخ تَخَوّنه اصطباحُ ) ( فقالوا هاتِ راحَك ألْحِقَنا ... به وتَعلَّلواثم ولها سلاح ) ( فما إن لَبَّثَتْهم أن رَمتْهمْ ... بَحدِّ سلاحها ولها سلاح ) ( وحان تَنبُّهي فسألتُ عنهمْ ... فقال أتاحَهُمْ قَدَر مُتَاح ) ( رأوك مُجَدَّلاً فاستخبروني ... فحرّكّهم إلى الشرب ارتياح ) ( فقلْتُ بِهمْ فألحقني فهَبّوا ... فقالوا هل تَنَبّه حين راحوا ) ( فقال نعم فقالوا ألحقَنّا ... بِهِ قد لاح للرائي صياح ) ( فما إن زال ذاك الدأْب مِنّا ... ثلاثاً يُستغبّ ويستباح ) ( نَبيتُ معاً وليسَ لنا لقاءٌ ... ببيت ما لنا فيه براحُ ) مات مختنقاً بسبب الشراب أخبرني عمي الحسن بن أحمد قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال قال صدقة بن إبراهيم البكري كان أبو الهندي يشرب معنا بمرو وكان إذا سكر يتقلب تقلباً قبيحاً في نومه فكنا كثيراً ما نشد رجله لئلا يسقط من السطح فسكر ليلة وشددنا رجله بحبل وطولنا فيه ليقدر على القيام إلى البول وغير ذلك من حوائجه فتقلب وسقط من السطح وأمسكه الحبل فبقي منكساً وتخنق بما في جوفه من الشراب فأصبحنا فوجدناه ميتاً قال صدقة فمررت بقبره بعذ ذلك فوجدت عليه مكتوباً ( اجْعلوا إن متُّ يوماً كفَني ... ورَقَ الكرْم وقبري مَعْصَرهْ ) ( إنّني أرجو من الله غداً ... بَعْد شربِ الراح حُسنَ المغفرة ) قال فكان الفتيان بعد ذلك يجيئون إلى قبره ويشربون ويصبون القدح إذا انتهى إليه على قبره قال حماد بن إسحاق عن أبيه في وفاة أبي الهندي إنه خرج وهو سكران في ليلة باردة من حانة خمّار وهو ريان فأصابه ثلج فقتله فوجد من غدٍ ميتاً على الطريق وروى حماد بن إسحاق عن أبيه قال حج نصر بن سيار وأخرج معه أبا الهندي فلما حضرت أيام الموسم قال له أبا الهندي إنا بحيث ترى وفد الله وزوار بيته فهب لي النبيذ في هذه الأيام واحتكم علي فلولا ما ترى ما منعتك فضمن له ذلك وغلظ عليه الإحتكام ووكل به نصر بن سيار فلما انقضى الأجل مضى في السحر قبل أن يلقى نصراً فجلس في أكمة يشرف منها على فضاء واسع فجلس عليها ووضع بين يديه إداوة وأقبل يشرب ويبكي ويقول ( أَدِيرا عليّ الكأس إلي فقْدتها ... كما فقد المَفطْومُ درَّ المَراضِع ) ( حليف مُدامٍ فارق الراحُ روحَه ... فظل عليها مستهِل المَدامع ) قال وعاتب قوم أبا الهندي على فسقه ومعاقرته الشراب فقال ( إذا صليّتُ خمساً كلَّ يومٍ ... فإنّ الله يغفر لي فُسُوقي ) ( ولَم أَشركْ بِرَبِّ الناسِ شيئاً ... فقد أمسكت بالدِّين الوثيق ) ( وجاهدتُ العَدُوّ ونِلْتُ مالاً ... يبَلِّغُني إلى البيت العتيق ) ( فهذا الدين ليس به خفاء ... دَعُوني من بُنَيّات الطريق ) قال إسحاق وشرب يوماً أبو الهندي بكوه زيان عند خمارة هناك وكان عندها نسوة عواهر ففجر بهن ولم يعطهن شيئاُ فجعلن يطالبنه بجعل فلم ينفعهن فقال في ذلك ( آلى يميناً أبو الهنْدِيِّ كاذبةً ... لَيُعطِينَّ زاونِي لست ماشينا ) ( وغرهُّنّ فلّما أن قضى و طراً ... قال ارتَحِلْن فأخزى الله ذادينا ) أخبرني عمي عن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن أبي محلم قال خطب أبو الهندي غالب بن عبد القدوس بن شبث بن ربعي إلى رجل من بني تميم فقال لو كنت مثل أبيك لزوجتك فقال له غالب لكنك لو كنت مثل أبيك ما خطبت إليك قال أبو محلم ومر نصر بن سيار بأبي الهندي وهو سكران يتمايل فوقف عليه فعذله وسبه وقال ضيعت شرفك وفضحت أسلافك فلما طال عتابه التفت إليه فقال لولا أني ضيعت شرفي لم تكن أنت على خراسان فانصرف نصر خجلاً قال أبو محمل وكان بسجستان رجل يقال له برزين ناسكاً وكان أبوه صلب في خرابة فجلس إليه أبو الهندي فطفق يعذله ويعرض له بالشراب فقال له أبو الهندي أحدكم يرى القذاة في عين أخيه ولا يرى الخشبة في است أبيه فأخجله قال أبو محلم وكان أسرع الناس جواباً صوت ( لقد قُلتُ حين قَرَّبتِ ... العِيسُ يا نوارُ ) ( قِفُوا فاربعوا قليلاً ... فَلم يربعوا وسارُوا ) ( فنفسي لها حنين ... وقلبي له انكسارُ ) ( وصدري به غليل ... ودمعي له انحدارُ ) الشعر لسعيد بن وهب والغناء لسليم رمل بالوسطى عن الهشامي ومن جامع سليم ونسخة عمرو الثانية أخبار سعيد بن وهب سعيد بن وهب أبو عثمان بني سامة بن لؤي بن نصر مولده ومنشؤه بالبصرة ثم سار إلى بغداد فأقام بها وكانت الكتابة صناعته فتصرف مع البرامكة فاصطنعوه وتقدم عندهم وكان شاعراً مطبوعاً ومات في أيام المأمون وأكثر شعره في الغزل والتشبيب بالمذكر وكان مشغوفاً بالغلمان والشراب ثم تنسك وتاب وحج راجلاً على قدميه ومات على توبة وإقلاع ومذهب جميل ومات وأبو العتاهية حي وكان صديقه فرثاه فأخبرني علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن مزيد قال حُدِّثت عن بعض أصحاب أبي العتاهية قال جاء رجل إلى أبي العتاهية ونحن عنده فساره في شيء فبكى أبو العتاهية فقلنا له ما قال لك هذا الرجل يا أبا إسحاق فأبكاك فقال وهو يحدثنا لا يريد أن يقول شعراً ( قالَ لِي ماتَ سعيدُ بن وهب ... رحم الله سعيدَ ينَ وهبِ ) ( يا أبا عثمان أبكيتَ عَيْني ... يا أبا عثمان أوجعتَ قلبي ) قال فعجبنا من طبعه وأنه تحدث فكان حديثه شعراً موزوناً أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني سيبويه أبو محمد قال كان سعيد بن وهب الشاعر البصري مولى بني سامة قد تاب وتزهد وترك قول الشعر وكان له عشرة من البنين وعشر من البنات فكان إذا وجد شيئاً من شعره خرقه وأحرقه وكان امرأ صدق كثير الصلاة يزكي في كل سنة عن جميع ما عنده حتى إنه ليزكي عن فضة كانت على امرأته نماذج من شعره أخبرني عمي قال حدثني علي بن الحسين بن عبد الأعلى قال حدثني أبو عثمان الليثي قال كان سعيد بن وهب يتعشق غلاماً يتشطر يقال له سعيد فبلغه أنه توعده أن يجرحه فقال فيه ( مَن عذيري مِن سميَّي ... مَنْ عذيري من سعيد ) ( أنا باللحم أجاه ... ويجاني بالحديد ) حدثني حجظة قال حدثني ميمون بن هارون قال نظر سعيد بن وهب إلى قوم من كتاب السلطان في أحوال جميلة فأنشأ يقول ( مَن كانَ في الدنيا له شارةٌ ... فنحن مِن نظَّارَةِ الّدُنْيا ) ( نَرْمُقها من كَثَبٍ حَسْرةً ... كأنّنا لفظٌ بلا مَعْنى ) ( يَعْلُو بها الناسُ وأيامنُا ... تذهب الأرذَلِ والأَدْنى ) أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود قال حدثني عبد الله بن أبي العلاء المغني قال نظر إلي سعيد بن وهب وأنا على باب ميمون بن إسماعيل حين اخضر شاربي ومعه إسحاق بن إبراهيم الموصلي فسلمت على إسحاق فأقبل عليه سعيد وقال من هذا الغلام فتبسم وقال هذا ابن صديق لي فأقبل علي وقال ( لا تخرجَنَّ مع الغزيِّ لمغنم ... إنّ الغزيَّ يراك أفضلَ مغنمِ ) ( في مثل وجهك يستحلُّ ذَوو التقى ... والدين والعلماءُ كل محرمٌ ) ( ما أنت إلا غادةٌ ممكورة ... لولا شواربُك المُطِلّةُ بالفم ) أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني احمد بن أبي طاهر عن أبي دعامة قال مر سعيد بن وهب والكسائي فلقيا غلاماً جميل الوجه فاستحسنه الكسائي وأراد أن يستميله فأخذ يذاكره بالنحو ويتكلم به فلم يمل إليه وأخذ سعيد بن وهب في الشعر ينشده فمال إليه الغلام فبعث به إلى منزله وبعث معه بالكسائي وقال له حدثه وآنسه إلى أن أجيء وتشاغل بحاجة له فمضى به الكسائي فما زال يداريه حتى قضى حاجته وأربه ثم قال له انصرف وجاء سعيد فلم يره فقال ============================ ج39.. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ( أبُو حَسَنِ لا يَفِي ... فمَن ذا يَفي بَعدهُ ) ( أَثرْتُ لهُ شادِناً ... فصايَدهُ وحْده ) ( وأظهر لي غدْرَةً ... وأخلفني وعْدَهُ ) ( سأطلب ما ساءه ... كما ساءني جُهدَهُ ) أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان سعيد بن وهب لي صديقاً وكان له ابنٌ يكنى أبا الخطاب من أكيس الصبيان وأحسنهم وجهاً وأدباً فكان لا يكاد يفارقه في كل حال لشدة شغفه به ورقته عليه فمات وله عشر سنين فجزع عليه جزعاً شديداً وانقطع عن لذاته فدخلت إليه يوماً لأعاتبه على ذلك وأستعطفه فحين رأى ذلك في وجهي فاضت دموعه ثم انتحب حتى رحمته وأنشدني ( عَينُ جُودي علَى أبي الخَطّابِ ... إذ تَوَلَّى غَضبّاً بماءِ الشباب ) ( لم يُقارِفْ ذَنباً ولم يَبْلُغ الحنث ... مُرَجًّى مُطهَّرَ الثوابِ ) ( فَقَدتْه عَيْني إذا ما سعى أترابه ... مِنْ جماعة الأتراب ) ( إنْ غَدَا مُوحِشاً لِدارِي فقد أصبح ... أنْسَ الثَّرَى وزينَ التُّرابِ ) ( أحمدُ الله يا حَبِيبي فإني ... بِكَ راج منه عظيمَ الثوابِ ) ثم ناشدني ألا أذكره بشيء مما جئت إليه فقمت ولم أخاطبه بحرف وقد رأيت هذه الأبيات بعينها بخط إسحاق في بعض دفاتره يقول فيه أنشدني سعي بن وهب لنفسه يرثي ابناً له صغيراً وهي على ما ذكره جعفر بن قدامة عن حماد سواء أخبرني عيسى بن الحسين الوارق قال حدثني أبو هفان قال حدثني أبو دعامة قال كان سعيد بن وهب مألفة لكل غلام أمرد وفتى ظريف وقينة محسنة فحدثني رجل كان يعاشره قال دخل إليه يوماً وأنا عنده غلامان أمردان فقالا له قد تحاكمنا إليك أينا أجمل وجهاً وأحسن جسماً وجعلنا لك أجر حكمك أن تختار أينا حكمت له فتقضي حاجتك منه فحكم لأحدهما وقام فقضى حاجته واحتبسهما فشربا عنده نبيذاً ثم مال على الآخر أيضاً وقمت معه فداخلتهما حتى فعلت كفعله فقال لي سعيد هذا يوم الغارات في الحارات ثم قال ( رئمَانِ جاءا فحَكّماني ... لا حُكْمَ قاضٍ ولا أميرِ ) ( هذا كشمسِ الضحَى جمالاً ... وذَا كبَدْرِ الدّجى المُنِيرِ ) ( وفضْلُ هذا كذا علَى ذا ... فضلُ خمِيس على عَشير ) ( قالا أشِرْ بَينَنَا برأْيٍ ... ونجعلُ الفضل للمشير ) ( تباذلا ثم قمت حتى ... أخذْتُ فضلي من الكبير ) ( وكان عيباُ بأنْ أراني ... أَحْرمُ حَظَّي من الصغير ) ( فكان مِنِّي ومِنْ قرِيني ... إليهما وثْبَةُ المُغير ) ( فمَنْ رأى حاكماً كحُكْمي ... أعظمَ جوراً بلا نكير ) وقال وشاعت الأبيات حتى بلغت الرشيد فدعا به فاستننشده إياها فتلكأ فقال له أنشد ولا بأس عليك فأنشد فقال له ويلك اخترت الكبير سناً أو قدراً قال بل الكبير قدراً قال لو قلت غير هذا سقطت عندي واستخففت بك ووصله سعيد بن وهب والفضل بن يحيى أخبرني جعفر بن قدامة حدثني أبو العيناء قال دخل سعيد بن وهب على الفضل بن يحيى في يوم قد جلس فيه للشعراء فجعلوا ينشدونه ويأمر لهم بالجوائز حتى لم يبق منهم أحد فالتفت إلى سعيد بن وهب كالمستنطق فقال له أيها الوزير إني ما كنت استعددت لهذه الحال ولا تقدمت لها عندي مقدمة فأعرفها ولكن قد حضرني بيتان أرجو أن ينوبا عن قصيدة فقال هاتهما فرب قليل أبلغ من الكثير فقال سعيد ( مَدَح الفضلُ نفسَه بالفَعالِ ... فَعَلا عن مَدِيحنا بالمقالِ ) ( أمرُني بمدحِه قلتُ كلا ... كبُر الفضل عن مِديح الرجالِ ) قال فطرب الفضل وقال له أحسنت والله وأجدت ولئن قل القول ونزر لقد اتسع المعنى وكثر ثم أمر له بمثل ما أعطاه كل من أنشده مديحاً يومئذ وقال لا خير فيما يجيء بعد بيتيك وقام من المجلس وخرج الناس يومئذ بالبيتين لا يتناشدون سواهما حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثت عن الخريمي قال كان الفضل بن يحيى ينافس أخاه جعفراً وينافسه جعفر وكان أنس بن أبي شيخ خاصاً بجعفر ينادمه ويأنس به في خلواته وكان سعيد بن وهب بهذه المنزلة للفضل فدخلت يوماً إلى جعفر ودخل إليه سعيد بن وهب فحدثه وأنشده وتنادر له وحكى عن المتنادرين وأتى بكل ما يسر ويطرب ويضحك وجعفر ساكت ينظر إليه لا يزيد على ذلك فلما خرج سعيد من عنده تجاهلت عليه وقلت له من هذا الرجل الكثير الهذيان قال أو ما تعرفه قلت لا قال هذا سعيد بن وهب صديق أخي أبي العباس وخلصانه وعشيقه قلت وأي شيء رأى فيه قال لا شيء والله إلا القذر والبرد والغثاثة ثم دخلت بعد ذلك إلى الفضل ودخل أنس بن أبي شيخ فحدث وندر وحكى عن المضحكين وأتى بك طريفة فكانت قصة الفضل معه قصة جعفر مع سعيد فقلت له بعد أن خرج من حضرته من هذا المبرد قال أو لا تعرفه قلت لا قال هذا أنس بن أبي شيخ صديق أخي أبي الفضل وعشيقه وخاصته قلت وأي شيء أعجبه فيه قال لا أدري والله إلا القذر والبرد وسوء الإختيار قال وأنا والله أعرف بسعيد وأنس من الناس جميعاً ولكني تجاهلت عليهما و ساعدتهما على هواهما سعيد والفضل بن الربيع حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال قال إبراهيم بن العباس قال لي الفضل بن الربيع ذات يوم عرفتنا أيام النكبة من كنا نجهله من الناس وذلك أنا احتجنا إلى أن نودع أموالنا وكان أمرها كثيراً مفرطاً فكنا نلقيها على الناس إلقاء ونودعها الثقة وغير الثقة فكان ممن أودعته سعيد بن وهب وكان رجلاً صعلوكاً لا مال له إنما صحبنا على البطالة فظننت أن ما أودعته ذاهب ثم طلبته منه بعد حين فجاءني والله بخواتيمه وأودعت علي بن الهيثم كاتبنا جملة عظيمة وكان عندي أوثق من أودعته فلما أمنت طالبته بالوديعة فجحدنيها وبهتني وحلف على ذلك فصار سعيد عندي في السماء وبلغت به كل مبلغ وسقط علي بن الهيثم فما يصل إلي ولا يلقاني أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه حدثني عمرو بن بانة قال كان في جواري رجل من البرامكة وكانت له جارية شاعرة ظريفة يقال لها حسناء يدخل إليها الشعراء ويسألونها عن المعاني فتأتي بكل مستحسن من الجواب فدخل إليها سعيد بن وهب يوماً وجلس إليها فحادثها طويلاً ثم قال لها بعد ذلك ( حاجَيْتك يا حَسْناءُ ... في جِنْسٍ من الشِّعر ) ( وفيما طُولُه شِبرٌ ... وَقد يُوفي على الشِّبر ) ( له في رأسِه شَقٌ ... نَطُوفٌ بالنَّدَى يجري ) ( إذا ماجَفّ لم يَجْر ... لَدَى بَرٍّ ولا بَحْر ) ( وإنْ بُلَّ أتَى بالعجب ... العاجب والسِّحرِ ) ( أجيبي لم أُردْ فُحْشاً ... وربِّ الشفع والوتر ) ( ولكن صغْتُ أبياتاً ... لها حظ من الزجر ) قال فغضب مولاها وتغير لونه وقال أتفحش على جاريتي وتخاطبها بالخنا فقالت له خفض عليك فما ذهب إلى ظننت وإنما يعني القلم فسري عنه وضحك سعيد وقال هي أعلم منك بما سمعت صوت ( دايَنْتُ أرْوى والديون تقضى ... فمطَلت بعضاً وأدَّتْ بعضا ) ( يا ليتَ أرْوى إذ لَوتْكَ القَرْضا ... جادت بقرض فشكَرْتَ القَرضا ) الشعر لرؤبة بن العجاج والغناء لعمرو بن بانة رمل بالوسطى أخبار رؤبة ونسبه هو رؤبة بن العجاج واسم العجاج عبد الله بن رؤبة بن حنيفة وهو أبو جذيم بن مالك بن قدامة بن أسامة بن الحارث بن عوف بن مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم من رجاز الإسلام وفصحائهم والمذكورين المقدمين منهم بدوي نزل البصرة وهو من مخضرمي الدولتين مدح بني أمية وبني العباس ومات في أيام المنصور وقد أخذ عنه وجوه أهل اللغة وكانوا يقتدون به ويحتجون بشعره ويجعلونه إماماً ويكنى أبا الجحاف وأبا العجاج أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عمار واللفظ له قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد بن يزيد قال حدثني يونس بن حبيب قال كنت جالساً مع أبي عمرو بن العلاء إذ مر بنا شبيل بن عزرة الضبعي قا ل أبو يزيد وكان علامة فقال يا أبا عمرو أشعرت أني سألت رؤبة عن اسمه فلم يدر ما هو وما معناه قال يونس فقلت له والله لروبة أفصح من معد بن عدنان وأنا غلام رؤبة أفتعرف أنت روبة وروبة وروبة وروبة ورؤبة قال فضرب بغلته وذهب فما تكلم بشيء قال يونس فقال لي أبي عمرو ما يسرني أنك نقصتني منها قال ابن عمار في خبره والروبة اللبن الخاثر والروبة ماء الفحل والروبة الساعة تمضي من الليل والروبة الحاجة والرؤبة شعب القدح قال وأنشدني بعد ذلك ( فأما تميم تميمُ بن مرٍّ ... فألفاهم القومُ رَوْبَى نيامَا ) حدثني ابن عمار قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني يحيى بن محمد بن أعين المروزي قال حدثني أبو عبيدة قال شهدت شبيلاً الضبعي وأبا عمرو فذكر نحوه أخبرني أبو خليفة في كتابه إلي عن محمد بن سلام قال قلت ليونس هل رأيت عربياً قط أفصح من رؤبة قال لا ما كان معد بن عدنان أفصح منه قال يونس قال لي رؤبة حتى متى أزخرف لك كلام الشيطان أما ترى الشيب قد بلغ في لحيتك وقد روى رؤبة بن العجاج الحديث المسند عن رسول الله ورواه أبوه أيضاً أنشد ابا هريرة فشهد له بالإيمان أخبرني عبد الله بن أبي داود السجستاني قال حدثنا عبد الله بن محمد بن خلاد قال حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال حدثنا محمد بن إبراهيم عن يونس بن حبيب عن رؤبة بن العجاج عن أبيه قال أنشدت أبا هريرة ( الحمدُ للهِ الذي تَعَلَّت ... بأمره السماءُ واستقلّتِ ) ( بإذنه الأرضُ وما تغيّتِ ... أرسَى عليها بالجبال الثّبتِ ) ( الباعثِ الناسَ لِيوم المَوقْت ... ) قال أبو هريرة أشهد أنك تؤمن بيوم الحساب أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة عن أبي حرب البابي من آل الحجاج بن باب قال حدثنا يونس بن حبيب عن رؤبة بن العجاج عن أبي الشعثاء عن أبي هريرة قال كنا مع النبي سفر وحاد يحدو ( طافَ الخيالاَنِ فهاجَا سَقَما ... خيالُ لُبْنَى وخيالُ تَكتُما ) ( قامت تريك خشيةً أن تصرِمَا ... ساقاً بخَنَداةً وكعباُ أَدْرما ) والنبي يسمع ولا ينكر أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن عمرو عن محمد بن إسحاق السهمي عن أبي عبيدة الحداد قال حدثنا رؤبة بن العجاج عن أبه قال سمعت أبا عبيدة يقول السواك يذهب وضر الطعام أنشد أبا مسلم الخراساني فأجازه أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا أبو حاتم والأشنانداني أبو عثمان عن أبي عبيدة عن رؤبة بن العجاج قال بعث إلي أبو مسلم لما أفضت الخلافة إلى بني هاشم فلما دخلت عليه رأى مني جزعا فقال اسكن فلا بأس عليك ما هذا الجزع الذي ظهر منك قلت أخافك قال ولم قلت لأنه بلغني أنك تقتل الناس قال إنما أقتل من يقاتلني ويريد قتلي أفأنت منهم قلت لا قال فهل ترى بأساً قلت فأقبل على جلسائه ضاحكاً ثم قال أما ابن العجاج فقد رخّص لنا ثم قال أنشدني قولك ( وقائِمِ الأعماقِ خاوِي المخترَق ... ) فقلت أو أنشدك أصلحك الله أحسن منه قال هات فأنشدته ( قلتُ وقولي مستجدُّ حَوْكاً ... لبّيك إذ دعَوْتني لَبَيْكا ) ( أحمدُ ربّاً ساقني إليكا ... ) قال هات كلمتك الأولى قلت أو أنشدك أحسن منها قال هات فأنشدته ( ما زَال يَبْنِي خَنْدقاً ويهدمُه ... ويَستجيشُ عسكراً ويَهزمُهُ ) ( وَمغنماً يَجْمَعه ويقسمه ... مَرْوانُ لما أن تهاوتْ أنجُمهُ ) ( وخانه في حكمه مُنَجِّمهْ ... ) قال دع هذا وأنشدني وقاتم الأعماق قلت أو أحسن منه قال هات فأنشدته ( رفعتَ بيتاً وخفضتَ بَيْتَا ... وشِدْت رُكن الدين إذ بنيتا ) قال هات ما سألتك عنه فأنشدته ( في الأكرمين من قريش بيتاً ... ) ( ما زال يأتي الأمْر من أقطارِه ... على اليمين وعلى يسارِهِ ) ( مشمَّراً لا يُصطلَى بنارِه ... حتى أَقرّ الملكَ في قَرارِه ) ( وفَرّ مروانُ على حمارِه ... ) قال ويحك هات ما دعوتك له وامرتك بإنشاده ولا تنشد شيئاً غيره فأنشدته ( وقاتِم الأعماقِ خاوي المخترَق ... ) فلما صرت إلى قولي ( يَرْمِي الجلاميد بجُلْمُودٍ مِدَق ... ) قال قاتلك الله لشد ما ما استصلبت الحافر ثم قال حسبك أنا ذلك الجلمود المدقّ قال وجيء بمنديل فيه مال فوضع بين يدي فقال أبو مسلم يا رؤبة إنك أتيتنا والأموال مشفوهة وإن لك لعودةً إلينا وعلينا مُعوّلاً والدهر أطرقُ مُستتبٌّ فلا تجعل بجنبيك الأسدة قال رؤبة فأخذت المنديل منه وتالله ما رأيت أعجمياً أفصح منه وما ظننت أن أحداً يعرف هذا الكلام غيري وغير أبي قال الكراني قال أبو عثمان الأشنانداني خاصة يقال اشتقَّ ما في الإناء وشفهه إذا أتى عليه وأنشد ( وكادَ الماَلُ يَشفَهه عِيالي ... وما ذو عَيْلتي مَنْ لا أعولُ ) رؤبة آكل الفأر أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد وأخبرني إبراهيم بن أيوب قال حدثني ابن قتيبة قال كان رؤبة يأكل الفأر فقيل له في ذلك وعوتب فقال هو والله أنظف من دواجنكم ودجاجكم اللواتي يأكلن القذر وهل يأكل الفأر إلا نقي البر ولباب الطعام أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن رؤبة قال لما ولي الوليد بن عبد الملك الخلافة بعث بي الحجاج مع أبي لنلقاه فاستقبلنا الشمال حتى صرنا بباب الفراديس قال وكان خروجنا في عام مخصب وكنت أصلي الغداة وأجتني من الكمأة ما شئت ثم لا أجاوز إلا قليلً حتى أرى خيراً منها فأرمي بها وآخذ الآخر حتى نزلنا بعض المياه فأهدي لنا حمل مخرفج ووطب لبن غليظ وزبدة كأنها رأس نعجة حوشية فقطعنا الحمل آراباً وكررنا عليه اللبن والزبدة حتى إذا بلغ إناه انتشلنا اللحم بغير خبز ثم شربت من مرقه شربة لم تزل لها ذفرياي ترشحان حتى رجعنا إلى حجر فكان أول من لقينا من الشعراء جريراً فاستعهدنا ألا نعين عليه فكان أول من أذن له من الشعراء أبي ثم أنا فأقبل الوليد على جرير فقال له ويلك ألا تكون مثل هذين عقدا الشفاه عن أعراض الناس فقال إني أظلم فلا أصبر ثم لقينا بعد ذلك جرير فقال يا بني أم العجاج والله لئن وضعت كلكلي عليكما ما أغنت عنكما مقطعاتكما فقلنا لا والله ما بلغه عنا شيء ولكنه حسدنا لما أذن لنا قبله واستنشدنا قبله وقد أخبرني ببعض هذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال قال روح بن فلان الكلبي كنت عند عبد الملك بن بشر بن مروان فدخل جرير فلما رأى العجاج أقبل عليه ثم قال له والله لئن سهرت لك ليلة ليقلن عنك نفع مقطعاتك هذه فقال العجاج يا أبا حرزة والله ما فعلت ما بلغك وجعل يعتذر ويحلف ويخضع فلما خرج قال له رجل لشد ما اعتذرت إلى جرير قال والله لو علمت أنه لا ينفعني إلا السلاح لسلحت أخبرني أحمد بن العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة عن أحمد بن معاوية عن الأصمعي عن سليمان بن أخضر عن ابن عون قال ما شبهت لهجة الحسن البصري إلا بلهجة رؤبة ولم يوجد له ولا لأبيه في شعرهما حرف مدغم قط أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال قيل ليونس من أشعر الناس قال العجاج ورؤبة فقيل له ولم نعنِ الرّجاز فقال هما أشعر من أهل القصيد إنما الشعر كلام فأجود أشعره قد قال العجاج ( قد جَبرَ الدّينَ الإلهُ فجبر ... ) وهي نحو من مائتي بيت موقوفة القوافي ولو أطلقت قوافيها كانت كلها منصوبة وكذلك عامة أراجيزهما يقعد اللغويين إليه يوم الجمعة أخبرني أبو خليفة في كتابه إلي عن محمد بن سلام عن أبي زيد الأنصاري والحكم بن قنبر قالا كنا نقعد إلى رؤبة يوم الجمعة في رحبة بني تميم فاجتمعنا يوماً فقطعنا الطريق ومرت بنا عجوز فلم تقدر على أن تجوز في طريقها فقال رؤبة بن العجاج ( تَنَحَّ للعجوزِ عن طَرِيقها ... إذ أقبلَت رائحةً من سُوقها ) ( دَعْها فما النحويُّ من صديقها ... ) أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو زيد سعيد بن أوس الأنصاري النحوي قال دخل رؤبة بن العجاج السوق وعليه برنكان أخضر فجعل الصبيان يعبثون به ويغرزون شوك النخل في برنكانه ويصيحون به يا مرذوم يا مرذوم فجاء إلى الوالي فقال أرسل معي الوزعة فإن الصبيان قد حالوا بيني وبين دخول السوق فأرسل معه أعواناً فشد على الصبيان وهو يقول ( أَنْحىَ على أمّك بالمرذُومْ ... أعورُ جَعْدٌ مِنْ بَني تميمْ ) ( شَرّابُ ألبانِ خلايا الكُوم ... ) ففروا من بين يديه فدخلوا داراً في الصيارفة فقال له الشرط أين هم قال دخلوا دار الظالمين فسميت دار الظالمين إلى الآن لقول رؤبة وهي في صيارفة سوق البصرة وذكر أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال قدم البصرة راجز من أهل المدينة فجلس إلى حلقةٍ فيها الشعراء فقال أنا أرجز العرب أنا الذي أقول ( مَرْوانُ يُعْطِي وسعيدٌ يمنعُ ... مروانُ نَبْعٌ وسعيدٌ خِرْوعُ ) وددت أني راميت من أحب في الرجز يداً بيد والله لأنا أرجز من العجاج فليت البصرة جمعت بيني وبينه قال والعجاج حاضر وابنه رؤبة معه فأقبل رؤبة على أبيه فقال قد أنصفك الرجل فأقبل عليه العجاج وقال هأنذا العجاج فهلم وزحف إليه فقال وأيُّ العجاجين أنت قال ما خلتك تعني غيري أنا عبد الله الطويل وكان يكنى بذلك فقال له المدني ما عنيتك ولا أردتك فقال وكيف وقد هتفت بي قال وما في الدنيا عجاج سواك قال علمت قال لكني أعلم وإياه عنيت قال فهذا ابني رؤبة فقال اللهم غفراً ما بيني وبينكما عمل وإنما مرادي غيركما فضحك أهل الحلقة منه وكفا عنه أخبرني أبو خليفة في كتابه عن محمد بن سلام عن يونس قال غدوت يوما أنا وإبراهيم بن محمد العطاردي على رؤبة فخرج إلينا كأنه نسر فقال له ابن نوح أصبحت والله كقولك ( كالْكرَّزِ المشدودِ بين الأوتادْ ... ساقَطَ عنه الريشَ كَرُّ الإبراد ) ( فقال له رؤبة والله يا بن نوح ما زلت لك ماقتاً فقلت بل أصبحت يا أبا الجحاف كما قال الآخر ( فأبقينَ منهُ وأبْقَى الطرادُ ... بَطْناً خميصاً وصُلْباً سمينا ) فضحك وقال هات حاجتك قال ابن سلام ووقف رؤبة على باب سليمان بن علي يستأذن فقيل له قد أخذ الإذريطوس فقال رؤبة ( يا مُنْزل الوحي على إدريس ... ومُنزل اللعنِ على إبليسِ ) ( وخالقَ الإثنين والخميس ... بارِكْ له في شُرِب إذْرِيطُوس ) أخبرني الحسن بن يحيى قال حماد أخبرني أبي عن الأصمعي قال أنشد رؤبة سلم بن قتيبة في صفة خيل ( يَهْوِينَ شتَّى ويقعْنَ وُقْفاً ... ) فقال له أخطأت يا أبا الجحاف جعلته مقيداً فقال أدنني أيها الأمير ذنب البعير أصفه لك كما يجب أخبرني أبو خليفة في كتابه إلي عن محمد بن سلام عن عبد الرحمن بن محمد عن علقمة الضبي قال خرج شاهين بن عبد الله الثقفي برؤبة إلى أرضه فقعدوا يلعبون بالنرد فلما أتوا بالخوان قال رؤبة ( يا إخوتي جاء الخِوانُ فارفعوا ... حنّانةً كِعابُها تُقَعْقِع ) ( لم أدْرِ ما ثَلاثُها والأربَع ... ) قال فضحكنا ورفعناها وقدم الطعام أخبرني الحسن بن علي حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن عبد الله بن مالك عن أبيه عن يعقوب بن داود قال لقيت الخليل بن أحمد يوماً بالبصرة فقال لي يا أبا عبد الله دفنا الشعر واللغة والفصاحة اليوم فقلت وكيف ذاك قال هذا حين انصرفت من جنازة رؤبة صوت ( لَعمري لقد صاح الغراب بينهم ... فأوجعَ قلبي بالحديث الذي يُبدي ) ( فقلت له أفصحتَ لا طِرت بعدها ... برِيش فهل للبين ويحك من ردّ ) الشعر لقيس بن ذريح وقد تقدمت أخباره والغناء لعمرو بن أبي الكنّات ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى أخبار عمرو بن أبي الكنات هو عمرو بن عثمان بن أبي الكنات مولى بني جمح مكي مغن محسن موصوف بطيب الصوت من طبقة ابن جامع وأصحابه وفيه يقول الشاعر ( أحسنُ فاعلموه غِناء ... رجُل من بني أبي الكَنّات ) وله في هذا الشعر غناء مع أبيات قبله لحن ابتداؤه صوت ( عفَتِ الدار بالهِضاب اللواتي ... بِسَوارٍ فملتقى عرفاتِ ) ( فالحريّان أوحشا بعد أنس ... فدِيارٌ بالرّبع ذي السّلمِات ) ( إنّ بالبِين مربعاً من سليمى ... فإلى محضرين فالنخلات ) وبعده البيت الأول المذكور الغناء في هذا الشعر لعمرو بن أبي الكنات وطريقته من الرمل بالوسطى وقيل إنه لابن سريج وقيل بل لحن ابن سريج غير هذا اللحن وليس فيه البيت الرابع الذي فيه ابن أبي الكنات ويكنى عمرو بن أبي الكنات أبا عثمان وذكر ابن خرداذبه أنه كان يكنى أبا معاذوكان له ابن يغني أيضاً يقال له دراج ليس بمشهور ولا كثير الغناء الرشيد يؤثره على جمع من المغنين فذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات في الخبر الذي حكاه عنه من أخباره أن محمداً بن عبد الله المخزومي حدثه قال حدثني محمد بن عبد الله بن فزوة قال قلت لابن جامع يوماً هل غلبك أحد من المغنين قط قال نعم كنت ليلة ببغداد إذ جاءني رسول الرشيد يأمرني بالركوب فركبت حتى إذا صرت إلى الدار فإذا أنا بفضل بن الربيع معه زلزل العواد وبرصوماً فسلمت وجلست قليلا ثم طلع خادم فقال للفضل هل جاء فقال لا قال فابعث إليه ولم يزل المغنون يدخلون واحداً بعد واحد حتى كنا ستة أو سبعة ثم طلع الخادم فقال هل جاء فقال لا قال قم فابعث في طلبه فقام فغاب غير طويل فإذا هو قد جاء بعمرو بن أبي الكنات فسلم وجلس إلى جنبي فقال لي من هؤلاء قلت مغنون وهذا زلزل وهذا برصوما فقال والله لأغنيك غناء يخرق هذا السقف وتجيبه الحيطان ولا يفهمون منه شيئاً قال ثم طلع الخصي فدعا بكراسي وخرجت الجواري فلما جلسن قال الخادم للمغنين شدوا فشدوا عيدانهم ثم قال نعم يا بن جامع فغنيت سبعة أو ثمانية أصوات ثم قال اسكت وليغنّ إبراهيم الموصلي فغنى مثل ذلك أو دونه ثم سكت فلم يزل يمرّ القوم واحداً واحداً حتى فرغوا ثم قال لابن أبي الكنات غنّ فقال لزلزل شد طبقتك فشد ثم أخذ العود من يده فجسه حتى وقف على الموضع الذي يريده ثم قال على هذا وابتدأ بصوت أوله ألالا فو الله لقد خيل لي أن الحيطان تجاوبه ثم رجع النغم فيه فطلع الخصي فقال له اسكت لا تتم الصوت فسكت ثم قال يحبس عمرو بن أبي الكنات وينصرف باقي المغنين فقمنا بأكسف حال وأسوإبال لا والله ما زال كل واحد منا يسأل صاحبه عن كل شعر يرويه من الغناء الذي أوله ألالا طمعاً في أن يعرفه أو يوافق غناءه فما عرفه منا أحد وبات عمرو ليلته عند الرشيد وانصرف من عنده بجوائز وصلات وطرف سنية قال هارون وأخبرني محمد بن عبد الله عن موسى بن أبي المهاجر قال خرج ابن جامع وابن أبي الكنات حين دفعا من عرفة حتى إذا كانا بين المأزمين جلس عمرو على طرف الجبل ثم اندفع يغني فوقف القطارات وركب الناس بعضهم بعضاً حتى صاحوا واستغاثوا يا هذا الله الله اسكت عنا يجز الناس فضبط إسماعيل بن جامع بيده على فيه حتى مضى الناس إلى مزدلفة قال هارون وحدثني عبد الرحمن بن سليمان عن علي بن أبي الجهم قال حدثني من أثق به قال واقفت ابن أبي الكنات المديني على جسر بغداد أيام الرشيد فحدثته بحديث اتصل بي عن ابن عائشة أنه فعله أيام هشام وهو أن بعض أصحابنا حدثني قال وقف ابن عائشة في الموسم فمر به بعض أصحابه فقال له ما تعمل فقال إني لأعرف رجلاً لو تكلم لحبس الناس فلم يذهب أحد ولم يجيء فقلت له ومن هذا الرجل قال أنا ثم اندفع يغني صوت ( جُرتْ سُنُحاً فقلت لها أجيزي ... نوى مشمولة فمتى اللقاء ) ( بنفسي مَن تذكُّره سَقام ... أعالجه ومطلبه عَناءُ ) قال فحبس الناس واضطربت المحامل ومدت الإبل أعناقها وكادت الفتنة تقع فأتي به هشام فقال يا عدو الله أردت أن تفتن الناس فأمسك عنه وكان تياهاً فقال له هشام أرفق بتيهك فقال ابن عائشة حق لمن كانت هذه قدرته على القلوب أن يكون تياهاً فضحك وأطلقه قال فبرق ابن أبي الكنات وكان معجباً بنفسه وقال أنا أفعل كما فعل وقدرتي على القلوب أكثر من قدرته كانت ثم اندفع فغنى في هذا الصوت ونحن على جسر بغداد وكان إذ ذاك على دجلة ثلاثة جسور معقودة فانقطعت الطرق وامتلأت الجسور بالناس وازدحموا عليها واضطربت حتى خيف عليها أن تنقطع لثقل من عليها من الناس فأخذ فأتي به الرشيد فقال يا عدو الله أردت أن تفتن الناس فقال لا والله يا أمير المؤمنين ولكنه بلغني أن ابن عائشة فعل مثل هذا في أيام هشام فأحببت أن يكون في أيامك مثله فأعجب من قوله ذلك وأمر له بمال وأمره أن يغني فسمع شيئاً لم يسمع مثله فاحتسبه عنده شهراً يستزيده في كل يوم استأذنه فيه في الإنصراف يوماً آخر حتى تم له شهر فقال هذا المخبر عنه وكان ابن أبي الكنات كثير الغشيان لي فلما أبطأ توهمته قد قتل فصار إلي بعد شهر بأموال جسيمة وحدثني بما جرى بينه وبين الرشيد غناؤه يسمع على ثلاثة أميال قال هارون وأخبرني محمد بن عبد الله المخزومي عن عثمان بن موسى مولانا قال كنا يوماً باللاحجة ومعنا عمرو بن أبي الكنات ونحن على شرابنا إذ قال لنا قبل طلوع الشمس من تحبون أن يجيئكم قلنا منصور الحجبي فقال أمهلوا حتى يكون الوقت الذي ينحدر فيه إلى سوق البقر فمكثنا ساعة ثم اندفع يغني ( أحسنُ الناس فاعلموه غناءً ... رجل من بني أبي الكَنّات ) ( عفت الدار بالهضاب اللواتي ... بسَوار فملتقى عرفات ) فلم نلبث أن رأينا منصوراً من بعد قد أقبل يركض دابته نحونا فلما جلس إلينا قلنا له من أين علمت بنا قال سمعت صوت عمرو يغني كذا وكذا وأنا في سوق البقر فخرجت أركض دابتي حتى صرت إليكم قال وبيننا وبين ذلك الموضع ثلاثة أميال قال هارون وأخبرني محمد بن عبد الله قال أخبرني يحيى بن يعلى بن سعيد قال بينا أنا ليلة في منزلي في الرمضة أسفل مكة إذ سمعت صوت عمرو بن أبي الكنات كأنه معي فأمرت الغلام فأسرج لي دابتي وخرجت أريده فلم أزل أتبع الصوت حتى وجدته جالساً على الكثيب العارض ببطن عرنة يغني صوت ( خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب ) ( ولا تنقريني نَقَرة الدُّف مرة ... فإنك لا تدرين كيف المغَّيب ) ( فإني وجدتُ الحب في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهب ) عروضه من الطويل ولحنه من الثقيل الثاني بالوسطى من رواية إسحاق والشعر لأسماء بن خارجة الفزاري وقد قيل إنه لأبي الأسود الدؤلي وليس ذلك بصحيح والغناء لإبراهيم الموصلي وفيه لحن قديم للغريض من رواية حماد عن أبيه أسماء بن خارجة وابنته هند أخبرني اليزيدي عن أحمد بن زهير عن الزبير بن بكار قال زوج أسماء بن خارجة الفزاري بنته هنداً من الحجاج بن يوسف فلما كانت ليلة أراد البناء بها قال لها أسماء بن خارجة يا بنية إن الأمهات يؤدبن البنات وإن أمك هلكت وأنت صغيرة فعليك بأطيب الطيب الماء وأحسن الحسن الكحل وإياك وكثرة المعاتبة فإنها قطيعة للود وإياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق وكوني لزوجك أمة يكن لك عبداً واعلمي أني القائل لأمك ( خذي العفو مني تستديمي مودّتي ... ) وذكر الأبيات قال وكانت هند امرأة مجرّبة قد تزوجها جماعة من أمراء العراق فقبلت من أبيها وصيته وكان الحجاج يصفها في مجلسه بكل خير وفيها يقول بعض الشعراء يخاطب أباها ( جزاكَ الله يا أسماء خيراً ... كما أرضيت فَيْشلة الأمير ) ( بصدغ قد يفوح المسك منه ... عليه مثل كِركرة البعير ) ( إذا أخذ الأمير بمَشعبيها ... سمعتَ لها أزيزاً كالصرير ) ( إذا لقحت بأرواح تراها ... تجيد الرَّهز من فوق السرير ) قال مؤلف هذا الكتاب الشعر لعقيبة الأسدي أخبرني الجوهري وحبيب المهلبي عن ابن شبة قال لما قدم الحجاج الكوفة أشار عليه محمد بن عمير بن عطارد أن يخطب إلى أسماء ابنته هند فخطبها فزوجه أسماء ابنته فأقبل عليه محمد متمثلاً يقول ( أمِنْ حَذر الهُزال نكحتَ عبداً ... فصهر العبد أدنى للهزال ) فاحتملها عليه أسماء وسكت عن جوابه ثم أقبل على الحجاج يوماً وهند جالسة فقال ما يمنعك من الخطبة إلى محمد بن عمير ابنته فإن من شأنها كيت وكيت فقال أتقول هذا وهند تسمع فقال موافقتك أحبّ إليّ من رضا هند فخطبها إلى محمد بن عمير فزوجه إياها فقال أسماء لمحمد بن عمير وضرب بيده على منكبه ( دونك ما أسديته يا بن حاجب ... سواء كعَين الديك أوقُذّة النسرِ ) ( بقولك للحجاج إن كنت ناكحاً ... فلا تعدُ هنداً من نساء بني بدر ) ( فإن أباها لا يرى أنّ خاطباً ... كفاءٌ له إلا المتوجَ من فِهر ) ( فزوجتُها الحجاج لا متكارهاً ... ولا راغباً عنه ونعم أخو الصهر ) ( أردتَ ضِراري فاعتمدتَ مسرتي ... وقد يُحسن الإنسان من حيث لا يدري ) ( فإن ترها عاراً فقد جئتَ مثلها ... وإن ترها فخراً فهل لك من شكر ) هند أحبّت عبيد الله بن زياد وكان أبا عذرها قال المدائني حدثني الحرمازي عن الوليد بن هشام القحذميّ وكان كاتب خالداً القسري ويوسف بن عمر أن هنداً بنت أسماء كانت تحت عبيد الله بن زياد وكان أبا عذرها فلما قتل وكانت معه لبست قباء وتقلدت سيفاً وركبت فرساً لعبيد الله كان يقال لها الكامل وخرجت حتى دخلت الكوفة ليس معها دليل ثم كانت بعد ذلك أشد خلق الله جزعاً عليه ولقد قالت يوماً إني لأشتاق إلى القيامة لأرى وجه عبيد الله بن زياد فلما قدم بشر بن مروان الكوفة دل عليها فخطبها فزوجها فولدت له عبد الملك بن بشر وكان ينال من الشراب ويكتم ذلك وكان إذا صلى العصر خلا من ناحية من داره ليس معه إلا أعين مولاه صاحب حمام أعين بالكوفة وأخذ في شأنه فلم تزل هند تتجسس خبره حتى عرفته فبعثت مولى لها فأحضرها أطيب شراب وأحده وأشده وأرقه وأصفاه وأحضرت له طعاماً علمت أنه يشتهيه وأرسلت إلى أخويها مالك وعيينة فأتياها وبعثت إلى بشر وأعتلت عليه بعلة فجاءها فوضعت بين يديه ما أعدته فأكل وشرب وجعل مالك يسقيه وعيينة يحدثه وهند تريه وجهها فلم يزل في ذلك حتى أمسى فقال هل عندكم من هذا شيء نعود عليه غداً فقالت هذا دائم لك ما أردته فلزمها وبقي أعين يتبع الديار بوجهه ولا يرى بشراً إلا أن يبحث عن أمره فعرفه وعلم أنه ليس فيه حظ بعدها قال ومات عنها بشر فلم تجزع عليه فقال الفرزدق في ذلك ( فان تك لا هند بكته فقد بكت ... عليه الثريا في كواكبها الزُّهر ) الحجاج يخلف بشراً في تزوجها ثم خلف عليها الحجاج وكان السبب في ذلك فيما ذكره المدائني عن الحرمازي عن القحذمي وأخبرني به من ها هنا أحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة عن عثمان بن عبد الوهاب عن عبد الحميد الثقفي قالا كان السبب في ذلك أنه بعث أبا بردة بن أبي موسى الأشعري وهو قاضيه إلى أسماء يقول له إن قبيحاً بي مع بلاء أمير المؤمنين عندي أن أقيم بموضع فيه ابنا أخيه بشر لا أضمهما إلي وأتولى منهما مثل ما أتولى من ولدي فاسأل هنداً أن تطيب عنهما وقال عمر بن شبة في خبره وأعلمها أنه لابد من التفرقة بينها وبينهما حتى أؤدبهما قال أبو بردة فاستأذنت فأذن لي وهو يأكل وهند معه فما رأيت وجهاً ولا كفاً ولا ذراعاً أحسن من وجهها وكفها وذراعها وجعلت تتحفني وتضع بين يدي قال أبو زيد في خبره فدعاني إلى الطعام فلم أفعل وجعلت تعبث بي وتضحك فقلت أما والله لو علمت ما جئت له لبكيت فأمسك يدها عن الطعام فقال أسماء قد منعتها الأكل فقل ما جئت له فلما بلغت أسماء ما أرسلت به بكت فلم أر والله دموعاً قط سائلة من محاجر أحسن من دموعها على محاجرها ثم قالت نعم أرسل بهما إليه فلا أحد أحق بتأديبهما منه وقال أسماء إنما عبد الملك ثمرة قلوبنا يعني عبد الملك بن بشر وقد أنسنا به ولكن أمر الأمير طاعة فأتيت الحجاج فأعلمته جوابها وهيئتها فقال ارجع فاخطبها علي فرجعت وهما على حالهما فلما دخلت قلت إني جئتك بغير الرسالة الأولى قال اذكر ما أحببت قلت قد جئت خاطباً قال أعلى نفسك فما بنا عنك رغبة قلت لا على من هو خير لها مني وأعلمته ما أمرني به الحجاج فقال ها هي تسمع ما أدّيت فسكتت فقال أسماء قد رضيت وقد زوجتها إياه فقال أبو زيد في حديثه فلما زوجها أبوها قامت مبادرة وعليها مطرف ولم تستقل قائمة من ثقل عجيزتها حتى انثنت ومالت لأحد شقيها من شحمها فانصرفت بذلك إلى الحجاج فبعث إليها بمائة ألف درهم وعشرين تختاً من ثياب وقال يا أبا بردة إني أحب أن تسلمها إليها ففعلت ذلك وأرسلت إلي من المال بعشرين ألفاً ومن الثياب تختين فقلت ما أقبل شيئاً حتى أستطلع رأي الأمير ثم انصرفت إليه فأعلمته فأمرني بقيضة ووصلني بمثله وقال أبو زيد في حديثه فأرسل إليها بثلاثين غلاماً مع كل غلام عشرة آلاف درهم وثلاثين جارية مع كل جارية تخت من ثياب وأمر لي بثلاثين ألفاً وثياباً لم يذكر عددها فلما وصل ذلك إلى هند أمرت بمثل ما أمر لي به الحجاج فأبيت قبوله وقلت ليس الحجاج ممن يتعرض له بمثل هذا وأتيت الحجاج فأخبرته فقال قد أحسنت وأضعف الله لك ذلك وأمر له بستين ألفاً وبضعف تلك الثياب وكان أول ما أصبته مع الحجاج وأرسل إليها إني أكره أن أبيت خلواً ولي زوجة فقالت وما احتباس امرأة عن زوجها وقد ملكها وآتاها كرامته وصداقها فأصلحت من شأنها وأتته ليلاً قال المدائني فسمعت أن ابن كناسة ذكر أن رجلاً من أهل العلم حدثه عن امرأة من أهله قالت كنت فيمن زفها فدخلنا عليه وهو في بيت عظيم في أقصاه ستارة وهو دون الستارة على فرشه فلما أن دخلت سلمت فأومأ إليها بقضيب كان في يده فجلست عند رجليه ومكثت ساعة وهو لا يتكلم ونحن وقوف فضربت بيدها على فخذه ثم قالت ألم تبعد من سوء الخلق قال فتبسم وأقبل عليها واستوى جالساً فدعونا له وخرجنا وأرخيت الستور سبب تطليق الحجاج لها قال ثم قدم الحجاج البصرة فحملها معه فلما بنى قصره الذي دون المحدثة الذي يقول له قصر الحجاج اليوم قال لها هل رأيت قط أحسن من هذا القصر قالت ما أحسنه قال اصدقيني قالت أما إذ أبيت فوالله ما رأيت أحسن من القصر الأحمر وكان فيه عبيد الله بن زياد وكان دار الإمارة بالبصرة وكان ابن زياد بناه بطين أحمر فطلق هنداً غضباً بما قالته وبعث إلى القصر فهدمه وبناه بلبن ثم تعهده صالح بن عبد الرحمن في خلافة سليمان بن عبد الملك فبناه بالآجر ثم هدم بعد ذلك فأدخل في المسجد الجامع قال القحذمي عن محمد بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي فخرجنا يوماً نعود عبد الملك بن بشر فسلمنا عليه وعدناه معه ثم خرجنا وتخلف الحجاج فوقفنا ننتظره فلما خرج التفت فرآني فقال يا محمد ويحك رأيت هنداً الساعة فما رأيتها قط أجمل ولا أشب منها حين رأيتها وما أنا بممسٍ حتى أراجعها فقلت أصلح الله الأمير امرأة طلقتها على عتب يرى الناس أن نفسك تتبعها وتكون لها الحجة عليك قال صدقت الصبر أحجى قال محمد والله ما كان مني نظراً ولا نصيحة ولكني أنفت لرجل من قريش أن تداس أمه في كل وقت أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائني عن جويرية بن أسماء عن عمه قال حججت فإني لفي رفقة من قومي إذ نزلنا منزلاً ومعنا امرأة فنامت وانتبهت وحية مطوية عليها قد جمعت رأسها وذنبها بين ثدييها فهالنا ذلك وارتحلنا فلم تزل منطوية عليها لا تضيرها حتى دخلنا الحرم فانسابت فدخلنا مكة وقضينا نسكنا فرآها الغريض فقال أي شقية ما فعلت حيتك فقالت في النار قال ستعلمين من أهل النار ولم أفهم ما أراد وظننت أنه مازحها واشتقت إلى غنائه ولم يكن بيني وبينه ما يوجب ذلك فأتيت بعض أهله فسألته ذلك فقال نعم فوجه إليه أن اخرج بنا إلى موضع كذا وقال لي اركب بنا فركبنا حتى سرنا قدر ميل فإذا الغريض هناك فنزلنا فإذا طعام معد وموضع حسن فأكلنا وشربنا ثم قال يا أبا يزيد هات بعض طرائفك فاندفع يغني ويوقع بقضيب ( مرضتُ فلم تحفل عليّ جنوب ... وأُدنفتُ والمَمشى إليّ قريب ) ( فلا يُبعد الله الشباب وقولَنا ... إذا ما صبونا صبوة سنتوب ) فلقد سمعنا شيئاً ظننت أن الجبال التي حولي تنطق معه شجا صوت وحسن غناء وقال لي أتحب أن يزيدك فقلت إي والله فقال هذا ضيفك وضيفنا وقد رغب إليك وإلينا فأسعفه بما يريد فاندفع يغني بشعر مجنون بني عامر إنه لمجنون بني عامر ويقال إنه لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى وفي الثاني والأول خفيف ثقيل أول بالبنصر مجهول أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن الضحاك عن أبيه قال قال أبو دهبل ( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبورُ ) ( هبوني امرأ منكم أضلَّ بعيرَه ... له ذمة إن الذمام كبير ) ( ولَلصاحب المتروك أعظم حرمة ... على صاحب من أن يَضلّ بعير ) قال الزبير وقال عمي هذه الأبيات لمجنون بني عامر قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي محمد الشيباني قال قال عبد الملك بن مروان لعمر بن أبي ربيعة أنت القائل ( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبور ) قال نعم قال فبئس المحبّ أنت تركتها وبينها وبينك غدوة قال يا أمير المؤمنين إنها من غدوات سليمان غدوها شهر ورواحها شهر أخبرني اليزيدي عن أحمد بن يحيى وابن زهير قال حدثني عمر بن القاسم بن المعتمر الزهري قال قلت لأبي السائب المخزومي أما أحسن الذي يقول ( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبور ) ( هبوني امرأ منكم أضل بعيرَه ... له ذمة إن الذمام كبير ) ( ولَلصاحب المتروك أعظم حُرمة ... على صاحب من أن يضلّ بعير ) منطوية عليها فلم ألبث أن صغَرت الحية فإذا الوادي يسيل علينا حيات فنهشنها حتى بقيت عظاماً فطال تعجبنا من ذلك وأرينا ما لم نر مثله قط فقلت لجارية كانت معها ويحك أخبرينا عن هذه المرأة قالت نعم أثكلت ثلاث مرات كل مرة تلد ولداً فإذا وضعته سجرت التنور ثم ألقته فذكرت قول الغريض حين سألها عن الحية فقالت في النار فقال ستعلمين من في النار نسبة ما في هذه الأصوات من الغناء فمنها صوت ( مرِضتُ فلم تحفل عليّ جنَوبُ ... وأُدنفتُ والمَمشَى إليّ قريبُ ) ( فلا يُبعد الله الشباب وقولَنا ... إذا ما صبونا صبوة سنتوب ) عروضه من الطويل الشعر لحميد بن ثور الهلالي والغناء للغريض من رواية حماد عن أبيه وفيه لعلويه ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة ومنها صوت ( عفا الله عن ليلى الغداة فإنها ... إذا وليت حكماً عليّ تجور ) ( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبور ) عروضه من الطويل والشعر يقال لأبي دهبل الجمحي ويقال إنه لمجنون بني عامر ويقال إنه لعمر بن أبي ربيعة والغناء لابن سريج خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى وفي الثاني والأول خفيف ثقيل أول بالبنصر مجهول أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن الضحاك عن أبيه قال قال أبو دهبل ( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبورُ ) ( هبوني امرأ منكم أضلَّ بعيرَه ... له ذمة إن الذمام كبير ) ( ولَلصاحب المتروك أعظم حرمة ... على صاحب من أن يَضلّ بعير ) قال الزبير وقال عمي هذه الأبيات لمجنون بني عامر قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي محمد الشيباني قال قال عبد الملك بن مروان لعمر بن أبي ربيعة أنت القائل ( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبور ) قال نعم قال فبئس المحبّ أنت تركتها وبينها وبينك غدوة قال يا أمير المؤمنين إنها من غدوات سليمان غدوها شهر ورواحها شهر أخبرني اليزيدي عن أحمد بن يحيى وابن زهير قال حدثني عمر بن القاسم بن المعتمر الزهري قال قلت لأبي السائب المخزومي أما أحسن الذي يقول ( أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة إني إذاً لصبور ) ( هبوني امرأ منكم أضل بعيرَه ... له ذمة إن الذمام كبير ) ( ولَلصاحب المتروك أعظم حُرمة ... على صاحب من أن يضلّ بعير ) فقال بأبي أنت كنت والله أجنبك وتثقل علي فأنا الآن أحبك وتخف علي حيث تعرف هذا صوت ( مِن الخفِرات لم تفضح أخاها ... ولم تَرفع لوالدها شَنارا ) ( كأنّ مَجامع الأرداف منها ... نقاً دَرجتْ عليه الريح هارا ) ( يعاف وصال ذات البَذل قلبي ... ويتَّبع الممنَّعة النَّوارا ) الخفرة الحيية والخفر الحياء والشّنار العار والنقا الكثيب من الرمل درجت عليه الريح مرت هار تهافت وتداعى قال الله تبارك وتعالى ( على شفَا جُرُف هارٍ ) ويعاف يكره والنوار الصعبة الممتنعة الشديدة الإباء عروضه من الوافر الشعر للسليك بن السّلكة والغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن الهربذ لحن من رواية بذل ولم يذكر طريقته وفيه لابن طنبورة لحن ذكره إبراهيم في كتابه ولم يجنسه أخبار السليك بن السلكة ونسبه هو السليك بن عمرو وقيل ابن عمير بن يثربي أحد بني مقاعس وهو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم والسلكة أمه وهي أمة سوداء وهو أحد صعاليك العرب العدائين الذين كانوا لا يلحقون ولا تعلق بهم الخيل إذا عدوا وهم السليك بن السلكة و الشنفري وتأبط شراً وعمرو بن براق ونفيل بن براقة وأخبارهم تذكر على تواليها ها هنا إن شاء الله تعالى في أشعار لهم يغنى فيها لتتصل أحاديثهم فأما السليك فأخبرني بخبره الأخفش عن السكري عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال وقرىء لي خبره وشعره على محمد بن الحسن الأحول عن الأثرم عن أبي عبيدة أخبرني ببعضه اليزيدي عن عمه عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل وقد جمعت رواياتهم فإذا اختلفت نسبت كل مروي إلى راويه قال أبو عبيدة حدثني المنتجع بن نبهان قال كان السليك بن عمير السعدي إذا كان الشتاء استودع ببيض النعام ماء السماء ثم دفنه فإذا كان الصيف وانقطعت إغارة الخيل أغار وكان أدل من قطاة يجيء حتى يقف على البيضة وكان لا يغير على مضر وإنما يغير على اليمن فإذا لم يمكنه ذلك أغار على ربيعة وقال المفضل في روايته وكان السليك من أشد رجال العرب وأنكرهم وأشعرهم وكانت العرب تدعوه سليك المقانب وكان أدل الناس بالأرض وأعلمهم بمسالكها وأشدهم عدوا على رجليه لا تعلق به الخيل وكان يقول اللهم إنك تهيىء ما شئت لما شئت إذا شئت اللهم إني لو كنت ضعيفاً كنت عبداً ولو كنت امرأة كنت أمة اللهم إني أعوذ بك من الخيبة فأما الهيبة فلا هيبة من أنباء غارات السليك الصعلوك فذكروا أنه أ ملق حتى لم يبق له شيء فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به فيذهب بإبله حتى أمسى في ليلة من ليالي الشتاء باردة مقمرة فاشتمل الصماء ثم نام واشتمال الصماء أن يرد فضلة ثوبه على عضده اليمنى ثم ينام عليها فبينا هو نائم إذ جثم رجل فقعد على جنبه فقال استأسر فرفع السليك إليه رأسه وقال الليل طويل وأنت مقمر فأرسلها مثلاً فجعل الرجل يلهزه ويقول يا خبيث استأسر فلما آذاه بذلك أخرج السليك يده فضم الرجل إليه ضمة ضرط منها وهو فوقه فقال السليك أضرطا وأنت الأعلى فأرسلها مثلاً ثم قال من أنت فقال أنا رجل افتقرت فقلت لأخرجن فلا أرجع إلى أهلي حتى أستغني فآتيهم وأنا غني قال انطلق معي فانطلقا فوجد رجلاً قصته مثل قصتهما فاصطحبوا جميعاً حتى أتوا الجوف جوف مراد فلما أشرفوا عليه إذا فيه نعم قد ملأ كل شيء من كثرته فهابوا أن يغيروا فيطردوا بعضها فيلحقهم الطلب فقال لهما سليك كوناً قريباً مني حتى آتي الرعاء فأعلم لكما علم الحي أقريب أم بعيد فإن كانوا قريباً رجعت إليكما وإن كانوا بعيداً قلت لكما قولاً أومىء إليكما به فأغيرا فانطلق حتى أتى الرعاء فلم يزل يستنطقهم حتى أخبروه بمكان الحي فإذا هم بعيد إن طلبوا لم يدركوا فقال السليك للرعاء ألا أغنيكم فقالوا بلى غننا فرفع صوته وغنى ( يا صاحبيّ ألا لا حيّ بالوادي ... سوى عَبيد وآمٍ بين أذواد ) ( أتنظران قريباً رَيثَ غفلتِهم ... أم تغدوان فإن الريح للغادي ) فلما سمعا ذلك أتيا السليك فأطردوا الإبل فذهبوا بها ولم يبلغ الصريخ الحي حتى فاتوهم بالإبل قال المفضل وزعموا أن سليكاً خرج ومعه رجلان من بني الحارث بن امرىء القيس بن زيد مناة بن تميم لهما عمرو وعاصم وهو يريد الغارة فمر على حي بني شيبان في ربيع و الناس مخصبون في شعية فيها ضباب ومطر فإذا هو ببيت قد انفرد من البيوت وقد أمسى فقال لأصحابه كونوا بمكان كذا حتى آتي أهل هذا البيت فلعلي أن أصيب لكم خيراً أو آتيكم بطعام قالوا افعل فانطلق وقد أمسى وجن عليه الليل فإذا البيت بيت رويم وهو جد حوشب بن يزيد بن رويم وإذا الشيخ وامرأته بفناء البيت فأتى السليك البيت من مؤخره فدخله فلم يلبث أن راح ابنه بإبله فلما أراحها غضب الشيخ وقال لابنه هلا عشيتها ساعة من الليل فقال له ابنه إنها أبت العشاء فقال العاشية تهيج الآبية فأرسلها مثلا ثم غضب الشيخ ونفض في وجهها فوجعت إلى مراتعها ومعها الشيخ حتى مالت بأدنى روضة فرتعت وجلس الشيخ عندها لتتعشى وغطى وجهه بثوبه من البرد وتبعه سليك فلما وجد الشيخ مغتراً ختله من ورائه فضربه فأطار رأسه وصاح بالإبل فطردها فلم يشعر صاحباه وقد ساء ظنهما وتخوفا عليه حتى إذا هما بالسليك يطردها فطرداها معه وقال سليك في ذلك ( وعاشيةٍ راحت بِطانا ذعَرتُها ... بسوط قتيل وسْطها يُتسيف ) ( كأنّ عليه لونَ بُرد محبَّر ... إذا ما أتاه صارخ يتلهف ) ( فبات لها أهل خلاءُ فناؤهم ... ومرّت بهمْ طير فلم يتعيفوا ) ( وباتوا يظنون الظنون وصُحبتي ... إذا ما علَوا نشزا أهلوا وأوجفوا ) ( وما نلتُها حتى تصعلكتُ حِقبة ... وكدِتُ لأسباب المنية أعرِف ) ( وحتى رأيتُ الجوع بالصيف ضرّني ... إذا قمت تغشاني ظلال فأسدِف ) وقال الأثرم في روايته عن أبي عبيدة خرج سليك في الشهر الحرام حتى أتى عكاظ فلما اجتمع الناس ألقى ثيابه ثم خرج متفضلاً مترجلاً فجعل يطوف الناس ويقول من يصف لي منازل قومه وأصف له منازل قومي فلقيه قيس بن مكشوح المرادي فقال أنا أصف لك منازل قومي وصف لي منازل قومك فتواقفا وتعاهدا ألا يتكاذبا قال قيس بن المكشوح خذ بين مهب الجنوب والصبا ثم سر حتى لا تدري أين ظل الشجرة فإذا انقطعت المياه فسر أربعاً حتى تبدو لك رملة وقف بينها الطريق فإنك ترد على قومي مراد وخثعم فقال السليك خذ بين مطلع وسهيل ويد الجوزاء اليسرى العاقد لها من أفق السماء فثم منازل قومي بني سعيد بن زيد مناة فانطلق قيس إلى قومه فأخبرهم الخبر فقال أبوه المكشوح ثكلتك أمك هل تدري من لقيت قال رجلاً فضلاً كأنما خرج من أهله فقال هو والله سليك بن سعد فاستعلق واستعوى السليك قومه فخرج أحماس من بني سعد وبني عبد شمس وكان في الربيع يعمد إلى بيض النعام فيملؤه من الماء ويدفنه في طريق اليمن في المفاوز قال فإذا غزا في الصيف مر به فاستثاره فمر بأصحابه حتى إذا انقطعت عنهم المياه قالوا يا سليك أهلكتنا ويحك قال قد بلغتم الماء ما أقربكم منه حتى إذا انتهى إلى قريب من المكان الذي خبأ الماء فيه طلبه فلم يجده وجعل يتردد في طلبه فقال بعض أصحابه لبعض أين يقودكم هذا العبد قد والله هلكتم وسمع ذلك ثم أصاب الماء بعد ما ساء ظنهم فهم السليك بقتل بعضهم ثم أمسك فانصرفت عنه بنو عبد شمس في طوائف من بني سعد قال ومضى السليك في بني مقاعس ومعه رجل من بني حرام يقال له صرد فلما رأى أصحابه قد انصرفوا بكى ومضى به السليك حتى إذا دنوا من بلاد خثعم ضلت ناقة صرد في جوف الليل فخرج في طلبها فأصابه أناس حين أصبح فإذا هم مراد وخثعم فأسروه ولحقه السليك فاقتتلوا قتالاً شديداً وكان أول من لقيه قيس بن مكشوح فأسره السليك بعد أن ضربه ضربة أشرفت على نفسه وأصاب من نعمهم ما عجز عنه هو وأصحابه وأصاب أم الحارث بنت عوف بن يربوع الخثعمية يومئذ واستنفذ صرد من أيدي خثعم ثم انصرف مسرعاً فلحق بأصحابه الذين انصرفوا عنه قبل أن يصلوا إلى الحي وهم أكثر من الذين شهدوا معه فقسمها بينهم على سهام الذين شهدوا وقال السليك في ذلك ( بكى صُرَدٌ لما رأى الحيّض أعرضَت ... مهامةُ رملٍ دونْهم وسُهوبُ ) ( وخوفه ريبَ الزمان وفقرَه ... بلادُ عدوّ حاضر وجَدوب ) ( ونأيٌ بَعيد عن بلاد مقاعس ... وأن مخاريق الأمور ترٍيب ) ( فقلت له لا تبك عينك إنها ... قضية ما يُقضى لها فتثوب ) ( سيكفيك فَقدَ الحي لحمٌ مغرَّض ... وماء قدُور في الجِفان مشوب ) ( ألم تر أن الدهر لونان لونهُ ... وطَوران بشْر مرة وكَذوب ) ( فما خير من لا يرتجي خير أوبة ... ويُخشى عليه مِرية وحروب ) ( رددتُ عليه نفسه فكأنما ... تلاقى عليه منسِر وسَرُوب ) ( فما ذرّ قرن الشمس حتى أرٍيته ... قُصار المنايا والغبار يثوب ) ( وضاربتُ عنه القوم حتى كأنما ... يصعّد في آثارهم ويصُوب ) ( وقلت له خذ هَجْمة حِميريّةٍ ... وأهلاً ولا يبُعد عليك شَروب ) ( وليلةَ جابانٍ كررتُ عليهمُ ... على ساعة فيها الإياب حبيب ) ( عشيةَ كرّت بالحراميِّ ناقة ... بحيّ هلاً تُدعى به فجيب ) ( فضاربت أُولى الخيل حتى كأنما ... أُميل عليها أيدَع وصبيب ) الأيدع دم الأخوين والصبيب الحناء السليك القادر على الإحتمال قال أبو عبيدة وبلغني أن السليك بن السلكة رأته طلائع جيش لبكر بن وائل وكانوا جازوا منحدرين ليغيروا على بني تميم ولا يعلم بهم أحد فقالوا إن علم السليك بنا أنذر قومه فبعثوا إليه فارسين على جوادين فلما هايجاه خرج يمحص كأنه ظبي وطارداه سحابة يومه ثم قالا إذا كان الليل أعيا ثم سقط أو قصر عن العدو فنأخذه فلما أصبحنا وجدا أثره قد عثر بأصل شجرة فنزعها فندرت قوسه فانحطمت فوجدا قصدة منها قد ارتزت بالأرض فقالا ما له أخزاه الله ما أشده وهما بالرجوع ثم قالا لعل هذا كان من أول الليل ثم فتر فتبعاه فإذا أثره متفاج قد بال فرغا في الأرض وخذها فقالا ما له قاتله الله ما أشد متنه والله لا نتبعه أبداً فانصرفا ونمى إلى قومه وأنذرهم فكذبوه لبعد الغاية فأنشأ يقول ( يكذّبني العَمْران عمرَو بن جندب ... وعمرو بن سعد والمكِّذب أكذب ) ( لعمرُك ما ساعيتُ من سعي عاجز ... ولا أنا بالواني ففيم أكذِّب ) ( ثكلتكما إن لم أكن قد رأيتها ... كراديس يهديها إلى الحي موكِب ) ( كراديس فيها الحَوْفَزان وقومه ... فوارس همَّام متى يَدْعُ يركبوا ) يعني الحوفزان بن شريك الشيباني ( تفاقدتمُ هل أنكرنّ مغيرة ... مع الصبح يهدين أشقر مغرب ) تفاقدتم يدعو عليهم بالتفاقد قال وجاء الجيش فأغاروا على جمعهم قال وكان يقال للسليك سليك المقانب وقد قال في ذلك فرار الأسدي وكان قد وجد قوماً يتحدثون إلى امرأته من بني عمها فعقرها بالسيف فطلبه بنو عمها فهرب ولم يقدروا عليه فقال في ذلك ( لَزُوار ليلَى منكم آل برثُن ... على الهول أمضى من سُليك المقانب ) ( يزورونها ولا أزور نساءهم ... ألهفى لأولاد الإماء الحواطب ) وقال أبو عبيدة أغار السليك على بني عوار بطن من بني مالك بن ضبيعة فلم يظفر منهم بفائدة وأرادوا مساورته فقال شيخ منهم إنه إذا عدا لم يتعلق به فدعوه حتى يرد الماء فإذا شرب وثقل لم يستطع العدو وظفرتم به فأمهلوه حتى ورد الماء وشرب ثم بادروه فلما علم أنه مأخوذ خاتلهم وقصد لأدنى بيوتهم حتى ولج على امرأة منهم يقال لها فكيهة فاستجار بها فمنعته وجعلته تحت درعها واخترطت السيف وقامت دونه فكاثروها فكشفت خمارها عن شعرها وصاحت بإخوتها فجاؤوا ودفعوا عنه حتى نجا من القتل فقال السليك في ذلك ( لعمر أبيك والأنباء تنمي ... لنعم الجار أخت بني عُوارا ) ( من الخفرات لم تفضح أباها ... ولم ترفع لإخوتها شَنارا ) ( كأن مجامع الأرداف منها ... نَقاً درَجت عليه الريح هارا ) ( يعاف وِصال ذاتِ البَذل قلبي ... ويّتبع الممنعَّة النَّوارا ) ( وما عجزت فُكَيهة يوم قامت ... بنصل السيف واستبلوا الخِمارا ) أخبرني الأخفش عن السكري عن أبي حاتم عن الأصمعي أن السليك أخذ رجلاً من بني كنانة بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر بن حبيب بن غنم بن تغلب يقال له النعمان بن عقفان ثم أطلقه وقال ( سمعتُ بجمعهم فرضختُ فيهم ... بنُعمان بن عُقْفان بنِ عمرو ) ( فإن تكفر فإني لا أبالي ... وإن تشكر فإني لست أدري ) قال ثم قدم بعد ذلك على بني كنانة وهو شيخ كبير وهم بماء لهم يقال له قباقب خلف البشر فأتاه نعمان بابنيه الحكم وعثمان وهما سيدا بني كنانة ونائلة ابنته فقال هذان وهذه لك وما أملك غيرهم فقالوا صدق فقال قد شكرت لك وقدرددتهم عليك فجمعت له بنو كنانة إبلاً عظيمة فدفعوها إليه ثم قالوا له إن رأيت أن ترينا بعض ما بقي من إحضارك قال نعم وأبغوني أربعين شاباً وأبغوني درعاً ثقيلة فأتوه بذلك فلبس الدرع وقال للشبان الحقوا بي إن شئتم وعدا فلاث العدو لوثاً وعدوا جنبته فلم يلحقوه إلا قليلاً ثم غاب عنهم وكر حتى عاد إلى الحي هو وحده يحضر والدرع في عنقه تضرب كأنها خرقة من شدة إحضاره أخبرني به هاشم بن محمد الخزاعي عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه فذكر فيه نحو ما تقدم خبر مقتله وقال السكري في خبر مقتله إنه لقي رجلاً من خثعم في أرض يقال لها فخة بين أرض عقيل وسعد تميم وكان يقال للرجل مالك بن عمير نب أبي ذراع بن جشم بن عوف فأخذه ومعه امرأة له من خفاجة يقال لها النوار فقال له الخثعمي أنا أفدي نفسي منك فقال له السليك ذلك لك على ألا تخيس بي ولا تطلع علي أحداً من خثعم فحالفه على ذلك ورجع إلى قومه وخلف امرأته رهينة معه فنكحها السليك وجعلت تقول احذر خثعم فإني أخافهم عليك فأنشأ يقول ( تحذّرني كي أحذَرَ العام خثعما ... وقد علمَت أني امرؤ غير مُسلَم ) ( وما خثعم إلا لئام أذلّة ... إلى الذل والإسحاق تنمي وتنتمي ) قال وبلغ ذلك شبل بن قلادة بن عمر بن سعد وأنس بن مدرك الخثعميين فخالفا إلى السليك فلم يشعر إلا وقد طرقاه في الخيل فأنشأ يقول ( مَن مبلغ جِذمي بأنِي مقتولْ ... ) ( يا رُب نَهب قد حويتُ عُثكول ... ) ( ورُبّ قِرن قد تركت مجدولْ ... ) ( وربَّ زوج قد نكحت عُطبول ... ) ( وربَّ عانٍ قد فككتُ مكبول ... ) ( ورب واد قد قطعت مسبول ... ) قال أنس للشبل إن شئت كفيتك القوم واكفني الرجل وإن شئت اكفني القوم أكفك الرجل قال بل أكفيك القوم فشد أنس على السليك فقتله وقتل شبل وأصحابه من كان معه وكاد الشر يتفاقم بين أنس وبين عبد الملك لأنه كان أجاره حتى ودّاه أنس لما خاف أن يخرج الأمر من يده وقال ( كم مِن أخ لي كريم قد فُجعتُ به ... ثم بقيتُ كأني بعده حَجَرُ ) ( لا أستكين على ريب الزمان ولا ... أُغضي على المر يأتي دونه القدر ) ( مِرْدَى حُروب أُدير الأمر حابلَه ... إذ بعضُهم لأمور تعتري جَزَر ) ( قد أطعن الطعنة النجلاءُ أُتْبعها ... طَرْفاً شديداً إذا ما يَشخَص البصر ) ( ويوم حمضة مطلوب دلفتُ له ... بذات وَدْقين لما يٌعفها المطر ) وذكر باقي الأبيات التي تتلو هذه ( إني وقتلي سُلَيكاً ثم أعقٍلَه ... ) كما ذكره من روينا عنه ذلك أخبرني هاشم بن محمد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه فذكر ما تقدم قال أبو عبيدة وحدثني المنتجع بن نبهان قال كان السليك يعطي عبد الملك بن مويلك الخثعمي إتاوةً من غنائمه على أن يجيره فيتجاوز بلاد خثعم إلى من وراءهم من أهل اليمن فيغير عليهم فمر قافلاً من غزوة فإذا بيت من خثعم أهله خلوف وفيه امرأة شابة بضة فسألها عن الحي فأخبرته فتسنمها أ ي علاها ثم جلس حجرة ثم التقم المحجة فبادرت إلى الماء فأخبرت القوم فركب أنس بن مدرك الخثعمي في طلبه فلحقه فقتله فقال عبد الملك والله لأقتلن قاتله أو ليدينه فقال أنس والله لا أديه ولا كرامة ولو طلب في ديته عقالاً لما أعطيته وقال في ذلك ( إني وقتلي سُلَيكاً ثم أعقِلَه ... كالثور يُضرب لما عافت البقر ) ( غضبتُ للمرء إذ نيكت حليلتهُ ... وإذ يُشَد على وجعائها الَثَّفَر ) ( إني لتاركُ هامات بمجزَرة ... لا يزدهيني سواد الليل والقمرُ ) ( أغشى الحروب وسِر بالي مضاعفَة ... تغشى البنانَ وسيفي صارم ذكر ) أخبرني ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن فليح بن أبي العوراء قال كان لي صديق بمكة وكنا لا نفترق ولا يكتم أحد صاحبه سراً فقال لي ذات يوم يا فليح إني أهوى ابنة عم لي ولم أقدر عليها قط وقد زارتني اليوم فأحب أن تسرني بنفسك فإني لا أحتشمك فقلت أفعل وصرت إليهما وأحضرالطعام فأكلنا ووضع النبيذ فشربنا أقداحاً فسألني أن أغنيهما فكأن الله عز و جل أنساني الغناء كله إلا هذا الصوت ( من الخفِرات لم تفضح أباها ... ولم تُلحق بإخوتها شَنارا ) فلما سمعته الجارية قالت يا أخي أعد فأعدته فوثبت وقالت أحسنت أنا إلى الله تائبة والله ما كنت لأفضح أ بي ولا لأرفع لإخوتي شنارا فجهد الفتى في رجوعها فأبت وخرجت فقال لي ويحك ما حملك على ما صنعت فقلت والله ما هو شيء اعتمدته ولكنه ألقي على لساني لأمر أريد بك وبها وهكذا في الخبر المذكور وقد رواه غير من ذكرته عن فليح بن أبي العوراء فأخبرني اليزيدي عن عمه عبيد الله قال كان إبراهيم بن سعدان يؤدب ولد علي بن هشام وكان يغني بالعود تأدباً ولعباً قال فوجه إلي يوماً علي بن هشام يدعوني فدخلت فإذا بين يديه امرأة مكشوفة الرأس تلاعبه بالنرد فرجعت عجلاً فصاح بي ادخل فدخلت فإذا بين أيديهما نبيذ يشربان منه فقال خذ عوداً وغن لنا ففعلت ثم غنيت في وسط غنائي ( مِن الخفِرات لم تَفضح أباها ... ولم ترفع لإخوتها شَنارا ) فوثبت من بين يديه وغطت رأسها وقالت إني أشهد الله أني تائبة إليه ولا أفضح أبي ولا أرفع لإخوتي شناراً ففتر علي بن هشام ولم ينطق وخرجت من حضرته فقال لي ويلك من أين صبك الله علي هذه مغنية بغداد وأنا في طلبها منذ سنة لم أقدر عليها إلى اليوم فجئتني بهذا الصوت حتى هربت فقلت والله ما اعتمدت مساءتك ولكنه شيء خطر على غير تعمد صوت ( أمَسلَم إني يا بنَ كلّ خليفة ... ويا جبَل الدنيا ويا ملِكَ الأرضِ ) ( شكرتُك إن الشكر حظ من التقى ... وما كلّ من أوليته نعمة يَقضي ) الشعر لأبي نخيلة الحماني والغناء لابن سريج ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي أخبار أبي نخيلة ونسبه أبو نخيلة اسمه لا كنيته ويكنى أبا الجنيد ذكر الأصمعي ذلك وأبو عمرو الشيباني وابن حبيب لا يعرف له اسم غيره وله كنيتان أبو الجنيد وأبو العرماس وهو ابن حزن بن زائدة بن لقيط بن هرم بن يثربي وقيل ابن أثربي بن ظالم بن مجاسر بن حماد بن عبد العزى بن كعب بن لؤي بن سعد بن زيد مناة بن تميم وكان عاقاً بأبيه فنفاه أبوه عن نفسه فخرج إلى الشام وأقام هناك إلى أن مات أبوه ثم عاد وبقي مشكوكاً في نسبه مطعوناً عليه وكان الأغلب عليه الرجز وله قصيد ليس بالكبير ولما خرج إلى الشام اتصل بمسلمة بن عبد الملك فاصطنعه وأحسن إليه وأوصله إلى الخلفاء واحداً بعد واحد واستماحهم له فأغنوه وكان بعد ذلك قليل الوفاء لهم انقطع إلى بني هاشم ولقب نفسه شاعر بني هاشم فمدح الخلفاء من بني العباس وهجا بني أميه فأكثر وكان طامعاً نحمله ذلك أن قال في المنصور أرجوزة يغريه فيها بخلع عيسى بن موسى ويعقد العهد لابنه محمد المهدي فوصله المنصور بألفي درهم وأمره أن ينشدها بحضرة عيسى بن موسى ففعل فطلبه عيسى فهرب منه وبعث في طلبه مولى له فأدركه في طريق خراسان فذبحه وسلخ جلده أخبرني هاشم الخزاعي عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال رأى أبو نخيلة على شبيب حلة فأعجبته فسأله إياها فوعده ومطله فقال فيه ( يا قومِ لا تُسوّدوا شبيبا ... الخائنَ ابن ا لخائن الكذوبا ) ( هل تلد الذِّيبة إلا الذيبا ... ) قال فبلغه ذلك فبعث إليه بها فقال ( إذا غَدتْ سعد على شبيبها ... على فتاها وعلى خطيبها ) ( من مطلع الشمس إلى مغيبها ... عجبتَ من كثرتها وطيبها ) حدثني حبيب بن نصر المهلبي عن عمر بن شبة قال حدثني الرعل بن الخطاب قال بنى أبو نخيلة داره فمر به خالد بن صفوان وكان بينهما مداعبة قديمة ومودة وكيدة فوقف عليه فقال أبو نخيلة يا بن صفوان كيف ترى داري قال رأيتك سألت فيها إلحافاً وأنفقت ما جمعت إسرافاً جعلت إحدى يديك سطحاً وملأت الأخرى سلحاً فقلت من وضع في سطحي وإلا ملأته بسلحي ثم ولى وتركه فقيل له ألا تهجوه فقال إذن والله يركب بغلته ويطوف في مجالس البصرة ويصف أبنيتي بما يعيبها ما عسى أن يضر الإنسان صفة أبنيته بما يعيبها سنة ثم لا يعيد فيها كلمة أبو نخيلة ومسلمة بن عبد الملك أخبرني الحسن بن علي الخفاف عن ابن مهرويه عن أبي مسلم المستملي عن الحرمازي عن يحيى بن نجيم قال لما انتفى أبو نخيلة من أبيه خرج يطلب الرزق لنفسه فتأدب بالبادية حتى شعر وقال رجزاً كثيراً وقصيداً صالحاً وشهر بهما وسار شعره في البدو والحضر ورواه الناس ثم وفد إلى مسلمة بن عبد الملك فرفع منه وأعطاه وشفع له وأوصله إلى الوليد بن عبد الملك فمدحه ولم يزل به حتى أغناه قال يحيى بن نجيم فحدثني أبو نخيلة قال وردت على مسلمة بن عبد الملك فمدحته وقلت له ( أَمَسْلَم إِني يابنَ كلِّ خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرضِ ) ( شكرتُك إنّ الشكر حبل من التقى ... وما كل من أوليتَه نعمة يَقضي ) ( وألقيت لما أن أتيتكَ زائراً ... عليّ لحافاً سابغ الطول والعرض ) ( وأحييت لي ذكرى وما كان خاملاً ... ولكنّ بعض الذكر أنبهُ من بعض ) قال فقال لي مسلمة ممن أنت فقلت من بني سعد فقال مالكم يا بني سعد والقصيد وإنما حظكم في الرجز قال فقلت له أنا والله أرجز العرب قال فأنشدني من رجزك فكأني والله لما قال ذلك لم أقل رجزاً قط أنساينه الله كله فما ذكرت منه ولا من غيره شيئاً إلا أرجوزة لرؤبة كان قالها في تلك السنة فظننت أنها لم تبلغ مسلمة فأنشدته إياها فنكس رأسه وتتعتعت فرفع رأسه إلي وقال لا تتعب نفسك فأنا أروى لها منك قال فانصرفت وأنا أكذب الناس عنده وأخزاهم عند نفسي حتى تلطفت بعد ذلك ومدحته برجز كثير فعرفني وقربني وما رأيت ذلك أثر فيه يC ولا قرعني به حتى افترقنا وحدثني أبو نخيلة قال لما انصرف مسلمة من حرب يزيد بن المهلب تلقيته فلما عاينته صحت به ( مَسْلَم يا مَسْلمَةَ الحروبَ ... أنت المصفَّى من أذى العيوبِ ) ( مُضَاضةٌ من كَرم وطيب ... لولا ثقاف ليس بالتدبيب ) ( تفري به عن حُجُب القلوب ... لأمست الأمّة شاء الذيب ) ضحك وضمّني إليه وأجزل صلتي حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه وأخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه وقد جمعت روايتهما وأكثر اللفظ الأصمعي قال قال أبو نخيلة وفدت على هشام بن عبد الملك فصادفت مسلمة قد مات وكنت بأخلاق هشام غرا وأنا غريب فسألت عن أخص الناس به فذكر لي رجلان أحدهما من قيس والآخر من اليمن فعدلت إلى القيسي بالتؤدة فقلت هو أقربهما إلي وأجدرهما بما أحب فجلست إليه ثم وضعت يدي على ذراعه وقلت له إني مسستك لتمسني رحمك أنا رجل غريب شاعر من عشيرتك وأنا غير عارف بأخلاق هذا الخليفة وأحببت أن ترشدني إلى ما أعمل فينفعني عنده وعلى أن تشفع لي وتوصلني إليه فقال ذلك كله لك علي وفي الرجل شدة ليس كمن عهدت من أهله وإذا سئل وخلط مدحه بطلب حرم الطالب فأخلص له المدح فإنه أجدر أن ينفعك واغد إليه غداً فإني منتظرك بالباب حتى أوصلك والله يعينك فصرت من غد إلى باب هشام فإذا بالرجل منتظر لي فأدخلني معه وإذا بأبي النجم قد سبقني فبدأ فأنشده قوله ( إِلى هشام وإِلى مروانِ ... بيتان ما مثلهما بيتانِ ) ( كفّاك بالجود تَباريان ... كما تبارى فرسا رِهان ) ( مال عليّ حَدَث الزمان ... وبيعَ مايغلو من الغلمان ) ( بالثمن الوَكسْ من الأثمان ... والمُهر بعد المُهر والحصان ) أبو نخيلة يمدح هشاماً فيجيزه قال فأطال فيها وأكثر المسألة حتى ضجر هشام وتبينت الكراهة في وجهه ثم استأذنت فأذن لي فأنشدته ( لما أتتني بغيةٌ كالشّهد ... والعسل الممزوج بعد الرقد ) ( يا بَرْدَها لمُشْتَفٍ بالبَرْد ... رفعْت من أطمار مستعِدّ ) ( وقلت لِلْعِيس اعتلي وجِدي ... فَهْي تًخدي أبرح التخدي ) ( كم قد تعسّفُت بها من نجد ... ومًجْرَ هدّ بعد مُجْرَ هِدٌ ) ( قد ادّرَعْن في مَسير سَمْد ... ليلاً كلَون الطيلسان الجَرْد ) ( إلى أمير المؤمنين المُجدي ... رَبِّ مَعَدّ وسوى معدّ ) ( ممن دعا مِن أصيدٍ وعبد ... ذي المجد والتشريف بعد المجد ) ( في وجهه بدر بدا بالسعد ... أنت الهُمام القَرْمُ عند الجِد ) ( طُوِّقتَها مجتمِع الأشُد ... فانهلّ لما قمتَ صوبُ الرعد ) قال حتى أتيت عليها وهممت أن أسأله ثم عزفت نفسي وقلت قد استنصحت رجلاً وأخشى أن اخالفه فأخطىء وحانت مني التفاتة فرأيت وجه هشام منطلقاً فلما فرغت أقبل على جلسائه فقال الغلام السعدي أشعر من الشيخ العجلي وخرجت فلما كان بعد أيام أتتني جائزته ثم دخلت عليه بعد ذلك وقد مدحته بقصيدة فأنشدته إياها فألقى علي جبة خز من جبابه مبطنة بسمور ثم دخلت عليه يوماً آخر فكساني دواجاً كان عليه من خز أحمر مبطن بسمور ثم دخلت عليه يوماً ثالثاً فلم يأمر لي بشيء فحملتني نفسي على أن قلت له ( كسوتنيها فهي كالتِّجفاف ... من خزك المصونة الكِثاف ) ( كأنني فيها وفي اللّحاف ... من عبد شمس أبو بني مناف ) ( والخَزّ مشتاق إلى الأفواف ... ) قال فضحك وكانت عليه جبة أفواف وأدخل يده فيها ونزعها ورمى بها إلي وقال خذها فلا بارك الله لك فيها قال محمد بن هشام في خبره خاصة فلما أفضت الخلافة إلى السفاح نقلها إليه وغيرها وجعلها فيه يعني الأرجوزة الدالية فهي الآن تنسب في شعره إلى السفاح أبو نخيلة والفرزدق أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني أبو عمر الخصاف عن العتبي قال لما حبس عمر بن هبيرة الفرزدق وهو أمير العراق أبى أن يشفع فيه أحداً فدخل عليه أبو نخيلة في يوم فطر فوقف بين يديه وأنشأ يقول ( أطلقتَ بالأمس أسير بَكر ... فهل فَداك نَفَري وَوفْري ) ( مِن سببٍ أو حُجة أو عذر ... يُنْجي التميمي َّ القليلَ الشكر ) ( من حَلَق القيد الثِّقال السُّمر ... ما زال مجنوناً على آست الدهر ) ( ذا حسب ينمو وعقل يحري ... هبه لأخوالك يوم الفطر ) قال فأمر بإطلاقه وكان قد أطلق قبله رجلاً من عِجل جيء به من عين التمر قد أفسد فشفعت فيه بكر بن وائل فأطلقه وإياه عنى أبو نخيلة فلما أخرج الفرزدق سأل عمن شفع له فأخبر فرجع إلى الحبس وقال لا أريمه ولو مت انطلق قبلي بكري وأخرجت بشفاعة دعي والله لا أخرج هكذا ولو من النار فأخبر ابن هبيرة بذلك فضحك ودعا به فأطلقه وقال وهبتك لنفسك وكان هجاه فحبسه لذلك فلما عزل ابن هبيرة وحبس مدحه الفرزدق فقال ما رأيت أكرم منه هجاني أميراً ومدحني أسيراً وجدت هذا الخبر بخط القاسم بن يوسف فذكر أن أبا القاسم الحضرمي حدثه أن هذه القصة كانت لأبي نخيلة مع يزيد بن عمر بن هبيرة وأنه أتي بأسيرين من الشراة أخذا بعين التمر أحدهما أبو القاسم بن بسطام بن ضرار بن القعقاع بن معبد بن زرارة والآخر رجل من بكر بن وائل فتكلم في البكري قومه فأطلقه ولم يتكلم في التميمي أحد فدخل عليه أبو نخيلة فقال ( الحمد لله وليَّ الأمرِ ... هو الذي أخرج كلّ غَمْرِ ) ( وكلَّ عُوّار وكلّ وَغْر ... من كلّ ذي قلب نقيِّ الصدر ) ( لما أتتْ من نحو عين التمر ... سْتُّ أَثاف لا أثافي القِدر ) ( فظلّت القضبان فيهم تجري ... هَبْرا هو الهبر وفوق الهبر ) ( إني لمهدٍ للإمام الغَمْر ... شعري ونُصحَ الحب بعد الشعر ) ثم ذكر باقي الأبيات كما ذُكرت في الخبر المتقدم أخبرني أبو الحسن الأسدي أحمد بن محمد قال حدثني محمد بن صالح بن النطاح قال ذكر عن العتبي أن أبا نخيلة حج ومعه جريب من سويق قد حلاه بقند فنزل منزلاً في طريقه فأتاه أعرابي من بني تميم وهو يقلب ذلك السويق واستحيا منه فعرض عليه فتناول ما أعطاه فأتى عليه ثم قال زدني يا بن أخ فقال أبو نخيلة ( لمَا نزلنا منزلاً ممقوتا ... نُريد أن نَرحلَ أو نبيتا ) ( جئتَ ولم نَدْر من أين جيتا ... إذا سقيتَ المُزبد السّحتيتا ) ( قلت ألا زدني وقد رويتا ... ) فقام الأعرابي وهو يسبه وحدثني بهذا الخبر هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال كان أبو نخيلة إذا نزل به ضيف هجاه فنزل به يوماً رجل من عشيرته فسقاه سويقاً قد حلاه فقال له زدني فزاده فلما رحل هجاه وذكر الأبيات بعينها وقال في الخبر قال أبو عبيدة السحتيت السويق الدقاق أبو نخيلة يعتذر لأبي العباس السفاح أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني ابن عائشة قال دخل أبو نخيلة على أبي العباس السفاح فسلم واستأذن في الإنشاد فقال له أبو العباس لا حاجة لنا في شعرك إنما تنشدنا فضلات بني مروان فقال يا أمير المؤمنين ( كنا أناساً نرهب الملاكَا ... إذ ركبوا الإعناق والأوراكا ) ( قد ارتَجَينا زمناً أباكا ... ثم ارتجينا بعده أخاكا ) ( ثم ارتجينا بعده إياكا ... وكان ما قلتُ لِمَن سواكا ) ( زُوراً فقد كفّر هذا ذا كا ... ) فضحك أبو العباس وأجازه جائزة سنية وقال أجل إن التوبة لتكفر ما قبلها وقد كفر هذا ذاك وأخبرنا أبو الفياض سوار بن ابي شراعة قال حدثني أبي عن عبد الصمد بن المعذل عن أبيه قال دخل أبو نخيلة على أبي العباس قال وكان لا يجترىء عليه مع ما يعرفه به من اصطناع مسلمة إياه وكثرة مديحه لبني مروان حتى علم أنه قد عفا عمن هو أكبر محلا من القوم وأعظم جرماً منه فلما وقف بين يديه سلم عليه ودعا له وأثنى ثم استأذنه في الإنشاد فقال له ومن أنت قال عبدك يا أمير المؤمنين أبو نخيلة الحماني فقال لا حياك الله ولا قرب دارك يا نضو السوء ألست القائل في مسلمة بن عبد الملك بالأمس ( أمَسْلَم يا من ساد كلّ خليفةٍ ... ويا فارس الهيجا ويا قمرَ الأرض ) والله لولا أني قد أمنت نظراءك لما ارتد إليك طرفك حتى أخضبك بدمك فقال أبو نخيلة ( كنّا أناساً نرهب الأملاكا ... ) وذكر الأبيات المتقدمة كلها مثل ما مضى من ذكرها فتبسم أبو العباس ثم قال له أنت شاعر وطالب خير وما زال الناس يمدحون الملوك في دولهم والتوبة تكفر الخطيئة والظفر يزيد الحقد وقد عفونا عنك واستأنفنا الصنيعة لك وأنت الآن شاعرنا فاتسم بذلك فيزول عنك ميسم بني مروان فقد كفر هذا ذاك كما قلت ثم التفت إلى أبي الخصيب فقال يا مرزوق أدخله دار الرقيق فخيره جارية يأخذها لنفسه ففعل واختار جارية وطفاء كثيرة اللحم فلم يحمدها فلما كان من غد دخل على أبي العباس وعلى رأسه وصيفة حسناء تذب عنه فقال له قد عرفت خبر الجارية التي أخذتها بالأمس وهي كذناكونه فاحتفظ بها فأنشأ يقول ( إني وجدت الكذناذَنُوّكا ... غيرَ مَنيك فابغني مُنَيَّكا ) ( حتى إذا حركتُه تَحَرَّكا ... ) فضحك أبو العباس وقال خذ هذه الوصيفة فإنك إذا خلوت بها تحرك من غير أن تحركه أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال ادّان أبو نخيلة من بقّال له يقال له ماعز الكلابي باليمامة وكان يأخذ منه أولاً أولاً حتى كثر ما عليه وثقل فطالبه ماعز فمطله ثم بلغه أنه قد استعدى عليه عامل اليمامة فارتحل يريد الموصل وخرج عن اليمامة ليلاً فلم يعد به ماعز إلا بعد ثلاث وقد نجا أبو نخيلة وقال في ذلك ( يا ماعزَ الكُرّاث خزيتا ... لقد خدعت ولقد هجيتنا ) ( كِدتَ تَخصينا فقد خُصيتا ... وكنت ذا حظ فقد مُحيتا ) ( ويحكَ لم تعلم بمن صُليتا ... ولا بأيّ حَجَر رُميتا ) ( إذا رأيت المُزيدَ الهَبوتا ... يركب شِدْقاً شَدْقماً هَريتا ) ( طِرْ بجناحك فقد أُتيتا ... حَرّان حَرّان فهِيتا هِيتا ) والموصَل الموصَل أَو تكْريتا ... حيث تبيع النبَطُ البيوتا ) ( ويأكلون العدَسَ المَريتا ... ) وقال أيضاً لماعز هذا ( يا ماعزَ القَمل وبَيتَ الذّلَ ... بِتْنا وبات البغل في الإصطبل ) ( وبات شيطان القوافي يُمْلي ... على امرئ فَحْلٍ وغير فحل ) ( لا خير في عِلمي ولا في جهلي ... لو كان أودَى ماعز بنخلي ) ( ما زال يَقلِيني وعَيْمي يغلي ... حتى إذا العَيم رمَى بالجفل ) ( طبّقت تطبيق الجُزاز النصل ... ) نماذج من مدحه وهجائه نسخت من كتاب اليوسفي حدثني المنمق بن جماع عن أبيه قال كان أبو نخيلة يرضيه القليل ويسخطه وكان الربيع ينزله عنده ويأمر سائساً يتفقد فرسه فمدح الربيع بأرجوزة ومدح فيها معه سائسه فقال ( لولا أبو الفضل ولولا فضلهُ ... ما اسْطِيع باب لا يُسنّى قُفْلُهُ ) ( ومن صلاح راشد إصطبلُه ... نعم الفتى وخيرُ فعل فعله ) ( يَسْمَن منه طِرفه وبغله ... ) فضحك الربيع وقال يا أبا نخيلة أترضى أن تقرن بي السائس في مديح كأنك لو لم تمدحه معي كان يضيع فرسك قال ونزل أبو نخيلة بسليمان بن صعصعة فأمر غلامه بتعهده وكان يغاديه ويراوحه في كل يوم بالخبز والحم فقال أبو نخيلة يمدح خباز سليمان بن صعصعة ( بارَك ربّي فيك من خباز ... ما زلت إذ كنتَ على أوفاز ) ( تنصبّ باللحم انصباب الباز ... ) أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثنا أحمد بن المعذل عن علي بن أبي نخيلة الحماني قال دخلت مع أبي إلى أرض له وقد قدم من مكة فرآها وقد أضر بها جفاء القيم عليها وتهاونه بها وكلما رآه الذين يسقونها زادوا في العمل والعمارة حتى سمعت نقيض الليف فقلت الساعة يقول في هذا شعراً فلم ألبث أن التفت إلي وقال ( شاهد مالاً رَبُّ مال فساسَه ... سياسة شهم حازم وابن حازم ) ( أقام بها العصْرين حيناً ولم يكن ... كمن ضنّ عن عُمرانها بالدراهم ) ( كأنَّ نقيض الليف عن سعفاته ... نقيضُ رحال الميَس فوق العياهم ) ( وأضحت تغالي بالبنات كأنها ... على متن شيخ من شيوخ الأعاجم ) ( وما الأصل ما روّيتَ مضرب عِرقه ... من الماء عن إصلاح فرع بنائم ) أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد عن أبي الأزهر البوشنجي قال حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي عن النضر بن حديد عن أبي محضة عن الأزرق بن الخميس بن أرطأة وهو ابن أخت أبي نخيلة فذكر قريباً مما ذكر في الخبر الذي قبله وأخبرني عيسى بن الحسن الوراق المروزي قال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبي قال ابتاع أو نخيلة داراً في بني حمان ليصحح بها نسبه وسأل في بنائها فأعطاه الناس اتقاء للسانه وشره فسأل شبيب بن شبة فلم يعطه شيئاً واعتذر إليه فقال ( يا قومِ لا تسوّدوا شبيبا ... المَلَذانَ الخائن الكذوبا ) ( هل تلد الذَيبة إلا الذبيا ... ) فقال شبيب ما كنت لأعطيه على هذا القول شيئاً فإنه قد جعل إحدى يديه سطحاً وملأ الأخرى سلحاً وقال من وضع شيئاً في سطحي وإلا ملأته بسلحي من أجل دار يريد أن يصحح نسبه بها فسفر بينهما مشايخ الحي حتى يعطيه فأبى شبيب أن يعطيه شيئاً وحلف أبو نخيلة ألا يكف عن عرضه أو يأخذ منه شيئاً يستعين به فلما رأى شبيب ذلك خافه فبعث إليه بما سأل وغدا أبو نخيلة عليه وهو جالس في مجلسه مع قومه فوقف عليهم ثم أنشأ يقول ( إذا عدَتْ سعد على شبيبها ... على فتاها وعلى خطيبها ) ( مِن مطلع الشمس إلى مغيبها ... عجبْت من كثرتها وطيبها ) أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال دخل أبو نخيلة على عمر بن هبيرة وعنده رؤبة قد قام من مجلسه فاضطجع خلف ستر فأنشد أبو نخيلة مديحه له ثم قال ابن هبيرة يا أبا نخيلة أي شيء أحدثت بعدنا فاندفع ينشده أرجوزة لرؤبة فلما توسطها كشف رؤبة الستر وأخرج رأسه من تحته فقال له كيف أنت يا أبا نخيلة فقطع إنشاده وقال بخير أبا العجاج فمعذرة إليك ما علمت بمكانك فقال له رؤبة أم ننهك أن تعرض لشعري إذا كنت حاضراً فإذا ما غبت فشأنك به فضحك أبو نخيلة وقال هل أنا إلا حسنة من حسناتك وتابع لك وحامل عنك فعاد رؤبة إلى موضعه فاضطجع ولم يراجعه حرفاً والله أعلم أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة أن أبا نخيلة قدم على المهاجرين بن عبد الله الكلابي وكان أبو نخيلة أشبه خلق الله به وجهاً وجسماً وقامة لا يكاد الناظر إلى أحدهما أن يفرق بينه وبين الآخر فدخل عليه فأنشده قوله فيه ( يا دارَ أمِّ مالك ألا أسلمي ... على التنائي من مُقام وأنعَمي ) ( كيف أنا إن أنت لم تَكّلمي ... بالوحْي أو كيف بأن تجمجمي ) ( تقول لي بنتي ملامَ الُلُّوَّم ... يا أبتا إنك يوماً مؤتِمي ) ( فقلت كلاّ فاعلمي ثم اعلمي ... أني لِميقات كتاب محكَم ) ( لو كنتُ في ظلمة شِعب مظلم ... أو في السماء أرتقي بسلَّم ) ( لا نصبّ مقداري إلى مُجْرَنثَمي ... إني وربّ الراقصات الرسَّم ) ( وربِّ حوض زمزم وزمزم ... لأستبين الخير عند مَقدَمي ) ( وعند تَرحاليَ عن مُخَيَّمي ... علَى ابنِ عبد الله قَرْمِ الأقرم ) ( فإنني بالعِلمِ ذو ترسُّم ... لم أدر ما مهاجِرُ التكرم ) حتى تبينت قضايا الغشّم ... مُهاجِرُ يا ذا النوال الخِضرِم ) ( أنت إذا انتَجعتَ خيرُ مُغنِم ... مُشترَك النائل جمُّ الأنعم ) ( ولِتَميمٍ منك خير مُقْسَم ... إذا التقوا شتى معاً كالهُيّم ) ( قد علِم الشأم وكلّ موسم ... أنك تحلو لي كحلو المعجَم ) ( طوراً وطوراً أنت مثل العلقم ... ) قال فأمر له المهاجر بناقة فتركها ومضى مغضباً وقال يهجوه ( إن الكلابيَّ اللئيم الأثرما ... أعطى على المِدْحَةِ ناباً عِرْزِماً ) ( ما جبر العظم ولكن تمّما ... ) فبلغ ذلك المهاجر فبعث فترضاه وقام في أمره بما يحب ووصله فقال أبو نخيلة هذه صلة المديح فأين صلة الشبه فإن التشابه في الناس نسب فوصله حتى أرضاه فلم يزل يمدحه بعد ذلك حتى مات ورثاه بعد وفاته فقال ( خليليّ مالي باليمامة مقعدٌ ... ولا قُرّةٌ للعين بعد المهاجرِ ) ( مضى ما مضى من مصالح العيش فاربعا ... على ابنِ سبيل مزمِع البين عابر ) ( فإن تك في مَلحودة يا بن وائل ... فقد كنتَ زين الوفد زين المنابر ) ( وقد كنتَ لولا سَلُّك السيف لم يَنم ... مقيم ولم تأمن سبيلُ المسافر ) ( لَعَزّ على الحيّين قيسٍ وخِندفٍ ... تَبكَّي عليَّ والوليد وجابر ) ( هوى قمر من بينهم فكأنما ... هوى البدر من بين النجوم الزواهر ) أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذُ عن أبي عبيدة قال تزوجت أخت أبي نخيلة برجل يقال له ميار وكان أبو نخيلة يقوم بمالها مع ماله ويرعى سوامها مع سوامه ويستبد عليها بأكثر منافعها فخاصمته يوماً من وراء خدرها في ذلك فأنشأ يقول ( أظلُّ أرعى وتراً هزينا ... مُلَملَماً ترى له غضونا ) ( ذا أُبَنِ مقوماً عُثنوناً ... يطعن طعناً يقضب الوتينا ) ( ويهتك الأعفاج والرُّبينا ... يذهب ميّار وتقعدينا ) ( وتفسدين أو تُبَذِّرينا ... وتمنحين استك آخرينا ) ( أير الحمار في است هذا دينا ... ) أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال تزوج أبو نخيلة امرأة من عشيرته فولدت له بنتاً فغمه ذلك فطلقها تطليقة ثم ندم وعاتبه قومه فراجعها فبينما هو في بيته يوما إذ سمع صوت ابنته وأمها تلاعبها فحركه ذلك ورق لها فقام إليها فأخذها وجعل ينزيها ويقول ( يا بنتَ مَن لم يك يهوَى بنتاً ... ما كنتِ إلا خمسة أو سِتاً ) ( حتى حللتِ في الحشى وحتى ... فتَتِّ قلبي مِنْ جوىً فانفتَّا ) ( لأنت خيرٌ من غلام أنْتا ... يُصبح مخموراً ويمسي سَبتا ) جمال شعره يجمل النساء أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا أبو هفان قال حدثني أصحابنا الأهتميون قالوا دخل عقال بن شبة المجاشعي على المهدي فقال له يا أبا الشيظم ما بقي من حبك بنات آدم وما بعجبك منهن التي عصبت عصب الجان وجلدت جدل العنان واهتزت اهتزاز البان أم التي بدنت فعظمت وكملت فتمت فقال يا أمير المؤمنين أحبهما إلي التي وصفها أبو نخيلة فإنه كانت له جارية صغيرة وهبها له عمك أبو العباس السفاح فكان إذا غشيها صغرت عنه وقلت تحته فقال ( إني وجتُ الكذناذَنّوكا ... غير منيك فابغني منيَّكا ) ( شيئاً إذا حرّكته تحركا ... ) قال فوهب له المهدي جراية كاملة فائقة متأدبة ربعة فلما أصبح عقال غدا على المهدي متشكراً فخرج المهدي وفي يده مشط يسرح به لحيته وهو يضحك فدعا له عقال وقال له يا أمير المؤمنين مم تضحك أدام الله سرورك قال يا أبا الشيظم إني اغتسلت آنفاً من شيء إذا حركته تحرك وذكرت قولك الآن لما رأيتك فضحكت أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثني أحمد بن القاسم العجلي البرتي قال حدثني أبو هفان قال حدثتني رقية بنت حمل عن أبيها قال كان أبو نخيلة مداحاً للجنيد بن عبد الرحمن المري وكان الجنيد له محباً يكثر رفده ويقرب مجلسه ويحسن إليه فلما مات الجنيد قال أبو نخيلة يرثيه ( لعمري لئن رَكبُ الجنيد تحملوا ... إلى الشأم من مرَّ وراحَت ركائبه ) ( لقد غادر الركب الشآمون خلفهم ... فتى غطفانياً يُعلل جانبه ) ( فتى كان يسري للعدو كأنما ... سُروب القطا في كلّ يوم كتائبه ) ( وكان كأن البدر تحت لوائه ... إذا راح في جيش وراحت عصائبه ) أخبرنا محمد بن جعفر قال حدثني أحمد بن القاسم قال حدثني أبو هفان عن عبد الله بن داود عن علي بن أبي نخيلة قال كان أبي شديد الرقة علي معجباُ بي فكان إذا أكل خصني بأطيب الطعام وإذا نام أضجعني إلى جنبه فغاظ ذلك امرأته أم حماد الحنفية فجعلت تعذله وتؤنبه وتقول قد أقمت في منزلك وعكفت على هذا الصبي وتركت الطلب لولدك وعيالك فقال أبي في ذلك ( ولولا شهوتي شَفَتي عليَّ ... رَبعتُ على الصحابة والركاب ) ( ولكنّ الوسائل من عليَّ ... خلَصن إلى الفؤاد من الحجاب ) قال فازدادت غضباً فقال لها ( وليس كأمّ حمّاد خليلٌ ... إذا ما الأمر جلّ عن الخطاب ) ( منعمةً أرى فتقرّ عيني ... وتكفيني خلائقُها عتابي ) فرضيت وأمسكت عنا حدثني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الله قال حدثني سهل بن زكريا قال حدثني عبد الله بن أحمد الباهلي قال قال أبان بن عبد الله النميري يوماً لجلسائه وفيهم أبو نخيلة والله لوددت أنه قيل في ما قيل في جرير بن عبد الله ( لولا جرير هَلَكتْ بجيله ... نعم الفتى وبئست القبيلة ) وإنني أثبت على ذلك مالي كله فقال له أبو نخيلة هلم الثواب فقد حضرني من ذلك ما تريد فأمر له بدراهم فقال اسمع يا طالب ما يجزيه ( لولا أَبانٌ هلكت نُمَيرُ ... نعم الفتى وليس فيهم خَيرُ ) أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا سلمة بن خالد المازني عن أبي عبيدة قال وقف أبو نخيلة على باب أبي جعفر واستأذن فلم يصل وجعلت الخراسانية تدخل وتخرج فتهزأ به فيرون شيخاً أعرابياً جلفاً فيبعثون به فقال له رجل عرفه كيف أنت أبا نخيلة فأنشأ يقول ( أصبحتُ لا يملك بعضي بعضاً ... أشكو العُروق الآبضات أبضاً ) ( كما تَشكى الأرحبيُّ الغرْضا ... كأنما كان شبابي قَرضَا ) فقال له الرجل وكيف ترى ما أنت فيه هذه الدولة فقال ( أكثرُ خلق الله من لا يُدرَى ... مِن أيّ خلق الله حين يُلْقى ) ( وحُلةٌ تُنشر ثم تُطوَى ... وطيلسانٌ يُشتَرى فيُغْلى ) ( لِعبد عبدٍ أو لمولى مولى ... يا ويحَ بيتِ المال ماذا يَلقِى ) وبهذا الإسناد عن أبي عبيدة أن أبا نخيلة قدم علىأبان بن الوليد فامتدحه فكساه ووهب له جارية جميلة فخرج يوماً من عنده فلقيه رجل من قومه فقيل له كيف وجدت أبان بن الوليد يا أبا نخيلة فقال ( أكثرَ والله أبانٌ مَيْري ... ومِن أبانِ الخيرِ كلُّ خيري ) ( ثوبٌ لجلدي وحرٌ لأيري ... ) نسخت من كتاب اليوسفي حدثني خالد بن حميد عن أبي عمرو الشيباني قال أقحمت السنة أبا نخيلة فأتى القعقاع بن ضرار وهو يومئذٍ على شُرطة الكوفة فمدحه وأنزله القعقاع بن ضرار وابنيه وعبديه وركابهم في دار وأقام لهم الأنزال ولركابهم العلوفة وكان طباخ القعقاع يجيئهم في كل يوم بأربع قصاع فيها ألوان مطبوخة من لحوم الغنم ويأتيهم بتمر وزبد فقال له يوماً القعقاع كيف منزلك أبا نخيلة فقال ( مَا زال عنّا قَصَعاتٌ أربعُ ... شَهرين دَأْباً ذُوّد ورجع ) ( عَبداي وابناي وشيخ يرفع ... كما يقوم الجَمل المطبّع ) قال وكان أبو نخيلة يكثر الأكل فأصابته تخمة فدخل على القعقاع فسأله كيف أصبحت أبا نخيلة فقال أصبحت والله بشماً أمرت خبازك فأتاني بهذاالرقاق الذي كأنه الثياب المبلولة قد غمسه في الشحم غمساً وأتبعه يزيد كرأس النعجة الخرسية وتمر كأنه عنز رابضة إذا أخذت التمرة من موضعها تبعها من الرب كالسلوك الممدودة فأمعنت في ذلك وأعجبني حتى بشمت فهل من أقداح جياد وبين يدي القعقاع حجام واقف وسفرة موضوعة فيها المواسي فإذا أتي بشراب النبيذ حلق رؤوسهم ولحاهم فقال له القعقاع أتطلب مني النبيذ وأنت ترى ما أصنع بشرابه عليك بالعسل والماء البارد فوثب ثم قال ( قد علم المظَلّ والمبيت ... أني مِن القعقاع فيما شِيت ) ( إذا أتتْ مائدة أُتيت ... ببِدَع لست بها غُذيت ) ( وُلّيتَ فاستشفيتُ واستُعدِيتُ ... كأني كنت الذي ولِّيتُ ) ( ولو تمنَّيتُ الذي أعطيت ... ما ازددتُ شيئاً فوق ما لقيتُ ) ( أيا بن بيتٍ دونه البيوت ... أَقصرْ فقد فوق القِرى قُريتُ ) ( ما بين شرابي عسلٌ منعوت ... ولا فُرات صرد بيّوت ) ( لكنني في النوم قد أْريت ... رطلَ نبيذ مُخفِس سُقيت ) ( صلباً إذا جاذبته رويت ... ) فغمزه على إسماعيل ابن أخيه وأومأ إلى إسماعيل فأخذ بيده ومضى به إلى منزله فسقاه حتى صلح أبو نخيلة يمدح السفاح أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا قعنب بن المحرز وأبو عمرو الباهلي قالا حدثنا الأصمعي قال دخل أبو نخيلة على أبي العباس السفاح وعنده أبو صفوان إسحاق بن مسلم العقيلي فأنشده قوله ( صادتْك يومَ الرملتين شَعْفَرُ ... وقد يصيد القانصَ المزعفَرُ ) ( يا صورةً حسّنها المصّور ... للِرِّيم منها جيدُها والمَحجَرُ ) يقول فيها في مدح أبي العباس ( حق إذا ما الأوصياء عسكروا ... وقام من تِبر النبيّ الجوهرُ ) ( ومِن بني العْباس نَبع أصفر ... ينميه فرعٌ طيّب وعنصر ) ( أقبل بالناس الهوى المستبِهر ... وصاح في الليل نهار أنور ) ( أنا الذي لو قيل إني أشعرُ ... جلّى الضبابَ الرجز المخبِّر ) ( لمّا مضت لي أشهر و أشهر ... قلت لنفس تُزدَهَى فتصبر ) ( لا يستخفنَّك ركب يَصدر ... لا مُنجد يَمضي ولا مُغَّور ) ( وخالفي الأنباءَ فهي المحشر ... أو يسمعَ الخليفة المطهَّر ) ( مِنَّي فإني كلَّ جنح أحضر ... وإن بالأنبار غيثاً يهمرُ ) ( والغيث يُرجَى والديار تنضُر ... ما كان إلا أن أتاها العسكر ) ( حتى زهاها مسجد ومِنبر ... لم يبقَ من مروانَ عين تنظر ) ( لا غائبٌ ولا أناس حُضّر ... هيهات أودى المنعم المعقّر ) ( وأمست الأنبار داراً تُعمَر ... وخرِبتْ من الشآم أدوُر ) ( حِمصٌ وبابُ التِّبن والموقِّر ... ودمّرت بعد امتناع تدمر ) ( وواسط لم يبق إلا القرقر ... منها وإلا الديربان الأخضر ) ومنها ( أين أبو الورد وأين الكوثر ... ) أبو الورد بن هذيل بن زفر وكوثر بن الأسود صاحب شرطة مروان ( وأين مروان وأين الأشقر ... وأين فلّ لم يَفُت محيّر ) ( وأين عادّيكم المُجَمْهَر ... وعامر وعامر وأعصُر ) قال يعني عامر بن صعصعة وعامر بن ربيعة وأعصر باهلة وغني قال فغضب إسحاق بن مسلم وقال هؤلاء كلهم في جر أمك أبا نخيلة فأنكر الخليفة عليه ذلك فقال إني والله يا أمير المؤمنين قد سمعت منه فيكم شراً من هذا في مجالس بني مروان وما له عهد وما هو بوفي ولا كريم فبان ذلك في وجه أبي العباس وقال له قولاً ضعيفاً إن التوبة تغسل الحوبة والحسنات يذهبن السيئات وهذا شاعر بني هاشم وقام فدخل وانصرف الناس ولم يعط أبا نخيلة شيئاً أبو نخيلة والمنصور وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار الثقفي حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال حدثني أبي عن عبد الله بن أبي سليم مولى عبد الله بن الحارث قال بينا أنا أسير مع أبي الفضل يعني سليمان بن عبد الله وحدي بين الحيرة والكوفة وهو يريد المنصور وقد هم بتولية المهدي العهد وخلع عيسى بن موسى وهو يروض ذلك إذا هو بأبي نخيلة الشاعر ومعه ابنان له وعبد وهم يحملون متاعه فقال له يا أبا نخيلة ما هذا الذي أرى قال كنت نازلاً على القعقاع بن معبد أحد ولد معبد بن زرارة فقلت شعراً فيما عزم عليه أمير المؤمنين من تولية المهدي العهد ونزع عيسى بن موسى فسألني التحول عنه لئلا يناله مكروه من عيسى إذ كان صنيعته فقال سليمان يا عبد الله اذهب بأبي نخيلة فأنزله منزلاً وأحسن نزله وبره ففعلت ودخل سليمان إلى المنصور فأخبره الخبر فلما كان يوم البيعة جاء بأبي نخيلة فأدخله على المنصور فقام فأنشد الشعر على رؤوس الناس وهي قصيدته التي يقول فيها ( بل يا أمين الواحد الموحَّدِ ... إنّ الذي ولاك ربُّ المسجدِ ) ( ليس وليّ عهدنا بالأسعَد ... عيسى فزحلفها إلى محمد ) ( من عند عيسى معهداً عن معهد ... حتى تُؤدَّى من يد إلى يد ) قال فأعطاه المنصور عشرة آلاف درهم قال وبايع لمحمد بالعهد فانصرف عيسى بن موسى إلى منزله قال فحدثني داود بن عيسى بن موسى قال جمعنا أبي فقال يا بني قد رأيتم ما جرى فأيما أحب إليكم أن يقال لكم يا بني المخلوع أو يقال لكم يا بني المفقود فقلنا لا بل يا بني المخلوع فقال وفقتم بني وأول هذه الأرجوزة التي هذه الأبيات منها ( لم يُنسني يا بنة آل معبَدِ ... ذكراكِ تكرارُ الليالي العُوّدِ ) ( ولا ذواتُ العَصب الموَّرد ... ولو طَلْبن الوُدَّ بالتودّد ) ( ورُحن في الدُّر وفي الزبرجد ... هيهات منهن وإن لم تَعهدي ) ( نَجديةٌ ذاتُ مَعانٍ منجد ... كأنّ ريّاها بُعيد المَرقَد ) ( ريّا الخُزامي في ثَرىً جَعْدٍ ندي ... كيفَ التصابي فِعلَ من لم يهتد ) ( وقد علَتْني دِرة بادي بَدِي ... وَرْثيةٌ تنهض في تشددي ) ( بعد انتهاَضي في الشباب الأملد ... ) يقول فيها ( إلى أمير المؤمنين فاعمِد ... إلى الذي يُندي ولا يَندَى نَدي ) ( سيري إلى وبحر البحار المزْبد ... إلى الذي إن نفِدت لم ينفَد ) ( أو ثَمَّدت أشراعها لم يَثمِد ... ) ويقول في ذكر البيعة لمحمد بعد الأبيات التي مضت في صدر الخبر ( فقد رضينا بالغلام الأمرد ... وقد فَرغنا غير أن لم نشهدِ ) ( وغيرَ أنّ العَقد لم يؤكد ... فلو سمعنا قولك امدُدِ امدُد ) ( كانت لنا كزعقة الوِرد الصدي ... فنادِ للبعية جمعاً نَحشدُ ) ( في يومنا الحاضر هذا أوغد ... واصنع كما شئت ورُدّ يُردَد ) ( ورَدَّه منك رداء يرتد ... فهو رِداء السابق المقلَّد ) ( وكان يَروِي أنها كأن قد ... عادت ولو قد نقِلَت لم تُردد ) ( أقول في كرى أحاديث الغد ... لله دَري من أخ ومنشد ) ( لو نلتُ حظّ الحبشيِّ الأسود ... ) يعني أبا دلامة فأخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني أن أبا نخيلة أظهر هذه القصيدة التي رواها الخدم والخاصة وتناشدتها العامة فبلغت المنصور فدعا به وعيسى بن موسى عنده جالس عن يمينه فأنشده إياها وأنصت له حتى سمعها إلىآخرها قال أبو نخيلة فجعلت أرى فيه السرور ثم قال لعيسى بن موسى ولئن كان هذا عن رأيك لقد سررت عمك وبلغت من مرضاته أقصى ما يبلغه الولد البار السار فقال عيسى لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين قال أبو نخيلة فلما خرجت لحقني عقال بن شبة فقال أما أنت فقد سررت أمير المؤمنين ولئن تم الأمر فلعمري لتصيبن خيراً ولئن لم يتم فابتغ نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فقلت له ( علِقت معالقها وصرّ الجندُب ... ) قال المدائني وحدثني بعض موالي المنصور قال لما أراد المنصور أن يعقد للمهدي أحب أن تقول الشعراء في ذلك فحدثني عبد الجبار بن عبيد الله الحماني قال حدثني أبو نخيلة قال قدمت على أبي جعفر فأقمت ببابه شهراً لا أصل إليه فقال لي عبد الله بن الربيع الحارثي يا أبا نخيلة إن أمير المؤمنين يريد أن يقدم المهدي بين يدي عيسى بن موسى فلو قلت شيئاً تحثه على ما يريد فقلت ( ماذا على شَحْط النوى عناكا ... أم ما مرَى دمعَك من ذكراكا ) ( وقد تبكّيتَ فما أبكاكا ... ) وذكر أرجوزة طويلة يقول فيها ( خليفةَ الله وأنت ذاكا ... أسنِدْ إلى محمدٍ عصاكا ) ( فأحفَظُ الناس لها أدناكا ... وابنُك ما استكفيتَه كفاكا ) ( وكلُّنا منتظر لذاكا ... لو قلتَ هاتوا قلتُ هاك هاكا ) قال فأنشدته إياها فوصلني بألفي درهم وقال لي احذر عيسى بن موسى فإني أخافه عليك أن يغتالك قال المدائني وخلع أبو جعفر عيسى بن موسى فبعث عيسى في طلب أبي نخيلة فهرب منه وخرج يريد خراسان فبلغ عيسى خبره فجرد خلفه مولى له يقال له قطري معه عدة من مواليه وقال له نفسك نفسك أن يفوتك أبو نخيلة فخرج في طلبه مغذاً للسير فلحقه في طريقه إلى خراسان فقتله وسلخ وجهه ونسخت من كتاب القاسم بن يوسف عن خالد بن حمل أن علي بن أبي نخيلة حدثه أن المنصور أمر أبا نخيلة أن يهرب إلى خراسان فأخذه قطري وكتفه فأضجعه فلما وضع السكين على أوداجه قال إيه يا بن الخناء ألست القائل ( علِقَت معالقها وصر الجندب ... ) الآن صَر جندبك فقال لعن الله ذاك جندباً ما كان أشأم ذكره ثم ذبحه قطري وسلخ وجهه وألقى جسمه إلى النسور وأقسم لا يريم مكانه حتى تمزق السباع والطيور لحمه فأقام حتى لم يبق منه إلا عظامه ثم انصرف أخبرنا جعفر بن قدامة قال حدثنا أبو حاتم السجستاني قال حدثني الأصمعي عن سعيد بن سلم عن أبيه قال قلت لأبي الأبرش مات أبو نخيلة قال حتف أنفه قلت لا بل اغتيل فقتل فقال الحمد لله الذي قطع قلبه وقبض روحه وسفك دمه وأراحني منه وأحياني بعده وكان أبو نخيلة يهاجي الأبرش فغلبه أبو نخيلة صوت ( ولقد دخلتُ على الفتاة ... الخِدر في اليوم المطيرِ ) ( فدفعتُها فتدافعت ... مشيَ القطاة على الغدير ) ( فلثمتُها فتنفسَت ... كتنفس الظبي البهيرِ ) الشعر للمنخل اليشكري والغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وأحمد المكي تم الجزء العشرون من كتاب الأغاني ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الحادي والعشرون وأوله أخبار المنخل ونسبه بسم الله الرحمن الرحيم أخبار المنخل ونسبه هو المنخل بن عمرو - ويقال المنخل بن مسعود - بن أفلت بن عمرو بن كعب بن سواءة بن غنم بن حبيب بن يشكر بن بكر بن وائل وذكر أبو محلم النسابة أنه المنخل بن مسعود بن أفلت بن قطن بن سوءة بن مالك بن ثعلبة بن حبيب بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر وقال ابن الأعرابي هو المنخل بن الحارث بن قيس بن عمرو بن ثعلبة بن عدي بن جشم بن حبيب بن كعب بن يشكر اتهمه النعمان بامرأته المتجردة فقتله شاعر مقل من شعراء الجاهلية وكان النعمان بن المنذر قد اتهمه بامرأته المتجردة وقيل بل وجده معها وقيل بل سعي به إليه في أمرها فقتله وقيل بل حبسه ثم غمض خبره فلم تعلم له حقيقة إلى اليوم فيقال إنه دفنه حيا ويقال إنه غرقه والعرب تضرب به المثل كما تضربه بالقارظ العنزي ممن هلك ولم يعلم له خبر وقال ذو الرمة ( تُقارِب حتى تُطمِعَ التابعَ الصّبا ... وليست بأدنى من إياب المنخّلِ ) وقال النمر بن تولب ( وقَوْلِي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم ... تلاقونه حتى يؤوبَ لمنخّلُ ) أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني أحمد بن زهير قال أخبرني عبد الله بن كريم قال أخبرني أبو عمرو الشيباني قال كان سبب قتل المنخل أن المتجردة - واسمها ملوية وقيل هند بنت المنذر بن الأسود الكلبية - كانت عند ابن عم لها يقال له حلم وهو الأسود بن المنذر بن حارثة الكلبي وكانت أجمل أهل زمانها فرآها المنذر ابن المنذر الملك اللخمي فعشقها فجلس ذات يوم على شرابه ومعه حلم وامرأته المتجردة فقال المنذر لحلم إنه لقبيح بالرجل أن يقيم على المرأة زمانا طويلا حتى لا يبقى في رأسه ولا لحيته شعرة بيضاء إلا عرفتها فهل لك أن تطلق امرأتك المتجردة وأطلق امرأتي سلمى قال نعم فأخذ كل واحد منهما على صاحبه عهدا قال فطلق المنذر امرأته سلمى وطلق حلم امرأته المتجردة فتزوجها المنذر ولم يطلق لسلمى أن تتزوج حلما وهي أم ابنه النعمان بن المنذر - فقال النابغة الذبياني يذكر ذلك ( قد خادعوا حُلماً عن حرّة خَرِدٍ ... حتى تبطَّنها الخدّاع ذو الحُلُمِ ) قال ثم مات المنذر بن المنذر فتزوجها بعده النعمان بن المنذر ابنه وكان قصيرا دميما أبرش وكان ممن يجالسه ويشرب معه النابغة الذبياني - وكان جميلا عفيفا - والمنخل اليشكري - وكان جميلا - وكان يتهم بالمتجردة فأما النابغة فإن النعمان أمره بوصفها فقال قصيدته التي أولها ( ِمن آل ميّةَ رائح أو مُغْتدي ... عجلانَ ذا زادٍ وغيرَ مزوَّد ) ووصفها فأفحش فقال ( وإذا طعنتَ طعنتَ في مستهدِفٍ ... رابي المَجسّة بالعَبير مُقَرمَدِ ) ( وإذا نزعتَ نزعتَ عن مستحصِفٍ ... نزع الحَزَوّر بالرشاء المحصَدِ ) فغار المنخل من ذلك وقال هذه صفة معاين فهم النعمان بقتل النابغة حتى هرب منه وخلا المنخل بمجالسته وكان يهوى المتجردة وتهواه وقد ولدت للنعمان غلامين جميلين يشبهان المنخل وكانت العرب تقول إنهما منه فخرج النعمان لبعض غزواته - قال ابن الأعرابي بل خرج متصيدا - فبعثت المتجردة إلى المنخل فأدخلته قبتها وجعلا يشربان فأخذت خلخالها وجعلته في رجله وأسدلت شعرها فشدت خلخالها إلى خلخاله الذي في رجله من شدة إعجابها به ودخل النعمان بعقب ذلك فرآها تلك الحال فأخذه فدفعه إلى رجل من حرسه من تغلب يقال له عكب وأمره بقتله فعذبه حتى قتله فقال المنخل يحرض قومه عليه ( ألا مَن مبلِغ الحيّين عنّي ... بأن القوم قد قتلوا أُبَيّا ) ( فإن لم تثأروا لي من عِكَبٍّ ... فلا رَوَّيْتُمُ أبدا صَدِيا ) وقال أيضا ( ظلّ وسْط النديّ قتلَى بلا جُرم ... وقومي يُنتِّجون السِّخالا ) وقال في المتجردة ( دِيارٌ لِلَّتي قتلتكَ غصباً ... بلا سيفٍ يُعَدُّ ولا نِبالِ ) ( بطَرْفٍ مَيِّتٍ في عين حيٍّ ... له خَبَلٌ يزيدُ على الخَبالِ ) وقال أيضا ( ولقد دخلتُ على الفتاة ... الخِدرَ في اليومِ المَطيرِ ) ( الكاعبِ الخسناءِ تر ... فُلَ في الدِّمَقْسِ وفي الحريرِ ) ( دافعتُها فتدافَعَتْ ... مَشْيَ القطاةِ إلى الغديرِ ) ( ولثمتُها فتنفَّست ... كتنفُّسِ الظبي البَهيرِ ) ( ورَنَت وقالت يا مُنَخَّلُ ... هل بجسمك من فتورِ ) ( ما مسَّ جسمي غيرُ حُبِّكَ ... فاهدئي عنِّي وسيرِي ) ( يا هندُ هل من نائلٍ ... يا هند للعاني الأسير ) ( وأُحبُّها وتُحِبُّنِي ... ويُحِبُّ ناقتَها بعِيري ) ( ولقد شربتُ من المُدامَةِ ... بالكبيرِ وبالصغيرِ ) ( فإذا سكِرْتُ فإنَّني ... ربُّ الخوَرْنَق والسَّديرِ ) ( وإذا صحوتُ فإنَّني ... ربُّ الشُّوَيْهةِ والبعيرِ ) ( يا رُبَّ يومٍ - للمنخَّلِ ... قد لها فيه - قصير ) رواية أخرى عن علاقته بالمتجردة وشعره فيها وأخبرني بخبر المنخل مع المتجردة أيضا علي بن سليمان الأخفش قال أخبرني أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال كانت المتجردة امرأة النعمان فاجرة وكانت تتهم بالمنخل وقد ولدت للنعمان غلامين جميلين يشبهان المنخل فكان يقال إنهما منه وكان جميلا وسيما وكان النعمان أحمر أبرش قصيرا دميما وكان للنعمان يوم يركب فيه فيطيل المكث وكان المنخل من ندمائه لا يفارقه وكان يأتي المتجردة في ذلك اليوم الذي يركب فيه النعمان فيطيل عندها حتى إذا جاء النعمان آذنتها بمجيئه وليدة لها موكلة بذلك فتخرجه فركب النعمان ذات يوم وأتاها المنخل كما كان يأتيها فلاعبته وأخذت قيداً فجعلت إحدى حلقتيه في رجله والأخرى في رجلها وغفلت الوليدة عن ترقب النعمان لأن الوقت الذي يجيء فيه لم يكن قرب بعد وأقبل النعمان حينئذ ولم يطل في مكثه كما كان يفعل فدخل إلى المتجردة فوجدها مع المنخل قد قيدت رجلها ورجله بالقيد فأخذه النعمان فدفعه إلى عكب صاحب سجنه ليعذبه - وعكب رجل من لخم - فعذبه حتى قتله وقال المنخل قبل أن يموت هذه الأبيات وبعث بها إلى ابنيه ( ألا َمن مبلغ الحُرّين عنّي ... بأن القوم قد قتلوا أُبيا ) ( وإن لم تثأروا لي من عِكَبٍّ ... فلا أَرويتما أبداً صَدِيّا ) ( يُطوّف بي عِكبٌ في معدٍّ ... ويطعن بالصُّملّة في قَفَيّا ) قال ابن حبيب وزعم ابن الجصاص أن عمرو بن هند هو قاتل المنخل والقول الأول أصح وهذه القصيدة التي منها الغناء يقولها في المتجردة وأولها قوله ( إن كنتِ عاذلتي فسيري ... نحوَ العراق ولا تَحوري ) ( لا تسألي عن جُلّ ما ... لي وأذكري كرَمي وخِيري ) ( وإذا الرياح تناوحَتْ ... بجوانب البيت الكسير ) ( ألفيتِني هشّ النديِّ ... بِمرّ قدِحي أو شجيري ) الشجير القدح الذي لم يصلح حسنا ويقال بل هو القدح العارية ( ونَهَى أبو أفعى فقلّدنِي ... أبو أفعى جريري ) ( وجُلالة خطّارة ... هوجاءَ جائلةَ الضُّفور ) ( تعدو بأشعثَ قد وَهَى ... سِربالُه باقي المسير ) ( فُضُلاً على ظهر الطريقِ ... إليك علقمةَ بنَ صير ) ( الواهب الكومِ الصّفا ... يا والأوانس في الخُدورِ ) ( يُصفيك حين تجيئه ... بالعَصْب والحَلْي الكثير ) ( وفوارسٍ كأُوار حرِّ ... النار أحلاسِ الذُّكورِ ) ( شدُّوا دوابرَ بيضهم ... في كلّ محكمةِ الفتير ) ( فاستلأموا وتَلبَّبُوا ... ان التلبّب للمغير ) ( وعلى الجياد المضمَرا ... ت فوارسٌ مثل الصقور ) ( يَخرجن من خَلَل الغبا ... ر يَجِفْن بالنَّعَم الكثير ) ( فشفيتُ نفسي من أولئك ... والفوائح بالعبير ) ( يرفُلن في المسك الذكيّ ... وصائكٍ كدَمِ النّحيرِ ) ( يعكُفن مثل أساوِد التَّنُّومِ ... لم تُعكَف لِزور ) ( ولقد دخلتُ على الفتا ... ة الخِدرَ في اليومِ المَطيرِ ) ( الكاعبِ الحسناءِ تر ... فُلَ في الدِّمَقْسِ وفي الحريرِ ) ( فدفعتُها فتدافَعَتْ ... مَشْيَ القطاةِ إلى الغديرِ ) ( ولثمتُها فتنفَّست ... كتنفُّسِ الظبي البَهيرِ ) ( فَدَنَت وقالت يا مُنَخَّلُ ... ما بجسمك من فتورِ ) ( ما شفَّ جسمي غيرُ حُبِّكَ ... فاهدئي عنِّي وسيرِي ) ( ولقد شربتُ من المُدا ... مَةِ وبالصغير بالكبير ِ ) ( ولقد شرِبتُ الخمر بالخيل ... الإناث وبالذُّكورِ ) ( ولقد شرِبتُ الخمر بال ... الصحيح وبالأَسِيرِ ) ( فإذا سكِرْتُ فإنَّني ... ربُّ الخوَرْنَق والسَّديرِ ) ( وإذا صحوتُ فإنَّني ... ربُّ الشُّوَيْهةِ والبعيرِ ) ( يا رُبَّ يومٍ للمنخَّلِ ... قد لها فيه قصير ) ( يا هندُ هل من نائلٍ ... يا هند للعاني الأسير ) ومن الناس من يزيد في هذه القصيدة ( وأُحبُّها وتُحِبُّنِي ... ويُحِبُّ ناقتَها بعِيري ) ولم أجده في رواية صحيحة صوت ( لِمَن شيخان قد نَشَدا كلابا ... كتابَ الله لو قَبِل الكتابا ) ( أُناشده فيُعرِض في إباءٍ ... فلا وأَبِي كلابٍ ما أصابا ) الشعر لأمية بن الأسكر الليثي والغناء لعبد الله بن طاهر رمل بالوسطى صنعه ونسبه إلى لميس جاريته وذكر الهشامي أن اللحن لها وذكره عبيد الله بن عبد الله بن طاهر في جامع أغانيهم ووقع إلي فقال الغناء فيه للدار الكبيرة وكذلك كان يكني عن أبيه وعن إسحاق بن إبراهيم ابن مصعب وجواريهم ويكني عن نفسه وجاريته شاجي وما يصنع في دور إخوته بالدار الصغيرة أخبار أمية بن الأسكر ونسبه هو أمية بن حرثان بن الأسكر بن عبد الله بن سرابيل الموت بن زهرة ابن زبينة بن جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار شاعر فارس مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وكان من سادات قومه وفرسانهم وله أيام مأثورة مذكورة وكان له أخ يقال له أبو لاعق الدم وكان من فرسان قومه وشعرائهم وابنه كلاب بن أمية أيضا أدرك النبي فأسلم مع أبيه ثم هاجر إلى النبي فقال أبوه فيه شعرا ذكر أبو عمرو الشيباني أنه هذا الشعر وهو خطأ إنما خاطبه بهذا الشعر لما غزا مع أهل العراق لقتال الفرس وخبره في ذلك يذكر بعد هذا قال أبو عمرو في خبره فأمره بصلة أبيه وملازمته طاعته وكان عمر بن الخطاب استعمل كلابا على الأبلة فكان أبواه ينتابانه يأتيه أحدهما في كل سنة ثم أبطآ عليه وكبرا فضعفا عن لقائه فقال أبياتا وأنشدها عمر فرق له ورده إليهما فلم يلبث معهما إلا مدة حتى نهشته أفعى فمات وهذا أيضا وهم من أبي عمرو وقد عاش كلاب حتى ولي لزياد الأبلة ثم استعفى فأعفاه وسأذكر خبره في ذلك وغيره هاهنا إن شاء الله تعالى شعره لابنه كلاب لما طالت غيبته فأما خبره مع عمر فإن الحسن بن علي أخبرني به قال حدثني الحارث بن محمد قال حدثني المدائني عن أبي بكر الهذلي عن الزبيري عن عروة بن الزبير قال هاجر كلاب بن أمية بن الأسكر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب فأقام بها مدة ثم لقي ذات يوم طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام فسألهما أي الأعمال أفضل في الإسلام فقالا الجهاد فسأل عمر فأغزاه في جيش وكان أبوه قد كبر وضعف فلما طالت غيبة كلاب عنه قال ( لِمَن شيخان قد نشدا كلابا ... كتابَ الله إن قَبِل الكتابا ) ( أناديه فيُعرض في إباء ... فلا وأبي كلابٍ ما أصابا ) ( إذا سجَعتْ حمامةُ بطنِ وادٍ ... إلى بَيْضاتها دعَوَا كلابا ) ( أتاه مهاجران تكنّفاه ... ففارق شيخه خَطِئا وخابا ) ( تركتَ أباك مُرعَشةً يداه ... وأُمَّك ما تُسيغ لها شرابا ) ( تُمَسّح مُهره شفقَاً عليه ... وتجنُبه أباعرَها الصعابا ) قال تجنبه وتجنبه واحد من قول الله عز و جل ( واجنبني وبني أن نعبد الأصنام ) قال ( فإنك قد تركت أباك شيخاً ... يطارق أينُقا شُزُباً طِرابا ) ( فإنك والتماسَ الأجرِ بَعدي ... كباغِي الماءِ يتّبع السرابا ) شعره في استرحام عمر لاسترداد ابنه فبلغت أبياته عمر فلم يردد كلابا وطال مقامه فأهتر أمية وخلط جزعا عليه ثم أتاه يوما وهو في مسجد رسول الله وحوله المهاجرون والأنصار فوقف عليه ثم أنشأ يقول ( أعاذلَ قد عذَلْتِ بغيرِ قدرٍ ... ولا تدرِين عاذلَ ما أُلاقي ) ( فإمّا كنتِ عاذلتي فَرُدِّي ... كِلاباً إذ توجَّه للعراق ) ( ولم أَقضِ اللُّبانة من كِلابٍ ... غداةَ غدٍ وأُذِّن بالفِراق ) ( فتى الفِتيان في عُسْرٍ ويُسرٍ ... شديدُ الرُّكن في يوم التلاقِي ) ( فلا والله ما باليتَ وَجدي ... ولا شفقي عليكَ ولا اشتياقِي ) ( وإبقائي عليكَ إذا شتَونا ... وضمَّك تحت بحري واعتناقي ) ( فلو فَلق الفؤادَ شَدِيدُ وجْدٍ ... لهَمَّ سوادُ قلبي بانفلاقِ ) ( سأَستعدي على الفاروق ربًّا ... له دُفِعَ الحجيجُ إلى بُساقِ ) ( وأدعو الله مجتهداً عليه ... ببطن الأخشَبين إلى دُفاق ) ( إنِ الفاروقُ لم يردد كلاباً ... الى شيخين هامُهما زَواق ) قال فبكى عمر بكاء شديدا وكتب برد كلاب إلى المدينة فلما قدم دخل إليه فقال ما بلغ من برك بأبيك قال كنت أوثره وأكفيه أمره وكنت أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبنا أغزر ناقة في إبله وأسمنها فأريحها وأتركها حتى تستقر ثم أغسل أخلافها حتى تبرد ثم أحتلب له فأسقيه فبعث عمر إلى أمية من جاء به إليه فأدخله يتهادى وقد ضعف بصره وانحنى فقال له كيف أنت يا أبا كلاب قال كما تراني يا أمير المؤمنين قال فهل لك من حاجة قال نعم أشتهي أن أرى كلابا فأشمه شمة وأضمه ضمة قبل أن أموت فبكى عمر ثم قال ستبلغ من هذا ما تحب إن شاء الله تعالى ثم أمر كلابا أن يحتلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث إليه بلبنها ففعل فناوله عمر الإناء وقال دونك هذا يا أبا كلاب فلما أخذه وأدناه إلى فمه قال لعمر والله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب من هذا الإناء فبكى عمر وقال هذا كلاب عندك حاضرا قد جئناك به فوثب إلى ابنه وضمه إليه وقبله وجعل عمر يبكي ومن حضره وقال لكلاب الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا ثم شأنك بنفسك بعدهما وأمر له بعطائه وصرفه مع أبيه فلم يزل معه مقيما حتى مات أبوه أصيبت إبله بالهيام فأخرجه قومه ونسخت من كتاب أبي سعيد السكري أن أمية كانت له إبل هائمة - أي أصابها الهيام وهو داء يصيب الإبل من العطش - فأخرجته بنو بكر مخافة أن يصيب إبلهم فقال لهم يا بني بكر إنما هي ثلاث ليال ليلة بالبقعاء وليلة بالفرع وليلة بلقف في سامر من بني بكر فلم ينفعه ذلك وأخرجوه فأتى مزينة فأجاروه وأقام عندهم إلى أن صحت إبله وسكنت فقال يمدح مزينة ( تكنّفها الهُيام وأخرجوها ... فما تأوي إلى إبل صِحاحٍ ) ( فكان إلى مُزَينةَ منتهاها ... على ما كان فيها من جُناح ) ( وما يكن الجُناحُ فإنّ فيها ... خلائقَ ينتمين إلى صلاح ) ( ويوما في بني ليث بن بكرٍ ... تُراعى تحت قعقعة الرماح ) ( فإمَّا أُصبِحَنْ شيخاً كبيراً ... وراء الدار يُثقِلنِي سلاحي ) ( فقد آتي الصريخَ إذا دعاني ... على ذي مَنْعة عَتِدٍ وَقاح ) ( وشرُّ أخي مؤامرةٍ خَذولٌ ... على ما كان مؤتِكلٌ ولاح ) عمَّر حتى خرف وسُخِر منه أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن عبد الله الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أبو توبة عن أبي عمرو قال عمر أمية بن الأسكر عمرا طويلا حتى خرف فكان ذات يوم جالسا في نادي قومه وهو يحدث نفسه إذ نظر إلى راعي ضأن لبعض قومه يتعجب منه فقام لينهض فسقط على وجهه فضحك الراعي منه وأقبل ابناه إليه فلما رآهما أنشأ يقول ( يا بْنَي أمية إني عنكما غانِ ... وما الغنى غير أني مُرعَشٌ فانِ ) ( يابْنَي أمية إلاّ تحفظا كِبَري ... فإنما أنتما والثُّكْلُ سِيّانِ ) ( هل لكما في تُراثٍ تذهبان به ... إن التراثَ لِهَيّان بنِ بَيّان ) - يقال هيان بن بيان وهي ترى للقريب والبعيد - ( أصبحت هُزْءاً لراعي الضأن يَسخَر بِي ... ماذا يَريبك مِنِّي راعيَ الضّان ) ( اعجَبْ لغيريَ إني تابع سلفي ... أعمامَ مجد وأجدادي وإخواني ) ( وانعَقْ بضأنك في أرض تُطِيف بها ... بين الأَساف وأنتجها بِجِلْذان ) - جلذان موضع بالطائف - ( ببلدة لا ينام الكالئان بها ... ولا يقَرُّ بها أصحابُ ألوان ) إعجاب الإمام علي بشعره وهذه الأبيات تمثل بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه في خطبة له على المنبر بالكوفة حدثنا بها أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن أبي رجاء قال حدثنا إبراهيم بن سعد قال قال عبد الله بن عدي بن الخيار شهدت الحكمين ثم أتيت الكوفة وكانت لي إلى علي عليه السلام حاجة فدخلت عليه فلما رآني قال مرحبا بك يابن أم قتال أزائرا جئتنا أم لحاجة فقلت كل جاء بي جئت لحاجة وأحببت أن أجدد بك عهدا وسألته عن حديث فحدثني على ألا أحدث به واحدا فبينا أنا يوما بالمسجد في الكوفة إذا علي صلوات الله عليه متنكب قرنا له فجعل يقول الصلاة جامعة وجلس على المنبر فاجتمع الناس وجاء الأشعث بن قيس فجلس إلى جانب المنبر فلما اجتمع الناس ورضي منهم قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أيها الناس إنكم تزعمون أن عندي من رسول الله ما ليس عند الناس ألا وإنه ليس عندي إلا ما في قرني هذا ثم نكت كنانته فأخرج منها صحيفة فيها المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم من احدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فقال له الأشعث بن قيس هذه والله عليك لا لك دعها تترحل فخفض علي - صلوات الله عليه - إليه بصره وقال ما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله ولعنة اللاعنين حائك ابن حائك منافق ابن منافق كافر ابن كافر والله لقد الإسلام مرة والكفر مرة فما فداك من واحد منهما حسبك ولا مالك ثم رفع إلي بصره فقال يا عبيد الله ( أصبحتُ قِنًّا لراعي الضأن يلعب بي ... ماذا يَريبك منِّي راعيَ الضان ) فقلت بأبي أنت وأمي قد كنت والله أحب أن أسمع هذا منك قال هو والله ذلك قال ( فما قِيلَ لي من بعدها من مقالة ... ولا عَلِقتْ مني جديدا ولا دَرْسا ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحارث عن المدائني قال لما مات أمية بن الأسكر عاد ابنه كلاب إلى البصرة فكان يغزو مع المسلمين منها مغازيهم وشهد فتوحات كثيرة وبقي إلى أيام زياد فولاه الأبلة فسمع كلاب يوما عثمان بن أبي العاص يحدث أن داود نبي الله - عليه السلام - كان يجمع أهله في السحر فيقول ادعوا ربكم فإن في السحر ساحة لا يدعو فيها عبد مؤمن إلا غفر له إلا أن يكون عشارا أو عريفا فلما سمع ذلك كلاب كتب إلى زياد فاستعفاه من عمله فأعفاه قال المدائني ولم يزل كلاب بالبصرة حتى مات والمربعة المعروفة بمربعة كلاب بالبصرة منسوبة إليه وقال أبو عمرو الشيباني كان بين بني غفار قومه وبني ليث حرب فظفرت بنو ليث بغفار فحالف رحضة بن خزيمة بن خلاف بن حارثة بن وقومه جميعا بني أسلم بن أفصى بن خزاعة فقال أمية بن الأسكر في ذلك وكان سيد بني جندع بن ليث وفارسهم ( لقد طِبْتَ نفساً عن مواليك يا رَحْضا ... وآثرتَ أذناب الشوائل والحمضا ) ( تُعللنا بالنّصر في كل شتوة ... وكلّ ربيع أنت رافضنا رفضا ) ( فلولا تأسّينا وحدُّ رماحنا ... لقد جلاّ قومٌ لحمنا تَرِباً قَضَّا ) - القض والقضيض الحصا الصغار - تمثل عبد الله بن الزبير بشعره أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب بن عبد الله عن أبيه قال افتعل عمرو بن الزبير كتابا عن معاوية إلى مروان بن الحكم بأن يدفع إليه مالا فدفعه إليه فلما عرف معاوية خبره كتب إلى مروان بأن يحبس عمرا حتى يؤدي المال فحبسه مروان وبلغ الخبر عبد الله بن الزبير فجاء إلى مروان وسأله عن الخبر فحدثه به فقال ما لكم في ذمتي فأطلق عمرا وأدى عبد الله المال عنه وقال والله إني لأؤديه عنه وإني لأعلم أنه غير شاكر ثم تمثل قول أمية بن الأسكر الليثي ( فلولا تأسّينا وحدّ رماحنا ... لقد جرّ قوم لحمنا تَرِبا قَضّا ) وقال ابن الكلبي حدثنا بعض بني الحارث بن كعب قال سيدان يخطبان ابنة له جميلة اجتمع يزيد بن عبد المدان وعامر بن الطفيل بموسم عكاظ فقدم أمية بن الأسكر ومعه بنت له من أجمل أهل زمانها فخطبها يزيد وعامر فقالت أم كلاب امرأة أمية من هذان الرجلان قال هذا ابن الديان وهذا عامر بن الطفيل قالت أعرف ابن الديان ولا أعرف عامرا قال هل سمعت بملاعب الأسنة قالت نعم والله قال فهذا ابن أخيه وأقبل يزيد فقال يا أمية أنا ابن الديان صاحب الكثيب ورئيس مذحج ومكلم العقاب ومن كان يصوب أصابعه فتنطف دما ويدلك راحتيه فتخرجان ذهبا قال أمية بخ بخ فقال عامر جدي الأحزم وعمي أبو الأصبع وعمي ملاعب الأسنة وجدي الرحال وأبي فارس قرزل قال أمية بخ بخ مرعى ولا كالسعدان فأرسلها مثلا فقال يزيد يا عامر هل تعلم شاعرا من قومي رحل بمدحه إلى رجل من قومك قال لا قال فهل تعلم أن شعراء قومك يرحلون بمدحهم إلى قومي قال نعم قال فهل لك نجم يمان أو برد يمان أو سيف يمان أو ركن يمان فقال لا قال فهل ملكناكم ولم تملكونا قال نعم فنهض يزيد وقام ثم قال ( أُمَيّ يابنَ الأسكر بنِ مُدلج ... لا تجعلَنْ هوازنا كَمذحِجِ ) ( إنك إن تلهج بأمر تلجَجِ ... ما النّبع في مغرِسه كالعَوْسج ) ( ولا الصّريحُ المحضُ كالممزَّج ... ) وقال مرة بن دودان العقيلي وكان عدوا لعامر بن الطفيل ( يا ليت شعري عنك يا يزيدُ ... ماذا الذي من عامر تريدُ ) ( لكلّ قوم فخرُهم عتيدُ ... أمُطلَقون نحن أم عبيدُ ) ( لا بل عَبيدٌ زادُنا الهَبيد ... ) فزوج أمية يزيد فقال يزيد في ذلك ( يا للرَجال لطارق الأحزان ... ولعامر بن طفيلٍ الوسنانِ ) ( كانت إتاوةُ قومه لمحرِّق ... زمناً وصارت بعدُ للنعمان ) ( عَدّ الفوارسَ من هوازن كلّهَا ... كثَفْا عليّ وجئتُ بالديان ) ( فإذا ليَ الفضلُ المبين بوالدٍ ... ضخم الدَّسِيعة أزأنيٍّ ويمان ) ( يا عامِ إنك فارسٌ متهوّرٌ ... غضُّ الشباب أخو نَديً وقيان ) ( واعلم بأنك يابن فارس قرْزَل ... دون الذي تسمو له وتُداني ) ( ليستْ فوارسُ عامرٍ بمُقِرَّةٍ ... لك بالفضيلة في بني عَيْلان ) ( فإذا لقيتَ بني الخميس ومالكاً ... وبني الضَّباب وحيَّ آل قنان ) ( فاسأل مَنِ المرةُ المُنَوَّء باسمه ... والدافعُ الأعداء عن نَجران ) ( يُعطَى المَقادةَ في فوارس قومِه ... كرما لعمرك والكريم يمان ) فقال عامر بن الطفيل مجيبا له ( يا للرجال لطارق الأحزان ... ولما يجيء به بنو الدّيانِ ) ( فخروا عليَّ بِحَبْوةٍ لمحَرِّق ... وإتاوة سلفت من النعمان ) ( ما أنت وابنَ محرقٍ وقبيلَه ... وإتاوةَ اللخميِّ في عَيْلانِ ) ( فاقصِد بذَرْعك قَصْد أمرك قصده ... ودعِ القبائل من بني قحطان ) ( إذ كان سالفُنا الإِتاوة فيهم ... أولى ففخرك فخر كل يمان ) ( وافخر بِرَهط بني الحَماس ومالك ... وابن الضِّباب وزعبل وقيان ) ( وأنا المنخل وابنُ فارس قُرْزُلٍ ... وأبو نزار زانني ونماني ) ( وإذا تعاظمت الأمور موازنا ... كنتُ المنوَّهَ باسمه والثاني ) فلما رجع القوم إلى بني عامر وثبوا على مرة بن دودان وقالوا أنت شاعر بني عامر ولم تهج بني الديان فقال ( تكلّفني هوازنُ فخْرَ قومٍ ... يقولون الأنامُ لنا عبيدُ ) ( أبوهم مَذْحِج وأبو أبيهم ... إذا ما عُدّت الآباءُ - هودُ ) ( وهل لي إن فخَرتُ بغير فخر ... مقالٌ والأنام لهم شهود ) ( فإنّا لم نزل لهمُ قطينا ... تجيء إليهمُ منا الوفود ) ( فإنّا نضرب الأحلام صفحا ... عن العلياء أو من ذا يكيد ) ( فقولوا يا بني عَيلان كنا ... قِنَّاً وما عنكم محيد ) وهذا الخبر مصنوع من مصنوعات ابن الكلبي والتوليد فيه بين وشعره شعر ركيك غث لا يشبه أشعار القوم وإنما ذكرته لئلا يخلو الكتاب من شيء قد روي شعره في يوم المريسيع وقال محمد بن حبيب فيما روى عنه أبو سعيد السكري ونسخته من كتابه قال أبو عمرو الشيباني أصيب قوم من بني جندع بن ليث بن بكر بن هوازن رهط أمية بن الأسكر يقال لهم بنو زبينة أصابهم أصحاب النبي يوم المريسيع في غزوته بني المصطلق وكانوا جيرانه يومئذ - ومعهم ناس من بني لحيان من هذيل ومع بني جندع رجل من خزاعة يقال له طارق فاتهمه بنو ليث بهم وأنه دل عليهم وكانت خزاعة مسلمها ومشركها يميلون إلى النبي على قريش فقال أمية بن الأسكر لطارق الخزاعي ( لعمرك إني والخزاعيُّ طارقا ... كنَعجة عادٍ حتفَها تتحفّر ) ( أثارت عليها شَفرةً بِكُراعها ... فظلّت بها من آخر الليل تجزَر ) ( شَمِتَّ بِقومٍ هم صديقك أُهلِكوا ... أصابهمُ يوم من الدهر أعسر ) ( كأنك لم تُنبأ بيوم ذُؤالة ... ويومٍ الرّجيع إذ تنحّر حبتر ) ( فهلاّ أباكم في هذيل وعمَّكم ... ثأرتُمْ وهمْ أعدى قلوبا وأوتر ) ( ويوم الأراك يوم أُردِف سبيكم ... صميمُ سَراة الدَّيل عبدٌ ويعمرُ ) ( وسَعْد بن ليث إذ تُسلُّ نساؤكم ... وكلب بن عوف نحرّوكم وعقّروا ) ( عجبت لشيخ من ربيعةَ مُهْتَرٍ ... أُمِرّ له يومٌ من الدهر منكَر ) فأجابه طارق الخزاعي فقال ( لعمرك ما أدري وإني لقائل ... ألى أيِّ مَن يظُنّني أتعذَّر ) ( أُعنَّف أَنْ كانت زبِينة أُهلكت ... ونال بني لحيانَ شرّ ونُفّروا ) وهذه الأبيات الابتداء والجواب تمثل بابتدائها ابن عباس في رسالة إلى معاوية وتمثل بجوابها معاوية في رسالة أجابه بها حدثني بذلك أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي العطار بالكوفة قال حدثنا الحسين بن نصر بن مزاحم المنقري قال حدثنا زيد بن المعذل النمري قال حدثنا يحيى بن شعيب الخراز قال حدثنا أبو مخنف قال لما بلغ معاوية مصاب أمير المؤمنين علي - عليه السلام - دس رجلا من بني القين إلى البصرة يتجسس الأخبار ويكتب بها إليه فدل على القيني بالبصرة في بني سليم فأخذ وقتل وكتب ابن عباس من البصرة إلى معاوية أما بعد فإنك ودسك أخا بني القين إلى البصرة تلتمس من غفلات قريش مثل الذي ظفرت به من يمانيتك لكما قال الشاعر ( لعمرك إني والخزاعيَُّ طارقا ... كنَعجة عادٍ حتفَها تتحفّر ) ( أثارت عليها شَفرةً بكُراعها ... فظلّت بها من آخر الليل تجزَرُ ) ( شَمِتَّ بقومٍ هم صديقك أُهلِكوا ... أصابهمُ يوم من الدهر أمعر ) فأجابه معاوية أما بعد فإن الحسن قد كتب إلي بنحو مما كتبت به وأنبتني بما لم أجن ظنا وسوء رأي وإنك لم تصب مثلنا ولكن مثلنا ومثلكم كما قال طارق الخزاعي ( فوالله ما أدري وإني لصادق ... إلى أيِّ من يَظنُّني أتعذَّر ) ( أُعنَّف أَنْ كانتَ زبِينةُ أُهلِكت ... ونال بني لِحيان شرّ ونُفِّروا ) صوت ( أبُنيّ إني قد كبِرتُ ورابني ... بَصرِي وفيّ لمُصلح مستمتَعُ ) ( فلئن كبِرتُ لقد دنوتُ من البلى ... وحَلّتْ لكم منِّي خَلائقُ أربع ) عروضه من الكامل والشعر لعبدة بن الطبيب والغناء لابن محرز ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها عن إسحاق وفيه لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر في مجراها عنه أيضا نسب عبدة بن الطبيب وأخباره هو فيما ذكر ابن حبيب عن ابن الأعرابي وأبو نصر أحمد بن حاتم عن الأصمعي وأبي عمرو الشيباني وأبي فروة العكلي عبدة بن الطبيب والطبيب اسمه يزيد بن عمرو بن وعلة بن أنس بن عبد الله بن عبد تيم بن جشم بن عبد شمس ويقال عبشمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم وقال ابن حبيب خاصة وقد أخبرني أبو عبيدة قال تميم كلها كانت في الجاهلية يقال لها عبد تيم وتيم صنم كان لهم يعبدونه أجاد الشعر ولم يكثر وعبدة شاعر مجيد ليس بالمكثر وهو مخضرم أدرك الإسلام فأسلم وكان في جيش النعمان بن المقرن الذين حاربوا معه الفرس بالمدائن وقد ذكر ذلك في قصيدته التي أولها ( هل حَبلُ خَوْلَة بعد الهَجر موصولُ ... أم أنت عنها بَعيدُ الدار مشغولُ ) ( حلّت خُويْلة في دارٍ مجاوِرةً ... أهلَ المدينة فيها الديك والفيل ) ( يقارعون رؤوس العُجْم ضاحيةً ... منهم فوارس لا عُزْلٌ ولا مِيل ) أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال أرثى بيت قالته العرب قول عبدة بن الطبيب ( فما كان قيس هُلكهُ هُلكَ واحدٍ ... ولكنه بُنيانُ قوم تهدَّما ) وتمام هذه الأبيات أنشدناه علي بن سليمان الأخفش عن السكري والمبرد والأحول لعبدة يرثي قيسا ( عليك سلامُ الله قيسَ بنَ عاصم ... ورحمتُه ما شاء أن يترحّما ) ( تحيةَ من أوليتَه منك نعمةً ... إذا زار عن شَحْطٍ بلادَك سلَّما ) ( وما كان قيس هُلكهُ هلكَ واحد ... ولكنه بُنيانُ قوم تهدَّما ) كان يترفع عن الهجاء ويراه ضعة أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو عثمان الأشنانداني عن التوزي عن أبي عبيدة عن يونس قال قال رجل لخالد بن صفوان كان عبدة بن الطبيب لا يحسن أن يهجو فقال لا تقل ذاك فوالله ما أبى من عي ولكنه كان يترفع عن الهجاء ويراه ضعة كما يرى تركه مروءة وشرفا قال ( وأجرأ من رأيتُ بِظَهْرِ غيبٍ ... على عيب الرجال أولوا العيوب ) أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب عن ابن الأعرابي أن عبد الملك بن مروان قال يوما لجلسائه أي المناديل أشرف فقال قائل منهم مناديل مصر كأنها غرقىء البيض وقال آخرون مناديل اليمن كأنها نور الربيع فقال عبد الملك مناديل أخي بني سعد عبدة بن الطبيب قال ( لمّا نزلنا نصبنا ظلّ أخبيةٍ ... وفارَ لِلقوم باللحم المراجيلُ ) ( وَرْدٌ وأشقرُ ما يؤنيه طابخهُ ... ما غيَّر الغليُ منه فهو مأكول ) ( ثُمّتَ قمنا إلى جُرُد مُسوَّمةٍ ... أعرافُهنّ لأيدينا مناديل ) يعني بالمراجيل المراجل فزاد فيها الياء ضرورة صوت ( إن الليالي أسرعَت في نقضي ... أخذن بعَضِي وتركن بَعْضِي ) ( حَنَيْنَ طُولي وطَوَيْن عَرْضِي ... أقعدْنَني من بعد طول نهض ) عروضه من الرجز الشعر للأغلب العجلي والغناء لعمرو بن بانة هزج بالبنصر أخبار الأغلب ونسبه هو فيما ذكر ابن قتيبة الأغلب بن جشم بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وهو أحد المعمرين عمر في الجاهلية عمرا طويلا وأدرك الإسلام فأسلم وحسن إسلامه وهاجر ثم كان فيمن توجه إلى الكوفة مع سعد بن أبي وقاص فنزلها واستشهد في وقعة بنهاوند فقبره هناك في قبور الشهداء هو أول من رجز الأراجيز من العرب ويقال إنه أول من رجز الأراجيز الطوال من العرب وإياه عن الحجاج بقوله مفتخرا ( إني أنا الأغلب أَمسى قد نشد ... ) قال ابن حبيب كانت العرب تقول الرجز في الحرب والحداء والمفاخرة وما جرى هذا المجرى فتأتي منه بأبيات يسيرة فكان الأغلب أول من قصد الرجز ثم سلك الناس بعده طريقته أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي أبو خليفة في كتابه إلينا قال أخبرنا محمد بن سلام قال حدثنا الأصمعي وأخبرنا أحمد بن محمد أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا معمر بن عبد الوارث عن أبي عمرو بن العلاء قال كانت للأغلب سرحة يصعد عليها ثم يرتجز ( قد عرَفَتْني سَرْحتي فأطَّتِ ... وقد شَمِطتُ بعدها واشمطَّتِ ) فاعترضه رجل من بني سعد ثم أحد بني الحارث بن عمرو بن كعب ابن سعد فقال له أنشد من شعر الجاهلية فأنقص عمر عطاءه ( قَبُحتَ من سالِفةٍ ومن قفا ... عبدٌ إذا ما رسب القوم طفا ) ( كما شِرار الرِّعْي أَطرافُ السّفَى ... ) أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن عباد بن حبيب المهلبي قال حدثني نصر بن ناب عن داود بن أبي هند عن الشعبي قال كتب عمر بن الخطاب إلى المغيرة بن شعبة وهو على الكوفة أن استنشد من قبلك من شعراء قومك ما قالوا في الإسلام فأرسل إلى الأغلب العجلي فاستنشده فقال ( لقد سألتَ هيِّناً موجودا ... أرجَزاً تريد أم قصيدا ) ثم أرسل إلى لبيد فقال له إن شئت مما عفا الله عنه يعني الجاهلية فعلت قال لا أنشدني ما قلت في الإسلام فانطلق لبيد فكتب سورة البقرة في صحيفة وقال أبدلني الله عز و جل بهذه في الإسلام مكان الشعر فكتب المغيرة بذلك إلى عمر فنقص عمر من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد فكتب إلى عمر يا أمير المؤمنين أتنقص عطائي أن أطعتك فرد عليه خمسمائة وأقر عطاء لبيد على ألفين وخمسمائة أخبرني محمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا علي بن القاسم عن الشعبي قال دخل الأغلب على عمر فلما رآه قال هيه أنت القائل ( أرجَزاً تريد أم قصيدَا ... لقد سألتَ هيِّناً موجودا ) فقال يا أمير المؤمنين إنما أطعتك فكتب عمر إلى المغيرة أن أردد عليه الخمس المائة وأقر الخمس المائة للبيد شعره في سجاح حين تزوجت مسيلمة الكذاب أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال قال الأغلب العجلي في سجاح لما تزوجت مسيلمة الكذاب ( لقد لقيتْ سجاح من بعد العمى ... مُلَوَّحاً في العين مجلود القَرا ) ( مثل العَتيق في شبابٍ قد أتى ... من اللُّجَيْميّين أصحابِ القِرَى ) ( ليس بذي واهنةٍ ولا نَسا ... نشا بلحم وبخبز ما اشترى ) ( حتى شتا يَنتح ذِفراه الندى ... خاظى البَضيع لحمهُ خظابظا ) ( كأنما جمَّع من لحم الخُصى ... إذا تمطَّى بين بُرديه صأَى ) ( كأنَّ عِرق أيره إذا ودى ... حَبلُ عجوز ضَفَّرت سبعَ قُوى ) ( يمشي على قوائمٍ خمس زَكا ... يرفع وُسطاهنّ من بَرد النَّدى ) ( قالت متى كنت أبا الخير متى ... قال حديثا لم يغيِّرني البِلى ) ( ولم أفارق خُلَّة لي عن قِلَى ... فانتُسفَتْ فَيشتُه ذاتُ الشَّوى ) ( كأن في أجلادها سبعَ كُلَى ... ما زال عنها بالحديث والمُنى ) ( والخلُقِ السَّفسافِ يُردِي في الردى ... قال ألا ترَينَه قالت أرى ) ( قال ألا أدخله قالت بلى ... فشام فيها مثلَ محارث الغضى ) ( يقول لما غاب فيها واستوى ... لمِثلها كنتُ أُحسِّيك الحَسا ) من أخبار سجاح وكان من خبر سجاح وادعائها النبوة وتزويج مسيلمة الكذاب إياها ما أخبرنا به إبراهيم بن النسوي يحيى عن أبيه عن شعيب عن سيف أن سجاح التميمية ادعت النبوة بعد وفاة رسول الله واجتمعت عليها بنو تميم فكان فيما ادعت أنه أنزل عليها يأيها المؤمنون المتقون لنا نصف الأرض ولقريش نصفها ولكن قريشا قوم يبغون واجتمعت بنو تميم كلها إليها لتنصرها وكان فيهم الأحنف بن قيس وحارثة بن بدر ووجوه تميم كلها وكان مؤذنها شبيب بن ربعي الرياحي فعمدت في جيشها إلى مسيلمة الكذاب وهو باليمامة وقالت يا معشر تميم اقصدوا اليمامة فاضربوا فيها كل هامة وأضرموا فيها نارا ملهامة حتى تتركوها سوداء كالحمامة وقالت لبني تميم إن الله لم يجعل هذا الأمر في ربيعة وإنما جعله في مضر فاقصدوا هذا الجمع فإذا فضضتموه كررتم على قريش فسارت في قومها وهم الدهم الداهم وبلغ مسيلمة خبرها فضاق بها ذرعا وتحصن في حجر حصن اليمامة وجاءت في جيوشها فأحاطت به فأرسل إلى وجوه قومه وقال ما ترون قالوا نرى أن نسلم هذا الأمر إليها وتدعنا فإن لم نفعل فهو البوار وكان مسيلمة ذا دهاء فقال سأنظر في هذا الأمر ثم بعث إليها إن الله تبارك وتعالى أنزل عليك وحيا وأنزل علي فهلمي نجتمع فنتدارس ما أنزل الله علينا فمن عرف الحق تبعه واجتمعنا فأكلنا العرب أكلا بقومي وقومك فبعثت إليه أفعل فأمر بقبة أدم فضربت وأمر بالعود المندلي فسجر فيها وقال أكثروا من الطيب والمجمر فإن المرأة إذا شمت رائحة الطيب ذكرت الباه ففعلوا ذلك وجاءها رسوله يخبرها بأمر القبة المضروبة للاجتماع فأتته فقالت هات ما أنزل عليك فقال ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نطفة تسعى بين صفاق وحشا من بين ذكر وأنثى وأموات وأحيا ثم إلى ربهم يكون المنتهى قالت وماذا قال ألم تر أن الله خلقنا أفواجا وجعل النساء لنا أزواجا فنولج فيهن الغراميل إيلاجا ونخرجها منهن إذا شئن إخراجا قالت فبأي شيء أمرك قال ( أَلا قومي إلى النَّيكِ ... فقد هُيِّي لك المضجعْ ) ( فإن شئتي ففي البيت ... وإن شئتي ففي المُخدعْ ) ( وإن شئتي سلقناك ... وإن شئتي على أربعْ ) ( وإن شئتي بثلثيه ... وإن شئتي به أجمعْ ) قال فقالت لا إلا به أجمع قال فقال كذا أوحى الله إلي فواقعها فلما قام عنها قالت إن مثلي لا يجري أمرها هكذا فيكون وصمة على قومي وعلي ولكني مسلمة النبوة إليك فاخطبني إلى أوليائي يزوجوك ثم أقود تميما معك فخرج وخرجت معه فاجتمع الحيان من حنيفة وتميم فقالت لهم سجاح إنه قرأ علي ما أنزل عليه فوجدته حقا فاتبعته ثم خطبها فزوجوه إياها وسألوه عن المهر فقال قد وضعت عنكم صلاة العصر فبنو تميم إلى الآن بالرمل لا يصلونها ويقولون هذا حق لنا ومهر كريمة منا لا نرده قال وقال شاعر من بني تميم يذكر أمر سجاح في كلمة له ( أضحَتْ نَبِيّتنا أنثى نطيف بها ... وأصبحت أنبياءُ الله ذُكْرانا ) قال وسمع الزبرقان بن بدر الأحنف يومئذ وقد ذكر مسيلمة وما تلاه عليهم فقال الأحنف والله ما رأيت أحمق من هذا النبي قط فقال الزبرقان والله لأخبرن بذلك مسيلمة قال إذا والله أحلف أنك كذبت فيصدقني ويكذبك قال فأمسك الزبرقان وعلم أنه قد صدق قال وحدث الحسن البصري بهذا الحديث فقال أمن والله أبو بحر من نزول الوحي قال فأسلمت سجاح بعد ذلك وبعد قتل مسيلمة وحسن إسلامها صوت ( كم ليلةٍ فيكِ بِتُّ أسهرها ... ولوعةٍ من هواك أُضمِرُها ) ( وحُرقةٍ والدموعُ تُطفئها ... ثم يعود الجوى فيُسعِرها ) ( بيضاء رُود الشباب قد غُمِسَت ... في خَجل دائب يعصفرها ) ( الله جارٌ لها فما امتلأَت ... عيناي إلا من حيثُ أُبصِرُها ) الشعر للبحتري والغناء لعريب رمل مطلق من مجموع أغانيها وهو لحن مشهور في أيدي الناس والله أعلم أخبار البحتري ونسبه هو الوليد بن عبيد الله بن يحيى بن عبيد بن شملال بن جابر بن سلمة بن مسهر بن الحارث بن خيثم بن أبي حارثة بن جدي بن تدول بن بحتر بن عتود بن عثمة بن سلامان بن ثعل بن عمرو بن الغوث بن جلهمة وهو طيىء بن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان هجاؤه جيد على ندرته ويكنى أبا عبادة شاعر فاضل فصيح حسن المذهب نقي الكلام مطبوع كان مشايخنا رحمة الله عليهم يختمون به الشعراء وله تصرف حسن فاضل نقي في ضروب الشعر سوى الهجاء فإن بضاعته فيه نزرة وجيده منه قليل وكان ابنه أبو الغوث يزعم أن السبب في قلة بضاعته في هذا الفن أنه لما حضره الموت دعابه وقال له اجمع كل شيء قلته في الهجاء ففعل فأمره بإحراقه ثم قال له يا بني هذا شيء قلته في وقت فشفيت به غيظي وكافأت به قبيحا فعل بي وقد أنقضى أربي في ذلك وإن بقي روي وللناس أعقاب يورثونهم العداء والمودة وأخشى أن يعود عليك من هذا شيء في نفسك أو معاشك لا فائدة لك ولي فيه قال فعلمت أنه قد نصحني وأشفق علي فأحرقته أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي الغوث وهذا كما قال أبو الغوث لا فائدة لك ولا لي فيه لأن الذي وجدناه وبقي في أيدي الناس من هجائه أكثره ساقط مثل قوله في ابن شير زاد ( نفقْتَ نُفُوق الحمار الذَّكَرْ ... وبان ضُراطُك عنا فمُرْ ) ومثل قوله في علي بن الجهم ( ولو أعطاك ربُّك ما تمَنَّى ... لزادك منه في غِلَظ الأيور ) ( عَلامَ طَفِقْت تهجوني مليًّا ... بما لفَقِّت من كذبٍ وزُورِ ) وأشباه لهذه الأبيات ومثلها لا يشاكل طبعه ولا تليق بمذهبه وتنبىء بركاكتها وغثاثة ألفاظها عن قلة حظه في الهجاء وما يعرف له هجاء جيد إلا قصيدتان إحداهما قوله في ابن أبي قماش ( مرّت على عَزْمِها ولم تقفِ ... مُبديةً للشِّنان والشَّنَفِ ) يقول فيها لابن أبي قماش ( قد كان في الواجب المُحقَّق أن ... تعرف ما في ضميرها النّطفِ ) ( بما تَعاطَيتَ في العيوب وما ... أُوتِيت من حكمة ومن لَطَفِ ) ( أمَا رأيت المرّيخَ قد مازج الزّهرة ... في الجدّ منه والشّرَفِ ) ( وأخبرتك النّحوسُ أنكما ... في حالتي ثابت ومُنْصَرَف ) ( من أين أعملت ذا وأنت على ... التَّقْويم والزِّيج جِدّ مُنْعكفِ ) ( أما زجرتَ الطّير العلا أو تَعَيَّفْت ... المها أَو نظرت في الكَتِفِ ) ( رذُلت في هذه الصناعةِ أو ... أكديتَ أو رمتَها على الخَرَفِ ) ( لم تَخْطُ باب الدّهليز منصرِفاً ... إلا وخَلخالُها مع الشَّنَفِ ) وهي طويلة ولم يكن مذهبي ذكرها إلا للإخبار عن مذهبه في هذا الجنس وقصيدته في يعقوب بن الفرج النصراني فإنها وإن لم تكن في أسلوب هذه وطريقتها تجري مجرى التهكم باللفظ الطيب الخبيث المعاني وهي ( تظنّ شُجُونِيَ لم تَعْتَلِجْ ... وقد خلج البَيْنُ من قد خَلَجْ ) وكان البحتري يتشبه بأبي تمام في شعره ويحذو مذهبه وينحو نحوه في البديع الذي كان أبو تمام يستعمله ويراه صاحبا وإماما ويقدمه على نفسه ويقول في الفرق بينه وبينه قول مصنف إن جيد أبي تمام خير من جيده ووسطه ورديئه خير من وسط أبي تمام ورديئه وكذا حكم هو على نفسه من أشعر هو أو أبو تمام أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن علي الياقطاني قال قلت للبحتري أيما أشعر أنت أو أبو تمام فقال جيده خير من جيدي ورديئي خير من رديئه حدثني محمد بن يحيى قال حدثني أبو الغوث يحيى بن البحتري قال كان أبي يكنى أبا الحسن وأبا عبادة فأشير علي في أيام المتوكل بأن أقتصر على أبي عبادة فإنها أشهر فاقتصرت عليها حدثني محمد قال سمعت عبد الله بن الحسين بن سعد يقول للبحتري وقد اجتمعنا في دار عبد الله بالخلد وعنده المبرد في سنة ست وسبعين ومائتين وقد أنشد البحتري شعرا لنفسه قد كان أبو تمام قال في مثله أنت والله أشعر من أبي تمام في هذا الشعر قال كلا والله إن أبا تمام للرئيس والأستاذ والله ما أكلت الخبز إلا به فقال له المبرد لله درك يا أبا الحسن فإنك تأبى إلا شرفا من جميع جوانبك حدثني محمد قال حدثني الحسين بن إسحاق قال قلت للبحتري إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام فقال والله ما ينفعني هذا القول ولا يضر أبا تمام والله ما أكلت الخبز إلا به ولوددت أن الأمر كان كما قالوا ولكني والله تابع له آخذ منه لائذ به نسيمي يركد عند هوائه وأرضي تنخفض عند سمائه حدثني محمد بن يحيى قال حدثني سوار بن أبي شراعة عن البحتري قال وحدثني أبو عبد الله الألوسي عن علي بن يوسف عن البحتري قال كان أول أمري في الشعر ونباهتي أني صرت إلى أبي تمام وهو بحمص فعرضت عليه شعري وكان الشعراء يعرضون عليه أشعارهم فأقبل علي وترك سائر من حضر فلما تفرقوا قال لي أنت أشعر من أنشدني فكيف بالله حالك فشكوت خلة فكتب إلى أهل معرة النعمان وشهد لي بالحذق بالشعر وشفع لي إليهم وقال امتدحهم فصرت إليهم فأكرموني بكتابه ووظفوا لي اربعة آلاف درهم فكانت أول مال أصبته وقال علي بن يوسف في خبره فكانت نسخة كتابه يصل كتابي هذا على يد الوليد أبي عبادة الطائي هو على بذاذته شاعر فأكرموه حدثني جحظة قال سمعت البحتري يقول كنت أتعشق غلاما من أهل منبج يقال له شقران واتفق لي سفر فخرجت فيه فأطلت الغيبة ثم عدت وقد التحى فقلت فيه وكان أول شعر قلته ( نبَتَتْ لِحْيةُ شُقرانَ ... شَقِيقِ النَّفْسِ بَعْدِي ) ( حُلِقت كيف أتته ... قبل أن يُنجِزَ وعدِي ) كيف تم التعارف بينه وبين أبي تمام وقد روي في غير هذه الحكاية أن اسم الغلام شندان حدثني علي بن سليمان قال حدثني أبو الغوث بن البحتري عن أبيه وحدثني عمي قال حدثني علي بن العباس النوبختي عن البحتري وقد جمعت الحكايتين وهما قريبتان قال أول ما رأيت أبا تمام أني دخلت على أبي سعيد محمد بن يوسف وقد مدحته بقصيدتي ( أأفاق صبٌّ من هَوىً فأُفِيقَا ... أو خان عهداً أو أطاع شفيقا ) فسر بها أبو سعيد وقال أحسنت والله يا فتى وأجدت قال وكان في مجلسه رجل نبيل رفيع المجلس منه فوق كل من حضر عنده تكاد تمس ركبته ركبته فأقبل علي ثم قال يا فتى أما تستحي مني هذا شعر لي تنتحله وتنشده بحضرتي فقال له أبو سعيد أحقا تقول قال نعم وإنما علقه مني فسبقني به إليك وزاد فيه ثم اندفع فأنشد أكثر هذه القصيدة حتى شككني علم الله في نفسي وبقيت متحيرا فأقبل علي أبو سعيد فقال يا فتي قد كان في قرابتك منا وودك لنا ما يغنيك عن هذا فجعلت أحلف له بكل محرجة من الأيمان أن الشعر لي ما سبقني إليه أحد ولا سمعته منه ولا انتحلته فلم ينفع ذلك شيئا وأطرق أبو سعيد وقطع بي حتى تمنيت أني سخت في الأرض فقمت منكسر البال أجر رجلي فخرجت فما هو إلا أن بلغت باب الدار حتى خرج الغلمان فردوني فأقبل علي الرجل فقال الشعر لك يا بني والله ما قلته قط ولا سمعته إلا منك ولكنني ظننت أنك تهاونت بموضعي فأقدمت على الإنشاد بحضرتي من غير معرفة كانت بيننا تريد بذلك مضاهاتي ومكاثرتي حتى عرفني الأمير نسبك وموضعك ولوددت ألا تلد أبدا طائية إلا مثلك وجعل أبو سعيد يضحك ودعاني أبو تمام وضمني إليه وعانقني وأقبل ولزمته بعد ذلك وأخذت عنه واقتديت به هذه رواية من ذكرت وقد حدثني علي بن سليمان الأخفش أيضا قال حدثني عبد الله بن الحسين بن سند القطربلي أن البحتري حدثه أنه دخل على أبي سعيد محمد بن يوسف الثغري وقد مدحه بقصيدة وقصده بها فألفى عنده أبا تمام وقد أنشده قصيدة له فيه فاستأذنه البحتري في الإنشاد وهو يومئذ حديث السن فقال له يا غلام أتنشدني بحضرة أبي تمام فقال تأذن ويستمع فقام فأنشده إياها وأبو تمام يسمع ويهتز من قرنه إلى قدمه استحسانا لها فلما فرغ منها قال أحسنت والله يا غلام فممن أنت قال من طيء فطرب أبو تمام وقال من طيء الحمد لله على ذلك لوددت أن كل طائية تلد مثلك وقبل بين عينيه وضمه إليه وقال لمحمد بن يوسف قد جعلت له جائزتي فأمر محمد بها فضمت إلى مثلها ودفعت إلى البحتري وأعطى أبا تمام مثلها وخص به وكان مداحا له طول أيامه ولابنه بعده ورثاهما بعد مقتليهما فأجاد ومراثيه فيهما أجود من مدائحه وروي أنه قيل له في ذلك فقال من تمام الوفاء أن تفضل المراثي المدائح لا كما قال الآخر وقد سئل عن ضعف مراثيه فقال كنا نعمل للرجاء نحن نعمل اليوم للوفاء وبينهما بعد حدثني حكم بن يحيى الكنتحي قال بعض من صفاته كان البحتري من أوسخ خلق الله ثوبا وآلة وأبخلهم على كل شيء وكان له أخ وغلام معه في داره فكان يقتلهما جوعا فإذا بلغ منهما الجوع أتياه يبكيان فيرمي إليهما بثمن أقواتهما مضيقا مقترا ويقول كلا أجاع الله أكبادكما وأعرى أجلادكما وأطال إجهادكما قال حكم بن يحيى وأنشدته يوما من شعر أبي سهل بن نوبخت فجعل يحرك رأسه فقلت له ما تقول فيه فقال هو يشبه مضغ الماء ليس له طعم ولا معنى وحدثني أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني الكاتب قال دخلت على البحتري يوما فاحتبسني عنده ودعا بطعام له ودعاني إليه فامتنعت من أكله وعنده شيخ شامي لا أعرفه فدعاه إلى الطعام فتقدم وأكل معه أكلا عنيفا فغاظه ذلك والتفت إلي فقال لي أتعرف هذا الشيخ فقلت لا قال هذا شيخ من بني الهجيم الذين يقول فيهم الشاعر ( وَبنو الهُجَيْم قبيلةٌ مَلْعونةٌ ... حُصُّ اللِّحَى مُتشابهو الأَلْوانِ ) ( لو يسمعون بأكلة أو شَرْبة ... بعُمَانَ أصبح جَمعُهم بعُمانِ ) قال فجعل الشيخ يشتمه ونحن نضحك وحدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال اجتازت جارية بالمتوكل معها كوز ماء وهي أحسن من القمر فقال لها ما اسمك قالت برهان قال ولمن هذا الماء قالت لستي قبيحة قال صبيه في حلقي فشربه عن آخره ثم قال للبحتري قل في هذا شيئا فقال البحتري ( ما شَرْبَةٌ من رَحِيق كأْسُها ذَهَبُ ... جاءت بها الحُورُ من جَنَّات رِضْوان ) ( يوما بأطيبَ من ماءٍ بلا عَطَشٍ ... شربتُه عبثاً من كف بُرْهان ) أخبرني علي بن سليمان الأخفش وأحمد بن جعفر جحظة قالا حدثنا أبو الغوث بن البحتري قال كتبت إلى أبي يوما أطلب منه نبيذا فبعث إلي بنصف قنينة دردي وكتب إلي دونكها يا بني فإنها تكشف القحط وتضبط الرهط قال الأخفش وتقيت الرهط خبره مع أحمد بن علي الاسكافي حدثني أبو الفضل عباس بن أحمد بن ثوابة قال قدم البحتري النيل على أحمد بن علي الإسكافي مادحا له فلم يثبه ثوابا يرضاه بعد أن طالت مدته عنده فهجاه بقصيدته التي يقول فيها ( ما كسبنا من أَحمدَ بنِ عَليٍّ ... ومن النَّيلِ غيرَ حُمَّى النَّيلِ ) وهجاه بقصيدة أخرى أولها ( قِصَّةُ النّيلِ فاسمعوهَا عُجابَه ... ) فجمع إلى هجائه إياه هجاء أبي ثوابة وبلغ ذلك أبي فبعث إليه بألف درهم وثياب ودابة بسرجها ولجامها فرده إليه وقال قد أسلفتكم إساءة لا يجوز معها قبول رفدكم فكتب إليه أبي أما الإساءة فمغفورة وأما المعذرة فمشكورة والحسنات يذهبن السيئات وما يأسو جراحك مثل يدك وقد رددت إليك ما رددته علي وأضعفته فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا وشكرنا وإن لم تفعل احتملنا وصبرنا فقبل ما بعث به وكتب إليه كلامك والله أحسن من شعري وقد أسلفتني ما أخجلني وحملتني ما أثقلني وسيأتيك ثنائي ثم غدا إليه بقصيدة أولها ( ضَلالٌ لها ماذا أرادت إلى الصّد ... ) وقال فيه بعد ذلك ( برقٌ أضاء العقيقَ من ضَرَمِه ... ) وقال فيه أيضا ( دانٍ دعا داعي الصَّبا فأجابَهْ ... ) قال ولم يزل أبي يصله بعد ذلك ويتابع بره لديه حتى افترقا شعره في نسيم غلامه أخبرني جحظة قال كان نسيم غلام البحتري الذي يقول فيه ( دَعا عَبْرتي تجرِي على الجَور والقصد ... ظنُّ نسيماً قارفَ الهمَّ من بعدي ) ( خلاَ ناظِري من طيفِه بعد شخصِه ... فيا عجبا للدَّهْر فقدٌ على فَقْدِ ) غلاما روميا ليس بحسن الوجه وكان قد جعله بابا من أبواب الحيل على الناس فكان يبيعه ويعتمد أن يصيره إلى ملك بعض أهل المروءات ومن ينفق عنده الأدب فإذا حصل في ملكه شبب به وتشوقه ومدح مولاه حتى يهبه له فلم يزل ذلك دأبه حتى مات نسيم فكفي الناس أمره أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال كتب البحتري إلى أبي محمد بن علي القمي يستهديه نبيذا فبعث إليه نبيذا مع غلام له أمرد فجمشه البحتري فغضب الغلام غضبا شديدا دل البحتري على أنه سيخبر مولاه بما جرى فكتب إليه ( أبا جعفرٍ كان تَجْمِيشُنا ... غلامَك إحدى الهَنات الدَّنِيّهْ ) ( بعثتَ إلينا بشمس المُدامِ ... تضيء لنا مع شمس البَرِيّهْ ) ( فليت الهديّة كان الرّسول ... وليتَ الرسولَ إلينا الهَدِيّهْ ) فبعث إليه محمد بن علي الغلام هدية فانقطع البحتري عنه بعد ذلك مدة خجلا مما جرى فكتب إليه محمد بن علي ( هجرتَ كأنّ البِرّ أعقب حِشْمَةً ... ولم أَرَ وَصْلاً قبل ذا أعقب الهَجْرا ) فقال فيه قصيدته التي أولها ( فتى مَذْحج عَفْواً فتى مذحجٍ غُفْرا ... ) وهي طويلة وقال فيه أيضا ( أمواهبٌ هاتيك أم أَنواءُ ... هُطُلٌ وأخذٌ ذَاكَ أم إعطاءُ ) ( إن دَامَ ذا أو بَعضُ ذا من فعل ذا ... ذهب السخاءُ فلا يُعَدُّ سَخاءُ ) ( ليس الذي حلّت تمِيمٌ وسْطَه الدّهناء ... لكن صدرُكَ الدهناءُ ) ( ملك أغرّ لآل طَلحة مَجدُه ... كفّاه بحرُ سماحةٍ وسماءُ ) ( وشريف أشراف إِذا احتكَّت بهم ... جُرْبُ القبائل أحسنوا وأساءوا ) ( أمحمدُ بنَ عليٍّ اسمَعْ عُذْرَةً ... فيها شفاءٌ للمُسيء ودَاءُ ) ( مالي إذا ذُكِر الكرامُ رأيتُني ... مالي مع النّفر الكرام وَفاءُ ) ( يضفو عليَّ العَذْلُ وهو مُقاربٌ ... ويَضيق عني العُذْرُ وهْو فَضاءُ ) ( إنّي هجرتُك إذ هجرتُك حِشْمةً ... لا العَوْدُ يُذْهِبُها ولا الإِبداءُ ) ( أخجلتَني بِنَدَى يديْك فسَّودت ... ما بيننا تلك اليدُ البَيضاءُ ) ( وقطَعَتني بالبرّ حتى إنّني ... متوهّم أن لا يكونَ لقاءُ ) ( ِصلَةٌ غَدَت في الناس وَهْي قطِيعَةٌ ... عجباً وبِرٌّ راح وَهْو جَفاء ) ( ليواصِلنَّك رَكْبُ شِعرِيَ سائراً ... تُهدَى به في مدحك الأَعداءُ ) ( حتى يتمّ لك الثّناءُ مُخَلَّداً ... أبداً كما دامت لك النّعماءُ ) ( فتظلَّ تَحسُدك الملوكُ الصيدُ بي ... وأظَلَّ يحْسدُني بك الشُّعراء ) مات في السكتة أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال سألني القاسم بن عبيد الله عن خبر البحتري وقد كان أسكت ومات من تلك العلة فأخبرته بوفاته وأنه مات في تلك السكتة فقال ويحه رمي في أحسنه أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني محمد بن علي الأنباري قال سمعت البحتري يقول أنشدني أبو تمام يوما لنفسه ( وسابحٍ هطلِ التَّعداء هَتّان ... على الجراء أمِينٍ غير خوَّان ) ( أظْمى الفصُوصِ ولم تظمأ قوائِمهُ ... فخلِّ عينيك في ظمآنَ رَيّانِ ) ( فلو تراه مُشِيحاً والحصى زِيَمٌ ... بين السّنابك من مثنىً ووُحدان ) ( أيقنتَ إنْ لم تثَبَّتْ أنّ حافِرَه ... من صَخْر تَدْمُر أو من وَجْه عثمان ) ثم قال لي ما هذا الشعر قلت لا أدري قال هذا هو المستطرد أو قال الاستطراد قلت وما معنى ذلك قال يريك أنه يريد وصف الفرس وهو يريد هجاء عثمان وقد فعل البحتري ذلك فقال في صفة الفرس ( ما إن يعاف قذىً ولو أوردته ... يوما خلائقَ حمْدَويْه الأحْول ) وكان حمدويه الأحول عدوا لمحمد بن علي القمي الممتدح بهذه القصيدة فهجاه في عرض مدحه محمدا والله أعلم رأي أبي تمام في شاعريته حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أبو الغوث بن البحتري قال حدثني أبي قال قال لي أبو تمام بلغني أن بني حميد أعطوك مالا جليلا فيما مدحتهم به فأنشدني شيئا منه فأنشدته بعض ما قلته فيهم فقال لي كم أعطوك فقلت كذا وكذا فقال ظلموك والله ما وفوك حقك فلم استكثرت ما دفعوه إليك والله لبيت منها خير مما أخذت ثم أطرق قليلا ثم قال لعمري لقد استكثرت ذلك واستكثر لك لما مات الناس وذهب الكرام وغاضت المكارم فكسدت سوق الأدب أنت والله يا بني أمير الشعراء غدا بعدي فقمت فقبلت رأسه ويديه ورجليه وقلت له والله لهذا القول أسر إلى قلبي وأقوى لنفسي مما وصل إلي من القوم حدثني محمد بن يحيى عن الحسن بن علي الكاتب قال قال لي البحتري أنشدت أبا تمام يوما شيئا من شعري فتمثل ببيت أوس بن حجر ( إذا مُقرَمٌ منا ذرا حدُّ نابِه ... تخمَّطَ فينا نابُ آخَر مُقرَمِ ) ثم قال لي نعيت والله إلي نفسي فقلت أعيذك بالله من هذا القول فقال إن عمري لن يطول وقد نشأ في طيء مثلك أما علمت أن خالد ابن صفوان رأى شبيب بن شيبة وهو من رهطه يتكلم فقال يا بني لقد نعى إلي نفسي إحسانك في كلامك لأنا أهل بيت ما نشأ فينا خطيب قط إلا مات من قبله فقلت له بل يبقيك الله ويجعلني فداءك قال ومات أبو تمام بعد سنة شعره في المتوكل حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو العنبس الصيمري قال كنت عند المتوكل والبحتري ينشده ( عن أيّ ثغر تبتَسِمْ ... وبأيّ طرفٍ تحتكمْ ) حتى بلغ إلى قوله ( قل للخليفَة جعفر المتوكِّلِ ... بنِ المعتصم ) ( المُبْتَدِي للمُجْتَدِي ... والمنعِمِ بنِ المُنْتقِمِ ) ( اسلَمْ لدِينِ محمدٍ ... فإذا سلمتَ فقد سَلِمْ ) قال وكان البحتري من أبغض الناس إنشادا يتشادق ويتزاور في مشيه مرة جانبا ومرة القهقري ويهز رأسه مرة ومنكبيه أخرى ويشير بكمه ويقف عند كل بيت ويقول أحسنت والله ثم يقبل على المستمعين فيقول ما لكم لا تقولون أحسنت هذا والله ما لا يحسن أحد أن يقول مثله فضجر المتوكل من ذلك وأ قبل علي وقال أما تسمع يا صيمري ما يقول فقلت بلى يا سيدي فمرني فيه بما أحببت فقال بحياتي اهجه على هذا الروي الذي أنشدنيه فقلت تأمر ابن حمدون أن يكتب ما أقول فدعا بدواة وقرطاس وحضرني على البديهة أن قلت المتوكل يأمر الصيمري أن يهجوه ( أدخلتَ رأسك في الرّحم ... وعلمتَ أنّك تنهَزمْ ) ( يا بحتريُّ حَذارِ وَيْحكَ ... من قُضاقِضةٍ ضُغُمْ ) ( فلقد أَسَلْتَ بواديَيْك ... من الهِجاسَيْلَ العَرِمْ ) ( فبأيِّ عِرْضٍ تَعتصمْ ... وبَهْتِكه جَفَّ القَلَمْ ) ( والله حِلْفَةَ صادقٍ ... وبقبر أحمد والحَرَمْ ) ( وبحقّ جعفرٍ الإما ... مِ ابنِ الإمامِ المعتَصِمْ ) ( لأصيِّرَنَّك شُهرةً ... بين المَسيِل إلى العَلَمْ ) ( حَيّ الطَّلول بذي سلَمْ ... حيث الأراكةُ والخِيَمْ ) ( يابنَ الثَّقِيلَة والثقيل ... على قُلوبِ ذَوِي النَّعَمْ ) ( وعلى الصغير مع الكبير ... من المَوالي والحَشَمْ ) ( في أي سَلْح ترتطمْ ... وبأيّ كفٍّ تلتَقِمْ ) ( يابنَ المُباحةِ للوَرَى ... أمن العفاف أم التُّهَمْ ) ( إذ رَحْلُ أختك للعَجَمْ ... وفراشُ أمِّك في الظُّلَمْ ) ( وبباب دَارِك حانَةٌ ... في بَيْتِه يُؤْتَى الحَكَمْ ) قال فغضب وخرج يعدو وجعلت أصيح به ( أدخلت رأسك في الرَّحِمْ ... وعلمتَ أنَّكَ تَنْهَزِمْ ) والمتوكل يضحك ويصفق حتى غاب عن عينه هكذا حدثني جحظة عن أبي العنبس ووجدت هذه الحكاية بعينها بخط الشاهيني حكاية عن أبي العنبس فرأيتها قريبة اللفظ موافقة المعنى لما ذكره جحظة والذي يتعارفه الناس أن أبا العنبس قال هذه الأبيات ارتجالا وكان واقفا خلف البحتري فلما ابتدأ وأنشد قصيدته ( عن أيّ ثغرٍ تبتسِمْ ... وبأيّ طرْفٍ تحتكِمْ ) صاح به أبو العنبس من خلفه ( في أَيّ سَلْح ترتَطِمْ ... وبأيّ كَفٍّ تَلْتَقِمْ ) ( أدخلتَ رأسَكَ في الرّحِم ... وعلمتَ أنك تنهزِمْ ) فغضب البحتري وخرج فضحك المتوكل حتى أكثر وأمر لأبي العنبس بعشرة آلاف درهم والله أعلم وأخبرني بهذا الخبر محمد بن يحيى الصولي وحدثني عبد الله بن أحمد بن حمدون عن أبيه قال وحدثني يحيى بن علي عن أبيه أن البحتري أنشد المتوكل وأبو العنبس الصيمري حاضر قصيدته ( عن أيّ ثغرٍ تبتسِمْ ... وبأيّ طرْفٍ تحتكِمْ ) إلى آخرها وكان إذا أنشد يختال ويعجب بما يأتي به فإذا فرغ من القصيدة رد البيت الأول فلما رده بعد فراغه منها وقال ( عن أيّ ثغرٍ تبتسِمْ ... وبأيّ طرْفٍ تحتكِمْ ) قال أبو العنبس وقد غمزه المتوكل أن يولع به ( في أَيّ سَلْحٍ ترْتَطِمْ ... وبأيّ كَفٍّ تَلْتَقِمْ ) ( أدخلتَ رأسَكَ في الرّحِم ... وعلمتَ أنك تَنْهَزِمْ ) فقال نصف البيت الثاني فلما سمع البحتري قوله ولى مغضبا فجعل أبو العنبس يصيح به ( وعلمتَ أنك تنهزم ... ) فضحك المتوكل من ذلك حتى غلب وأمر لأبي العنبس بالصلة التي أعدت للبحتري قال أحمد بن زياد فحدثني أبي قال جاءني البحتري فقال لي يا أبا خالد أنت عشيرتي وابن عمي وصديقي وقد رأيت ما جرى علي أفتأذن لي أن أخرج إلى منبج بغير إذن فقد ضاع العلم وهلك الأدب فقلت لا تفعل من هذا شيئا فإن الملوك تمزح بأعظم مما جرى ومضيت معه إلى الفتح فشكا إليه ذلك فقال له نحوا من قولي ووصله وخلع عليه فسكن إلى ذلك الصيمري يصر على هجائه بعد موت المتوكل حدثني جحظة عن علي بن يحيى المنجم قال لما قتل المتوكل قال أبو العنبس الصيمري ( يا وحشةَ الدنيا على جَعْفَرٍ ... على الهمام الملك الأزْهَرِ ) ( على قتيلٍ من بني هاشمٍ ... بين سرير المُلْك والمِنْبَرِ ) ( واللهِ ربِّ البَيْتِ والمَشْعَرِ ... والله أن لو قُتِل البُحْتُرِي ) ( لثارَ بالشّام له ثائِرٌ ... في ألف نَغْلٍ من بني عَضْ خَرى ) ( يقدُمهم كُلُّ أخي ذِلَّة ... على حمارٍ دابِرٍ أعورِ ) فشاعت الأبيات حتى بلغت البحتري فضحك ثم قال هذا الأحمق يرى أني أجيبه على مثل هذا فلو عاش امرؤ القيس فقال من كان يجيبه ذكر نتف من أخبار عريب مستحسنة منزلتها في الغناء والشعر والخط كانت عريب مغنية محسنة وشاعرة صالحة الشعر وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام ونهاية في الحسن والجمال والظرف وحسن الصورة وجودة الضرب وإتقان الصنعة والمعرفة بالنعم والأوتار والرواية للشعر والأدب لم يتعلق بها أحد من نظرائها ولا رئي في النساء بعد القيان الحجازيات القديمات مثل جميلة وعزة الميلاء وسلامة الزرقاء ومن جرى مجراهن على قلة عددهن نظير لها وكانت فيها من الفضائل التي وصفناها ما ليس لهن مما يكون لمثلها من جواري الخلفاء ومن نشأ في قصور الخلافة وغذي برقيق العيش الذي لا يدانيه عيش الحجاز والنش بين العامة والعرب الجفاة ومن غلظ طبعه وقد شهد لها بذلك من لا يحتاج مع شهادته إلى غيره أخبرني محمد بن خلف وكيع عن حماد بن إسحاق قال قال لي أبي ما رأيت امرأة أضرب من عريب ولا أحسن صنعة ولا أحسن وجها ولا أخف روحا ولا أحسن خطايا ولا أسرع جوابا ولا ألعب بالشطرنج والنرد ولا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها قال حماد فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم في حياة أبي فقال صدق أبو محمد هي كذلك قلت أفسمعتها قال نعم هناك يعني في دار المأمون قلت أفكانت كما ذكر أبو محمد في الحذق فقال يحيى هذه مسألة الجواب فيها على أبيك فهو أعلم مني بها فأخبرت بذلك أبي فضحك ثم قال ما استحييت من قاضي القضاة أن تسأله عن مثل هذا أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي قال قال لي إسحاق كانت عندي صناجة كنت بها معجبا واشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذ أتاني إنسان يدق الباب دقا شديدا فقلت أنظروا من هذا فقالوا رسول أمير المؤمنين فقلت ذهبت صناجتي تجده ذكرها له ذاكر فبعث إلي فيها فلما مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب وأنا مثخن فدخلت فسلمت فرد علي السلام ونظر إلى تغير وجهي فقال لي اسكن فسكنت فقال لي غن صوتا وقال لي أتدري لمن هو فقلت أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله ذلك فأمر جارية من وراء الستارة فغنته وضربت فإذا هي قد شبهته بالغناء القديم فقلت زدني معها عودا آخر فإنه أثبت لي فزادني عودا آخر فقلت هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة قال من أين قلت ذاك قلت لما سمعت لينه عرفت أنه محدث منغناء النساء ولما رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته ضاربة وقد حفظت مقاطعه وأجزاءه ثم طلبت عودا آخر فلم أشك فقال صدقت الغناء لعريب عدت أصواتها فكانت ألفا قال ابن المعتز وقال يحيى بن علي أمرني المعتمد على الله أن أجمع غناءها الذي صنعته فأخذت منها دفاترها وصحفها التي كانت قد جمعت فيها غناءها فكتبته فكان ألف صوت وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه أنه سال عريب عن صنعتها فقالت قد بلغت إلى هذا الوقت ألف صوت وحدثني محمد بن إبراهيم قريض أنه جمع غناءها من ديواني ابن المعتز وأبي العبيس بن حمدون وما أخذه عن بدعة جاريتها التي أعطاها إياها بنو هاشم فقابل بعضه ببعض فكان ألفا ومائة وخمسة وعشرين صوتا وذكر العتابي أن أحمد بن يحيى حدثه قال سمعت أبا عبد الله الهشامي يقول وقد ذكرت صنعة عريب صنعتها مثل قول أبي دلف في خالد بن يزيد حيث يقول ( يا عينُ بَكى خالِداً ... أَلْفا ويُدْعَى واحدَا ) يريد أن غناءها ألف صوت في معنى واحد فهي بمنزلة صوت واحد وحكى عنه أيضا هذه الحكاية ابن المعتز وهذا تحامل لا يحل ولعمري إن في صنعتها لأشياء مرذولة لينة وليس ذلك مما يضعها ولا عري كبير أحد من المغنين القدماء والمتأخرين من أن يكون في صنعته النادر والمتوسط سوى قوم معدودين مثل ابن محرز ومعبد في القدماء ومث ل إسحاق وحده في المتأخرين وقد عيب بمثل هذا ابن سريج في محله فبلغه أن المغنين يقولون إنما يغني ابن سريج الأرمال والخفاف وغناؤه يصلح للأعراس والولائم فبلغه ذلك فتغنى بقوله ( لقد حبَّبَتْ نُعمٌ إلينا بوجهها ... مساكنَ ما بين الوتائِر فالنَّقْعِ ) ثم توفي بعدها وغناؤه يجري مجرى المعيب عليه وهذا إسحاق يقول في أبيه على عظيم محله في هذه الصناعة وما كان إسحاق يشيد به من ذكره وتفضيله على ابن جامع وغيره ولأبي ستمائة صوت منها مائتان تشبه فيها بالقديم وأتى بها في نهاية من الجودة ومائتان غناء وسط مثل أغاني سائر الناس ومائتان فلسية وددت أنه لم يظهرها وينسبها لنفسه فأسترها عليه فإذا كان هذا قول إسحاق في أبيه فمن يعتذر بعده من أن يكون له جيد ورديء وما عري أحد في صناعة من الصناعة من حال ينقصه عن الغاية لأن الكمال شيء تفرد الله العظيم به والنقصان جبلة طبع بني آدم عليها وليس ذلك إذا وجد في بعض أغاني عريب مما يدعو إلى إسقاط سائرها ويلزمه اسم الضعف واللين وحسب المحتج لها شهادة إسحاق بتفضيلها وقلما شهد لأحد أو سلم خلق وإن تقدم وأجمع على فضله من شينه إياه وطعنه عليه لنفاسته في هذه الصناعة واستصغاره أهلها فقد تقدم في أخباره مع علوية ومخارق وعمرو بن بانة وسليم بن سلام وحسين بن محرز ومن قبلهم ومن فوقهم مثل ابن جامع وإبراهيم بن المهدي وتهجينه إياهم وموافقته لهم على خطئهم فيما غنوه وصنعوه مما يستغنى به عن الإعادة في هذا الموضع فإذا انضاف فعله هذا بهم وتفضيله إياها كان ذلك أدل دليل على التحامل ممن طعن عليها وإبطاله فيما ذكرها به ولقائل ذلك وهو أبو عبد الله الهشامي سبب كان يصطنعه عليها فدعاه إلى ما قال نذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى ومما يدل على إبطاله أن المأمون أراد أن يمتحن إسحاق في المعرفة بالغناء القديم والحديث فامتحنه بصوت من غنائها من صنعتها فكاد يجوز عليه لولا أنه أطال الفكر والتلوم واستثبت مع علمه بالمذاهب في الصنعة وتقدمه في معرفة النغم وعللها والإيقاعات ومجاريها وأخبرنا بذلك يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي عن إسحاق فأما السبب الذي كان من أجله يعاديها الهشامي فأخبرني به يحيى بن محمد بن عبد الله بن طاهر قال ذكر لأبي أحمد عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عمي أن الهشامي زعم أن أحسن صوت صنعته عريب ( صَاحِ قد لمتَ ظالما ... ) وأن غناءها بمنزلة قول ابي دلف في خالد ( يا عينُ بَكى خالِداً ... أَلْفا ويُدْعَى واحدَا ) فقال ليس الأمر كما ذكر ولعريب صنعة فاضلة متقدمة وإنما قال هذا فيها ظلما وحسدا وغمطها ما تستحقه من التفضيل بخبر لها معه طريف فسألناه عنه فقال أخرجت الهشامي معي إلى سر من رأى بعد وفاة أخي يعني أبا محمد بن عبد الله بن طاهر فأدخلته على المعتز وهو يشرب وعريب تغني فقال له يا بن هشام غن فقال تبت من الغناء مذ قتل سيدي المتوكل فقالت له عريب قد والله أحسنت حيث تبت فإن غناءك كان قليل المعنى لا متقن ولا صحيح ولا مطرب فأضحكت أهل المجلس جميعا منه فخجل فكان بعد ذلك يبسط لسانه فيها ويعيب صنعتها ويقول هي ألف صوت في العدد وصوت واحد في المعنى وليس الأمر كما قاله إن لها لصنعة تشبهت فيها بصنعة الأوائل وجودت وبرزت فيها منها ( أئن سكنت نَفْسِي وقلَّ عَويلُها ... ) ومنها ( تقول هَمِّي يومَ وَدَّعتها ... ) ومنها ( إذا أردت انتصافا كان ناصركم ... ) ومنها ( بأبي من هو دائي ... ) ومنها ( أسلموها في دمشقَ كما ... ) ومنها ( فلا تتعنّتي ظلما وزورا ... ) ومنها ( لقد لام ذا الشوق الخَلِيُّ من الهوى ... ) ونسخت ما أذكره من أخبارها فأنسبه إلى ابن المعتز من كتاب دفعه إلي محمد بن إبراهيم الجراحي المعروف بقريض وأخبرني أن عبد الله بن المعتز دفعه إليه من جمعه وتأليفه فذكرت منها ما استحسنته من أحاديثها إذ كان فيها حشو كثير وأضفت إليه ما سمعته ووقع إلي غير مسموع مجموعا ومتفرقا ونسبت كل رواية إلى راويها نسبها قال ابن المعتز حدثني الهاشمي أبو عبد الله وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قالا كانت عريب لعبد الله بن إسماعيل صاحب مراكب الرشيد وهو الذي رباها وأدبها وعلمها الغناء قال ابن المعتز وحدثني غير الهشامي عن إسماعيل بن الحسين خال المعتصم أنها بنت جعفر بن يحيى وأن البرامكة لما انتهبوا سرقت وهي صغيرة قال فحدثني عبد الواحد بن إبراهيم بن محمد بن الخصيب قال حدثني من أثق به عن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي أن أم عريب كانت تسمى فاطمة وكانت قيمة لأم عبد الله بن يحيى بن خالد وكانت صبية نظيفة فرآها جعفر بن يحيى فهويها وسأل أم عبد الله أن تزوجه إياها ففعلت وبلغ الخبر يحيى بن خالد فأنكره وقال له أتتزوج من لا تعرف لها أم ولا أب اشتر مكانها مائة جارية وأخرجها فأخرجها وأسكنها دارا في ناحية باب الأنبار سرا من أبيه ووكل بها من يحفظها وكان يتردد إليها فولدت عريب في سنة إحدى وثمانين ومائة فكانت سنوها إلى أن ماتت ستا وتسعين سنة قال وماتت أم عريب في حياة جعفر فدفعها إلى امرأة نصرانية وجعلها داية لها فلما حدثت الحادثة بالبرامكة باعتها من سنبس النخاس فباعها من المراكبي قال ابن المعتز وأخبرني يوسف بن يعقوب أنه سمع الفضل بن مروان يقول كنت إذا نظرت إلى قدمي عريب شبهتهما بقدمي جعفر بن يحيى قال وسمعت من يحكي أن بلاغتها في كتبها ذكرت لبعض الكتاب فقال فما يمنعها من ذلك وهي بنت جعفر بن يحيى وأخبرني جحظة قال دخلت إلى عريب مع شروين المغني وأبي العبيس بن حمدون وأنا يومئذ غلام علي قباء ومنطقة فأنكرتني وسألت عني فأخبرها شروين وقال هذا فتى من أهلك هذا ابن جعفر بن موسى ابن يحيى بن خالد وهو يغني بالطنبور فأدنتني وقربت مجلسي ودعت بطنبور وأمرتني بأن أغني فغنيت أصواتا فقالت قد أحسنت يا بني ولتكونن مغنيا ولكن إذا حضرت بين هذين الأسدين ضعت أنت وطنبورك بين عوديهما وأمرت لي بخمسين دينارا قال ابن المعتز وحدثني ميمون بن هارون قال حدثتني عريب قالت بعث الرشيد إلى أهلها تعني البرامكة رسولا يسألهم عن حالهم وأمره ألا يعلمهم أنه من قبله قالت فصار إلى عمي الفضل فساله فأنشأ عمي يقول صوت ( سأَلُونا عن حالنا كيف أنتمُ ... مَنْ هَوَى نَجمهُ فكيفَ يكونُ ) ( نحن قومٌ أصابنا حادث الدَّهْرِ ... فَظَلْنا لريبه نَسْتكِينُ ) ذكرت عريب أن هذا الشعر للفضل بن يحيى ولها فيه لحنان ثاني ثقيل وخفيف ثقيل كلاهما بالوسطى وهذا غلط من عريب ولعله بلغها أن الفضل تمثل بشعر غير هذا فأنسيته وجعلت هذا مكانه فأما هذا الشعر فللحسين بن الضحاك لا يشك فيه يرثي به محمدا الأمين بعد قوله ( نحن قومٌ أصابنا عَنَتُ الدَّهْ ... فَظَلْنا لريبه نَسْتَكِينُ ) ( نتمَنَّى من الأَمين إياباً ... كلَّ يوم وأينَ منّا الأَمينُ ) وهي قصيدة هربت إلى معشوقها ومكثت عنده زمانا قال ابن المعتز وحدثني الهشامي أن مولاها خرج إلى البصرة وأدبها وخرجها وعلمها الخط والنحو والشعر والغناء فبرعت في ذلك كله وتزايدت حتى قالت الشعر وكان لمولاها صديق يقال له حاتم بن عدي من قواد خراسان وقيل إنه كان يكتب لعجيف على ديوان الفرض فكان مولاها يدعوه كثيرا ويخالطه ثم ركبه دين فاستتر عنده فمد عينه إلى عريب فكاتبها فأجابته وكانت المواصلة بينهما وعشقته عريب فلم تزل تحتال حتى اتخذت سلما من عقب وقيل من خيوط غلاظ وسترته حتى إذا همت بالهرب إليه بعد انتقاله عن منزل مولاها بمدة وقد أعد لها موضعا لفت ثيابها وجعلتها في فراشها بالليل ودثرتها بدثارها ثم تسورت من الحائط حتى هربت فمضت إليه فمكثت عنده زمانا قال وبلغني أنها لما صارت عنده بعث إلى مولاها يستعير منه عودا تغنيه به فأعاره عودها وهو لا يعلم أنها عنده ولا يتهمه بشيء من أمرها فقال عيسى بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي وهو عيسى ابن زينب يهجو أباه ويعيره بها وكان كثيرا ما يهجوه ( قاتلَ الله عَرِيبَا ... فعَلت فِعْلاً عَجِيبَا ) ( رَكِبَتْ والليلُ دَاجٍ ... مركباً صَعْباً مهوبا ) ( فارتقَتْ مُتَّصِلاً بالنَّجم ... أو منه قريبا ) ( صبرت حتى إذا ما ... أقصد النّومُ الرَّقيبا ) ( مَثَّلت بين حَشَايَاها ... لِكيلا تَسْترِيبَا ) ( خَلفاً منها إذا نودِي ... َ لم يُلفَ مُجيبَا ) ( ومضت يحملها الخوفُ ... قَضِيبَاً وكَثِيبا ) ( مُحَّةً لو حُرِّكَت خِفْتَ عليها أن تَذُوبا ) ( فتدلَّتْ لمُحِبٍّ ... فتلقّاها حَبِيبَا ) ( جَذِلاً قد نال في الدُّنْيا ... من الدُّنيا نصِيبا ) ( أيّها الظَّبْي الذي تَسْحَرُ ... عيناه القُلُوبَا ) ( والذي يأكل بعضاً ... بَعضُه حُسناً وطِيبا ) ( كُنتَ نَهْباً لذئابٍ ... فَلَقَدْ أطعمْتَ ذِيَبا ) ( وكذا الشاةُ إذا لم ... يَكُ راعيها لَبيبَا ) ( لا يُبالِي وَبأَ المَرْعَى ... إذا كان خَصِيبا ) ( فلقد أصبح عبدُ الله ... كشخانَ حَريبَا ) ( قد لعمري لَطَم الوَجهَ ... وقد شَقَّ الجُيوبَا ) ( وجرت منه دُموعٌ ... بلَّت الشَّعْر الخَضِيبَا ) وقال ابن المعتز حدثنا محمد بن موسى بن يونس أنها ملته بعد ذلك فهربت منه فكانت تغني عند أقوام عرفتهم ببغداد وهي متسترة متخفية فلما كان يوم من الأيام اجتاز ابن أخ للمراكبي ببستان كانت فيه مع قوم تغني فسمع غناءها فعرفه فبعث إلى عمه من وقته وأقام هو بمكانه فلم يبرح حتى جاء عمه فلببها وأخذها فضربها مائة مقرعة وهي تصيح يا هذا لم تقتلني أنا لست أصبر عليك أنا امرأة حرة إن كنت مملوكة فبعني لست أصبر على الضيقة فلما كان من غد ندم على فعله وصار إليها فقبل رأسها ورجلها ووهب لها عشرة آلاف درهم ثم بلغ محمدا الأمين خبرها فأخذها منه قال وكان خبرها سقط إلى محمد في حياة أبيه فطلبها منه فلم يجبه إلى ما سأل وقبل ذلك ما كان طلب منه خادما عنده فاضطغن لذلك عليه فلما ولي الخلافة جاء المراكبي ومحمد راكب ليقبل يده فأمر بمنعه ودفعه ففعل ذلك الشاكري فضربه المراكبي له أتمنعني من يد سيدي أن أقبلها فجاء الشاكري لما نزل محمد فشكاه فدعا محمد بالمراكبي وأمر بضرب عنقه فسئل في أمره فأعفاه وحبسه وطالبه بخمسمائة ألف درهم مما اقتطعه من نفقات الكراع وبعث فأخذ عريب من منزله مع خدم كانوا له فلما قتل محمد هربت إلى المراكبي فكانت عنده قال وأنشدني بعض أصحابنا لحاتم بن عدي الذي كانت عنده لما هربت إليه ثم ملته فهربت منه وهي أبيات عدة هذان منها ( ورُشُّوا على وَجْهي من الماء واندُبُوا ... قتيلَ عَريبٍ لا قتيلَ حُروبِ ) ( فليتكِ إن عجَّلتني فقتَلتِني ... تَكونِين من بعد الممات نصِيبي ) قال ابن المعتز وأما رواية إسماعيل بن الحسين خال المعتصم فإنها تخالف هذا وذكر أنها إنما هربت من دار مولاها المراكبي إلى محمد بن حامد الخاقاني المعروف بالخشن أحد قواد خراسان قال وكان أشقر أصهب الشعر أزرق وفيه تقول عريب ولها فيه هزج ورمل من روايتي الهشامي وأبي العباس ( بأبي كلّ أزرقٍ ... أَصهبِ اللون أشقرِ ) ( جُنّ قلبي به وليسَ ... جُنُوني بمُنْكَرِ ) تقول الشعر الفاحش قال ابن المعتز وحدثني ابن المدبر قال خرجت مع المأمون إلى أرض الروم أطلب ما يطلبه الأحداث من الرزق فكنا نسير مع العسكر فلما خرجنا من الرقة رأينا جماعة من الحرم في العماريات على الجمازات وكنا رفقة وكنا أترابا فقال لي أحدهم على بعض هذه الجمازات عريب فقلت من يراهنني أمر في جنبات هذه العماريات وأنشد أبيات عيسى بن زينب ( قاتلَ الله عَرِيبَا ... فعَلت فِعْلاً عَجِيبَا ) فراهنني بعضهم وعدل الرهنان وسرت إلى جانبها فأنشدت الأبيات رافعا صوتي بها حتى أتممتها فإذا أنا بامرأة قد أخرجت رأسها فقالت يا فتى أنسيت أجود الشعر وأطيبه أنسيت قوله ( وعَرِيبٌ رَطْبَةُ الشَّفْرَيْنِ ... قد نِيكَتْ ضُرُوبَا ) اذهب فخذ ما بايعت فيه ثم ألقت السجف فعلمت أنها عريب وبادرت إلى أصحابي خوفا من مكروه يلحقني من الخدم شعر في مظلومة رقيبة عريب أخبرني إسماعيل بن يونس قال قال لنا عمر بن شبة كانت للمراكبي جارية يقال لها مظلومة جميلة الوجه بارعة الحسن فكان يبعث بها مع عريب إلى الحمام أو إلى من تزوره من أهله ومعارفه فكانت ربما دخلت معها إلى ابن حامد الذي كانت تميل إليه فقال فيها بعض الشعراء وقد رآها عنده ( لقد ظلموكِ يا مظلومَ لمّا ... أقاموكِ الرَّقيبَ على عَريبِ ) ( ولو أَوْلَوكِ إنصافاً وَعَدْلا ... لما أخلوْكِ أنت من الرّقيبِ ) ( أتَنْهَيْنَ المُريبَ عن المعاصي ... فكيف وأنتِ من شأنِ المُريبِ ) ( وكيف يُجانِبُ الجاني ذنوباً ... لديك وأنت داعِيَةُ الذُّنوبِ ) ( فإن يَسْتَرْقِبُوكِ على عَرِيبٍ ... فما رَقَبُوك من غيبِ القلوبِ ) وفي هذا المعنى وإن لم يكن من جنس ما ذكرته ما أنشدنيه علي بن سليمان الأخفش في رقيبة مغنية استحسنت وأظنه للناشىء ( فديتُكِ لو أنهم أنصَفُوا ... لقد منعوا العينَ عن ناظَرَيْكِ ) ( ألم يقرءوا ويحهم ما يرون ... من وحي طَرْفك في مُقْلَتَيْكِ ) ( وقد بعثوك رَقِيباً لنا ... فمن ذا يكون رَقِيباً عليكِ ) ( تصُدِّين أعْيُنَنا عن سواك ... وهل تنظر العينُ إلا إليكِ ) محمد الأمين يبعث في إحضارها واحضار مولاها قال ابن المعتز وحدثني عبد الواحد بن إبراهيم عن حماد بن إسحاق عن أبيه وعن محمد بن إسحاق البغوي عن إسحاق بن إبراهيم أن خبر عريب لما نمي إلى محمد الأمين بعث في إحضارها وإحضار مولاها فأحضرا وغنت بحضرة إبراهيم بن المهدي تقول ( لكلّ أُناسٍ جَوْهَر متنافسٌ ... وأنتِ طِرازُ الآنساتِ المَلائح ) فطرب محمد واستعاد الصوت مرارا وقال لإبراهيم يا عم كيف سمعت قال يا سيدي سمعت حسنا وإن تطاولت بها الأيام وسكن روعها ازداد غناؤها حسنا فقال للفضل بن الربيع خذها إليك وساوم بها ففعل فاشتط مولاها في السوم ثم أوجبها له بمائة ألف دينار وانتقض أمر محمد وشغل عنها وشغلت عنه فلم يأمر لمولاها بثمنها حتى قتل بعد أن أفتضها فرجعت إلى مولاها ثم هربت منه إلى حاتم بن عدي وذكر باقي الخبر كما ذكره من تقدم وقال في خبره إنها هربت من مولاها إلى ابن حامد فلم تزل عنده حتى قدم المأمون بغداد فتظلم إليه المراكبي من محمد بن حامد فأمر بإحضاره فأحضر فسأله عنها فأنكر فقال له المأمون كذبت قد سقط إلي خبرها وأمر صاحب الشرطة أن يجرده في مجلس الشرطة ويضع عليه السياط حتى يردها فأخذه وبلغها الخبر فركبت حمار مكار وجاءت وقد جرد ليضرب وهي مكشوفة الوجه وهي تصيح أنا عريب إن كنت مملوكة فليبعني وإن كنت حرة فلا سبيل له علي فرفع خبرها إلى المأمون فأمر بتعديلها عند قتيبة بن زياد القاضي فعدلت عنده وتقدم إليه المراكبي مطالبا بها فسأله البينة على ملكه إياها فعاد متظلما إلى المأمون وقال قد طولبت بما لم يطالب به أحد في رقيق ولا يوجد مثله في يد من ابتاع عبدا أو أمة وتظلمت إليه زبيدة وقالت من أغلظ ما جرى علي بعد قتل محمد ابني هجوم المراكبي على داري وأخذه عريبا منها فقال المراكبي إنما أخذت ملكي لأنه لم ينقدني الثمن فأمر المأمون بدفعها إلى محمد بن عمر الواقدي وكان قد ولاه القضاء بالجانب الشرقي فأخذها من قتيبة بن زياد فأمر ببيعها ساذجة فاشتراها المأمون بخمسين ألف درهم فذهبت به كل مذهب ميلا إليها ومحبة لها قال ابن المعتز ولقد حدثني علي بن يحيى المنجم أن المأمون قبل في بعض الأيام رجلها قال فلما مات المأمون بيعت في ميراثه ولم يبع له عبد ولا أمة غيرها فاشتراها المعتصم بمائة ألف درهم وأعتقها فهي مولاته وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أنها لما هربت من دار محمد حين قتل تدلت من قصر الخلد بحبل إلى الطريق وهربت إلى حاتم بن عدي وأخبرني جحظة عن ميمون بن هارون أن المأمون اشتراها بخمسة آلاف دينار ودعا بعبد الله بن إسماعيل فدفعها إليه وقال لولا أني حلفت ألا أشتري مملوكا بأكثر من هذا لزدتك ولكني سأوليك عملا تكسب فيه أضعافا لهذا الثمن مضاعفة ورمى إليه بخاتمين من ياقوت أحمر قيمتهما ألف دينار وخلع عليه خلعا سنية فقال يا سيدي إنما ينتفع الأحياء بمثل هذا وأما أنا فإني ميت لا محالة لأن هذه الجارية كانت حياتي وخرج عن حضرته فاختلط وتغير عقله ومات بعد أربعين يوما قال ابن المعتز فحدثني علي بن يحيى قال حدثني كاتب الفضل بن مروان قال حدثني إبراهيم بن رباح قال كنت أتولى نفقات المأمون فوصف له إسحاق بن إبراهيم الموصلي عريب فأمره أن يشتريها فاشتراها بمائة ألف درهم فأمرني المأمون بحملها وأن أحمل إلى إسحاق مائة ألف درهم أخرى ففعلت ذلك ولم أدر كيف أثبتها فحكيت في الديوان أن المائة الألف خرجت في ثمن جوهرة والمائة الألف الأخرى خرجت لصائغها ودلالها فجاء الفضل بن مروان إلى المأمون وقد رأى ذلك فأنكره وسألني عنه فقلت نعم هو ما رأيت فسأل المأمون عن ذلك وقال أوجب وهب لدلال وصائغ مائة ألف درهم وغلظ القصة فأنكرها المأمون فدعاني ودنوت إليه وأخبرته أن المال الذي خرج في ثمن عريب وصلة إسحاق وقلت أيما أصوب يا أمير المؤمنين ما فعلت أو أثبت في الديوان أنها خرجت في صلة مغن وثمن مغنية فضحك المأمون وقال الذي فعلت أصوب ثم قال للفضل بن مروان يا نبطي لا تعترض على كاتبي هذا في شيء بعض من أخبارها وقال ابن المكي حدثني أبي عن نحرير الخادم قال دخلت يوما قصر الحرم فلمحت عريب جالسة على كرسي ناشرة شعرها تغتسل فسألت عنها فقيل هذه عريب دعا بها سيدها اليوم فافتضها قال ابن المعتز فأخبرني ابن عبد الملك البصري أنها لما صارت في دار المأمون احتالت حتى وصلت إلى محمد بن حامد وكانت قد عشقته وكاتبته بصوت قالته ثم احتالت في الخروج إليه وكانت تلقاه في الوقت بعد الوقت حتى حبلت منه وولدت بنتا وبلغ ذلك المأمون فزوجه إياها وأخبرنا إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه وحدثني به المظفر بن كيغلغ عن القاسم بن زرزور قال لما وقف المأمون على خبرها مع محمد بن حامد أمر بإلباسها جبة صوف وختم زيقها وحبسها في كنيف مظلم شهرا لا ترى الضوء يدخل إليها خبز وملح وماء من تحت الباب في كل يوم ثم ذكرها فرق لها وأمر بإخراجها فلما فتح الباب عنها وأخرجت لم تتكلم بكلمة حتى اندفعت تغني ( حجبوه عن بصري فمُثِّل شَخصُه ... في القلب فهْو محجَّبٌ لا يُحَجبُ ) فبلغ ذلك المأمون فعجب منها وقال لن تصلح هذه أبدا فزوجها إياه نسبة هذا الصوت صوت ( لو كان يَقدرُ أن يَبُثَّك ما به ... لرأيتَ أحسن عاتب يتعَتَّبُ ) ( حجبوه عن بَصَري فمُثِّل شَخصُه ... في القَلْب فهو مُحَجَّب لا يُحجَبُ ) الغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى قال ابن المعتز وحدثني لؤلؤ صديق علي بن يحيى المنجم قال حدثني أحمد بن جعفر بن حامد قال لما توفي عمي محمد بن حامد صار جدي إلى منزله فنظر إلى تركته وجعل يقلب ما خلف ويخرج إليه منها الشيء بعد الشيء إلى أن أخرج إليه سفط مختوم ففض الخاتم وجعل يفتحه فإذا فيه رقاع عريب إليه فجعل يتصفحها ويبتسم فوقعت في يده رقعة فقرأها ووضعها في يده وقام لحاجة فقرأتها فإذا فيها قوله صوت ( وبلي عليكَ ومِنْكَا ... أوقعت في الحق شَكّا ) ( زعمتَ أنّي خئونٌ ... جَوْراً عليّ وإِفْكَا ) ( إن كان ما قلتَ حقّا ... أو كنت أزمعتُ تَرْكَا ) ( فأبدلَ الله ما بي ... من ذِلَّة الحبّ نُسْكَا ) لعريب في هذه الأبيات رمل وهزج عن الهشامي والشعر لها قصة بيت من الشعر قال ابن المعتز وحدثني عبد الوهاب بن عيسى الخراساني عن يعقوب الرخامي قال كنا مع العباس بن المأمون بالرقة وعلى شرطته هاشم - رجل من أهل خراسان - فخرج إلي وقال يا أبا يوسف ألقي إليك سرا لثقتي بك وهو عندك أمانة قلت هاته قال كنت واقفا على رأس الأمين وبي حر شديد خرجت عريب فوقفت معي وهي تنظر في كتاب فما ملكت نفسي أن أومأت إليها بقبلة فقالت كحاشية البرد فوالله ما أدري ما أرادت فقلت قالت لك طعنة قال وكيف ذاك قلت أرادت قول الشاعر ( رَمَى ضرعَ نابٍ فاستمرّ بطعنةٍ ... كحاشية البُرْد اليمانِي المُسهّم ) وحكى هذه القصة أحمد بن أبي طاهر عن بشر بن زيد عن عبد الله ابن أيوب بن أبي شمر أنهم كانوا عند المأمون ومعهم محمد بن حامد وعريب تغنيهم فغنت تقول ( رَمَى ضرعَ نابٍ فاستمرّ بطعنةٍ ... كحاشية البُرْد اليمانِي المُسهّم ) فقال لها المأمون من أشار إليك بقبلة فقلت له طعنة فقالت له يا سيدي من يشير إلي بقبلة في مجلسك فقال بحياتي عليك قالت محمد بن حامد فسكت أحبت أميرا وتزوجت خادما قال ابن المعتز وحدثني محمد بن موسى قال اصطبح المأمون يوما ومعه ندماؤه وفيهم محمد بن حامد وجماعة من المغنين وعريب معه على مصلاه فأومأ محمد بن حامد إليها بقبلة فاندفعت تغني ابتداء ( رَمَى ضَرْع نابٍ فاستَمرَّ بطعنةٍ ... كحاشية البُرْد اليمانِي المُسهّم ) تريد بغنائها جواب محمد بن حامد بأن تقول له طعنة فقال لها المأمون أمسكي فأمسكت ثم أقبل على الندماء فقال من فيكم أومأ إلى عريب بقبلة والله لئن لم يصدقني لأضربن عنقه فقام محمد فقال أنا يا أمير المؤمنين أومأت إليها والعفو أقرب للتقوى فقال قد عفوت فقال كيف استدل أمير المؤمنين على ذلك قال ابتدأت صوتا وهي لا تغني ابتداء إلا لمعنى فعلمت أنها لم تبتدىء بهذا الصوت إلا لشيء أومىء به إليها ولم يكن من شرط هذا الموضع إلا إيماء بقبلة فعلمت أنها أجابت بطعنة قال ابن المعتز وحدثني علي بن الحسين أن عريب كانت تتعشق أبا عيسى بن الرشيد وروى غيره أنها كانت لا تضرب المثل إلا بحسن وجه أبي عيسى وحسن غنائه وكانت تزعم أنها ما عشقت أحدا من بني هاشم وأصفته المحبة من الخلفاء وأولادهم سواه قال ابن المعتز وحدثني بعض جوارينا أن عريب كانت تتعشق صالحا المنذري الخادم وتزوجته سرا فوجه به المتوكل إلى مكان بعيد في حاجة له فقالت فيه شعرا وصاغت لحنه في خفيف الثقيل وهو صوت ( أَمَّا الحبيبُ فقد مضى ... بالرغم منّي لا الرّضا ) ( أخطأتُ في تركِي لمن ... لم ألق منه مُعَوّضا ) قال فغنته يوما بين يدي المتوكل فاستعاده وجعل جواريه يتغامزن ويضحكن فأصغت إليهن سرا من المتوكل فقالت يا سحاقات هذا خير من عملكن قال وحدثت عن بعض جواري المتوكل أنها دخلت يوما على عريب فقالت لها تعالي ويحك إلي فجاءت قال فقالت قبلي هذا الموضع مني فإنك تجدين ريح الجنة فأومأت إلى سالفتها ففعلت ثم قالت لها ما السبب في هذا قالت قبلني صالح المنذري في ذلك الموضع قال ابن المعتز وأخبرني أبو عبد الله الهشامي قال حدثني حمدون بن إسماعيل قال حدثني محمد بن يحيى الواثقي قال قال لي محمد بن حامد ليلة أحب أن تفرغ في مضربك فإني أريد أن أجيئك فأقيم عندك ففعلت ووافاني فلما جلس جاءت عريب فدخلت وقد حدثني به جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون أن عريب زارت محمد بن حامد وجلسا جميعا فجعل يعاتبها ويقول فعلت كذا وفعلت كذا فقالت لي يا محمد هذا عندك رأي ثم أقبلت عليه فقالت يا عاجز خذ بنا فيما نحن فيه وفيما جئنا إليه وقال جحظة في خبره اجعل سراويلي مخنقتي وألصق خلخالي بقرطي فإذا كان غد فاكتب إلي بعتابك في طومار حتى أكتب إليك بعذري في ثلاثة ودع هذا الفضول فقد قال الشاعر صوت ( دَعِي عَدَّ الذّنوب إذا التقينا ... تعاليْ لا أعدُّ ولا تعدِّي ) وتمام هذا قوله ( فأقسِم لو هممت بمدّ شعري ... إلى نار الجحيم لقُلْتِ مُدّيِ ) الشعر للمؤمل والغناء لعريب خفيف رمل وفيه لعلوية رمل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة عاشرت ثمانية من الخلفاء أخبرني أبو يعقوب إسحاق بن الضحاك بن الخصيب قال حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات قال كنت يوما عند أخي أبي العباس وعنده عريب جالسة على دست مفرد لها وجواريها يغنين بين يدينا وخلف ستارتنا فقلت لأخي وقد جرى ذكر الخلفاء قالت لي عريب ناكني منهم ثمانية ما اشتهيت منهم أحدا إلا المعتز فإنه كان يشبه أبا عيسى بن الرشيد قال ابن الفرات فأصغيت إلى بعض بني أخي فقلت له فكيف ترى شهوتها الساعة فضحك ولمحته فقالت أي شيء قلتم فجحدتها فقالت لجواريها أمسكن ففعلن فقالت هن حرائر لئن لم تخبراني بما قلتما لينصرفن جميعا وهن حرائر إن حردت من شيء جرى ولو أنها تسفيل فصدقتها فقالت وأي شيء في هذا أما الشهوة فبحالها ولكن الآلة قد بطلت أو قالت قد كلت عودوا إلى ما كنتم فيه شرطان فاحشان وحدثني الحسن بن علي بن مودة قال حدثني إبراهيم بن أبي العبيس قال حدثنا أبي قال دخلنا على عريب يوما مسلمين فقالت أقيموا اليوم عندي حتى أطعمكم لوزينجة صنعتها بدعة بيدها من لوز رطب وما حضر من الوظيفة وأغنيكم أنا وهي قال فقلت لها على شريطة قالت وما هي قلت شيء أريد أن أسألك عنه منذ سنين وأنا أهابك قالت ذاك لك وأنا أقدم الجواب قبل أن تسأل فقد علمت ما هو فعجبت لها وقلت فقولي فقالت تريد أن تسألني عن شرطي أي شرط هو فقلت إي والله ذاك الذي أردت قالت شرطي أير صلب ونكهة طيبة فإن انضاف إلى ذلك حسن يوصف وجمال يحمد فقد زاد قدره عندي وإلا فهذان ما لا بد لي منهما وحدثني الحسن بن علي عن محمد بن ذي السيفين إسحاق بن كنداجيق عن أبيه قال كانت عريب تولع بي وأنا حديث السن فقالت لي يوما يا إسحاق قد بلغني أن عندك دعوة فابعث إلي نصيبي منها قال فاستأنفت طعاما كثيرا وبعثت إليها منه شيئا كثيرا فأقبل رسولي من عندها مسرعا فقال لي لما بلغت إلى بابها وعرفت خبري أمرت بالطعام فأنهب وقد وجهت إليك برسول وهو معي فتحيرت وظننت أنها قد استقصرت فعلي فدخل الخادم ومعه شيء مشدود في منديل ورقعة فقرأتها فإذا فيها بسم الله الرحمن الرحيم يا عجمي يا غبي ظننت أني من الأتراك ووخش الجند فبعثت إلي بخبز ولحم وحلواء الله المستعان عليك يا فدتك نفسي قد وجهت إليك زلة من حضرتي فتعلم ذلك من الأخلاق ونحوه من الأفعال ولا تستعمل أخلاق العامة في رد الظرف فيزداد العيب والعتب عليك إن شاء الله فكشفت المنديل فإذا طبق ومكبة من ذهب منسوج على عمل الخلاف وفيه زبدية فيها لقمتان من رقاق وقد عصبت طرفيهما وفيها قطعتان من صدر دراج مشوي ونقل وطلع وملح وانصرف رسولها تحلم ثلاث مرات في النوم بحبيبها قال ابن المعتز حدثني الهشامي أبو عبد الله عن رجل ذكره عن علويه قال أمرني المأمون وسائر المغنين في ليلة من الليالي أن نصير إليه بكرة ليصطبح فغدونا ولقيني المراكبي مولى عريب وهي يومئذ عنده فقال لي يأيها الرجل الظالم المعتدي أما ترق ولا ترحم ولا تستحي عريب هائمة تحلم بك في النوم ثلاث مرات في كل ليلة قال علويه فقلت أم الخلافة زانية ومضيت معه فحين دخلت قلت استوثق من الباب فإني أعرف خلق الله بفضول البوابين والحجاب وإذا عريب جالسة على كرسي تطبخ وبين يديها ثلاث قدور من دجاج فلما رأتني قامت تعانقني وتقبلني ثم قالت أيما أحب إليك أن تأكل من هذه القدور أو تشتهي شيئا يطبخ لك فقلت بل قدر من هذه تكفينا فغرفت قدرا منها وجعلتها بيني وبينها فأكلنا ودعونا بالنبيذ فجلسنا نشرب حتى سكرنا ثم قالت يا أبا الحسن صنعت البارحة صوتا في شعر لأبي العتاهية فقلت وما هو فقالت هو ( عَذِيري من الإِنسان لا إن جفوته ... صَفا لي ولا إن كنت طوعَ يديه ) وقالت لي قد بقي فيه شيء فلم نزل نردده أنا وهي حتى استوى ثم جاء الحجاب فكسروا باب المراكبي واستخرجوني فدخلت على المأمون فلما رأيته أقبلت أمشي إليه برقص وتصفيق وأنا أغني الصوت فسمع وسمع من عنده ما لم يعرفوه واستظرفوه وسألني المأمون عن خبره فشرحته له فقال لي ادن وردده فرددته عليه سبع مرات فقال في آخر مرة يا علويه خذ الخلافة واعطني هذا الصاحب نسبة هذا الصوت صوت ( عَذِيري من الإِنسان لا إن جفوته ... صَفا لي ولا إن كنت طوعَ يديه ) ( وإنّي لمشتاقٌ إلى قُربِ صاحِبٍ ... يَرُوق ويَصْفُو إن كَدرْتُ عليه ) الشعر من الطويل وهو لأبي العتاهية والغناء لعريب خفيف ثقيل أول بالوسطى ونسبه عمرو بن بانة في هذه الطريقة والأصبغ إلى علوية سبب غضب الواثق والمعتصم عليها قال ابن المعتز وحدثني القاسم بن زرزور قال حدثتني عريب قالت كنت في أيام محمد ابنة أربع عشرة سنة وأنا حينئذ أصوغ الغناء قال القاسم وكانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان وتصوغ في ذلك الشعر بعينه لحنا فيكون أجود من لحنه فمن ذلك ( لم آتِ عامدةً ذَنْباً إليك بَلَى ... أُقِرُّ بالذنب فاعفُ اليوم عن زَلَلِي ) لحنها فيه خفيف ثقيل ولحن الواثق رمل ولحنها أجود من لحنه ومنها ( أشكو إلى الله ما أَلْقَى من الكَمَدِ ... حَسْبِي بِرَبِّي ولا أشكو إلى أحَدِ ) لحنها ولحن الواثق جميعا من الثقيل الأول ولحنها أجود من لحنه نسبة هذين الصوتين صوت ( لم آتِ عامدةً ذَنْباً إليك بَلَى ... أُقِرُّ بالذّنب فاعفُ اليوم عن زَلَلِي ) ( فالصّفح من سَيّدٍ أولى لمُعْتَذرٍ ... وقاك رَبُّك يوم الخوفِ والوَجَلِ ) الغناء للواثق رمل ولعريب خفيف ثقيل وذكر ذكاء وجه الرزة أن لطالب ابن يزداد فيه هزجا مطلقا صوت ( أشكو إلى الله ما أَلْقَى من الكَمَدِ ... حَسْبِي بِربي ولا أشكُو إلى أحَدِ ) ( أين الزمان الذي قد كنت ناعمةً ... في ظِلِّه بدنُوّي منك يا سَندي ) ( وأَسأَلُ الله يوماً منك يُفْرِحني ... فقد كحلتُ جفونَ العين بالسَّهَد ) ( شوقاً إليك وما تدري بما لقيت ... نفسي عليك وما بالقلب من كمد ) الغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى وللواثق ثقيل أول بالبنصر قال ابن المعتز وكان سبب انحراف الواثق عنها وكيادها إياه وانحراف المعتصم عنها أنه وجد لها كتابا إلى العباس بن المأمون ببلد الروم اقتل أنت العلج ثم حتى أقتل أنا الأعور الليلي ها هنا تعني الواثق وكان يسهر بالليل وكان المعتصم استخلفه ببغداد قال وحدثني أبو العبيس بن حمدون قال غضبت عريب على بعض جواريها المذكورات - وسماها لي - فجئت إليها يوما وسألتها أن تعفو عنها فقالت في بعض ما تقوله مما تعتد به عليها من ذنوبها يا أبا العبيس إن كنت تشتهي أن ترى زناي وصفاقة وجهي وجراءتي على كل عظيمة أيام شبابي فانظر إليها واعرف أخبارها أجادت ركوب الخيل قال ابن المعتز وحدثني القاسم بن زرزور قال حدثني المعتمد قال حدثتني عريب أنها كانت في شبابها يقدم إليها برذون فتطفر عليه بلا ركاب قال وحدثني الأسدي قال حدثني صالح بن علي بن الرشيد المعروف بزعفرانة قال تمارى خالي أبو علي مع المأمون في صوت فقال المأمون أين عريب فجاءت وهي محمومة فسألها عن الصوت فقالت فيه بعلمها فقال لها غنيه فولت لتجيء بعود فقال لها غنيه بغير عود فاعتمدت على الحائط للحمى وغنت فأقبلت عقرب فرأيتها قد لسعت يدها مرتين أو ثلاثا فما نحت يدها ولا سكتت حتى فرغت من الصوت ثم سقطت وقد غشي عليها قال ابن المعتز وحدثني أبو العباس بن الفرات قال قالت لي تحفة جارية عريب كانت عريب تجد في رأسها بردا فكانت تغلف شعرها مكان العلة بستين مثقالا مسكا وعنبرا وتغسله من جمعة إلى جمعة فإذا غسلته أعادته وتتقسم الجواري غسالة رأسها بالقوارير وما تسرحه منه بالميزان حدثني أحمد بن جعفر جحظة عن علي بن يحيى المنجم قال دخلت يوما على عريب مسلما عليها فلما اطمأننت جالسا هطلت السماء بمطر عظيم فقالت أقم عندي اليوم حتى أغنيك أنا وجواري وأبعث إلي من أحببت من إخوانك فأمرت بدوابي فردت وجلسنا نتحدث فسألتني عن خبرنا بالأمس في مجلس الخليفة ومن كان يغنينا وأي شيء استحسنا من الغناء فأخبرتها أن صوت الخليفة كان لحنا صنعه بنان من الماخوري فقالت وما هو فأخبرتها أنه صوت ( تُجافِي ثم تَنطَبِقُ ... جفونٌ حَشوُها الأرقُ ) ( وذي كَلَفٍ بكى جَزَعاً ... وسَفْرُ القوم مُنطلِقُ ) ( به قَلَقٌ يُمَلْمِلُه ... وكان وما به قَلَقُ ) ( جوانحُهُ على خَطَرٍ ... بِنارِ الشَّوق تَحترِقُ ) فوجهت رسولا إلى بنان فحضر من وقته وقد بلته السماء فأمرت بخلع فاخرة فخلعت عليه وقدم له طعام فاخر فأكل وجلس يشرب معنا وسألته عن الصوت فغناها إياه فأخذت دواة ورقعة وكتبت فيها ( أجاب الوابِلُ الغَدِقُ ... وصاح النّرجس الغَرقُ ) ( وقد غنَّى بنان لنَا ... جُفونٌ حَشوُها الأَرقُ ) ( فهاتِ الكأسَ مُترعةً ... كَأَنَّ حُبابَها حدَقُ ) قال علي بن يحيى فما شربنا بقية يومنا إلا على هذه الأبيات ترد على من دعاها برموز حدثني محمد بن خلف بن المرزبان عن عبد الله بن محمد المروزي قال قال لي الفضل بن العباس بن المأمون زارتني عريب يوما ومعها عدة من جواريها فوافتنا ونحن على شرابنا فتحادثنا ساعة وسألتها أن تقيم عندي فأبت وقالت دعاني جماعة من إخواني من أهل الأدب والظرف وهم مجتمعون في جزيرة المؤيد فيهم إبراهيم بن المدبر وسعيد بن حميد ويحيى بن عيسى بن منارة وقد عزمت على المسير إليهم فحلفت عليها فأقامت عندنا ودعت بدواة وقرطاس فكتبت بسم الله الرحمن الرحيم وكتبت بعد ذلك في سطر واحد ثلاثة أحرف متفرقة لم تزد عليها وهي أردت ولولا ولعلي ووجهت به إليهم فلما وصلت الرقعة عيوا بجوابها فأخذ إبراهيم بن المدبر الرقعة فكتب تحت أردت ليت وتحت لولا ماذا وتحت لعلي أرجو ووجهوا بالرقعة فصفقت ونعرت وشربت رطلا وقالت لنا أأترك هؤلاء وأقعد عندكم إذا تركني الله من يديه ولكني أخلف عندكم من جواري من يكفيكم وأقوم إليهم ففعلت ذلك وخلفت عندنا بعض جواريها وأخذت معها بعضهن وانصرفت أخبرنا محمد بن خلف عن سعيد بن عثمان بن أبي العلاء عن أبيه قال عتب المأمون على عريب فهجرها أياما ثم اعتلت فعادها فقال لها كيف وجدت طعم الهجر فقالت يا أمير المؤمنين لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل ومن ذم بدء الغضب أحمد عاقبة الرضا قال فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم بالقصة ثم قال أترى هذا لو كان من كلام النظام ألم يكن كبيرا هجرت المأمون أياما لأنها غضبت منه حدثني محمد بن خلف عن أبي العيناء عن أحمد بن أبي دؤاد قال جرى بين عريب وبين المأمون كلام فكلمها المأمون بشيء غضبت منه فهجرته أياما قال أحمد بن أبي داود فدخلت على المأمون فقال لي يا أحمد اقض بيننا فقالت عريب لا حاجة لي في قضائه ودخوله فيما بيننا وأنشأت تقول ( وتخلِط الهجرَ بالوصال ولا ... يدْخُل في الصُّلح بَينَنا أَحدُ ) حدثني محمد بن خلف قال حدثني محمد بن عبد الرحمن عن أحمد بن حمدون عن أبيه قال كنت حاضرا مجلس المأمون ببلاد الروم بعد صلاة العشاء الآخرة في ليلة ظلماء ذات رعود وبروق فقال لي المأمون اركب الساعة فرس النوبة وسر إلى عسكر أبي إسحاق يعني المعتصم فأد إليه رسالتي في كيت وكيت قال فركبت ولم تثبت معي شمعة وسمعت وقع حافر دابة فرهبت ذلك وجعلت أتوقاه حتى صك ركابي ركاب تلك الدابة وبرقت بارقة فأضاءت وجه الراكب فإذا عريب فقلت عريب قالت نعم حمدون قلت نعم ثم قلت ومن أين أقبلت في هذا الوقت قالت من عند محمد ابن حامد قلت وما صنعت عنده قالت عريب ياتكش عريب تجيء من عند محمد بن حامد في هذا الوقت خارجة من مضرب الخليفة وراجعة إليه تقول لها أي شيء عملت عنده صليت معه التراويح أو قرأت عليه أجزاء من القرآن أو دارسته شيئا من الفقه يا أحمق تعاتبنا وتحادثنا واصطلحنا ولعبنا وشربنا وغنينا وتنايكنا وانصرفنا فأخجلتني وغاظتني وافترقنا ومضيت فأديت الرسالة ثم عدت إلى المأمون وأخذنا في الحديث وتناشد الأشعار وهممت والله أن أحدثه حديثها ثم هبته فقلت أقدم قبل ذلك تعريضا بشيء من الشعر فأنشدته ( ألا حيِّ أطلالاً لواسعة الحبل ... أَلوفٍ تسوّي صالح القوم بالرَّذْل ) ( فلو أَن من أَمسَى بجانب تلعَة ... الى جبليْ طيٍّ فساقطة الحَبْلِ ) ( جلوس إلى أَنْ يَقْصر الظِّلُّ عندها ... لراحوا وكُلّ القوم منها على وصْل ) فقال لي المأمون اخفض صوتك لا تسمعك عريب فتغضب وتظن أنا في حديثها فأمسكت عما أردت أن أخبره وخار الله في ذلك حدثني محمد بن أحمد الحكيمي قال أخبرني ميمون بن هارون قال قال لي ابن اليزيدي حدثني أبي قال خرجنا مع المأمون في خروجه إلى بلد الروم فرأيت عريب في هودج فلما رأتني قالت لي يا يزيدي أنشدني شعرا قلته حتى أصنع فيه لحنا فأنشدتها ( ماذا بقلبي من دوامِ الخفْق ... إذَا رأَيتُ لمعانَ البَرْقِ ) ( من قِبَل الأردُنِّ أو دِمشْق ... لأَنَّ من أَهوَى بذاك الأفْق ) ( فإنّ فيه وهو أَعزّ الخَلْق ... عليّ والزّورُ خلاف الحقّ ) ( ذاك الَّذي يَملِك رِقِّي ... ولست أَبغِي ما حَييتُ عِتْقِي ) قال فتنفست تنفسا ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه فقلت هذا والله تنفس عاشق فقالت اسكت يا عاجز أنا أعشق والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس فادعاها من أهل المجلس عشرون رئيسا طريفا شعر لعباس بن الأحنف يصلح بينها وبين حبيبها حدثني محمد بن خلف قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أحمد بن حمدون قال وقع بين عريب وبين محمد بن حامد شر وكان يجد بها الوجد كله فكادا يخرجان من شرهما إلى القطيعة وكان في قلبها منه أكثر مما في قلبه منها فلقيته يوما فقالت له كيف قلبك يا محمد قال أشقى والله ما كان وأقرحه فقالت له استبدل تسل فقال لها لو كانت البلوى باختيار لفعلت فقالت لقد طال إذا تعبك فقال وما يكون أصبر مكرها أما سمعت قول العباس بن الأحنف ( تَعَبٌ يطول مع الرجاء بذي الهَوى ... خَيرٌ له من رَاحةٍ في الياسِ ) ( لولا كرامتكُم لما عاتَبتكُم ... ولكنتُمُ عندي كبَعْضِ النّاس ) قال فذرفت عيناها واعتذرت إليه وأعتبته واصطلحا وعادا إلى أفضل ما كانا عليه اختلاف في تقييم فنها حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال قال لي أبو العباس بن حمدون - وقد تجاذبنا غناء عريب - ليس غناؤها مما يعتد بكثرته لأن سقطه كثير وصنعتها ساذجة فقلت له ومن يعرف في الناس كلهم من مغني الدولة العباسية سلمت صنعته كلها حتى تكون مثله ثم جعلت أعد ما أعرفه من جيد صنعتها ومتقدمها وهو يعترف بذلك حتى عددت نحوا من مائة صوت مثل لحنها في ( يا عزّ هل لك في شيخٍ فتىً أبدا ... ) و ( سيسليك عما فات دولةَ مفضل ... ) و ( صاح قد لمت ظالما ... ) و ( ضحك الزمان وأشرقت ... ) ونحو هذا ثم قال لي ما خلفت عريب بعدها امرأة مثلها في الغناء والرواية والصنعة فقلت له لا ولا كثيرا من الرجال أيضا ولعريب في صنعتها ( يا عزّ هل لك في شيخٍ فتىً أبدا ... ) خبر أخبرني ببعضه أحمد بن عبيد الله بن عمار عن ميمون بن هارون وذكر ابن المعتز أن عبد الواحد بن إبراهيم بن الخصيب حدثه عمن يثق به عن أحمد بن عبد الله بن إسماعيل المراكبي قال قالت لي عريب حج بي أبوك وكان مضعوفا فكان عديلي وكنت في طريقي أطلب الأعراب فأستنشدهم الأشعار وأكتب عنهم النوادر وسائر ما أسمعه منهم فوقف شيخ من الأعراب علينا يسأل فاستنشدته فأنشدني ( يا عزّ هل لكِ في شيخٍ فتىً أبدا ... وقد يكون شَبابٌ غَيرُ فِتيانِ ) فاستحسنته ولم أكن سمعته قبل ذلك قلت فأنشدني باقي الشعر فقال لي هو يتيم فاستحسنت قوله وبررته وحفظت البيت وغنيت فيه صوتا من الثقيل الأول ومولاي لا يعلم بذلك لضعفه فلما كان في ذلك اليوم عشيا قال لي ما كان أحسن ذلك البيت الذي أنشدك إياه الأعرابي وقال لك إنه يتيم أنشدينيه إن كنت حفظته فأنشدته إياه وأعلمته أني قد غنيت فيه ثم غنيته له فوهب لي ألف درهم بهذا السبب وفرح بالصوت فرحا شديدا قال ابن المعتز قال ابن الخصيب فحدثني هذا المحدث أنه قد حضر بعد ذلك بمجلس أبي عيسى بن المتوكل ومن هاهنا تتصل رواية ابن عمار عن ميمون وقد جمعت الروايتين إلا أن ميمون بن هارون ذكر أنهم كانوا عند جعفر بن المأمون وعندهم أبو عيسى وكان عندهم علي ابن يحيى وبدعة جارية عريب تغنيهم - فذكر علي بن يحيى أن الصنعة فيه لغير عريب وذكر أنها لا تدعي هذا وكابر فيه فقام جعفر بن المأمون فكتب رقعة إلى عريب - ونحن لا نعلم - يسألها عن أمر الصوت وأن تكتب إليه بالقصة ففعلت فكتبت إليه بخطها بسم الله الرحمن الرحيم ( هَنِيًّا لأرباب البيوت بُيوتُهم ... وللعَزَب المسكين ما يَتَلَمَّسُ ) أنا المسكينة وحيدة فريدة بغير مؤنس وأنتم فيما أنتم فيه وقد أخذتم أنسي ومن كان يلهيني - تعني جاريتيها بدعة وتحفة - فأنتم في القصف والعزف وأنا في خلاف ذلك هناكم الله وأبقاكم وسألت - مد الله في عمرك - عما اعترض فيه فلان والقصة في هذا الصوت كذا وكذا وقصت قصتها مع الأعرابي كما حدثت به ولم تخرم حرفا منها فجاء الجواب إلى جعفر بن المأمون فقرأه وضحك ثم رمى به إلى أبي عيسى ورمى به أبو عيسى إلي وقال اقرأه وكان علي بن يحيى جالسا إلى جنبي فأراد أن يستلب الرقعة فمنعته وقمت ناحية فقرأتها فأنكر ذلك وقال ما هذا فورينا الأمر عنه لئلا تقع عربدة وكان - عفا الله عنا وعنه - مبغضا لها تعرف خبر صوت لا يعرفه أحد على وجه الأرض قال ابن المعتز وحدثني أبو الخطاب العباس بن أحمد بن الفرات قال حدثني أبي قال كنا يوما عند جعفر بن المأمون نشرب وعريب حاضرة إذ غنى بعض من كان هناك ( يا بدرُ إنّك قد كُسِيت مشابِهاً ... من وجه ذاك المستنيرِ اللاّئحِ ) ( وأَراك تمصَح بالمحاق وحسنُها ... باقٍ على الأيام ليس ببارح ) فضحكت عريب وصفقت وقالت ما على وجه الأرض أحد يعرف خبر هذا الصوت غيري فلم يقدم أحد منا على مسألتها عنه غيري فسألتها فقالت أنا أخبركم بقصته ولولا أن صاحب القصة قد مات لما أخبرتكم إن أبا محلم قدم بغداد فنزل بقرب دار صالح المسكين في خان هناك فاطلعت أم محمد ابنة صالح يوما فرأته يبول فأعجبها متاعه وأحبت مواصلته فجعلت لذلك علة بأن وجهت إليه تقترض منه مالا وتعلمه أنها في ضيقة وأنها ترده إليه بعد جمعة فبعث إليها عشرة آلاف درهم وحلف أنه لو ملك غيرها لبعث به فاستحسنت ذلك وواصلته وجعلت القرض سببا للوصلة فكانت تدخله إليها ليلا وكنت أنا أغني لهم فشربنا ليلة في القمر وجعل أبو محلم ينظر إليه ثم دعا بدواة ورقعة وكتب فيها قوله ( يا بدرُ إنّك قد كُسِيتَ مشابِهاً ... من وَجْه أُمِّ محمد ابنةِ صَالحِ ) والبيت الآخر وقال لي غني فيه ففعلت واستحسناه وشربنا عليه فقالت لي أم محمد في آخر المجلس يا أختي قد تنبلت في هذا الشعر إلا أنه سيبقى علي فضيحة آخر الدهر فقال أبو محلم وأنا أغيره فجعل مكان أم محمد ابنة صالح ذاك المستنير اللائح وغنيته كما غيره وأخذه الناس عني ولو كانت أم محمد حية لما أخبرتكم بالخبر فأما نسبة هذا الصوت فإن الشعر لأبي محلم النسابة والغناء لعريب ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى من رواية الهشامي وغيره وأبو محلم اسمه عوف بن محلم كتبت إلى حبيبها تستزيره أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن ميمون بن هارون قال كتبت عريب إلى محمد بن حامد - الذي كانت تهواه - تستزيره فكتب إليها إني أخاف على نفسي فكتبت إليه صوت ( إذا كنتَ تحذرُ ما تحذرُ ... وتزعُم أنك لا تَجسُرُ ) ( فمالي أُقِيمُ على صَبْوَتي ... ويَومُ لِقائِك لا يُقدَرُ ) فصار إليها من وقته لعريب في هذين البيتين وبيتين آخرين بعدهما لم يذكرا في الخبر رمل ولشارية خفيف رمل جمعا من رواية ابن المعتز والبيتان الآخران ( تبيَّنتَ عذري وما تَعذِر ... وأبليتَ جسمي وما تشعرُ ) ( ألِفْتَ السُّرورَ وخَلَّيْتنَي ... ودَمْعِي من العين ما يَفترُ ) وذكر ميمون في هذا الخبر أن محمد بن حامد كتب إليها يعاتبها في شيء كرهه فكتبت إليه تعتذر فلم يقبل فكتبت إليه بهذين البيتين الآخرين اللذين ذكرتهما بعد نسبة هذا الصوت صوت ( أَحببتُ من شعر بَشّار لحبكمُ ... بَيْتا كلِفت به من شِعْرِ بَشّارِ ) ( يا رحمةَ اللهِ حُلِّي في مَنازِلنا ... وجاوِرِينا فدَتْكِ النَّفْسُ من جارِ ) ( إذا ابتهلتُ سألتُ اللهَ رحمتَه ... كنيتُ عنك وما يَعدُوك إِضمارِي ) الشعر لأبي نواس منه البيت الأول والثاني لبشار ضمنه أبو نواس والغناء لعريب ثقيل أول بالبنصر ولعمرو بن بانة في الثاني والثالث رمل وهذا الشعر يقوله أبو نواس في رحمة بن نجاح عم نجاح بن سلمة الكاتب أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد النحوي قال كان بشار يشبب بامرأة يقال لها رحمة وكان أبو نواس يتعشق غلاما اسمه رحمة ابن نجاح عم نجاح بن سلمة الكاتب وكان متقدما في جماله وكان أبوه قد ألزمه وأخاه رجلا مدنيا وكان معهم كأحدهم وأكثر أبو نواس التشبيب برحمة في إقامته ببغداد وشخوصه عنها وكان بشار قد قال في رحمة المرأة التي يهواها ( يا رحمةَ اللهِ حُلِّي في مَنازِلنا ... حسبي برائحة الفِرْدَوْس من فيك ) ( يا أطيبَ الناسِ ريقاً غيرَ مُخْتَبَرٍ ... إلا شِهادةَ أطرافِ المساويكِ ) فقال أبو نواس وضمن بيت بشار ( أحببت من شعر بشار لحُبِّكم ... بَيْتا كَلِفْت به من شِعْر بَشّار ) الأبيات الثلاثة وقال فيه ( يا مَن تأهّب مُزْمعاً لِرواحِ ... مُتَيَمِّماً بغدادَ غيرَ مُلاحِ ) ( في بَطْنِ جَارية كَفَتْكَ بسَيْرها ... رَمَلاً وكلَّ سِباحة السَّبّاحِ ) ( بُنيت على قَدَرٍ ولاءم بينها ... صِنْفان من قارٍ ومن ألواحِ ) ( وكأنها - والماء ينضح صدرَها ... والخَيزُرانة في يَدِ الملاَّحِ ) ( جُونٌ من الغِربان يبتدر الدّجى ... يَهْوِي بصَوْتٍ واصطِفاقِ جَناحِ ) ( سلّم على شاطى الصّراة وأهلِها ... واخصُصْ هناك مَدِينةَ الوَضَّاحِ ) ( واقصد - هُديت - ولا تكن متحيّراً ... في مقصِدٍ عن ظَبْي آل نَجاحِ ) ( عن رحمة الرحمن واسأل مَنْ تَرى ... سِيماه سِيما شارِب للرّاح ) ( فإذا دُفِعْتَ إلى أغنَّ وألثغٍ ... ومُنَعَّمٍ ومُكَحَّلٍ ورَداحِ ) ( وكشَمْسِنا وكبدرنا حاشى التي ... سَمَّيْتها منه بنَوْر أَقاحِي ) ( فاقصِد لوقت لِقائه في خَلْوةٍ ... لِتَبُوحَ عني ثَمَّ كلّ مباحِ ) ( واخبرْ بما أحبَبْت عن حالي التي ... ممسَايَ فيها واحدٌ وصَبَاحِي ) قال فافتدى أبو رحمة من أبي نواس ذكر ابنه بأن عقد بينه وبينه حرمة ودعاه إلى منزله فجاءه أبو نواس والمديني لا يعرفه فمازحه مزاحا أسرف عليه فيه فقام إليه رحمة فعرفه أنه أبو نواس فأشفق المديني من ذلك وخاف أن يهجوه ويشهر اسمه فسأل رحمة أن يكلمه في الصفح له والإغضاء عن الانتقام فأجابه أبو نواس وقال ( اذهبْ سلمتَ من الهجاء ولذعِه ... وأَمَا ولَثغةِ رحمةَ بنِ نجاح ) ( لولا فُتورٌ في كلامك يُشتَهَى ... وتَرَفُّقِي لك بعدُ واستِملاحِي ) ( وَتَكَسُّرٌ في مقلتيك هو الذي ... عَطَف الفُؤاد عليكَ بعد جِماح ) ( لعَلِمت أنك لا تمازِح شاعِراً ... في ساعةٍ ليست بحينِ مُزاحِ ) صوت ( أَأَبكاك بالعُرُف المنزلُ ... وما أنت والطَّلَلُ المُحولُ ) ( وما أنتَ ويْك ورسمُ الدِّيَارِ ... وسِنُّك قد قاربت تَكمُلُ ) عروضه من المتقارب والشعر للكميت بن زيد الأسدي والغناء لمعقل بن عيسى أخي أبي دلف العجلي ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر وهذان البيتان من قصيدة مدح الكميت بهما عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاصي بن أمية أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي عن علي بن هشام عن محمد بن عبد الأعلى بن كناسة قال كان بين بني أسد وبين طيى بالحص - وهي قريبة من قادسية الكوفة - حرب فاصطلحوا وبقي لطيء دماء رجلين فاحتمل ذلك رجل من بني أسد فمات قبل أن يؤديه فاحتمله الكميت بن زيد فأعانه فيه عبد الرحمن بن عنبسة فمدحه بقوله ( أَأَبكاك بالعُرُف المنزلُ ... وما أنت والطَّلَل المُحولُ ) فأعانه الحكم بن الصلت الثقفي فمدحه بقصيدته التي أولها ( رأَيت الغوانيَ وحشاً نَفُورا ... ) وأعانه زياد بن المغفل الأسدي فمدحه بقصيدته التي أولها ( هل للشباب الذي قد فات من طلب ... ) ثم جلس الكميت وقد خرج العطاء فأقبل الرجل يعطي الكميت المائتين والثلاث المائة وأكثر وأقل قال وكانت دية الأعاربي حينئذ ألف بعير ودية الحضري عشرة آلاف درهم وكانت قيمة الجمل عشرة دراهم فأدى الكميت عشرين ألفا عن قيمة ألفي بعير نسبة ما في أشعار الكميت هذه من الأغاني صوت منها ( هل للشباب الذي قد فات من طلبِ ... أم ليس غابرُه الماضي بمُنقلبِ ) ( دَعِ البكاء على ما فات من طلب ... فالدّهر يأتي بألوان من العَجبِ ) غناه إبراهيم الموصلي خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى من رواية إسحاق ذكر معقل بن عيسى كان شاعرا ومغنيا كان معقل بن عيسى فارسا شاعرا جوادا مغنيا فهما بالنغم والوتر وذكره الجاحظ مع ذكر أخيه أبي دلف وتقريظه في المعرفة بالنغم وقال إنه من أحسن أهل زمانه وأجود طبقته صنعة إذ سلم ذلك له أخوه معقل وإنما أخمل ذكره ارتفاع شأن أخيه وهو القائل لأبي دلف في عتب عتبه عليه ( أُخَيَّ مالكَ ترميني فتُقصِدَني ... وإن رَمَيْتُكَ سهماً لم يجزْ كبدِي ) ( أُخيَّ مالَكَ مجبولاً على تِرتي ... كأن أجسادنا لم تُغْذَ من جسدِ ) وهو القائل لمخارق وقد كان زار أبا دلف إلى الجبل ثم رجع إلى العراق أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري صوت ( لعمري لئن قَرَّتْ بقُربك أعينٌ ... لقد سَخِنت بالبَيْن منك عُيونُ ) ( فَسِرْ أو أقِم وقفٌ عليك محبَّتي ... مكانُك من قلبي عليك مَصونُ ) ( فما أوحشَ الدنيا إذا كنتَ نازحاً ... وما أحسنَ الدنيا بحيثُ تكونُ ) عروضه من الطويل والشعر لمعقل بن عيسى والغناء لمخارق ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى وفيه لحن لمعقل بن عيسى خفيف رمل وفيه ثاني ثقيل يقال إنه لمخارق ويقال إنه لمعقل ومن شعر معقل قوله يمتدح المعتصم وفيه غناء للزبير بن دحمان من الثقيل الأول بالبنصر صوت ( الدارُ هاجك رسمُها وطلولُها ... أم بَيْنَ سُعْدَى يوم جَدَّ رحِيلُها ) ( كُلٌّ شجاك فقل لعينك أَعوِلي ... إن كان يُغنِي في الديار عَوِيلُها ) ( ومحمدٌ زينُ الخَلائِف والذي ... سَنَّ المكارمَ فاستَبان سَبِيلُها ) صوت ( أليسَ إلى أجبال شمخٍ إلى اللّوى ... لِوَى الرَّمل يوما للنُّفوس مَعادُ ) ( بلاد بها كنا وكنا من اهلها ... إذِ النَّاسُ ناسٌ والبلادُ بلادُ ) الشعر لرجل من عاد فيما ذكروا والغناء لابن محرز ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر عن ابن المكي وقيل إنه من منحوله إليه أخبرني ابن عمار عن أبي سعد عن محمد بن الصباح قال حدثنا يحيى بن سلمة بن أبي الأشهب التيمي عن الهيثم بن عدي قال أخبرني حماد الراوية قال حدثني ابن أخت لنا من مراد قال وليت صدقات قوم من العرب فبينا أنا أقسمها في أهلها إذ قال لي رجل منهم ألا أريك عجبا قلت بلى قال فأدخلني في شعب من جبل فإذا أنا بسهم من سهام عاد من فتى قد نشب في ذروة الشعب وإذا على الجبل تجاهي مكتوب ( ألا هَلْ إلى أبياتِ شمخٍ إلى اللّوى ... لِوَى الرَّمل يوماً للنُّفوس مَعادُ ) ( بلاد بها كنا وكنا من اهلها ... إذِ النَّاسُ ناسٌ والبلادُ بلادُ ) ثم أخرجني إلى ساحل البحر وإذا أنا بحجر يعلوه الماء طورا ويظهر تارة وإذا عليه مكتوب يابن آدم يابن عبد ربه اتق الله ولا تعجل في أمرك فإنك لن تسبق رزقك ولن ترزق ما ليس لك ومن البصرة إلى الديل ستمائة فرسخ فمن لم يصدق بذلك فليمش الطريق على الساحل حتى يتحققه فإن لم يقدر على ذلك فلينطح برأسه هذا الحجر صوت ( يا بيت عاتكَة الذي أَتعزَّل ... حَذَر العِدا وبه الفُؤادُ موكَّلُ ) ( إني لأمنحُكَ الصُّدودَ وإنني ... قَسماً إليك مع الصُّدود لأميَلُ ) أتعزله أتجنبه وأكون بمعزل عنه العدا جمع عدو ويقال عدا بالضم وعدا بالكسر وأمنحك أعطيك والمنيحة العطية وفي الحديث أن رجلا منح بعض ولده شيئا من ماله فقال له النبي أكل ولدك منحت مثل هذا قال لا قال فارجعه الشعر للأحوص بن محمد الأنصاري من قصيدة يمدح بها عمر بن عبد العزيز الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق ويونس وغيرهما وفيه لابن سريج خفيف ثقيل الأول بالبنصر عن الهشامي وابن المكي وعلي بن يحيى الأحوص وبعض أخباره سرق أبيات سليمان بأعيانها وأدخلها في شعره وغير قوافيها فقط أخبرني بخبر الأحوص في هذا الشعر الحرمي عن الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي وأخبرنا به الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن مصعب الزبيري عن المؤملي عن عمر بن أبي بكر الموصلي عن عبد الله بن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر قال خرجت أنا والأحوص بن محمد مع عبد الله بن الحسن بن الحسن إلى الحج فلما كنا بقديد قلنا لعبد الله بن الحسن لو أرسلت إلى سليمان بن أ بي دباكل فأنشدنا شيئا من شعره فأرسل إليه فأتانا فاستنشدناه فأنشدنا قصيدته التي يقول فيها ( يا بيتَ خَنْساءَ الذي أتجنَّبُ ... ذهب الشباب وحُبُّها لا يَذْهَبُ ) ( أصبحت أمنَحُكِ الصدودَ وإنَّني ... قَسماً إليك مع الصُّدودِ لأجنُبُ ) ( ما لي أحِنُّ إلى جِمالِكِ قُرِّبت ... وأصُدُّ عنك وأنت مِنِّيَ أقربُ ) ( لله دَرُّك هل لديك مُعوَّلٌ ... لمتَيَّيمٍ أم هل لوُدّكِ مَطلبُ ) ( فلقد رأيتك قبل ذاكَ وإنني ... لمُوكَّل بهواك أو مُتَقَرّب ) ( إذ نحن في الزمن الرخيّ وأنتُم ... متجاورون كلامُكم لا يُرقَبُ ) ( تبكي الحمامةُ شَجوها فتَهِيجُني ... عازبُ همِّيَ المتأَوِّبُ ) ( وتَهبُّ جاريةُ الرياح مِنَ ارضكم ... فأرى البلاد لها تُطِلُّ وتُخصِب ) ( وأرى السّمية باسمكم فيزيدُني ... شوقاً إليك رجاؤك المُتَنسّبُ ) ( وأرى العدوَّ يودّكم فأودّه ... إن كان يُنسب منك أو لا يُنسبُ ) ( وأُخالِف الوَاشِينَ فيك تجمُّلاً ... وهُم عليَّ ذَوُو ضغائِنَ دُؤَّبُ ) ( ثم اتخذتِهم عليَّ وَليجةً ... حتى غَضِبت ومثلُ ذلك يُغضِبُ ) قال فلما كان من قابل حج أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان فقدم المدينة فدخل عليه الأحوص واستصحبه فأصحبه فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده ماذا تريد بنفسك تقدم بالأحوص الشام وبها من ينافسك من بني أبيك وهو من الأفن والسفه على ما قد علمت فيعيبونك به فلما رجع أبو بكر من الحج دخل عليه الأحوص متنجزا لما وعده من الصحابة فدعا له بمائة دينار وأثواب وقال يا خال إني نظرت فيما سألتني من الصحابة فكرهت أن أهجم بك على أمير المؤمنين من غير إذنه فيجبهك فيشمت بك عدوي من أهل بيتي ولكن خذ هذه الثياب والدنانير وأنا مستأذن لك أمير المؤمنين فإذا أذن لك كتبت إليك فقدمت علي فقال له الأحوص لا ولكن قد سبعت عندك ولا حاجة لي بعطيتك ثم خرج من عنده فبلغ ذلك عمر بن عبد العزيز فأرسل إلى الأحوص وهو يومئذ أمير المدينة فلما دخل عليه أعطاه مائة دينار وكساه ثيابا فأخذ ذلك ثم قال له يا أخي هب لي عرض أبي بكر قال هو لك ثم خرج الأحوص فقال له عروض قصيدة سليمان بن أبي دبا كل قصيدة مدح بها عمر بن عبد العزيز وقال حماد قال أبي سرق أبيات سليمان بأعيانها فأدخلها في شعره وغير قوافيها فقط فقال ( يا بيتَ عاتكة الذي أتعزَّل ... حذَر العِدَا وبه الؤاد موكَّل ) ( أصبحتُ أمنحُك الصّدود وإنَّني ... قسَماً إليك مع الصّدود لأَمْيَلُ ) ( فصددتُ عنك وما صددتُ لِبغْضةٍ ... أخشى مقالةَ كاشحٍ لا يعْقِلُ ) ( هل عيشُنا بك في زمانك راجِعٌ ... فلقد تفاحش بعدك المتعلّل ) ( إني إذا قُلتُ استقام يحُطُّه ... خُلْفٌ كما نظر الخِلافَ الأقبَلُ ) ( لو بالّذي عالجت لِينَ فؤاده ... فأبَى يُلانُ بهِ لَلانَ الْجَنْدَلُ ) ( وتَجنُّبي بَيتَ الحبيبِ أودُّه ... أُرضِي البغيضَ به حديثٌ مُعْضِلُ ) ( ولئن صددتُ لأنتِ لولا رِقبتي ... أهوَى من اللائي أزورُ وأدْخُلُ ) ( إنّ الشَّبابَ وعيشَنا اللذَّ الذي ... كُنَّا به زمناً نُسرُّ ونَجذَلُ ) ( ذهبت بشاشتُه وأَصبَح ذكرُه ... حُزْناً يُعلُّ به الفؤاد وينهلُ ) ( إلاَّ تَذَكُّرَ ما مضى وصبابة ... مُنِيَتْ لقلْب متيَّمٍ لا يَذْهَلُ ) ( أودَى الشبابُ وأخلقَتْ لذَّاتُه ... وأنا الحزينُ على الشباب المُعْولُ ) ( يبكِي لما قَلَبَ الزمانُ جديدَه ... خَلقاً وليس على الزّمان مُعوَّلُ ) ( والرأس شامِلُه البَياضُ كأنه ... بعد السّواد به الثَّغامُ المُحْجِلُ ) ( وسفيهةٍ هبَّت عليَّ بسُحْرةٍ ... جَهْلاً تلوم على الثّواء وتعذلُ ) ( فأجبتُها أن قلتُ لستِ مُطاعةً ... فذرِي تنصُّحكَ الذي لا يُقبَلُ ) ( إنّي كَفانِي أن أعالج رِحْلَةً ... عُمَرٌ ونبوةُ من يضنّ ويبخل ) ( بِنَوالِ ذِي فجرٍ تكون سِجالُه ... عَمَمَّا إذا نزل الزَّمانُ الممحلُ ) ( ماضٍ على حدث الأمور كأنه ... ذو رَوْنق عَضْبٌ جَلاهُ الصَّيْقَلُ ) ( تُبدِي الرجال إذا بدا إعظامه ... حذَرَ البُغاث هَوَى لهنّ الأجْدَلُ ) ( فيرون أنّ له عليهم سورةً ... وفضيلَةً سَبَقَتْ له لا تُجْهَلُ ) ( مُتَحمِّلٌ ثِقَلَ الأمورِ حوى له ... سبقَ المكارم سابِقٌ مُتَمَهِّلُ ) ( وله إذا نُسِبَتْ قريشٌ منهم ... مجد الأرومة والفَعالُ الأفضلُ ) ( وله بمكة إذْ أميّة أهلُها ... إرثٌ إذا عُدَّ القديمُ مُؤثّلُ ) ( أعيت قرابَتُه وكان لُزومُه ... أمْراً أبانَ رَشَادَه مَنْ يَعْقِلُ ) ( وسموتَ عن أخلاقهم فتركتهم ... لنداك إنّ الحازمَ المتحوّلُ ) ( ولقد بدأتُ أريدُ وُدَّ معاشِرٍ ... وَعَدُوا مواعِدَ أخلفت إن حُصِّلُوا ) ( حتى إذا رجع اليقينُ مطامِعي ... يأساً وأخلَفَني الذين أُؤمّلُ ) ( زايلتُ ما صَنَعوا إليك برحلةٍ ... عَجْلَى وعندك عنهمُ مُتَحوَّلُ ) ( ووعدتني في حاجةٍ فصَدَقْتَنِي ... ووفيتَ إذ كَذَبُوا الحديثَ وبَدَّلوا ) ( وشكوتُ غُرماً فادحاً فحملتَه ... عَنِّي وأنت لمثلِه مُتَحمِّل ) ( فلأشكرنَّ لك الذي أوليتَني ... شُكراً تُحلُّ به المطيُّ وتُرحَلُ ) ( مِدَحاً تكون لكم غرائبُ شعرها ... مَبْذُولَةً ولغيركم لا تبذل ) ( فإذا تَنَحَّلْتُ القريضَ فإنّه ... لكم يكون خِيارُ ما أَتَنَحَّلُ ) ( ولعمرُ مَن حَجَّ الحجيجُ لِبَيْته ... تَهْوِي به قُلُص المَطِيّ الذُّمَّلُ ) ( إنَّ امرأً قد نال منك قرابةً ... يَبْغي منافِعَ غيرها لمُضَلَّلُ ) ( تَعْفُو إذا جَهِلُوا بحلمك عنهم ... وتُنِيلُ إن طلبوا النّوال فتُجزِلُ ) ( وتكون مَعْقِلَهُمْ إذا لم يُنجِهم ... من شَرّ ما يخشون إلاّ المَعْقِل ) ( حتى كأنك يُتَّقى بك دونهمْ ... من أُسْد بِيشة خادِرٌ مُتَبَسِّل ) ( وأَراكَ تفعلُ ما تقول وبَعضُهم ... مَذِقُ الحديث يقول ما لا يَفْعل ) ( وأرى المدينةَ حين صِرْت أميرَها ... أمِنَ البَرِيءُ بها ونام الأعزلُ ) فقال عمر ما أراك أعفيتني مما استعفيت منه قال لأنه مدح عمر وعرض بأخيه أبي بكر نسبة ما مضى في هذه الأخبار من الأغاني صوت ( ما لي أحِنُّ إذا جِمالُك قُرِّبت ... وأصدّ عنك وأنت مني أقربُ ) ( وأرى البلادَ إذا حللتِ بغيرها ... وَحْشاً وإن كانت تُظَلّ وتُخْصِبُ ) ( يا بيت خنساءَ الذي أتجنَّب ... ذهب الشباب وحُبُّها لا يذهَبُ ) ( تبكي الحمامةُ شجوَها فتَهيجُني ... ويَرُوحُ عازب هَمِّيَ المتأوِّبُ ) الشعر لسليمان بن أبي دباكل والغناء لمعبد خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو وقال ابن المكي فيه خفيف ثقيل آخر لابن محرز وأوله ( تبكي الحمامة شجوها فتهيجني ... ) من هي عاتكة التي يذكرها الأحوص في شعره أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي وقال محمد بن كناسة حدثني أبو دكين بن زكريا بن محمد بن عمار بن ياسر قال رأيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص ( يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... ) وهي عجوز كبيرة وقد جعلت بين عينيها هلالا من نيلج تتملح به أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن محمد العمري قال عاتكة التي يشبب بها الأحوص عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية أخبرني الحرمي عن الزبير عن إسحاق بن عبد الملك أن الأحوص كان لينا وأن عاتكة التي ينسب بها ليست عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية وإنما هو رجل كان ينزل قرى كانت بين الأشراف كنى عنه بعاتكة أخبرني الحرمي عن الزبيري عن يعقوب بن حكيم قال كان الأحوص لينا وكان يلزم نازلا بالأشراف فنهاه أخوه عن ذلك فتركه فرقا من أخيه وكان يمر قريبا من خيمة النازل بالأشراف ويقول ( يا بيت عاتكة الذي أتعزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل ) يكنى عنه بعاتكة ولا يقدر أن يدخل عليه الفرزدق وكثير يزوران الأحوص أخبرني الحرمي عن الزبيري عن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن إبراهيم قال حدثني عبد العزيز بن عمران قال قدم الفرزدق المدينة فقال لكثير هل لك بنا في الأحوص نأتيه ونتحدث عنده فقال له وما نصنع به إذا والله نجد عنده عبدا حالكا أسود حلوكا يؤثره علينا ويبيت مضاجعه ليلته حتى يصبح قال الفرزدق فقلت إن هذا من عداوة الشعراء بعضهم لبعض قال فانهض بنا إليه إذا لا أب لغيرك قال الفرزدق فأردفت كثيرا ورائي على بغلتي وقلت تلفف يا أبا صخر فمثلك لا يكون رديفا فخمر رأسه وألصق في وجهه فجعلت لا أجتاز بمجلس قوم إلا قالوا من هذا وراءك يا أبا فراس فأقول جارية وهبها لي الأمير فلما أكثرت عليه من ذلك واجتاز على بني زريق وكان يبغضهم فقلت لهم ما كنت أقول قبل ذلك كشف عن رأسه وأومض وقال كذب ولكني كرهت أن أكون له رديفا وكان حديثه لي معجبا فركبت وراءه ولم تكن لي دابة أركبها إلا دابته فقالوا لا تعجل يا أبا صخر ههنا دواب كثيرة تركب منها ما أردت فقال دوابكم والله أبغض إلي من ردفه فسكتوا عنه وجعل يتغشم عليهم حتى جاوز أبصارهم فقلت والله ما قالوا لك بأسا فما الذي أغضبك عليهم فقال والله ما أعلم نفرا أشد تعصبا للقرشيين من نفر اجتزت بهم قال فقلت له وما أنت لا أم لك ولقريش قال أنا والله أحدهم قلت إن كنت أحدهم فأنت والله دعيهم قال دعيهم خير من صحيح نسب العرب وإلا فأنا والله من أكرم بيوتهم أنا أحد بني الصلت بن النضر قلت إنما قريش ولد فهر بن مالك فقال كذبت فقال ما علمك بابن الجعراء بقريش هم بنو النضر بن كنانة ألم تر إلى النبي انتسب إلى النضر بن كنانة ولم يكن ليجاوز أكرم نسبه قال فخرجنا حتى أتينا الأحوص فوجدناه في مشربة له فقلنا له أنرقى إليك أم تنزل إلينا قال لا أقدر على ذلك عندي أم جعفر ولم أرها منذ أيام ولي فيها شغل فقال كثير أم جعفر والله بعض عبيد الزرانيق فقلنا له فأنشدنا بعض ما أحدثت به فأنشدنا قوله ( يا بَيْتَ عاتكةَ الذي أتعزّل ... حذرَ العِدا وبه الفُؤادُ مُوكَّلُ ) حتى أتى على آخرها فقلت لكثير قاتله الله ما أشعره لولا ما أفسد به نفسه قال ليس هذا إفسادا هذا خسف إلى التخوم فقلت صدقت وانصرفنا من عنده فقال أين تريد فقلت إن شئت فمنزلي وأحملك على البغلة وأهب لك المطرف وإن شئت فمنزلك ولا أرزؤك شيئا فقال بل منزلي وأبذل لك ما قدرت عليه وانصرفنا إلى منزله فجعل يحدثني وينشدني حتى جاءت الظهر فدعا لي بعشرين دينارا وقال استعن بهذه يا أبا فراس على مقدمك قلت هذا أشد من حملان بني زريق قال والله إنك ما تأنف من أخذ هذا من أحد غير الخليفة قال الفرزدق فجعلت أقول في نفسي تالله إنه لمن قريش وهممت ألا أقبل منه فدعتني نفسي وهي طمعة إلى أخذها منه فأخذتها معنى قول كثير للفرزدق يابن الجعراء يعيره بدغة وهي أم عمرو بن تميم وبها يضرب المثل في الحماقة فيقال هي أحمق من دغة وكانت حاملا فدخلت الخلاء فولدت وهي لا تعلم ما الولد وخرجت وسلاها بين رجليها وقد استهل ولدها فقالت يا جارتا أيفتح الجعر فاه فقالت جارتها نعم يا حمقاء ويدعو أباه فبنو تميم يعيرون بذلك ويقال للمنسوب منهم يا بن الجعراء ملاحاة بينه وبين السري بن عبد الرحمن أخبرني الحرمي عن الزبير قال حدثني سليمان بن داود المجمعي قال اجتاز السري بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري بالأحوص وهو ينشد قوله ( يا بيتَ عاتكةَ الذي أتعزّل ... ) فقال السري ( يا بَيْتَ عاتكةَ المُنَوَّهَ باسْمِهِ ... اقعُد على مَنْ تحتَ سَقْفِك واعْجَل ) فواثبه الأحوص وقال في ذلك ( فأنت وشتمي في أَكارِيسِ مالك ... وسَبّي به كالكَلْب إذ يَنبح النَّجْما ) ( تَداعَى إلى زَيْد وما أنتَ منهم ... تَحُقُّ أَباً إلاّ الولاءَ ولا أما ) ( وإنَّك لو عَدَّدْتَ أَحسابَ مالك ... وأيامها فيها ولم تنطق الرَّجْما ) ( أعادتْك عَبْداً أو تنَقَّلتَ كاذِباً ... تَلمَّسُ في حيٍّ سوى هالك جِذْما ) ( وما أنا بالمحْسوس في جِذْمِ مالك ... ولا بالمُسمَّى ثم يلتزم الإِسْمَا ) ( ولكن أَبي لَوْ قد سألتَ وجدَته ... توسَّطَ منها العِزَّ والحَسَب الضَّخْما ) فأجابه السري فقال ( سألتُ جميعَ هذا الخلق طُرًّا ... متى كان الأُحَيْوص من رجالي ) وهي أبيات ليست بجيدة ولا مختارة فألغيت ذكرها شعره يسعف دليل المنصور أخبرني محمد بن أحمد بن الطلاس أبو الطيب عن أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني وأخبرني به الحرمي عن الزبير قال حدثني عمي وقد جمعت روايتيهما أن المنصور أمر الربيع لما حج أن يسايره برجل يعرف المدينة وأهلها وطرقها ودورها وحيطانها فكان رجل من أهلها قد انقطع إلى الربيع زمانا وهو رجل من الأنصار فقال له تهيأ فإني أظني جسدك قد تحرك إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أسايره برجل يعرف المدينة وأهلها وطرقها وحيطانها ودورها فتحسس موافقته ولا تبتدئه بشيء حتى يسألك ولا تكتمه شيئا ولا تسأله حاجة فغدا عليه بالرجل وصلى المنصور فقال يا ربيع الرجل فقال ها هو ذا فسار معه يخبره عما سال حتى ندر من أبيات المدينة فأقبل عليه المنصور فقال من أنت أولا فقال من لا تبلغه معرفتك هكذا ذكر الخراز وليس في رواية الزبير فقال مالك من الأهل والولد فقال والله ما تزوجت ولا لي خادم قال فأين منزلك قال ليس لي منزل قال فإن أمير المؤمنين قد أمر لك بأربعة آلاف درهم فرمي بنفسه فقبل رجله فقال له اركب فركب فلما أراد الانصراف قال للربيع يا أبا الفضل قد أمر لي أمير المؤمنين بصلة قال إيه قال إن رأيت أن تنجزها لي قال هيهات قال فأصنع ماذا قال لا أدري والله وفي رواية الخراز أنه قال ما أمر لك بشيء ولو أمر به لدعاني فقال أعطه أو وقع إلي فقال الفتى هذا هم لم يكن في الحساب فلبثت أياما ثم قال المنصور للربيع ما فعل الرجل قال حاضر قال سايرنا به الغداة ففعل وقال له الربيع إنه خارج بعد غد فاحتل لنفسك فإنه والله إن فاتك فإنه آخر العهد به فسار معه فجعل لا يمكنه شيء حتى انتهى إلى مسيره ثم رجع وهو كالمعرض عنه فلما خاف فوته أقبل عليه فقال يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة قال وما بيت عاتكة قال الذي يقول فيه الأحوص ( يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... ) قال فمه قال إنه يقول فيها ( إنّ امرأً قد نال منك وسيلةً ... يرجُو منافعَ غَيرِها لمضّللُ ) ( وأراكَ تفعَلُ ما تقول وبَعضُهم ... مَذِقُ الحديث يقول ما لا يَفْعَلُ ) فقال الزبير في خبره فقال له لقد رأيتك أذكرت بنفسك يا سليمان ابن مخلد أعطه أربعة آلاف درهم فأعطاه إياها وقال الخراز في خبره فضحك المنصور وقال قاتلك الله ما أظرفك يا ربيع أعطه ألف درهم فقال يا أمير المؤمنين إنها كانت أربعة آلاف درهم فقال ألف يحصل خير من أربعة آلاف لا تحصل وقال الخراز في خبره حدثني المدائني قال أخذ قوم من الزنادقة وفيهم ابن لابن المقفع فمر بهم على أصحاب المدائن فلما رآهم ابن المقفع خشي أن يسلم عليهم فيؤخذ فتمثل ( يا بيتَ عاتكةَ الذي أتعزَّلُ ... حذَر العِدا وبه الفؤادُ مُوَكَّلُ ) الأبيات ففطنوا لما أراد فلم يسلموا عليه ومضى هو ومعبد المغني في حضرة يزيد بن عبد الملك أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة قال بلغني أن يزيد بن عبد الملك كتب إلى عامله أن يجهز إليه الأحوص الشاعر ومعبدا المغني فأخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني أبي قال حدثنا سلمة بن صفوان الزرقي عن الأحوص الشاعر وذكر إسماعيل بن سعيد الدمشقي أن الزبير بن بكار حدثه عن ابن أبي أويس عن أبيه عن مسلمة بن صفوان عن الأحوص وأخبرني به الحرمي عن الزبير عن عمه عن جرير المديني المغني وأبو مسكين قالوا جميعا كتب يزيد بن عبد الملك في خلافته إلى أمير المدينة وهو عبد الواحد ابن عبد الله النصري أن يحمل إليه الأحوص الشاعر ومعبدا المغني مولى ابن قطن قال فجهزنا وحملنا إليه فلما نزلنا عمان أبصرنا غديرا وقصورا فقعدنا على الغدير وتحدثنا وذكرنا المدينة فخرجت جارية من بعض تلك القصور ومعها جرة تريد أن تستقي فيها ماء قال الأحوص فتغنت بمدحي في عمر بن عبد العزيز ( يا بيت عاتكةَ الذي أتعزل ... ) فتغنت بأحسن صوت ما سمعته قط ثم طربت فألقت الجرة فكسرتها فقال معبد غنائي والله وقلت شعري والله فوثبنا إليها وقلنا لها لمن أنت يا جارية قالت لآل سعيد بن العاص وفي خبر جرير المعني لآل الوليد بن عقبة ثم اشتراني رجل من آل الوحيد بخمسين ألف درهم وشغف بي فغلبته بنت عم له طرأت عليه فتزوجها على أمري فعاقبت منزلتها بمنزلتي ثم علا مكانها مكاني فلم تزدها الأيام إلا ارتفاعا ولم تزدني إلا اتضاعا فلم ترض منه إلا بأن أخدمها فوكلتني باستقاء الماء فأنا على ما تريان أخرج أستقي الماء فإذا رأيت هذه القصور والغدران ذكرت المدينة فطربت إليها فكسرت جرتي فيعذلني أهلي ويلومونني قال فقلت لها أنا الأحوص والشعر لي وهذا معبد والغناء له ونحن ماضيان إلى أمير المؤمنين وسنذكرك له أحسن ذكر وقال جرير في خبره ووافقه وكيع ورواية عمر بن شبة قالوا فأنشأت الجارية تقول ( إن تروني الغداةَ أسعى بجرٍّ ... أستَقِي الماء نحو هذا الغدير ) ( فلقد كنتُ في رخاء من العيش ... وفي كل نعمةٍ وسُرورِ ) ( ثم قد تُبصِران ما فيه أمْسَيْتُ ... وماذا إليه صار مَصِيري ) ( فإلى الله أَشتكي ما ألاقي ... من هَوانٍ وما يُجِنُّ ضَمِيري ) ( أبلغا عَنّي الإمامَ وما يعرف ... صِدقَ الحَديث غيرُ الخَبير ) ( إنني أَضْرَبُ الخَلائِق بالعُودِ ... وأَحْكاهُم بِبَمٍّ وزِير ) ( فلعلّ الإله يُنقِذ مما ... أَنا فيه فإنّني كالأسير ) ( ليتني مِتّ يوم فارقتُ أهلي ... وبلادي فزُرت أهلَ القُبورِ ) ( فاسمعا ما أقول لفَّا كما ... الله نجاحاً في أحسن التيسير ) فقال الأحوص من وقته صوت ( إنّ زينَ الغدير من كسر الجرْ ... وَغَنَّى غِناء فحلٍ مُجيد ) ( قلتُ من أنتِ يا ظعينَُ فقالت ... كنتُ فيما مضى لآل الوليدِ ) وفي رواية الدمشقي ( قلت من أَيْن يا خَلوبُ فقالت ... كنتُ فيما مضى لآل سعيد ) ( ثم أصبحْتُ بعد حَيِّ قريشٍ ... في بني خالد لآل الوحيد ) ( فغِنائي لمعبَد ونَشِيدي ... لفتى الناس الأحْوَص الصِّنْديدِ ) ( فتباكيْتُ ثم قلت أنا الأحْوص ... والشيخ مَعْبَدٌ فأعِيدي ) ( فأعادت لنا بصوتٍ شجِيٍّ ... يتركُ الشيخَ في الصِّبا كالوَليدِ ) وفي رواية أبي زيد ( فأعادت فأحسنَتْ ثم ولَّتْ ... تَتهادَى فقلتُ قولَ عميدِ ) ( يعجِزُ المالُ عن شِراكٍ ولكنْ ... أنتِ في ذِمَّة الهُمام يزيدِ ) ( ولكِ اليومَ ذِمَّتي بوفاءٍ ... وعلى ذاكِ من عِظام العهودِ ) ( أَنْ سَيَجْرِي لك الحديثُ بصوتٍ ... مَعبديّ يَرُدُّ حَبْلَ الوريدِ ) ( يفعل الله ما يشاء فَظُنِّي ... كُلَّ خير بنا هناكَ وزيدِي ) ( قالت القَينةُ الكَعَابُ إلى ... اللهِ أُمورِي وأرْتَجِي تَسْدِيدِي ) غناه معبد ثاني ثقيل بالبنصر من رواية حبش والهشامي وغيرهما وهي طريقة هذا الصوت وأهل العلم بالغناء لا يصححونه لمعبد قال الأحوص وضع فيه معبد لحنا فأجاده فلما قدمنا على يزيد قال يا معبد أسمعني أحدث غناء غنيت وأطراه فغناه معبد ( إنّ زَينَ الغدير من كَسَرَ الجرَّ ... وَغَنَّى غِناء فحلٍ مُجيدِ ) فقال يزيد إن لهذا لقصة فأخبراني بها فأخبراه فكتب لعامله بتلك الناحية إن لآل فلان جارية من حالها ذيت وذيت فاشترها بما بلغت فاشتراها بمائة ألف درهم وبعث بها هدية وبعث معها بألطاف كثيرة فلما قدمت على يزيد رأى فضلا بارعا فأعجب بها وأجازها وأخدمها وأقطعها وأفرد لها قصرا قال فوالله ما برحنا حتى جاءتنا منها جوائز وكسا وطرف وقال الزبير في خبره عن عمه قال أظن القصة كلها مصنوعة وليس يشبه الشعر شعر الأحوص ولا هو من طرازه وكذلك ذكر عمر بن شبة في خبره أخبرني الحرمي عن الزبير قال سمعت هشام بن عبد الله بن عكرمة يحدث عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال ينذر بزوال الدولة الأموية كنت مع يزيد بن عمر بن هبيرة ليلة الفرات فلما انهزم الناس التفت إلي فقال يا أبا الحارث أمسينا والله وهم كما قال الأحوص ( أبْكِي لما قَلَبَ الزمانُ جديدَه ... خَلَقاً وليس على الزمان مُعَوَّلُ ) أخبرني الحرمي عن الزبير عن محمد بن محمد العمري أن عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية رئيت في النوم قبل ظهور دولة بني العباس على بني أمية كأنها عريانة ناشرة شعرها تقول ( أين الشَّبابُ وعيشُنا اللّذُّ الذي ... كُنَّا به يوما نُسَرُّ ونُجذَلُ ) ( ذهبت بَشاشتُه وأصبَحَ ذِكْرُه ... حُزْناً يُعَلَّ به الفؤادُ ويُنْهَل ) فتأول الناس ذلك بزوال دنيا بني أمية فكان كما قالوا أخبرني بهذا الخبر الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الجمحي عن شيخ من قريش أنه رأى في النوم امرأة من ولد عثمان بن عفان على منايم على دار عثمان المقبلة على المسجد وهي حاسرة في يديها عود وهي تضرب به وتغني ( أين الشَّبابُ وعيشُنا اللّذُّ الذي ... كُنَّا به زَمناً نُسَرُّ ونُجذَلُ ) ( ذهبت بَشاشتُه وأصبَحَ ذِكْرُه ... حُزْناً يُعَلُّ به الفؤادُ ويُنْهَل ) قال فما لبثنا إلا يسيرا حتى خرج الأمر عن أيديهم وقتل مروان قال إسحاق المنامة الدكان وجمعها منايم صوت ( يا هندُ إنَّكِ لو علمتِ ... بعَاذِلَيْنِ تتابعا ) ( قالا فلمْ أسْمَعْ لِمَا ... قالا وقلتُ بل اسْمَعا ) ( هندٌ أحبُّ إليَّ من ... مالي وروحيَ فارْجِعَا ) ( ولقد عَصَيْتُ عَواذِلي ... وأطعْتُ قلباً مُوجَعا ) الشعر لعبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام والغناء لابن سريج ولحنه فيه لحنان أحدهما من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر رمل بالوسطى عن عمرو وفيه خفيف ثقيل ذكر أبو العبيس أنه لابن سريج وذكر الهشامي وابن المكي أنه للغريض وذكر حبش أن لإبراهيم فيه رملا آخر بالبنصر وقال أحمد بن عبيد الذي صح فيه ثقيل الأول وخفيفه ورمله وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لابن عباد ذكر عبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام ونسبه وأخباره وخبر هذا الشعر عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وقد مضى نسبه في أخبار عمه الحسين صلوات الله عليه في شعره الذي يقول فيه ( لعمرُكَ إنَّنِي لأُحِبُّ داراً ... تَحِلُّ بِهَا سُكَيْنَةُ والرَّبابُ ) ويكنى عبد الله بن الحسن أبا محمد وأم عبد الله بن الحسن بن الحسن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله وأمها الجرباء بنت قسامة بن رومان عن طيء لماذا سميت جدته الجرباء أخبرني أحمد بن سعيد قال حدثنا يحيى بن الحسن قال إنما سميت الجرباء لحسنها كانت لا تقف إلى جنبها امرأة وإن كانت جميلة إلا استقبح منظرها لجمالها وكان النساء يتحامين أن يقفن إلى جنبها فشبهت بالناقة الجرباء التي تتوقاها الإبل مخافة أن تعديها وكانت أم إسحاق من أجمل نساء قريش وأسوئهن خلقا ويقال إن نساء بني تيم كانت لهن حظوة عند أزواجهن على سوء أخلاقهن ويروى أن أم إسحاق كانت ربما حملت وولدت وهي لا تكلم زوجها أخبرني الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه بذلك قال وقد كانت أم إسحاق عند الحسن بن علي بن ابي طالب صلوات الله عليه قبل أخيه الحسين عليه السلام فلما حضرته الوفاة دعا بالحسين صلوات الله عليه فقال له يا أخي إني أرضى هذه المرأة لك فلا تخرجن من بيوتكم فإذا انقضت عدتها فتزوجها فلما توفي الحسن عنها تزوجها الحسين عليه السلام وقد كانت ولدت من الحسن عليه السلام ابنه طلحة بن الحسن فهو أخو فاطمة لأمها وابن عمها وقد درج طلحة ولا عقب له ومن طرائف أخبار التيميات من نساء قريش في حظوتهن وسوء أخلاقهن ما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن محمد بن عبد الله قال كانت أم سلمة بنت محمد بن طلحة عند عبد الله بن الحسن وكانت تقسو عليه قسوة عظيمة وتغلظ له ويفرق منها ولا يخالفها فرأى يوما منها طيب نفس فأراد أن يشكو إليها قسوتها فقال لها يا بنت محمد قد أحرق والله قلبي . . . فحددت له النظر وجمعت وجهها وقالت له أحرق قلبك ماذا فخافها فلم يقدر على أن يقول لها سوء خلقك فقال لها حب أبي بكر الصديق فأمسكت عنه وتزوج الحسن بن الحسن فاطمة بنت الحسين في حياة عمه وهو عليه السلام زوجه إياها زواجه فاطمة بنت الحسين أخبرني الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه بذلك وحدثني أحمد ابن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن إسماعيل بن يعقوب قال حدثني جدي عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن قال خطب الحسن بن الحسن إلى عمه الحسين صلوات الله عليه وسأله أن يزوجه إحدى ابنتيه فقال له الحسين عليه السلام اختر يا بني أحبهما إليك فاستحيا الحسن ولم يحر جوابا فقال له الحسين عليه السلام فإني اخترت منهما لك ابنتي فاطمة فهي أكثر شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله أخبرني الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه مصعب أن الحسن لما خيره عمه اختار فاطمة وكانوا يقولون إن امرأة سكينة مردودتها لمنقطعة القرين في الجمال أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن يحيى وأحمد بن زهير عن الزبير وأخبرني أحمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن الزبير بن بكار واللفظ للحسن بن علي وخبره أتم قال قال الزبير حدثني عمي مصعب ولم يذكر أحدا ماذا قال حين حضرته الوفاة وأخبرني محمد بن يحيى عن أيوب عن عمر بن أبي الموالي قال الزبير وحدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن يوسف بن الماجشون وقد دخل حديث بعضهم في بعض حديث الآخرين أن الحسن بن الحسن لما حضرته الوفاة جزع وجعل يقول إني لأجد كربا ليس إلا هو كرب الموت وأعاد ذلك دفعات فقال له بعض أهله ما هذا الجزع تقدم على رسول الله وهو جدك وعلى علي والحسن والحسين صلوات الله عليهم وهم آباؤك فقال لعمري إن الأمر لكذلك ولكني كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان حين أموت وقد جاء في مضرجتين أو ممصرتين وهو يرجل جمته يقول أنا من بني عبد مناف جئت لأشهد ابن عمي وما به إلا أن يخطب فاطمة بنت الحسين فإذا جاء فلا يدخل علي فصاحت فاطمة أتسمع قال نعم قالت أعتقت كل مملوك لي وتصدقت بكل ملك لي إن أنا تزوجت بعدك أحدا أبدا قال فسكن الحسن وما تنفس ولا تحرك حتى قضى فلما ارتفع الصياح أقبل عبد الله على الصفة التي ذكرها الحسن فقال بعض القوم ندخله وقال بعضهم لا يدخل وقال قوم لا يضر دخوله فدخل وفاطمة تصك وجهها فأرسل إليها وصيفا كان معه فجاء يتخطى الناس حتى دنا منها فقال لها يقول لك مولاي ابقي على وجهك فإن لنا فيه أربا قال فأرسلت يدها في كمها واختمرت وعرف ذلك منها فما لطمت وجهها حتى دفن صلوات الله عليه فلما انقضت عدتها خطبها فقالت فكيف لي بنذري ويميني فقال نخلف عليك بكل عبد عبدين وبكل شيء شيئين ففعل وتزوجته وقد قيل في تزويجه إياها غير هذا أخبرني به أحمد بن محمد بن إسماعيل الهمداني عن يحيى بن الحسن العلوي عن أخيه أبي جعفر عن إسماعيل بن يعقوب عن محمد ابن عبد الله البكري أن فاطمة لما خطبها عبد الله أبت أن تتزوجه فحلفت عليها أمها لتتزوجنه وقامت في الشمس وآلت لا تبرح حتى تتزوجته فكرهت فاطمة أن تحرج فتزوجته وكان عبد الله بن الحسن بن الحسن شيخ أهله وسيدا من ساداتهم ومقدما فيهم فصلا وعلما وكرما وحبسه أبو جعفر المنصور في الهاشمية بالكوفة لما خرج عليه ابناه محمد وإبراهيم فمات في الحبس وقيل إنه سقط عليه وقيل غير ذلك انتهى كل حسن إليه أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن علي بن أحمد الباهلي قال سمعت مصعبا الزبيري يقول انتهى كل حسن إلى عبد الله بن حسن وكان يقال من أحسن الناس فيقال عبد الله بن الحسن ويقال من أفضل الناس فيقال عبد الله بن الحسن حدثني محمد بن الحسن الخثعمي الأشناني والحسن بن علي السلولي قالا حدثنا عباد بن يعقوب قال حدثنا تلميذ بن سليمان قال رأيت عبد الله بن الحسن وسمعته يقول أنا أقرب الناس إلى رسول الله ولدتني بنت رسول الله مرتين حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن إسماعيل ابن يعقوب عن عبد الله بن موسى قال أول من اجتمعت له ولادة الحسن عليه السلام والحسين صلوات الله عليهما عبد الله بن الحسن عليه السلام حدثني محمد بن الحسن الأشناني عن عبد الله بن يعقوب عن بندقة ابن محمد بن حجازة الدهان قال رأيت عبد الله بن الحسن فقلت هذا والله سيد الناس كان مكسوا نورا من قرنه إلى قدمه قال علي بن الحسين وقد روي ذلك في أخبار أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي عليه السلام حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن القاسم ابن عبد الرزاق قال جاء منظور بن زيان الفزاري إلى حسن بن حسن وهو جده أبو أمه فقال له لعلك أحدثت بعدي أهلا قال نعم تزوجت بنت عمي الحسين ابن علي عليهما السلام قال بئسما صنعت أما علمت أن الأرحام إذا التقت أضوت كان ينبغي أن تتزوج في الغرب قال فإن الله جل وعز قد رزقني منها ولدا قال أرنيه فأخرج إليه عبد الله بن الحسن فسر به وقال أنجبت هذا والله ليث غاب ومعدو عليه قال فإن الله تعالى قد رزقني منها ولدا ثانيا قال فأرنيه فأخرج إليه حسن بن حسن بن حسن فسر به وقال أنجبت وهذا دون الأول قال فإن الله قد رزقني منها ولدا ثالثا قال فأرنيه فأراه إبراهيم بن الحسن حدثني أبو عبيد محمد بن أحمد الصيرفي قال حدثنا محمد بن علي ابن خلف قال حدثنا عمر بن عبد الغفار قال حدثنا سعيد بن أبان القرشي قال كنت عند عمر بن عبد العزيز فدخل عبد الله بن الحسن عليه وهو يومئذ شاب في إزار ورداء فرحب به وأدناه وحياه وأجلسه إلى جنبه وضاحكه ثم غمز عكنة من بطنه وليس في البيت حينئذ إلا أموي فقيل له ما حملك على غمز بطن هذا الفتى قال إني لأرجو بها شفاعة محمد حدثني عمر بن عبد الله بن جميل العتكي عن عمر بن شبة عن إسماعيل بن جعفر الجعفري قال حدثني سعيد بن عقبة الجهني قال إني لعند عبد الله بن الحسن إذ أتاني آت فقال هذا رجل يدعوك فخرجت فإذا أنا بأبي عدي الشاعر الأموي فقال أعلم أبا محمد فخرج إليه عبد الله وهم خائفون فأمر له بأربعمائة دينار وهند بمائتي دينار فخرج بستمائة دينار وقد روى مالك ابن أنس عن عبد الله بن الحسن الحديث كان يسدل شعره حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن قال حدثنا علي بن أحمد الباهلي عن مصعب بن عبد الله قال سئل مالك عن السدل قال رأيت من يرضى بفعله عبد الله بن الحسن يفعله والسبب في حبس عبد الله بن الحسن وخروج ابنيه وقتلهما يطول ذكره وقد أتى عمر بن شبة منه بما لا يزيد عليه أحد إلا اليسير ولكن من أخباره ما يحسن ذكره ها هنا فنذكره أخبرني عمر بن عبد الله العتكي عن عمر بن شبة قال حدثني موسى ابن سعيد بن عبد الرحمن وأيوب بن عمر عن إسماعيل بن أبي عمرو قالوا شعر تمثل به لما بني أبو العباس بناءه بالأنبار الذي يدعى الرصافة رصافة أبي العباس قال لعبد الله بن الحسن ادخل فانظر ودخل معه فلما رآه تمثل ( أَلم ترَ حَوْشَباً أمْسَى يُبَنِّي ... بِناءً نَفعُه لبنِي نُفَيْله ) ( يُؤمّل أن يُعَمَّر عُمْرَ نُوحٍ ... وأمرُ اللهِ يحدثُ كلَّ لَيْلَة ) فاحتمله أبو العباس ولم يبكته بها أخبرني عمي عن ابن شبة عن يعقوب بن القاسم عن عمرو بن شهاب وحدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن الزبير عن محمد ابن الضحاك عن أبيه قالوا إن أبا العباس كتب إلى عبد الله بن الحسن في تغيب ابنيه ( أرِيد حَياتَه ويُرِيد قَتلِي ... عَذيرَك من خَلِيلك من مُرادِ ) قال عمر بن شبة وإنما كتب بها إلى محمد قال عمر بن شبة فبعثوا إلى عبد الرحمن بن مسعود مولى أبي حنين فأجابه ( وكيف يُرِيدُ ذاكَ وأنتَ مِنْهُ ... بمنزلة النِّياط من الفُؤادِ ) ( وكيف يُريدُ ذاكَ وأنتَ مِنْهُ ... وزَنْدُك حين تقدح من زِنادِ ) ( وكيف يُريدُ ذاكَ وأنتَ مِنْهُ ... وأنتَ لِهَاشمٍ رأسٌ وَهادِ ) أخبرني عمر بن عبد الله بن شبة عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام عن الحسن بن زيد عن عبد الله بن الحسن قال بينا أنا في سمر أبي العباس وكان إذا تثاءب أو ألقى المروحة من يده قمنا فألقاها ليلة فقمنا فأمسكني فلم يبق غيري فأدخل يده تحت فراشه وأخرج إضبارة كتب وقال اقرأ يا أبا محمد فقرأت فإذا كتاب من محمد ابن هشام بن عمرو التغلبي يدعوه إلى نفسه فلما قرأته قلت له يا أمير المؤمنين لك عهد الله وميثاقه ألا ترى منهما شيئا تكرهه ما كانا في الدنيا أخبرنا العتكي عن ابن شبة عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمر عن عبد الله بن عبدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال لما استخلف أبو جعفر ألح في طلب محمد والمسألة عنه وعمن يؤويه فدعا بني هاشم رجلا رجلا فسألهم عنه فكلهم يقول قد علم أمير المؤمنين أنك قد عرفته بطلب هذا الشأن قبل اليوم فهو يخافك على نفسه ولا يريد لك خلافا ولا يحب لك معصية إلا الحسن بن زيد فإنه أخبره خبره فقال والله ما آمن وثوبه عليك وأنه لا ينام فيه فر رأيك فيه قال ابن أبي عبيدة فأيقظ من لا ينام ======================================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق