ج40وج41وج42..كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
== أخبرني عمر بن عبد الله بن شبة عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن
عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن محمد بن عمران عن عقبة بن سلم أن أبا جعفر
دعاه فسأله عن اسمه ونسبه فقال أنا عقبة بن سلم بن نافع بن الأزدهاني قال إني أرى
لك هيئة وموضعا وإني لأريدك لأمر أنا به معني قال أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين
قال فأخف شخصك وائتني في يوم كذا وكذا فأتيته فقال إن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا
كيدا بملكنا ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا وكذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات
وألطاف فاذهب حتى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل تلك القرية ثم تسير ناحيتهم
فإن كانوا نزعوا عن رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر منهم حتى تلقى عبد الله بن الحسن
متخشعا وإن جبهك وهو فاعل فاصبر وعاوده أبدا حتى يأنس بك فإذا ظهر لك ما في قلبه
فاعجل إلي ففعل ذلك وفعل به حتى أنس عبد الله بناحيته فقال له عقبة الجواب فقال له
أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد ولكن أنت كتابي إليهم فأقرئهم السلام وأخبرهم أن
ابني خارج لوقت كذا وكذا فشخص عقبة حتى قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر بماذا أجاب
أبا جعفر عندما سأله عن ابنيه أخبرني العتكي عن عمر بن محمد بن يحيى بن الحارث بن
إسحاق قال سأل أبو جعفر عبد الله بن الحسن عن ابنيه لما حج فقال لا أعلم بهما حتى تغالظا
فأمضه أبو جعفر فقال له يا أبا جعفر بأي أمهاتي تمضني أبخديجة بنت خويلد أم بفاطمة
نت رسول الله أم بفاطمة بنت الحسين عليهم السلام أم بأم إسحاق بنت طلحة قال لا ولا
بواحدة منهن ولكن بالجرباء بنت قسامة فوثب المسيب بن زهير فقال يا أمير المؤمنين
دعني أضرب عنق ابن الفاعلة فقام زياد بن عبيد الله فألقى عليه رداءه وقال يا أمير
المؤمنين هبه لي فأنا المستخرج لك ابنيه فتخلصه منه قال ابن شبة وحدثني بكر بن عبد
الله مولى أبي بكر عن علي بن رباح أخي إبراهيم بن رباح عن صاحب المصلى قال إني
لواقف على رأس أبي جعفر وهو يتغدى بأوطاس وهو متوجه إلى مكة ومعه على مائدته عبد
الله بن الحسن وأبو الكرام الجعفري وجماعة من بني العباس فأقبل على عبد الله بن
الحسن فقال يا أبا محمد محمد وإبراهيم أراهما قد استوحشا من ناحيتي وإني لأحب أن
يأنسا بي ويأتياني فأصلهما وأزوجهما وأخلطهما بنفسي قال وعبد الله يطرق طويلا ثم
يرفع رأسه ويقول وحقك يا أمير المؤمنين مالي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم ولقد
خرجا عن يدي فيقول لا تفعل يا أبا محمد اكتب إليهما وإلى من يوصل كتابك إليهما قال
وامتنع أبو جعفر عن عامة غدائه ذلك اليوم إقبالا على عبد الله وعبد الله يحلف أنه
لا يعرف موضعهما وأبو جعفر يكرر عليه لا تفعل يا أبا محمد قال ابن شبة فحدثني محمد
بن عباد عن السندي بن شاهك أن أبا جعفر قال لعقبة بن سلم إذا فرغنا من الطعام
فلحظتك فامثل بين يدي عبد الله فإنه سيصرف بصره عنك فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك
حتى يملأ عينيه منك ثم حسبك وإياك أن يراك ما دام يأكل ففعل ذلك عقبة فلما رآه عبد
الله وثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر وقال يا أمير المؤمنين أقلني أقالك الله قال لا
أقالني الله إن أقلتك ثم أمر بحبسه قال ابن شبة فحدثني أيوب بن عمر عن محمد بن خلف
المخزومي قال أخبرني العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قال لما حج أبو
جعفر في سنة اربعين ومائة أتاه عبد الله وحسن ابنا حسن فإنهما وإياي لعنده وهو
مشغول بكتاب ينظر فيه إذ تكلم المهدي فلحن فقال عبد الله يا أمير المؤمنين ألا تأمر
بهذا من يعدل لسانه فإنه يفعل فعل الأمة فلم يفهم وغمزت عبد الله فلم ينتبه وعاد
لأبي جعفر فأحفظ من ذلك وقال له أين ابنك قال لا أدري قال لتأتيني به قال لو كان
تحت قدمي ما رفعتهما عنه قال يا ربيع فمر به إلى الحبس توفي في محبسه بالهاشمية
أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن قال توفي عبد الله في محبسه
بالهاشمية وهو ابن خمس وسبعين سنة في سنة خمس وأربعين ومائة وهند التي عناها عبد
الله في شعره الذي فيه الغناء زوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن
الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى بن قصي وأمها قرينة بنت يزيد بن عبد الله
بن وهب بن زمعة ابن الأسود بن المطلب وكان أبو عبيدة جوادا وممدحا وكانت هند قبل
عبد الله بن الحسن تحت عبد الله بن عبد الملك بن مروان فمات عنها فأخبرني الحرمي
عن الزبير عن سليمان بن عياش السعدي قال لما توفي أبو عبيدة وجدت ابنته هند وجدا
شديدا فكلم عبد الله بن الحسن محمد بن بشير الخارجي أن يدخل على هند بنت أبي عبيدة
فيعزيها ويؤسيها عن أبيها فدخل معه عليها فلما نظر إليها صاح بأبعد صوته ( قومي
اضربي عينيك يا هندُ لن تَرَيْ ... أَباً مثلَه تسمُو إليه المَفاخِرُ ) ( وكنت
إذا أَسبَلْتِ فوقك والدا ... تَزِيني كما زان اليدين الأساورُ ) فصكت
وجهها وصاحت بحربها وجهدها فقال له عبد الله بن الحسن ألهذا دخلت فقال الخارجي
وكيف أعزي عن أبي عبيدة وأنا أعزى به أخبرني العتكي عن شبة قال حدثني عبد الرحمن
بن جعفر بن سليمان عن علي بن صالح قال زوج عبد الملك بن مروان ابنه عبد الله هند
بنت أبي عبيدة وريطة بنت عبد الله بن عبد المدان لما كان يقال إنه كائن في
أولادهما فمات عنهما عبد الله أو طلقهما فتزوج هندا عبد الله بن الحسن وتزوج ريطة
محمد بن علي فجاءت بأبي العباس السفاح أخبرني العتكي عن عمر بن شبة عن ابن داجة عن
أبيه قال لما مات عبد الله بن عبد الملك رجعت هند بميراثها منه فقال عبد الله ابن حسن
لأمه فاطمة اخطبي علي هندا فقالت إذا تردك أتطمع في هند وقد ورثت ما ورثته وأنت
ترب لا مال لك فتركها ومضى إلى أبي عبيدة أبي هند فخطبها إليه فقال في الرحب
والسعة أما مني فقد زوجتك مكانك لا تبرح ودخل على هند فقال يا بنية هذا عبد الله
بن حسن أتاك خاطبا قالت فما قلت له قال زوجته قالت أحسنت قد أجزت ما صنعت وأرسلت
إلى عبد الله لا تبرح حتى تدخل على أهلك قال فتزينت له فبات بها معرسا من ليلته
ولا تشعر أمه فأقام سبعا ثم أصبح يوم سابعه غاديا على أمه وعليه ردع الطيب وفي غير
ثيابه التي تعرف فقالت له يا بني من أين لك هذا قال من عند التي زعمت أنها لا
تريدني أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي عبد العزيز بن أحمد بن بكار قالا حدثنا الزبير
قال حدثتني ظبية مولاة فاطمة قالت كان جدك عبد الله بن مصعب يستنشدني كثيرا أبيات
عبد الله بن حسن ويعجب بها ( إنّ
عيني تعوَّدت كُحْل هِنْدٍ ... جَمَعتْ كَفُّها مع الرِّفق لِينا ) صوت
( يا عِيدُ مالكَ من شوقٍ وإيراقِ ... ومرِّ طَيْفٍ على الأهوال طَرَّاقِ ) ( يَسْرِي
على الأَيْنِ والحيَّات مُحْتفياً ... نفسي فِداؤُك من سارٍ على ساقِ ) عروضه
من البسيط العيد ما اعتاد الإنسان من هم أو شوق أو مرض أو ذكر والأين والأيم ضرب
من الحيات والأين الإعياء أيضا وروى أبو عمرو ( يا
عيد قلبُك من شوق وإيراق ... ) الشعر
لتأبط شرا والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى من رواية يحيى المكي وحبش وذكر
الهشامي أنه من منحول يحيى إلى ابن محرز أخبار تأبط شرا ونسبه هو ثابت بن جابر بن
سفيان بن عميثل بن عدي بن كعب بن حزن وقيل حرب بن تميم بن سعد بن فهم بن عمرو بن
قيس عيلان بن مضر بن نزار وأمه امرأة يقال لها أميمة يقال إنها من بني القين بطن
من فهم ولدت خمسة نفر تأبط شرا وريش بلغب وريش نسر وكعب جدر ولا بواكي له وقيل
إنها ولدت سادسا اسمه عمرو لقبه وسببه وتأبط شرا لقب لقب به ذكر الرواة أنه كان
رأى كبشا في الصحراء فاحتمله تحت إبطه فجعل يبول عليه طول طريقه فلما قرب من الحي
ثقل عليه الكبش فلم يقله فرمى به فإذا هو الغول فقال له قومه ما تأبطت يا ثابت قال
الغول قالوا لقد تأبطت شرا فسمي بذلك وقيل بل قالت له أمه كل إخوتك يأتيني بشيء
إذا راح غيرك فقال لها سآتيك الليلة بشيء ومضى فصاد أفاعي كثيرة من أكبر ما قدر
عليه فلما راح أتى بهن في جراب متأبطا له فألقاه بين يديها ففتحته فتساعين في بيتها
فوثبت وخرجت فقال لها نساء الحي ماذا أتاك به ثابت فقالت أتاني بأفاع في جراب قلن
وكيف حملها قالت تأبطها قلن لقد تأبط شرا فلزمه تأبط شرا حدثني عمي قال حدثني علي
بن الحسين بن عبد الأعلى عن أبي محلم بمثل هذه الحكاية وزاد فيها أن أمه قالت له
في زمن الكمأة ألا ترى غلمان الحي يجتنون لأهليهم الكمأة فيروحون بها فقال أعطيني
جرابك حتى أجتني لك فيه فأعطته فملأه لها أفاعي وذكر باقي الخبر مثل ما تقدم ومن
ذكر أنه إنما جاءها بالغول يحتج بكثرة أشعاره في هذا المعنى فإنه يصف لقاءه إياها
في شعره كثيرا فمن ذلك قوله ( فأَصبحت
الغُولُ لي جارةً ... فيا جارتا لك ما أَهولا ) ( فطالبتُها
بُضْعَها فالتوت ... عليَّ وحاولتُ أن أَفعلا ) ( فمن
كان يسأل عن جارتي ... فإنّ لها باللِّوى مَنْزِلاَ ) كان
أحد العدائين المعدودين أخبرني عمي عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال
نزلت على حي من فهم إخوة بني عدوان من قيس فسألتهم عن خبر تأبط شرا فقال لي بعضهم
وما سؤالك عنه أتريد أن تكون لصا قلت لا ولكن أريد أن أعرف أخبار هؤلاء العدائين
فأتحدث بها فقالوا نحدثك بخبره إن تأبط شرا كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين
وكان إذا جاع لم تقم له قائمة فكان ينظر إلى الظباء فينتقي على نظره أسمنها ثم
يجري خلفه فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه ثم يشويه فيأكله وإنما سمي تأبط شرا
لأنه فيما حكي لنا لقي الغول في ليلة ظلماء في موضع يقال له رحى بطان في بلاد هذيل
فأخذت عليه الطريق فلم يزل بها حتى قتلها وبات عليها فلما أصبح حملها تحت إبطه
وجاء بها إلى أصحابه فقالوا له لقد تأبطت شرا فقال في ذلك شعره في غول تأبطها (
تأَبَّط شرّاً ثم راح أو اغْتَدى ... تُوائم غُنْما أو يَشِيف على ذَخْل ) يوائم
يوافق ويشيف يقتدر وقال أيضا في ذلك ( ألا
مَنْ مُبلغٌ فِتيانَ فَهمٍ ... بما لاقيتُ عند رَحَى بطانِ ) ( وأنِّي
قد لقيتُ الغولَ تهوي ... بسَهْب كالصحيفة صحصحانِ ) ( فقلت
لها كلانا نِضْو أَيْنٍ ... أخو سفر فخلّي لي مكاني ) ( فشدَّت
شدَّةً نحوي فأَهْوَى ... لها كفّي بمصقولٍ يَماني ) ( فأَضربها
بلا دَهَشٍ فَخَرّت ... صريعاً لليدين وللجِرانِ ) ( فقالت
عُد فقلت لها رُوَيداً ... مكانَك إنني ثَبْتُ الجنانِ ) ( فلم
أنفكَّ مُتّكِئاً عليها ... لأنظر مُصبِحاً ماذا أتاني ) ( إذا
عينان في رأسٍ قبيح ... كرأس الهِرِّ مَشْقوق اللِّسانِ ) ( وساقا
مُخدجٍ وشواةُ كلْب ... وثوب من عَباءٍ أو شِنان ) أخبرنا
الحسين بن يحيى قال قرأت على حماد وحدثك أبوك عن حمزة ابن عتبة اللهبي قال قيل
لتأبط شرا هذه الرجال غلبتها فكيف لا تنهشك الحيات في سراك فقال إني لأسري البردين
يعني أول الليل لأنها تمور خارجة من حجرتها وآخر الليل تمور مقبلة إليها قال حمزة
ولقي تأبط شرا ذات يوم رجلا من ثقيف يقال له أبو وهب كان جبانا أهوج وعليه حلة
جيدة فقال أبو وهب لتأبط شرا بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت كما أرى دميم ضئيل قال
باسمي إنما أقول ساعة ما ألقى الرجل أنا تأبط شرا فينخلع قلبه حتى أنال منه ما
أردت فقال له الثقفي أقط قال قط قال فهل لك أن تبيعني اسمك قال نعم فبم تبتاعه قال
بهذه الحلة وبكنيتك قال له أفعل ففعل وقال له تأبط شرا لك اسمي ولي كنيتك وأخذ
حلته وأعطاه طمرية ثم انصرف وقال في ذلك يخاطب زوجة الثقفي ( ألا
هل أتى الحسناءَ أنّ حَلِيلَها ... تأبّط شَرّاً واكتنيتُ أبَا وَهْب ) ( فهبه
تَسمَّى اسْمي وسُمِّيتُ باسمِه ... فأَين له صبرِي على مُعْظَمِ الخطب ) ( وأين
له بأْسٌ كَبَأْسي وسَوْرتي ... وأين له في كل فادحةٍ قَلْبِي ) أحب
جارية وعجز عنها قال حمزة وأحب تأبط شرا جارية من قومه فطلبها زمانا لا يقدر عليها
ثم لقيته ذات ليلة فأجابته وأرادها فعجز عنها فلما رأت جزعه من ذلك تناومت عليه
فآنسته وهدأ ثم جعل يقول ( مالكَ
من أَيْرٍ سُلِبْتَ الخلّه ... عجَزْتَ عن جارية رِفَلّهْ ) ( تمشي
إليك مشيةً خوزلَّهْ ... كمشية الأَرخِ تريد العلّهْ ) الأرخ
الأنثى من البقر التي لم تنتج العلة تريد أن تعل بعد النهل أي أنها قد رويت
فمشيتها ثقيلة والعل الشرب الثاني ( لو
أنها راعِيةٌ في ثُلَّه ... تحمل قِلْعَين لها قبَلّه ) ( لصرتُ
كالهراوة العُتُلّهْ ... ) خبره
مع بجيلة أخبرني الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن أبي بركة الأشجعي
قال أغار تأبط شرا وهو ثابت بن العميثل الفهمي ومعه ابن براق الفهمي على بجيلة فأطردا
لهم نعما ونذرت بهما بجيلة فخرجت في آثارهما ومضيا هاربين في جبال السراة وركبا
الحزن وعارضتهما بجيلة في السهل فسبقوهما إلى الوهط وهو ماء لعمرو بن العاص
بالطائف فدخلوا لهما في قصبة العين وجاءا وقد بلغ العطش منهما إلى العين فلما وقفا
عليها قال تأبط شرا لابن براق أقل من الشراب فإنها ليلة طرد قال وما يدريك قال والذي
أعدو بطيره إني لأسمع وجيب قلوب الرجال تحت قدمي وكان من أسمع العرب وأكيدهم فقال
له ابن براق ذلك وجيب قلبك فقال له تأبط شرا والله ما وجب قط ولا كان وجابا وضرب
بيده عليه وأصاخ نحو الأرض يستمع فقال والذي أعدو بطيره إني لأسمع وجيب قلوب
الرجال فقال له ابن براق فأنا أنزل قبلك فنزل فبرك وشرب وكان أكل القوم عند بجيلة
شوكة فتركوه وهم في الظلمة ونزل ثابت فلما توسط الماء وثبوا عليه فأخذوه وأخرجوه
من العين مكتوفا وابن براق قريب منهم لا يطمعون فيه لما يعلمون من عدوه فقال لهم
ثابت إنه من أصلف الناس وأشدهم عجبا بعدوه وسأقول له استأسر معي فسيدعوه عجبه
بعدوه إلى أن يعدو من بين أيديكم وله ثلاثة أطلاق أولها كالريح الهابة والثاني
كالفرس الجواد والثالث يكبو فيه ويعثر فإذا رأيتم منه ذلك فخذوه فإني أحب أن يصير
في أيديكم كما صرت إذ خالفني ولم يقبل رأيي ونصحي له قالوا فافعل فصاح به تأبط شرا
أنت أخي في الشدة والرخاء وقد وعدني القوم أن يمنوا عليك وعلي فاستأسر وواسني بنفسك
في الشدة كما كنت أخي في الرخاء فضحك ابن براق وعلم أنه قد كادهم وقال مهلا يا
ثابت أيستأسر من عنده هذا العدو ثم عدا فعدا أول طلق مثل الريح الهابة كما وصف لهم
والثاني كالفرس الجواد والثالث جعل يكبو ويعثر ويقع على وجهه فقال ثابت خذوه فعدوا
بأجمعهم فلما أن نفسهم عنه شيئا عدا تأبط شرا في كتافه وعارضه ابن براق فقطع كتافه
وأفلتا جميعا فقال تأبط شرا قصيدته القافية في ذلك ( يا
عِيدُ مالكَ من شَوْقٍ وإبْراقِ ... ومَرّ طيفٍ على الأهوال طرَّاقِ ) ( يسري
على الأَيْن والحيّات محتفِياً ... نفسي فداؤُك من سارٍ على ساقِ ) ( طيْف
ابنة الحُرِّ إذ كنّا نواصلُها ... ثم اجْتُنِبْتُ بها من بعد تَفْراقِ ) ( لتَقرعِنَّ
عليَّ السِّنَّ من نَدَمٍ ... إذا تذكَّرتِ يوماً بعضَ أخلاقِي ) ( تالله
آمنُ أنثى بعدما حَلَفَتْ ... أسماءُ بالله من عهدٍ وميثاقِ ) ( ممزوجَةَ
الودِّ بينا واصلَتْ صَرَمَتْ ... الأوَّلُ اللَّذْ مَضَى والآخِر الباقِي ) ( فالأوَّلُ
اللَّذْ مضى قال مودَّتَها ... واللَّذُّ منها هُذاءٌ غير إحقاقِ ) ( تُعْطِيكَ
وعدَ أَمانيٍّ تَغُرُّ به ... كالقَطْر مَرَّ على صَخْبَانَ بَرّاق ) ( إنّي
إذا حُلَّةٌ ضَنَّتَ بنائلها ... وأَمْسَكَت بضعيف الحَبْل أحْذَاقِ ) ( نجوْتُ
منها نجائي من بجيلةَ إذ ... ألقيْتُ للقوم يوم الرّوع أرواقي ) وذكرها
ابن أبي سعيد في الخبر إلى آخرها وأما المفضل الضبي فذكر أن تأبط شرا وعمرو بن
براق والشنفرى وغيره يجعل مكان الشنفرى السليك بن السلكة غزوا بجيلة فلم يظفروا
منهم بغرة وثاروا إليهم فأسروا عمرا وكتفوه وأفلتهم الآخران عدوا فلم يقدروا
عليهما فلما علما أن ابن براق قد أسر قال تأبط شرا لصاحبه امض فكن قريبا من عمرو
فإني سأتراءى لهم وأطمعهم في نفسي حتى يتباعدوا عنه فإذا فعلوا ذلك فحل كتافه وانجوا
ففعل ما أمره به وأقبل تأبط شرا حتى تراءى لبجيلة فلما رأوه طمعوا فيه فطلبوه وجعل
يطمعهم في نفسه ويعدو عدوا خفيفا يقرب فيه ويسألهم تخفيف الفدية وإعطاءه الأمان
حتى يستأسر لهم وهم يجيبونه إلى ذلك ويطلبونه وهو يحضر إحضارا خفيفا ولا يتباعد
حتى علا تلعة أشرف منها على صاحبيه فإذا هما قد نجوا ففطنت لهما بجيلة فألحقتهما طلبا
ففاتاهم فقال يا معشر بجيلة أأعجبكم عدو ابن براق اليوم والله لأعدون لكم عدوا
أنسيكم به عدوه ثم عدا عدوا شديدا ومضى وذلك قوله ( يا
عِيدُ مالكَ من شَوْقٍ وإبْراقِ ... ) وأما
الأصمعي فإنه ذكر فيما أخبرني به ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عمه أن
بجيلة أمهلتهم حتى وردوا الماء وشربوا وناموا ثم شدوا عليهم فأخذوا تأبط شرا فقال
لهم إن ابن براق دلاني في هذا وإنه لا يقدر على العدو لعقر في رجليه فإن تبعتموه
أخذتموه فكتفوا تأبط شرا ومضوا في أثر ابن براق فلما بعدوا عنه عدا في كتافه
ففاتهم ورجعوا أخبرني الحرمي بن ابي العلاء قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا
ابن الأثرم عن أبيه وحدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو قالا كان تأبط شرا يعدو على
رجليه وكان فاتكا شديدا فبات ليلة ذات ظلمة وبرق ورعد في قاع يقال له رحى بطان
فلقيته الغول فما زال يقاتلها ليلته إلى أن أصبح وهي تطلبه قال والغول سبع من سباع
الجن وجعل يراوغها وهي تطلبه وتلتمس غرة منه فلا تقدر عليه إلى أن أصبح فقال تأبط
شرا ( ألا مَنْ مُبلغٌ فِتيانَ فَهمٍ ...
بما لاقيتُ عند رَحَى بطانِ ) ( وبأنِّي
قد لقيتُ الغولَ تَهوي ... بسَهْبٍ كالصحيفة صَحصحانِ ) ( فقلت
لها كلانا نِضْو أَيْنِ ... أخو سَفَر فخَلَّي لي مكاني ) ( فشدَّت
شدَّةً نحوي فأَهْوَى ... لها كفّي بمصقولٍ يَماني ) ( فأَضربها
بلا دَهَشٍ فَخَرّت ... صريعاً لليدين وللجِرانِ ) ( فقالت
عُد فقلت لها رُوَيداً ... مكانَك إنني ثَبْتُ الجنانِ ) ( فلم
أنفكَّ مُتّكِئاً عليها ... لأنظرَ مُصبِحاً ماذا أتاني ) ( إذا
عينان في رأسٍ قبيحٍ ... كرأْس الهرِّ مشقوق اللِّسانِ ) ( وساقا
مُخْدِجٍ وشواةُ كلبٍ ... وثوبٌ من عَباءٍ أو شِنان ) غزا
بجيلة فقتل رجلا واستاق غنما قالوا وكان من حديثه أنه خرج غازيا يريد بجيلة هو
ورجل معه وهو يريد أن يغترهم فيصيب حاجته فأتى ناحية منهم فقتل رجلا ثم استاق غنما
كثيرة فنذروا به فتبعه بعضهم على خيل وبعضهم رجالة وهم كثير فلما رآهم وكان من
أبصر الناس عرف وجوههم فقال لصاحبه هؤلاء قوم قد عرفتهم ولن يفارقونا اليوم حتى
يقاتلونا أو يظفروا بحاجتهم فجعل صاحبه ينظر فيقول ما أتبين أحدا حتى إذ دهموهما
قال لصاحبه اشتد فإني سأمنعك ما دام في يدي سهم فاشتد الرجل ولقيهم تأبط شرا وجعل
يرميهم حتى نفدت نبله ثم إنه اشتد فمر بصاحبه فلم يطق شده فقتل صاحبه وهو ابن عم
لزوجته فلما رجع تأبط شرا وليس صاحبه معه عرفوا أنه قد قتل فقالت له امرأته تركت
صاحبك وجئت متباطئا فقال تأبط شرا في ذلك ( ألا
تِلكما عرسي منيعةُ ضُمِّنت ... من اللهِ إثماً مُستِسراًّ وعالِنا ) ( تقول
تركتَ صاحباً لك ضائعاً ... وجئت إلينا فارقاً مُتبَاطِنا ) ( إذا
ما تركتُ صاحبي لثلاثة ... أو اثْنَيْنِ مثْلَيْنا فلا أُبْتُ آمِنا ) ( وما
كنت أبّاء على الخِلّ إذ دعا ... ولا المرءِ يدعوني مُمِرّا مُداهِنا ) ( وكَرّي
إذا أُكْرِهتُ رهطاً وأَهلَه ... وأرضا يكون العَوْصُ فيها عُجاهِنَا ) ( ولمّا
سمعت العَوصَ تدعو تنفّرت ... عصافيرُ رأسي من غُواةٍ فَراتِنا ) ( ولم
أنتظر أن يَدهموني كأنهم ... ورائيَ نَحْل في الخليّة واكِنَا ) ( ولا
أن تُصِيب النّافذاتُ مقاتلي ... ولم أَكُ بالشدِّ الذِليق مُداينا ) ( فأرسلتُ
مثنيّاً عن الشدّ واهِناً ... وقلتُ تزحزحْ لا تكوننّ حَائِنا ) ( وحثحثتُ
مشعوفَ النَّجاء كأنه ... هِجفّ
رأى قصراً سِمالاً وداجنا ) ( من
الحُصِّ هِزْروفٌ يطير عِفاؤه ... إذا استدرج الفَيْفا ومَدَّ المغابنا ) ( أزجُّ
زَلوجٌ هذرفيٌّ زفازفٌ ... هِزَفٌّ يبذُّ الناجياتِ الصوَّافِنا ) ( فزحزحت
عنهم أو تجِئْني مَنِيَّتي ... بغبراءَ أو عرفاءَ تَفْري الدَّفائنا ) ( كأنّي
أراها الموتَ لا درّ دَرُّها ... إذا أمكنَتْ أنيابَها والبراثنا ) ( وقالت
لأخرى خلفها وبناتها ... حتوف تُنَقِّي مخّ مَنْ كان واهنا ) ( أخاليجُ
ورَّادٍ على ذي محافل ... إذا نزعوا مدّوا الدِّلا والشّواطنا ) وقال
غيره بل خرج تأبط شرا هو وصاحبان له حتى أغاروا على العوص من بجيلة فأخذوا نعما
لهم واتبعتهم العوص فأدركوهم وقد كانوا استأجروا لهم رجالا كثيرة فلما رأى تأبط
شرا ألا طاقة لهم بهم شمر وتركهما فقتل صاحباه وأخذت النعم وأفلت حتى أتى بني
القين من فهم فبات عند امرأة منهم يتحدث إليها فلما أراد أن يأتي قومه دهنته
ورجلته فجاء إليهم وهم يبكون فقالت له امرأته لعنك الله تركت صاحبيك وجئت مدهنا
وإنه إنما قال هذه القصيدة في هذا الشأن وقال تأبط شرا يرثيهما وكان اسم أحدهما
عمرا ( أبعد قتيل العَوْص آسَى على فتىً
... وصاحِبه أو يأمُلُ الزّادَ طارقُ ) ( أأطْرُد
فَهماً آخر الليل أبتغِي ... عُلالة يوم أن تَعُوقَ العوائق ) ( لَعَمرُ
فتًى نِلتم كأنّ رداءه ... على سرحةٍ من سرح دومة سامق ) ( لأطرُد
نَهْباً أو نرودَ بفِتْيةٍ ... بأيمانهم سُمْر القَنا والعقائق ) ( مَساعَرةٌ
شُعْثٌ كأنّ عيونهم ... حريقُ الغضا تُلفَى عليها الشّقائق ) ( فعُدُّوا
شهورَ الحُرْمِ ثم تعرّفوا ... قتيل أناسٍ أو فتاةً تعانقُ ) محاولة
قتله هو وأصحابه بالسم قال الأثرم قال أبو عمرو في هذه الرواية وخرج تأبط شرا يريد
أن يغزو هذيلا في رهط فنزل على الأحل بن قنصل - رجل من بجيلة - وكان بينهما حلف
فأنزلهم ورحب بهم ثم إنه ابتغى لهم الذراريح ليسقيهم فيستريح منهم ففطن له تأبط
شرا فقام إلى أصحابه فقال إني أحب ألا يعلم أنا قد فطنا له ولكن سابوه حتى نحلف
ألا نأكل من طعامه ثم أغتره فأقتله لأنه إن علم حذرني - وقد كان مالأ ابن قنصل رجل
منهم يقال له لكيز قتلت فهم أخاه - فاعتل عليه وعلى أصحابه فسبوه وحلفوا ألا
يذوقوا من طعامه ولا من شرابه ثم خرج في وجهه وأخذ في بطن واد فيه النمور وهي لا
يكاد يسلم منها أحد والعرب تسمي النمر ذا اللونين وبعضهم يسميه السبنتي فنزل في
بطنه وقال لأصحابه انطلقوا جميعا فتصيدوا فهذا الوادي كثير الأروى فخرجوا وصادوا وتركوه
في بطن الوادي فجاءوا فوجدوه قد قتل نمرا وحده وغزا هديلا فغنم وأصاب فقال تأبط
شرا في ذلك ( أقسمتُ
لا أنسى وإن طال عيشُنا ... صنيع لُكيْزٍ والأَحلّ بن قنصل ) ( نزلنا
به يوماً فساء صَبَاحُنا ... فإنك عَمْرِي قد ترى أيْ منزل ) ( بَكَى
إذ رآنا نازلين ببابه ... وكَيف بُكاءُ ذي القليل المُعَيَّل ) ( فلا
وأبيك ما نَزَلنا بعامرٍ ... ولا عامر ولا الرئيس ابن قَوقل ) - عامر
بن مالك هو أبو براء ملاعب الأسنة وعامر بن الطفيل وابن قوقل مالك بن ثعلبة أحد
بني عوف بن الخزرج - ( ولا
بالشّليل ربّ مروان قاعداً ... بأحسن عَيْش والنُّفاثيّ نوفَلِ ) - رب
مروان جرير بن عبد الله البجلي ونوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن يعمر أحد بني
الديل بن بكر - ( ولا
ابن وَهيب كاسب الحمد والعُلاَ ... ولا ابن ضُبَيْعٍ وسط آل المُخبَّلِ ) ( ولا
ابنِ حُلَيْسٍ قاعداً في لِقاحِهِ ... ولا ابن جُرَيٍّ وسط آل المغفَّلِ ) ( ولا
ابنِ رياحٍ بالزُّليفات دارُه ... رِياح بن سعد لا رياح بن مَعْقل ) ( أولَئِك
أعطَى للوَلائد خِلْفَةً ... وأَدْعَى إلى شحم السَّديف المُرَعْبَلِ ) نجاته
من موت محتم وقال أيضا في هذه الرواية كان تأبط شرا يشتار عسلا في غار من بلاد
هذيل يأتيه كل عام وأن هذيلا ذكرته فرصدوه لإبان ذلك حتى إذا جاء هو وأصحابه تدلى
فدخل الغار وقد أغاروا عليهم فأنفروهم فسبقوهم ووقفوا على الغار فحركوا الحبل
فأطلع تأبط شرا رأسه فقالوا اصعد فقال ألا أراكم قالوا بلى قد رأيتنا فقال فعلام
أصعد أعلى الطلاقة أم الفداء قالوا لا شرط لك قال فأراكم قاتلي وآكلي جناي لا
والله لا أفعل قال وكان قبل ذلك نقب في الغار نقبا أعده للهرب فجعل يسيل العسل من
الغار ويهريقه ثم عمد إلى الزق فشده على صدره ثم لصق بالعسل فلم يبرح ينزلق عليه
حتى خرج سليما وفاتهم وبين موضعه الذي وقع فيه وبين القوم مسيرة ثلاث فقال تأبط
شرا في ذلك ( أقول
للحيانٍ وقد صَفِرت لهم ... وِطابي ويَوْمي ضَيّق الحَجْر مُعوِرُ ) ( هما
خُطَّتا إما إسارٌ ومِنَّةٌ ... وإما دَمٌ والقَتْلُ بالحُرِّ أجدَرُ ) ( وأُخرى
أصادِي النّفسَ عنها وإنها ... لمورِدٌ حَزْم إن ظَفِرت ومَصدَرُ ) ( فرْشتُ
لها صدري فزَلَّ عن الصَّفا ... به جؤجؤٌ صَلْبٌ ومتنُ مُخصَّرُ ) ( فخالطَ
سهلَ الأرض لم يكدح الصَّفا ... به كَدْحَةً والموتُ خَزيانُ يَنْظُرُ ) ( فأُبْتُ
إلى فَهمٍ وما كُنتُ آئباً ... وكم مثلها فارقتُها وهي تَصْفِر ) ( إذا
المرء لم يَحْتلْ وقد جَدّ جِدّه ... أضاع وقاسَى أمرَه وهو مُدبِرُ ) ( ولكن
أَخُو الحَزْم الذي ليس نازلاً ... به الأمرُ إلا وهُو للحزم مُبْصِرُ ) ( فذاك
قَريعُ الدَّهر ما كان حوَّلا ... إذا سُدّ منه مَنْخِرٌ جاش مَنْخرُ ) ( فإنّك
لو قَايَسْت باللِّصب حِيلَتي ... بلُقْمان لم يُقصِر بي الدهر مُقْصِرُ ) قتل
هو وأصحابه نفرا من العوص وقال أيضا في حديث تأبط شرا إنه خرج في عدة من فهم فيهم
عامر ابن الأخنس والشنفرى والمسيب وعمرو بن براق ومرة بن خليف حتى بيتوا العوص وهم
حي من بجيلة فقتلوا منهم نفرا وأخذوا لهم إبلا فساقوها حتى كانوا من بلادهم على
يوم وليلة فاعترضت لهم خثعم وفيهم ابن حاجز وهو رئيس القوم وهم يومئذ نحو من
أربعين رجلا فلما نظرت إليهم صعاليك فهم قالوا لعامر بن الأخنس ماذا ترى قال لا
أرى لكم إلا صدق الضراب فإن ظفرتم فذاك وإن قتلتم كنتم قد أخذتم ثأركم قال تأبط
شرا بأبي أنت وأمي فنعم رئيس القوم أنت إذا جد الجد وإذا كان قد أجمع رأيكم على
هذا فإني أرى لكم أن تحملوا على القوم حملة واحدة فإنكم قليل والقوم كثير ومتى
افترقتم كثركم القوم فحملوا عليهم فقتلوا منهم في حملتهم فحملوا ثانية فانهزمت
خثعم وتفرقت وأقبل ابن حاجز فأسند في الجبل فأعجز فقال تأبط شرا في ذلك ( جَزَى
الله فِتياناً على العوْص أمطرت ... سَماؤُهُم تحت العَجاجة بالدَّم ) ( وقد
لاح ضَوءُ الفجر عَرْضاً كأنه ... بلَمْحته إقراب أبْلَق أدْهَم ) ( فإنَّ
شِفَاءَ الداء إدراك ذَحْلةٍ ... صباحاً على آثار حوم عَرَمْرَمِ ) ( وضاربْتُهم
بالسفحِ إذ عارَضَتْهُمُ ... قبائلُ من أبناء قسرٍ وخثعم ) ( ضِراباً
عَدَا منه ابنُ حاجز هارباً ... ذُرا الصَّخر في جوف الوجين المُديَّم ) وقال
الشنفري في ذلك ( دَعِيني
وقُولي بَعدُ ما شئتِ إنّنِي ... سَيُغدَى بنَعْشِي مرةً فأُغيَّب ) ( خرجنَا
فلم نعهد وقَلَّت وصاتنا ... ثمانيةٌ ما بعدها مُتعَتَّب ) ( سراحينُ
فتيانٍ كأن وُجوهَهم ... مصابيحُ أو لونٌ من الماء مذهبُ ) ( نَمُرُّ
برَهْو الماء صَفْحاً وقد طَوَتْ ... ثمائِلُنا والزّادُ ظَنٌّ مُغَيَّبُ ) ( ثلاثاً
على الأَقدام حتى سما بنا ... على العَوْص شَعْشَاعٌ من القوم مِحْرَبُ ) ( فثاروا
إلينا في السواد فَهجْهَجُوا ... وصَوَّت فينا بالصَّباح المُثوَّب ) ( فشنَّ
عليهم هِزَّةَ السيف ثابِتٌ ... وصَمَّم فيهم بالحُسام المُسيِّبُ ) ( وظَلْتُ
بفتيانٍ معي أتّقيهمُ ... بهنّ قليلا ساعة ثم جنبوا ) ( وقد
خَرّ منهم راجلان وفارسٌ ... كميّ صرعناه وحَوْم مسلّب ) ( يَشُقُّ
إليه كلّ رَبْعٍ وقَلْعَةٍ ... ثمانيةٌ والقوم رَجْلٌ ومِقْنبُ ) ( فلما
رآنا قومنا قيل أفلَحُوا ... فقلنا اسألوا عن قائل لا يُكَذَّبُ ) وقال
تأبط شرا في ذلك ( أرى
قدمَيَّ وقَعهُما خَفيفٌ ... كتحليل الظَّليم حَدَا رِئالَه ) ( أرى
بهما عذاباً كلّ يومٍ ... بخَثْعَم أو بَجِيلَةَ أو ثُمالَه ) ففرق
تأبط شرا أصحابه ولم يزالوا يقاتلونهم حتى انهزمت خثعم وساق تأبط شرا وأصحابه
الإبل حتى قدم بها عليا مكة وقال غيره إنما سمي تأبط شرا ببيت قاله وهو ( تأبط
شرًّا ثم راح أو اغتدَى ... يُوائِم غُنْماً أو يَشِيفُ على ذَحْل ) شعره
عندما هرب من مراد إلى قومه قال وخرج تأبط شرا يوما يريد الغارة فلقي سرحا لمراد
فأطرده ونذرت به مراد فخرجوا في طلبه فسبقهم إلى قومه وقال في ذلك ( إذا
لاقيتَ يومَ الصّدق فارْبَع ... عليه ولا يَهمّك يومُ سَوِّ ) ( على
أنِّي بِسَرْح بني مرادٍ ... شجوتهُم سِباقاً أيَّ شجوِ ) ( وآخر
مثله لا عيبَ فيه ... بَصَرتُ به ليوم غيرِ زوِّ ) ( خَفَضتُ
بساحةٍ تجري علينا ... أباريق الكرامة يومَ لَهْوِ ) أغار
تأبط شرا وحده على خثعم فبينا هو يطوف إذ مر بغلام يتصيد الأرانب معه قوسه ونبله
فلما رآه تأبط شرا أهوى ليأخذه فرماه الغلام فأصاب يده اليسرى وضربه تأبط شرا
فقتله وقال في ذلك ( وكادت
وبيتِ الله أطناب ثابت ... تقوّضُ عن لَيْلَى وتبكي النَّوائح ) ( تمنّى
فتىً منّا يلاقي ولم يَكد ... غلامٌ نَمَتهُ المُحْصنات الصَّرائِح ) ( غلام
نَمى فوق الخماسيِّ قدره ... ودون الذي قد تَرْتَجِيه النَّواكِحُ ) ( فإن
تك نالته خطاطِيف كفّه ... بأبيض قصّال نمى وهو فادح ) ( فقد
شد في إحدى يديه كِنانه ... يُداوَى لها في أسود القلب قادح ) - هذه
الأبيات أن تكون لقوم المقتول أشبه منها بتأبط شرا - خبره
مع امرأة من هذيل قال وخطب تأبط شرا امرأة من هذيل من بني سهم فقال لها قائل لا
تنكحيه فإنه لأول نصل غدا يفقد فقال تأبط شرا ( وقالوا
لها لا تَنكَحِيه فإنّه ... لأول نَصْلٍ أن يُلاقى مَجْمَعا ) ( فلم
تَرَ مِنْ رأيٍ فتيلاً وحاذرت ... تأَيّمها من لابس الليلِ أَرْوَعا ) ( قليلِ
غِرارِ النّوم أكبرُ هَمّه ... دَمُ الثّأر أو يلقى كَمِيا مُقَنَّعا ) ( قليلِ
ادِّخارِ الزَّادِ إلاّ تَعِلَّة ... وقد نَشَزَ الشُّرسُوفُ والتصق المِعَى ) ( تُناضِله
كلٌ يشجّع نفسَه ... وما طبُّه في طرْقه أن يُشجَّعا ) ( يبيت
بمغنى الوحش حتى ألفْنه ... ويصبح لا يحمي لها الدهرَ مرتعا ) ( رأين
فتىً لا صَيْدُ وحش يَهمّه ... فَلَوْ صافحت إنْسا لصافَحْنَه معا ) ( ولكنّ
أربابَ المخاض يشقّهم ... إذا افتقدوه أو رأوه مُشيّعا ) ( وإني
- ولا عِلمٌ - لأَعلَمُ أنني ... سألقَى سِنانَ الموت يرشُق أضلعا ) ( على
غِرّةٍ أو جَهْرةٍ من مُكاثِرٍ ... أطال نِزالَ الموت حتى تَسَعْسَعا ) - تسعسع
فني وذهب يقال قد تسعسع الشهر ومنه حديث عمر رضي الله عنه حين ذكر شهر رمضان فقال
إن هذا الشهر قد تسعسع ( وكنتُ
أظن الموت في الحي أو أرى ... أَلَذّ وأُكرَى أو أَمُوتَ مُقَنَّعا ) ( ولست
أبيتُ الدَّهر إلا على فتى ... أسلِّبه أو أُذعِرُ السِّرْبَ أجمَعَا ) ( ومن
يَضربُ الأبطالَ لا بدّ أنه ... سيَلْقى بهم من مَصْرع الموت مَصْرعا ) قال
وخرج تأبط شرا ومعه صاحبان له عمرو بن كلاب أخو المسيب وسعد بن الأشرس وهم يريدون
الغارة على بجيلة فنذروا بهم وهم في جبل ليس لهم طريق عليهم فأحاطوا بهم وأخذوا
عليهم الطريق فقاتلوهم فقتل صاحبا تأبط شرا ونجا ولم يكد حتى أتى قومه فقالت له
امرأته وهي أخت عمرو بن كلاب إحدى نساء كعب بن علي بن إبراهيم بن رياح هربت عن أخي
وتركته وغررته أما والله لو كنت كريما لما أسلمته فقال تأبط شرا في ذلك ( ألا
تِلكما عِرْسي مَنيعة ضُمِّنَت ... من الله خِزْياً مُسْتسرّاً وعاهنا ) وذكر
باقي الأبيات وإنما دعا امرأته إلى أن عيرته أنه لما رجع بعد مقتل صاحبيه انطلق
إلى امرأة كان يتحدث عندها وهي من بني القين بن فهم فبات عندها فلما أصبح غدا إلى
امرأته وهو مدهن مترجل فلما رأته في تلك الحال علمت أين بات فغارت عليه فعيرته غارته
على خثعم وذكروا أن تأبط شرا أغار على خثعم فقال كاهن لهم أروني أثره حتى آخذه لكم
فلا يبرح حتى تأخذوه فكفئوا على أثره جفنة ثم أرسلوا إلى الكاهن فلما رأى أثره قال
هذا ما لا يجوز في صاحبه الأخذ فقال تأبط شرا ( ألا
أبلغ بني فَهْم بن عمرو ... على طولِ التَّنائي والمقَالَهْ ) ( مقَال
الكاهن الجامِيّ لمّا ... رأى أثري وقد أُنهِبتُ مالَهْ ) ( رأى
قدمَيّ وقعُهما حثيثٌ ... كتحليل الظليم دعا رئاله ) ( أرى
بهما عذاباً كلَّ عام ... لخثعمَ أو بجيلةَ أو ثُمالهْ ) ( وشرٌّ
كان صُبَّ على هذيلٍ ... إذا علقت حِبالهمُ حِبالَه ) ( ويَومُ
الأزد منهم شرّ يوم ... إذا بَعُدوا فقد صَدَّقتُ قاله ) فزعموا
أن ناسا من الأزد ربئوا لتأبط شرا ربيئة وقالوا هذا مضيق ليس له سبيل إليكم من
غيره فأقيموا فيه حتى يأتيكم فلما دنا من القوم توجس ثم انصرف ثم عاد فنهضوا في
أثره حين رأوه لا يجوز ومر قريبا فطمعوا فيه وفيهم رجل يقال له حاجز ليث من ليوثهم
سريع فأغروه به فلم يلحقه فقال تأبط شرا في ذلك ( تَتعتعتُ
حِضْنَيْ حاجزٍ وصحابِه ... وقد نبذوا خُلقانَهم وتشنَّعوا ) ( أَظن
وإن صادفتُ وعثاً وأَنْ جرَى ... بِيَ السّهلُ أو متنٌ من الأرض مَهْيَعُ ) ( أُجارِي
ظلالَ الطير لو فات واحدٌ ... ولو صدقوا قالوا له هو أسرع ) ( فلو
كان من فتيان قيسٍ وخِنْدفٍ ... أَطاف به القُنَّاصُ من حيث أُفزِعوا ) ( وجاب
بلاداً نصفَ يومٍ وليلةٍ ... لآبَ إليهم وهو أَشوسُ أرْوَع ) ( فلو
كان منكم واحدٌ لكُفِيتُه ... وما ارتجعوا لو كان في القوم مطمع ) فأجابه
حاجز ( فإن تك جاريْتَ الظلال فربما ...
سُبِقْتَ ويومُ القِرْن عُريان أسْنَعُ ) ( وخلَّيْتَ
إخوان الصفاء كأنهم ... ذبائحُ عَنزٍ أو فَحِيلٌ مُصرَّع ) ( تبكيِّهمُ
شجوَ الحمامة بعدما ... أرحْتَ ولَم تُرْفَع لهم منك إصْبَع ) ( فهذي
ثلاثٌ قد حويت نجاتَها ... وإن تنجُ أخرى فهي عندك أربع ) خير
أيامه أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال ذكر علي بن محمد المدائني عن
ابن داب قال سئل تأبط شرا أي يوم مر بك خير قال خرجت حتى كنت في بلاد بجيلة أضاءت
لي النار رجلا جالسا إلى امرأة فعمدت إلى سيفي فدفنته قريبا ثم أقبلت حتى استأنست
فنبحني الكلب فقال ما هذا فقلت بائس فقال ادنه فدنوت فإذا رجل جلحاب آدم وإذا أضوى
الناس إلى جانبه فشكوت إليه الجوع والحاجة فقال اكشف تلك القصعة فأتيت قصعة إلى
جنب إبله فإذا فيها تمر ولبن فأكلت منه حتى شبعت ثم خررت متناوما فوالله ما شئت أن
أضطجع حتى اضطجع هو ورفع رجله على رجله ثم اندفع يغني وهو يقول ( خَيرُ
اللَّيالي إن سألت بليلة ... ليل بخيْمة بين بِيشَ وعَثّرِ ) ( لِضَجيعِ
آنسةٍ كأَنَّ حَدِيثَها ... شَهدٌ يُشابُ بمزجةٍ من عَنْبر ) ( وضجيعِ
لاهيةٍ أُلاعِب مِثلَها ... بيضاءَ واضحةٍ كَظِيظ المِئْزَرِ ) ( ولأَنْت
مثلُهما وخَيرٌ منهما ... بعد الرُّقاد وقبل أَن لم تُسْحِري ) قال
ثم انحرف فنام ومالت فنامت فقلت ما رأيت كالليلة في الغرة فإذا عشر عشراوات بين
أثلاث فيها عبد واحد وأمة فوثبت فانتضيت سيفي على كبده حتى أخرجته من صلبه ثم ضربت
فخذ المرأة فجلست فلما رأته مقتولا جزعت فقلت لا تخافي أنا خير لك منه قال وقمت إلى
جل متاعها فرحلته على بعض الإبل أنا والأمة فما حللت عقده حتى نزلت بصعدة بني عوف
بن فهر وأعرست بالمرأة هناك وحين اضجعت فتحت عقيرتي وغنيت ( بحَليلة
البجليّ بِتْ من ليلِها ... بين الإِزار وكَشْحِها ثم الصَقِ ) ( بأَنِيسةٍ
طُويت على مَطْويّها ... طيَّ الحمالةِ أو كطيّ المِنْطَقِ ) ( فإذا
تقوم فصَعدةٌ في رَمْلَة ... لَبَدَت برِيّق دِيمة لم تُغدِق ) ( وإذا
تجيءُ تجيء شحب خلفها ... كالأَيْم أصْعَد في كَثِيبٍ يَرْتَقِي ) ( كَذَب
الكوَاهِنُ والسَّواحِرُ والهُنا ... أن لا وفاء لعاجِزٍ لا يَتَّقِي ) قال
فهذا خير يوم لقيته وشر يوم لقيت أني خرجت حتى إذا كنت في بلاد ثمالة أطوف حتى إذا
كنت من الفقير عشيا إذا بسبع خلفات فيهن عبد فأقبلت نحوه وكأني لا أريده وحذرني فجعل
يلوذ بناقة فيها حمراء فقلت في نفسي والله إنه ليثق بها فأفوق له ووضع رجله في
أرجلها وجعل يدور معها فإذا هو على عجزها وأرميه حين أشرف فوضعت سهمي في قلبه فخر
وندت الناقة شيئا وأتبعتها فرجعت فسقتهن شيئا ثم قلت والله لو ركبت الناقة وطردتهن
وأخذت بعثنون الحمراء فوثبت فساعة استويت عليها كرت نحو الحي تريع وتبعتها الخلفات
وجعلت أسكنها وذهبت فلما خشيت أن تطرحني في أيدي القوم رميت بنفسي عنها فانكسرت
رجلي وانطلقت والذود معها فخرجت أعرج حتى انخنست في طرف كثيب وجازني الطلب فمكثت
مكاني حتى أظلمت وشبت لي ثلاثة أنوار فإذا نار عظيمة ظننت أن لها أهلا كثيرا ونار
دونها ونويرة صغيرة فهويت للصغرى وأنا أجمر فلما نبحني الكلب نادى رجل فقال من هذا
فقلت بائس فقال ادنه فدنوت وجلست وجعل يسائلني إلى أن قال والله إني لأجد منك ريح
دم فقلت لا والله ما بي دم فوثب إلي فنفضني ثم نظر في جعبتي فإذا السهم فقلت رميت
العشية أرنبا فقال كذبت هذا ريح دم إنسان ثم وثب إلي ولا أدفع الشر عن نفسي
فأوثقني كتافا ثم علق جعبتي وقوسي وطرحني في كسر البيت ونام فلما أسحرت حركت رجلي
فإذا هي صالحة وانفتل الرباط فحللته ثم وثبت إلى قوسي وجعبتي فأخذتهما ثم هممت
بقتله فقلت أنا ضمن الرجل وأنا أخشى أن أطلب فأدرك ولم أقتل أحدا أحب إلي فوليت
ومضيت فوالله إني لفي الصحراء أحدث نفسي إذا أنا به على ناقة يتبعني فلما رأيته قد
دنا مني جلست على قوسي وجعبتي وأمنته وأقبل فأناخ راحلته ثم عقلها ثم أقبل إلي
وعهده بي عهده فقلت له ويلك ما تريد مني فأقبل يشتمني حتى إذا أمكنني وثبت عليه
فما ألبثته أن ضربت به الأرض وبركت عليه أربطه فجعل يصيح يا لثمالة لم أر كاليوم
فجنبته إلى ناقته وركبتها فما نزعت حتى أحللته في الحي وقلت ( أغرّكَ
منّي يابنَ فَعْلة عِلَّتي ... عَشِيَّةَ أَن رابت عليَّ روائِبِي ) ( ومَوقد
نيران ثَلاثٍ فشَرُّهَا ... وألأَمُها إذ قُدْتُها غير عازِبِ ) ( سلبتَ
سِلاحِي بَائِساً وشَتَمْتَنِي ... فيا خَيْر مَسْلُوبٍ ويا شَرَّ سَالِبِ ) ( فإن
أَكُ لم أخْضِبك فيها فإنَّها ... نُيوبُ أساوِيد وشَوْل عَقارِب ) ( ويا
رَكْبة الحَمْراء شَرَّة رَكْبةٍ ... وكادَتْ تكون شَرّ ركبةِ راكبِ ) غارته
على الأزد قال وخرج تأبط غازيا يريد الغارة على الأزد في بعض ما كان يغير عليهم
وحده فنذرت به الأزد فأهملوا له إبلا وأمروا ثلاثة من ذوي بأسهم حاجزين أبي وسواد
بن عمرو بن مالك وعوف بن عبد الله أن يتبعوه حتى ينام فيأخذوه أخذا فكمنوا له
مكمنا وأقبل تأبط شرا فبصر بالإبل فطردها بعض يومه ثم تركها ونهض في شعب لينظر هل
يطلبه أحد فكمن القوم حين رأوه ولم يرهم فلما لم ير أحدا في أثره عاود الإبل فشلها
يومه وليلته والغد حتى أمسى ثم عقلها وصنع طعاما فأكله والقوم ينظرون إليه في ظله
ثم هيأ مضطجعا على النار ثم أخمدها وزحف على بطنه ومعه قوسه حتى دخل بين الإبل
وخشي أن يكون رآه أحد وهو لا يعلم ويأبى إلا الحذر والأخذ بالحزم فمكث ساعة وقد
هيأ سهما على كبد قوسه فلما أحسوا نومه أقبلوا ثلاثتهم يؤمون المهاد الذي رأوه
هيأه فإذا هو يرمي أحدهم فيقتله وجال الآخران ورمى آخر فقتله وأفلت حاجز هاربا وأخذ
سلب الرجلين وأطلق عقل الإبل وشلها حتى جاء بها قومه وقال تأبط في ذلك ( تُرَجَّى
نِساءُ الأَزْدِ طلعةَ ثابِتٍ ... أسِيراً ولم يَدْرِينَ كيف حَوِيلي ) ( فإنّ
الأُلي أَوْصَيْتُم بَيْن هارِبٍ ... طَرِيدٍ ومَسْفُوح الدِّماءِ قَتِيلِ ) ( وخدتُ
بهم حتى إذا طال وَخْدُهم ... ورابَ عليهم مَضْجَعِي وَمَقِيلِي ) ( مَهدتُ
لهم حتى إذا طاب رَوعُهم ... الى المَهْد خَاتلْت الضِّيا بِخَتِيل ) ( فلما
أحسُّوا النَّوم جاؤوا كأنَّهم ... سِباعٌ أَصابت هجمةٌ بِسَلِيلِ ) ( فَقلّدتُ
سَوَّارَ بنَ عَمْرو بنِ مَالِكٍ ... بأَسْمَر جَسْر القُذَّتَين طَمِيل ) ( فخَرَّ
كأَنَّ الفِيَل ألقى جِرانَه ... عليه بريّان القِواء أسيلِ ) ( وظل
رعاع المَتْن من وقع حاجِزٍ ... يخرُّ ولو نَهْنَهْتَ غَيْر قَلِيل ) ( لأبتَ
كما آبا ولو كُنتَ قَارِناً ... لجئتَ وما مالكتَ طول ذَمِيلِي ) ( فَسرَّكَ
نَدْمانَاك لمَّا تَتَابَعا ... وأنَّك لم تَرْجِع بعَوْص قَتِيلِ ) ( سَتأْتِي
إلى فَهْمٍ غَنِيمَةُ خلْسَة ... وفي الأزد نَوْحٌ وَيْلةٍ بِعَوِيلِ ) فقال
حاجز بن أبي الأزدي يجيبه ( سألت
فلم تُكلِّمني الرُّسوم ... ) وهي
في أشعار الأزد فأجابه تأبط شرا ( لقد
قال الخِليُّ وقال خَلْساً ... بظهر الليل شُدَّ به العُكومُ ) ( لِطَيفٍ
من ُسعادَ عَناك منها ... مُراعاةُ النُّجوم ومَنْ يَهِيمُ ) ( وتلك
لئن عُنِيتَ بها رَداحٌ ... من النّسوان مَنْطِقُها رَخِيمُ ) ( نِياقُ
القُرطِ غَرَّاءُ الثَّنايَا ... ورَيْداءُ الشَّباب ونِعْم خِيم ) ( ولكن
فاتَ صاحبُ بَطْن رَهْوٍ ... وصاحبه فأنتَ به زَعِيمُ ) ( أُؤاخِذُ
خُطَّة فيها سواء ... أَبِيتُ وَلَيلُ واترها نَؤُومُ ) ( ثأرتُ
به وما اقْتَرفَتْ يَدَاه ... فَظلَّ لها بنا يومٌ غَشُومُ ) ( نَحزُّ
رِقابَهم حتى نَزَعْنا ... وأنفُ المَوْتِ مَنْخِرُه رَمِيمُ ) ( وإن
تقع النّسورُ عليَّ يوْماً ... فلَحْم المْنِفي لَحْم كَريمُ ) ( وَذِي
رَحمٍ أحالَ الدَّهْر عنه ... فلَيْس له لذي رَحِمٍ حَرِيمُ ) ( أصاب
الدَّهْرُ آمنَ مَرْوَتَيْه ... فألقاه المصاحِب والحَمِيمُ ) ( مَددتُ
له يَميناً من جَناحي ... لها وَفرٌ وكافَيةٌ رَحُومُ ) ( أُواسيه
على الأَيَّام إني ... إذا قَعَدت به اللُّؤما أَلومُ ) رثاؤه
لأخيه عمرو ذكروا أنه لما انصرف الناس عن المستغل وهي سوق كانت العرب تجتمع بها
قال عمرو بن جابر بن سفيان أخو تأبط شرا لمن حضر من قومه لا واللات والعزى لا أرجع
حتى أغير على بني عتير من هذيل ومعه رجلان من قومه هو ثالثهما فأطردوا إبلا لبني
عتير فأتبعهم أرباب الإبل فقال عمرو أنا كار على القوم ومنهنهم عنكما فامضيا
بالإبل فكر عليهم فنهنهم طويلا فجرح في القوم رئيسا ورماه رجل من بني عتير بسهم
فقتله فقالت بنو عتير هذا عمرو بن جابر ما تصنعون أن تلحقوا بأصحابه أبعدها الله
من إبل فإنا نخشى أن نلحقهم فيقتل القوم منا فيكونوا قد أخذوا الثأر فرجعوا ولم
يجاوزوه وكانوا يظنون أن معه أناسا كثيرا فقال تأبط لما بلغه قتل أخيه ( وحرّمتُ
النساءَ وإن أُحِلَّت ... بشَور أو بمزج أو لِصابِ ) ( حياتي
أو أزور بني عُتَير ... وكاهلها بجَمْع ذي ضباب ) ( إذا
وَقَعت لكَعْب أو خثيمٍ ... وسيار يَسُوغ لها شَرابِي ) ( أَظُنّي
مَيِّتاً كَمِداً ولَمَّا ... أُطالِعْ طلعةً أهلَ الكِراب ) ( ودُمْتُ
مُسَيَّراً أهدِي رعيلا ... أؤم سوادَ طَوْدٍ ذِي نِقاب ) فأجابه
أنس بن حذيفة الهذلي ( لعلّك
أن تَجِيء بك المَنايَا ... تُساق لِفِتْية منا غضابِ ) ( فتنزلَ
في مَكَرِّهُم صريعاً ... وتنزلَ طُرْقةَ الضَّبعُ السّغابِ ) ( تأبَّطَ
سَوْأَةً وحملتَ شَرّاً ... لعلك أن تكون من المُصاب ) ثم
إن السمع بن جابر أخا تأبط شرا خرج في صعاليك من قومه يريد الغارة على بني عتير
ليثأر بأخيه عمرو بن جابر حتى إذا كان ببلاد هذيل لقي راعيا لهم فسأله عنهم فأخبره
بأهل بيت من عتير كثير مالهم فبيتهم فلم يفلت منهم مخبر واستاقوا أموالهم فقال في
ذلك السمع بن جابر ( بأعلى
ذي جماجم اهلُ دارٍ ... إذا ظَعنَت عشيرتُهم أقاموا ) ( طرقْتُهمُ
بفتيانٍ كِرامٍ ... مَساعِيرٍ إذا حَمِي المُقامُ ) ( متى
ما أدعُ من فَهْم تُجِبْني ... وعدوان الحماة لهم نظامُ ) أصابته
في غارته على الأزد ذكروا أن تأبط شرا خرج ومعه مرة بن خليف يريدان الغارة على
الأزد وقد جعلا الهداية بينهما فلما كانت هداية مرة نعس فجار عن الطريق ومضيا حتى
وقعا بين جبال ليس فيها جبل متقارب وإذا فيها مياه يصيح الطير عليها وإذا البيض
والفراخ بظهور الأكم فقال تأبط شرا هلكنا واللات يا مرة ما وطيء هذا المكان إنس
قبلنا ولو وطئته إنس ما باضت الطير بالأرض فاختر أية هاتين القنتين شئت وهما أطول
شيء يريان من الجبال فأصعد إحداهما وتصعد أنت الأخرى فإن رأيت الحياة فألح بالثوب
وإن رأيت الموت فألح بالسيف فإني فاعل مثل ذلك فأقاما يومين ثم إن تأبط شرا ألاح
بالثوب وانحدرا حتى التقيا في سفح الجبل فقال مرة ما رأيت يا ثابت قال دخانا أو
جرادا قال مرة إنك إن جزعت منه هلكنا فقال تأبط شرا أما أنا فإني سأخرم بك من حيث
تهتدي الريح فمكثا بذلك يومين وليلتين ثم تبعا الصوت فقال تأبط شرا النعم والناس أما
والله لئن عرفنا لنقتلن ولئن أغرنا لندركن فأت الحي من طرف وأنا من الآخر ثم كن ضيفا
ثلاثا فإن لم يرجع إليك قلبك فلا رجع ثم أغر على ما قبلك إذا تدلت الشمس فكانت قدر
قامة وموعدك الطريق ففعلاحتى إذا كان اليوم الثالث أغار كل واحد منهما على ما يليه
فاستاقا النعم والنغم وطردا يوما وليلة طردا عنيفا حتى أمسيا الليلة الثانية دخلا
شعبا فنحرا قلوصا فبينا هما يشويان إذ سمعا حسا على باب الشعب فقال تأبط الطلب يا
مرة إن ثبت فلم يدخل فقال مرة هلكنا ووضع تأبط شرا يده على عضد مرة فإذا هي ترعد
فهم مجيزون وإن دخل فهو الطلب فلم يلبث أن سمع الحسن يدخل فقال ما أرعدت عضدك إلا
من قبل أمك الوابشية من هذيل خذ بظهري فإن نجوت نجوت وإن قتلت وقيتك فلما دنا
القوم أخذ مرة بظهر تأبط وحمل تأبط فقتل رجلا ورموه بسهم فأعلقوه فيه وأفلتا جميعا
بأنفسهما فلما أمنا وكان من آخر الليل قال مرة ما رأيت كاليوم غنيمة أخذت على حين
أشرفنا على أهلنا وعض مرة عضده وكان الحي الذين أغاروا عليهم بجيلة وأتى تأبط
امرأته فلما رأت جراحته ولولت فقال تأبط في ذلك ( وبالشِّعب
إذ سدّت بجِيلةُ فَجَّةُ ... ومِن خَلفه هَضبٌ صغار وجامل ) ( شدَدْتُ
لنفس المرء مُرَّةَ حَزْمَه ... وقد نُصِبت دون النَّجاء الحبائل ) ( وقلت
له كن خلفَ ظهري فإنني ... سأفديك وأنظر بعدُ ما أنتَ فاعِل ) ( فعاذَ
بحدّ السيف صاحبُ أمرهم ... وَخَلَّوْا عن الشيء الذي لم يحاولوا ) ( وأخطأهم
قَتلِي ورفَّعتُ صاحبي ... على الليل لم تُؤخذ عليه المخاتلُ ) ( وأخطأ
غُنْم الحَيّ مُرَّة بعدما ... حوته إليه كفُّه والأناملُ ) ( يعض
على أطرافه كيف زَوْلُه ... ودون الملا سهلٌ من الأرض ماثل ) ( فقلت
له هذي بتلك وقد يَرَى ... لها ثَمَناً من نفسه ما يُزاول ) ( تُوَلْوِل
سُعدى أن أتيتُ مُجرَّحاً ... إليها وقد مَنَّت عليّ المَقاتلُ ) ( وكائِنْ
أتاها هارِباً قبل هذه ... ومن غَانمٍ فأين مِنْكِ الوَلاوِل ) أراد
هو وأصحابه الأخذ بثأر صاحبيهم فلما انقضت الأشهر الحرم خرج تأبط والمسيب بن كلاب
في ستة نفر يريدون الغارة على بجيلة والأخذ بثأر صاحبيهم عمرو بن كلاب وسعد بن
الأشرس فخرج تأبط والمسيب بن كلاب وعامر بن الأخنس وعمرو بن براق ومرة ابن خليف
والشنفرى بن مالك والسمع وكعب حدار ابنا جابر أخوا تأبط فمضوا حتى أغاروا على
العوص فقتلوا منهم ثلاثة نفر فارسين وراجلا وأطردوا لهم إبلا وأخذوا منهم امرأتين
فمضوا بما غنموا حتى إذا كانوا على يوم وليلة من قومهم عرضت لهم خثعم في نحو من
أربعين رجلا فيهم أبي بن جابر الخثعمي وهو رئيس القوم فقال تابط يا قوم لا تسلموا
لهم ما في أيديكم حتى تبلوا عذرا وقال عامر بن الأخنس عليكم بصدق الضراب وقد
أدركتم بثأركم وقال المسيب اصدقوا القوم الحملة وإياكم والفشل وقال عمرو بن براق
ابذلوا مهجكم ساعة فإن النصر عند الصبر وقال الشنفرى ( نحن
الصَّعالِيكُ الحُماةُ البُزَّلُ ... إذا لَقِينا لا نُرَى نُهَلّلُ ) وقال
مرة بن خليف ( يا
ثابتَ الخَيْر ويابنَ الأخنسِ ... ويابنَ بَرّاق الكَريمِ الأشْوس ) ( والشّنفَرى
عند حُيودِ الأنفسِ ... أنا ابن حَامِي السِّربِ في المغمِّس ) ( نحن
مساعِيرُ الحُروبِ الضُّرَّس ... ) وقال
كعب حدار أخو تأبط ( يا
قوم أَمَّا إذا لَقِيتم فاصْبِرُوا ... ولا تَخِيمُوا جزَعاً فتُدْبِروا ) وقال
السمع أخو تأبط ( يا
قوم كونوا عندها أَحْرار ... لا تُسلِموا العُونَ ولا البِكارا ) ( ولا
القَنَاعيسَ ولا العِشَارا ... لخَثْعمٍ وقد دَعَوْا غِرَارَا ) ( ساقوهُم
المَوْت معاً أحرارا ... وافتخِرُوا الدَّهْر بها افْتِخارا ) فلما
سمع تأبط مقالتهم قال بأبي أنتم وأمي نعم الحماة إذا جد الجد أما إذا أجمع رأيكم
على قتال القوم فاحملوا ولا تتفرقوا فإن القوم أكثر منكم فحملوا عليهم فقتلوا منهم
ثم كروا الثانية فقتلوا ثم كروا الثالثة فقتلوا فانهزمت خثعم وتفرقت في رؤوس
الجبال ومضى تأبط وأصحابه بما غنموا وأسلاب من قتلوا فقال تأبط في ذلك ( جَزَى
اللهُ فِتْياناً على العَوْصِ أشرقت ... سيوفهم تحت العَجاجَة بالدَّمِ ) الأبيات
وقال الشنفري في ذلك ( دَعِيني
وقُولي بعد ما شئتِ إنني ... سيُفدى بنَفْسي مَرَّةً فأُغيَّبُ ) الأبيات
وقال الشنفرى أيضا ( ألا
هل أَتَى عَنَّا سُعادَ ودُونَها ... مهامِهُ بِيدٍ تعْتَلي بالصعالِكِ ) ( بأَنَّا
صَبَحْنا القوم في حُرّ دارِهِم ... حِمامَ المنايا بالسُّيوف البَواتِك ) ( قَتَلْنا
بعمرو منهمُ خيْرَ فارس ... يزيدَ وسعدا وابنَ عوفٍ بمالك ) ( ظَلَلْنا
نُفَرِّي بالسّيوف رُؤُوسَهم ... ونَرشُقهم بالنَّبْل بين الدَّكَادِك ) كان
ضعيفا أمام النساء قال وخرج تأبط في سرية من قومه فيهم عمرو بن براق ومرة بن خليف
والمسيب بن كلاب وعامر بن الأخنس وهو رأس القوم وكعب حدار وريش كعب والسمع وشريس
بنو جابر إخوة تأبط شرا وسعد ومالك ابنا الأقرع حتى مروا ببني نفاثة بن الديل وهم
يريدون الغارة عليهم فباتوا في جبل مطل عليهم فلما كان في وجه السحر أخذ عامر بن
الأخنس قوسه فوجد وترها مسترخيا فجعل يوترها ويقول له تأبط بعض حطيط وترك يا عامر
وسمعه شيخ من بني نفاثة فقال لبنات له أنصتن فهذه والله غارة لبني ليث - وكان الذي
بينهم يومئذ متفاقما في قتل حميصة بن قيس أخي بلعاء وكانوا أصابوه خطأ - وكان بنو
نفاثة في غزوة والحي خلوف وليس عندهم غير أشياخ وغلمان لا طباخ بهم فقالت امرأة منهم
اجهروا الكلام والبسوا السلاح فإن لنا عدة فواللات ما هم إلا تأبط وأصحابه فبرزن
مع نوفل وأصحابه فلما بصر بهم قال انصرفوا فإن القوم قد نذروا بكم فأبوا عليه إلا
الغارة فسل تأبط سيفه وقال لئن أغرتم عليهم لاتكئن على سيفي حتى أنفذه من ظهري فانصرفوا
ولا يحسبون إلا أن النساء رجال حتى مروا بإبل البلعاء بن قيس بقرب المنازل
فأطردوها فلحقهم غلام من بني جندع بن ليث فقال يا عامر بن الأخنس أتهاب نساء بني
نفاثة وتغير على رجال بني ليث هذه والله إبل لبلعاء بن قيس فقال له عامر أو كان
رجالهم خلوفا قال نعم قال أقرىء بلعاء مني السلام وأخبره بردي إبله وأعلمه أني قد
حبست منها بكرا لأصحابي فإنا قد أرملنا فقال الغلام لئن حبست منها هلبة لأعلمنه
ولا أطرد منها بعيرا أبدا فحمل عليه تأبط فقتله ومضوا بالإبل إلى قومهم فقال في ذلك
تأبط ( ألا عَجِب الفِتْيانُ من أمّ مالك
... تقول أراك اليوم أشعَثَ أغبرا ) ( تَبوعاً
لآثار السَّرِيَّة بعد ما ... رأيتُك بَرَّاق المَفارق أَيْسرا ) ( فقلتُ
له يَوْمان يَومُ إقامة ... أهزّ به غُصْناً من البانِ أخضَرا ) ( ويومٌ
أهزّ السَّيفَ في جيد أغيد ... له نِسوةٌ لم تلق مثلي أنكرا ) ( يخفن
عليه وهو ينزِع نفسَه ... لقد كنت أبّاء الظلامة قَسْورا ) ( وقد
صِحْت في آثار حَوْم كأنها ... عَذارَى عُقيل أو بَكارةُ حِمْيرا ) ( أبعد
النّفاثيّين آمل طرقةً ... وآسَى على شيء إذا هو أَدْبَرا ) ( أكفكِف
عنهم صُحْبَتِي وإخالهم ... من الذلّ يَعْراً بالتّلاعة أَعْفَرا ) ( فلو
نالت الكَفَّان أصحابَ نوفلٍ ... بمهمهةٍ من بطن ظَرْء فعَرْعَرَا ) ( ولمّا
أَبَى الليثيُّ إلا تَهَكُّما ... بِعرضي وكان العِرضُ عِرضي أوفرا ) ( فقلت
له حقَّ الثناءُ فإنّني ... سأذهب حتى لم أجد متأخًّرَا ) ( ولما
رأيتُ الجَهْلَ زادَ لَجاجةً ... يقول فلا يأْلوك أَن تَتَشَوَّرَا ) ( دنوت
له حتى كَأنَّ قَميصَه ... تَشرَّب من نضح الأَخادِع عُصْفُرا ) ( فمن
مُبلغٌ ليثَ بنَ بكرٍ بأنَّنا ... تركنا أخاهم يوم قِرْنٍ مُعَفَّرا ) قال
غزا تأبط بني نفاثة بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهم خلوف ليس في دارهم
رجل وكان الخبر قد أتى تأبط فأشرف فوق جبل ينظر إلى الحي وهم أسفل منه فرأته امرأة
فطرح نفسه فعلمت المرأة أنه تأبط وكانت عاقلة فأمرت النساء فلبسن لبسة الرجال ثم
خرجن كأنهن يطلبن الضالة وكان أصحابه يتفلتون ويقولون اغز وإنما كان في سرية من
بين الستة إلى السبعة فأبى أن يدعهم وخرج يريد هذيلا وانصرف عن النفاثيين فبينا هو
يتردد في تلك الجبال إذ لقي حليفا له من هذيل فقال له العجب لك يا تأبط قال وما هو
قال إن رجال بني نفاثة كانوا خلوفا فمكرت بك امرأة وأنهم قد رجعوا ففي ذلك يقول ( ألا
عَجِب الفِتْيانُ من أمّ مالك ... تقول لقد أصبحت أشعَثَ أغبرا ) وذكر
باقي الأبيات المتقدمة وقال غيره لا بل قال هذه القصيدة في عامر بن الأخنس الفهمي
وكان من حديث عامر بن الأخنس أنه غزا في نفر بضعة وعشرين رجلا فيهم عامر بن الأخنس
وكان سيدا فيهم وكان إذا خرج في غزو رأسهم وكان يقال له سيد الصعاليك فخرج بهم حتى
باتوا على بني نفاثة بن عدي بن الديل ممسين ينتظرون أن ينام الحي حتى إذا كان في
سواد الليل مر بهم راع من الحي قد أغدر فمعه غديرته يسوقها فبصر بهم وبمكانهم فخلى
الغديرة وتبع الضراء ضراء الوادي حتى جاء الحي فأخبرهم بمكان القوم وحيث رآهم فقاموا
فاختاروا فتيان الحي فسلحوهم وأقبلوا نحوهم حتى إذا دنوا منهم قال رجل من
النفاثيين والله ما قوسي بموترة فقالوا فأوتر قوسك فوضع قوسه فأوترها فقال تأبط
لأصحابه اسكتوا واستمع فقال أتيتم والله قالوا وما ذلك قال أنا والله أسمع حطيط
وتر قوس قالوا والله ما نسمع شيئا قال بلى والله إني لأسمعه يا قوم النجاء قالوا
لا والله ما سمعت شيئا فوثب فانطلق وتركهم ووثب معه نفر وبيتهم بنو نفاثة فلم يفلت
منهم إنسان وخرج هو وأصحابه الذين انطلقوا معه وقتل تلك الليلة عامر بن الأخنس قال
ابن عمير وسألت أهل الحجاز عن عامر بن الأخنس فزعموا أنه مات على فراشه فلما رجع
تأبط قالت له امرأته تركت أصحابك فقال حينئذ ( ألا
عَجِب الفِتْيانُ من أُمّ مالك ... تقول لقد أصبحْتَ أشعَثَ أغْبَرا ) مصرعه
على يد غلام فلما رجع تأبط وبلغه ما لقي أصحابه قال والله ما يمس رأسي غسل ولا دهن
حتى أثأر بهم فخرج في نفر من قومه حتى عرض لهم بيت من هذيل بين صوى جبل فقال
اغنموا هذا البيت أولا قالوا لا والله ما لنا فيه أرب ولئن كانت فيه غنيمة ما
نستطيع أن نسوقها فقال إني أتفاءل أن أنزل ووقف وأتت به ضبع من يساره فكرهها وعاف
على غير الذي رأى فقال أبشري أشبعك من القوم غدا فقال له أصحابه ويحك انطلق فوالله
ما نرى أن نقيم عليها قال لا والله لا أريم حتى أصبح وأتت به ضبع عن يساره فقال
أشبعك من القوم غدا فقال أحد القوم والله إني أرى هاتين غدا بك فقال لا والله لا
أريم حتى أصبح فبات حتى إذا كان في وجه الصبح وقد رأى أهل البيت وعدهم على النار
وأبصر سواد غلام من القوم دون المحتلم وغدوا على القوم فقتلوا شيخا وعجوزا وحازوا
جاريتين وإبلا ثم قال تأبط إني قد رأيت معهم غلاما فأين الغلام الذي كان معهم
فأبصر أثره فاتبعه فقال له أصحابه ويلك دعه فإنك لا تريد منه شيئا فاتبعه واستتر
الغلام بقتادة إلى جنب صخرة وأقبل تأبط يقصه وفوق الغلام سهما حين رأى أنه لا ينجيه
شيء وأمهله حتى إذا دنا منه قفز قفزة فوثب على الصخرة وأرسل السهم فلم يسمع تأبط
إلى الحبضة فرفع رأسه فانتظم السهم قلبه وأقبل نحوه وهو يقول لا بأس فقال الغلام
لا بأس والله لقد وضعته حيث تكره وغشيه تأبط بالسيف وجعل الغلام يلوذ بالقتادة
ويضربها تأبط بحشاشته فيأخذ ما أصابت الضربة منها حتى خلص إليه فقتله ثم نزل إلى
أصحابه يجر رجله فلما رأوه وثبوا ولم يدروا ما أصابه فقالوا مالك فلم ينطق ومات في
أيديهم فانطلقوا وتركوه فجعل لا يأكل منه سبع ولا طائر إلا مات فاحتملته هذيل
فألقته في غار يقال له غار رخمان فقالت ريطة أخته وهي يومئذ متزوجة في بني الديل ( نِعْم
الفَتَى غادَرْتُم برُخمانْ ... ثابتٌ بنُ جابرِ بنِ سُفْيانْ ) وقال
مرة بن خليف يرثيه ( إن
العَزِيمةَ والعَزَّاءَ قد ثَوَيا ... أكفانَ ميت غدا في غار رُخْمانِ ) ( إلاّ
يَكُن كُرسفٌ كُفِّنتَ جَيّدَه ... ولا يكن كَفَنٌ من ثَوْبِ كَتَّانِ ) ( فإن
حُرًّا من الأَنْسابِ ألبسه ... ريش الندى والندى من خير أَكفان ) ( وليلةٍ
رأسُ أفعاها إلى حجرٍ ... ويوم أورِ من الجوزاءِ رنَّانِ ) ( أمضيتَ
أولَ رهطٍ عند آخره ... في إثر عاديةٍ أو إثر فتيانِ ) وقالت
أم تأبط ترثيه ( وابناهُ
وابنَ اللَّيْل ... ) قال
أبو عمرو الشيباني لا بل كان من شأن تأبط وهو ثابت بن جابر بن سفيان وكان جريئا
شاعرا فاتكا أنه خرج من أهله بغارة من قومه يريدون بني صاهلة بن كاهل بن الحارث بن
سعيد بن هذيل وذلك في عقب شهر حرام مما كان يحرم أهل الجاهلية حتى هبط صدر أدم
وخفض عن جماعة بني صاهلة فاستقبل التلاعة فوجد بها دارا من بني نفاثة بن عدي ليس
فيها إلا النساء غير رجل واحد فبصر الرجل بتأبط وخشيه وذلك في الضحى فقام الرجل
إلى النساء فأمرهن فجعلن رؤوسهن جمما وجعلن دروعهن أردية وأخذن من بيوتهن عمدا
كهيئة السيوف فجعلن لها حمائل ثم تأبطنها ثم نهض ونهضن معه يغريهن كما يغري القوم
وأمرهن أن لا يبرزن خدا وجعل هو يبرز للقوم ليروه وطفق يغري ويصيح على القوم حتى
أفزع تأبط شرا وأصحابه وهو على ذلك يغري في بقية ليلة أو ليلتين من الشهر الحرام
فنهضوا في شعب يقال له شعب وشل وتأبط ينهض في الشعب مع أصحابه ثم يقف في آخرهم ثم يقول
يا قوم لكأنما يطردكم النساء فيصيح عليه أصحابه فيقولون انج أدركك القوم وتأبى
نفسه فلم يزل به أصحابه حتى مضى معهم فقال تأبط في ذلك ( أبعد
النّفاثيين أزجر طائرا ... وآسَى على شيء إذا هو أدبرا ) ( أُنهنهِ
رِجلِي عنهم وإخالهم ... من الذُّلِّ يعراً بالتَّلاعة أعفرا ) ( ولو
نالت الكَفَّان أصحابَ نوفل ... بمَهْمَهَة من بين ظَرْء وعرعرا ) قال
ثم طلعوا الصدر حين أصبحوا فوجدوا أهل بيت شاذ من بني قريم ذنب نمار فظل يراقبهم
حتى أمسوا وذلك البيت لساعدة بن سفيان أحد بني حارثة بن قريم فحصرهم تأبط وأصحابه
حتى أمسوا قال وقد كانت قالت وليدة لساعدة إني قد رأيت اليوم القوم أو النفر بهذا
الجبل فبات الشيخ حذرا قائما بسيفه بساحة أهله وانتظر تأبط وأصحابه أن يغفل الشيخ
وذلك آخر ليلة من الشهر الحرام فلما خشوا أن يفضحهم الصبح ولم يقدروا على غرة مشوا
إليه وغروه ببقية الشهر الحرام وأعطوه من مواثيقهم ما أقنعه وشكوا إليه الجوع فلما
اطمأن إليهم وثبوا عليه فقتلوه وابنا له صغيرا حين مشى قال ومضى تأبط شرا إلى ابن
له ذي ذؤابة كان أبوه قد أمره فارتبأ من وراء ماله يقال له سفيان بن ساعدة فأقبل
إليه تأبط شرا مستترا بمجنة فلما خشي الغلام أن يناله تأبط بسيفه وليس مع الغلام
سيف وهو مفوق سهما رمى مجن تأبط بحجر فظن تأبط أنه قد أرسل سهمه فرمى مجنة عن يده
ومشى إليه فأرسل الغلام سهمه فلم يخط لبته حتى خرج منه السهم ووقع في البطحاء حذو القوم
وأبوه ممسك فقال أبو الغلام حين وقع السهم أخاطئه سفيان فحرد القوم فذلك حين قتلوا
الشيخ وابنه الصغير ومات تأبط أمه ترثيه فقالت أمه - وكانت امرأة من بني القين بن
جسر بن قضاعة - ترثيه ( قتِيلٌ
ما قتيلُ بني قُرَيْمٍ ... إذا ضَنّت جُمادى بالقِطارِ ) ( فتى
فَهْمٍ جميعاً غادَرُوه ... مقيما بالحُرَيْضَةِ من نُمارِ ) وقالت
أمه ترثيه أيضا ( ويلُ
امِّ طِرف غادروا برُخْمانْ ... بثابت بن جابر بن سفيان ) ( يجدِّلُ
القِرنَ ويُروِي النَّدمانْ ... ذو مأْقِطٍ يحمي وراء الإِخوان ) وقالت
ترثيه أيضا وابناه وابن الليل ليس بزميل شروب للقيل رقود بالليل وواد ذي هول أجزت بالليل
تضرب بالذيل برجل كالثول قال وكان تأبط شرا يقول قبل ذلك ( ولقد
علمتُ لتعدُوَنَّ ... م عليّ شتْمٌ كالحساكل ) ( يأكلنَ
أوصالا ولحما ... كالشَّكاعِي غيرَ جاذِل ) ( يا
طيرُ كُلْنَ فإنني ... سُمٌّ لَكُنّ وذو دَغَاوِل ) وقال
قبل موته ( لعلي ميِّتٌ كمداً ولمَّا ...
أطالع أهلَ ضيم فالكرابِ ) ( وإن
لم آتِ جمع بني خُثيم ... وكاهلها برَجْل كالضّباب ) ( إذا
وقعتْ بكعب أو قُرَيْمٍ ... وسيَّارٍ فيا سَوْغَ الشّراب ) فأجابه
شاعر من بني قريم ( تأبَّطَ
سَوْأَةً وحملْتَ شرًّا ... لعلك أن تكون من المصاب ) ( لعلك
أن تجيءَ بك المنايا ... تُساقُ لفتيةٍ منا غِضاب ) ( فتُصْبحَ
في مَكَرِّهمُ صريعاً ... وتصبحَ طرفة الضَّبُعِ السِّغاب ) ( فزلتم
تهربون ولو كرهتم ... تسوقون الحَرائمَ بالنقاب ) ( وزال
بأرضكم منّا غلامٌ ... طليعةُ فتْيَةٍ غُلْبِ الرقاب ) ونذكر
هاهنا بعد أخبار تأبط شرا أخبار صاحبيه عمرو بن براق والشنفرى ونبدأ بما يغني فيه
من شعريهما ونتبعه بالأخبار فأما عمرو بن براق فمما يغني فيه من شعره قوله صوت (
متى تجمع القلبَ الذكيَّ وصارما ... وأنفا حَمِيَّا تجتنبْكَ المَظالِمُ ) ( وكنت
إذا قومٌ غَزوْني غَزَوتهم ... فهل أنا في ذا يا لَهَمدَانَ ظَالمِ ) ( كذبتُم
وبيتِ الله لا تأخذونها ... مراغمةً ما دام للسيف قائِم ) ( ولا
صُلْحَ حتى تعثُر الخَيلُ بالقَنا ... وتُضْرَبَ بالبِيضِ الرّقاقِ الجَماجِمُ ) عروضه
من الطويل الشعر لابن براق وقيل ابن براقة والغناء لمحمد ابن إسحاق بن عمرو بن
بزيع ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي عمرو بن براق أخبرني علي بن سليمان
الأخفش قال حدثنا السكري عن ابن حبيب قال وأخبرنا الهمداني ثعلب عن ابن الأعرابي
عن المفضل قالا سلب منه ماله ثم استرده فقال في ذلك أغار رجل من همدان يقال له
حريم على إبل لعمرو بن براق وخيل فذهب بها فأتى عمرو امرأة كان يتحدث إليها
ويزورها فأخبرها أن حريما أغار على إبله وخيله فذهب بها وأنه يريد الغارة عليه
فقالت له المرأة ويحك لا تعرض لتلفات حريم فإني أخافه عليك قال فخالفها وأغار عليه
فاستاق كل شيء كان له فأتاه حريم بعد ذلك يطلب إليه أن يرد عليه ما أخذه منه فقال
لا أفعل وأبى عليه فانصرف فقال عمرو في ذلك ( تقول
سُلَيمى لا تعَرَّضْ لتَلفةٍ ... وليلُك عن ليل الصعاليك نائمُ ) ( وكيف
ينامُ الليلَ من جُلّ مالِهِ ... حُسامٌ كلون المِلحِ أَبيضُ صارمُ ) ( صَمُوتٌ
إذا عضَّ الكريهةَ لم يَدَعْ ... لها طَمعاً طوعُ اليمينِ ملازمُ ) ( نَقدْتُ
به ألْفاً وسامحتُ دونه ... على النقدِ إذ لا تُستطاع الدراهمُ ) ( ألم
تَعلمي أنَّ الصعاليكَ نومُهم ... قليلٌ إذا نام الدَّثُور المُسالِمُ ) ( إذا
الليل أدجى واكفهرّت نجومه ... وصاح من الإِفراط هامٌ جوائم ) ( ومال
بأصحاب الكرى غالباتُه ... فإني على أمر الغَواية حازم ) ( كذبتم
وبيتِ الله لا تأخذونها ... مُراغمةً ما دام للسيف قائمُ ) ( تَحالفَ
أقوامٌ عليّ ليسمَنُوا ... وجروا عليَّ الحَرْبَ إذا أَنَا سَالِمُ ) ( أَفَالآن
أُدْعَى للهَوادة بعدما ... أُجِيل على الحيّ المَذاكِي الصَّلادُمُ ) ( كأنَّ
حُريماً إذ رجا أن يَضُمَّها ... ويُذْهِبَ مالي يابنَة القوم حالِمُ ) ( متى
تجمع القلبَ الذَّكِيَّ وصارِماً ... وأنفاً حَمِيَّاً تَجْتَنِبْكَ المظالِمُ ) ( ومَن
يَطلبِ المالَ المُمَنَّع بالقَنَا ... يَعِشْ ذا غِنىً أو تَخْتَرِمْه المَخارِمُ ) ( وكنتُ
إذا قومُ غَزونِي غزَوْتُهم ... فهل أنا في ذا يا لَهَمْدان ظالمُ ) ( فلا
صُلْح حتى تعثر الخيل بالقنا ... وتُضْرب بالبِيض الرِّقاقِ الجَماجِمُ ) وأما
الشنفرى فإنه رجل من الأزد ثم من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد ومما يغنى فيه
من شعره قوله صوت ( أَلا أُمِّ عَمْروٍ أزمعت فاستقَلَّت ... وما ودَّعت جِيرانها
إذ تولَّتِ ) ( فوانَدَما بانَتْ أُمامةُ بعدما
... طَمِعْتُ فهَبْها نِعْمَةً قد تولَّتِ ) ( وقد
أعجَبتْنِي لا سَقُوطاً خِمارُها ... إذا ما مشَت ولا بذاتِ تَلَفُّتِ ) غنى
في هذه الأبيات إبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة أخبار الشنفرى ونسبه نشأ
في غير قومه وأخبرني بخبره الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا أبو يحيى المؤدب وأحمد
ابن أبي المنهال المهلبي عن مؤرخ عن أبي هشام محمد بن هشام النميري أن الشنفرى كان
من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد بن الغوث أسرته بنو شبابة بن فهم بن عمرو بن
قيس بن عيلان فلم يزل فيهم حتى أسرت بنو سلامان بن مفرج بن عوف بن ميدعان بن مالك
بن الأزد رجلا من فهم أحد بني شبابة ففدته بنو شبابة بالشنفرى قال فكان الشنفرى في
بني سلامان بن مفرج لا تحسبه إلا أحدهم حتى نازعته بنت الرجل الذي كان في حجره
وكان السلامي اتخذه ولدا وأحسن إليه وأعطاه فقال لها الشنفرى اغسلي رأسي يا أخية
وهو لا يشك في أنها أخته فأنكرت أن يكون أخاها ولطمته فذهبت مغاضبا حتى أتى الذي
اشتراه من فهم فقال له الشنفرى اصدقني ممن أنا قال أنت من الأواس بن الحجر فقال
أما إني لن أدعكم حتى أقتل منكم مائة بما استعبدتموني ثم إنه ما زال يقتلهم حتى قتل
تسعة وتسعين رجلا وقال الشنفرى للجارية السلامية التي لطمته وقالت لست بأخي ( أَلا
ليتَ شِعْري والتَّلَهُّفُ ضَلّةٌ ... بما ضَربتْ كَفُّ الفتاة هَجِينَها ) ( ولو
علمت قُعسوسُ أنساب والدي ... ووالدِها ظَلّت تقاصَرُ دونها ) ( أنا
ابن خيار الحُجْر بيتا ومَنْصِبا ... وأمي ابنةُ الأحرار لو تَعْرِفينها )
قال ثم لزم الشنفرى دار فهم فكان
يغير على الأزد على رجليه فيمن تبعه من فهم وكان يغير وحده أكثر من ذلك وقال
الشنفري لبني سلامان ( وإني
لأهوَى أن أَلُفُّ عجَاجتي ... على ذي كساء من سَلامانَ أَو بُرد ) ( وأصبحَ
بالعضْدَاء أبغي سَراتَهم ... وأسلكَ خَلاًّ بين أَرباع والسّرد ) فكان
يقتل بني سلامان بن مفرج حتى قعد له رهط من الغامديين من بني الرمداء فأعجزهم
فأشلوا عليه كلبا لهم يقال له حبيش ولم يضعوا له شيئا ومر وهو هارب بقرية يقال لها
دحيس برجلين من بني سلامان بن مفرج فأرادهما ثم خشي الطلب فقال ( قتيلَيْ
فِجارٍ أنتُما إن قُتِلتُما ... بجوف دَحِيس أو تبالةَ يا اسمعا ) يريد
يا هذان اسمعا وقال فيما كان يطالب به بني سلامان ( فإلا
تزرني حَتْفتي أو تُلاقني ... أُمشِّ بدَهْرٍ أو عذافَ فنوَّرا ) ( أمشي
بأطراف الحماطِ وتارةً ... تُنفَّضُ رجلي بَسْبُطاً فعَصَنْصَرا ) ( وأبغي
بني صَعب بن مُرٍّ بلادَهم ... وسوف أُلاقيهم انِ اللهُ يسّرا ) ( ويوما
بذاتِ الرَّأس أو بطن مِنجَلٍ ... هنالك تَلْقى القاضيَ المُتِغَوِّرا ) سملوا
عينه ثم قتلوه قال ثم قعد له بعد ذلك أسيد بن جابر السلاماني وخازم الفهمي بالناصف
من أبيدة ومع أسيد ابن أخيه فمر عليهم الشنفرى فأبصر السواد بالليل فرماه وكان لا
يرى سوادا إلا رماه كائنا ما كان فشك ذراع ابن أخي أسيد إلى عضده فلم يتكلم فقال
الشنفري إن كنت شيئا فقد أصبتك وإن لم تكن شيئا فقد أمنتك وكان خازم باطحا يعني
منبطحا بالطريق يرصده فنادى أسيد يا خازم أصلت يعني اسلل سيفك فقال الشنفري لكل
أصلت فأصلت الشنفري فقطع أصبعين من أصابع خازم الخنصر والبنصر وضبطه خازم حتى لحقه
أسيد وابن أخيه نجدة فأخذ أسيد سلاح الشنفرى وقد صرع الشنفري خازما وابن أخي أسيد
فضبطاه وهما تحته وأخذ أسيد برجل ابن أخيه فقال أسيد رجل من هذه فقال الشنفري رجلي
فقال ابن أخي أسيد بل هي رجلي يا عم فأسروا الشنفرى وأدوه إلى أهلهم وقالوا له أنشدنا
فقال إنما النشيد على المسرة فذهبت مثلا ثم ضربوا يده فتعرضت أي اضطربت فقال
الشنفرى في ذلك ( لا
تَبْعَدِي إمّا ذَهَبْتِ شامَهْ ... فرُبَّ وادٍ نَفَرَتْ حَمامَه ) ( ورُبَّ
قِرْنٍ فَصَلتْ عِظَامَهْ ... ) ثم
قال له السلامي أأطرفك ثم رماه في عينه فقال الشنفرى له كأن كنا نفعل أي كذلك كنا
نفعل وكان الشنفرى إذا رمى رجلا منهم قال له أأطرفك ثم يرمي عينه ثم قالوا له حين
أرادوا قتله أين نقبرك فقال ( لا
تَقبُرونِي إنّ قَبرِي مُحرَّم ... عليكم ولكن أبشِرِي أُمَّ عامر ) ( إذا
احْتَمَلَتْ رأسي وفي الرأس أكثَرِي ... وغُودِرَ عند المُلْتَقَى ثَمّ سائِرِي ) ( هنالك
لا أرجو حياةً تَسُرُّني ... سَمِيرَ الليالي مُبْسَلاً بالحَرَائرِ ) تأبط
شرا يرثيه وقال تأبط شرا يرثي الشنفري ( على
الشَّنْفَرَى ساري الغمام ورائحٌ ... غزيرُ الكُلى وَصَيِّبُ الماء باكرُ ) ( عليك
جزاءٌ مثلُ يومِكَ بالجَبَا ... وقد أُرعِفتْ منك السُّيوفُ البواتر ) ( ويومِكَ
يوم العَيْكَتَيْن وعطفةٍ ... عطفتَ وقد مَسَّ القلُوبَ الحناجِرُ ) ( تجول
ببز الموت فيهم كأنهم ... بشوكتك الحُدّى ضَئِينٌ نوافرُ ) ( فإنك
لو لاقيتني بعدما ترى - ... وهل يُلقَيْن مَنْ غَيَّبته المقابر - ) ( لألفيتني
في غارة أنتمي بها ... إليك وإمّا راجعاً أنا ثائِرُ ) ( وإن
تكُ مأْسوراً وظلْت مُخَيِّماً ... وأبْليت حتى ما يكيدك واتِرُ ) ( وحتى
رماك الشَّيْبُ في الرأس عانسا وخيرُك مبسوطٌ وزادك حاضرُ ... ) ( وأجملُ
موتِ المرء إذ كان ميتا ... - ولا بد يوماً - مَوتُه وهو صابر ) ( فلا
يَبعَدنّ الشَّنْفَري وسِلاحُه الْحَديدُ ... وَشدَّ خَطْوُه متواتر ) ( إذا
راع رَوْعُ الموت راع وإن حَمَى ... حَمَى معه حُرٌّ كريم مُصابِرُ ) خبر
آخر عن سبب أسره ومقتله قال وقال غيره لا بل كان من أمر الشنفري وسبب أسره ومقتله
أن الأزد قتلت الحارث بن السائب الفهمي فأبوا أن يبوءوا بقتله فباء بقتله رجل منهم
يقال له حزام بن جابر قبل ذلك فمات أخو الشنفري فأنشأت أمه تبكيه فقال الشنفري
وكان أول ما قاله من الشعر ( ليس
لوالدة هوءُها ... ولا قولُها لابنها دَعْدَعْ ) ( تُطيف
وتُحدِث أحوالَه ... وغيْرُكِ أملكُ بالمَصْرَع ) قال
فلما ترعرع الشنفري جعل يغير على الأزد مع فهم فيقتل من أدرك منهم ثم قدم منى وبها
حزام بن جابر فقيل له هذا قاتل أبيك فشد عليه فقتله ثم سبق الناس على رجليه فقال ( قتلتُ
حزاماً مُهْدِياً بمُلَبَّدٍ ... ببطن مِنىً وسْط الحجيج المُصَوّتِ ) قال
ثم إن رجلا من الأزد أتى أسيد بن جابر وهو أخو حزام المقتول فقال تركت الشنفرى
بسوق حباشة فقال أسيد بن جابر والله لئن كنت صادقا لا نرجع حتى نأكل من جنى أليف
أبيدة فقعد له على الطريق هو وابنا حزام فأحسوه في جوف الليل وقد نزع نعلا ولبس
نعلا ليخفي وطأه فلما سمع الغلامان وطأه قالا هذه الضبع فقال أسيد ليست الضبع
ولكنه الشنفرى ليضع كل واحد منكما نعله على مقتله حتى إذا رأى سوادهم نكص مليا
لينظر هل يتبعه أحد ثم رجع حتى دنا منهم فقال الغلامان أبصرنا فقال عمهما لا والله
ما أبصركما ولكنه أطرد لكيما تتبعاه فليضع كل واحد منكما نعله على مقتله فرماهم
الشنفري فخسق في النعل ولم يتحرك المرمي ثم رمى فانتظم ساقي أسيد فلما رأى ذلك
أقبل حتى كان بينهم فوثبوا عليه فأخذوه فشدوه وثاقا ثم إنهم انطلقوا به إلى قومهم
فطرحوه وسطهم فتماروا بينهم في قتله فبعضهم يقول أخوكم وابنكم فلما رأى ذلك أحد
بني حزام ضربه ضربة فقطع يده من الكوع وكانت بها شامة سوداء فقال الشنفرى حين قطعت
يده ( لا تَبْعَدِي إمّا هَلَكْتِ شامَهْ
... فرُبَّ خَرقٍ قَطَعتْ قتَامَهْ ) ( ورُبَّ
قِرْنٍ فَصَلتْ عِظَامَهْ ... ) وقال
تأبط شرا يرثيه ( فلا
يَبعَدنّ الشَّنْفَرى وسِلاحُه الْحَديدُ ... وَشَدَّ خَطْوُه متواتر ) ( إذا
راع رَوْعَ الموت راع وإن حَمَى ... حَمَى معه حُرٌّ كريم مُصابِرُ ) قال
وذرع خطو الشنفرى ليلة قتل فوجد أول نزوة نزاها إحدى وعشرين خطوة ثم الثانية سبع
عشرة خطوة قال وقال ظالم العامري في الشنفرى وغاراته على الأزد وعجزهم عنه ويحمد
أسيد بن جابر في قتله الشنفرى ( فما
لَكُمْ لم تدركوا رِجْلَ شنفرى ... وأنتم خِفاف مثلُ أجنحة الغُرْبِ ) ( تعاديتُم
حتى إذا ما لحقتُم ... تباطأَ عنكم طالبٌ وأبو سَقْبِ ) ( لعمركَ
لَلسَّاعي أُسَيدُ بن جابِرٍ ... أحقُّ بها مِنْكم بَنِي عقبِ الكلب ) قال
ولما قتل الشنفرى وطرح رأسه مر به رجل منهم فضرب جمجمة الشنفرى بقدمه فعقرت قدمه
فمات بها فتمت به المائة شعره لما قتل حزاما قاتل أبيه وكان مما قاله الشنفرى فيهم
من الشعر وفي لطمه المرأة التي أنكرته الذي ذكرته واستغني عن إعادته مما تقدم ذكره
من شعر الشنفرى وقال الشنفرى في قتله حزاما قاتل أبيه ( أرَى
أُمَّ عمرو أجمعت فاستقلَّتِ ... وما ودَّعت جِيرانَها إذْ تولّتِ ) ( فقد
سبقتنا أُمُّ عمرو بأَمرها ... وقد كان أعناقُ المَطيِّ أظلَّتِ ) ( فواندَما
على أُميمةَ بعدما ... طمِعتُ فهَبْها نِعمةَ العيش ولَّتِ ) ( أُميمةُ
لا يُخزِي نَثاها حَليلها ... إذا ذُكِر النسوان عَفَّت وجَلّت ) ( يَحُلّ
بمنجاةٍ من اللّوم بيتُها ... إذا ما بُيوتٌ بالمَلامة حُلَّت ) ( فقد
أعجبتني لا سَقُوطٌ قِناعُها ... إذا ما مَشت ولا بذات تَلَفُّت ) ( كأَنّ
لها في الأرض نِسْياً تَقُصُّه ... إذا ما مشت وإن تُحدِّثْك تَبْلِت ) النسي
الذي يسقط من الإنسان وهو لا يدري أين هو يصفها بالحياء وأنها لا تلتفت يمينا ولا
شمالا ولا تبرج ويروى ( تقصه
على أمها وإن تكلمك ... ) ( فدقت
وجلت واسبكرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنَّت ) ( تبيتُ
بُعَيْدَ النوم تُهدِي غَبُوبَها ... لجاراتِها إذا الهديّة قَلَّت ) - الغبوب
ما غب عندها من الطعام أي بات ويروى غبوقها - ( فبِتنا
كأنَّ البيت حُجِّر حولنا ... بريحانةٍ راحت عِشاءً وطُلَّتِ ) ( بريحانة
من بطن حلية أمرعت ... لها أرجٌ من حولها غير مسنت ) ( غدوتُ
من الوادي الذي بين مَشْعَل ... وبين الجَبَاهيهات أنْسأتُ سُربتي ) ( أمشِّي
على الأرض التي لن تضيرَني ... لأكسِبَ مالا أو أُلاقِيَ حُمَّتِي ) ( إذا
ما أتتني حَتْفتي لم أُبالها ... ولم تُذْرِ خالاتي الدموع وعَمَّتِي ) ( وهَنِّيءَ
بي قومٌ وما إن هنأْتُهم ... وأصبحت في قوم وليسوا بمنْبِتي ) ( وأُمِّ
عيالٍ قد شهدتُ تَقُوتُهم ... إذا أطْعَمَتْهم أوْ تَحَتْ وأقلَّت ) ( تخاف
علينا الجوعَ إن هيَ أكثرت ... ونحن جياعٌ أيَّ أَلْيٍ تأَلَّتِ ) ( عُفَاهَيةٌ
لا يقصرُ السّترُ دونها ... ولا تُرتَجى للبَيْت إن لم تُبَيَّت ) ( لها
وَفْضَةٌ فيها ثلاثون سَلْجَماً ... إذَا ما رأَت أُولى العَدِي اقْشَعَرَّتِ ) ( وتأتي
العَدِيَّ بارزاً نصفُ ساقِها ... كعَدْو حِمار العانةِ المتفَلِّت ) ( إذا
فُزِّعت طارت بأَبيضَ صارمٍ ... وراحت بما في جُفرها ثم سَلَّت ) ( حُسامٍ
كلون الملح صافٍ حديدُه ... جُرازٍ من اقطار الحديد المنعَّت ) ( تراها
كأَذناب المَطِيّ صوادراً ... وقد نهِلتْ منَ الدّماء وعلّت ) ( سنجزي
سَلامانَ بنَ مُفْرج قرضَهم ... بما قدَّمت أيديهمُ وأَزَلَّت ) ( شفَيْنا
بعبد الله بعضَ غليلِنا ... وعوفٍ لدى لمَعْدَى أوانَ استهلَّت ) ( قتلنا
حزاما مُهدِيا بمُلَبّدٍ ... محلّهما بين الحجيج المصوِّت ) ( فإن
تُقبِلوا تُقبِل بمَنْ نِيلَ منهمُ ... وإن تُدْبِروا فأُمّ مَنْ نِيلَ فُتّت ) ( ألا
لا تزرني إن تشكيت خُلَّتي ... كفاني بأَعلى ذي الحُمَيرةِ عُدْوَتي ) ( وإني
لحُلوٌ إن أُرِيدت حلاوتي ... ومُرٌّ إذا النفس الصَّدوفُ استَمرَّتِ ) ( أبيّ
لما آبى وشيكٌ مَفِيئَتي ... إلى كُلِّ نفس تَنْتَجِي بمودّتي ) وقال
الشنفري أيضا ( ومرقبةٍ
عَنْقاء يَقصُرُ دونها ... أخو الضَّرْوذ الرّجْل الخفيُّ المخَفَّف ) ( نَميتُ
إلى أعلى ذراها وقد دنا ... من الليل ملتَفُّ الحدِيقةِ أسدَف ) ( فبِتُّ
على حَدّ الذّراعين أحدباً ... كما يَتَطَوَّى الأرقَم المُتَعَطِّفُ ) ( قليلٌ
جَهازِي غيرُ نعلين أُسحقَت ... صَدورهما مخصورةً لا تُخصَّفُ ) ( ومِلْحَفَةٍ
دَرْسٍ وَجَرْدِ مُلاَءةٍ ... إذا أنهجت من جانب لا تَكفّفُ ) ( وأبيضُ
من ماء الحديد مهنّدٌ ... مِجذٌّ لأطراف السّواعد مِقطفُ ) ( وصفراءُ
من نبعٍ أبيٌّ ظَهيرةٌ ... تُرِنّ كإرنان الشّجيّ وَتَهْتِفُ ) ( إذا
طال فيها النزع تأتي بعَجْسها ... وترمي بذَرْوَيْها بهنّ فتَقْذِفُ ) ( كأَنّ
حفِيفَ النَّبل من فوق عَجْسها ... عوازبُ نحلٍ أخطأَ الغارَ مُطْنِفُ ) ( نأتْ
أمُّ قيسِ المرْبَعَين كليهما ... وتحذَرُ أن يَنأَى بها المتصيَّفُ ) ( وإنك
لو تَدرينَ أنْ رُبَّ مشربٍ ... مخوفٍ كداء البطن أو هو أخوفُ ) ( وردتُ
بمأثورٍ ونبلٍ وضالةٍ ... تخيَّرتها مما أَريش وأرصُفُ ) ( أُركِّبها
في كل أحمر عاتِرٍ ... وأقذِفُ منهن الذي هو مقرف ) ( وتابعتُ
فيه البَرْيَ حتى تركتُه ... يَزِفُّ إذا أنفذتُه ويزفزفُ ) ( بِكفّيَ
منها للبغيض عُراضَةٌ ... إذا بعتُ خِلاًّ ما له مُتَخَوَّفُ ) ( ووادٍ
بعيدِ العُمق ضنكٍ جِماعُه ... بواطِنهُ للجنّ والأسْدِ مأْلَفُ ) ( تعسَّفتُ
منه بعدما سقط الندى ... غَماليل يخشى غِيلَها المُتعسِّفُ ) ( وإني
إذا خَامَ الجبانُ عن الرّدى ... فلِي حيث يُخشى أن يُجاوزَ مخسَف ) ( وإن
امرأً أجار سعدَ بنَ مالكٍ ... عليّ وأثوابِ الأُقَيْصِرِ يَعْنُف ) وقال
الشنفرى أيضا ( ومُستبسلٍ
ضافي القميصِ ضَغَتُّه ... بأَزرقَ لا نِكسٍ ولا مُتَعوِّج ) ( عليه
نُساريٌ على خُوطِ نَبْعةٍ ... وفُوقٌ كعرقوب القطاة مُحَدْرَجُ ) ( وقاربتُ
من كفِّيَّ ثم فَرَجتها ... بنزع إذا ما استُكرِه النزعُ مُخْلِج ) ( فصاحت
بكفي صيحةً ثم رجَّعَت ... أنينَ الأمِيم ذي الجراح المُشجَّع ) وقد
روي فناحت بكفي نوحة رواية ثالثة في مقتله وقال غيره لا بل كان من أمر الشنفرى أنه
سبت بنو سلامان بن مفرج ابن مالك بن هوازن بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن
الأزد الشنفرى - وهو
أحد بني ربيعة بن الحجر بن عمران بن عمرو بن حارثة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن
مازن بن الأزد - وهو غلام فجعله الذي سباه في بهمة يرعاها مع ابنة له فلما خلا بها
الشنفرى أهوى ليقبلها فصكت وجهه ثم سعت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليه ليقتله فوجده
وهو يقول ( ألاَ هل أَتى فِتيانَ قومي جَماعةً
... بما لطمت كفُّ الفتاة هجينَها ) ( ولو
علمت تلك الفتاةُ مَناسبي ... ونِسبتُها ظلَّت تقَاصَرُ دونها ) ( أليس
أبي خيرَ الأَواسِ وغيرِها ... وأُمِّي ابنةُ الخَيْرِينَ لو تَعلمينها ) ( إذا
ما أَرُومُ الودَّ بيني وبينها ... يؤمُّ بياضُ الوجه منّي يمينَها ) قال
فلما سمع قوله سأله ممن هو فقال أنا الشنفرى أخو بني الحارث بن ربيعة وكان من أقبح
الناس وجها فقال له لولا أني أخاف أن يقتلني بنو سلامان لأنكحتك ابنتي فقال علي إن
قتلوك أن أقتل بك مائة رجل منهم فأنكحه ابنته وخلى سبيله فسار بها إلى قومه فشدت
بنو سلامان خلافه على الرجل فقتلوه فلما بلغه ذلك سكت ولم يظهر جزعا عليه وطفق
يصنع النبل ويجعل أفواقها من القرون والعظام ثم إن امرأته بنت السلاماني قالت له
ذات يوم لقد خست بميثاق أبي عليك فقال ( كأَن
قَدْ - فلا يغْرُرْكِ مني تمَكُّثِي ... سلكتُ طريقاً بين يَرْبَغ فالسَّردِ ) ( وإنِّي
زعيمٌ أن تثور عَجَاجتي ... على ذي كِساءٍ من سَلامان أو بُرد ) ( همُ
عرفوني ناشئاً ذا مَخِيلة ... أُمشِّي خلال الدار كالفرس الوَرْدِ ) ( كأَني
إذا لم يُمسِ في الحي مالك ... بتيهاء لا أُهدَي السَّبِيلَ ولا أَهدِي ) قال
ثم غزاهم فجعل يقتلهم ويعرفون نبله بأفواقها في قتلاهم حتى قتل منهم تسعة وتسعين
رجلا ثم غزاهم غزوة فنذروا به فخرج هاربا وخرجوا في إثره فمر بامرأة منهم يلتمس
الماء فعرفته فأطعمته أقطا ليزيد عطشا ثم استسقى فسقته رائبا ثم غيبت عنه الماء ثم
خرج من عندها وجاءها القوم فأخبرتهم خبره ووصفت صفته وصفة نبله فعرفوه فرصدوه على
ركي لهم وهو ركي ليس لهم ماء غيره فلما جن عليه الليل أقبل إلى الماء فلما دنا منه
قال إني أراكم وليس يرى أحدا إنما يريد بذلك أن يخرج رصدا إن كان ثم فأصاخ القوم
وسكتوا ورأى سوادا وقد كانوا أجمعوا قبل إن قتل منهم قتيل أن يمسكه الذي إلى جنبه
لئلا تكون حركة قال فرمى لما أبصر السواد فأصاب رجلا فقتله فلم يتحرك أحد فلما رأى
ذلك امن في نفسه وأقبل إلى الركي فوضع سلاحه ثم انحدر فيه فلم يرعه إلا بهم على رأسه
قد أخذوا سلاحه فنزا ليخرج فضرب بعضهم شماله فسقطت فأخذها فرمى بها كبد الرجل فخر
عنده في القليب فوطىء على رقبته فدقها وقال في قطع شماله ( لا
تَبْعَدِي إمّا ذَهَبْتِ شامَهْ ... فرُبَّ وادٍ نَفَرَتْ حَمامَه ) ( ورُبَّ
قِرْنٍ فَصَلتْ عِظَامَهْ ... وربَّ حيٍّ حرَّقت سَوامَهْ ) قال
ثم خرج إليهم فقتلوه وصلبوه فلبث عاما أو عامين مصلوبا وعليه من نذره رجل قال ف
جاه رجل منهم كان غائبا فمر به وقد سقط فركض رأسه برجله فدخل فيها عظم من رأسه
فعلت عليه فمات منها فكان ذلك الرجل هو تمام المائة صوت ( ألا طرقتْ في الدّجى
زينبُ ... وأحببْ بزينبَ إذ تَطْرُقُ ) ( عجبتُ
لزينبَ أَنَّى سَرَت ... وزينبُ من ظلّها تَفرَق ) عروضه
من المتقارب الشعر لابن رهيمة والغناء لخليل المعلم رمل بالبنصر عن الهشامي وأبي
أيوب المدني أخبار الخليل ونسبه هو الخليل بن عمرو مكي مولى بني عامر بن لؤي مقل
لا تعرف له صنعة غير هذا الصوت أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن
مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني القطراني المغني عن محمد بن حسين
قال عمل في تأديب الصبيان وتعليم الجواري الغناء كان خليل المعلم يلقب خليلان وكان
يؤدب الصبيان ويلقنهم القرآن والخط ويعلم الجواري الغناء في موضع واحد فحدثني من
حضره قال كنت يوما عنده وهو يردد على صبي يقرأ بين يديه ( ومن الناس من يشتري لهو
الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ) ثم يلتفت إلى صبية بين يديه فيردد عليها ( اعتادَ
هذا القلبَ بلبالُهُ ... أن قُرِّبتْ للبَيْنِ أَجمالُهُ ) فضحكت
ضحكا مفرطا لما فعله فالتفت إلي فقال ويلك مالك فقال أتنكر ضحكي مما تفعل والله ما
سبقك إلى هذا أحد ثم قلت انظر أي شيء أخذت على الصبي من القرآن وأي شيء هو ذا تلقي
على الصبية والله إني لأظنك ممن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله فقال أرجو ألا
أكون كذلك إن شاء الله أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد
قال حدثني عبد الصمد بن المعذل قال كان خليلان المعلم أحسن الناس غناء وأفتاهم
وأفصحهم فدخل يوما على عقبة بن سلم الأزدي الهنائي فاحتبسه عنده فأكل معه ثم شرب
وحانت منه التفاتة فرأى عودا معلقا فعلم أنه عرض له به فدعا به وأخذه فغناهم ( يابنةَ
الأزديّ قلبي كَئِيبُ ... مُستَهامٌ عندها ما يُنِيبُ ) وحانت
منه التفاتة فرأى وجه عقبة بن سلم متغيرا وقد ظن أنه عرض به ففطن لما أراد فغنى ( ألا
هَزِئَت بِنا قُرَشِيَّة ... يهتزُّ موكِبُها ) فسري
عن عقبة وشرب فلما فرغ وضع العود من حجره وحلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يغني بعد يومه
ذلك إلا لمن يجوز حكمه عليه نسبة هذين الصوتين ( يابنةَ الأزديّ قلبي كَئِيبُ ...
مُستَهامٌ عندها ما يُنِيبُ ) ( ولقد
لاموا فقلتُ دعوني ... إنّ مَنْ تَنْهوْنَ عنه حَبيبُ ) ( إنما
أبلَى عِظامِي وجِسْمِي ... حُبُّها والحُبُّ شيءٌ عَجِيبُ ) ( أيها
العائِبُ عندي هَواهَا ... أنتَ تَفدي مَن أراك تَعِيبُ ) عروضه
من المديد والشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - والغناء
لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لمالك خفيف ثقيل أول
بالخنصر في مجرى البنصر عنه وفيه خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى لم ينسبه إسحاق
إلى أحد ووجدته في روايات لا أثق بها منسوبا إلى حنين وقد ذكر يونس أن فيه لحنين
ولمالك كلاهما ولعل هذا أحدهما وذكر حبش أن خفيف الرمل لابن سريج وذكر الهشامي
وعلي بن يحيى أن لحن مالك الآخر ثاني ثقيل وذكر الهشامي أن فيه لطويس هزجا مطلقا
في مجرى البنصر وذكر عمرو بن بانة أن لمالك فيه ثقيلا أولا وخفيفه ولمعبد خفيف
ثقيل آخر صوت ( ألا هَزِئَت بِنا قُرَشِيَّة ... يهتزُّ موكِبُها ) ( رأت
بي شيْبَةً في الرأ ... سِ مِنّي ما أُغَيّبُها ) ( فقالت
لي ابن قَيْسٍ ذا ... وبَعضُ الشيب يُعجبها ) ( لها
بعلٌ خبيثُ النَّفْس ... يحصُرُها ويحْجُبُها ) ( يراني
هكذا أمشي ... فيوعِدُها ويَضْرِبُها ) عروضه
من الوافر الشعر لابن قيس الرقيات والغناء لمعبد خفيف بالخنصر في مجرى الوسطى وفيه
ليونس ثقيل أول عن إسحاق بن إبراهيم والهشامي صوت ( هل
ما علمتَ وما استُودِعْتَ مكتومُ ... أم حَبلُها إذ نأتك اليومَ مَصرومُ ) ( أم
هل كئيبٌ بكى لم يقض عبرَتَهُ ... إثْرَ الأَحِبَّة يوم البين مَشْكُومُ ) ( يحملن
أُتْرُجّةً نَضْخُ العبير بها ... كأنَّ تَطيابَها في الأنفِ مشمومُ ) ( كأنّ
فَأْرَةَ مسكٍ في مفارقها ... للباسط المُتعاطي وَهْوَ مزكوم ) ( كأَنَّ
إبريقَهم ظبيٌ على شرف ... مُفَدَّمٌ بسَبَا الكتّان ملثُوم ) ( قد
أشْهدُ الشَّربَ فيهم مِزْهرٌ صَدِحٌ ... والقومُ تصرعهم صهباءُ خُرطومُ ) الشعر
لعلقمة بن عبدة والغناء لابن سريج وله فيه لحنان أحدهما في الأول والثاني خفيف
ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق والآخر رمل بالخنصر في مجرى البنصر في
الخامس والسادس من الأبيات وذكر عمرو بن بانة أن في الأربعة الأبيات الأول
المتوالية لمالك خفيف ثقيل بالوسطى وفيها ثقيل أول نسبه الهشامي إلى الغريض وذكر
حبش أن لحن الغريض ثاني ثقيل بالبنصر وذكر حبش أن في الخامس والسادس خفيف رمل
بالبنصر لابن سريج أخبار علقمة ونسبه هو علقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس
بن عبيد بن ربيعة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن
مضر بن نزار وكان زيد مناة بن تميم وفد هو وبكر بن وائل - وكانا لدة عصر واحد -
على بعض الملوك وكان زيد مناة حسودا شرها طعانا وكان بكر بن وائل خبيثا منكرا داهيا
فخاف زيد مناة أن يحظى من الملك بفائدة ويقل معها حظه فقال له يا بكر لا تلق الملك
بثياب سفرك ولكن تأهب للقائه وادخل عليه في أحسن زينة ففعل بكر ذلك وسبقه زيد مناة
إلى الملك فسأله عن بكر فقال ذلك مشغول بمغزالة النساء والتصدي لهن وقد حدث نفسه
بالتعرض لبنت الملك فغاظه ذلك وأمسك عنه ونمى الخبر إلى بكر بن وائل فدخل إلى
الملك فأخبره بما دار بينه وبين زيد مناة وصدقه عنه واعتذر إليه مما قاله فيه عذرا
قبله فلما كان من غد اجتمعا عند الملك فقال الملك لزيد مناة ما تحب أن أفعل بك
فقال لا تفعل ببكر شيئا إلا فعلت بي مثليه وكان بكر أعور العين اليمنى قد أصابها
ماء فذهب بها فكان لا يعلم من رآه أنه أعور فأقبل الملك على بكر بن وائل فقال له
ما تحب أن أفعل بك يا بكر قال تفقأ عيني اليمنى وتضعف لزيد مناة فأمر بعينه ففقئت
وأمر بعيني زيد مناة ففقئتا فخرج وهو أعور بحاله وخرج زيد مناة وهو أعمى سبب
تلقيبه بالفحل وأخبرني بذلك محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة ويقال
لعلقمة بن عبدة علقمة الفحل سمي بذلك لأنه خلف على امرأة امرىء القيس لما حكمت له
على امرىء القيس بأنه أشعر منه في صفة فرسه فطلقها فخالفه عليها وما زالت العرب
تسميه بذلك وقال الفرزدق ( والفحلُ
عَلقمةُ الذي كانت له ... حُلَلُ الملوك كلامُه يُتَنَحَّلُ ) علقمة
يحكم قريشا في شعره أخبرني عمي قال حدثني النضر بن عمرو قال حدثني أبو السوار عن
أبي عبيد الله مولى إسحاق بن عيسى عن حماد الراوية قال كانت العرب تعرض أشعارها
على قريش فما قبلوه منها كان مقبولا وما ردوه منها كان مردودا فقدم عليهم علقمة بن
عبدة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها ( هل
ما علمتَ وما استُودعْتَ مكتوم ... أم حَبْلُها أَنْ نأتْكَ اليومَ مصرومُ ) فقالوا
هذه سمط الدهر ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم ( طحابك
قلب في الحسان طروبُ ... بُعَيْد الشباب عصر حان مشيبُ ) فقالوا
هاتان سمطا الدهر أخبرني الحسن بن عليَّ قال حدثني هارون بن محمد بن عبدالملك عن
حماد بن إسحاق قال سمعت أبي يقولسرق ذو الرُّمة قوله : ( يطفو
إذا تلقَّته الجراثيم ... ) قول العجاج ( إذا
تلقَّتْه العقاقيلُ طفا ) العجَّاج من علقمةَ بن عبَدة في قوله : ( يطفو
إذا ما تلقته العقاقيل ... ) هو
وامرؤ القيس يتحاكمان إلى زوجته أخبرني عمِّي قال حدثنا الكرانيُّ قال حدثنا
العمريّ عن لقيط وأخبرني أحمد بن عبدالعزيز قال حدثنا عُمَر بن شبَّة قال حدثني
أبو عبيدة قال كانت تحت امريء القيس امرأةٌ من طيء تزوجها حين جاور فيهم فنزل به
علقمةُ الفحْل بن عبدة التَّميميّ فقال كل واحد منهما لصاحبه أنا أشعر منك فتحاكما
إليها فأنشد امرؤ القيس قوله : ( خليليَّ
مرََّّا بي على أمّ جُنْدُبِ ... ) مر بقوله : ( فللسَّوط
الهوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ ... وللزَّجر منه وقعُ أخرج مهذِب ) ويروى
أهوج منعب فأنشدها علقمة قوله ( ذهبْتَ
من الهِجران في غير مذْهَب ... ) انتهى إلى قوله : ( فأدركه
حتى ثنى من عِنانه ... يمُرُّ كغيث رائحٍ متحلبِّ ) فقالت
له علقمةُ أشعرُ منك قال وكيف قالت لأنك زجرت فرسَك وحرّكته بساقك وضربته بسوطك
وأنه جاء هذا الصيد ثم أدركه ثانياً من عِنانه فغضب امرؤ القيس وقال ليس كما قلتِ
ولكنك هَويِته فطلّقها فتزوجه علقمة بعد ذلك وبهذا لُقِّب علقمةَ الفحْل ربيعة بن
حذار يصنّف الشعراء أخبرني عمي قال حدثنا الكُرانيّ قال حدثنا العُمري عن لَقِيط
قال تحاكم علقمةُ بن عبدة التميمي والزبرقانُ بن بَدْر السعدي والمخبَّل وعمرو بن الأهتم
إلى ربيعة بن حذار الأسديّ فقال أما أنت يا زبرقان فإن شعرك كلحم لا أنضج فيؤكل
ولا ترك نيئا فينتفع به وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرد حبرة يتلألأ في البصر
فكلما أعدّته فيه نقص وأما أنت يا مخبّل فإنك قصّرت عن الجاهلية ولم تدرك الإسلام
وأما أنت يا علقمة فإن شعرك كمزادة قد أحكِم خزرُها فليس يقطر منها شيء أخبرني
محمدُ بن الحسنِ بن دُريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن ابيه قال رجل من
مزينَة على باب رجل من الأنصار وكان يُتَّهم بامرأته فلما حاذى بابَه تنفَّس ثم
تمثل : ( هل ما علمتَ وما استُودِعْتَ
مكتومُ ... أم حبلُها إذ نأتك اليوم مصرومُ ) قال
فتعلَّق به الرجل فرفعه إلى عمر رضوان الله عليه فاستعداه عليه فقال له المتمثِّل
وما عليَّ في أن أنشدتُ بيتَ شعر فقال له عمر رضي الله عنه مالك لم تُنْشِدْه قبل
أن تبلغ بابه ولكنّك عرَّضت به مع ما تعلم من القالةَ فيه أمر به فضُرِب عِشْرين
سَوْطاً صوت ( فوالله لا أنسَى قتِيلاً رُزِيتُه ... بجانب قَوسَى ما حييتُ على الأرض ) ( بلى
إنها تعْفُو الكلُومُ وإنما ... نوكِّلُ بالأدنى وإن جَلَّ ما يَمضِي ) ( ولم
أدرِ مَن أَلْقَي عليه رداءه ... ولكنه قد بُزَّ عن ماجدٍ محضِ ) الشعر
لأبي خراش الهذلي والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى من رواية عمرو بن بانة
وذكر يحيى بن المكي أنه لابن مُسجِح وذكر الهاشمي أنه ليحيى المكي نحله ابن مسجح
وفي أخبار معبد إن له فيه لحناً ذكر أبي خراش الهذلي وأخباره نسبه وموته أبو خراش
اسمه خويلد بن مرة أحد بني قرد واسم قرد عمرو بن معاوية بن سعد بن هذيل بن مدركة
بن إلياس بن مضر بن نزار شاعر فحل من شعراء هذيل المذكورين الفصحاء مخضرم أدرك
الجاهلية والإسلام فأسلم وعاش بعد النبي مدة ومات في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله
عنه نهشته أفعى فمات وكان ممن يعدو فيسبق الخيل في غارات قومه وحروبهم أخبرني حبيب
بن نصر المهلبي وعمي والحسن بن علي قالوا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا
أحمد بن عمير بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال حدثني أبو
بركة الأشجعي من أنفسهم قال خرج أبو خراش الهذلي من أرض هذيل يريد مكة فقال لزوجته
أم خراش ويحك إني أريد مكة لبعض الحاجة وإنك من أفك النساء وإن بني الديل يطلبونني
بترات فإياك وأن تذكريني لأحد من أهل مكة حتى نصدر منها قالت معاذ الله أن أذكرك لأهل
مكة وأنا أعرف السبب قال فخرج بأم خراش وكمن لحاجته وخرجت إلى السوق لتشتري عطرا
أو بعض ما تشتريه النساء من حوائجهن فجلست إلى عطار فمر بها فتيان من بني الديل
فقال أحدهما لصاحبه أم خراش ورب الكعبة وإنها لمن أفك النساء وإن كان أبو خراش معها
فستدلنا عليه قال فوقفا عليها فسلما وأحفيا المسألة والسلام فقلت من أنتما بأبي
أنتما فقالا رجلان من أهلك من هذيل قالت بأبي أنتما فإن أبا خراش معي ولا تذكراه
لأحد ونحن رائحون العشية فخرج الرجلان فجمعا جماعة من فتيانهم وأخذوا مولى لهم
يقال له مخلد وكان من أجود الرجال عدوا فكمنوا في عقبة على طريقه فلما رآهم قد
لاقوه في عين الشمس قال لها قتلتني ورب الكعبة لمن ذكرتني فقالت والله ما ذكرتك
لأحد إلا لفتيين من هذيل فقال لها والله ما هما من هذيل ولكنهما من بني الديل وقد
جلسا لي وجمعا علي جماعة من قومهم فاذهبي أنت فإذا جزت عليهم فإنهم لن يعرضوا لك
لئلا أستوحش فأفوتهم فاركضي بعيرك وضعي عليه العصا والنجاء النجاء قال فانطلقت وهي
على قعود عقيلي يسابق الريح فلما دنا منهم وقد تلثموا ووضعوا تمرا على طريقه على
كساء فوقف قليلا كأنه يصلح شيئا وجازت بهم أم خراش فلم يعرضوا لها لئلا ينفر منهم
ووضعت العصا على قعودها وتواثبوا إليه ووثب يعدو قال فزاحمه على المحجة التي يسلك
فيها على العقبة ظبي فسبقه أبو خراش وتصايح القوم يا مخلد أخذا أخذا قال ففات
الأخذ فقالوا ضربا ضربا فسبق الضرب فصاحوا رميا رميا فسبق الرمي وسبقت أم خراش إلى
الحي فنادت ألا إن أبا خراش قد قتل فقام أهل الحي إليها وقام أبوه وقال ويحك ما كانت
قصته فقالت إن بني الديل عرضوا له الساعة في العقبة قال فما رأيت أو ما سمعت قالت
سمعتهم يقولون يا مخلد أخذا أخذا قال ثم سمعت ماذا قالت ثم سمعتهم يقولون ضربا
ضربا قال ثم سمعت ماذا قالت سمعتهم يقولون رميا رميا قال فإن كنت سمعت رميا رميا
فقد أفلت وهو منا قريب ثم صاح يا أبا خراش فقال أبو خراش يا لبيك وإذا هو قد وافاهم
على أثرها وقال أبو خراش في ذلك شعره في نجاته من خصومه ( رَفَوْنِي وقالوا يا
خُوَيْلدُ لم تُرَعْ ... فقلت
وأنكرتُ الوجوهَ هُم هُم ) رفوني
بالفاء سكنوني وقالوا لا بأس عليك ( فغارَرْتُ
شيئَاً والدّريسُ كأنما ... يزعزعُه وعْلٌ من المُومِ مُرْدِمُ ) غاررت
تلبثت والدريس الخلق من الثياب ومثله الجرد والسحق والحشيف ومردم لازم ( تذكرتُ
ما أينَ المفرُّ وإنني ... بحبل الذي يُنْجِي من الموت مُعْصِم ) ( فواللهِ
ما ربْدَاءُ أو عِلْجُ عَانةٍ ... أقبُّ وما إنْ تَيْسُ رَمْلٍ مُصَمِّمِ ) ( بأسرعَ
منّي إذ عرفت عَدِيَّهُم ... كأني لأَولاهُمْ من القُرْبِ تَوْأَم ) ( وأجودَ
مِنِّي حينَ وافيْتُ ساعِياً ... وأخطأني خَلْف الثَّنِيَّة أسهُمُ ) ( أُوَائِلُ
بالشَّدِّ الذَّليقِ وحَثَّنِي ... لدى المتن مشبوحَ الذراعين خَلْجَمُ )
( تَذَكَّرَ ذَحْلاً عندنا وهو فاتكٌ
... من القوم يَعرُوه اجتراءٌ ومَأْثم ) ( تقول
ابنتي لما رأتني عشيَّةً ... سلمتَ وما إن كِدتَ بالأمس تَسلمُ ) ( فقلتُ
وقد جاوزت صَارَى عشيَّةً ... أجاوزتُ أولَى القوم أم أنا أحلُم ) ( فلولا
دِرَاكُ الشدّ آضتْ حليلَتي ... تخيَّر في خُطَّابِها وَهْيَ أيِّمُ ) ( فتسخَطُ
أو ترضَى مكانِي خليفةً ... وكادَ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَم ) عدا
بين فرسين فسبقهما أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن الحسين الكندي خطيب
المسجد الجامع بالقادسية قالا حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال حدثني رجل من
هذيل قال دخل أبو خراش الهذلي مكة وللوليد بن المغيرة المخزومي فرسان يريد أن يرسلهما
في الحلبة فقال للوليد ما تجعل لي إن سبقتهما قال إن فعلت فهما لك فأرسلا وعدا
بينهما فسبقهما فأخذهما قال الأصمعي إذا فاتك الهذلي أن يكون شاعرا أو ساعيا أو
راميا فلا خير فيه وأخبرني بما أذكره من مجموع أخبار أبي خراش علي بن سليمان
الأخفش عن أبي سعيد السكري وأخبرني بما أذكره من مجموع أشعارهم وأخبارهم فذكر أبو
سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن أبي حاتم عن أبي عبيدة وعن ابن حبيب عن أبي
عمرو وأخبرني ببعضه محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي وقد ذكرت
ما رواه في أشعار هذيل وأخبارها كل واحد منهم عن أصحابه في مواضعه قال السكري فيما
رواه عن ابن حبيب عن أبي عمرو قال نزل أبو خراش الهذلي دبية السلمي - وكان صاحب
العزى التي في غطفان وكان يسدنها وهي التي هدمها خالد بن الوليد لما بعثه رسول
الله إليها فهدمها وكسرها وقتل دبية السلمي - قال فلما نزل عليه أبو خراش أحسن
ضيافته ورأى في رجله نعلين قد أخلقتا فأعطاه نعلين من حذاء السبت فقال أبو خراش
يمدحه ( حذَانِيَ بعد ما خَذِمَتْ نِعالي
... دُبَيَّةُ إِنَّهُ نِعمَ الخليلُ ) ( مُقابَلَتين
من صلَوَيْ مُشِبٍّ ... من الثيران وصلُهما جميلُ ) ( بمثلِهما
يروح المرءُ لَهواً ... ويقْضِي الهمَّ ذو الأَربِ الرّجيلِ ) ( فنعم
مُعرَّسُ الأضيافِ تُذْحِي ... رحالَهُم شآميةٌ بَلِيلُ ) ( يُقاتل
جوعَهم بمكلَّلاَتٍ ... من الفُرْنيِّ يَرْعَبُها الجميل ) قال
أبو عمرو الجميل الإهالة ولا يقال لها جميل حتى تذاب إهالة كانت أو شحما وقال أبو
عمرو ولما بعث رسول الله خالد بن الوليد فهدم عزى غطفان وكانت ببطن نخلة نصبها
ظالم بن أسعد بن عامر بن مرة وقتل دبية فقال أبو خراش الهذلي يرثيه ( مَا
لِدُبَيَّةَ منذُ اليوم لم أَرَهُ ... وسْطَ الشُّرُوب ولم يُلْمِمْ ولم يطفِ ) ( لو
كان حيّاً لغاداهم بمُترعَةٍ ... فيها الرّواوِيق من شِيزَى بني الهَطِف ) بنو
الهطف قوم من بني أسد يعملون الجفان ( كَابِي
الرماد عظيمُ القِدْرِ جَفْنَتُه ... حين الشتاء كحَوْضِ المُنْهَلِ اللَّقِف ) - المنهل
الذي إبله عطاش واللقف الذي يضرب الماء أسفله فيتساقط وهو ملآن - ( أمسى
سَقامٌ خَلاءً لا أنيسَ به ... إلا السّباعُ ومَرُّ الريح بالغَرَفِ ) يرثي
زهير بن العجوة وقال الأصمعي وأبو عمرو في روايتهما جميعا أخذ أصحاب رسول الله في
يوم حنين أسارى وكان فيهم زهير بن العجوة أخو بني عمرو بن الحارث فمر به جميل بن
معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وهو مربوط في الأسرى وكانت بينهما إحنة في
الجاهلية فضرب عنقه فقال أبو خراش يرثيه ( فَجَّع
أصحابي جميلُ بن معْمَر ... بذي فَجَرٍ تأوِي إليه الأَراملُ ) ( طويلُ
نِجادِ السيف ليس بحَيْدَرٍ ... إذا قام واستنَّت عليه الحمائِلُ ) ( إلى
بَيْتِهِ يأوي الغريبُ إذا شتا ... ومُهتَلِكٌ بالي الدّريسَيْن عائِلُ ) ( تروَّحَ
مقروراً وراحت عشيّة ... لها حَدَبٌ تحتثُّه فيُوائِلُ ) ( تكاد
يداه تُسْلِمَان رداءَه ... من القُرِّ لمّا استقبلْته الشمائل ) ( فما
بالُ أهلِ الدّار لم يتصدَّعوا ... وقد خفّ منها اللّوذعيُّ الحُلاَحلُ ) ( فأُقسِمُ
لو لاقيتَه غيرَ موثَق ... لآبك بالجِزْع الضّباعُ النّواهلُ ) ( لظلَّ
جميلٌ أَسوأَ القوم تَلَّةً ... ولكنَّ ظَهْرَ القِرْنِ للمَرْء شاغلُ ) ( فليس
كعهدِ الدار يا أمَّ مالكٍ ... ولكنْ أحاطت بالرقاب السلاسل ) ( وعاد
الفتى كالكهل ليس بقائلٍ ... سوى الحقِّ شيئا فاستراح العواذلُ ) ( ولم
أَنْسَ أياماً لنا وليالياً ... بِحَلْيَةَ إذ نلقَى بها ما نحاول ) وقال
أيضا يرثيه ( أَفِي
كلِّ مَمسى ليلةٍ أنا قائل ... من الدهر لا يبعَدْ قتيلُ جميلِ ) ( فما
كنتُ أخشى أن تصيبَ دماءَنا ... قريشٌ ولما يُقتلوا بقتيل ) ( فأبرحُ
ما أُمِّرْتُمُ وعَمَرتُمُ ... مدَى الدهر حتى تُقْتَلُوا بِغَلِيلِ ) شعره
في إنقاذ أسرى وقال أبو عمرو في خبره خاصة أقبل أبو خراش وأخوه عروة وصهيب القردي
في بضعة عشر رجلا من بني قرد يطلبون الصيد فبينا هم بالمجمعة من نخلة لم يرعهم إلا
قوم قريب من عدتهم فظنهم القرديون قوما من بني ذؤيبة أحد بني سعد بن بكر بن هوازن
أو من بني حبيب أحد بني نصر فعدا الهذليون إليهم يطلبونهم وطمعوا فيهم حتى خالطوهم
وأسروهم جميعا وإذا هم قوم من بني ليث بن بكر فيهم ابنا شعوب أسرهما صهيب القردي
فهم بقتلهما وعرفهم أبو خراش فاستنقذهم جميعا من أصحابه وأطلقهم فقال أبو خراش في
ذلك يمن على ابني شعوب أحد بني شجع بن عامر بن ليث فعله بهما ( عدونَا
عدوةً لا شكَّ فيها ... وخِلناهمْ ذُؤيبةَ أو حَبيبا ) ( فنُغرِي
الثائرين بهم وقلنا ... شفاءُ النفس أنْ بَعَثوا الحروبا ) ( مَنَعْنا
من عدِيِّ بني حُنَيفٍ ... صِحابَ مضرّسٍ وابني شَعوبا ) ( فأَثْنُوا
يا بني شِجْع علَيْنَا ... وحقُّ ابني شَعُوبٍ أنْ يُثِيبا ) ( وسائلْ
سَبرةَ الشِّجْعِيِّ عنا ... غداة نخالهم نَجْوا جَنيبا ) ( بأنّ
السّابق القِرْدِيَّ ألقَى ... عليه الثوبَ إذ ولَّى دبيبا ) ( ولولا
ذاكَ أرهقَه صُهيبٌ ... حسامَ الحَدِّ مطروراً خشيبا ) شعره
في زهده أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال
أقفر أبو خراش الهذلي من الزاد أياما ثم مر بامرأة من هذيل جزلة شريفة فأمرت له
بشاة فذبحت وشويت فلما وجد بطنه ريح الطعام قرقر فضرب بيده على بطنه وقال إنك
لتقرقر لرائحة الطعام والله لا طعمت منه شيئا ثم قال يا ربة البيت هل عندك شيء من
صبر أو مر قالت تصنع به ماذا قال أريده فأتته منه بشيء فاقتمحه ثم أهوى إلى بعيره
فركبه فناشدته المرأة فأبى فقالت له يا هذا هل رأيت بأسا أو أنكرت شيئا قال لا
والله ثم مضى وأنشأ يقول ( وإني
لأثْوي الجوعَ حتى يَملَّني ... فأحيا ولم تدنَس ثيابي ولا جِرمي ) ( وأصْطَبحُ
الماءَ القَراحَ فأكتفي ... إذا الزادُ أضحَى للمزلَّجِ ذَا طَعْم ) ( أردُّ
شجاعَ البطن قد تَعلمِينه ... وأوثر غيرِي من عِيالك بالطُّعْم ) ( مخافَة
أن أحيا برَغمٍ وذِلَّةٍ ... فلِلْمَوْتُ خيرٌ من حياةٍ على رُغْم ) يفتدي
أخاه عروة بن مرة وأخبرني عمي عن هارون بن محمد الزيات عن أحمد بن الحارث عن
المدائني بنحو مما رواه الأصمعي وقال أبو عمرو أسرت فهم عروة بن مرة أخا أبي خراش
وقال غيره بل بنو كنانة أسرته فلما دخلت الأشهر الحرم مضى أبو خراش إليهم ومعه
ابنه خراش فنزل بسيد من ساداتهم ولم يعرفه نفسه ولكنه استضافه فأنزله وأحسن قراه
فلما تحرم به انتسب له وأخبره خبر أخيه وسأله معاونته حتى يشتريه منهم فوعده بذلك
وغدا على القوم مع ذلك الرجل فسألهم في الأسير أن يهبوه له فما فعلوا فقال لهم
فبيعونيه فقالوا أما هذا فنعم فلم يزل يساومهم حتى رضوا بما بذله لهم فدفع أبو
خراش إليهم ابنه خراشا رهينة وأطلق أخاه عروة ومضيا حتى أخذ أبو خراش فكاك أخيه
وعاد به إلى القوم حتى أعطاهم إياه وأخذ ابنه فبينما أبو خراش ذات يوم في بيته إذ
جاءه عبد له فقال إن أخاك عروة جاءني وأخذ شاة من غنمك فذبحها ولطمني لما منعته
منها فقال له دعه فلما كان بعد أيام عاد فقال له قد أخذ أخرى فذبحها فقال دعه فلما
أمسى قال له إن أخاك اجتمع مع شرب من قومه فلما انتشى جاء إلينا وأخذ ناقة من إبلك
لينحرها لهم فعاجله فوثب أبو خراش إليه فوجده قد أخذ الناقة لينحرها فطردها أبو
خراش فوثب أخوه عروة إليه فلطم وجهه وأخذ الناقة فعقرها وانصرف أبو خراش فلما كان
من غد لامه قومه وقالوا له بئست لعمر الله المكافأة كانت منك لأخيك رهن ابنه فيك
وفداك بماله ففعلت به ما فعلت فجاء عروة يعتذر إليه فقال أبو خراش ( لَعَلَّكَ
نافعي يا عُروَ يوماً ... إذا جاورْتُ مَنْ تحتَ القبورِ ) ( أخذتَ
خُفَارَتِي ولطمتَ عَيْني ... وكيف تُثِيبُ بالمنِّ الكبيرِ ) ( ويوم
قد صبْرتُ عليكَ نفسي ... لدى الأشْهَادِ مُرْتَدِي الحرورِ ) ( إذا
ما كان كَسُّ القوم رَوْقاً ... وجالت مقلتا الرجل البصير ) ( بما
يممتُه وتركْتُ بِكْرى ... وما أُطْعِمْتَ من لحم الجَزُور ) قال
معنى قوله بكري أي بكر ولدي أي أولهم كان بنو مرة عشرة وقال الأصمعي وأبو عبيدة
وأبو عمرو وابن الأعرابي كان بنو مرة عشرة أبو خراش وأبو جندب وعروة والأبح
والأسود وأبو الأسود وعمرو وزهير وجناد وسفيان وكانوا جميعا شعراء دهاة سراعا لا
يدركون عدوا فأما الأسود بن مرة فإنه كان على ماء من داءة وهو غلام شاب فوردت عليه
إبل رئاب بن ناضرة بن المؤمل من بني لحيان ورئاب شيخ كبير فرمى الأسود ضرع ناقة من
الإبل فعقرها فغضب رئاب فضربه بالسيف فقتله وكان أشدهم أبو جندب فعرف خبر أخيه
فغضب غضبا شديدا وأسف فاجتمعت رجال هذيل إليه يكلمونه وقالوا خذ عقل أخيك واستبق
ابن عمك فلم يزالوا به حتى قال نعم اجمعوا العقل فجاؤوه به في مرة واحدة فلما
أراحوه عليه صمت فطال صمته فقالوا له أرحنا اقبضه منا فقال إني أريد أن أعتمر
فاحبسوه حتى أرجع فإن هلكت فلأم ما أنتم هذه لغة هذيل يقولون أم بالكسر ولا
يستعملون الضم - وإن عشت فسوف ترون أمري وولى ذاهبا نحو الحرم فدعا عليه رجال من
هذيل وقالوا اللهم لا ترده فخرج فقدم مكة فواعد كل خليع وفاتك في الحرم أن يأتوه
يوم كذا وكذا فيصيب بهم قومه فخرج صادرا حتى أخذته الذبحة في جانب الحرم فمات قبل
أن يرجع فكان ذلك خبره خبر أخيه زهير قالوا وأما زهير بن مرة فخرج معتمرا قد جعل
على جسده من لحاء الحرم حتى ورد ذات الأقير من نعمان فبينا هو يسقي إبلا له إذ ورد
عليه قوم من ثمالة فقتلوه فله يقول أبو خراش وقد انبعث يغزو ثمالة ويغير عليهم حتى
قتل منهم بأخيه أهل دارين أي حلتين من ثمالة ( خذوا
ذلكم بالصُّلْحِ إني رأيتُكُم ... قتلتم زُهيرا وهو مهْدٍ ومُهْمِل ) مهد
أي أهدى هديا للكعبة ومهمل قد أهمل إبله في مراعيها ( قتلتم
فتى لا يفجُرُ الله عامداً ... ولا يجتويه جارُه عامَ يُمْحِلُ ) ولهم
يقول أبو خراش ( إنّي
امرؤٌ أَسْأَلُ كيما أَعلَما ... مَنْ شَرُّ رَهْطٍ يَشْهَدُونَ الموسِمَا ) ( وجدتُهم
ثُمالة بنَ أسلمَا ... ) وكان
أبو خراش إذا لقيهم في حروبه أوقع بهم ويقول ( إليك
أمَّ ذِبَّان ... ما ذاكِ من حلْبِ الضَّانْ ) ( لكن
مِصاع الفِتيانْ ... بكل لِيْنٍ حَرّان ) خبر
أخيه عروة قال وأما عروة بن مرة وخراش بن أبي خراش فأخذهما بطنان من ثمالة يقال
لهما بنو رزام وبنو بلال وكانوا متجاورين فخرج عروة بن مرة وابن أبي خراش أخيه
مغيرين عليهم طمعا في أن يظفروا من أموالهم بشيء فظفر بهما الثماليون فأما بنو
رزام فنهوا عن قتلهما وأبت بنو بلال إلا قتلهما حتى كاد يكون بينهم شر فألقى رجل
من القوم ثوبه على خراش حين شغل القوم بقتل عروة ثم قال له انج وانحرف القوم بعد
قتلهم عروة إلى الرجل وكانوا أسلموه إليه فقالوا أين خراش فقال أفلت مني فذهب فسعى
القوم في أثره فأعجزهم فقال أبو خراش في ذلك يرثي أخاه عروة ويذكر خلاص ابنه ( حمدتُ
إِلَهي بعد عُروةَ إذ نجا ... خراشٌ وبعضُ الشرِّ أهونُ من بعضِ ) ( فواللهِ
لا أَنسَى قتيلاً رُزِيتَه ... بجانب قَوْسَى ما حييتُ على الأرضِ ) ( بلى
إنها تَعفو الكلومُ وإنما ... نُوكِّلُ بالأَدْنى وإن جلَّ ما يَمضِي ) ( ولم
أدر مَن أَلْقَى عليه رداءَهُ ... سوى أنه قد سُلَّ عن ماجِدٍ محضِ ) ( ولم
يك مثلوجَ الفؤاد مهبَّلاً ... أضاع الشبابَ في الرّبيلَةِ والخفض ) ( ولكنهُ
قد نازعته مَجَاوعٌ ... على أنه ذو مرة صادق النهض ) قال
ثم إن أبا خراش وأخاه عروة استنفرا حيا من هذيل يقال لهم بنو زليفة بن صبيح ليغزوا
ثمالة بهم طالبين بثأر أخيهما فلما دنوا من ثمالة أصاب عروة ورد حمى وكانت به حمى
الربع فجعل عروة يقول ( أصبحتُ
موروداً فقرّبُوني ... الى سواد الحيِّ يَدْفِنوني ) ( إنّ
زهيراً وسطَهم يَدعوني ... رَبَّ المخاض والِلِّقاحِ الجُون ) فلبثوا
إلى أن سكنت الحمى ثم بيتوا ثمالة فوجدوهم خلوفا ليس فيهم رجال فقتلوا من وجدوا من
الرجال وساقوا النساء والذراري والأموال وجاء الصائح إلى ثمالة عشاء فلحقوهم
وانهزم أبو خراش وأصحابه وانقطعت بنو زليفة فنظر الأكنع الثمالي - وكان مقطوع
الأصبع - إلى عروة فقال يا قوم ذلك والله عروة وأنا والله رام بنفسي عليه حتى يموت
أحدنا وخرج يمعج نحو عروة فصلح عروة بأبي خراش أخيه أي أبا خراش هذا والله الأكنع
وهو قاتلي فقال أبو خراش أمضه وقعد له على طريقه ومر به الأكنع مصمما على عروة وهو
لا يعلم بموضع أبي خراش فوثب عليه أبو خراش فضربه على حبل عاتقه حتى بلغت الضربة
سحره وانهزمت ثمالة ونجا أبو خراش وعروة وقال أبو خراش يرثي أخاه ومن قتلته ثمالة
وكنانة من أهله وكان الأصمعي يفضلها ( فَقَدْتُ
بني لُبْنَى فلما فقدتُهم ... صبَرتُ فلم أقطعْ عليهم أَبَاجِلي ) الأبجل
عرق في الرجل ( رماحٌ
من الخطِّيِّ زُرْقٌ نِصالُها ... حِدادٌ أعاليها شِدادُ الأسافلِ ) ( فلَهفِي
على عمرِو بن مُرَّة لهفةً ... ولهْفِي على ميْتٍ بقَوسَى المعاقل ) ( حِسانُ
الوجوه طيِّبٌ حُجُزَاتُهُم ... كريمٌ نَثاهم غيرُ لُفٍّ مَعازلِ ) ( قتلتَ
قتيلاً لا يُحَالِفُ غَدْرَةً ... ولا سُبَّةً لا زِلتَ أسفلَ سافل ) ( وقد
أَمِنُونِي واطمأنّتْ نفوسُهم ... ولم يعلموا كلّ الذي هو داخلي ) ( فمن
كان يرجو الصلْحَ مِنِّي فإنه ... كأحمرِ عاد أو كُلَيْبِ بنِ وائلِ ) ( أُصيبتْ
هُذيلٌ بابن لُبْنَى وجُدّعت ... أُنوفُهُمُ باللَّوْذعيِّ الحُلاَحِل ) ( رأيتُ
بني العَلاَّتِ لما تضافروا ... يَحوزون سَهْمي دونَهمْ بالشَّمائل ) أخبار
سائر إخوته قالوا وأما أبو الأسود فقتلته فهم بياتا تحت الليل وأما الأبح فكان
شاعرا فأمسى بدار بعرعر من ضيم فذكر لسارية بن زنيم العبدي أحد بني عبد بن عدي ابن
الديل فخرج بقوم من عشيرته يريده ومن معه فوجدوهم قد ظعنوا وكان بين بني عبد بن
عدي بن الديل وبينهم حرب فقال الأبح في ذلك ( لعمرُكَ
سارِيَ بْنَ أبي زُنَيْمٍ ... لأَنْتَ بعَرْعَرَ الثأرُ المنيمُ ) ( تركتَ
بني معاويةَ بنِ صخرٍ ... وأنت بمربَعٍ وهُمُ بضِيمِ ) ( تُساقيهمْ
على رَصَفٍ وظُرٍّ ... كدابغةٍ وقد حَلِم الأَديمُ ) رصف
وظر ماءان ومربع وضيم موضعان ( فلم
نتركُهُم قصداً ولكنْ ... فرِقْتَ من المصالِت كالنّجوم ) ( رأيتَهُم
فوارسَ غيرَ عُزْلٍ ... إذا شَرِقَ المُقاتِلُ بالكُلومِ ) فأجابه
سارية قال ( لعلِك يا أَبَحُّ حسِبْتَ أنّي ...
قتلتُ الأسودَ الحسَن الكريمَا ) ( أخذتُمْ
عقِلَة وتركتُمُوه ... يسوق الظُّمْيَ وسْطَ بني تميمَا ) عيرهم
بأخذ دية الأسود بن مرة أخيهم وأنهم لم يدركوا بثأره وبنو تميم من هذيل قالوا وأما
جنادة وسفيان فماتا وقتل عمرو ولم يسم قاتله قالوا وأمهم جميعا لبنى إلا سفيان بن
مرة فإن أمه أم عمرو القردية وكان أيسر القوم وأكثرهم مالا وقال أبو عمرو وغزا أبو
خراش فهما فأصاب منهم عجوزا وأتى بها منزل قومه فدفعها إلى شيخ منهم وقال احتفظ
بها حتى آتيك وانطلق لحاجته فأدخلته بيتا صغيرا وأغلقت عليه وانطلقت فجاء أبو خراش
وقد ذهبت فقال ( سَدَّتْ
عليه دَوْلَجاً ثم يَمَّمَتْ ... بنيِ فالجٍ بالليث أهلَ الخزائم ) الدولج
بيت صغير يكون للبهم والليث ماء لهم والخزائم البقر واحدتها خزومة ( وقالت
له دَنِّخْ مكانَكَ إنني ... سألقاك إن وافيتَ أهلَ المواسم ) يقال
دنخ الرجل ودمخ إذا أكب على وجهه ويديه وقال أبو عمرو دخلت أميمة امرأة عروة بن
مرة على أبي خراش وهو يلاعب ابنه فقالت له يا أبا خراش تناسيت عروة وتركت الطلب
بثأره ولهوت مع ابنك أما والله لو كنت المقتول ما غفل عنك ولطلب قاتلك حتى يقتله
فبكى أبو خراش وأنشأ يقول ( لعمري
لقد راعتْ أُميمةَ طلعَتِي ... وإنّ ثَوائي عندها لقليلُ ) ( وقالت
أُراه بعد عُرْوة لاهِياً ... وذلك رُزْءٌ لو علمْت جليلُ ) ( فلا
تحسبي أني تناسيْتُ فقْدَهُ ... ولكنَّ صبري يا أُمَيْمَ جميلُ ) ( ألم
تعلمِي أنْ قدْ تفرّق قبلَنَا ... نديما صفاءٍ مالكٌ وعَقِيلُ ) ( أبى
الصبرَ أنّى لا يزال يَهِيجُنِي ... مبيتٌ لنا فيما خلا ومَقيلُ ) ( وأني
إذا ما الصُّبحُ آنَسْتُ ضوءَه ... يعاودني قُطْعٌ عليّ ثقيلُ ) قال
أبو عمرو فأما أبو جندب أخو أبي خراش فإنه كان جاور بني نفاثة ابن عدي بن الديل
حينا من الدهر ثم أنهم هموا بأن يغدروا به وكانت له إبل كثيرة فيها أخوه جنادة
فراح عليه أخوه جنادة ذات ليلة وإذا به كلوم فقال له أبو جندب مالك فقال ضربني رجل
من جيرانك فأقبل أبو جندب حتى أتى جيرانه من بني نفاثة فقال لهم يا قوم ما هذا
الجوار لقد كنت أرجو من جواركم خيرا من هذا أيتجاور أهل الأعراض بمثل هذا فقالوا
أو لم يكن بنو لحيان يقتلوننا فوالله ما قرت دماؤنا وما زالت تغلي والله إنك للثأر
المنيم فقال أما إنه لم يصب أخي إلا خير ولكنما هذه معاتبة لكم وفطن للذي يريد
القوم من الغدر به وكان بأسفل دفاق فأصبحوا ظاعنين وتواعدوا ماء ظر فنفذ الرجال
إلى الماء وأخروا النساء لأن يتبعنهم إذا نزلوا واتخذوا لحياض الإبل فأمر أبو جندب
أخاه جنادة وقال له اسرح مع نعم القوم نعم توقف وتأخر حتى تمر عليك النعم كلها
وأنت في آخرها سارح بإبلك واتركها متفرقة في المرعى فإذا غابوا عنك فاجمع إبلك
واطردها نحو أرضنا وموعدك نجد ألوذثنية في طريق بلاده وقال لامرأته أم زنباع وهي
من بني كلب بن عوف اظعني وتمكثي حتى تخرج آخر ظعينة من النساء ثم توجهي فموعدك
ثنية يدعان من جانب النخلة وأخذ أبو جندب دلوه وورد مع الرجال فاتخذ لقوم الحياض
واتخذ أبو جندب حوضا فملأه ماء ثم قعد عنده فمرت به إبل ثم إبل فكلما وردت إبل سأل
عن إبله فيقولون قد بلغت تركناها بالضجن ثم قدمت النساء كلما قدمت ظعينة سألها عن
أهله فيقولون بلغتك تركناها تظعن حتى إذا ورد آخر النعم وآخر الظعن قال والله لقد
حبس أهلي حابس أبصر يا فلان حتى أستأنس أهلي وإبلي وطرح دلوه على الحوض ثم ولى حتى
أدرك القوم بحيث وعدهم فقال أبو جندب في ذلك ( أَقول
لأُمِّ زِنْباعٍ أَقِيمي ... صُدورَ العِيسِ شطرَ بني تميم ) ( وغَرَّبْتُ
الدّعَاءَ وأَيْنَ منِّي ... أُناسٌ بين مرَّ وذي يَدومِ ) غربت
الدعاء دعوت من بعيد ( وَحَيٍّ
بالمناقب قد حمَوْها ... لدى قُرَّانَ حتى بطنِ ضِيمِ ) ( وأحياءٍ
لدى سعْدِ بن بكر ... بأَملاحٍ فظاهرةِ الأديم ) ( أُولئِكَ
معشري وهُمُ أرومي ... وبعض القوم ليس بذي أَرومِ ) ( هنالِكَ
لو دَعَوْتَ أَتَاكَ منهم ... رجالٌ مثل أَرمِيةِ الحميمِ ) الأرمية
السحاب الشديد الوقع واحدها رمي والحميم مطر القيظ ( أَقلَّ
الله خَيْرَهُم أَلمَّا ... يَدَعْهُم بعضُ شرّهُم القديم ) ( أَلمَّا
يَسلم الجيرانُ منهم ... وقد سال الفِجاج من الغميم ) ( غداةَ
كأَنَّ جنَّادَ بن لُبنى ... به نضخُ العبيرِ من الكُلومِ ) ( دعا
حَوْلي نفاثةُ ثم قالوا ... لعلك لسْتَ بالثّأْر المنيمِ ) المنيم
الذي إذا أدرك استراح أهله وناموا ( نعوْا
مَنْ قَتَّلَتْ لِحَيانُ منهم ... ومن يغترُّ بالْحربِ القرومِ ) قالوا
جميعا وكان أبو جندب ذا شر وبأس وكان قومه يسمونه المشؤوم فاشتكى شكوى شديدة وكان
له جار من خزاعة يقال له حاطم فوقعت به بنو لحيان فقتلوه قبل أن يستبل أبو جندب من
مرضه واستاقوا أمواله وقتلوا امرأته وقد كان أبو جندب كلم قومه فجمعوا لجاره غنما
فلما أفاق أبو جندب من مرضه خرج من أهله حتى قدم مكة ثم جاء يمشي حتى استلم الركن
وقد شق ثوبه عن استه فعرف الناس أنه يريد شرا فجعل يصيح ويقول ( إنّي
امرؤ أبكي على جارَيَّهْ ... أبكي على الكعبيِّ والكعبيَّهْ ) ( ولو
هَلكْتُ بَكَيا عليَّهْ ... كَانا مكَان الثوب من حَقْويَّه ) فلما
فرغ من طوافه وقضى حاجته من مكة خرج في الخلعاء من بكر وخزاعة فاستجاشهم على بني
لحيان فقتل منهم قتلى وسبى من نسائهم وذراريهم سبايا وقال في ذلك ( لقد
أمسى بنو لِحْيان منّي ... بحمد الله في خِزْيٍ مُبين ) ( تركتهمُ
على الرّكَباتِ صُعْراً ... يُشِيبُون الذَّوائب بالأنِين ) يشكو
إلى عمر شوقه إلى ابنه أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي
الأصمعي قال حدثني عمي قال هاجر خراش بن أبي خراش الهذلي في أيام عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وغزا مع المسلمين فأوغل في أرض العدو فقدم أبو خراش المدينة فجلس بين
يدي عمر وشكا إليه شوقه إلى ابنه وأنه رجل قد انقرض أهله وقتل إخوته ولم يبق له
ناصر ولا معين غير ابنه خراش وقد غزا وتركه وأنشأ يقول ( ألا
مَن مُبلغٌ عني خِراشاً ... وقد يأْتيك بالنّبأ البعيدُ ) ( وقد
يأتيكَ بالأخبار مَنْ لا ... تُجَهِّزُ بالحِذاء ولا تُزِيدُ ) - تزيد
وتزود واحد من الزاد - ( يُناديه
ليَغْبِقَه كَلِيبٌ ... ولا يأْتِي لقد سَفُه الوليدُ ) ( فردَّ
إناءَه لا شيءَ فيه ... كأنَّ دموعَ عينيه الفَريدُ ) ( وأصبحَ
دون عابقِه وأمسى ... جبالٌ من حِرارِ الشام سُودُ ) ( ألا
فاعلم خِراشُ بأنّ خيرَ المهاجر ... بعد هجرته زهيدُ ) ( رأيتكَ
وابتغاءَ البِرِّ دوني ... كمحصورِ اللَّبان ولا يصيدُ ) قال
فكتب عمر رضي الله عنه بأن يقبل خراش إلى أبيه وألا يغزو من كان له أب شيخ إلا بعد
أن يأذن له أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي وأخبرني
حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي
عن أبيه وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال أبو عبيدة وأخبرني
أيضا هاشم قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه وذكره أبو سعيد السكري في
رواية الأخفش عنه عن أصحابه قالوا جميعا أسلم أبو خراش فحسن إسلامه ثم أتاه نفر من
أهل اليمن قدموا حجاجا فنزلوا بأبي خراش والماء منهم غير بعيد فقال يا بني عمي ما
أمسى عندنا ماء ولكن هذه شاة وبرمة وقربة فردوا الماء وكلوا شاتكم ثم دعوا برمتنا
وقربتنا على الماء حتى نأخذها قالوا والله ما نحن بسائرين في ليلتنا هذه وما نحن ببارحين
حيث أمسينا فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى
ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل أن يصل إليهم فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال
اطبخوا شاتكم وكلوا ولم يعلمهم بما أصابه فباتوا على شاتهم يأكلون حتى أصبحوا
وأصبح أبو خراش في الموت فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يعالج الموت ( لعمرُكَ
والمنايا غالباتٌ ... على الإنسان تطلُع كلَّ نجدِ ) ( لقد
أهلكْتِ حيّةَ بطنِ أنفٍ ... على الأصحابِ ساقاً ذاتَ فقد ) وقال
أيضا ( لقد أهلكتِ حيةَ بطن أنفٍ ... على
الأصحاب ساقاً ذاتَ فضلِ ) ( فما
تركتْ عدوًّا بين بُصْرَى ... إلى صنعاءَ يطلبُهُ بذَحْل ) قال
بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبره فغضب غضبا شديدا وقال لولا أن تكون سبة لأمرت
ألا يضاف يمان أبدا ولكتبت بذلك إلى الآفاق إن الرجل ليضيف أحدهم فيبذل مجهوده
فيسخطه ولا يقبله منه ويطالبه بما لا يقدر عليه كأنه يطالبه بدين أو يتعنته ليفضحه
فهو يكلفه التكاليف حتى أهلك ذلك من فعلهم رجلا مسلما وقتله ثم كتب إلى عامله
باليمن بأن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرمهم ديته ويؤدبهم بعد ذلك بعقوبة
تمسهم جزاء لأعمالهم صوت ( تهيمُ بها لا الدهرُ فانٍ ولا المنى ... سواها ولا
يُنسيك نَأْيٌ ولا شُغلُ ) ( كبيضةِ
أُدحيٍّ بِميثِ خميلةٍ ... يحفِّفها جَوْنٌ بجؤجؤه صَعْلُ ) الشعر
لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى عن ابن المكي أخبار
ابن دارة ونسبه هو عبد الرحمن بن مسافع بن دارة وقيل بل هو عبد الرحمن بن ربعي بن
مسافع بن دارة وأخوه مسافع بن دارة وكلاهما شاعر وفي شعريهما جميعا غناء يذكر
هاهنا وأخوهما سالم بن مسافع بن دارة شاعر أيضا وفي بعض شعره غناء يذكر بعد أخبار
هذين فأما سالم فمخضرم قد أدرك الجاهلية والإسلام وأما هذان فمن شعراء الإسلام
ودارة لقب غلب على جدهم ومسافع أبوهم وهو ابن شريح بن يربوع الملقب بدارة بن كعب
بن عدي بن جشم بن عوف بن بهثة بن عبد الله بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر
وهذا الشعر يقوله عبد الرحمن في حبس السمهري العكلي اللص وقتله وكان نديما له وأخا
هجا بني أسد وحرض عكلا عليهم أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو
غسان دماذ عن أبي عبيدة قال لما أخذ السمهري العكلي وحبس وقتل - وكانت بنو أسد
أخذته وبعثت به إلى السلطان وكان نديما لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة فقتل بعد طول
حبس - فقال عبد الرحمن بن مسافع يهجو بني أسد ويحرض عليهم عكلا صوت ( إن يُمْسِ
بالعينين سُقْمٌ فقد أتى ... لعينيكَ من طول البكاء على جُمْلِ ) ( تهيمُ
بها لا الدهرُ فانٍ ولا المنى ... سواها ولا تُسلى بنَأْيٌ ولا شُغلِ ) ( كبيضةِ
أُدحيٍّ بِمْيثِ خميلةٍ ... يُحَفِّفها جَوْنٌ بجؤجؤه الصَّعْلِ ) ( وما
الشمسُ تبدو يومَ غيم فأَشرقَتْ ... على الشّامة العنقاء فالنَّير فالذبل ) ( بدا
حَاجبٌ منهَا وضنَّتْ بحَاجبٍ ... بأَحسن منها يوم زالت على الحمْلِ ) ( يقولون
إزْلٌ حُبُّ جُمْلٍ وقُرْبُها ... وقد كذبوا ما في المودة من إزلِ ) ( إذا
شحَطتْ عنّي وجدتُ حرارةٍ ... على كبِدي كادت بها كَمداً تغلي ) ( ولم
أَرَ محزونَين أجملَ لوعةً ... على نائباتِ الدهرِ مِنِّي ومن جُمل ) ( كلانا
يذود النفسَ وهْي حزينةٌ ... ويُضمِرُ وجداً كَالنوافذ بالنبل ) ( وإنِّي
لمُبلِي اليأْسِ من حُبّ غيرها ... فأَمَّا على جُمْلٍ فإِنِّي لا أُبلي ) ( وإنَّ
شفاء النفس لو تُسْعِفُ المنى ... ذواتُ الثنايا الغُرّ والحدَقِ النُّجلِ ) ( أُولئِك
إن يَمْنَعْنَ فالمنعُ شِيمةٌ ... لهنَّ وإنْ يُعْطِينَ يُحْمَدْن بالبذلِ ) ( سأُمْسِك
بالوصل الذي كان بيننا ... وهل تركَ الواشون والنأْيُ من وصل ) ( أَلا
سَقِّيَانِي قهوةً فارسيّةً ... من الأوَّل المختوم ليست من الفضل ) ( تُنسّي
ذوي الأحلامِ واللبِّ حلمَهم ... إذا أَزبدت في دَنِّهَا زَبدَ الفحل ) ( ويا
راكباً إمَّا عرضت فبلِّغَنْ ... عَلَى نأْيهم مني القبائلَ من عُكل ) ( بأنَّ
الذي أمست تجمجم فقعَسٌ ... إسارٌ بلا أَسْرٍ وقتلٌ بلا قتلِ ) ( وكيف
تنام الليلَ عُكلٌ ولم تنَل ... رِضَى قَوَدٍ بالسمْهريّ ولا عقل ) ( فلا
صلحَ حتى تَنْحِط الخيلُ في القنا ... وتوقدَ نارُ الحرب بالحطب الجزل ) ( وَجُرْدٍ
تَعادَى بالكماة كأنها ... تُلاحِظ من غيظٍ بأَعينها القُبْل ) ( عليها
رجال جالدوا يوم مَنْعِجٍ ... ذوي التاج ضرَّابو الملوكِ على الوَهل ) ( بضربٍ
يُزيل الهامَ عن مستقرِّه ... وطعنٍ كأَفواه المفرَّجة الهُدْل ) ( علامَ
تُمشّي فقعسٌ بدمائكم ... وما هي بالفَرع المُنيفِ ولا الأصل ) ( وكنّا
حسِبنا فقعساً قبل هذه ... أذلَّ على وقع الهوان من النَّعْل ) ( فقد
نظرتْ نحو السماءِ وسلّمَت ... على الناس واعتاضت بخِصْبٍ من المحل ) ( رمى
الله في أكبادكم أن نجت بها ... شِعابُ القِنان من ضعيفٍ ومن وَغْل ) ( وإن
أنتُم لم تثأروا بأخيكم ... فكونوا نِساءً للخَلوق وللكُحْلِ ) ( وبيعوا
الرّدينياتِ بالحَلْي واقْعُدوا ... على الذلّ وابتاعوا المغازل بالنّبل ) ( ألا
حبّذا من عندَهُ القلبُ في كَبْلٍ ... ومَنْ حُبّه داءٌ وخبْلٌ من الخبل ) ( ومَن
هو لا يُنسَى ومَنْ كلُّ قَولِه ... لدينا كطعم الراح أو كجَنَى النّحل ) ( ومن
إن نأَى لم يحدث النأْيُ بُغضَه ... ومن إن دنا في الدار أُرْصِدَ بالبَذْلِ ) وأما
خبر السمهري ومقتله فإن علي بن سليمان الأخفش أخبرني به قال حدثنا أبو سعيد السكري
قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني قال خبر مصرع السمهري لقي السمهري بن
بشر بن أقيش بن مالك بن الحارث بن أقيش العكلي ويكنى أبا الديل هو وبهدل ومروان بن
قرفة الطائيان عون بن جعدة بن هبيرة ابن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن
مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ومعه خاله أحد بني حارثة بن لأم من طي
بالثعلبية وهو يريد الحج من الكوفة أو يريد المدينة وزعم آخرون أنهم لقوه بين نخل والمدينة
فقالوا له العراضة أي مر لنا بشيء فقال يا غلام جفن لهم فقالوا لا والله ما الطعام
نريد فقال عرضهم فقالوا ولا ذلك نريد فارتاب بهم فأخذ السيف فشد عليهم وهو صائم
وكان بهدل لا يسقط له سهم فرمى عونا فأقصده فلما قتلوه ندموا فهربوا ولم يأخذوا
إبله فتفرقت إبله ونجا خاله الطائي إما عرفوه فكفوا عن قتله وإما هرب ولم يعرف القتلة
فوجد بعض إبله في يدي شافع بن واتر الأسدي وبلغ عبد الملك بن مروان الخبر فكتب إلى
الحجاج بن يوسف وهو عامله على العراق وإلى هشام بن إسماعيل وهو عامله على المدينة
وإلى عامل اليمامة أن يطلبوا قتلة عون ويبالغوا في ذلك وأن يأخذوا السعاة به أشد
أخذ ويجعلوا لمن دل عليهم جعله وانشام السمهري في بلاد غطفان ما شاء الله ثم مر
بنخل فقالت عجوز من بني فزارة أظن والله هذا العكلي الذي قتل عونا فوثبوا عليه
فأخذوه ومر أيوب بن سلمة المخزومي بهم فقالت له بنو فزارة هذا العكلي قاتل عون ابن
عمك فأخذه منهم فأتى به هشام ابن إسماعيل المخزومي عامل عبد الملك على المدينة
فجحد وأبى أن يقر فرفعه إلى السجن فحبسه وزعم آخرون أن بني عذرة أخذوه فلما عرفت
إبل عون في يدي شافع ابن واتر اتهموه بقتله فأخذوه وقالوا أنت قرفتنا قتلت عونا
وحبسوه بصل ماء لبني أسد وجحد وقد كان عرف من قتله إما أن يكون كان معهم فورى عنهم
وبرأ نفسه وإما أن يكون أودعوها إياه أو باعوها منه فقال شافع ( فإن
سرَّكم أن تعلموا أين ثأْرُكُم ... فسلمَى معانٌ وابن قرفة ظالمُ ) ( وفي
السجن عُكْلِيٌّ شَريك لبهدل ... فولّوا ذُبابَ السّيف من هْو حازم ) ( فوالله
ما كنا جُناةً ولا بنا ... تأوّب عونا حتفُه وهو صائم ) فعرفوا
من قتله فألحوا على بهدل في الطلب وضيقوا على السمهري في القيود والسجن وجحد فلما
كان ذلك من إلحاحهم على السمهري أيقنت نفسه أنه غير ناج فجعل يلتمس الخروج من
السجن فلما كان يوم الجمعة والإمام يخطب وقد شغل الناس بالصلاة فك إحدى حلقتي قيده
ورمى بنفسه من فوق السجن والناس في صلاتهم فقصد نحو الحرة فولج غارا من الحرة
وانصرف الإمام من الصلاة فخاف أهل المدينة عامتهم أتباعه وغلقوا أبوابهم وقال لهم
الأمير اتبعوه فقالوا وكيف نتبعه وحدنا فقال لهم أنتم ألفا رجل فكيف تكونون وحدكم
فقالوا أرسل معنا الأبليين وهم حرس وأعوان من أهل الأبلة فأعجزهم الطلب فلما أمسى
كسر الحلقة الأخرى ثم همس ليلته طلقا فأصبح وقد قطع أرضا بعيدة فبينا هو يمضي إذ
نعب غراب عن شماله فتطير فإذا الغراب على شجرة بان ينشنش ريشه ويلقيه فاعتاف شيئا
في نفسه فمضى وفيها ما فيها فإذا هو قد لقي راعيا في وجهه ذلك فسأله من أنت قال
رجل من لهب من أزد شنوءة أنتجع أهلي فقال له هل عندك شيء من زجر قومك فقال إني
لآنس من ذلك شيئا أي لأبصر فقص عليه حاله غير أنه ورى الذنب على غيره والعيافة
وخبره عن الغراب والشجرة فقال اللهبي هذا الذي فعل ما فعل ورأى الغراب على البانة
يطرح ريشه سيصلب فقال السمهري بفيك الحجر فقال اللهبي بل بفيك الحجر استخبرتني
فأخبرتك ثم تغضب ثم مضى حتى اغترز في بلاد قضاعة وترك بلاد غطفان وذكر بعض الرواة
أنه توقف يومه وليلته فيما يعمله وهل يعود من حيث جاء ثم سار حتى أتى أرض عذرة بن
سعد يستجير القوم فجاء إلى القوم متنكرا ويستحلب الرعيان اللبن فيحلبون له ولقيه
عبد الله الأحدب السعدي أحد بني مخزوم من بني عبد شمس وكان أشد منه وألص فجنى
جناية فطلب فترك بلاد تميم ولحق ببلاد قضاعة وهو على نجيبة لا تساير فبينا السمهري
يماشي راعيا لبني عذرة ويحدثهم عن خيار إبلهم ويسأله السمهري عن ذلك - وإنما يسأله
عن أنجاهن ليركبها فيهرب بها لئلا يفارق الأحدب - أشار له إلى ناقة فقال السمهري
هذه خير من التي تفضلها هذه لا تجارى فتحين الغفلة فلما غفل وثب عليها ثم صاح بها
فخرجت تطير به وذلك في آخر الليل فلما أصبحوا فقدوها وفقدوه فطلبوه في الأثر وخرجا
حتى إذا كان حجر عن يسارهما وهو واد في جبل أو شبه الثقب في استقبلتهما سعة هي
أوسع من الطريق فظنا أن الطريق فيها فسارا مليا فيها ولا نجم يأتمان به فلما عرفا
أنهما حائدان والتفت عليهما الجبال أمامهما وجد الطلب إثر بعيريهما ورأوه وقد سلك الثقب
في غير طريق عرفوا أنه سيرجع فقعدوا له بفم الثقب ثم كرا راجعين وجاءت الناقة وعلى
رأسها مثل الكوكب من لغامها فلما أبصر القوم هم أن يعقر ناقتهم فقال له الأحدب ما
هذا جزاؤها فنزل ونزل الأحدب فقاتلهما القوم حتى كادوا يغشون السمهري فهتف بالأحدب
فطرد عنه القوم حتى توقلا في الجبل وفي ذلك يقول السمهري يعتذر من ضلاله متفرقات
من شعر السمهري ( وما كنتُ - مِحْيَاراً ولا فزِعَ السُّرَى ... ولكن
حِذَا حجْرٍ بغيرِ دليل ) وقال
الأحدب في ذلك ( لمّا
دعاني السمهريُّ أجبتُه ... بأبيضَ من ماء الحديد صقيلِ ) ( وما
كنتُ ما اشتدّتْ على السيفِ قبضتي ... لأُسْلِمَ من حُبِّ الحياة زميلي ) وقال
السمهري أيضا ( نجوتُ
ونفسي عند ليلى رهينة ... وقد غَمّني داجٍ من الليل دامسُ ) ( وغامسْتُ
عن نفسي بأخْلَقَ مِقصلٍ ... ولا خيرَ في نفس امرىءٍ لا تُغَامِس ) ( ولو
أَنّ لَيلَى أَبصرتنِيَ غدوةً ... ومَطْوَايَ والصفَّ الذين أُمارِس ) ( إذاً
لبكت ليلَى عليّ وأَعولت ... وما نالت الثوبَ الذي أَنا لابسُ ) فرجع
إلى صحراء منعج وهي إلى جنب أضاخ والحلة قريب منها وفيها منازل عكل فكان يتردد ولا
يقرب الحلة وقد كان أكثر الجعل فيه فمر بابني فائد بن حبيب من بني أسد ثم من بني
فقعس فقال أجيرا متنكرا فحلبا له فشرب ومضى لا يعرفانه وذهبا ثم لبث السمهري ساعة
وكر راجعا فتحدث إلى أخت ابني فائد فوجداه منبطحا على بطنه يحدثها فنظر أحدهما إلى
ساقه مكدحة وإذا كدوح طرية فأخبر أخاه بذلك فنظر فرأى ما أخبره أخوه فارتابا به
فقال أحدهما هذا والله السمهري الذي جعل فيه ما جعل فاتفقا على مضابرته فوثبا عليه
فقعد أحدهما على ظهره وأخذ الآخر برجليه فوثب السمهري فألقى الذي على ظهره وقال
أتلعبان وقد ضبط رأس الذي كان على ظهره تحت إبطه وعالجه الآخر فجعل رأسه تحت إبطه
أيضا وجعلا يعالجانه فناديا أختهما أن تعينهما فقالت ألي الشرك في جعلكما قالا نعم
فجاءت بجرير فجعلته في عنقه بأنشوطة ثم جذبته وهو مشغول بالرجلين يمنعهما فلما
استحكمت العقدة وراحت من علابيه خلى عنهما وشد أحدهما فجاء بصرار فألقاه في رجله
وهو يداور الآخر والأخرى تخنقه فخر لوجهه فربطاه ثم انطلقا به إلى عثمان بن حيان
المري وهو في إمارته على المدينة فأخذا ما جعل لأخذه فكتب فيه إلى الخليفة فكتب أن
ادفعه إلى ابن أخي عون عدي فدفع إليه فقال السمهري أتقتلني وأنت لا تدري أقاتل عمك
أنا أم لا ادن أخبرك فأراد الدنو منه فنودي إياك والكلب وإنما أراد أن يقطع أنفه
فقتله بعمه ولما حبسه ابن حيان في السجن تذكر زجر اللهبي وصدقه فقال ( ألا
أيّها البيتُ الذي أنا هاجِرُه ... فلا البيتُ منسيٌّ ولا أنا زائِرُهْ ) ( ألا
طرقت ليلَى وساقي رهينةٌ ... بأشهبَ مشدودٍ عليّ مَسامرُه ) ( فإن
أنجُ يا ليلى فربّ فتىً نجا ... وإن تَكُنِ الأخرى فشيءٌ أحاذره ) ( وما
أصْدَق الطيْر التي بَرِحت لنا ... وما أعيفَ اللَّهْبِيَّ لا عزَّ ناصرُه ) ( رأيتُ
غُراباً ساقطاً فوق بانة ... ينشنشُ أعلى ريشه ويُطايِره ) ( فقال
غرابٌ باغترابٍ من النوى ... وبانٌ بِبَيْنٍ من حبيبٍ تُحاذره ) ( فكان
اغترابٌ بالغُراب ونِيةٌ ... وبالبان بَيْنٌ بَيِّنٌ لك طائِرُه ) وقال
السمهري في الحبس يحرض أخاه مالكا على ابني فائد ( فمن
مُبلغٌ عنّي خلِيلَي مالكاً ... رسالة مشدود الوَثَاقِ غريبِ ) ( ومن
مبلغٌ حَزْماً وتَيْماً ومالكاً ... وأربابَ حامِي الحفر رهطِ شبيبِ ) ( ليُبْكوا
التي قالت بصحراء مَنْعِج ... لِيَ الشِّركُ يا بني فائدِ بن حبيب ) ( أَتضرب
في لحمي بسهم ولم يكن ... لها في سهام المسلمين نَصِيبُ ) وقال
السمهري يرقق بني أسد ( تمنّتْ
سُليمَى أن أَقِيلَ بأرضها ... وأَنّى لسَلْمَى ويْبَهَا ما تَمَنَّتِ ) ( ألا
ليتَ شعري هل أزورَنَّ ساجِراً ... وقد رَوِيَتْ ماءَ الغوادي وعلّت ) ( بني
أسد هل فيكمُ من هَوادةٍ ... فَتَغْفرَ إن كانتْ بي النعل زَلَّتِ ) وبنو
تميم تزعم أن البيت لمرة بن محكان السعدي وقال السمهري في الحبس يذم قومه ( لقد
جمع الحدّادُ بين عِصابة ... تسائل في الأقياد ماذا ذُنوبُها ) ( بمنزلة
أمّا اللئيمُ فشَامِتٌ ... بها وكِرامُ القوم بادٍ شحوبُها ) ( إذا
حَرَسِيٌّ قَعقعَ البابَ أُرْعِدَتْ ... فرائصُ أقوامٍ وطارت قلوبُها ) ( ألا
ليتني من غير عُكْلٍ قبيلتي ... ولم أدرِ ما شُبَّانُ عُكلٍ وشِيبُها ) ( قبيلة
مَنْ لا يقرع البابَ وفدُها ... لخير ولا يَهْدي الصوابَ خطيبُها ) ( نرى
الباب لا نَسطيع شيئا وراءه ... كأَنّا قُنِيٌّ أسلَمْتها كُعوبُها ) ( وإن
تكُ عُكلٌ سرَّها ما أصابني ... فقد كنتُ مصبوباً على ما يَرِيبها ) وقال
السمهري أيضا في الحبس ( ألا
حيِّ ليلَى إذ ألَمَّ لِمامُها ... وكان مع القوم الأعادِي كلامُها ) ( تعلَّلْ
بليلَى إنما أنتَ هامَةٌ ... من الغد يدنو كلَّ يوم حِمامُها ) ( وبادِرْ
بليلَى أوجهَ الركب إنهم ... متى يرجعوا يَحْرُمْ عليك كلامها ) ( وكيف
ترجِّيها وقد حِيلَ دونها ... وأَقسم أَقوامٌ مَخوفٌ قِسَامُها ) ( لأَجْتَنِبْنهَا
أو لَيَبْتَدِرُنَّنِي ... ببيضٍ عليها الأَثْرُ فَعْمٌ كِلامُها ) ( لقد
طرقتْ ليلَى ورِجْلِي رهينةٌ ... فما راعني في السجن إلا لِمامها ) ( فلمّا
انتهبتُ للخيال الذي سرى ... إذا الأرضُ قَفْرٌ قد علاها قَتامُها ) ( فإلاَّ
تكن ليلَى طَوتْك فإَنه ... شبيهٌ بليلى حُسنُها وقوامُها ) ( ألا
ليتنَا نَحْيا جميعاً بغِبْطَةٍ ... وتَبلى عظامِي حين تبلى عِظامُها ) وقال
أيضا ( ألا طرقتْ ليلَى وساقِي رَهينةٌ
... بأسمَر مشدودٍ عليّ ثقيلُ ) ( فما
البينُ يا سلْمى بأن تَشْحَطَ النّوى ... ولكنّ بيناً ما يُريد عقيلُ ) ( فإن
أنجُ منها أَنْجُ من ذي عظيمةٍ ... وإن تكن الأخرى فتلك سبيلُ ) وقال
أيضا وهو طريد ( فلا
تيأسَا من رحمةِ الله وانظُرا ... بوادي جَبُونَا أن تَهُبَّ شَمال ) ( ولا
تيأسا أن تُرْزَقا أريحِيّةً ... كعِينِ المها أعناقُهنّ طِوال ) ( من
الحارثِيِّينَ الذين دِماؤهم ... حَرامٌ وأما مالُهُم فحلال ) وقال
أيضا ( ألم ترَ أنِّي وابنَ أبيضَ قد جفت
... بنا الأرضُ إلا أَنْ نَؤمَّ الفَيافيا ) ( طَريديْن
من حيَّيْنِ شتى أَشَدَّنا ... مخافَتُنا حتى نخلْنا التّصافيا ) ( وما
لُمْتُه في أمرِ حَزمٍ ونجدةٍ ... ولا لامني في مِرَّتِي واحتياليا ) ( وقلتُ
له إذْ حلّ يسقي ويَسْتَقي ... وقد كَان ضوءُ الصبح لِلَّيْلِ حاديا ) ( لعمري
لقد لاقت ركابُك مشْرَباً ... لئنْ هِيَ لم تَضْبَحْ عليهنَّ عاليا ) وأخذت
طيء ببهدل ومروان أخيه أشد الأخذ وحبسوا فقالوا إن حبسنا لم نقدر عليهما ونحن
محبوسون ولكن خلوا عنا حتى نتجسس عنهما فنأتيكم بهما وكانا تأبدا مع الوحش يرميان
الصيد فهو رزقهما ولما طال ذلك على مروان هبط إلى راع فتحدث إليه فسقاه وبسطه حتى
اطمأن إليه ولم يشعره أنه يعرفه فجعل يأتيه بين الأيام فلا ينكره فانطلق الراعي
فأخبره باختلافه إليه فجاء معه الطلب وأكمنهم حتى إذا جاء مروان إلى الراعي كما
كان يفعل سقاه وحدثه فلم يشعر حتى أطافوا به فأخذوه وأتوا به عثمان بن حيان أيضا
عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة فأعطى الذي دل عليه جعله وقتله نهاية بهدل
وأما بهدل فكان يأوي إلى هضبة سلمى فبلغ ذلك سيدا من سلمى من طيء فقال قد أخيفت
طيء وشردت من السهل من أجل هذا الفاسق الهارب فجاء حتى حل بأهله أسفل تلك الهضبة
ومعه أهلات من قومه فقال لهم إنكم بعيني الخبيث فإذا كان النهار فليخرج الرجال من
البيوت وليخلوا النساء فإنه إذا رأى ذلك انحدر إلى القباب وطلب الحاجة والعل
فكانوا يخلون الرجال نهارا فإذا أظلموا ثابوا إلى رحالهم أياما فظن بهدل أنهم
يفعلون ذلك لشغل يأتيهم فانحدر إلى قبة السيد وقد أمر النساء إن انحدر إليكن رجل
فإنه ابن عمكن فأطعمنه وادهن رأسه وفي قبة السيد ابنتان له فسألهما من أنتما
فأخبرتاه وأطعمتاه ثم انصرف فلما راح أبوهما أخبرتاه فقال أحسنتما إلى ابن عمكما
فجعل ينحدر إليهما حتى اطمأن وغسلتا رأسه وفلتاه ودهنتاه فقال الشيخ لابنتيه
أفلياه ولا تدهناه إذا أتاكما هذه المرة واعقدا خصل لمته إذا نعس رويدا بخمل
القطيفة ثم إذا شددنا عليه فاقلبا القطيفة على وجهه وخذا أنتما بشعره من ورائه
فمدا به إليكما ففعلتا واجتمع له أصحابه فكروا إلى رحالهم قبل الوقت الذي كانوا يأتونها
وشدوا عليه فربطوه فدفعوه إلى عثمان بن حيان فقتله فقالت بنت بهدل ترثيه ( فيَا
ضَيْعةَ الفِتيانِ إذ يَعتِلونه ... ببطن الشّرى مثل الفنيق المسدّم ) ( دعَا
دعوة لما أَتى أرضَ مالك ... ومن لا يُجَبْ عند الحفيظة يُسلِم ) ( أما
كان في قيسٍ من ابن حفيظة ... من القوم طَلاَّبِ التِّرَات غَشمْشم ) ( فيقتُل
جَبراً بامرىءٍ لم يكن به ... بواءً ولكِنْ لا تكَايُلَ بالدم ) وكان
دعا يا لمالك لينتزعوه فلم يجبه أحد تساجل هو والكميت بن معروف قال ولما قال عبد
الرحمن بن دارة ابن عم سالم بن دارة هذه القصيدة يحض عكلا على بني فقعس اعترض
الكميت بن معروف الفقعسي فعيره بقتل سالم حين قتله زميل الفزاري فقال قوله ( فلا
تُكثِروا فيه الضَّجاج فإَنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا ) فقال
عبد الرحمن بن دارة ( فيا
راكباً إمّا عرضْتَ فبلّغَنْ ... مُغَلْغَلَةً عنّي القَبائلَ من عُكلِ ) ( جلت
حمماً عنها القِصَافُ وما جلتْ ... قُشَيْرٌ وفي الشّدَّاتِ والحرب ما يُجلي ) ( فإِن
يك باع الفَقعسِيُّ دِماءهَم ... بوَكسٍ فقد كانت دماؤكم تَغلِي ) ( وكيف
تنام الليلَ عُكلٌ ولم يكن ... لها قَوَدٌ بالسّمْهريّ ولا عَقْلُ ) ( رمى
اللهُ في أَكبَادِهم إِن نجتْ بها ... حروفُ القِنَانِ من ذليلٍ ومن وغلِ ) ( وكنا
حسِبْنَا فَقْعساً قبل هذه ... أذلّ على طول الهوان من النَّعل ) ( فإن
أنتمُ لم تثأَروا بأَخيكمُ ... فكونوا بَغايا للخَلُوق وللكُحل ) ( وبيعوا
الردينيّاتِ بالحلْيِ واقعدوا ... على الوِتْر وابتاعوا المغازلَ بالنَّبل ) ( فإنّ
الذي كانت تُجمجمُ فقْعَسٌ ... قتيلٌ بلا قَتْلَى وَتَبْلٌ بلا تَبْلِ ) ( فلا
سِلْمَ حتى تنحَطَ الخيلُ بالقنا ... وتُوقَدَ نارُ الحَرْب بالحَطَب الجَزْلِ ) فلما
بلغ قوله مالكا أخا السمهري بخراسان انحط من خراسان حتى قدم بلاد عكل فاستجاش نفرا
من قومه فعلقوا في أرض بني أسد يطلبون الغرة فوجدوا بثادق رجلا معه امرأة من فقعس
فقتلوه وحزوا رأسه وذهبوا بالرأس وتركوا جسده كما قتلوها أيضا وذكر لي أن الرجل
ابن سعدة والمرأة التي كانت معه هي سعدة أمه فقال عبد الرحمن في ذلك ( مَا
لقتيلِ فَقْعَسٍ لا رَأْسَ له ... هلاَّ سأَلْتَ فقْعساً من جَدّلَهْ ) ( لا
يتْبعنَّ فَقْعَسِيٌّ جملَهْ ... فرداً إذا ما الفقعسِيُّ أعملَه ) ( لا
يلقَيَنَّ قاتلاً فيقتلَه ... بسيفه قد سَمَّهُ وصقَلَهْ ) وقال
عبد الرحمن أيضا ( لمَّا
تمَالَى القومُ في رَأْدِ الضُّحَى ... نَظراً وقد لَمَعَ السّرابُ فجالا ) ( نظر
ابنُ سعْدةَ نظرةً ويَلاً لها ... كانت لصحبك والمطيِّ خَبالا ) ( لَمْحاً
رَأَى من فوقِ طودٍ يافعٍ ... بعضَ العُداة وجُنّة وظِلالا ) ( عيَّرتَنِي
طَلبَ الحُمُول وقد أَرَى ... لم آتهنَّ مكفِّفا بطَّالا ) ( فانظر
لنفسِكَ يابن سَعْدَةَ هل ترى ... ضبُعاً تجرُّ بثادِقٍ أَوْصالا ) ( أوصالَ
سَعْدَةَ والكميتِ وإنما ... كان الكُميتُ على الكُميت عِيالا ) وقال
عبد الرحمن في ذلك ( أصبحتُمُ
ثَكْلَى لِئاماً وأصبحتْ ... شياطينُ عُكْلٍ قد عَراهُنَّ فقْعَسُ ) ( قَضَى
مالكٌ ما قد قَضَى ثم قلّصت ... به في سواد الليل وجناءُ عِرْمُس ) ( فأضحتْ
بأَعلى ثادقٍ وكأنها ... مَحَالَةُ غَرْبٍ تستَمِرُّ وتمْرُس ) مقتله
وحدثني علي بن سليمان الأخفش أن بني أسد ظفرت بعبد الرحمن بن دارة بالجزيرة بعدما
أكثر من سبهم وهجائهم وتآمروا في قتله فقال بعضهم لا تقتلوه ولتأخذوا عليه أن
يمدحنا ونحسن إليه فيمحو بمدحه ما سلف من هجائه فعزموا على ذلك ثم إن رجلا منهم
كان قد عضه بهجائه اغتفله فضربه بسيفه فقتله وقال في ذلك ( قُتِلَ
ابنُ دارةَ بالجزيرةِ سَبَّنَا ... وزعمتَ أن سِبَابَنَا لا يَقْتُلُ ) قال
علي بن سليمان وقد روي أنا البيت المتقدم ( فلا
تُكثِروا فيه الضَّجاجُ فإَنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا ) لهذا
الشاعر الذي قتل ابن دارة وهو من بني أسد وهكذا ذكر السكري صوت ( كِلانا يرى
الجوزاءَ يا جُملُ إذ بدت ... ونَجْمَ الثريا والمزارُ بعيدُ ) ( فكيف
بكم يا جملُ أهلاً ودونكم ... بحورٌ يُقمِّصْن السّفينَ وبيدُ ) ( إذا
قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد ) الشعر
لمسعود بن خرشة المازني والغناء لبحر خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي أخبار مسعود بن
خرشة حنينه إلى جارية عشقها مسعود بن خرشة أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو
بن تميم شاعر إسلامي بدوي من لصوص بني تميم قال أبو عمرو وكان مسعود بن خرشة يهوى
امرأة من قومه من بني مازن يقال لها جمل بنت شراحيل أخت تمام بن شراحيل المازني
الشاعر فانتجع قومها ونأوا عن بلادهم فقال مسعود ( كِلانا
يرى الجوزاءَ يا جُملُ إذ بدت ... ونَجْمَ الثريا والمزارُ بعيدُ ) ( فكيف
بكم يا جملُ أهلاً ودونكم ... بحورٌ يُقمِّصْن السّفينَ وبيدُ ) ( إذا
قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد ) قال
أبو عمرو ثم خطبها رجل من قومها وبلغ ذلك مسعودا فقال ( أيا
جملُ لا تشقَيْ بأَقْعَسَ حَنْكلٍ ... قليلِ النَّدى يسعى بكِير ومِحْلَب ) ( له
أعنزٌ حُوٌّ ثمانٍ كأَنما ... يراهنّ غُرّ الخيل أَو هُنّ أنجب ) أخبار
مسعود بن خرشة حنينه إلى جارية عشقها مسعود بن خرشة أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك
بن عمرو بن تميم شاعر إسلامي بدوي من لصوص بني تميم قال أبو عمرو وكان مسعود بن
خرشة يهوى امرأة من قومه من بني مازن يقال لها جمل بنت شراحيل أخت تمام بن شراحيل
المازني الشاعر فانتجع قومها ونأوا عن بلادهم فقال مسعود ( كِلانا
يرى الجوزاءَ يا جُملُ إذ بدت ... ونَجْمَ الثّريَّا والمزارُ بعيدُ ) ( فكيف
بكم يا جُمْلُ أهلاً ودونَكم ... بُحورٌ يُقَمِّصْن السّفينَ وبيدُ ) ( إذا
قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد ) قال
أبو عمرو ثم خطبها رجل من قومها وبلغ ذلك مسعودا فقال ( أيا
جملُ لا تشقَيْ بأَقْعَسَ حَنْكلٍ ... قليلِ النَّدى يسعى بكِير ومِحْلَب ) ( له
أعنزٌ حُوٌّ ثمانٍ كأَنما ... يراهنّ غُرّ الخيل أَو هُنّ أنجب ) وقال
أبو عمرو وسرق مسعود بن خرشة إبلا من مالك بن سفيان بن عمرو الفقعسي هو ورفقاء له
وكان معه رجلان من قومه فأتوا بها اليمامة ليبيعوها فاعترض عليهم أمير كان بها من
بني أسد ثم عزل وولي مكانه رجل من بني عقيل فقال مسعود في ذلك ( يقول
المرجفون أجاءَ عهدٌ ... كفى عهداً بتنفيذ القِلاصِ ) ( أتى
عهدُ الإمارة من عُقيلٍ ... أغرَّ الوجه رُكّب في النواصي ) ( حُصونُ
بني عُقيلٍ كلُّ عَضْبٍ ... إذا فَزِعوا وسابغةٍ دِلاصِ ) ( وما
الجارات عند المَحْل فيهم ... ولو كثر الروازحُ بالخِماصِ ) قال
وقال مسعود وقد طلبه وإلي اليمامة فلجأ إلى موضع فيه ماء وقصب ( ألا
ليت شِعري هل أبيتنَّ ليلةً ... بوعثاءَ فيها للظباءِ مكانسُ ) ( وهل
أنجُوَنْ من ذي لَبِيدِ بن جابرٍ ... كأنَّ بناتِ الماء فيه المُجالس ) ( وهل
أسمعَنْ صوتَ القَطَا تندب القطا ... إلى الماء منه رابع وخوامس ) أخبار
بحر ونسبه هو بحر بن العلاء مولى بني أمية حجازي أدرك دولة بني هاشم وعمر إلى أيام
الرشيد وقد هرم وكان له أخ يقال له عباس وأخوه بحر أصغر منه مات في أيام المعتصم
وكان يلقب حامض الرأس وله صنعة وأقدمه الرشيد عليه ثم كرهه فصرفه الرشيد يشرب على
أصواته حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني أحمد بن أبي خالد الأحول عن
علي بن صالح صاحب المصلى أن الرشيد سمع من علويه ومخارق وهما يومئذ من صغار
المغنين في الطبقة الثالثة أصواتا استحسنها ولم يكن سمعها فقال لهما ممن أخذتما
هذه الأصوات فقالا من بحر فاستعادها وشرب عليها ثم غناه مخارق بعد أيام صوتا لبحر
فأمر بإحضاره وأمره أن يغني ذلك الصوت فغناه فسمع الرشيد صوتا حائلا مرتعشا فلم
يعجبه واستثقله لولائه لبني أمية فوصله وصرفه ولم يصل إليه بعد ذلك صوت ( ألا يا
لَقومي لِلنوائب والدّهر ... وللمرء يُردِي نفسه وَهْو لا يَدري ) ( وللأرض
كم من صالح قد تودّات ... عليه فوارتْهُ بلمّاعةٍ قَفرِ ) عروضه
من الطويل قال الأصمعني يقال للرجل أو للقوم إذا دعوتهم يال كذا بفتح اللام وإذا
دعوت للشيء قلت بالكسرة تقول يا للرجال ويا للقوم وتقول يا للغنيمة ويا للحادثة أي
اعجلوا للغنيمة وللحادثة فكأنه قال يا قوم اعجلوا للغنيمة وروى الأصمعي وغيره مكان
قد تودأت قد تلمأت عليه وتلاءمت أي وارته ويروى تأكمت أي صارت أكمة الشعر لهدبة بن
خشرم والغناء لمعبد ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق أخبار هدبة بن
خشرم ونسبه وقصته في قوله هذا الشعر وخبر مقتله هو هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية
بن الكاهن وهو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن
سعد بن هذيم وسعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف بن قضاعة ويقال بل هو سعد بن أسلم
وهذيم عبد لأبيه رباه فقيل سعد بن هذيم يعني سعدا هذا طبقته في الشعر وهدبة شاعر
فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعرا راوية كان يروي للحطيئة والحطيئة يروي لكعب
بن زهير وكعب بن زهير يروي لأبيه زهير وكان جميل راوية هدبة وكثير راوية جميل
فلذلك قيل إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر كثير وكان لهدبة ثلاثة إخوة
كلهم شاعر حوط وسيحان والواسع أمهم حية بنت أبي بكر بن أبي حية من رهطهم الأدنين
وكان شاعره أيضا أخبار هدبة بن خشرم ونسبه وقصته في قوله هذا الشعر وخبر مقتله هو
هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الكاهن وهو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن
عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم وسعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف
بن قضاعة ويقال بل هو سعد بن أسلم وهذيم عبد لأبيه رباه فقيل سعد بن هذيم يعني
سعدا هذا طبقته في الشعر وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعرا راوية كان
يروي للحطيئة والحطيئة يروي لكعب بن زهير وكعب بن زهير يروي لأبيه زهير وكان جميل
راوية هدبة وكثير راوية جميل فلذلك قيل إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر
كثير وكان لهدبة ثلاثة إخوة كلهم شاعر حوط وسيحان والواسع أمهم حية بنت أبي بكر بن
أبي حية من رهطهم الأدنين وكانت شاعرة أيضا وهذا الشعر يقوله هدبة في قتله زيادة
بن زيد بن مالك بن عامر بن قرة ابن حنش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان بن
الحارث بن سعد بن هذيم أخبرني بالخبر في ذلك جماعة من شيوخنا فجمعت بعض روايتهم
إلى بعض واقتصرت على ما لا بد منه من الأشعار وأتيت بخبرهما على شرح وألحقت ما نقص
من رواية بعضهم عن رواية صاحبه في موضع النقصان فممن حدثني به محمد بن العباس
اليزيدي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي تينة قال حدثنا خلف بن المثنى الحداني
عن أبي عمرو المديني وأخبرني الحسن بن يحيى ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي
عن حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه الحرب بين قومه بني عامر وقوم زيادة بن زياد
وأخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار
عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه عن عمه وقد نسبت إلى كل واحد منهم ما
انفرد به من الرواية وجمعت ما اتفقوا عليه قال عيسى بن إسماعيل في خبره خاصة كان
أول ما هاج الحرب بين بني عامر بن عبد الله بن ذبيان وبين بني رقاش وهم بنو قرة بن
حفش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان وهم رهط زيادة بن زيد وبنو عامر رهط
هدبة أن حوط بن خشرم أخا هدبة راهن زيادة بن زيد على جملين من إبلهما وكان مطلقهما
من الغاية على يوم وليلة وذلك في القيظ فتزودوا الماء في الروايا والقرب وكانت أخت
حوط سلمى بنت خشرم تحت زيادة بن زيد فمالت مع أخيها على زوجها فوهنت أوعية زيادة
ففني ماؤه قبل ماء صاحبه فقال زيادة ( قد
جعلت نَفْسِيَ في أَدِيم ... مُحَرّمِ الدّباغ ذِي هُزُومِ ) ( ثمّ
رَمَت بِي عُرُضَ الدّيْمومِ ... في بارحٍ من وَهَج السَّموم ) ( عند
اطّلاع وعرة النجوم ... ) قال
اليزيدي في خبره المحرم الذي لم يدبغ والهزوم الشقوق قال وقال زيادة أيضا ( قد
علِمَتْ سلمةُ بالعَميسِ ... ليلةَ مَرْمَارٍ وَمَرْمَرِيس ) ( أَنَّ
أَبَا المِسْور ذو شَرِيس ... يَشفي صُداع الأبلَج الدِّلْعِيس ) العميس
موضع والمرمار والمرمريس الشدة والاختلاط وأبا المسور يعني زيادة نفسه وكانت كنيته
أبا المسور تبادل التشبيب بأختيهما قال فكان ذلك أول ما أثبت الضغائن بينهما ثم إن
هدبة بن خشرم وزيادة بن زيد اصطحبا وهما مقبلان من الشام في ركب من قومهما فكانا
يتعاقبان السوق بالإبل وكان مع هدبة أخته فاطمة فنزل زيادة فارتجز فقال ( عُوجي
علينا واربَعِي يا فاطمَا ... ما دون أَن يُرَى البَعيرُ قائمَا ) أي
ما بين مناخ البعير إلى قيامه ( أَلاّ
تَرين الدمع منّي ساجمَا ... حِذارَ دارٍ منك لن تُلائمَا ) ( فَعرَّجَتْ
مطَّرداً عُراهِمَا ... فَعْماً يبذّ القُطُف الرَّوَاسما ) مطرد
متتابع السير وعراهم شديد وفعم ضخم والرسيم سير فوق العنق والرواسم الإبل التي
تسير هذا السير الذي ذكرناه ( كأنَّ
في المثْناة منه عائمَا ... إنّكَ والله لأَنْ تُبَاغِمَا ) المثناة
الزمام وعائم سائح تباغم تكلم ( خَوْذاً
كأّنّ البُوصَ والمآكما ... منا نقاً مُخالطٌ صَرائما ) البوص
العجز والمأكمتان ما عن يمين العجز وشماله والنقا ما عظم من الرمل والصرائم دونه ( خيرٌ
من استقبالك السَّمائمَا ... ومن مُنادٍ يبتغي مُعَاكِما ) ويروى
ومن نداء أي رجل تناديه تبتغي أن يعينك على عكمك حتى تشده فغضب هدبة حين سمع زيادة
يرتجز بأخته فنزل فرجز بأخت زيادة وكانت تدعى فيما روى اليزيدي أم حازم وقال
الآخرون أم القاسم فقال هدبة ( لقد
أراني والغُلامَ الحازمَا ... نُزجِي المَطيَّ ضُمَّراً سَواهِما ) ( متى
تَظُنّ القُلُصَ الرّوَاسما ... والجِلّةَ النّاجيةَ العَيَاهِما ) العياهم
الشداد ( يُبلِغْن أمَّ حازم وحازماً ...
إذا هَبَطن مُسْتَحيراً قاتِمَا ) ( ورجَّع
الحادي لها الهَمَاهِمَا ... ألا تَريْنَ الحُزنَ مني دائمَا ) ( حِذارَ
دارٍ منك لن تُلائما ... والله لا يَشفي الفؤادَ الهائمَا ) ( تَمساحُكَ
اللَّبّاتِ والمآكمَا ... ولا الِلّمامُ دون أن تلازِمَا ) ( ولا
اللِثام دون أن تُفاقما ... ولا الفِقامُ دون أن تفاغمَا ) ( وتعلو
القوائم القوائما ... ) قال
فشتمه زيادة وشتمه هدبة وتسابا طويلا فصاح بهما القوم اركبا لا حملكما الله فإنا
قوم حجاج وخشوا أن يقع بينهما شر فوعظهما حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه
وهدبة أشدهما حنقا لأنه رأي أن زيادة قد ضامه إذا زجر بأخته وهي تسمع قوله ورجز هو
بأخته وهي غائبة لا تسمع قوله فمضيا ولم يتحاورا بكلمة حتى قضيا حجهما ورجعا إلى
عشيرتهما خبر عمه زفر وسبب غضب قومه قال اليزيدي خاصة في خبره ثم التقى نفر من بني
عامر من رهط هدبة فيهم أبو جبر وهو رئيسهم الذي لا يعصونه وخشرم أبو هدبة وزفر عم
هدبة وهو الذي بعث الشر وحجاج بن سلامة وهو أبو ناشب ونفر من بني رقاش رهط زيادة
وفيهم زيادة بن زيد وإخوته عبدالرحمن ونفاع وأدرع بواد من أودية حرتهم فكان بينهم
كلام فغضب ابن الغسانية وهو أدرع وكان زفر هدبة يعزى رجل من بني رقاش فقام له أدرع
فزجر فقال ( أدُّوا إلينا زفرا ... نعرف منه
النظرا ) ( وعينه والأثر ... ) قال
فغضب رهط هدبة وادعوا حدا على بني رقاش فتداعوا إلى السلطان ثم اصطلحوا على أن
يدفع إليهم أدرعُ فيخلوا به نفر منهم فما رأوه عليه أمضوه فلما خلوا به ضربوه الحد
ضربا مبرحا فراح بنو رقاش وقد أضمروا الحرب وغضبوا فقال عبد الرحمن بن زيد ( ألا
أَبلغ أبا جَبْرٍ رسولاً ... فما بيني وبينكُم عِتابُ ) ( ألم
تعلم بأنَّ القوم راحوا ... عشيةَ فارقوك وهم غِضابُ ) فأجابه
الحجاج بن سلامة فقال ( إن
كان ما لاقى ابنُ كنعاء مُرغِماً ... رقاشَ فزاد اللهُ رَغْما سِبالَهما ) ( منعنا
أخانا إذ ضربنا أخاكُم ... وتلك من الأعداء لا مِثْلَ مالها ) هدبة
وزيادة يتهاديان الأشعار قال اليزيدي في خبره وجعل هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار
ويتفاخران ويطلب كل واحد منهما العلو على صاحبه في شعره وذكر أشعارا كثيرة فذكرت
بعضها وأتيت بمختار ما فيه فمن ذلك قول زيادة في قصيدة أولها ( أراك
خليلاً قد عزمت التّجنبا ... وقطَّعتَ حاجاتِ الفؤاد فأصحبا ) اخترت
منها قوله ( وأنك للناس الخليلُ إذا دنتْ ...
به الدارُ والباكي إذا ما تغيَّبا ) ( وقد
أعذَرَتْ صرفُ الليالي بأهلها ... وشَحْطُ النَّوَى بيني وبينك مَطلبا ) ( فلا
هي تأْلو ما نأَتْ وتباعَدَتْ ... ولا هو يأْلُو ما دنا وتقرَّبا ) ( أطعتُ
بها قول الوشاة فلا أرى الوشاةَ ... انتهوا عنه ولا الدهرَ أُعتبا ) ( فهلاّ
صَرمْتِ والحبالُ متينةٌ ... أُميمةُ إن واشٍ وشى وتكذَّبا ) ( إذا
خفتَ شكَّ الأمرِ فارمِ بعزمة ... غَيَابَتَه يركب بك الدهرُ مركبا ) ( وإن
وِجهةٌ سُدَّتْ عليك فُرُوجُها ... فأنّك لاقٍ لا محالة مذهبا ) ( يُلامُ
رجالٌ قبل تجريبِ غَيْبِهم ... وكيف يُلام المرءُ حتى يُجرَّبا ) ( وإنّي
لمِعراضٌ قليلٌ تعرُّضي ... لوجه امرىء يوماً إذا ما تجنَّبا ) ( قليلٌ
عِثَاري حين أُذعَرُ ساكنٌ ... جَناني إذا ما الحرب هرَّت لتكْلَبا ) ( بحسبك
ما يأتيك فاجمع لنازل ... قِراهُ ونَوِّبْه إذا ما تنوّبا ) ( ولا
تَنتجِع شَرًّا إذا حيل دونه ... بِسِتْرٍ وهَبْ أسبابَه ما تهيّبا ) ( أنا
ابن رَقاشٍ وابنُ ثعلبةَ الذي ... بنى هادياً يعلو الهواديَ أغلبا ) ( بنَى
العِزُّ بنياناً لقومي فما صَعُوا ... بأَسيافهم عنه فأَصبح مُصعَبا ) ( فما
إنْ ترى في الناس أُماً كأُمِّنا ... ولا كأبينا حين ننسبُهُ أَبا ) ( أَتمَّ
وأَنمى بالبنين إلى العلا ... وأَكرمَ منا في المناصب مَنصَبا ) ( مَلَكنا
ولم نُملَكْ وقُدْنا ولم نُقَدْ ... كأَنَّ لنا حقاً على الناس تُرتَبا ) قال
اليزيدي ترتب ثابت لازم ( بآيةِ
أنّا لا نرى مُتَتَوِّجاً ... من الناسِ يعلونا إذا ما تعصّبا ) ( ولا
مِلكاً إلا اتّقانا بمُلكه ... ولا سُوقةً إلا على الخَرْج أُتعِبا ) ( ملكنا
ملوكاً واستبحْنا حِماهُم ... وكنّا لهم في الجاهلية موكِبا ) ( ندامى
وأردافاً فلم تَرَ سُوقةً ... توازننا فاسأَل إياداً وتَغلِبا ) فأجابه
هدبة وهذا مختار ما فيها فقال ( تَذَكَّرَ
شَجواً من أُميمةَ مُنصِبا ... تليداً ومُنتاباً من الشوق مُجْلِبا ) ( تَذَكّرَ
حبًّا كان في مَيْعة الصِّبا ... ووجداً بها بعد المشيب مُعتِّبا )
( إذا كادَ ينساها الفؤادُ ذكرتُها
... فيا لكِ ما عَنّى الفؤادَ وعذَّبا ) ( غَدَا
في هواها مستكيناً كأَنه ... خليعُ قِداحٍ لم يجد مُتنشَّبا ) ( وقد
طال ما عُلِّقْتَ ليلى مُغَمّرا ... وليدا إلى أن صار رأْسُكَ أشْيَبا ) - المغمر
الغمر أي غير حدث - ( رأيتك
في لَيلَى كذي الدَّاءِ لم يجد ... طبيباً يداوِي ما به فَتَطَبَّبا ) ( فلما
اشتفى مما به كرَّ طِبُّه ... على نفسه من طول ما كان جرَّبا ) قتل
زيادة وتنحى ثم استسلم فلم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها فبيته فقتله وتنحى
مخافة السلطان وعلى المدينة يومئذ سعيد بن العاص فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم
بالمدينة فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه وتخلص عمه وأهله فلم يزل محبوسا
حتى شخص عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة إلى معاوية فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد
منه إذا قامت البينة فأقامها فمشت عذرة إلى عبد الرحمن فسألوه قبول الدية فامتنع
وقال صوت ( أَنختُم علينا كَلْكَلَ الحرب مُرَّة ... فنحن مُنيخُوها عليكم بكلكَلِ ) ( فلا
يدْعُني قومي لزيدِ بن مالك ... لئن لم أُعجِّل ضربةً أو أعجَّل ) ( أبعد
الذي بالنَّعْف نعفِ كُوَيْكِبٍ ... رهينةِ رمسٍ ذي تراب وجندلِ ) ( كريمٌ
أصابته دياتٌ كثيرة ... فلم يدر حتى حين من كل مدخل ) ( أُذكَّر
بالبُقْيا على من أَصابني ... وبُقيايَ أّني جاهدٌ غيرُ مؤتلِي ... ) غناه
ابن سريج رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وقيل إنه لمالك بن أبي السمح وله
فيه لحن آخر رجع الخبر إلى سياقته سعيد بن العاص يحكم معاوية في أمر هدبة وأما علي
بن محمد النوفلي فذكر عن أبيه أن سعيد بن العاص كره الحكم بينهما فحملهما إلى
معاوية فنظر في القصة ثم ردها إلى سعيد وأما غيره فذكر أن سعيدا هو الذي حكم
بينهما من غير أن يحملهما إلى معاوية قال علي بن محمد عن أبيه فلما صاروا بين يدي
معاوية قال عبد الرحمن أخو زيادة له يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي وما دفعت
إليه وجرى علي وعلى أهلي وقرباي وقتل أخي زيادة وترويع نسوتي فقال له معاوية يا
هدبة قل فقال إن هذا رجل سجاعة فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاما أو شعرا فعلت قال
لا بل شعرا فقال هدبة هذه القصيدة ارتجالا ( أَلا
يا لقَومي لِلنّوائب والدّهر ... ولِلمرء يُردِي نفسه وهُو لا يدرِي ) ( ولِلأرض
كم من صالحٍ قد تأَكَّمَت ... عليه فوارتْهُ بلمّاعةٍ قَفْر ) ( فلا
تتّقي ذا هَيْبة لجلاِله ... ولا ذا ضياعٍ هنّ يُتْركْن للفقرِ ) حتى
قال ( رُمِينا فَرامَينا فصادف رَمْيُنا
... مَنايا رجالٍ في كتابٍ وفي قَدْر ) ( وأنت
أميرُ المؤمنين فما لنا ... وراءك من مَعدىً ولا عنك من قَصْر ) ( فإن
تك في أموالنا لم نَضِق بها ... ذِراعاً وإن صبرٌ فنصبِرُ للصّبر ) فقال
له معاوية أراك قد أقررت بقتل صاحبهم ثم قال لعبد الرحمن هل لزيادة ولد قال نعم
المسور وهو غلام صغير لم يبلغ وأنا عمه وولي دم أبيه فقال إنك لا تؤمن على أخذ
الدية أو قتل الرجل بغير حق والمسور أحق بدم أبيه فرده إلى المدينة فحبس ثلاث سنين
حتى بلغ المسور جميل بن معمر يزوره في السجن ويهديه أخبرني الحرمي بن العلاء قال
حدثنا الزبير بن بكار قال نسخت من كتاب عامر بن صالح قال دخل جميل بن معمر العذري
على هدبة بن خشرم السجن وهو محبوس بدم زيادة بن زيد وأهدى له بردين من ثياب كساه
إياها سعيد بن العاص وجاءه بنفقة فلما دخل إليه عرض ذلك عليه وسأله أن يقبله منه
فقال له هدبة أأنت يا بن معمر الذي تقول ( بني
عامرٍ أنَّى انتجعْتُم وكنتُم ... إذا عُدِّد الأقوامُ كالخُصْية الفرد ) أما
والله لئن خلص الله لي ساقي لأمدن لك مضمارك خذ برديك ونفقتك فخرج جميل فلما بلغ
باب السجن خارجا قال اللهم أغن عني أجدع بني عامر قال وكانت بنو عامر قد قلت
فحالفت لإياد قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني فقالت أم هدبة فيه لما شخص
إلى المدينة فحبس بها ( أَيا
إخوتي أهلَ المدينة أكرموا ... أسيركُمُ إن الأسيرَ كريمُ ) ( فَرُبَّ
كريمٍ قد قَرَاه وضافَه ... ورُبَّ أمورٍ كلُّهن عظيمُ ) ( عَصَى
جلُّهَا يوماً عليه فراضَه ... من القوم عَيّافٌ أشمُّ حليمُ ) فأرسل
هدبة العشيرة إلى عبد الرحمن في أول سنة فكلموه فاستمع منهم ثم قال ( أَبعْدَ
الذي بالنَّعف نعفِ كُويْكِبِ ... رهينةِ رمسٍ ذي تُراب وجندَلِ ) ( أُذكِّر
بالبُقْيا على مَنْ أصابني ... وبُقْيَايَ أني جاهدٌ غيرُ مُؤْتلي ) فرجعوا
إلى هدبة بالأبيات فقال لم يوئسني بعد فلما كانت السنة الثالثة بلغ المسور فأرسل
هدبة إلى عبد الرحمن من كلمه فأنصت حتى فرغوا ثم قام عنه مغضبا وأنشأ يقول ( سأَكْذِب
أَقواماً يقولون إنَّني ... سآخذُ مالاً من دم أنا ثائرُهْ ) ( فبِاسْت
امرىءٍ واسْتِ التي زَحَرت به ... يسوق سَواماً من أخٍ هو واترُهْ ) ونهض
فرجعوا إلى هدبة فأخبروه الخبر فقال الآن أيست منه وذهب عبد الرحمن بالمسور وقد
بلغ إلى والي المدينة وهو سعيد بن العاص وقيل مروان بن الحكم فأخرج هدبة لقاؤه
الأخير بزوجته قالوا فلما كان في الليلة التي قتل في صباحها أرسل إلى امرأته وكان
يحبها إيتيني الليلة أستمتع بك وأعودك فأتته في اللباس والطيب فصارت إلى رجل قد
طال حبسه وأنتنت في الحديد رائحته فحادثها وبكى وبكت ثم راودها عن نفسها وطاوعته
فلما علاها سمعت قعقعة الحديد فاضربت تحته فتنحى عنه وأنشأ يقول ( وأدْنَيْتِني
حتى إذا ما جعلتِني ... لَدَى الخصْر أو أدنَى استقَلَّك راجفُ ) ( فإِن
شئتُ والله انتهيتُ وإنّني ... لئلا ترَيْني آخرَ الدهر خائفُ ) ( رأت
ساعدَيْ غُولٍ وتحت ثيابه ... جآجىء يدْمَى حدُّها وَالحراقفُ ) ثم
قال الشعر حتى أتى عليه وهو طويل جدا وفيه يقول صوت ( فلم تَرَ عيني مثلَ سربٍ
رأيتُهُ ... خرجْنَ علينا من زقاق ابنِ وَاقفِ ) ( تضمَّخْن
في الجاديِّ حتى كأنَّما الأنوفُ ... إذا استَعْرَضْتَهُنّ رَوَاعِف ) ( خرجن
بأَعناق الظباء وأعينُ الجآذِر ... وَارتجَّت لهن السَّوالف ) ( فلو
أنّ شيْئاً صاد شيئاً بطَرفه ... لصِدْن ظباء فوقهنَّ المطارفُ ) غنى
فيه الغريض رملا بالبنصر من رواية حبش وفيه لحن خفيف ثقيل وذكر إسحاق أن فيه لحنا
ليونس ولم يذكر طريقته في مجرده أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمه قال مر أبو
الحارث جمين يوما بسوق المدينة فخرج عليه رجل من زقاق ابن واقف بيده ثلاث سمكات قد
شق أجوافها وقد خرج شحمها فبكى أبو الحارث ثم قال تعس الذي يقول ( فلم
تَرَ عيني مثلَ سربٍ رأيتُهُ ... خرجْنَ علينا من زقاق ابنِ وَاقفِ ) وانتكس
ولا انجبر والله لهذه السمكات الثلاث أحسن من السرب الذي وصف وأحسب أن هذا الخبر
مصنوع لأنه ليس بالمدينة زقاق يعرف بزقاق ابن واقف ولا بها سمك ولكن رويت ما روي حذف
271 شعره في حبّى امرأة مالك وقال حماد بن إسحاق عن أبيه أن ابن كناسة قال مر
بهدبة على حبى فقالت في سبيل الله شبابك وجلدك وشعرك وكرمك فقال هدبة ( تَعَجَّبُ
حُبَّى من أَسيرٍ مُكبّلٍ ... صَلِيبِ العَصَا باقٍ على الرّسَفَانِ ) ( فلا
تَعْجَبي مِنِّي حَليلَة مالكٍ ... كذلك يأْتي الدهرُ بالحدَثانِ ) وقال
النوفلي عن أبيه فلما مضي به من السجن للقتل التفت فرأى امرأته وكانت من أجمل
النساء فقال ( أَقِلِّي
عليّ اللَّومَ يا أُمَّ بَوزَعا ... ولا تَجْزَعي ممّا أصَابَ فأَوجعا ) ( ولا
تنْكَحي إن فرّق الدهرُ بيننا ... أغَمّ القفا والوجه ليس بأنْزَعا ) ( كَليلاً
سوى ما كان من حَدّ ضِرْسه ... أُكَيْبِدَ مِبْطانَ العَشِيّاتِ أرْوَعا ) ( ضَروباً
بلَحْييه على عَظم زَوره ... إذا الناس هَشُّوا للفَعال تَقنَّعا ) ( وحُلِّي
بذي أُكرومة وحَمِيّةٍ ... وَصبْرٍ إذا ما الدهر عَضَّ فأَسرعا ) يذكر
شرط زوجته في الزواج بعد موته وقال حماد عن أبيه عن مصعب بن عبد الله قال لما أخرج
هدبة من السجن ليقتل جعل الناس يتعرضون له ويخبرون صبره ويستنشدونه فأدركه عبد
الرحمن بن حسان فقال له يا هدبة أتأمرني أن أتزوج هذه بعدك يعني زوجته وهي تمشي
خلفه فقال نعم إن كنت من شرطها قال وما شرطها قال قد قلت في ذلك ( فلاَ
تنْكَحِي إن فرَّق الدهرُ بيننا ... أغَمّ القفا والوجهِ ليس بأنْزَعا ) ( وكُوني
حَبيساً أو لأروعَ ماجدٍ ... إذا ضَنَّ أعشاشُ الرِّجالِ تَبرَّعا ) فمالت
زوجته إلى جزار وأخذت شفرته فجدعت بها أنفها وجاءته تدمى مجدوعة فقالت أتخاف أن
يكون بعد هذا نكاح قال فرسف في قيوده وقال الآن طاب الموت وقال النوفلي عن أبيه إنها
فعلت ذلك بحضرة مروان وقالت له إن لهدبة عندي وديعة فأمهله حتى آتيه بها قال أسرعي
فإن الناس قد كثروا وكان جلس لهم بارزا عن داره فمضت إلى السوق فانتهت إلى قصاب
وقالت أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك ففعل فقربت من حائط وأرسلت
ملحفتها على وجهها ثم جدعت أنفها من أصله وقطعت شفتيها ثم ردت الشفرة وأقبلت حتى
دخلت بين الناس وقالت يا هدبة أتراني متزوجة بعد ما ترى قال لا الآن طابت نفسي بعد
بالموت ثم خرج يرسف في قيوده فإذا هو بأبويه يتوقعان الثكل فهما بسوء حال فأقبل
عليهما وقال ( أَبلِياني
اليومَ صبرًا منكما ... إنّ حُزْناً إن بدا بادىءُ شرْ ) ( لا
أُراني اليومَ إلا ميِّتاً ... إنّ بعدَ الموت دارَ المستَقَرْ ) ( اصبِرَا
اليوم فإني صابرٌ ... كلُّ حَيٍّ لقَضاء وقَدرْ ) زوجته
تنكثت بعهدها قال النوفلي فحدثني أبي قال حدثني رجل من عذرة عن أبيه قال إني
لببلادنا يوما في بعض المياه فإذا أنا بامرأة تمشي أمامي وهي مدبرة ولها خلق عجيب
من عجز وهيئة وتمام جسم وكمال قامة فإذا صبيان قد اكتنفاها يمشيان قد ترعرعا
فتقدمتها والتفت إليها فإذا هي أقبح منظر وإذا هي مجدوعة الأنف مقطوعة الشفتين
فسألت عنها قيل لي هذه امرأة هدبة تزوجت بعده رجلا فأولدها هذين الصبيين قال ابن
قتيبة في حديثه فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدية عنه قال أعطيك ما لم
يعطه أحد من العرب أعطيك مائة ناقة حمراء ليس فيها جداء ولا ذات داء فقال له والله
لو نقبت لي قبتك هذه ثم ملأتها لي ذهبا ما رضيت بها من دم هذا الأجدع فلم يزل سعيد
يسأله ويعرض عليه فيأبى ثم قال له والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله ( لنَجدَعَنّ
بأَيدينا أُنوفَكم ... ويذهبُ القتلُ فيما بيننا هَدَرا ) فدفعه
حينئذ لقتله بأخيه تعريضه بحبي في طريقه إلى الموت قال حماد وقرأت على أبي عن مصعب
بن عبد الله الزبيري قال ومر هدبة بحبى فقالت له كنت أعدك في الفتيان وقد زهدت فيك
اليوم لأني لا أنكر أن يصبر الرجال على الموت لكن كيف تصبر عن هذه فقال أما والله
إن حبي لها لشديد وإن شئت لأصفن لك ذلك ووقف الناس معه فقال ( َوجِدت بها
ما لم تَجِد أُمّ واحدٍ ... ولا وجدُ حُبّى بابن أُمّ كِلابِ ) ( رأَته
طويل السّاعدين شمَرْدَلاً ... كما تَشْتَهي من قوة وشباب ) فانقمعت
داخلة إلى بيتها فأغلقت الباب دونه قالوا فدفع إلى أخي زيادة ليقتله قال فاستأذن
في أن يصلي ركعتين فأذن له فصلاهما وخفف ثم التفت إلى من حضر فقال لولا أن يظن بي
الجزع لأطلتهما فقد كنت محتاجا إلى إطالتهما ثم قال لأهله إنه بلغني أن القتيل
يعقل ساعة بعد سقوط راسه فإن عقلت فإني قابض رجلي وباسطها ثلاثا ففعل ذلك حين قتل
وقال قبل أن يقتل ( إنْ
تقتُلوني في الحديد فإنني ... قتلتُ أخاكم مُطْلقاً لم يُقَيّد ) فقال
عبد الرحمن أخو زيادة والله لا قتلته إلا مطلقا من وثاقه فأطلق له فقام إليه وهز
السيف ثم قال ( قد
علِمْتُ نفسي وأنت تعلمُهْ ... لأقتلَنَّ اليومَ من لا أَرحمُهْ ) ثم
قتله فقال حماد في روايته ويقال إن الذي تولى قتله ابنه المسور دفع إليه عمه السيف
وقال له قم فاقتل قاتل أبيك فقام فضربه ضربتين قتله فيهما هو أول من أقيد منه في
الإسلام أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي قال بلغني أن هدبة أول
من أقيد منه في الإسلام قال أحمد بن الحارث الخراز قال المدائني مرت كاهنة بأم
هدبة وهو وأخوته نيام بين يديها فقالت يا هذه إن الذي معي يخبرني عن بنيك هؤلاء
بأمر قالت وما هو قالت أما هدبة وحوط فيقتلان صبرا وأما الواسع وسيحان فيموتان
كمدا فكان كذلك أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي أخبرك مروان بن
أبي حفصة قال كان هدبة أشعر الناس منذ يوم دخل السجن إلى أن أقيد منه قال الخراز
عن المدائني قال واسع بن خشرم يرثي هدبة لما قتل ( يا
هُدْبَ يا خيْرَ فتيان العشيرةِ مَنْ ... يُفْجَعْ بمثلك في الدّنيا فقد فُجِعَا ) ( الله
يعلم أنّي لو خشيتهمُ ... أو أَوجسَ القلبُ من خوفٍ لهم فزعا ) ( لم
يقتلوه ولم أُسلِم أخي لهمُ ... حتى نَعيش جَمِيعاً أو نَمُوت معا ) وهذه
الأبيات تمثل بها إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله
عنهم لما بلغه قتل أخيه محمد أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن أبي
خيثمة قال حدثني مصعب الزبيري قال كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا
خبر هدبة وزيادة وأشعارهما ازدريناه وكنا نرفع من قدر أخبارهما وأشعارهما ونعجب
بها كان جميل بن معمر راوية هدبة أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني محمد
بن الحسن الأحول عن رواية من الكوفيين قالوا كان جميل بن معمر العذري راوية هدبة
وكان هدبة راوية الحطيئة وكان الحطيئة راوية كعب بن زهير وأبيه حدثني حبيب بن نصر
المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو المغيرة محمد بن إسحاق قال
حدثني أبو مصعب الزبيري قال حدثني المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه قال بعث
هدبة بن خشرم إلى عائشة زوج النبي يقول لها استغفري لي فقالت إن قتلت استغفرت لك صوت
( أَلم تَرَ أنّي يومَ جوِّ سُوَيْقَةٍ ... بكيتُ فنادتني هُنيدةُ ماليَا ) ( فقلتُ
لها إنّ البكاء لراحةٌ ... به يشتفي مَنْ ظَنّ أن لا تلاقيا ) ( قِفي
ودّعينا يا هُنَيْدَ فإنّني ... أرى القوم قد شاموا العَقِيقَ اليمانيا ) ويروى
أرى الركب قد شاموا - ( إذا
اغرورقت عَيناي أسبَلَ نهما ... الى أن تغيب الشِّعْريان بكائيا ) الشعر
للفرزدق من قصيدة يهجو بها جريرا وهي فيما قيل أول قصيدة هجاه بها والغناء لابن
سريج خفيف ثقيل عن الهشامي قال الهشامي وفيه لمالك ثقيل أول وابتداء اللحنين جميعا
( ألم تر أني يوم جوّ سُوَيْقَة ... ) ولعلوية
فيه لحن من الرمل المطلق ابتداؤه ( قِفي
ودّعينا يا هُنَيْدَ فإنّني ... ) نسب
الفرزدق وأخباره وذكر مناقضاته الفرزدق لقب غلب عليه وتفسيره الرغيف الضخم الذي
يجففه النساء للفتوت وقيل بل هو القطعة من العجين التي تبسط فيخبز منها الرغيف شبه
وجهه بذلك لأنه كان غليظا جهما واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن
محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك ابن حنظلة بن زيد مناة بن تميم قال أبو
عبيدة اسم دارم بحر واسم أبيه مالك عوف ويقال عرف وسمي دارم دارما لأن قوما أتوا
أباه مالكا في حمالة فقال له قم يا بحر فأتني بالخريطة - يعني
خريطة كان له فيها مال - فحملها يدرم عنها ثقلا والدرمان تقارب الخطو فقال لهم
جاءكم يدرم بها فسمي دارما وسمي أبوه مالك عرفا لجوده وأم غالب ليلى بنت حابس بن
عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع وكان للفرزدق أخ يقال له هميم ويلقب الأخطل ليست
له نباهة فأعقب ابنا يقال له محمد فمات والفرزدق حي فرثاه وخبره يأتي بعد وكان
للفرزدق من الولد خبطة ولبطة وسبطة هؤلاء المعروفون وكان له غيرهم فماتوا ولم
يعرفوا وكان له بنات خمس أو ست وأم الفرزدق - فيما ذكر أبو عبيدة - لينة بنت قرظة
الضبية كان يقال لجده صعصعة محيي الموءودات وكان يقال لصعصعة محيي الموؤودات وذلك أنه
كان مر برجل من قومه وهو يحفر بئرا وامرأته تبكي فقال لها صعصعة ما يبكيك قالت
يريد أن يئد ابنتي هذه فقال له ما حملك على هذا قال الفقر قال فإني أشتريها منك
بناقتين يتبعهما أولادهما تعيشون بألبانهما ولا تئد الصبية قال قد فعلت فأعطاه
الناقتين وجملا كان تحته فحلا وقال في نفسه إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من
العرب فجعل على نفسه ألا يسمع بموءودة إلا فداها فجاء الإسلام وقد فدى ثلثمائة
موءودة وقيل أربعمائة أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة وأخبرني
بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد
السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة عن عقال بن شبة قال قال صعصعة خرجت باغيا
ناقتين لي فارقتين - والفارق التي تفرق إذا ضربها المخاض فتند على وجهها حتى تنتج
- فرفعت لي نار فسرت نحوها وهممت بالنزول فجعلت النار تضيء مرة وتخبو أخرى فلم تزل
تفعل ذلك حتى قلت اللهم لك علي إن بلغتني هذه النار ألا أجد أهلها يوقدون لكربة يقدر
أحد من الناس أن يفرجها إلا فرجتها عنهم قال فلم أسر إلا قليلا حتى أتيتها فإذا حي
من بني أنمار بن الهجيم بن عمرو بن تميم وإذا أنا بشيخ حادر أشعر يوقدها في مقدم
بيته والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض قد حبستهن ثلاث ليال فسلمت فقال الشيخ من
أنت فقلت أنا صعصعة بن ناجية بن عقال قال مرحبا بسيدنا ففيم أنت يابن أخي فقلت في
بغاء ناقتين لي فارقتين عمي على أثرهما فقال قد وجدتهما بعد أن أحيا الله بهما أهل
بيت من قومك وقد نتجناهما وعطفت إحداهما على الأخرى وهما تانك في أدنى الإبل قال
قلت ففيم توقد نارك منذ الليلة قال أوقدها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ ثلاث ليال وتكلمت
النساء فقلن قد جاء الولد فقال الشيخ إن كان غلاما فوالله ما أدري ما أصنع به وإن
كانت جارية فلا أسمعن صوتها - أي اقتلنها - فقلت يا هذا ذرها فإنها ابنتك ورزقها
على الله فقال اقتلنها فقلت أنشدك الله فقال إني أراك بها حفيا فاشترها مني فقلت
إني أشتريها منك فقال ما تعطيني قلت أعطيك إحدى ناقتي قال لا قلت فأزيدك الأخرى
فنظر إلى جملي الذي تحتي فقال لا إلا أن تزيدني جملك هذا فإني أراه حسن اللون شاب
السن فقلت هو لك والناقتان على أن تبلغني أهلي عليه قال قد فعلت فابتعتها منه
بلقوحين وجمل وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما عاشت حتى تبين
منه أو يدركها الموت فلما برزت من عنده حدثتني نفسي وقلت إن هذه لمكرمة ما سبقني
إليها أحد من العرب فآليت ألا يئد أحد بنتا له إلا اشتريتها منه بلقوحين وجمل فبعث
الله عز و جل محمدا وقد أحييت مائة موءودة إلا أربعا ولم يشاركني في ذلك أحد حتى أنزل
الله تحريمه في القرآن وقد فخر بذلك الفرزدق في عدة قصائد من شعره ومنها قصيدته
التي أولها ( أبِي
أحدُ الغَيْثيْن صعصعةُ الذي ... متى تُخْلفِ الجوزاءُ والدّلْوُ يُمْطِرِ ) ( أَجارَ
بناتِ الوائدِينَ ومن يُجِرْ ... على الفقر يُعْلمْ أنه غيرُ مُخْفِر ) ( على
حينَ لا تحيا البناتُ وإذ هُمُ ... عكوف على الأصنام حول المدَوَّرِ ) - المدور
يعني الدوار الذي حول الصنم وهو طوافهم - ( أنا
ابن الذي ردّ المنيةَ فضلُهُ ... فما حسبٌ دافعتُ عنه بمُعْوِرِ ) ( وفارقِ
ليلٍ من نساء أتت أبي ... تُمارس ريحاً ليلُها غير مُقْمِر ) ( فقالت
أَجِرْ لي ما ولدتُ فإنني ... أتيتك من هزلَى الحَمولةِ مُقْتِر ) ( هِجفٌّ
من العُثْو الرؤوس إذا بدت ... له ابنةُ عامٍ يحطم العظم منكر ) ( رأى
الأرضَ منها راحةً فرمى بها ... إلى خُدَدٍ منها إلى شرّ مخفر ) ( فقال
لها فِيئي فإني بذمتي ... لبنتك جارٌ من أبيها القَنَوَّر ) إسلام
أبيه على يد الرسول ووفد غالب بن صعصعة إلى النبي فأسلم وقد كان وفده أبوه صعصعة
إلى النبي فأخبره بفعله في الموءودات فاستحسنه وسأله هل له في ذلك من أجر قال نعم
فأسلم وعمر غالب حتى لحق أمير المؤمنين عليا صلوات الله عليه بالبصرة وأدخل إليه
الفرزدق وأظنه مات في إمارة زياد وملك معاوية أخبرني محمد بن الحسين الكندي وهاشم
بن محمد الخزاعي وعبد العزيز بن أحمد عم أبي قالوا حدثنا الرياشي قال حدثنا العلاء
بن الفضل ابن عبد الملك بن أبي سوية قال حدثني عقال بن كسيب أبو الخنساء العنبري
قال حدثني الطفيف بن عمرو الربعي عن ربيعة بن مالك بن حنظلة عن صعصعة بن ناجية
المجاشعي جد الفرزدق قال قدمت على النبي فعرض علي الإسلام فأسلمت وعلمني آيات من
القرآن فقلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية هل لي فيها من أجر فقال وما
عملت فقلت إني أضللت ناقتين لي عشراوين فخرجت أبغيهما على جمل فرفع لي بيتان في فضاء
من الأرض فقصدت قصدهما فوجدت في أحدهما شيخا كبيرا فقلت له هل أحسست من ناقتين
عشراوين قال وما نارهما - يعني السمة - فقلت ميسم بني دارم فقال قد أصبت ناقتيك
ونتجناهما وظأرتا على أولادهما ونعش الله بهما أهل بيت من قومك من العرب من مضر
فبينا هو يخاطبني إذ نادته امرأة من البيت الآخر قد ولدت فقال وما ولدت إن كان
غلاما فقد شركنا في قوتنا وإن كانت جارية فادفنوها فقالت هي جارية أفأئدها فقلت
وما هذا المولود قالت بنت لي فقلت إني أشتريها منك فقال يا أخا بني تميم أتقول لي
أتبيعني ابنتك وقد أخبرتك أني من العرب من مضر فقلت إني لا أشتري منك رقبتها إنما
أشتري دمها لئلا تقتلها فقال وبم تشتريها فقلت بناقتي هاتين وولديهما قال لا حتى
تزيدني هذا البعير الذي تركبه قلت نعم على أن ترسل معي رسولا فإذا بلغت أهلي رددت
إليك البعير ففعل فلما بلغت أهلي رددت إليه البعير فلما كان في بعض الليل فكرت في
نفسي فقلت إن هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فظهر الإسلام وقد أحييت ثلثمائة
وستين موؤودة أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر يا
رسول الله فقال عليه السلام هذا باب من البر ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام
قال عباد ومصداق ذلك قول الفرزدق ( وجدِّي
الذي منع الوائداتِ ... وأحيا الوئيد فلم يُؤأَدِ ) أخبرني
محمد بن يحيى عن الغلابي عن العباس بن بكار عن أبي بكر الهذلي قال وفد صعصعة بن
ناجية جد الفرزدق على رسول الله في وفد من تميم وكان صعصعة قد منع الوئيد في
الجاهلية فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك فجاء الإسلام وقد فدى أربعمائة جارية
فقال للنبي أوصني فقال أوصيك بأمك وأبيك وأخيك وأختك وإمائك قال زدني قال احفظ ما
بين لحييك وما بين رجليك ثم قال له عليه السلام ما شيء بلغني عنك فعلته قال يا
رسول الله رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الوجه غير أني علمت أنهم
ليسوا عليه ورأيتهم يئدون بناتهم فعلمت أن ربهم لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم يئدون
وفديت من قدرت عليه وروى أبو عبيدة أنه قال للنبي إني حملت حمالات في الجاهلية والإسلام
وعلي منها ألف بعير فأديت من ذلك سبعمائة فقال له إن الإسلام أمر بالوفاء ونهى عن
الغدر فقال حسبي حسبي ووفى بها وروي أنه إنما قال هذا القول لعمر بن الخطاب وقد
وفد إليه في خلافته وكان صعصعة شاعرا وهو الذي يقول أنشدنيه محمد بن يحيى له ( إذا
المرءُ عادى من يودُّك صدرُه ... وكان لمن عاداك خِدْناً مُصَافيَا ) ( فلا
تسأَلنْ عما لديه فإنّه ... هو الداءُ لا يخفى بذلك خافيا ) أبوه
هو اعطى تميم وبكر أخبرني محمد بن يحيى عن محمد بن زكريا عن عبد الله بن الضحاك عن
الهيثم بن عدي عن عوانة قال تراهن نفر من كلب ثلاثة على أن يختاروا من تميم وبكر
نفرا ليسائلوهم فأيهم أعطى ولم يسألهم عن نسبهم من هم فهو أفضلهم فاختار كل رجل
منهم رجلا والذين اختيروا عمير بن السليك بن قيس بن مسعود الشيباني وطلبة بن قيس
بن عاصم المنقري وغالب بن صعصعة المجاشعي أبو الفرزدق فأتوا ابن السليك فسألوه
مائة ناقة فقال من أنتم فانصرفوا عنه ثم أتوا طلبة بن قيس فقال لهم مثل قول
الشيباني فأتوا غالبا فسألوه فأعطاهم مائة ناقة وراعيها ولم يسألهم من هم فساروا
بها ليلة ثم ردوها وأخذ صاحب غالب الرهن وفي ذلك يقول الفرزدق ( وإذا
ناحبْت كلَبٌ على الناس أيُّهم ... أحقُّ بتاج الماجد المتكرِّم ) ( على
نفرٍ هُم من نزار ذوي العلا ... وأهل الجراثيم التي لم تهدَّم ) ( فلم
يُجْزِ عن أَحسابهم غيرُ غالبٍ ... جرَى بعنان كلِّ أبيضَ خِضرم ) مباراة
في الكرم بين أبيه وسحيم بن وثيل أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم
عن أبي عبيدة عن جهم السليطي عن إياس بن شبة عن عقال بن صعصعة قال أجدبت بلاد تميم
وأصابت بني حنظلة سنة في خلافة عثمان فبلغهم خصب عن بلاد كلب بن وبرة فانتجعتها
بنو حنظلة فنزلوا أقصى الوادي وتسرع غالب بن صعصعة فيهم وحده دون بني مالك بن
حنظلة ولم يكن مع بني يربوع من بني مالك غير غالب فنحر ناقته فأطعمهم إياها فلما
وردت إبل سحيم بن وثيل الرياحي حبس منها ناقة فنحرها من غد فقيل لغالب إنما نحر
سحيم مواءمة لك أي مساواة لك فضحك غالب وقال كلا ولكنه امرؤ كريم وسوف أنظر في ذلك
فلما وردت إبل غالب حبس منها ناقتين فنحرهما فأطعمهما بني يربوع فعقر سحيم ناقتين
فقال غالب الآن علمت أنه يوائمني فعقر غالب عشرا فأطعمها بني يربوع فعقر سحيم عشرا
فلما بلغ غالبا فعله ضحك وكانت إبله ترد لخمس فلما وردت عقرها كلها عن آخرها
فالمكثر يقول كانت أربعمائة والمقل يقول كانت مائة فأمسك سحيم حينئذ ثم إنه عقر في
خلافة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بكناسة الكوفة مائتي ناقة وبعير فخرج الناس
بالزنابيل والأطباق والحبال لأخذ اللحم ورآهم علي عليه السلام فقال أيها الناس لا يحل
لكم إنما اهل بها لغير الله عز و جل قال فحدثني من حضر ذلك قال كان الفرزدق يومئذ
مع أبيه وهو غلام فجعل غالب يقول يا بني اردد علي والفرزدق يردها عليه ويقول له يا
أبت اعقر قال جهم فلم يغن عن سحيم فعله ولم يجعل كغالب إذ لم يطق فعله قيد نفسه
حتى حفظ القرآن حدثني محمد بن يحيى عن محمد بن القاسم يعني أبا العيناء عن أبي زيد
النحوي عن أبي عمرو قال جاء غالب أبو الفرزدق إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه
بالفرزدق بعد الجمل بالبصرة فقال إن ابني هذا من شعراء مضر فأسمع منه قال علمه
القرآن فكان ذلك في نفس الفرزدق فقيد نفسه في وقت وآلى لا يحل قيده حتى يحفظ القرآن
قال محمد بن يحيى فقد صح لنا أن الفرزدق كان شاعرا موصوفا أربعا وسبعين سنة وندع
ما قبل ذلك لأن مجيئه به بعد الجمل على الاستظهار كان في سنة ست وثلاثين وتوفي
الفرزدق في سنة عشر ومائة في أول خلافة هشام هو وجرير والحسن البصري وابن سيرين في
ستة أشهر وحكي ذلك عن جماعة منهم الغلابي عن ابن عائشة عن أبيه أخبرني محمد بن
يحيى الصولي عن الغلابي عن ابن عائشة أيضا عن أبيه قال قال الفرزدق أيضا كنت أجيد
الهجاء في ايام عثمان قال ومات غالب أبو الفرزدق في أول أيام معاوية ودفن بكاظمة
فقال الفرزدق يرثيه ( لقد
ضمّت الأكفانُ من آل دارمٍ ... فتىً فائِضَ الكفّين محضَ الضَّرائب ) المفضل
الضبي يفاضل بينه وبين جرير أخبرني حبيب المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد
قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني جعفر بن محمد العنبري عن خالد ابن أم
كلثوم قال قيل للمفضل الضبي الفرزدق أشعر أم جرير قال الفرزدق قال قلت ولم قال
لأنه قال بيتا هجا فيه قبيلتين ومدح فيه قبيلتين وأحسن في ذلك فقال ( عجبتُ
لِعجلٍ إذ تُهاجِي عَبِيدَها ... كما آلُ يربوع هَجَوْا آلَ دَارِمِ ) فقيل
له قد قال جرير ( إنّ
الفرزدقَ والبَعِيثَ وأمّه ... وأَبَا البَعِيث لشرّ ما إِستارِ ) فقال
وأي شيء أهون من أن يقول إنسان فلان وفلان وفلان والناس كلهم بنو الفاعلة أخبرني
عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني موسى بن طلحة قال قال أبو
عبيدة معمر بن المثنى كان الشعراء في الجاهلية من قيس وليس في الإسلام مثل حظ تميم
في الشعر وأشعر تميم جرير والفرزدق ومن بني تغلب الأخطل قال يونس بن حبيب ما ذكر
جرير والفرزدق في مجلس شهدته قط فاتفق المجلس على أحدهما قال وكان يونس فرزدقيا أخبرني
عمي عن محمد بن رستم الطبري عن أبي عثمان المازني قال مر الفرزدق بابن ميادة الرماح
والناس حوله وهو ينشد ( لو
أنّ جميعَ الناس كانوا بربوة ... وجئتُ بجَدّي ظالِمٍ وابنِ ظَالِم ) ( لظلَّت
رقاب الناس خاضعةً لنا ... سُجوداً على أقدامنا بالجماجم ) فسمعه
الفرزدق فقال أما والله يا بن الفارسية لتدعنه لي أو لأنبشن أمك من قبرها فقال له
ابن ميادة خذه لا بارك الله لك فيه فقال الفرزدق ( لو
أنّ جميعَ الناس كانوا بربوة ... وجئتُ بجَدّي دارِمٍ وابنِ دارِمِ ) ( لظلَّت
رقاب الناس خاضعةً لنا ... سُجوداً على أقدامنا بالجماجم ) هو
وجرير يتشاكيان عند يزيد بن عبد الملك أخبرني عمي عن الكراني عن أبي فراس الهيثم
بن فراس قال حدثني ورقة بن معروف عن حماد الراوية قال دخل جرير والفرزدق على يزيد
بن عبد الملك وعنده بنية له يشمها فقال جرير ما هذه يا أمير المؤمنين عندك قال
بنية لي قال بارك الله لأمير المؤمنين فيها فقال الفرزدق إن يكن دارم يضرب فيها
فهي أكرم العرب ثم أقبل يزيد على جرير فقال مالك والفرزدق قال إنه يظلمني ويبغي
علي فقال الفرزدق وجدت آبائي يظلمون آباءه فسرت فيه بسيرتهم قال جرير وأما والله
لتردن الكبائر على أسافلها سائر اليوم فقال الفرزدق أما بك يا حمار بني كليب فلا
ولكن إن شاء صاحب السرير فلا والله ما لي كفء غيره فجعل يزيد يضحك أخبرنا عبد الله
بن مالك عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن حماد الراوية قال أنشدني الفرزدق يوما
شعرا له ثم قال لي أتيت الكلب يعني جريرا قلت نعم قال أفأنا أشعر أم هو قلت أنت في
بعض وهو في بعض قال لم تناصحني قال قلت هو أشعر منك إذا أرخي من خناقه وأنت أشعر
منه إذا خفت أو رجوت قال قضيت لي والله عليه وهل الشعر إلا في الخير والشر قال
وروي عن أبي الزناد عن أبيه قال قال لي جرير يا أبا عبد الرحمن أنا أشعر أم هذا
الخبيث يعني الفرزدق وناشدني لأخبرنه فقلت لا والله ما يشاركك ولا يتعلق بك في
النسيب قال أوه قضيت والله له علي أنا والله أخبرك ما دهاني إلا أني كذا وكذا
شاعرا فسمى عددا كثيرا وأنه تفرد لي وحدي خبره مع النوار ابنة عمه أخبرني عبد الله
قال قال المازني قال أبو علي الحرمازي كان من خبر الفرزدق والنوار ابنة أعين بن صعصعة
بن ناجية بن عقال المجاشعي وكانت ابنة عمه أنه خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم
فرضيته وكان الفرزدق وليها فأرسلت إليه أن زوجني من هذا الرجل فقال لا أفعل أو
تشهديني أنك قد رضيت بمن زوجتك ففعلت فلما توثق منها قال أرسلي إلى القوم فليأتوا
فجاءت بنو عبد الله بن دارم فشحنوا مسجد بني مجاشع وجاء الفرزدق فحمد الله وأثنى عليه
ثم قال قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة
ناقة حمراء سوداء الحدقة فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى ابن الزبير حين أعياها
أهل البصرة ألا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود وأعياها الشهود أن يشهدوا
لها اتقاء الفرزدق وابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعى له بالخلافة فلم
تجد من يحملها وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة بن أد يقال لهم بنو أم النسير
فسألتهم برحم تجمعهم وإياها وكانت بينها وبينهم قرابة فأقسمت عليهم أمها ليحملنها
فحملوها فبلغ ذلك الفرزدق فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه واوقروا له عدة من
الإبل وأعين بنفقة فتبع النوار وقال ( أطاعت
بني أم النُّسَيْر فأصبحت ... على شارفٍ ورقاءَ صعبٍ ذلولُها ) ( وإنّ
الذي أمسى يخبِّب زوجتي ... كماشٍ إلى أُسْد الشّرى يَستبِيلها ) فأدركها
وقد قدمت مكة فاستجارت بخولة بنت منظور بن زيان بن سيار الفزاري وكانت عند عبد
الله بن الزبير فلما قدم الفرزدق مكة اشرأب الناس إليه ونزل على بني عبد الله بن
الزبير فاستنشدوه واستحدثوه ثم شفعوا له إلى أبيهم فجعل يشفعهم في الظاهر حتى إذا
صار إلى خولة قلبته عن رأيه فمال إلى النوار فقال الفرزدق في ذلك صوت ( أمّا بنوه
فلم تُقْبل شفاعتُهم ... وشُفّعت بنتُ منظورِ بن زِبّانَا ) ( ليس
الشّفيع الذي يأتيك مُؤْتَزِراً ... مثلَ الشفيع الذي يأتيكَ عُرْيانَا ) لعريب
في هذا البيت خفيف رمل قال وسفر بينهما رجال من بني تميم كانوا بمكة فاصطلحا على
أن يرجعا إلى البصرة ولا يجمعهما ظل ولا كن حتى يجمعا في أمرهما ذلك بني تميم
ويصيرا على حكمهم ففعلا فلما صارا إلى البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها قال
وقال غير الحرمازي إن ابن الزبير قال للفرزدق جئني بصداقها فرقت بينكما فقال
الفرزدق أنا في بلاد عربة فكيف أصنع قالوا له عليك بسلم بن زياد فإنه محبوس في
السجن يطالبه ابن الزبير بمال فأتاه فقص عليه قصته قال كم صداقها قال أربعة آلاف
درهم فأمر له بها وبألفين للنفقة فقال للفرزدق ( دعِي
مُغلِقي الأبواب دون فَعالهم ... ولكن تمشَّى بي - هُبِلْت - إلى سَلمِ ) ( إلى
مَن يرى المعروفَ سهلاً سَبِيلُه ... ويفعلُ أفعال الرجال التي تَنمِي ) قال
فدفعها إليه الزبير فقال الفرزدق ( هلمّي
لابن عمك لا تكوني ... كمختارٍ على الفرس الحمارا ) قال
فجاء بها إلى البصرة - وقد أحبلها - فقال جرير في ذلك ( ألا
تِلكمُ عِرسُ الفرزدق جامحاً ... ولو رضِيَتْ رُمح استِهِ لاستقرَّت ) فأجابه
الفرزدق وقال ( وأمُّك
لو لاقيتُها بِطِمرَّةٍ ... وجاءت بها جوف استِها لاستقرّت ) وقال
الفرزدق وهو يخاصم النوار ( تُخاصمني
وقد أولجتُ فيها ... كرأس الضَّبّ يلتمس الجرادا ) قال
الحرمازي ومكثت النوار عنده زمانا ترضى عنه أحيانا وتخاصمه أحيانا وكانت النوار
امرأة صالحة فلم تزل تشمئز منه وتقول له ويحك تعلم أنك إنما تزوجت بي ضغطة وعلى
خدعة ثم لا تزال في كل ذلك حتى حلفت بيمين موثقة ثم حنثت وتجنبت فراشه فتزوج عليها
امرأة يقال لها جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لبني الحارث بن عباد بن ضبيعة
وأمها الخميصة من بني الحارث بن عباد فنافرته الخميصة واستعدت عليه فأنكرها
الفرزدق وقال إنها مني بريء طالق وطلق ابنتها وقال ( إن
الخميصةَ كانت لي ولاب نتها ... مثل الهَراسةِ بين النّعل والقَدَم ) ( إذا
أتت أهلَها مني مُطَلَّقة ... فلن أردَّ عليها زَفرَة النَّدم ) جعل
يأتي النوار وبه ردع الخلوق وعليه الأثر فقالت له النوار هل تزوجتها إلا هدادية -
تعني حيا من أزد عمان - فقال الفرزدق في ذلك ( تُريكَ
نجومَ الليل والشَّمسُ حَيَّةٌ ... كرامُ بنات الحارث بن عُبادِ ) ( أبوها
الذي قاد النّعامة بعد ما ... أبت وائلٌ في الحرب غير تمادِ ) ( نساءٌ
أبوهنّ الأعزُّ ولم تكن ... من الأزد في جاراتها وهَدادِ ) ( ولم
يكُ في الحيّ الغموضِ محلُّها ... ولا في العُمانيّيين رهطِ زيادِ ) ( عَدلتُ
بها مَيلَ النّوار فأَصبحتْ ... وقد رَضيت بالنّصف بعد بعادِ ) قال
فلم تزل النوار ترققه وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها وأخذ عليها ألا تفارقه ولا
تبرح من منزله ولا تتزوج رجلا بعده ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له وأخذت
عليه أن يشهد الحسن البصري على طلاقها ففعل ذلك قال المازني وحدثني محمد بن روح
العدوي عن أبي شفقل راوية الفرزدق قال ما استصحب الفرزدق أحدا غيري وغير راوية آخر
وقد صحب النوار رجال كثيرة إلا أنهم كانوا يلوذون بالسواري خوفا من أن يراهم
الفرزدق فأتيا الحسن فقال له الفرزدق يا أبا سعيد قال له الحسن ما تشاء قال أشهد
أن النوار طالق ثلاثا فقال الحسن قد شهدنا فلما انصرفنا قال يا أبا شفقل قد ندمت
فقلت له والله إني لأظن أن دمك يترقرق أتدري من أشهدت والله لئن رجعت لترجمن
بأحجارك فمضى وهو يقول ( ندمتُ
ندامةَ الكُسَعِيّ لمّا ... غدت منّي مُطلَّقةً نوارُ ) ( ولو
أنّي ملكتُ يدي وقلبي ... لكان عليّ للقدَر الخيارُ ) ( وكانت
جَنّتي فخرجتُ منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار ) ( وكنتُ
كفاقىءٍ عينيه عمداً ... فأصبح ما يضيء له النهارُ ) يهجو
بني قيس لأنهم ألجأوا النوار وأخبرني بخبره مع النوار أحمد بن عبد العزيز قال
حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى عن أبيه يحيى بن علي بن حميد أن النوار
لما كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري ليمنعوها فقال
الفرزدق فيهم ( بني
عاصم لا تجنبوها فإنكم ... ملاجِىءُ للسوءات دُسْم العَمائِم ) ( بَنِي
عاصمٍ لو كان حَيّاً أبوكم ... للام بنيه اليومَ قيسُ بن عاصمِ ) فبلغهم
ذلك الشعر فقالوا له والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة وخلوه والنوار
وأرادت منافرته إلى ابن الزبير فلم يقدر أحد على أن يكريها خوفا منه ثم إن قوما من
بني عدي يقال لهم بنو أم النسير أكروها فقال الفرزدق ( ولولا
أن يقول بنو عدِيٍّ ... ألم تَك أمَّ حَنظلة النَّوارُ ) ( أَتتكم
يا بني مِلْكان عنّي ... قوافٍ لا تُقسّمها التِّجارُ ) وقال
فيهم أيضا ( لعمري لقد أردى النّوارَ وساقها
... إلى البور أحلامٌ خِفافٌ عقولُها ) ( أطاعت
بني أمّ النسير فأصبحت ... على قَتب يعلو الفلاة دليلها ) ( وقد
سَخِطَت مِنّي النّوارُ الذي ارتضَى ... به قبلَها الأزواجُ خاب رحيلُها ) ( وإن
امرأ أمسى يُخَبّب زوجتي ... كساعٍ إلى أُسْدِ الشرى يستبيلها ) ( ومن
دون أَبواب الأسود بَسالةً ... وبَسْطَة أَيدٍ يمنع الضّيْمَ طُولُها ) ( وإنّ
أميرَ المؤرمنين لعالِمٌ ... بتأويل ما وَصَّى العِبَادَ رَسُولُها ) ( فَدُونَكَها
يابنَ الزبير فإنها ... مُوَلَّعَة يُوهِي الحجارةَ قِيلُها ) ( وما
جادل الأقوامَ من ذي خصومة ... كورهاء مَشْنوءٍ إليها حليلُها ) فلما
قدمت مكة نزلت على تماضر بنت منظور بن زبان زوجة عبد الله بن الزبير ونزل الفرزدق بحمزة
بن عبد الله بن الزبير ومدحه بقوله ( أَمسيتُ
قد نزلتْ بحمزة حاجَتِي ... إن المنوَّه باسمِه الموثوقُ ) ( بأبي
عمارةَ خيرِ من وَطِىء الحصا ... وجرت له في الصالحين عُروقُ ) ( بين
الحواريِّ الأعزّ وهاشمٍ ... ثم الخليفةُ بعدُ والصِّدِّيق ) غنى
في هذه الأبيات ابن سريج رملا بالبنصر قال فجعل أمر النوار يقوى وأمر الفرزدق يضعف
فقال ( أَمَّا بنوه فلم تُقْبل شفَاعتُهم
... وَشُفِّعَتْ بنتُ منظورِ بنِ زِبَّانَا ) ملاحاة
بينه وبين ابن الزبير وقال ابن الزبير للنوار إن شئت فرقت بينكما وقتلته فلا
يهجونا أبدا وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو فقالت ما أريد واحدة منهما فقال لها
فإنه ابن عمك وهو فيك راغب فأزوجك إياه قالت نعم فزوجها منه فكان الفرزدق يقول
خرجنا ونحن متباغضان فعدنا متحابين قال وكان الفرزدق قال لعبد الله بن الزبير -
وقد توجه الحكم عليه - إنما تريد أن أفارقها فتثب عليها وكان ابن الزبير حديدا
فقال له هل أنت قومك إلا جالية العرب ثم أمر به فأقيم وأقبل على من حضر فقال إن
بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه فاجتمعت
العرب عليها لما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من أرض تهامة قال فلقي
الفرزدق بعض الناس فقال إيه يعيرنا ابن الزبير بالجلاء اسمع ثم قال ( فإن
تغْضَبْ قريشٌ أو تَغَضَّب ... فإنَّ الأرضَ تُوعِبُها تميم ) ( هُم
عَددُ النجوم وكلُّ حيٍّ ... سواهمْ لا تُعدُّ له نجوم ) ( ولولا
بيت مكةَ ما ثويتم ... بها صحَّ المنابتُ والأروم ) ( بها
كثُر العديدُ وطاب منكم ... وغيرُكم أخِيذُ الريش هِيم ) ( فمهلاً
عن تعلّل مَن غَدَرْتم ... بخونته وعذَّبه الحَميم ) ( أعبدَ
اللهِ مهلاً عن أداتي ... فإني لا الضعيفُ ولا السؤوم ) ( ولكنِّي
صفاةٌ لم تُدَنَّس ... تزِلُّ الطيرُ عنها والعُصومُ ) ( أنا
ابن العاقِر الخُورَ الصّفايا ... بضوّى حين فُتِّحت العُكوم ) قال
فبلغ هذا الشعر ابن الزبير وخرج للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه فغمز عنقه فكاد
يدقها ثم قال ( لقد
أصبحت عِرسُ الفرزدق ناشزاً ... ولو رَضِيت رُمحَ استه لاستقرّت ) وقال
هذا الشعر لجعفر بن الزبير وقيل إن الذي كان تقرر عليه عشرة آلاف درهم وإن سلم بن
زياد أمر له بعشرين ألف درهم مهرا ونفقة فقبضها فقالت له زوجته أم عثمان بنت عبد
الله بن عمرو بن أبي العاص الثقفية أتعطي عشرين ألف درهم وأنت محبوس فقال ( ألا
بَكَرَتْ عِرسِي تلومُ سفاهةً ... على ما مضى مني وتأمرُ بالبُخْلِ ) ( فقلتُ
لها - والجودُ مِنِّي سجيّةٌ - ... وهل يمنع المعروفَ سُوَّالَه مِثلي ) ( ذَرِيني
فإنّي غيرُ تارك شِيمتي ... ولا مُقصرٍ طول الحياة عن البذْلِ ) ( ولا
طاردٍ ضيفي إذا جاء طارقا ... وقد طرق الأضيافُ شيخيَ من قبلي ) ( أَأَبخَلُ
إن البُخْل ليس بمُخْلِدي ... ولا الجودُ يدنيني إلى الموت والقتل ) ( أَبيعُ
بني حرب بآلِ خويلدٍ ... وما ذاك عند الله في البيع بالعدل ) ( وليس
ابنُ مروان الخليفةُ مشبهاً ... لفحل بَني العوَّام قُبِّح من فحل ) ( فإن
تُظهرُوا ليَ البخلَ آلَ خُوَيْلد ... فما دأْبكم دأْبِي ولا شكلُكم شكلِي ) ( وإن
تَقهروني حين غابت عشيرتي ... فمن عجبِ الأيام أن تقهروا مِثلي ) فلما
اصطلحا ورضيت به ساق إليها مهرها ودخل بها وأحبلها قبل أن يخرج من مكة ثم خرجا
وهما عديلان في محمل وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام عن إبراهيم بن حبيب بن
الشهيد بنحو من هذه القصة قال عمر بن شبة قال الفرزدق في خبره ( يا
حمزَ هل لك في ذي حاجة عَرضت ... أنضاؤه بمكان غيرِ ممطور ) ( فأنت
أحرى قريش أن تكون لها ... وأنت بين أبي بكر ومنظور ) ( بين الحواري والصدّيق في
شُعَبٍ ... ثَبَتْنَ في طُنُب الإِسلام والخير ) كانت
القبائل تتقي هجاءه أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا عبد القاهر
بن السري السلمي قال كان فتى من بني حرام شويعر هجا الفرزدق قال فأخذناه فأتينا به
الفرزدق وقلنا هذا بين يديك فإن شئت فاضرب وإن شئت فاحلق فلا عدوى عليك ولا قصاص
قد برئنا إليك منه قال فخلى سبيله وقال ( فمن
يك خائفاً لأذاة شعري ... فقد أمِنَ الهجاء بَنُو حرامِ ) ( هم
قادوا سفيههم وخافوا ... قلائدَ مثل أَطواق الحمامِ ) قال
ابن سلام وحدثني عبد القاهر قال مر الفرزدق بمجلسنا مجلس بني حرام ومعنا عنبسة
مولى عثمان بن عفان فقال يا أبا فراس متى تذهب إلى الآخرة قال وما حاجتك إلى ذاك
يا أخي قال أكتب معك إلى أبي قال أنا لا أذهب إلى حيث أبوك أبوك في النار اكتب
إليه مع ريالويه واصطقانوس أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه قال أخبرني مخبر
عن خالد بن كلثوم الكلبي قال مررت بالفرزدق وقد كنت دونت شيئا من شعره وشعر جرير
وبلغه ذلك فاستجلسني فجلست إليه وعذت بالله من شره وجعلت أحدثه حديث أبيه وأذكر له
ما يعجبه ثم قلت له إني لأذكر يوم لقبك بالفرزدق قال وأي يوم قال مررت به وأنت صبي
فقال له بعض من كان يجالسه كأن ابنك هذا الفرزدق دهقان الحيرة في تيهه وأبهته فسماك
بذاك فأعجبه هذا القول وجعل يستعيد ثم قال أنشدني بعض أشعار ابن المراغة فيّ فجعلت
أنشده حتى انتهيت ثم قال فأنشد نقائضها التي أجبته بها فقلت ما أحفظها فقال يا
خالد أتحفظ ما قاله في ولا تحفظ نقائضه والله لأهجون كلبا هجاء يتصل عاره بأعقابها
إلى يوم القيامة إن لم تقم حتى تكتب نقائضها أو تحفظها وتنشدنيها فقلت أفعل فلزمته
شهرا حتى حفظت نقائضها وأنشدته إياها خوفا من شره زواجه من حدراء بنت زيق أخبرني
عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال تزوج الفرزدق
حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس الشيباني وخاصمته النوار وأخذت بلحيته فجاذبها وخرج
عنها مغضبا وهو يقول ( قامَتْ
نوارُ إليَّ تَنتِف لِحيتي ... تَنْتافَ جعدةَ لحيةَ الخشخاشِ ) ( كلتاهما
أسدٌ إذا ما أُغْضِبت ... وإذا رَضينَ فهنْ خير معاشِ ) قال
والخشخاش رجل من عنزة وجعد امرأته فجاءت جعدة إلى النوار فقالت ما يريد مني
الفرزدق أما وجد لامرأته أسوة غيري وقال الفرزدق يفضل عليها حدراء ( لعمرِي
لأَعرابيَّةٌ في مَظلّةٍ ... تظلُّ برَوقي بيتها الريحُ تخْفُق ) ( أحبُّ
إلينا من ضِنَاك ضِفَنَّة ... إذا وُضعت عنها المراويحُ تَغرَقُ ) ( كرِيمِ
غزالٍ أو كُدرَّةِ غائصٍ ... يكاد - إذا مرت - لها الأرض تُشرقُ ) فلما
سمعت النوار ذلك أرسلت إلى جرير وقالت للفرزدق والله لأخزينك يا فاسق فجاء جرير
فقالت له أما ترى ما قال الفاسق وشكته إليه وأنشدته شعره فقال جرير أنا أكفيك
وأنشأ يقول ( ولَسْت
بمعطي الحكم عن شَفِّ منصبٍ ... ولا عن بنات الحنظليّين راغبُ ) ( وهنّ
كماء المزنِ يُشْفَى به الصَّدى ... وكانت مِلاحاً غيرَهُنَّ المشارِبُ ) ( لقد
كنتَ أهلا أن يسوق دياتكم ... إلى آل زِيق أن يعيبَك عائب ) ( وما
عدلتْ ذاتُ الصليبِ ظعينةً ... عُتَيْبةُ والرّدفان منها وحاجبُ ) ( أأهْديتَ
يا زيقُ بن بَسطامَ ظَبيةً ... إلى شرِّ من تُهْدَى إليه القرائبُ ) ( ألا
رُبَّما لم نُعْطِ زِيقاً بحُكمِه ... وأَدّى إلينا الحكمَ والغُلُّ لازبُ ) ( حَوينَا
أبا زِيقٍ وزيقاً وعمَّه ... وجَدّةُ زِيق قد حَوتْها المقانِبُ ) فأجابه
الفرزدق فقال ( تقول
كليبٌ حين مثَّت سِبالها ... وأعشَبَ من مرُوتِها كلُّ جانب ) ( لسوّاقِ
أغنام رعتهنّ أمّه ... إلى أن علاها الشيبُ فوق الذوائب ) ( ألستَ
إذا القعساءُ مرت براكب ... إلى آل بِسطام بن قيس بخاطب ) ( وقالوا
سمعنا أنّ حدراءَ زُوِّجَتْ ... على مائَةٍ شُمِّ الذُرى والغوارب ) ( فلو
كنتَ من أكفاء حدْراء لم تلُمْ ... على دَارِميٍّ بين ليلى وغالبِ ) ( فنل
مثلَها من مثلهم ثُم أُمَّهم ... بمِلكك من مال مُراح وعازب ) ( وإني
لأخشى إن خطبتَ إليهمُ ... عليك الذي لاقَى يسارُ الكَراعبِ ) ( ولو
تنكِحُ الشّمسُ النجومَ بناتِها ... نكحنا بناتِ الشمسِ قبل الكواكبِ ) وفي
المناقضات التي دارت بين الفرزدق وجرير حول زواج بنت زيق قال جرير أبياته التي
أولها ( يا زيقُ أنكحتَ قَيناً في استه
حَمَمٌ ... يا زيقُ ويْحَك من أنكحتَ يا زيق ) ( أين
الأُلى أنزلوا النعمان ضاحيةً ... أم أين أبناءُ شيبانَ الغرانيق ) ( يا
رُبّ قائلةٍ بعد البناء بها ... لا الصهرُ راضٍ ولا ابنُ القينِ معشوقُ ) ( غاب
المثنَّى فلم يشهد نَجِيَّكُما ... والحوفزَانُ ولم يشهدْك مفروق ) والفرزدق
يقول لجرير ( إن
كان أنفُك قد أعياك تحمِلُه ... فاركب أتانك ثم اخطُب إلى زِيق ) أخبرني
الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن زكريا بن ثباة الثقفي قال أنشدني
الفرزدق قصيدته التي رثى فيها ابنه فلما انتهى إلى قوله ( بِفي
الشَّامِتِين الصَّخْر إن كان مسَّني ... زريّةُ شِبْل مُخْدِرٍ في الضَّراغم ) قال
يا أبا يحيى أرأيت ابني قلت لا قال والله ما كان يساوي عباءته لبطة بن الفرزدق
ينشد لأبيه قال إسحاق حدثني أبو محمد العبدي عن اليربوعي عن أبي نصر قال قدم لبطة
بن الفرزدق الحيرة فمر بقوم من بني تغلب فاستقراهم فقروه ثم قالوا له من أنت قال
ابن شاعركم ومادحكم وأنا والله ابن الذي يقول فيكم ( أضحى
لتغلبَ من تميمٍ شاعِرٌ ... يرمي الأعاديَ بالقريض الأثقل ) ( إن
غاب كعبُ بني جُعَيلٍ عنهم ... وتنَمَّر الشعراء بعد الأخطل ) ( يتباشرون
بموتِه ووراءهم ... مِنّي لهم قِطعُ العذاب المُرْسلِ ) فقالوا
له فأنت ابن الفرزدق إذا قال أنا هو فتنادوا يا آل تغلب اقضوا حق شاعركم والذائد
عنكم في ابنه فجعلوا له مائة ناقة وساقوها إليه فانصرف بها أخبرنا أبو خليفة عن
محمد بن سلام قال أتى الفرزدق عبد الله بن مسلم الباهلي فسأله فثقل عليه الكثير
وخشيه في القليل وعنده عمرو بن عفراء الضبي راوية الفرزدق وقد كان هجاه جرير
لروايته للفرزدق في قوله ( ونُبِّئْتُ
جوَّاباً وسَلْماً يسبّني ... وعمرو بن عِفْري لا سلامٌ على عمرو ) فقال
ابن عفراء للباهلي لا يهولنك أمره أنا أرضيه عنك فأرضاه بدون ما كان هم له به
فأعطاه ثلثمائة درهم فقبلها الفرزدق ورضي عنه فبلغه بعد ذلك صنيع عمرو فقال ( ستعلم
يا عمرو بن عفْرى مَن الذي ... يُلام إذا ما الأمر غَبَّتْ عواقبُه ) ( نهيتُ
ابنَ عِفرى أن يعفّر أُمّه ... كعفْر السّلا إذا جرَّرَتْه ثعالبُه ) ( فلو
كنت ضَ3بِّياً صفحتُ ولو سَرتْ ... على قَدَمِي حيَّاتُه وعقاربه ) ( ولكنْ
دِيافِيٌّ أبوه وأُمّه ... بحوْران يعصِرْن السليط أقاربه ) ( ولما
رأى الدّهنا رمته جبالُها ... وقالت دِيافيٌّ مع الشام جانبه ) ( فإن
تغضب الدهنا عليك فما بها ... طريقٌ لمرتاد تُقاد رَكائِبُه ) ( تضِنُّ
بمال الباهليِّ كأنما ... تضِنُّ على المال الذي أنت كاسِبُه ) ( وإنّ
امرأ يَغْتَابُني لم أطأْ لَه ... حَرِيماً ولا يَنْهاهُ عنِّي أقارِبُه ) ( كمحتَطبٍ
يوماً أساودَ هَضْبةٍ ... أتاه بها في ظلمة الليل حاطبُه ) ( أحينَ
التقى ناباي وابيضّ مِسْحَلي ... وأطرق إطراق الكرى من يُجانِبه ) فقال
ابن عفراء وأتاه في نادي قومه أجهد جهدك هل هو إلا أن تسبني والله لا أدع لك مساءة
إلا أتيتها ولا تأمرني بشيء إلا اجتنبته ولا تنهاني عن شيء إلا ركبته قال فاشهدوا
أني أنهاه أن ينيك أمه فضحك القوم وخجل ابن عفرى أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام
قال حدثنا شعيب بن صخر قال تزوج ذبيان بن أبي ذبيان العدوي من بلعدوية فدعا الناس
في وليمته فدعا ابن أبي شيخ الفقيمي فألقى الفرزدق عنده فقال له يا أبا فراس انهض
قال إنه لم يدعني قال إن ابن ذبيان يؤتى وإن لم يدع ثم لا تخرج من عنده إلا بجائزة
فأتياه فقال الفرزدق حين دخل ( كم
قال لي ابنُ أبي شيخ وقلت له ... كيف السَّبيلُ إلى معروف ذُبيان ) ( إنّ
القلوصَ إذا أَلقت جآجئها ... قُدَّام بابك لم نرحل بحِرمان ) قال
أجل يا أبا فراس فدخل فتغدى عنده وأعطاه ثلثمائة درهم أخبرني أبو خليفة عن محمد بن
سلام قال حدثني أبو بكر المدني قال دخل الفرزدق المدينة فوافق فيها موت طلحة بن
عبد الرحمن بن عوف الزهري - وكان
سيدا سخيا شريفا - فقال يا أهل المدينة أنتم أذل قوم لله قالوا وما ذاك يا أبا
فراس قال غلبكم الموت على طلحة حتى أخذه منكم يعطى عروضا بدل النقد وأتى مكة فأتى
عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي - وهو سيد أهل مكة يومئذ - وليس
عنده نقد حاضر وهو يتوقع أعطيته وأعطية ولده وأهله فقال والله يا أبا فراس ما
وافقت عندنا نقدا ولكن عروضا إن شئت فعندنا رقيق فرهة فإن شئت أخذتهم قال نعم
فأرسل له بوصفاء من بنيه وبني أخيه فقال هم لك عندنا حتى تشخص وجاءه العطاء فأخبره
الخبر وفداهم فقال الفرزدق ونظر إلى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان يطوف
بالبيت الحرام يتبختر ( تمْشي
تَبَخْتُر حولَ البيتِ منتخَباً ... لو كنتَ عمرَو بنَ عبد الله لم تزدِ ) أخبرنا
أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثنا عامر بن أبي عامر - وهو صالح بن رستم الخراز
- قال أخبرني أبو بكر الهذلي قال إنا لجلوس عند الحسن إذ جاء الفرزدق يتخطى حتى
جلس إلى جنبه فجاء رجل فقال يا أبا سعيد الرجل يقول لا والله وبلى والله في كلامه
قال لا يريد اليمين فقال الفرزدق أو ما سمعت ما قلت في ذلك قال الحسن ما كل ما قلت
سمعوا فما قلت قال قلت ( ولستَ
بمأخوذٍ بلغوٍ تقوله ... إذا لم تعمَّدْ عاقداتِ العزائم ) قال
فلم ينشب أن جاء رجل آخر فقال يا أبا سعيد نكون في هذه المغازي فنصيب المرأة لها
زوج أفيحل غشيانها وإن لم يطلقها زوجها فقال الفرزدق أو ما سمعت ما قلت في ذلك قال
الحسن ما كل ما قلت سمعوا فما قلت قال قلت ( وذات
حَليلٍ أنكحتْنا رِماحُنا ... حلالاً لمن يَبْني بها لم تُطَلَّق ) يهجو
في شعره إبليس قال أبو خليفة أخبرني محمد بن سلام وأخبرني محمد بن جعفر قالا أتى
الفرزدق الحسن فقال إني هجوت إبليس فاسمع قال لا حاجة لنا بما تقول قال لتسمعن أو
لأخرجن فأقول للناس إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس قال اسكت فإنك بلسانه تنطق قال
محمد بن سلام أخبرني سلام أبو المنذر عن علي بن زيد قال ما سمعت الحسن متمثلا شعرا
قط إلا بيتا واحدا وهو قوله ( الموتُ
بابٌ وكُلُّ الناسِ داخلُه ... فليتَ شعريَ بعد الباب ما الدَّار ) قال
وقال لي يوما ما تقول في قول الشاعر ( لولا
جريرٌ هلكتْ بَجِيلهْ ... نِعْمَ الفتى وبِئسَتِ القبيلهْ ) أهجاه
أم مدحه قلت مدحه وهجا قومه قال ما مدح من هجي قومه وقال جرير بن حازم ولم أسمعه
ذكر شعرا قط إلا ( ليس
مَنْ مات فاستراح بمَيْتٍ ... إنما الميْتُ ميّتُ الأحياء ) وقال
رجل لابن سيرين وهو قائم يستقبل القبلة يريد أن يكبر أيتوضأ من الشعر فانصرف بوجهه
إليه فقال ( ألا أَصبحتْ عرسُ الفرزدق ناشِزاً
... ولو رضِيتْ رُمحَ استه لاستَقَرَّت ) ثم
كبر متفرقات من أبياته الشائعة قال ابن سلام وكان الفرزدق أكثرهم بيتا مقلدا - والمقلد
المغني المشهور الذي يضرب به المثل - من ذلك قوله ( فيا
عجباً حتى كليبٌ تسبني ... كأنّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشِعُ ) وقوله
( ليس الكرام بناحِليك أباهمُ ...
حتى يُردَّ إلى عطية نَهْشَلِ ) وقوله
( وكنّا إذا الجبّار صَعَّر خَدّه
... ضربناه حتى تستقيم الأَخادع ) وقوله
( وكنتَ كذئب السوء لما رأى دَمَاً
... بصاحبه يوماً أحال على الدَّم ) وقوله
( تُرجِّي رُبيعٌ أن تجيء صغارُها
... بخير وقد أعيا رُبيعاً كبارُها ) وقوله
( أكلتْ دوابرها الإِكَامُ فمشيها
... مما وَجِئْن كمشية الإِعياء ) وقوله
( قوارص تأتيني وتحتقرونها ... وقد
يملأ القطرُ الإِناءَ فَيَفعُمِ ) وقوله
( أحلاَمُنا تزن الجبالَ رَزانةً ...
وتخالنا جِناً إذا ما نجهل ) وقوله
( وإنك إذ تسعى لتدرك دارماً ...
لأنت المُعَنَّى يا جرير المُكَلف ) وقوله
( فإن تنجُ مني تنج من ذي عَظيمةٍ
... وإلا فإِنّي لا إِخالك ناجيا ) وقوله
( ترى كل مظلوم إلينا فِرارُه ...
ويهربُ منا جهدَه كُلُّ ظالمِ ) وقوله
( ترى الناس ما سِرْنا يسيرون حولَنا
... وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقَّفوا ) وقوله
( فسَيف بني عبسٍ وقد ضربوا به ...
نَبا بيَدَيْ وَرْقاءَ عن رأسِ خالد ) ( كذاك
سيوف الهند تنبو ظباتها ... ويَقطعن أَحياناً مَنَاط القَلائِد ) وكان
يداخل الكلام وكان ذلك يعجب أصحاب النحو من ذلك قوله يمدح هشام بن إسماعيل
المخزومي خال هشام بن عبد الملك ( وأصبح
ما في الناس إلا مُمَلَّكاً ... أبو أمه حَيٌّ أَبوه يُقاربه ) وقوله
( تالله قد سَفِهَتْ أميّةُ رأيَها
... فاستجهلت سُفهاؤها حلماءَها ) وقوله
( ألستم عائجين بنا لعنَّا ... نرى
العَرصاتِ أو أَثَر الخيام ) فقالوا
( إن فعلتَ فأغنِ عنا ... دُموعاً
غيرَ راقِئة السّجام ) وقوله
( فهل أنتَ إن ماتت أتانُكَ راحِلٌ
... إلى آل بِسطام بن قيس فخاطب ) وقوله
( فَنَلْ مثلَها من مثلِهم ثم
دُلَّهم ... على دارميّ بين ليلى وغالب ) وقوله
( تعالَ فإن عاهدتني لا تخونُني ...
نكنْ مثلَ مَنْ - يا ذئبُ - يَصْطحبان ) وقوله
( إنا وإياك إن بلّغْنَ أرحُلَنا ...
كمَنْ بِواديه بعد المَحْل مَمْطورُ ) وقوله
( بنى الفاروق أمّك وابن أروى ... به
عثمان مروان المصابا ) وقوله
( إلى مَلِك ما أمُّه من مُحاربٌ ...
أبوه ولا كانت كليب تصاهِرُه ) وقوله
( إليك أميرَ المؤمنين رمَتْ بنا ...
هموم المنا والهَوْجَل المتعسّف ) ( وعضّ
زمانٌ يا بن مروان لم يدعْ ... من المال إلا مُسحتاً أو مُجلَّف ) وقوله
( ولقد دنت لك بالتخلّف إذْ دنَت ...
منها بلا بَخَلٍ ولا مبذولِ ) ( وكأنّ
لونَ رُضابِ فيها إذ بدا ... بَرَدٌ برفع بَشامةٍ مصْقولُ ) وقوله
فيها لمالك بن المنذر ( إنّ
ابن ضيّاري ربيعةَ مالِكاً ... لله سيف صنيعةٍ مَسْلولُ ) ( ما
نال من آل المُعلّى قبلَه ... سيفٌ لكل خليفة ورسُولُ ) ( ما
من يَديْ رَجُل أحقُّ بما أتى ... من مكرمات عطاية الأخطارِ ) ( من
راحتين يزيدُ يقدح زندَه ... كفّاهما ويشد عقد جوار ) ( وقوله ... ) ( إذا
جئتَه أعطاك عفواً ولم يكن ... على ماله حال الندى منك سائله ) ( لدى
ملك لا تنصف النعلُ ساقَه ... أجل لا وإن كانت طُوالاً حمائله ) وقوله
( والشيب يَنْهَضُ في الشباب كأنه
... ليل يسير بجانبيه نهار ) كان
صادقا في مدحه قال أبو خليفة أخبرنا محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر عن محمد
بن زياد وأخبرني به الجوهري وجحظة عن ابن شبة عن محمد ابن سلام وكان محمد في زمام
الحجاج زمانا قال انتهيت إلى الفرزدق بعد موت الحجاج بالردم وهو قائم والناس حوله
ينشد مديح سليمان بن عبد الملك ( وكم
أطلقتْ كفاك من غلّ بائس ... ومن عُقدةٍ ما كان يُرجَى انحلالُها ) ( كثيراً
من الأيدي التي قد تُكتَّفَتْ ... فَكَكْتَ وأعناقاً عليها غِلالها ) قال
قلت أنا والله أحدهم فأخذ بيدي وقال أيها الناس سلوه عما أقول والله ما كذبت قط أخبرني
جحظة قال حدثني ابن شبة عن محمد بن سلام فذكر مثله وقال فيه والله ما كذبت قط ولا
أكذب أبدا يأبى الحضور إلى يزيد بن المهلب قبل أن يدفع له قال أبو خليفة قال ابن
سلام وسمعت الحارث بن محمد بن زياد يقول كتب يزيد بن المهلب لما فتح جرجان إلى
أخيه مدركة أو مروان احمل إلي الفرزدق فإذا شخص فأعط أهله كذا وكذا ذكر عشرة آلاف
درهم فقال له الفرزدق ادفعها إلي قال اشخص وادفعها إلى أهلك فأبى وخرج وهو يقول ( دعاني
إلى جُرجانَ والرّيُّ دونه ... لآتِيَهُ إنّي إذاً لزءورُ ) ( لآتِيَ
من آل المهلَّب ثائراً ... بأعراضِهم والدَّائرات تدُورُ ) ( سَآبَى
وتَأْبى لي تميمٌ وربما ... أبَيْتُ فلم يقدر عليّ أمير ) قال
أبو خليفة قال ابن سلام وسمعت سلمة بن عياش قال حبست في السجن فإذا فيه الفرزدق قد
حبسه مالك بن المنذر بن الجارود فكان يريد أن يقول البيت فيقول صدره وأسبقه إلى
القافية ويجيء إلى القافية فأسبقه إلى الصدر فقال لي ممن أنت قلت من قريش قال كل أير
حمار من قريش من أيهم أنت قلت من بني عامر بن لؤي قال لئام والله أذلة جاورتهم
فكانوا شر جيران قلت ألا أخبرك بأذل منهم وألأم قال من قلت بنو مجاشع قال ولم ويلك
قلت أنت سيدهم وشاعرهم وابن سيدهم جاءك شرطي مالك حتى أدخلك السجن لم يمنعوك قال
قاتلك الله قال أبو خليفة قال ابن سلام وكان مسلمة بن عبد الملك على العراق بعد
قتل يزيد بن المهلب فلبث بها غير كثير ثم عزله يزيد بن عبد الملك واستعمل عمر بن
هبيرة على العراق فأساء عزل مسلمة فقال الفرزدق وأنشدنيه يونس ( ولت
بمسلمةَ الركابُ مُودَّعاً ... فارعَيْ فزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ ) ( فسد
الزمانُ وبُدِّلت أعلامُه ... حتى أميّةُ عن فزارةَ تنْزِع ) ( ولقد
علمتُ إذا فزارةُ أُمِّرت ... أن سوف تطمع في الإِمارة أشجعُ ) ( وبحقّ
ربك ما لهم ولمثلهم ... في مثل ما نالت فَزارةُ مطمع ) ( عُزِل
ابنُ بشر وابنُ عَمْرو قبلَه ... وأَخو هَراةَ لمثلها يتوقَّع ) ابن
بشر عبد الملك بن بشر بن مروان كان على البصرة أمره عليها مسلمة وابن عمرو سعيد بن
حذيفة بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وأخو هراة عبد العزيز بن الحكم بن
أبي العاصي ويروى للفرزدق في ابن هبيرة ( أمير
المؤمنين وأنت عَفٌّ ... كريمٌ لستَ بالطَّبعِ الحريصِ ) ( أَولَّيتَ
العِراقَ ورافِدَيْه ... فزاريًّا أحذَّ يدِ القَميص ) ( ولم
يكُ قبلها راعي مخاضٍ ... لتأمنَه على وَرِكَيْ قَلُوصِ ) ( تفنَّن
بالعراق أبو المُثَنَّى ... وعَلّم أهلَه أكْلَ الخَبِيص ) وأنشدني
له يونس ( جَهّز فإنك ممتارٌ ومُبتعثٌ ...
إلى فزارة عِيراً تحمِل الكَمَرَا ) ( إنَّ
الفزاريَّ لو يعمى فأطعَمَه ... أيرَ الحِمارِ طبيبٌ أبرأَ البَصَرَا ) ( إن
الفزاريّ لا يشفيه من قَرَمٍ ... أطايبُ العَيْر حتى ينهش الذّكرا ) ( يقول
لمّا رأى ما في إنائهم ... لله ضيف الفزاريين ما انْتَظَرَا ) فلما
قدم خالد بن عبد الله القسري واليا على ابن هبيرة حبسه في السجن فنقب له سرب فخرج
منه فهرب إلى الشام فقال فيه الفرزدق يذكر خروجه ( ولما
رأيتَ الأرض قد سُدَّ ظهرُها ... ولم تر إلا بطنَها لك مخرجا ) ( دعوت
الذي ناداه يونُسُ بعد ما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرّجا ) ( فأصبحت
تحت الأرض قد سِرْت ليلةً ... وما سار سَارٍ مثلها حين أدلجا ) ( خرجتَ
ولم تمنُنْ عليك شفاعةٌ ... سوى رَبذِ التقريب من آل أعوجا ) ( أغرّ
من الحُوِّ اللهاميم إذ جرى ... جرى بكَ محبوكُ القِرى غير أفحجا ) ( جرى
به عُريان الحماتين ليلَهُ ... بك عنك أرخى الله ما كان أشرجا ) ( وما
احتال مُحتالٌ كحيلته التي ... بها نفسه تحت الصّريمة أولجا ) ( وظَلماء
تحت الأرض قد خُضت هولَها ... وليلٍ كلون الطيلَسانيّ أدْعجا ) ( هما
ظُلْمتا ليل وأرض تلاقتا ... على جامع من هَمّه ما تعوَّجا ) هجوه
لخالد القسري فحدثني جابر بن جندل قال فقيل لابن هبيرة من سيد العراق قال الفرزدق
هجاني أميرا ومدحني سوقة وقال الفرزدق لخالد القسري حين قدم العراق أميرا لهشام ( ألا
قطع الرحمن ظهرَ مطيَّةٍ ... أتتنا تمَطَّى من دمشقٍ بخالد ) ( وكيف
يؤمّ المسلمين وأمُّه ... تدين بأنّ الله ليس بواحد ) ( بَنَى
بَيْعَةً فيها الصَّليبُ لأمّه ... وهَدّم من كُفرٍ مَنارَ المساجدِ ) وقال
أيضا ( نزلت بجيلَةُ واسطاً فتمكنَّت ...
ونفتْ فزارةَ عن قرار المنزل ) وقال
أيضا ( لعمري لئن كانت بجيلةُ زانها ...
جَريرٌ لقد أخزى بجيلة خالدُ ) فلما
قدم العراق خالد أميرا أمر على شرطة البصرة مالك بن المنذر بن الجارود وكان عبد
الأعلى بن عبد الله بن عامر يدعي على مالك قرية فأبطلها خالد وحفر النهر الذي سماه
المبارك فاعترض عليه الفرزدق فقال ( أهلكتَ
مالَ الله في غير حقّه ... على النَّهَر المشؤوم غيرِ المباركِ ) ( وتَضربُ
أقواماً صِحاحاً ظهورهم ... وتتركُ حقَّ الله في ظَهْرِ مالك ) ( أإنفاقَ
مالِ الله في غير كُنهه ... ومَنْعاً لحقِّ المرمِلات الضرائك ) دخل
على الحجاج يستميحه مهر حدراء زوجته أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن
حبيب عن الأصمعي قال قال أعين بن لبطة دخل الفرزدق على الحجاج لما تزوج حدراء
يستميحه مهرها فقال له تزوجت أعرابية على مائة بعير فقال له عنبسة بن سعيد إنما هي
فرائض قيمتها ألفا درهم - الفريضة عشرون درهما - فقال له الحجاج ليس غيرها يا كعب
أعط الفرزدق ألفي درهم قال وقدم الفضيل العنزي بصدقات بكر بن وائل فاشترى الفرزدق
مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على أن يثبتها له في الديوان قال الفرزدق فصليت مع
الحجاج الظهر حتى إذا سلم خرجت فوقفت في الدار فرآني فقال مهيم فقلت إن الفضيل
العنزي قدم بصدقات بكر بن وائل وقد اشتريت منه مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على
أن تحتسب له في الديوان فإن رأى الأمير أن يأمر لي بإثباتها له فعل فأمر أبا كعب
أن يثبت للفضيل ألفين وخمسمائة درهم ونسي ما كان أمر له به قال فلما جاء الفرزدق
بالإبل قالت له النوار خسرت صفقتك أتتزوج أعرابية نصرانية سوداء مهزولة خمشاء
الساقين على مائة من الإبل فقال يعرض بالنوار وكانت أمها وليدة ( لجَاريةٌ
بين السّليل عروقُها ... وبين أبي الصّهباء من آل خالدِ ) ( أحقُّ
بإغلاء المهور من التي ... رَبَتْ تتردّى في حجور الولائدِ ) فأبت
النوار عليه أن يسوقها كلها فحبس بعضها وامتار عليه ما يحتاج إليه أهل البادية
ومضى ومعه دليل يقال له أوفى بن خنزير قال أعين فلما كان في أدنى الحي رأوا كبشا
مذبوحا فقال الفرزدق يا أوفى هلكت والله حدراء قال وما علمك بذلك قال ويقال إن
أوفى قال للفرزدق يا أبا فراس لن ترى حدراء فمضوا حتى وقفوا على نادي زيق وهو جالس
فرحب به وقال له انزل فإن حدراء قد ماتت وكان زيق نصرانيا فقال قد عرفنا أن نصيبك
من ميراثها في دينكم النصف وهو لك عندنا فقال له الفرزدق والله لا أرزؤك منه
قطميرا فقال زيق يا بني دارم ما صاهرنا أكرم منكم في الحياة ولا أكرم منكم شركة في
الممات فقال الفرزدق ( عَجِبت
لحادينا المقَحِّم سيره ... بنا مُوجعاتٍ من كَلالٍ وظُلَّعَا ) ( ليُدنِينَا
ممن إلينَا لقاؤه ... حبيبٌ ومن دارٍ أردنا لتجمعا ) ( ولو
نعلمُ الغيبَ الذي من أمامنا ... لكرّبنا الحادي المطِيّ فأَسرعا ) ( يقولون
زُرْ حدراءَ والتُّربُ دونها ... وكيف بشيء وصلُه قد تقطَّعا ) ( يقول
ابن خِنزير بكيت ولم تكن ... على امرأة عيني إخال لتدمعا ) ( وأهونُ
رزء لامرىء غير جازعٍ ... رزيئةُ مرتج الروادف أفرعا ) ( ولست
- وإن عزّت - عليّ بزائرٍ ... تُرابا على مرموسةٍ قد تضعضعا ) وقيل
إن النوار كانت استعانت بأم هاشم لا بتُماضر وأم هاشم أخت تماضر لأن تماضر ماتت
عند عبد الله بعد أن ولدت له خبيبا وثابتا ابني عبد الله بن الزبير وتزوج بعدها
أختها أم هاشم فولدت له هاشما وحمزة وعبادا وفي أم هاشم يقول الفرزدق ( تروّحتِ
الرّكبانُ يا أُمَّ هاشمٍ ... وهنَّ مُنَاخاتٌ لهن حنين ) ( وحُبِّسْن
حتّى ليس فيهن نافقٌ ... لبيعٍ ولا مركوبُهن سمين ) طلق
رهيمة زوجته لأنها نشزت به أخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني
الأصمعي قال نشزت رهيمة بنت غني بن درهم النمرية بالفرزدق فطلقها وقال يهجوها
بقوله ( لا ينكحنْ بعدي فتىً نَمريّةً ...
مُرَمَّلةً من بعلها لبعادِ ) ( وبيضاء
زَعراء المفارق شَخْتَةً ... مولّعةً في خُضرة وسوادِ ) ( لها
بَشَرٌ شَثْنٌ كأن مَضَمَّه ... إذا عانقت بَعوْلاً مَضَمُّ قتادِ ) ( قرنتُ
بنفسي الشؤمَ في وِرد حوضها ... فَجُرِّعتُه مِلحاً بماء رمادِ ) ( وما
زلتُ - حتى فرَّق الله بيننا ... له الحمدُ - منها في أذىً وجهاد ) ( تُجدِّد
لي ذكرى عذَاب جهنَّمٍ ... ثلاثاً تُمسِّيني بها وتغادي ) يحظى
بجارية بنسيئة فتحمل منه أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحسين بن موسى قال قال المدائني
لقي الفرزدق جارية لبني نهشل فجعل ينظر إليها نظرا شديدا فقالت له مالك تنظر
فوالله لو كان لي ألف حر ما طمعت في واحد منها قال ولم يا لخناء قالت لأنك قبيح
المنظر سيء المخبر فيما أرى قال أما والله لو جربتني لعفى خبري على منظري قال ثم
كشف لها عن مثل ذراع البكر فتضبعت له عن مثل سنام البكر فعالجها فقالت أنكاح
بنسيئة هذا شر القضية قال ويحك ما معي إلا جبتي أفتسلبينني إياها ثم تسنمها فقال ( أولجتُ
فيها كذِراع البَكرِ ... مُدملَكَ الرأس شديدَ الأسْرِ ) ( زاد
على شِبْرٍ ونصفِ شِبْرِ ... كأنني أوجتُه في جَمْرِ ) ( يُطير
عنه نَفَيانَ الشَّعْرِ ... نفي شُعور الناس يَوْمَ النَّحرِ ) قال
فحملت منه ثم ماتت فبكاها وبكى ولده منها ( وغمدِ
سلاحٍ قد رزئتُ فلم أنُح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا ) ( وفي
جَوفه من دارمٍ ذو حفيظةٍ ... لو أنّ المنايا أنسأته لياليا ) ( ولكنَّ
ريب الدهر يعْثُر بالفتى ... فلم يستطع رَدًّا لما كان جائيَا ) ( وكم
مثلِه في مثلِها قد وضعته ... وما زلت وثَّاباً أجرُّ المخازيا ) فقال
جرير يعيره ( وكم
لكَ يا بنَ القيْن إنْ جاء سائلٌ ... من ابنٍ قصير الباع مثلُك حاملُه ) ( وآخر
لم تشعُر به قد أضعتَه ... وأوردته رِحماً كثيراً غوائِلُه ) زواجه
من ظبية ابنة حالم وعجزه عنها أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن موسى
قال حدثني محمد بن سليمان الكوفي عن أبيه قال تزوج الفرزدق ظبية ابنة حالم من بني
مجاشع بعد أن أسن فضعف وتركها عند أمها بالبادية سنة ولم يكن صداقها عنده فكتب إلى
أبان بن الوليد البجلي - وهو على فارس عامل لخالد بن عبد الله القسري - فأعطاه ما
سأل وأرضاه فقال يمدحه ( فلو
جمعوا من الخِلاّنِ ألفا ... فقالوا أعطِنا بهمُ أبانا ) ( لقلتُ
لهم إذاً لغبنتموني ... وكيف أبيع من شرَط الزمانا ) ( خليلٌ
لا يرى المائةَ الصّفايا ... ولا الخيلَ الجيادَ ولا القيانَا ) ( عَطاءً
دون أضعاف عليها ... ويُطعمُ ضَيفَه العُبُطَ السِّمانا ) العبط
الإبل التي لا وجع بها ( فما
أرجو لظبيةَ غيرَ ربِّي ... وغيرَ أبي الوليد بما أعانا ) ( أعان
بهجمة أرضَتْ أباها ... وكانت عنده غَلَقاً رِهانا ) وقال
أيضا في ذلك ( لقد
طال ما استودعتُ ظبيةَ أمَّها ... وهذا زمان رُدّ فيه الودائعُ ) وقال
حين أراد أن يبني بها ( أبادر
سُؤَّالا بظبية أنني ... أتتني بها الأهوالُ من كل جانب ) ( بمالِئةِ
الحِجْليْن لو أَنَّ مَيِّتاً ... ولو كان في الأموات تحت النصائب ) ( دعته
لألقى الرُّبَ عند انتفاضِه ... - ولو كان تحت الراسيات الرواسب - ) فلما
ابتنى منها عجز عنها فقال ( يا
لهفَ نفسي على نَعْظٍ فُجِعْتُ به ... حين التقى الرَّكَبُ المحلوقُ والرَّكَبُ ) وقال
جرير ( وتقول ظبيةُ إذ رأتك محوقِلاً ...
- حَوْقَ الحمار - من الخبال الخابلِ ) ( إنَّ
البليَّة وهْي كلُّ بليةٍ ... شيخٌ يُعَلِّل عِرْسَه بالباطل ) ( لو
قد عَلقتِ من المهاجر سُلَّما ... لنجوتِ منه بالقضاء الفاصِلِ ) قال
فنشزت منه ونافرته إلى المهاجر وبلغه قول جرير فقال المهاجر لو أتتني بالملائكة
معها لقضيت للفرزدق عليها شعره في ابنته مكية وأمها الزنجية قال وكان للفرزدق ابنة
يقال لها مكية وكانت زنجية وكان إذا حمي الوطيس وبلغ منه الهجاء يكتني بها ويقال ( ذا
كمْ إذاً ما كنتُ ذا محميَّهْ ... بدارِميٍّ أمُّه ضَبِّيهْ ) ( صمحمح
يُكنَى أبا مكيَّه ... ) وقال
في أمها ( يا ربَّ خوْدٍ من بنات الزّنجِ ...
تحمل تنُّوراً شديدَ الوهْجِ ) ( أقعبَ
مثْلَ القَدْحِ الخَلَنجِ ... يزداد طيباً عند طول الهرجِ ) ( مَخَجْتُها
بالأَيْر أيَّ مخجِ ... ) فقالت
له النوار ريحها مثل ريحك وقال في أم مكية يخاطب النوار ( فإن
يكُ خالها من آل كسرى ... فكِسرى كان خيراً من عِقال ) ( وأكثرَ
جزيةً تُهدَى إليه ... وأصبرَ عند مختلِف العوالي ) قال
وكانت أم النوار خراسانية فقال لها في أم مكية ( أغرك
منها أُدْمَةٌ عربيّةٌ ... علت لونَها إن البِجَادِيَّ أحمرُ ) يمدح
سعيد بن العاص فيحقد عليه مروان حدثني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا السكن بن
سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قال دخل الفرزدق على سعيد بن العاص وهو والي
المدينة لمعاوية فأنشده ( ترى
الغرّ الجحاجِحَ من قريش ... إذا ما الخطب في الحدثان غالا ) ( وقُوفاً
ينظرون إلى سعيدٍ ... كأنهمُ يرون به هلالا ) وعنده
كعب بن جعيل فلما فرغ من إنشاده قال كعب هذه والله رؤياي البارحة رأيت كأن ابن مرة
في نواحي المدينة وأنا أضم ذلاذلي منه فلما خرج الفرزدق خرج مروان في أثره فقال لم
ترض أن نكون قعودا حتى جعلتنا قياما في قولك ( قِياماً
ينظرون إلى سعيد ... كأنهمُ يرون به هلالا ) فقال
له يا أبا عبد الملك إنك من بينهم صافن فحقد عليه مروان ذلك ولم تطل الأيام حتى
عزل سعيد وولي مروان فلم يجد على الفرزدق متقدما حتى قال قصيدته التي قال فيها ( هما
دَلّتاني من ثمانين قامةً ... كما انقضَّ باز أقتمُ الريش كاسرُهْ ) ( فلما
استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أخيٌّ يُرجَّى أم قتيلٌ نُحاذره ) ( فقلت
ارفعا الأمراسَ لا يشعروا بنا ... وأقبلتُ في أعقاب ليل أبادره ) ( أبادر
بوَّابين لم يشعروا بنا ... وأحمرَ من ساجٍ تلُوح مسامره ) فقال
له مروان أتقول هذا بين أزواج رسول الله اخرج عن المدينة فذلك قول جرير ( تدلَّيت
تزني من ثمانينَ قامةً ... وقَصَّرت عن باع الندى والمكارم ) أخبرنا
ابن دريد قال أخبرنا الرياشي عن محمد بن سلام قال خبر آخر في مدحه سعيدا دخل
الفرزدق المدينة هاربا من زياد وعليها سعيد بن العاص بن أمية ابن عبد شمس أميرا من
قبل معاوية فدخل على سعيد ومثل بين يديه وهو معتم وفي مجلس سعيد الحطيئة وكعب بن
جعيل التغلبي وصاح الفرزدق أصلح الله الأمير أنا عائذ بالله وبك أنا رجل من تميم
ثم أحد بني دارم أنا الفرزدق بن غالب قال فأطرق سعيد مليا فلم يجبه فقال الفرزدق
رجل لم يصب دما حراما ولا مالا حراما فقال سعيد إن كنت كذلك فقد أمنت فأنشده ( إليك
فررتُ مِنك ومن زيادٍ ... ولم أحسب دمي لكما حَلاَلا ) ( ولكنِّي
هجوتُ وقد هجاني ... معاشرُ قد رضخْتُ لهم سِجالا ) ( فإن
يكن الهجاء أحلَّ قتلي ... فقد قلنا لشاعرهم وقالا ) ( أرِقتُ
فلم أنم ليلاً طويلا ... أراقب هل أرى النَّسرينِ زالا ) ( عليك
بني أمية فاستجرهم ... وخذ منهم لما تخشى حِبالا ) ( فإنّ
بني أمية في قريش ... بَنَوْا لبيوتهم عَمَداً طوالا ) ( ترى
الغرَّ الجحاجح من قريشٍ ... إذا ما الأمر في الحدثان غالا ) ( قياماً
ينظرون إلى سعيدٍ ... كأنّهمُ يرون به هلالا ) قال
فلما قال هذا البيت قال الحطيئة لسعيد هذا والله الشعر لا ما كنت تعلل به منذ
اليوم فقال كعب بن جعيل فضلته على نفسك فلا تفضله على غيرك قال بلى والله إنه
ليفضلني وغيري يا غلام أدركت من قبلك وسبقت من بعدك ولئن طال عمرك لتبرزن ثم عبث
الحطيئة بالفرزدق فقال يا غلام أنجدت أمك قال لا بل أبي أراد الحطيئة إن كانت أمك
أنجدت فقد أصبتها فولدتك إذ شابهتني في الشعر فقال الفرزدق لا بل أبي فوجده لقنا أخبرني
ابن دريد قال قال لنا أبو حاتم قال الأصمعي ومن عبثات الفرزدق أنه لقي مخنثا فقال
له من أين راحت عمتنا فقال له المخنث نفاها الأغر بن عبد العزيز يريد قول جرير ( نفاك
الأغرّ بن عبد العزيز ... وحقُّك تُنْفَى من المسجدِ ) جرير
يقر له بالغلبة ويلقبه بالعزيز أخبرنا ابن دريد عن الرياشي عن النضر بن شميل قال
قال جرير ما قال لي ابن القين بيتا إلا وقد اكتفأته أي قلبته إلا قوله ( ليس
الكِرامُ بناحليك أباهم ... حتى يرد إلى عطية تعتل ) فإني
لا أدري كيف أقول فيها وأخبرني ابن دريد قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد
عن ابن الكلبي عن عوانة بن الحكم قال بينما جرير واقف في المربد وقد ركبه الناس
وعمر بن لجأ مواقفه فأنشده عمر جواب قوله ( يا
تَيْمُ تَيْمَ عديٍّ لا أبا لكم ... لا يقذفنَّكُم في سَوأَةٍ عمرُ ) ( أحين
صرْتُ سِماماً يا بني لجأٍ ... وخاطَرتْ بيَ عن أحسابها مُضرُ ) فقال
عمر جواب هذا ( لقد
كذبتَ وشرُّ القولِ أكذبُهُ ... ما خاطرَتْ بك عن أحسابها مُضَرُ ) ( ألَسْتَ
نَزوَة خوّارٍ على أمة ... لا يسبق الحلباتِ اللؤمُ والخورُ ) وقد
كان الفرزدق رفده بهذين البيتين في هذه القصيدة فقال جرير لما سمعها قبحا لك يا بن
لجأ أهذا شعرك كذبت والله ولو مت هذا شعر حنظلي هذا شعر العزيز يعني الفرزدق فأبلس
عمر فما رد جوابا وخرج غنيم بن أبي الرقراق حتى أتى الفرزدق فضحك وقال إيه يابن
أبي الرقراق وإن عندك لخبرا قلت خزي أخوك ابن قتب فحدثته فضحك حتى فحص برجليه ثم
قال في ساعته ( وما
أنت إن قَرْمَا تَمِيم تساميا ... أخا التّيم إلا كالوشِيظة في العَظم ) ( فلو
كنت مولى الظلم أو في ثِيابِه ... ظلمتَ ولكن لا يَدَيْ لك بالظُّلْم ) فما
بلغ هذان البيتان جريرا قال ما أنصفني في شعر قط قبل هذا يعني قوله ( إنْ
قرْمَا تميم تساميا ... ) يغتصب
جيد الشعراء أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا الرياشي قال كان الفرزدق مهيبا تخافه
الشعراء فمر يوما بالشمردل وهو ينشد قصيدته حتى بلغ إلى قوله ( وما
بين مَنْ لم يُعطِ سمعاً وطاعةً ... وبين تميمٍ غيرُ حزّ الغَلاصم ) قال
والله لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك قال خذه على كره مني فهو في قصيدة الفرزدق
التي أولها قوله ( تحنّ
بزورَاءِ المدينة ناقَتِي ... ) قال
وكان الفرزدق يقول خير السرقة ما لا يجب فيه القطع يعني سرقة الشعر أخبرنا ابن
دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن الضحاك بن بهلول الفقيمي قال بينما أنا بكاظمة
وذو الرمة ينشد قصيدته التي يقول فيها ( أحينَ
أعاذت بي تميمٌ نساءَها ... وجُرّدْت تجريدَ اليَمانِي من الغِمد ) إذا
راكبان قد تدليا من نعف كاظمة متقنعان فوقفا فلما فرغ ذو الرمة حسر الفرزدق عن
وجهه وقال يا عبيد اضممها إليك - يعني راويته - وهو عبيد أخو بني ربيعة بن حنظلة
فقال ذو الرمة نشدتك الله يا أبا فراس إن فعلت قال دع ذا عنك فانتحلها في قصيدته
وهي أربعة أبيات ( أحينَ
أعاذت بي تميمٌ نساءهَا ... وجُرّدت تجريدَ اليَمانِي من الغِمدِ ) ( ومدت
بضَبْعيَّ الرّبابُ ومالكٌ ... وعمروٌ وشالت من ورائي بنو سعد ) ( ومن
آل يربوعٍ زُهَاءٌ كأنه ... دُجَى الليل محمود النِّكاية والوِرد ) ( وكنّا
إذا الجبّارُ صَعَّرَ خدَّه ... ضربناه فوق الأُنْثَيَيْن على الكَرْد ) أخبرنا
ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال اجتمع الفرزدق وجرير وكثير وابن
الرقاع عند سليمان بن عبد الملك فقال أنشدونا من فخركم شيئا حسنا فبدرهم الفرزدق
فقال ( وما قوم إذا العلماء عَدّت ...
عروقَ الأكرمين إلى الترابِ ) ( بمختلفين
إن فضَّلتمونا ... عليهم في القَديم ولا غِضاب ) ( ولو
رَفع السحابُ إليه قوماً ... عَلَوْنا في السماء إلى السحاب ) فقال
سليمان لا تنطقوا فوالله ما ترك لكم مقالا أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد
بن عمران الضبي عن سليمان بن أبي سليمان الجوزجاني قال غاب الفرزدق فكتبت النوار
تشكو إليه مكية وكتب إليه أهله يشكون سوء خلقها وتبذيها عليهم فكتب إليهم ( كتبتم
عليها أنها ظلمتكم ... كذبتم وبيتِ الله بل تظلمونها ) ( فإلاّ
تعدُّوا أنها من نسائكم ... فإنّ ابنَ ليلى والدٌ لا يشينها ) ( وإنّ
لها أعمامَ صدق وإخوة ... وشيخاً إذا شاءت تَنَمّر دونها ) كان
ابنه لبطة عاقا به قال وكان للفرزدق ثلاثة أولاد يقال لواحد منهم لبطة والآخر حبطة
والثالث سبطة وكان لبطة من العققة فقال له الفرزدق ( أإنْ
أُرعِشتْ كفَّا أبيك وأصبَحتْ ... يداك يَدَيْ ليثٍ فإنك جادِبُه ) ( إذا
غالَبَ ابنٌ بالشباب أباً له ... كبيراً فإِن الله لا بدّ غالبُه ) ( رأيتُ
تباشيرَ العقوق هي التي ... من ابن امرىء ما إن يزال يُعاتبُه ) ( ولما
رآني قد كبِرتُ وأنني ... أخو الحي واستغنى عن المسح شاربُه ) ( أصاخ
لغربان النّجيِّ وإنه ... لأَزورُ عن بعض المقالة جانبه ) قال
أبو عبيدة في كتاب النقائض قال رؤبة بن العجاج حج سليمان بن عبد الملك وحجت معه
الشعراء فمر بالمدينة منصرفا فأتي بأسرى من الروم نحو أربعمائة فقعد سليمان وعنده
عبد الله بن حسن بن حسن - عليهم السلام - وعليه ثوبان ممصران وهو أقربهم منه مجلسا
فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعة فقال لعبد الله بن حسن قم فاضرب عنقه فقام فما
أعطاه أحد سيفا حتى دفع إليه حرسي سيفا كليلا فضربه فأبان عنقه وذراعه وأطن ساعده
وبعض الغل فقال له سليمان والله ما ضربته بسيفك ولكن بحسبك وجعل يدفع الأسرى إلى
الوجوه فيقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم فدست إليه بنو عبس سيفا قاطعا في
قراب أبيض فضربه فأبان رأسه ودفع إلى الفرزدق أسيرا فدست إليه القيسية سيفا كليلا
فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئا فضحك سليمان وضحك الناس معه وقيل إن سليمان
لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفا وقال اقتله به فقال لا بل أقتله بسيف مجاشع
واخترط سيفه فضربه فلم يغن شيئا فقال سليمان أما والله لقد بقي عليك عارها وشنارها
فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها وأولها جرير يهجوه وهو يجيب ( ألا حيِّ ربعَ
المنزل المُتقادِمِ ... وما حُلَّ مُذ حَلَّت به أمُّ سالمِ ) منها
( ألم تشهد الجَوْنَيْن والشِّعب ذا
الغَضَى ... وكَرَّاتِ قيسٍ يومَ دَيْر الجماجم ) ( تُحرِّضُ
يابنَ القَيْن قيساً ليجعلوا ... لقومك يوماً مثل يومِ الأراقم ) ( بسيفِ
أبي رَغْوَانَ سيفِ مُجاشِعٍ ... ضربتَ ولم تضربْ بسيف ابن ظالمِ ) ( ضربتَ
به عند الإِمام فأُرْعِشتْ ... يداك وقالوا مُحْدَثٌ غيرُ صارمِ ) فقال
الفرزدق يجيب جريرا عن قوله ( وهل
ضربةُ الرُّوميِّ جاعلةٌ لكم ... أباً عن كُلَيْب أو أباً مثلَ دارمِ ) ( كذاك
سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها ... وتقطعُ أحياناً مَناطَ التمائمِ ) ( ولا
نقتلُ الأسرَى ولكن نفكُّهُم ... إذا أثقل الأعناقَ حملُ المغارم ) وقال
يعرض بسليمان ويعيره نبو سيف ورقاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر وبنو عبس هم
أخوال سليمان ( فإِن
يكُ سيفٌ خان أو قَدَرٌ أبَى ... بتعجيلِ نفسٍ حتفُها غير شاهد ) ( فسيفُ
بني عبسٍ وقد ضربوا به ... نبا بيدَيْ وَرَقاءَ عن رأسِ خالد ) ( كذاك
سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها ... وتقطعُ أحيانا مَناط القلائدِ ) وأولها
( تباشَرُ يربوعٌ بنبوةِ ضربةٍ ...
ضربتُ بها بين الطُّلا والمحارِد ) ( ولو
شئتُ قدَّ السيفُ ما بين عُنقه ... الى عَلَق بين الحِجَابَيْن جامدِ ) وقيل
إن الفرزدق قال لسليمان يا أمير المؤمنين هب لي هذا الأسير فوهبه له فأعتقه وقال
الأبيات التي منها ( ولا
نقتُل الأسرى ولكن نفكُّهم ... إذا أثقلَ الأعناقَ حملُ المغارمِ ) ثم
أقبل على راويته فقال كأني بابن المراغة وقد بلغه خبري فقال ( بسيفِ
أبي رَغْوَانَ سيفِ مُجاشِعٍ ... ضربتَ ولم تضربْ بسيف ابن ظالمِ ) ( ضربتَ
به عند الإِمام فأُرْعِشتْ ... يداك وقالوا مُحْدَثٌ غيرُ صارمِ ) فما
لبثنا إلا أياما يسيرة حتى جاءتنا القصيدة وفيها البيتان فعجبنا من فطنة الفرزدق وقال
أيضا في ذلك ( أَيعجبُ
النَّاسُ أن أضحكتُ خيرَهُم ... خليفةَ الله يُستسقَى به المطرُ ) ( فما
نبا السيفُ عن جُبْنٍ وعن دَهَشٍ ... عند الإِمامِ ولكن أُخِّر القدرُ ) ( ولو
ضربتُ به عمداً مُقلَّدَهُ ... لخرَّ جثمانُه ما فوقه شَعَرُ ) ( وما
يُقدِّم نفساً قبل مِيتَتِها ... جمعُ اليدين ولا الصَّمْصَامة الذكر ) متفرقات
من شعره وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال هجا
الفرزدق خالدا القسري وذكر المبارك النهر الذي حفره بواسط فبلغه ذلك وكتب خالد إلى
مالك بن المنذر أن احبس الفرزدق فإنه هجا نهر أمير المؤمنين بقوله ( وأهلكتَ
مالَ اللهِ في غير حقِّه ... على نهرك المشؤوم غير المُبَارك ) الأبيات
فأرسل مالك إلى أيوب بن عيسى الضبي فقال ائتني بالفرزدق فلم يزل يعمل فيه حتى أخذه
فطلب إليهم أن يمروا به على بني حنيفة فقال الفرزدق ما زلت أرجو أن أنجو حتى جاوزت
بني حنيفة فلما قيل لمالك هذا الفرزدق انتفخ وريد مالك غضبا فلما أدخل عليه قال ( أقول
لنفسي حين غصَّت بريقها ... ألا ليتَ شعري ما لها عند مالكِ ) ( لها
عنده أن يَرجِعَ اللهُ رُوحَها ... إليها وتنجو من جميع المهالك ) ( وأنت
ابنُ حَبَّارَيْ ربيعةَ أدركت ... بك الشمس والخضراءَ ذاتَ الحبائك ) فسكن
مالك وأمر به إلى السجن فقال يهجو أيوب بن عيسى الضبي ( فلو
كنتَ قَيْسيًّا إذاً ما حبستِني ... ولكنَّ زنجيًّا غليظاً مشافِرُه ) ( مَتَتُّ
له بالرِّحْم بَيْني وبينه ... فألفيتُه مني بَعيداً أواصِرُه ) ( وقلت
امرؤ من آل ضبةَ فاعتزى ... لغيرهم لونُ استِه ومَحاجِرُه ) ( فسوف
يرى النوبيّ ما اجترحَت له ... يَدَاه إذا ما الشِّعر عَيَّتْ نَوَافره ) ( ستُلقِي
عليك الخنفساء إذا فست ... عليك من الشعر الذي أنت حاذِرُه ) ( وتأتي
ابن زُبِّ الخنفساء قصيدةٌ ... تكون له مني عَذاباً يُباشِره ) ( تعذرت
يابن الخنفساء ولم تكن ... لتُقْبَلَ لابْنِ الخنفساء معاذرُه ) ( فإنكما
يا بني يسار نزوْتما ... على ثفرها ما حنّ للزيت عاصره ) ( لزِنجيَّة
بظراءَ شقق بظرَها ... زحيرٌ بأيوبٍ شديدٌ زوافره ) ثم
مدح خالد بن عبد الله ومالك بن المنذر وهو محبوس مديحا كثيرا فأنشدني يونس في كلمة
له طويلة ( يا مالِ هل هو مُهلكي ما لم أقل
... وليُعلَمَنَّ من القصائد قيلي ) ( يا
مالِ هل لك في كبير قد أتَتْ ... تسعون فوق يديه غير قليل ) ( فتجيرَ
ناصِيَتي وتُفْرجَ كُربتِي ... عني وتطلقَ لي يداك كُبُولِي ) ( ولقد
بنى لكم المُعَلَّى ذِروةً ... رَفعتْ بناءك في أشَمَّ طويلِ ) ( والخيلُ
تعلم في جَذِيمة أنها ... تَرْدَى بكل سَميدَعٍ بهلُول ) ( فاسقُوا
فقد ملأَ المعلّى حوضَكم ... بذَنوبِ مُلتَهِم الرَّباب سجيل ) وقال
يمدح مالكا وكانت أم مالك هذا بنت مالك بن مسمع ( وقِرْمٍ
بين أولاد المُعلّى ... وأولاد المَسامَعةِ الكرامِ ) ( تخمَّط
في ربيعة بين بكر ... وعبد القيس في الحسب اللُّهام ) فلما
لم تنفعه مديحة مالك قال يمدح هشام بن عبد الملك ويعتذر إليه ( أِلكْني
إلى رَاعِي البريَّةِ والذي ... له العَدلُ في الأرض العريضة نوّرا ) ( فإِن
تُنكروا شعرِي إذاً خرجت له ... بوادرُ لو يُرمَى بها لتَفَقَّرا ) ( ثبير
ولو مست حِرَاء لحرّكت ... به الراسيات الصُّمَّ حتى تكوّرا ) ( إذا
قال غاوٍ من مَعَدٍّ قصيدةً ... بها حَرَبٌ كانت وبالاً مُدمرّا ) ( أينطِقُها
غيري وأُرمَى بجُرمها ... فكيف أَلوم الدّهرَ أن يتغيّرا ) ( لئن
صَبَرتْ نفسِي لقد أُمِرت به ... وخيرُ عباد الله من كان أصبرا ) ( وكنت
ابنَ أحْذارٍ ولو كنتُ خائفاً ... لكنت من العصماء في الطود أحذرا )
( ولكنْ أتوْني آمناً لا أخافهم ...
نهاراً وكان اللهُ ما شاء قدَّرا ) أخبرني
أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى قال قال الفرزدق لابنه لبطة وهو
محبوس أشخص إلى هشام وامدحه بقصيدة وقال استعن بالقيسية ولا يمنعك قولي فيهم فإنهم
سيغضبون لك وقال ( بكت
عينُ محزونٍ ففاض سجامُها ... وطالت ليالي ساهر لا ينامُها ) ( فإن
تبك لا تبك المصيبات إِذ أَتَى ... بها الدهر والأيام جَمٌّ خِصامُها ) ( ولكنما
تبكي تَهتّكَ خالد ... محارمَ مِنّا لا يحل حَرامُها ) ( فقُل
لبني مروان ما بال ذمَّة ... وحرمَةِ حَقٍّ ليس يُرْعى ذمامُها ) ( أنُقْتَل
فيكم أن قَتَلْنا عدوَّكُم ... على دينكم والحرب باقٍ قتامُها ) ( أتاك
بقتل ابن المُهَلَّب خالدٌ ... وفينا بَقيّاتُ الهدى وإمامها ) أقسام
الكتاب 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28
29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 الصفحة
الرئيسية حول الموقع اتصل بنا ترجمات القران أعلى الصفحة ISLAMICBOOK.WS © 2022 | جميع
الحقوق متاحة لجميع المسلمين كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أخبرني عمر بن عبد
الله بن شبة عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام
عن محمد بن عمران عن عقبة بن سلم أن أبا جعفر دعاه فسأله عن اسمه ونسبه فقال أنا
عقبة بن سلم بن نافع بن الأزدهاني قال إني أرى لك هيئة وموضعا وإني لأريدك لأمر
أنا به معني قال أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين قال فأخف شخصك وائتني في يوم كذا
وكذا فأتيته فقال إن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا بملكنا ولهم شيعة بخراسان بقرية
كذا وكذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات وألطاف فاذهب حتى تأتيهم متنكرا بكتاب
تكتبه عن أهل تلك القرية ثم تسير ناحيتهم فإن كانوا نزعوا عن رأيهم علمت ذلك وكنت
على حذر منهم حتى تلقى عبد الله بن الحسن متخشعا وإن جبهك وهو فاعل فاصبر وعاوده
أبدا حتى يأنس بك فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل إلي ففعل ذلك وفعل به حتى أنس عبد
الله بناحيته فقال له عقبة الجواب فقال له أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد ولكن
أنت كتابي إليهم فأقرئهم السلام وأخبرهم أن ابني خارج لوقت كذا وكذا فشخص عقبة حتى
قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر بماذا أجاب أبا جعفر عندما سأله عن ابنيه أخبرني
العتكي عن عمر بن محمد بن يحيى بن الحارث بن إسحاق قال سأل أبو جعفر عبد الله بن
الحسن عن ابنيه لما حج فقال لا أعلم بهما حتى تغالظا فأمضه أبو جعفر فقال له يا
أبا جعفر بأي أمهاتي تمضني أبخديجة بنت خويلد أم بفاطمة نت رسول الله أم بفاطمة
بنت الحسين عليهم السلام أم بأم إسحاق بنت طلحة قال لا ولا بواحدة منهن ولكن
بالجرباء بنت قسامة فوثب المسيب بن زهير فقال يا أمير المؤمنين دعني أضرب عنق ابن الفاعلة
فقام زياد بن عبيد الله فألقى عليه رداءه وقال يا أمير المؤمنين هبه لي فأنا
المستخرج لك ابنيه فتخلصه منه قال ابن شبة وحدثني بكر بن عبد الله مولى أبي بكر عن
علي بن رباح أخي إبراهيم بن رباح عن صاحب المصلى قال إني لواقف على رأس أبي جعفر
وهو يتغدى بأوطاس وهو متوجه إلى مكة ومعه على مائدته عبد الله بن الحسن وأبو
الكرام الجعفري وجماعة من بني العباس فأقبل على عبد الله بن الحسن فقال يا أبا
محمد محمد وإبراهيم أراهما قد استوحشا من ناحيتي وإني لأحب أن يأنسا بي ويأتياني
فأصلهما وأزوجهما وأخلطهما بنفسي قال وعبد الله يطرق طويلا ثم يرفع رأسه ويقول
وحقك يا أمير المؤمنين مالي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم ولقد خرجا عن يدي
فيقول لا تفعل يا أبا محمد اكتب إليهما وإلى من يوصل كتابك إليهما قال وامتنع أبو
جعفر عن عامة غدائه ذلك اليوم إقبالا على عبد الله وعبد الله يحلف أنه لا يعرف
موضعهما وأبو جعفر يكرر عليه لا تفعل يا أبا محمد قال ابن شبة فحدثني محمد بن عباد
عن السندي بن شاهك أن أبا جعفر قال لعقبة بن سلم إذا فرغنا من الطعام فلحظتك فامثل
بين يدي عبد الله فإنه سيصرف بصره عنك فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ
عينيه منك ثم حسبك وإياك أن يراك ما دام يأكل ففعل ذلك عقبة فلما رآه عبد الله وثب
حتى جثا بين يدي أبي جعفر وقال يا أمير المؤمنين أقلني أقالك الله قال لا أقالني
الله إن أقلتك ثم أمر بحبسه قال ابن شبة فحدثني أيوب بن عمر عن محمد بن خلف
المخزومي قال أخبرني العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قال لما حج أبو
جعفر في سنة اربعين ومائة أتاه عبد الله وحسن ابنا حسن فإنهما وإياي لعنده وهو
مشغول بكتاب ينظر فيه إذ تكلم المهدي فلحن فقال عبد الله يا أمير المؤمنين ألا
تأمر بهذا من يعدل لسانه فإنه يفعل فعل الأمة فلم يفهم وغمزت عبد الله فلم ينتبه
وعاد لأبي جعفر فأحفظ من ذلك وقال له أين ابنك قال لا أدري قال لتأتيني به قال لو
كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه قال يا ربيع فمر به إلى الحبس توفي في محبسه
بالهاشمية أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن قال توفي عبد الله في
محبسه بالهاشمية وهو ابن خمس وسبعين سنة في سنة خمس وأربعين ومائة وهند التي عناها
عبد الله في شعره الذي فيه الغناء زوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن
الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى بن قصي وأمها قرينة بنت يزيد بن عبد الله
بن وهب بن زمعة ابن الأسود بن المطلب وكان أبو عبيدة جوادا وممدحا وكانت هند قبل
عبد الله بن الحسن تحت عبد الله بن عبد الملك بن مروان فمات عنها فأخبرني الحرمي
عن الزبير عن سليمان بن عياش السعدي قال لما توفي أبو عبيدة وجدت ابنته هند وجدا
شديدا فكلم عبد الله بن الحسن محمد بن بشير الخارجي أن يدخل على هند بنت أبي عبيدة
فيعزيها ويؤسيها عن أبيها فدخل معه عليها فلما نظر إليها صاح بأبعد صوته ( قومي
اضربي عينيك يا هندُ لن تَرَيْ ... أَباً مثلَه تسمُو إليه المَفاخِرُ ) ( وكنت
إذا أَسبَلْتِ فوقك والدا ... تَزِيني كما زان اليدين الأساورُ ) فصكت
وجهها وصاحت بحربها وجهدها فقال له عبد الله بن الحسن ألهذا دخلت فقال الخارجي
وكيف أعزي عن أبي عبيدة وأنا أعزى به أخبرني العتكي عن شبة قال حدثني عبد الرحمن
بن جعفر بن سليمان عن علي بن صالح قال زوج عبد الملك بن مروان ابنه عبد الله هند
بنت أبي عبيدة وريطة بنت عبد الله بن عبد المدان لما كان يقال إنه كائن في
أولادهما فمات عنهما عبد الله أو طلقهما فتزوج هندا عبد الله بن الحسن وتزوج ريطة
محمد بن علي فجاءت بأبي العباس السفاح أخبرني العتكي عن عمر بن شبة عن ابن داجة عن
أبيه قال لما مات عبد الله بن عبد الملك رجعت هند بميراثها منه فقال عبد الله ابن حسن
لأمه فاطمة اخطبي علي هندا فقالت إذا تردك أتطمع في هند وقد ورثت ما ورثته وأنت
ترب لا مال لك فتركها ومضى إلى أبي عبيدة أبي هند فخطبها إليه فقال في الرحب
والسعة أما مني فقد زوجتك مكانك لا تبرح ودخل على هند فقال يا بنية هذا عبد الله
بن حسن أتاك خاطبا قالت فما قلت له قال زوجته قالت أحسنت قد أجزت ما صنعت وأرسلت
إلى عبد الله لا تبرح حتى تدخل على أهلك قال فتزينت له فبات بها معرسا من ليلته
ولا تشعر أمه فأقام سبعا ثم أصبح يوم سابعه غاديا على أمه وعليه ردع الطيب وفي غير
ثيابه التي تعرف فقالت له يا بني من أين لك هذا قال من عند التي زعمت أنها لا
تريدني أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي عبد العزيز بن أحمد بن بكار قالا حدثنا الزبير
قال حدثتني ظبية مولاة فاطمة قالت كان جدك عبد الله بن مصعب يستنشدني كثيرا أبيات
عبد الله بن حسن ويعجب بها ( إنّ
عيني تعوَّدت كُحْل هِنْدٍ ... جَمَعتْ كَفُّها مع الرِّفق لِينا ) صوت
( يا عِيدُ مالكَ من شوقٍ وإيراقِ ... ومرِّ طَيْفٍ على الأهوال طَرَّاقِ ) ( يَسْرِي
على الأَيْنِ والحيَّات مُحْتفياً ... نفسي فِداؤُك من سارٍ على ساقِ ) عروضه
من البسيط العيد ما اعتاد الإنسان من هم أو شوق أو مرض أو ذكر والأين والأيم ضرب
من الحيات والأين الإعياء أيضا وروى أبو عمرو ( يا
عيد قلبُك من شوق وإيراق ... ) الشعر
لتأبط شرا والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى من رواية يحيى المكي وحبش وذكر
الهشامي أنه من منحول يحيى إلى ابن محرز أخبار تأبط شرا ونسبه هو ثابت بن جابر بن
سفيان بن عميثل بن عدي بن كعب بن حزن وقيل حرب بن تميم بن سعد بن فهم بن عمرو بن
قيس عيلان بن مضر بن نزار وأمه امرأة يقال لها أميمة يقال إنها من بني القين بطن
من فهم ولدت خمسة نفر تأبط شرا وريش بلغب وريش نسر وكعب جدر ولا بواكي له وقيل
إنها ولدت سادسا اسمه عمرو لقبه وسببه وتأبط شرا لقب لقب به ذكر الرواة أنه كان
رأى كبشا في الصحراء فاحتمله تحت إبطه فجعل يبول عليه طول طريقه فلما قرب من الحي
ثقل عليه الكبش فلم يقله فرمى به فإذا هو الغول فقال له قومه ما تأبطت يا ثابت قال
الغول قالوا لقد تأبطت شرا فسمي بذلك وقيل بل قالت له أمه كل إخوتك يأتيني بشيء
إذا راح غيرك فقال لها سآتيك الليلة بشيء ومضى فصاد أفاعي كثيرة من أكبر ما قدر
عليه فلما راح أتى بهن في جراب متأبطا له فألقاه بين يديها ففتحته فتساعين في بيتها
فوثبت وخرجت فقال لها نساء الحي ماذا أتاك به ثابت فقالت أتاني بأفاع في جراب قلن
وكيف حملها قالت تأبطها قلن لقد تأبط شرا فلزمه تأبط شرا حدثني عمي قال حدثني علي
بن الحسين بن عبد الأعلى عن أبي محلم بمثل هذه الحكاية وزاد فيها أن أمه قالت له
في زمن الكمأة ألا ترى غلمان الحي يجتنون لأهليهم الكمأة فيروحون بها فقال أعطيني
جرابك حتى أجتني لك فيه فأعطته فملأه لها أفاعي وذكر باقي الخبر مثل ما تقدم ومن
ذكر أنه إنما جاءها بالغول يحتج بكثرة أشعاره في هذا المعنى فإنه يصف لقاءه إياها
في شعره كثيرا فمن ذلك قوله ( فأَصبحت
الغُولُ لي جارةً ... فيا جارتا لك ما أَهولا ) ( فطالبتُها
بُضْعَها فالتوت ... عليَّ وحاولتُ أن أَفعلا ) ( فمن
كان يسأل عن جارتي ... فإنّ لها باللِّوى مَنْزِلاَ ) كان
أحد العدائين المعدودين أخبرني عمي عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال
نزلت على حي من فهم إخوة بني عدوان من قيس فسألتهم عن خبر تأبط شرا فقال لي بعضهم
وما سؤالك عنه أتريد أن تكون لصا قلت لا ولكن أريد أن أعرف أخبار هؤلاء العدائين
فأتحدث بها فقالوا نحدثك بخبره إن تأبط شرا كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين
وكان إذا جاع لم تقم له قائمة فكان ينظر إلى الظباء فينتقي على نظره أسمنها ثم
يجري خلفه فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه ثم يشويه فيأكله وإنما سمي تأبط شرا
لأنه فيما حكي لنا لقي الغول في ليلة ظلماء في موضع يقال له رحى بطان في بلاد هذيل
فأخذت عليه الطريق فلم يزل بها حتى قتلها وبات عليها فلما أصبح حملها تحت إبطه
وجاء بها إلى أصحابه فقالوا له لقد تأبطت شرا فقال في ذلك شعره في غول تأبطها (
تأَبَّط شرّاً ثم راح أو اغْتَدى ... تُوائم غُنْما أو يَشِيف على ذَخْل ) يوائم
يوافق ويشيف يقتدر وقال أيضا في ذلك ( ألا
مَنْ مُبلغٌ فِتيانَ فَهمٍ ... بما لاقيتُ عند رَحَى بطانِ ) ( وأنِّي
قد لقيتُ الغولَ تهوي ... بسَهْب كالصحيفة صحصحانِ ) ( فقلت
لها كلانا نِضْو أَيْنٍ ... أخو سفر فخلّي لي مكاني ) ( فشدَّت
شدَّةً نحوي فأَهْوَى ... لها كفّي بمصقولٍ يَماني ) ( فأَضربها
بلا دَهَشٍ فَخَرّت ... صريعاً لليدين وللجِرانِ ) ( فقالت
عُد فقلت لها رُوَيداً ... مكانَك إنني ثَبْتُ الجنانِ ) ( فلم
أنفكَّ مُتّكِئاً عليها ... لأنظر مُصبِحاً ماذا أتاني ) ( إذا
عينان في رأسٍ قبيح ... كرأس الهِرِّ مَشْقوق اللِّسانِ ) ( وساقا
مُخدجٍ وشواةُ كلْب ... وثوب من عَباءٍ أو شِنان ) أخبرنا
الحسين بن يحيى قال قرأت على حماد وحدثك أبوك عن حمزة ابن عتبة اللهبي قال قيل
لتأبط شرا هذه الرجال غلبتها فكيف لا تنهشك الحيات في سراك فقال إني لأسري البردين
يعني أول الليل لأنها تمور خارجة من حجرتها وآخر الليل تمور مقبلة إليها قال حمزة
ولقي تأبط شرا ذات يوم رجلا من ثقيف يقال له أبو وهب كان جبانا أهوج وعليه حلة
جيدة فقال أبو وهب لتأبط شرا بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت كما أرى دميم ضئيل قال
باسمي إنما أقول ساعة ما ألقى الرجل أنا تأبط شرا فينخلع قلبه حتى أنال منه ما
أردت فقال له الثقفي أقط قال قط قال فهل لك أن تبيعني اسمك قال نعم فبم تبتاعه قال
بهذه الحلة وبكنيتك قال له أفعل ففعل وقال له تأبط شرا لك اسمي ولي كنيتك وأخذ
حلته وأعطاه طمرية ثم انصرف وقال في ذلك يخاطب زوجة الثقفي ( ألا
هل أتى الحسناءَ أنّ حَلِيلَها ... تأبّط شَرّاً واكتنيتُ أبَا وَهْب ) ( فهبه
تَسمَّى اسْمي وسُمِّيتُ باسمِه ... فأَين له صبرِي على مُعْظَمِ الخطب ) ( وأين
له بأْسٌ كَبَأْسي وسَوْرتي ... وأين له في كل فادحةٍ قَلْبِي ) أحب
جارية وعجز عنها قال حمزة وأحب تأبط شرا جارية من قومه فطلبها زمانا لا يقدر عليها
ثم لقيته ذات ليلة فأجابته وأرادها فعجز عنها فلما رأت جزعه من ذلك تناومت عليه
فآنسته وهدأ ثم جعل يقول ( مالكَ
من أَيْرٍ سُلِبْتَ الخلّه ... عجَزْتَ عن جارية رِفَلّهْ ) ( تمشي
إليك مشيةً خوزلَّهْ ... كمشية الأَرخِ تريد العلّهْ ) الأرخ
الأنثى من البقر التي لم تنتج العلة تريد أن تعل بعد النهل أي أنها قد رويت
فمشيتها ثقيلة والعل الشرب الثاني ( لو
أنها راعِيةٌ في ثُلَّه ... تحمل قِلْعَين لها قبَلّه ) ( لصرتُ
كالهراوة العُتُلّهْ ... ) خبره
مع بجيلة أخبرني الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن أبي بركة الأشجعي
قال أغار تأبط شرا وهو ثابت بن العميثل الفهمي ومعه ابن براق الفهمي على بجيلة فأطردا
لهم نعما ونذرت بهما بجيلة فخرجت في آثارهما ومضيا هاربين في جبال السراة وركبا
الحزن وعارضتهما بجيلة في السهل فسبقوهما إلى الوهط وهو ماء لعمرو بن العاص
بالطائف فدخلوا لهما في قصبة العين وجاءا وقد بلغ العطش منهما إلى العين فلما وقفا
عليها قال تأبط شرا لابن براق أقل من الشراب فإنها ليلة طرد قال وما يدريك قال والذي
أعدو بطيره إني لأسمع وجيب قلوب الرجال تحت قدمي وكان من أسمع العرب وأكيدهم فقال
له ابن براق ذلك وجيب قلبك فقال له تأبط شرا والله ما وجب قط ولا كان وجابا وضرب
بيده عليه وأصاخ نحو الأرض يستمع فقال والذي أعدو بطيره إني لأسمع وجيب قلوب
الرجال فقال له ابن براق فأنا أنزل قبلك فنزل فبرك وشرب وكان أكل القوم عند بجيلة
شوكة فتركوه وهم في الظلمة ونزل ثابت فلما توسط الماء وثبوا عليه فأخذوه وأخرجوه
من العين مكتوفا وابن براق قريب منهم لا يطمعون فيه لما يعلمون من عدوه فقال لهم
ثابت إنه من أصلف الناس وأشدهم عجبا بعدوه وسأقول له استأسر معي فسيدعوه عجبه
بعدوه إلى أن يعدو من بين أيديكم وله ثلاثة أطلاق أولها كالريح الهابة والثاني
كالفرس الجواد والثالث يكبو فيه ويعثر فإذا رأيتم منه ذلك فخذوه فإني أحب أن يصير
في أيديكم كما صرت إذ خالفني ولم يقبل رأيي ونصحي له قالوا فافعل فصاح به تأبط شرا
أنت أخي في الشدة والرخاء وقد وعدني القوم أن يمنوا عليك وعلي فاستأسر وواسني بنفسك
في الشدة كما كنت أخي في الرخاء فضحك ابن براق وعلم أنه قد كادهم وقال مهلا يا
ثابت أيستأسر من عنده هذا العدو ثم عدا فعدا أول طلق مثل الريح الهابة كما وصف لهم
والثاني كالفرس الجواد والثالث جعل يكبو ويعثر ويقع على وجهه فقال ثابت خذوه فعدوا
بأجمعهم فلما أن نفسهم عنه شيئا عدا تأبط شرا في كتافه وعارضه ابن براق فقطع كتافه
وأفلتا جميعا فقال تأبط شرا قصيدته القافية في ذلك ( يا
عِيدُ مالكَ من شَوْقٍ وإبْراقِ ... ومَرّ طيفٍ على الأهوال طرَّاقِ ) ( يسري
على الأَيْن والحيّات محتفِياً ... نفسي فداؤُك من سارٍ على ساقِ ) ( طيْف
ابنة الحُرِّ إذ كنّا نواصلُها ... ثم اجْتُنِبْتُ بها من بعد تَفْراقِ ) ( لتَقرعِنَّ
عليَّ السِّنَّ من نَدَمٍ ... إذا تذكَّرتِ يوماً بعضَ أخلاقِي ) ( تالله
آمنُ أنثى بعدما حَلَفَتْ ... أسماءُ بالله من عهدٍ وميثاقِ ) ( ممزوجَةَ
الودِّ بينا واصلَتْ صَرَمَتْ ... الأوَّلُ اللَّذْ مَضَى والآخِر الباقِي ) ( فالأوَّلُ
اللَّذْ مضى قال مودَّتَها ... واللَّذُّ منها هُذاءٌ غير إحقاقِ ) ( تُعْطِيكَ
وعدَ أَمانيٍّ تَغُرُّ به ... كالقَطْر مَرَّ على صَخْبَانَ بَرّاق ) ( إنّي
إذا حُلَّةٌ ضَنَّتَ بنائلها ... وأَمْسَكَت بضعيف الحَبْل أحْذَاقِ ) ( نجوْتُ
منها نجائي من بجيلةَ إذ ... ألقيْتُ للقوم يوم الرّوع أرواقي ) وذكرها
ابن أبي سعيد في الخبر إلى آخرها وأما المفضل الضبي فذكر أن تأبط شرا وعمرو بن
براق والشنفرى وغيره يجعل مكان الشنفرى السليك بن السلكة غزوا بجيلة فلم يظفروا
منهم بغرة وثاروا إليهم فأسروا عمرا وكتفوه وأفلتهم الآخران عدوا فلم يقدروا
عليهما فلما علما أن ابن براق قد أسر قال تأبط شرا لصاحبه امض فكن قريبا من عمرو
فإني سأتراءى لهم وأطمعهم في نفسي حتى يتباعدوا عنه فإذا فعلوا ذلك فحل كتافه وانجوا
ففعل ما أمره به وأقبل تأبط شرا حتى تراءى لبجيلة فلما رأوه طمعوا فيه فطلبوه وجعل
يطمعهم في نفسه ويعدو عدوا خفيفا يقرب فيه ويسألهم تخفيف الفدية وإعطاءه الأمان
حتى يستأسر لهم وهم يجيبونه إلى ذلك ويطلبونه وهو يحضر إحضارا خفيفا ولا يتباعد
حتى علا تلعة أشرف منها على صاحبيه فإذا هما قد نجوا ففطنت لهما بجيلة فألحقتهما طلبا
ففاتاهم فقال يا معشر بجيلة أأعجبكم عدو ابن براق اليوم والله لأعدون لكم عدوا
أنسيكم به عدوه ثم عدا عدوا شديدا ومضى وذلك قوله ( يا
عِيدُ مالكَ من شَوْقٍ وإبْراقِ ... ) وأما
الأصمعي فإنه ذكر فيما أخبرني به ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عمه أن
بجيلة أمهلتهم حتى وردوا الماء وشربوا وناموا ثم شدوا عليهم فأخذوا تأبط شرا فقال
لهم إن ابن براق دلاني في هذا وإنه لا يقدر على العدو لعقر في رجليه فإن تبعتموه
أخذتموه فكتفوا تأبط شرا ومضوا في أثر ابن براق فلما بعدوا عنه عدا في كتافه ففاتهم
ورجعوا أخبرني الحرمي بن ابي العلاء قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا ابن الأثرم
عن أبيه وحدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو قالا كان تأبط شرا يعدو على رجليه وكان
فاتكا شديدا فبات ليلة ذات ظلمة وبرق ورعد في قاع يقال له رحى بطان فلقيته الغول
فما زال يقاتلها ليلته إلى أن أصبح وهي تطلبه قال والغول سبع من سباع الجن وجعل
يراوغها وهي تطلبه وتلتمس غرة منه فلا تقدر عليه إلى أن أصبح فقال تأبط شرا ( ألا
مَنْ مُبلغٌ فِتيانَ فَهمٍ ... بما لاقيتُ عند رَحَى بطانِ ) ( وبأنِّي
قد لقيتُ الغولَ تَهوي ... بسَهْبٍ كالصحيفة صَحصحانِ ) ( فقلت
لها كلانا نِضْو أَيْنِ ... أخو سَفَر فخَلَّي لي مكاني ) ( فشدَّت
شدَّةً نحوي فأَهْوَى ... لها كفّي بمصقولٍ يَماني ) ( فأَضربها
بلا دَهَشٍ فَخَرّت ... صريعاً لليدين وللجِرانِ ) ( فقالت
عُد فقلت لها رُوَيداً ... مكانَك إنني ثَبْتُ الجنانِ ) ( فلم
أنفكَّ مُتّكِئاً عليها ... لأنظرَ مُصبِحاً ماذا أتاني ) ( إذا
عينان في رأسٍ قبيحٍ ... كرأْس الهرِّ مشقوق اللِّسانِ ) ( وساقا
مُخْدِجٍ وشواةُ كلبٍ ... وثوبٌ من عَباءٍ أو شِنان ) غزا
بجيلة فقتل رجلا واستاق غنما قالوا وكان من حديثه أنه خرج غازيا يريد بجيلة هو
ورجل معه وهو يريد أن يغترهم فيصيب حاجته فأتى ناحية منهم فقتل رجلا ثم استاق غنما
كثيرة فنذروا به فتبعه بعضهم على خيل وبعضهم رجالة وهم كثير فلما رآهم وكان من
أبصر الناس عرف وجوههم فقال لصاحبه هؤلاء قوم قد عرفتهم ولن يفارقونا اليوم حتى
يقاتلونا أو يظفروا بحاجتهم فجعل صاحبه ينظر فيقول ما أتبين أحدا حتى إذ دهموهما
قال لصاحبه اشتد فإني سأمنعك ما دام في يدي سهم فاشتد الرجل ولقيهم تأبط شرا وجعل
يرميهم حتى نفدت نبله ثم إنه اشتد فمر بصاحبه فلم يطق شده فقتل صاحبه وهو ابن عم
لزوجته فلما رجع تأبط شرا وليس صاحبه معه عرفوا أنه قد قتل فقالت له امرأته تركت
صاحبك وجئت متباطئا فقال تأبط شرا في ذلك ( ألا
تِلكما عرسي منيعةُ ضُمِّنت ... من اللهِ إثماً مُستِسراًّ وعالِنا ) ( تقول
تركتَ صاحباً لك ضائعاً ... وجئت إلينا فارقاً مُتبَاطِنا ) ( إذا
ما تركتُ صاحبي لثلاثة ... أو اثْنَيْنِ مثْلَيْنا فلا أُبْتُ آمِنا ) ( وما
كنت أبّاء على الخِلّ إذ دعا ... ولا المرءِ يدعوني مُمِرّا مُداهِنا ) ( وكَرّي
إذا أُكْرِهتُ رهطاً وأَهلَه ... وأرضا يكون العَوْصُ فيها عُجاهِنَا ) ( ولمّا
سمعت العَوصَ تدعو تنفّرت ... عصافيرُ رأسي من غُواةٍ فَراتِنا )
( ولم أنتظر أن يَدهموني كأنهم ...
ورائيَ نَحْل في الخليّة واكِنَا ) ( ولا
أن تُصِيب النّافذاتُ مقاتلي ... ولم أَكُ بالشدِّ الذِليق مُداينا ) ( فأرسلتُ
مثنيّاً عن الشدّ واهِناً ... وقلتُ تزحزحْ لا تكوننّ حَائِنا ) ( وحثحثتُ
مشعوفَ النَّجاء كأنه ... هِجفّ رأى قصراً سِمالاً وداجنا ) ( من
الحُصِّ هِزْروفٌ يطير عِفاؤه ... إذا استدرج الفَيْفا ومَدَّ المغابنا ) ( أزجُّ
زَلوجٌ هذرفيٌّ زفازفٌ ... هِزَفٌّ يبذُّ الناجياتِ الصوَّافِنا ) ( فزحزحت
عنهم أو تجِئْني مَنِيَّتي ... بغبراءَ أو عرفاءَ تَفْري الدَّفائنا ) ( كأنّي
أراها الموتَ لا درّ دَرُّها ... إذا أمكنَتْ أنيابَها والبراثنا ) ( وقالت
لأخرى خلفها وبناتها ... حتوف تُنَقِّي مخّ مَنْ كان واهنا ) ( أخاليجُ
ورَّادٍ على ذي محافل ... إذا نزعوا مدّوا الدِّلا والشّواطنا ) وقال
غيره بل خرج تأبط شرا هو وصاحبان له حتى أغاروا على العوص من بجيلة فأخذوا نعما
لهم واتبعتهم العوص فأدركوهم وقد كانوا استأجروا لهم رجالا كثيرة فلما رأى تأبط
شرا ألا طاقة لهم بهم شمر وتركهما فقتل صاحباه وأخذت النعم وأفلت حتى أتى بني
القين من فهم فبات عند امرأة منهم يتحدث إليها فلما أراد أن يأتي قومه دهنته
ورجلته فجاء إليهم وهم يبكون فقالت له امرأته لعنك الله تركت صاحبيك وجئت مدهنا
وإنه إنما قال هذه القصيدة في هذا الشأن وقال تأبط شرا يرثيهما وكان اسم أحدهما
عمرا ( أبعد قتيل العَوْص آسَى على فتىً
... وصاحِبه أو يأمُلُ الزّادَ طارقُ ) ( أأطْرُد
فَهماً آخر الليل أبتغِي ... عُلالة يوم أن تَعُوقَ العوائق ) ( لَعَمرُ
فتًى نِلتم كأنّ رداءه ... على سرحةٍ من سرح دومة سامق ) ( لأطرُد
نَهْباً أو نرودَ بفِتْيةٍ ... بأيمانهم سُمْر القَنا والعقائق ) ( مَساعَرةٌ
شُعْثٌ كأنّ عيونهم ... حريقُ الغضا تُلفَى عليها الشّقائق ) ( فعُدُّوا
شهورَ الحُرْمِ ثم تعرّفوا ... قتيل أناسٍ أو فتاةً تعانقُ ) محاولة
قتله هو وأصحابه بالسم قال الأثرم قال أبو عمرو في هذه الرواية وخرج تأبط شرا يريد
أن يغزو هذيلا في رهط فنزل على الأحل بن قنصل - رجل من بجيلة - وكان بينهما حلف
فأنزلهم ورحب بهم ثم إنه ابتغى لهم الذراريح ليسقيهم فيستريح منهم ففطن له تأبط
شرا فقام إلى أصحابه فقال إني أحب ألا يعلم أنا قد فطنا له ولكن سابوه حتى نحلف
ألا نأكل من طعامه ثم أغتره فأقتله لأنه إن علم حذرني - وقد كان مالأ ابن قنصل رجل
منهم يقال له لكيز قتلت فهم أخاه - فاعتل عليه وعلى أصحابه فسبوه وحلفوا ألا
يذوقوا من طعامه ولا من شرابه ثم خرج في وجهه وأخذ في بطن واد فيه النمور وهي لا
يكاد يسلم منها أحد والعرب تسمي النمر ذا اللونين وبعضهم يسميه السبنتي فنزل في
بطنه وقال لأصحابه انطلقوا جميعا فتصيدوا فهذا الوادي كثير الأروى فخرجوا وصادوا وتركوه
في بطن الوادي فجاءوا فوجدوه قد قتل نمرا وحده وغزا هديلا فغنم وأصاب فقال تأبط
شرا في ذلك ( أقسمتُ
لا أنسى وإن طال عيشُنا ... صنيع لُكيْزٍ والأَحلّ بن قنصل ) ( نزلنا
به يوماً فساء صَبَاحُنا ... فإنك عَمْرِي قد ترى أيْ منزل ) ( بَكَى
إذ رآنا نازلين ببابه ... وكَيف بُكاءُ ذي القليل المُعَيَّل ) ( فلا
وأبيك ما نَزَلنا بعامرٍ ... ولا عامر ولا الرئيس ابن قَوقل ) - عامر
بن مالك هو أبو براء ملاعب الأسنة وعامر بن الطفيل وابن قوقل مالك بن ثعلبة أحد
بني عوف بن الخزرج - ( ولا
بالشّليل ربّ مروان قاعداً ... بأحسن عَيْش والنُّفاثيّ نوفَلِ ) - رب
مروان جرير بن عبد الله البجلي ونوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن يعمر أحد بني
الديل بن بكر - ( ولا
ابن وَهيب كاسب الحمد والعُلاَ ... ولا ابن ضُبَيْعٍ وسط آل المُخبَّلِ ) ( ولا
ابنِ حُلَيْسٍ قاعداً في لِقاحِهِ ... ولا ابن جُرَيٍّ وسط آل المغفَّلِ ) ( ولا
ابنِ رياحٍ بالزُّليفات دارُه ... رِياح بن سعد لا رياح بن مَعْقل ) ( أولَئِك
أعطَى للوَلائد خِلْفَةً ... وأَدْعَى إلى شحم السَّديف المُرَعْبَلِ ) نجاته
من موت محتم وقال أيضا في هذه الرواية كان تأبط شرا يشتار عسلا في غار من بلاد
هذيل يأتيه كل عام وأن هذيلا ذكرته فرصدوه لإبان ذلك حتى إذا جاء هو وأصحابه تدلى
فدخل الغار وقد أغاروا عليهم فأنفروهم فسبقوهم ووقفوا على الغار فحركوا الحبل
فأطلع تأبط شرا رأسه فقالوا اصعد فقال ألا أراكم قالوا بلى قد رأيتنا فقال فعلام
أصعد أعلى الطلاقة أم الفداء قالوا لا شرط لك قال فأراكم قاتلي وآكلي جناي لا
والله لا أفعل قال وكان قبل ذلك نقب في الغار نقبا أعده للهرب فجعل يسيل العسل من
الغار ويهريقه ثم عمد إلى الزق فشده على صدره ثم لصق بالعسل فلم يبرح ينزلق عليه
حتى خرج سليما وفاتهم وبين موضعه الذي وقع فيه وبين القوم مسيرة ثلاث فقال تأبط
شرا في ذلك ( أقول
للحيانٍ وقد صَفِرت لهم ... وِطابي ويَوْمي ضَيّق الحَجْر مُعوِرُ ) ( هما
خُطَّتا إما إسارٌ ومِنَّةٌ ... وإما دَمٌ والقَتْلُ بالحُرِّ أجدَرُ ) ( وأُخرى
أصادِي النّفسَ عنها وإنها ... لمورِدٌ حَزْم إن ظَفِرت ومَصدَرُ ) ( فرْشتُ
لها صدري فزَلَّ عن الصَّفا ... به جؤجؤٌ صَلْبٌ ومتنُ مُخصَّرُ ) ( فخالطَ
سهلَ الأرض لم يكدح الصَّفا ... به كَدْحَةً والموتُ خَزيانُ يَنْظُرُ ) ( فأُبْتُ
إلى فَهمٍ وما كُنتُ آئباً ... وكم مثلها فارقتُها وهي تَصْفِر ) ( إذا
المرء لم يَحْتلْ وقد جَدّ جِدّه ... أضاع وقاسَى أمرَه وهو مُدبِرُ ) ( ولكن
أَخُو الحَزْم الذي ليس نازلاً ... به الأمرُ إلا وهُو للحزم مُبْصِرُ ) ( فذاك
قَريعُ الدَّهر ما كان حوَّلا ... إذا سُدّ منه مَنْخِرٌ جاش مَنْخرُ ) ( فإنّك
لو قَايَسْت باللِّصب حِيلَتي ... بلُقْمان لم يُقصِر بي الدهر مُقْصِرُ ) قتل
هو وأصحابه نفرا من العوص وقال أيضا في حديث تأبط شرا إنه خرج في عدة من فهم فيهم
عامر ابن الأخنس والشنفرى والمسيب وعمرو بن براق ومرة بن خليف حتى بيتوا العوص وهم
حي من بجيلة فقتلوا منهم نفرا وأخذوا لهم إبلا فساقوها حتى كانوا من بلادهم على
يوم وليلة فاعترضت لهم خثعم وفيهم ابن حاجز وهو رئيس القوم وهم يومئذ نحو من
أربعين رجلا فلما نظرت إليهم صعاليك فهم قالوا لعامر بن الأخنس ماذا ترى قال لا
أرى لكم إلا صدق الضراب فإن ظفرتم فذاك وإن قتلتم كنتم قد أخذتم ثأركم قال تأبط
شرا بأبي أنت وأمي فنعم رئيس القوم أنت إذا جد الجد وإذا كان قد أجمع رأيكم على
هذا فإني أرى لكم أن تحملوا على القوم حملة واحدة فإنكم قليل والقوم كثير ومتى
افترقتم كثركم القوم فحملوا عليهم فقتلوا منهم في حملتهم فحملوا ثانية فانهزمت
خثعم وتفرقت وأقبل ابن حاجز فأسند في الجبل فأعجز فقال تأبط شرا في ذلك ( جَزَى
الله فِتياناً على العوْص أمطرت ... سَماؤُهُم تحت العَجاجة بالدَّم ) ( وقد
لاح ضَوءُ الفجر عَرْضاً كأنه ... بلَمْحته إقراب أبْلَق أدْهَم ) ( فإنَّ
شِفَاءَ الداء إدراك ذَحْلةٍ ... صباحاً على آثار حوم عَرَمْرَمِ ) ( وضاربْتُهم
بالسفحِ إذ عارَضَتْهُمُ ... قبائلُ من أبناء قسرٍ وخثعم ) ( ضِراباً
عَدَا منه ابنُ حاجز هارباً ... ذُرا الصَّخر في جوف الوجين المُديَّم ) وقال
الشنفري في ذلك ( دَعِيني
وقُولي بَعدُ ما شئتِ إنّنِي ... سَيُغدَى بنَعْشِي مرةً فأُغيَّب ) ( خرجنَا
فلم نعهد وقَلَّت وصاتنا ... ثمانيةٌ ما بعدها مُتعَتَّب ) ( سراحينُ
فتيانٍ كأن وُجوهَهم ... مصابيحُ أو لونٌ من الماء مذهبُ ) ( نَمُرُّ
برَهْو الماء صَفْحاً وقد طَوَتْ ... ثمائِلُنا والزّادُ ظَنٌّ مُغَيَّبُ ) ( ثلاثاً
على الأَقدام حتى سما بنا ... على العَوْص شَعْشَاعٌ من القوم مِحْرَبُ ) ( فثاروا
إلينا في السواد فَهجْهَجُوا ... وصَوَّت فينا بالصَّباح المُثوَّب ) ( فشنَّ
عليهم هِزَّةَ السيف ثابِتٌ ... وصَمَّم فيهم بالحُسام المُسيِّبُ ) ( وظَلْتُ
بفتيانٍ معي أتّقيهمُ ... بهنّ قليلا ساعة ثم جنبوا ) ( وقد
خَرّ منهم راجلان وفارسٌ ... كميّ صرعناه وحَوْم مسلّب ) ( يَشُقُّ
إليه كلّ رَبْعٍ وقَلْعَةٍ ... ثمانيةٌ والقوم رَجْلٌ ومِقْنبُ ) ( فلما
رآنا قومنا قيل أفلَحُوا ... فقلنا اسألوا عن قائل لا يُكَذَّبُ ) وقال
تأبط شرا في ذلك ( أرى
قدمَيَّ وقَعهُما خَفيفٌ ... كتحليل الظَّليم حَدَا رِئالَه ) ( أرى
بهما عذاباً كلّ يومٍ ... بخَثْعَم أو بَجِيلَةَ أو ثُمالَه ) ففرق
تأبط شرا أصحابه ولم يزالوا يقاتلونهم حتى انهزمت خثعم وساق تأبط شرا وأصحابه
الإبل حتى قدم بها عليا مكة وقال غيره إنما سمي تأبط شرا ببيت قاله وهو ( تأبط
شرًّا ثم راح أو اغتدَى ... يُوائِم غُنْماً أو يَشِيفُ على ذَحْل ) شعره
عندما هرب من مراد إلى قومه قال وخرج تأبط شرا يوما يريد الغارة فلقي سرحا لمراد
فأطرده ونذرت به مراد فخرجوا في طلبه فسبقهم إلى قومه وقال في ذلك ( إذا
لاقيتَ يومَ الصّدق فارْبَع ... عليه ولا يَهمّك يومُ سَوِّ ) ( على
أنِّي بِسَرْح بني مرادٍ ... شجوتهُم سِباقاً أيَّ شجوِ ) ( وآخر
مثله لا عيبَ فيه ... بَصَرتُ به ليوم غيرِ زوِّ ) ( خَفَضتُ
بساحةٍ تجري علينا ... أباريق الكرامة يومَ لَهْوِ ) أغار
تأبط شرا وحده على خثعم فبينا هو يطوف إذ مر بغلام يتصيد الأرانب معه قوسه ونبله
فلما رآه تأبط شرا أهوى ليأخذه فرماه الغلام فأصاب يده اليسرى وضربه تأبط شرا
فقتله وقال في ذلك ( وكادت
وبيتِ الله أطناب ثابت ... تقوّضُ عن لَيْلَى وتبكي النَّوائح ) ( تمنّى
فتىً منّا يلاقي ولم يَكد ... غلامٌ نَمَتهُ المُحْصنات الصَّرائِح ) ( غلام
نَمى فوق الخماسيِّ قدره ... ودون الذي قد تَرْتَجِيه النَّواكِحُ ) ( فإن
تك نالته خطاطِيف كفّه ... بأبيض قصّال نمى وهو فادح ) ( فقد
شد في إحدى يديه كِنانه ... يُداوَى لها في أسود القلب قادح ) - هذه
الأبيات أن تكون لقوم المقتول أشبه منها بتأبط شرا - خبره
مع امرأة من هذيل قال وخطب تأبط شرا امرأة من هذيل من بني سهم فقال لها قائل لا
تنكحيه فإنه لأول نصل غدا يفقد فقال تأبط شرا ( وقالوا
لها لا تَنكَحِيه فإنّه ... لأول نَصْلٍ أن يُلاقى مَجْمَعا ) ( فلم
تَرَ مِنْ رأيٍ فتيلاً وحاذرت ... تأَيّمها من لابس الليلِ أَرْوَعا ) ( قليلِ
غِرارِ النّوم أكبرُ هَمّه ... دَمُ الثّأر أو يلقى كَمِيا مُقَنَّعا ) ( قليلِ
ادِّخارِ الزَّادِ إلاّ تَعِلَّة ... وقد نَشَزَ الشُّرسُوفُ والتصق المِعَى ) ( تُناضِله
كلٌ يشجّع نفسَه ... وما طبُّه في طرْقه أن يُشجَّعا ) ( يبيت
بمغنى الوحش حتى ألفْنه ... ويصبح لا يحمي لها الدهرَ مرتعا ) ( رأين
فتىً لا صَيْدُ وحش يَهمّه ... فَلَوْ صافحت إنْسا لصافَحْنَه معا ) ( ولكنّ
أربابَ المخاض يشقّهم ... إذا افتقدوه أو رأوه مُشيّعا ) ( وإني
- ولا عِلمٌ - لأَعلَمُ أنني ... سألقَى سِنانَ الموت يرشُق أضلعا ) ( على
غِرّةٍ أو جَهْرةٍ من مُكاثِرٍ ... أطال نِزالَ الموت حتى تَسَعْسَعا ) - تسعسع
فني وذهب يقال قد تسعسع الشهر ومنه حديث عمر رضي الله عنه حين ذكر شهر رمضان فقال
إن هذا الشهر قد تسعسع ( وكنتُ
أظن الموت في الحي أو أرى ... أَلَذّ وأُكرَى أو أَمُوتَ مُقَنَّعا ) ( ولست
أبيتُ الدَّهر إلا على فتى ... أسلِّبه أو أُذعِرُ السِّرْبَ أجمَعَا ) ( ومن
يَضربُ الأبطالَ لا بدّ أنه ... سيَلْقى بهم من مَصْرع الموت مَصْرعا ) قال
وخرج تأبط شرا ومعه صاحبان له عمرو بن كلاب أخو المسيب وسعد بن الأشرس وهم يريدون
الغارة على بجيلة فنذروا بهم وهم في جبل ليس لهم طريق عليهم فأحاطوا بهم وأخذوا
عليهم الطريق فقاتلوهم فقتل صاحبا تأبط شرا ونجا ولم يكد حتى أتى قومه فقالت له
امرأته وهي أخت عمرو بن كلاب إحدى نساء كعب بن علي بن إبراهيم بن رياح هربت عن أخي
وتركته وغررته أما والله لو كنت كريما لما أسلمته فقال تأبط شرا في ذلك ( ألا
تِلكما عِرْسي مَنيعة ضُمِّنَت ... من الله خِزْياً مُسْتسرّاً وعاهنا ) وذكر
باقي الأبيات وإنما دعا امرأته إلى أن عيرته أنه لما رجع بعد مقتل صاحبيه انطلق
إلى امرأة كان يتحدث عندها وهي من بني القين بن فهم فبات عندها فلما أصبح غدا إلى
امرأته وهو مدهن مترجل فلما رأته في تلك الحال علمت أين بات فغارت عليه فعيرته غارته
على خثعم وذكروا أن تأبط شرا أغار على خثعم فقال كاهن لهم أروني أثره حتى آخذه لكم
فلا يبرح حتى تأخذوه فكفئوا على أثره جفنة ثم أرسلوا إلى الكاهن فلما رأى أثره قال
هذا ما لا يجوز في صاحبه الأخذ فقال تأبط شرا ( ألا
أبلغ بني فَهْم بن عمرو ... على طولِ التَّنائي والمقَالَهْ ) ( مقَال
الكاهن الجامِيّ لمّا ... رأى أثري وقد أُنهِبتُ مالَهْ ) ( رأى
قدمَيّ وقعُهما حثيثٌ ... كتحليل الظليم دعا رئاله ) ( أرى
بهما عذاباً كلَّ عام ... لخثعمَ أو بجيلةَ أو ثُمالهْ ) ( وشرٌّ
كان صُبَّ على هذيلٍ ... إذا علقت حِبالهمُ حِبالَه ) ( ويَومُ
الأزد منهم شرّ يوم ... إذا بَعُدوا فقد صَدَّقتُ قاله ) فزعموا
أن ناسا من الأزد ربئوا لتأبط شرا ربيئة وقالوا هذا مضيق ليس له سبيل إليكم من
غيره فأقيموا فيه حتى يأتيكم فلما دنا من القوم توجس ثم انصرف ثم عاد فنهضوا في
أثره حين رأوه لا يجوز ومر قريبا فطمعوا فيه وفيهم رجل يقال له حاجز ليث من ليوثهم
سريع فأغروه به فلم يلحقه فقال تأبط شرا في ذلك ( تَتعتعتُ
حِضْنَيْ حاجزٍ وصحابِه ... وقد نبذوا خُلقانَهم وتشنَّعوا ) ( أَظن
وإن صادفتُ وعثاً وأَنْ جرَى ... بِيَ السّهلُ أو متنٌ من الأرض مَهْيَعُ ) ( أُجارِي
ظلالَ الطير لو فات واحدٌ ... ولو صدقوا قالوا له هو أسرع ) ( فلو
كان من فتيان قيسٍ وخِنْدفٍ ... أَطاف به القُنَّاصُ من حيث أُفزِعوا ) ( وجاب
بلاداً نصفَ يومٍ وليلةٍ ... لآبَ إليهم وهو أَشوسُ أرْوَع ) ( فلو
كان منكم واحدٌ لكُفِيتُه ... وما ارتجعوا لو كان في القوم مطمع ) فأجابه
حاجز ( فإن تك جاريْتَ الظلال فربما ...
سُبِقْتَ ويومُ القِرْن عُريان أسْنَعُ ) ( وخلَّيْتَ
إخوان الصفاء كأنهم ... ذبائحُ عَنزٍ أو فَحِيلٌ مُصرَّع ) ( تبكيِّهمُ
شجوَ الحمامة بعدما ... أرحْتَ ولَم تُرْفَع لهم منك إصْبَع ) ( فهذي
ثلاثٌ قد حويت نجاتَها ... وإن تنجُ أخرى فهي عندك أربع ) خير
أيامه أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال ذكر علي بن محمد المدائني عن
ابن داب قال سئل تأبط شرا أي يوم مر بك خير قال خرجت حتى كنت في بلاد بجيلة أضاءت
لي النار رجلا جالسا إلى امرأة فعمدت إلى سيفي فدفنته قريبا ثم أقبلت حتى استأنست
فنبحني الكلب فقال ما هذا فقلت بائس فقال ادنه فدنوت فإذا رجل جلحاب آدم وإذا أضوى
الناس إلى جانبه فشكوت إليه الجوع والحاجة فقال اكشف تلك القصعة فأتيت قصعة إلى
جنب إبله فإذا فيها تمر ولبن فأكلت منه حتى شبعت ثم خررت متناوما فوالله ما شئت أن
أضطجع حتى اضطجع هو ورفع رجله على رجله ثم اندفع يغني وهو يقول ( خَيرُ
اللَّيالي إن سألت بليلة ... ليل بخيْمة بين بِيشَ وعَثّرِ ) ( لِضَجيعِ
آنسةٍ كأَنَّ حَدِيثَها ... شَهدٌ يُشابُ بمزجةٍ من عَنْبر ) ( وضجيعِ
لاهيةٍ أُلاعِب مِثلَها ... بيضاءَ واضحةٍ كَظِيظ المِئْزَرِ ) ( ولأَنْت
مثلُهما وخَيرٌ منهما ... بعد الرُّقاد وقبل أَن لم تُسْحِري ) قال
ثم انحرف فنام ومالت فنامت فقلت ما رأيت كالليلة في الغرة فإذا عشر عشراوات بين
أثلاث فيها عبد واحد وأمة فوثبت فانتضيت سيفي على كبده حتى أخرجته من صلبه ثم ضربت
فخذ المرأة فجلست فلما رأته مقتولا جزعت فقلت لا تخافي أنا خير لك منه قال وقمت
إلى جل متاعها فرحلته على بعض الإبل أنا والأمة فما حللت عقده حتى نزلت بصعدة بني
عوف بن فهر وأعرست بالمرأة هناك وحين اضجعت فتحت عقيرتي وغنيت ( بحَليلة
البجليّ بِتْ من ليلِها ... بين الإِزار وكَشْحِها ثم الصَقِ ) ( بأَنِيسةٍ
طُويت على مَطْويّها ... طيَّ الحمالةِ أو كطيّ المِنْطَقِ ) ( فإذا
تقوم فصَعدةٌ في رَمْلَة ... لَبَدَت برِيّق دِيمة لم تُغدِق ) ( وإذا
تجيءُ تجيء شحب خلفها ... كالأَيْم أصْعَد في كَثِيبٍ يَرْتَقِي ) ( كَذَب
الكوَاهِنُ والسَّواحِرُ والهُنا ... أن لا وفاء لعاجِزٍ لا يَتَّقِي ) قال
فهذا خير يوم لقيته وشر يوم لقيت أني خرجت حتى إذا كنت في بلاد ثمالة أطوف حتى إذا
كنت من الفقير عشيا إذا بسبع خلفات فيهن عبد فأقبلت نحوه وكأني لا أريده وحذرني فجعل
يلوذ بناقة فيها حمراء فقلت في نفسي والله إنه ليثق بها فأفوق له ووضع رجله في
أرجلها وجعل يدور معها فإذا هو على عجزها وأرميه حين أشرف فوضعت سهمي في قلبه فخر
وندت الناقة شيئا وأتبعتها فرجعت فسقتهن شيئا ثم قلت والله لو ركبت الناقة وطردتهن
وأخذت بعثنون الحمراء فوثبت فساعة استويت عليها كرت نحو الحي تريع وتبعتها الخلفات
وجعلت أسكنها وذهبت فلما خشيت أن تطرحني في أيدي القوم رميت بنفسي عنها فانكسرت
رجلي وانطلقت والذود معها فخرجت أعرج حتى انخنست في طرف كثيب وجازني الطلب فمكثت
مكاني حتى أظلمت وشبت لي ثلاثة أنوار فإذا نار عظيمة ظننت أن لها أهلا كثيرا ونار
دونها ونويرة صغيرة فهويت للصغرى وأنا أجمر فلما نبحني الكلب نادى رجل فقال من هذا
فقلت بائس فقال ادنه فدنوت وجلست وجعل يسائلني إلى أن قال والله إني لأجد منك ريح
دم فقلت لا والله ما بي دم فوثب إلي فنفضني ثم نظر في جعبتي فإذا السهم فقلت رميت
العشية أرنبا فقال كذبت هذا ريح دم إنسان ثم وثب إلي ولا أدفع الشر عن نفسي
فأوثقني كتافا ثم علق جعبتي وقوسي وطرحني في كسر البيت ونام فلما أسحرت حركت رجلي
فإذا هي صالحة وانفتل الرباط فحللته ثم وثبت إلى قوسي وجعبتي فأخذتهما ثم هممت
بقتله فقلت أنا ضمن الرجل وأنا أخشى أن أطلب فأدرك ولم أقتل أحدا أحب إلي فوليت
ومضيت فوالله إني لفي الصحراء أحدث نفسي إذا أنا به على ناقة يتبعني فلما رأيته قد
دنا مني جلست على قوسي وجعبتي وأمنته وأقبل فأناخ راحلته ثم عقلها ثم أقبل إلي
وعهده بي عهده فقلت له ويلك ما تريد مني فأقبل يشتمني حتى إذا أمكنني وثبت عليه
فما ألبثته أن ضربت به الأرض وبركت عليه أربطه فجعل يصيح يا لثمالة لم أر كاليوم
فجنبته إلى ناقته وركبتها فما نزعت حتى أحللته في الحي وقلت ( أغرّكَ
منّي يابنَ فَعْلة عِلَّتي ... عَشِيَّةَ أَن رابت عليَّ روائِبِي ) ( ومَوقد
نيران ثَلاثٍ فشَرُّهَا ... وألأَمُها إذ قُدْتُها غير عازِبِ ) ( سلبتَ
سِلاحِي بَائِساً وشَتَمْتَنِي ... فيا خَيْر مَسْلُوبٍ ويا شَرَّ سَالِبِ ) ( فإن
أَكُ لم أخْضِبك فيها فإنَّها ... نُيوبُ أساوِيد وشَوْل عَقارِب ) ( ويا
رَكْبة الحَمْراء شَرَّة رَكْبةٍ ... وكادَتْ تكون شَرّ ركبةِ راكبِ ) غارته
على الأزد قال وخرج تأبط غازيا يريد الغارة على الأزد في بعض ما كان يغير عليهم
وحده فنذرت به الأزد فأهملوا له إبلا وأمروا ثلاثة من ذوي بأسهم حاجزين أبي وسواد
بن عمرو بن مالك وعوف بن عبد الله أن يتبعوه حتى ينام فيأخذوه أخذا فكمنوا له
مكمنا وأقبل تأبط شرا فبصر بالإبل فطردها بعض يومه ثم تركها ونهض في شعب لينظر هل
يطلبه أحد فكمن القوم حين رأوه ولم يرهم فلما لم ير أحدا في أثره عاود الإبل فشلها
يومه وليلته والغد حتى أمسى ثم عقلها وصنع طعاما فأكله والقوم ينظرون إليه في ظله
ثم هيأ مضطجعا على النار ثم أخمدها وزحف على بطنه ومعه قوسه حتى دخل بين الإبل
وخشي أن يكون رآه أحد وهو لا يعلم ويأبى إلا الحذر والأخذ بالحزم فمكث ساعة وقد
هيأ سهما على كبد قوسه فلما أحسوا نومه أقبلوا ثلاثتهم يؤمون المهاد الذي رأوه
هيأه فإذا هو يرمي أحدهم فيقتله وجال الآخران ورمى آخر فقتله وأفلت حاجز هاربا وأخذ
سلب الرجلين وأطلق عقل الإبل وشلها حتى جاء بها قومه وقال تأبط في ذلك ( تُرَجَّى
نِساءُ الأَزْدِ طلعةَ ثابِتٍ ... أسِيراً ولم يَدْرِينَ كيف حَوِيلي ) ( فإنّ
الأُلي أَوْصَيْتُم بَيْن هارِبٍ ... طَرِيدٍ ومَسْفُوح الدِّماءِ قَتِيلِ ) ( وخدتُ
بهم حتى إذا طال وَخْدُهم ... ورابَ عليهم مَضْجَعِي وَمَقِيلِي ) ( مَهدتُ
لهم حتى إذا طاب رَوعُهم ... الى المَهْد خَاتلْت الضِّيا بِخَتِيل ) ( فلما
أحسُّوا النَّوم جاؤوا كأنَّهم ... سِباعٌ أَصابت هجمةٌ بِسَلِيلِ ) ( فَقلّدتُ
سَوَّارَ بنَ عَمْرو بنِ مَالِكٍ ... بأَسْمَر جَسْر القُذَّتَين طَمِيل ) ( فخَرَّ
كأَنَّ الفِيَل ألقى جِرانَه ... عليه بريّان القِواء أسيلِ ) ( وظل
رعاع المَتْن من وقع حاجِزٍ ... يخرُّ ولو نَهْنَهْتَ غَيْر قَلِيل ) ( لأبتَ
كما آبا ولو كُنتَ قَارِناً ... لجئتَ وما مالكتَ طول ذَمِيلِي ) ( فَسرَّكَ
نَدْمانَاك لمَّا تَتَابَعا ... وأنَّك لم تَرْجِع بعَوْص قَتِيلِ ) ( سَتأْتِي
إلى فَهْمٍ غَنِيمَةُ خلْسَة ... وفي الأزد نَوْحٌ وَيْلةٍ بِعَوِيلِ ) فقال
حاجز بن أبي الأزدي يجيبه ( سألت
فلم تُكلِّمني الرُّسوم ... ) وهي
في أشعار الأزد فأجابه تأبط شرا ( لقد
قال الخِليُّ وقال خَلْساً ... بظهر الليل شُدَّ به العُكومُ ) ( لِطَيفٍ
من ُسعادَ عَناك منها ... مُراعاةُ النُّجوم ومَنْ يَهِيمُ ) ( وتلك
لئن عُنِيتَ بها رَداحٌ ... من النّسوان مَنْطِقُها رَخِيمُ ) ( نِياقُ
القُرطِ غَرَّاءُ الثَّنايَا ... ورَيْداءُ الشَّباب ونِعْم خِيم ) ( ولكن
فاتَ صاحبُ بَطْن رَهْوٍ ... وصاحبه فأنتَ به زَعِيمُ ) ( أُؤاخِذُ
خُطَّة فيها سواء ... أَبِيتُ وَلَيلُ واترها نَؤُومُ ) ( ثأرتُ
به وما اقْتَرفَتْ يَدَاه ... فَظلَّ لها بنا يومٌ غَشُومُ ) ( نَحزُّ
رِقابَهم حتى نَزَعْنا ... وأنفُ المَوْتِ مَنْخِرُه رَمِيمُ ) ( وإن
تقع النّسورُ عليَّ يوْماً ... فلَحْم المْنِفي لَحْم كَريمُ ) ( وَذِي
رَحمٍ أحالَ الدَّهْر عنه ... فلَيْس له لذي رَحِمٍ حَرِيمُ ) ( أصاب
الدَّهْرُ آمنَ مَرْوَتَيْه ... فألقاه المصاحِب والحَمِيمُ ) ( مَددتُ
له يَميناً من جَناحي ... لها وَفرٌ وكافَيةٌ رَحُومُ ) ( أُواسيه
على الأَيَّام إني ... إذا قَعَدت به اللُّؤما أَلومُ ) رثاؤه
لأخيه عمرو ذكروا أنه لما انصرف الناس عن المستغل وهي سوق كانت العرب تجتمع بها
قال عمرو بن جابر بن سفيان أخو تأبط شرا لمن حضر من قومه لا واللات والعزى لا أرجع
حتى أغير على بني عتير من هذيل ومعه رجلان من قومه هو ثالثهما فأطردوا إبلا لبني
عتير فأتبعهم أرباب الإبل فقال عمرو أنا كار على القوم ومنهنهم عنكما فامضيا
بالإبل فكر عليهم فنهنهم طويلا فجرح في القوم رئيسا ورماه رجل من بني عتير بسهم
فقتله فقالت بنو عتير هذا عمرو بن جابر ما تصنعون أن تلحقوا بأصحابه أبعدها الله
من إبل فإنا نخشى أن نلحقهم فيقتل القوم منا فيكونوا قد أخذوا الثأر فرجعوا ولم
يجاوزوه وكانوا يظنون أن معه أناسا كثيرا فقال تأبط لما بلغه قتل أخيه ( وحرّمتُ
النساءَ وإن أُحِلَّت ... بشَور أو بمزج أو لِصابِ ) ( حياتي
أو أزور بني عُتَير ... وكاهلها بجَمْع ذي ضباب ) ( إذا
وَقَعت لكَعْب أو خثيمٍ ... وسيار يَسُوغ لها شَرابِي ) ( أَظُنّي
مَيِّتاً كَمِداً ولَمَّا ... أُطالِعْ طلعةً أهلَ الكِراب ) ( ودُمْتُ
مُسَيَّراً أهدِي رعيلا ... أؤم سوادَ طَوْدٍ ذِي نِقاب ) فأجابه
أنس بن حذيفة الهذلي ( لعلّك
أن تَجِيء بك المَنايَا ... تُساق لِفِتْية منا غضابِ ) ( فتنزلَ
في مَكَرِّهُم صريعاً ... وتنزلَ طُرْقةَ الضَّبعُ السّغابِ ) ( تأبَّطَ
سَوْأَةً وحملتَ شَرّاً ... لعلك أن تكون من المُصاب ) ثم
إن السمع بن جابر أخا تأبط شرا خرج في صعاليك من قومه يريد الغارة على بني عتير
ليثأر بأخيه عمرو بن جابر حتى إذا كان ببلاد هذيل لقي راعيا لهم فسأله عنهم فأخبره
بأهل بيت من عتير كثير مالهم فبيتهم فلم يفلت منهم مخبر واستاقوا أموالهم فقال في
ذلك السمع بن جابر ( بأعلى
ذي جماجم اهلُ دارٍ ... إذا ظَعنَت عشيرتُهم أقاموا ) ( طرقْتُهمُ
بفتيانٍ كِرامٍ ... مَساعِيرٍ إذا حَمِي المُقامُ ) ( متى
ما أدعُ من فَهْم تُجِبْني ... وعدوان الحماة لهم نظامُ ) أصابته
في غارته على الأزد ذكروا أن تأبط شرا خرج ومعه مرة بن خليف يريدان الغارة على
الأزد وقد جعلا الهداية بينهما فلما كانت هداية مرة نعس فجار عن الطريق ومضيا حتى
وقعا بين جبال ليس فيها جبل متقارب وإذا فيها مياه يصيح الطير عليها وإذا البيض
والفراخ بظهور الأكم فقال تأبط شرا هلكنا واللات يا مرة ما وطيء هذا المكان إنس
قبلنا ولو وطئته إنس ما باضت الطير بالأرض فاختر أية هاتين القنتين شئت وهما أطول
شيء يريان من الجبال فأصعد إحداهما وتصعد أنت الأخرى فإن رأيت الحياة فألح بالثوب
وإن رأيت الموت فألح بالسيف فإني فاعل مثل ذلك فأقاما يومين ثم إن تأبط شرا ألاح
بالثوب وانحدرا حتى التقيا في سفح الجبل فقال مرة ما رأيت يا ثابت قال دخانا أو
جرادا قال مرة إنك إن جزعت منه هلكنا فقال تأبط شرا أما أنا فإني سأخرم بك من حيث
تهتدي الريح فمكثا بذلك يومين وليلتين ثم تبعا الصوت فقال تأبط شرا النعم والناس أما
والله لئن عرفنا لنقتلن ولئن أغرنا لندركن فأت الحي من طرف وأنا من الآخر ثم كن
ضيفا ثلاثا فإن لم يرجع إليك قلبك فلا رجع ثم أغر على ما قبلك إذا تدلت الشمس
فكانت قدر قامة وموعدك الطريق ففعلاحتى إذا كان اليوم الثالث أغار كل واحد منهما
على ما يليه فاستاقا النعم والنغم وطردا يوما وليلة طردا عنيفا حتى أمسيا الليلة
الثانية دخلا شعبا فنحرا قلوصا فبينا هما يشويان إذ سمعا حسا على باب الشعب فقال
تأبط الطلب يا مرة إن ثبت فلم يدخل فقال مرة هلكنا ووضع تأبط شرا يده على عضد مرة
فإذا هي ترعد فهم مجيزون وإن دخل فهو الطلب فلم يلبث أن سمع الحسن يدخل فقال ما
أرعدت عضدك إلا من قبل أمك الوابشية من هذيل خذ بظهري فإن نجوت نجوت وإن قتلت
وقيتك فلما دنا القوم أخذ مرة بظهر تأبط وحمل تأبط فقتل رجلا ورموه بسهم فأعلقوه فيه
وأفلتا جميعا بأنفسهما فلما أمنا وكان من آخر الليل قال مرة ما رأيت كاليوم غنيمة
أخذت على حين أشرفنا على أهلنا وعض مرة عضده وكان الحي الذين أغاروا عليهم بجيلة
وأتى تأبط امرأته فلما رأت جراحته ولولت فقال تأبط في ذلك ( وبالشِّعب
إذ سدّت بجِيلةُ فَجَّةُ ... ومِن خَلفه هَضبٌ صغار وجامل ) ( شدَدْتُ
لنفس المرء مُرَّةَ حَزْمَه ... وقد نُصِبت دون النَّجاء الحبائل ) ( وقلت
له كن خلفَ ظهري فإنني ... سأفديك وأنظر بعدُ ما أنتَ فاعِل ) ( فعاذَ
بحدّ السيف صاحبُ أمرهم ... وَخَلَّوْا عن الشيء الذي لم يحاولوا ) ( وأخطأهم
قَتلِي ورفَّعتُ صاحبي ... على الليل لم تُؤخذ عليه المخاتلُ ) ( وأخطأ
غُنْم الحَيّ مُرَّة بعدما ... حوته إليه كفُّه والأناملُ ) ( يعض
على أطرافه كيف زَوْلُه ... ودون الملا سهلٌ من الأرض ماثل ) ( فقلت
له هذي بتلك وقد يَرَى ... لها ثَمَناً من نفسه ما يُزاول ) ( تُوَلْوِل
سُعدى أن أتيتُ مُجرَّحاً ... إليها وقد مَنَّت عليّ المَقاتلُ ) ( وكائِنْ
أتاها هارِباً قبل هذه ... ومن غَانمٍ فأين مِنْكِ الوَلاوِل ) أراد
هو وأصحابه الأخذ بثأر صاحبيهم فلما انقضت الأشهر الحرم خرج تأبط والمسيب بن كلاب
في ستة نفر يريدون الغارة على بجيلة والأخذ بثأر صاحبيهم عمرو بن كلاب وسعد بن
الأشرس فخرج تأبط والمسيب بن كلاب وعامر بن الأخنس وعمرو بن براق ومرة ابن خليف
والشنفرى بن مالك والسمع وكعب حدار ابنا جابر أخوا تأبط فمضوا حتى أغاروا على
العوص فقتلوا منهم ثلاثة نفر فارسين وراجلا وأطردوا لهم إبلا وأخذوا منهم امرأتين
فمضوا بما غنموا حتى إذا كانوا على يوم وليلة من قومهم عرضت لهم خثعم في نحو من
أربعين رجلا فيهم أبي بن جابر الخثعمي وهو رئيس القوم فقال تابط يا قوم لا تسلموا
لهم ما في أيديكم حتى تبلوا عذرا وقال عامر بن الأخنس عليكم بصدق الضراب وقد
أدركتم بثأركم وقال المسيب اصدقوا القوم الحملة وإياكم والفشل وقال عمرو بن براق
ابذلوا مهجكم ساعة فإن النصر عند الصبر وقال الشنفرى ( نحن
الصَّعالِيكُ الحُماةُ البُزَّلُ ... إذا لَقِينا لا نُرَى نُهَلّلُ ) وقال
مرة بن خليف ( يا
ثابتَ الخَيْر ويابنَ الأخنسِ ... ويابنَ بَرّاق الكَريمِ الأشْوس ) ( والشّنفَرى
عند حُيودِ الأنفسِ ... أنا ابن حَامِي السِّربِ في المغمِّس ) ( نحن
مساعِيرُ الحُروبِ الضُّرَّس ... ) وقال
كعب حدار أخو تأبط ( يا
قوم أَمَّا إذا لَقِيتم فاصْبِرُوا ... ولا تَخِيمُوا جزَعاً فتُدْبِروا ) وقال
السمع أخو تأبط ( يا
قوم كونوا عندها أَحْرار ... لا تُسلِموا العُونَ ولا البِكارا ) ( ولا
القَنَاعيسَ ولا العِشَارا ... لخَثْعمٍ وقد دَعَوْا غِرَارَا ) ( ساقوهُم
المَوْت معاً أحرارا ... وافتخِرُوا الدَّهْر بها افْتِخارا ) فلما
سمع تأبط مقالتهم قال بأبي أنتم وأمي نعم الحماة إذا جد الجد أما إذا أجمع رأيكم
على قتال القوم فاحملوا ولا تتفرقوا فإن القوم أكثر منكم فحملوا عليهم فقتلوا منهم
ثم كروا الثانية فقتلوا ثم كروا الثالثة فقتلوا فانهزمت خثعم وتفرقت في رؤوس
الجبال ومضى تأبط وأصحابه بما غنموا وأسلاب من قتلوا فقال تأبط في ذلك ( جَزَى
اللهُ فِتْياناً على العَوْصِ أشرقت ... سيوفهم تحت العَجاجَة بالدَّمِ ) الأبيات
وقال الشنفري في ذلك ( دَعِيني
وقُولي بعد ما شئتِ إنني ... سيُفدى بنَفْسي مَرَّةً فأُغيَّبُ ) الأبيات
وقال الشنفرى أيضا ( ألا
هل أَتَى عَنَّا سُعادَ ودُونَها ... مهامِهُ بِيدٍ تعْتَلي بالصعالِكِ ) ( بأَنَّا
صَبَحْنا القوم في حُرّ دارِهِم ... حِمامَ المنايا بالسُّيوف البَواتِك ) ( قَتَلْنا
بعمرو منهمُ خيْرَ فارس ... يزيدَ وسعدا وابنَ عوفٍ بمالك ) ( ظَلَلْنا
نُفَرِّي بالسّيوف رُؤُوسَهم ... ونَرشُقهم بالنَّبْل بين الدَّكَادِك ) كان
ضعيفا أمام النساء قال وخرج تأبط في سرية من قومه فيهم عمرو بن براق ومرة بن خليف
والمسيب بن كلاب وعامر بن الأخنس وهو رأس القوم وكعب حدار وريش كعب والسمع وشريس
بنو جابر إخوة تأبط شرا وسعد ومالك ابنا الأقرع حتى مروا ببني نفاثة بن الديل وهم
يريدون الغارة عليهم فباتوا في جبل مطل عليهم فلما كان في وجه السحر أخذ عامر بن
الأخنس قوسه فوجد وترها مسترخيا فجعل يوترها ويقول له تأبط بعض حطيط وترك يا عامر
وسمعه شيخ من بني نفاثة فقال لبنات له أنصتن فهذه والله غارة لبني ليث - وكان الذي
بينهم يومئذ متفاقما في قتل حميصة بن قيس أخي بلعاء وكانوا أصابوه خطأ - وكان بنو
نفاثة في غزوة والحي خلوف وليس عندهم غير أشياخ وغلمان لا طباخ بهم فقالت امرأة منهم
اجهروا الكلام والبسوا السلاح فإن لنا عدة فواللات ما هم إلا تأبط وأصحابه فبرزن
مع نوفل وأصحابه فلما بصر بهم قال انصرفوا فإن القوم قد نذروا بكم فأبوا عليه إلا
الغارة فسل تأبط سيفه وقال لئن أغرتم عليهم لاتكئن على سيفي حتى أنفذه من ظهري
فانصرفوا ولا يحسبون إلا أن النساء رجال حتى مروا بإبل البلعاء بن قيس بقرب
المنازل فأطردوها فلحقهم غلام من بني جندع بن ليث فقال يا عامر بن الأخنس أتهاب
نساء بني نفاثة وتغير على رجال بني ليث هذه والله إبل لبلعاء بن قيس فقال له عامر
أو كان رجالهم خلوفا قال نعم قال أقرىء بلعاء مني السلام وأخبره بردي إبله وأعلمه
أني قد حبست منها بكرا لأصحابي فإنا قد أرملنا فقال الغلام لئن حبست منها هلبة
لأعلمنه ولا أطرد منها بعيرا أبدا فحمل عليه تأبط فقتله ومضوا بالإبل إلى قومهم
فقال في ذلك تأبط ( ألا
عَجِب الفِتْيانُ من أمّ مالك ... تقول أراك اليوم أشعَثَ أغبرا ) ( تَبوعاً
لآثار السَّرِيَّة بعد ما ... رأيتُك بَرَّاق المَفارق أَيْسرا ) ( فقلتُ
له يَوْمان يَومُ إقامة ... أهزّ به غُصْناً من البانِ أخضَرا ) ( ويومٌ
أهزّ السَّيفَ في جيد أغيد ... له نِسوةٌ لم تلق مثلي أنكرا ) ( يخفن
عليه وهو ينزِع نفسَه ... لقد كنت أبّاء الظلامة قَسْورا ) ( وقد
صِحْت في آثار حَوْم كأنها ... عَذارَى عُقيل أو بَكارةُ حِمْيرا ) ( أبعد
النّفاثيّين آمل طرقةً ... وآسَى على شيء إذا هو أَدْبَرا ) ( أكفكِف
عنهم صُحْبَتِي وإخالهم ... من الذلّ يَعْراً بالتّلاعة أَعْفَرا ) ( فلو
نالت الكَفَّان أصحابَ نوفلٍ ... بمهمهةٍ من بطن ظَرْء فعَرْعَرَا ) ( ولمّا
أَبَى الليثيُّ إلا تَهَكُّما ... بِعرضي وكان العِرضُ عِرضي أوفرا ) ( فقلت
له حقَّ الثناءُ فإنّني ... سأذهب حتى لم أجد متأخًّرَا ) ( ولما
رأيتُ الجَهْلَ زادَ لَجاجةً ... يقول فلا يأْلوك أَن تَتَشَوَّرَا ) ( دنوت
له حتى كَأنَّ قَميصَه ... تَشرَّب من نضح الأَخادِع عُصْفُرا ) ( فمن
مُبلغٌ ليثَ بنَ بكرٍ بأنَّنا ... تركنا أخاهم يوم قِرْنٍ مُعَفَّرا ) قال
غزا تأبط بني نفاثة بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهم خلوف ليس في دارهم
رجل وكان الخبر قد أتى تأبط فأشرف فوق جبل ينظر إلى الحي وهم أسفل منه فرأته امرأة
فطرح نفسه فعلمت المرأة أنه تأبط وكانت عاقلة فأمرت النساء فلبسن لبسة الرجال ثم
خرجن كأنهن يطلبن الضالة وكان أصحابه يتفلتون ويقولون اغز وإنما كان في سرية من
بين الستة إلى السبعة فأبى أن يدعهم وخرج يريد هذيلا وانصرف عن النفاثيين فبينا هو
يتردد في تلك الجبال إذ لقي حليفا له من هذيل فقال له العجب لك يا تأبط قال وما هو
قال إن رجال بني نفاثة كانوا خلوفا فمكرت بك امرأة وأنهم قد رجعوا ففي ذلك يقول ( ألا
عَجِب الفِتْيانُ من أمّ مالك ... تقول لقد أصبحت أشعَثَ أغبرا ) وذكر
باقي الأبيات المتقدمة وقال غيره لا بل قال هذه القصيدة في عامر بن الأخنس الفهمي
وكان من حديث عامر بن الأخنس أنه غزا في نفر بضعة وعشرين رجلا فيهم عامر بن الأخنس
وكان سيدا فيهم وكان إذا خرج في غزو رأسهم وكان يقال له سيد الصعاليك فخرج بهم حتى
باتوا على بني نفاثة بن عدي بن الديل ممسين ينتظرون أن ينام الحي حتى إذا كان في
سواد الليل مر بهم راع من الحي قد أغدر فمعه غديرته يسوقها فبصر بهم وبمكانهم فخلى
الغديرة وتبع الضراء ضراء الوادي حتى جاء الحي فأخبرهم بمكان القوم وحيث رآهم
فقاموا فاختاروا فتيان الحي فسلحوهم وأقبلوا نحوهم حتى إذا دنوا منهم قال رجل من
النفاثيين والله ما قوسي بموترة فقالوا فأوتر قوسك فوضع قوسه فأوترها فقال تأبط
لأصحابه اسكتوا واستمع فقال أتيتم والله قالوا وما ذلك قال أنا والله أسمع حطيط
وتر قوس قالوا والله ما نسمع شيئا قال بلى والله إني لأسمعه يا قوم النجاء قالوا
لا والله ما سمعت شيئا فوثب فانطلق وتركهم ووثب معه نفر وبيتهم بنو نفاثة فلم يفلت
منهم إنسان وخرج هو وأصحابه الذين انطلقوا معه وقتل تلك الليلة عامر بن الأخنس قال
ابن عمير وسألت أهل الحجاز عن عامر بن الأخنس فزعموا أنه مات على فراشه فلما رجع
تأبط قالت له امرأته تركت أصحابك فقال حينئذ ( ألا
عَجِب الفِتْيانُ من أُمّ مالك ... تقول لقد أصبحْتَ أشعَثَ أغْبَرا ) مصرعه
على يد غلام فلما رجع تأبط وبلغه ما لقي أصحابه قال والله ما يمس رأسي غسل ولا دهن
حتى أثأر بهم فخرج في نفر من قومه حتى عرض لهم بيت من هذيل بين صوى جبل فقال
اغنموا هذا البيت أولا قالوا لا والله ما لنا فيه أرب ولئن كانت فيه غنيمة ما
نستطيع أن نسوقها فقال إني أتفاءل أن أنزل ووقف وأتت به ضبع من يساره فكرهها وعاف
على غير الذي رأى فقال أبشري أشبعك من القوم غدا فقال له أصحابه ويحك انطلق فوالله
ما نرى أن نقيم عليها قال لا والله لا أريم حتى أصبح وأتت به ضبع عن يساره فقال
أشبعك من القوم غدا فقال أحد القوم والله إني أرى هاتين غدا بك فقال لا والله لا
أريم حتى أصبح فبات حتى إذا كان في وجه الصبح وقد رأى أهل البيت وعدهم على النار
وأبصر سواد غلام من القوم دون المحتلم وغدوا على القوم فقتلوا شيخا وعجوزا وحازوا
جاريتين وإبلا ثم قال تأبط إني قد رأيت معهم غلاما فأين الغلام الذي كان معهم
فأبصر أثره فاتبعه فقال له أصحابه ويلك دعه فإنك لا تريد منه شيئا فاتبعه واستتر
الغلام بقتادة إلى جنب صخرة وأقبل تأبط يقصه وفوق الغلام سهما حين رأى أنه لا ينجيه
شيء وأمهله حتى إذا دنا منه قفز قفزة فوثب على الصخرة وأرسل السهم فلم يسمع تأبط
إلى الحبضة فرفع رأسه فانتظم السهم قلبه وأقبل نحوه وهو يقول لا بأس فقال الغلام
لا بأس والله لقد وضعته حيث تكره وغشيه تأبط بالسيف وجعل الغلام يلوذ بالقتادة
ويضربها تأبط بحشاشته فيأخذ ما أصابت الضربة منها حتى خلص إليه فقتله ثم نزل إلى
أصحابه يجر رجله فلما رأوه وثبوا ولم يدروا ما أصابه فقالوا مالك فلم ينطق ومات في
أيديهم فانطلقوا وتركوه فجعل لا يأكل منه سبع ولا طائر إلا مات فاحتملته هذيل
فألقته في غار يقال له غار رخمان فقالت ريطة أخته وهي يومئذ متزوجة في بني الديل ( نِعْم
الفَتَى غادَرْتُم برُخمانْ ... ثابتٌ بنُ جابرِ بنِ سُفْيانْ ) وقال
مرة بن خليف يرثيه ( إن
العَزِيمةَ والعَزَّاءَ قد ثَوَيا ... أكفانَ ميت غدا في غار رُخْمانِ ) ( إلاّ
يَكُن كُرسفٌ كُفِّنتَ جَيّدَه ... ولا يكن كَفَنٌ من ثَوْبِ كَتَّانِ ) ( فإن
حُرًّا من الأَنْسابِ ألبسه ... ريش الندى والندى من خير أَكفان ) ( وليلةٍ
رأسُ أفعاها إلى حجرٍ ... ويوم أورِ من الجوزاءِ رنَّانِ ) ( أمضيتَ
أولَ رهطٍ عند آخره ... في إثر عاديةٍ أو إثر فتيانِ ) وقالت
أم تأبط ترثيه ( وابناهُ
وابنَ اللَّيْل ... ) قال
أبو عمرو الشيباني لا بل كان من شأن تأبط وهو ثابت بن جابر بن سفيان وكان جريئا
شاعرا فاتكا أنه خرج من أهله بغارة من قومه يريدون بني صاهلة بن كاهل بن الحارث بن
سعيد بن هذيل وذلك في عقب شهر حرام مما كان يحرم أهل الجاهلية حتى هبط صدر أدم
وخفض عن جماعة بني صاهلة فاستقبل التلاعة فوجد بها دارا من بني نفاثة بن عدي ليس
فيها إلا النساء غير رجل واحد فبصر الرجل بتأبط وخشيه وذلك في الضحى فقام الرجل
إلى النساء فأمرهن فجعلن رؤوسهن جمما وجعلن دروعهن أردية وأخذن من بيوتهن عمدا
كهيئة السيوف فجعلن لها حمائل ثم تأبطنها ثم نهض ونهضن معه يغريهن كما يغري القوم
وأمرهن أن لا يبرزن خدا وجعل هو يبرز للقوم ليروه وطفق يغري ويصيح على القوم حتى
أفزع تأبط شرا وأصحابه وهو على ذلك يغري في بقية ليلة أو ليلتين من الشهر الحرام
فنهضوا في شعب يقال له شعب وشل وتأبط ينهض في الشعب مع أصحابه ثم يقف في آخرهم ثم يقول
يا قوم لكأنما يطردكم النساء فيصيح عليه أصحابه فيقولون انج أدركك القوم وتأبى
نفسه فلم يزل به أصحابه حتى مضى معهم فقال تأبط في ذلك ( أبعد
النّفاثيين أزجر طائرا ... وآسَى على شيء إذا هو أدبرا ) ( أُنهنهِ
رِجلِي عنهم وإخالهم ... من الذُّلِّ يعراً بالتَّلاعة أعفرا ) ( ولو
نالت الكَفَّان أصحابَ نوفل ... بمَهْمَهَة من بين ظَرْء وعرعرا ) قال
ثم طلعوا الصدر حين أصبحوا فوجدوا أهل بيت شاذ من بني قريم ذنب نمار فظل يراقبهم
حتى أمسوا وذلك البيت لساعدة بن سفيان أحد بني حارثة بن قريم فحصرهم تأبط وأصحابه
حتى أمسوا قال وقد كانت قالت وليدة لساعدة إني قد رأيت اليوم القوم أو النفر بهذا
الجبل فبات الشيخ حذرا قائما بسيفه بساحة أهله وانتظر تأبط وأصحابه أن يغفل الشيخ
وذلك آخر ليلة من الشهر الحرام فلما خشوا أن يفضحهم الصبح ولم يقدروا على غرة مشوا
إليه وغروه ببقية الشهر الحرام وأعطوه من مواثيقهم ما أقنعه وشكوا إليه الجوع فلما
اطمأن إليهم وثبوا عليه فقتلوه وابنا له صغيرا حين مشى قال ومضى تأبط شرا إلى ابن
له ذي ذؤابة كان أبوه قد أمره فارتبأ من وراء ماله يقال له سفيان بن ساعدة فأقبل
إليه تأبط شرا مستترا بمجنة فلما خشي الغلام أن يناله تأبط بسيفه وليس مع الغلام
سيف وهو مفوق سهما رمى مجن تأبط بحجر فظن تأبط أنه قد أرسل سهمه فرمى مجنة عن يده
ومشى إليه فأرسل الغلام سهمه فلم يخط لبته حتى خرج منه السهم ووقع في البطحاء حذو القوم
وأبوه ممسك فقال أبو الغلام حين وقع السهم أخاطئه سفيان فحرد القوم فذلك حين قتلوا
الشيخ وابنه الصغير ومات تأبط أمه ترثيه فقالت أمه - وكانت امرأة من بني القين بن
جسر بن قضاعة - ترثيه ( قتِيلٌ
ما قتيلُ بني قُرَيْمٍ ... إذا ضَنّت جُمادى بالقِطارِ ) ( فتى
فَهْمٍ جميعاً غادَرُوه ... مقيما بالحُرَيْضَةِ من نُمارِ ) وقالت
أمه ترثيه أيضا ( ويلُ
امِّ طِرف غادروا برُخْمانْ ... بثابت بن جابر بن سفيان ) ( يجدِّلُ
القِرنَ ويُروِي النَّدمانْ ... ذو مأْقِطٍ يحمي وراء الإِخوان ) وقالت
ترثيه أيضا وابناه وابن الليل ليس بزميل شروب للقيل رقود بالليل وواد ذي هول أجزت بالليل
تضرب بالذيل برجل كالثول قال وكان تأبط شرا يقول قبل ذلك ( ولقد
علمتُ لتعدُوَنَّ ... م عليّ شتْمٌ كالحساكل ) ( يأكلنَ
أوصالا ولحما ... كالشَّكاعِي غيرَ جاذِل ) ( يا
طيرُ كُلْنَ فإنني ... سُمٌّ لَكُنّ وذو دَغَاوِل ) وقال
قبل موته ( لعلي ميِّتٌ كمداً ولمَّا ...
أطالع أهلَ ضيم فالكرابِ ) ( وإن
لم آتِ جمع بني خُثيم ... وكاهلها برَجْل كالضّباب ) ( إذا
وقعتْ بكعب أو قُرَيْمٍ ... وسيَّارٍ فيا سَوْغَ الشّراب ) فأجابه
شاعر من بني قريم ( تأبَّطَ
سَوْأَةً وحملْتَ شرًّا ... لعلك أن تكون من المصاب ) ( لعلك
أن تجيءَ بك المنايا ... تُساقُ لفتيةٍ منا غِضاب ) ( فتُصْبحَ
في مَكَرِّهمُ صريعاً ... وتصبحَ طرفة الضَّبُعِ السِّغاب ) ( فزلتم
تهربون ولو كرهتم ... تسوقون الحَرائمَ بالنقاب ) ( وزال
بأرضكم منّا غلامٌ ... طليعةُ فتْيَةٍ غُلْبِ الرقاب ) ونذكر
هاهنا بعد أخبار تأبط شرا أخبار صاحبيه عمرو بن براق والشنفرى ونبدأ بما يغني فيه
من شعريهما ونتبعه بالأخبار فأما عمرو بن براق فمما يغني فيه من شعره قوله صوت (
متى تجمع القلبَ الذكيَّ وصارما ... وأنفا حَمِيَّا تجتنبْكَ المَظالِمُ ) ( وكنت
إذا قومٌ غَزوْني غَزَوتهم ... فهل أنا في ذا يا لَهَمدَانَ ظَالمِ ) ( كذبتُم
وبيتِ الله لا تأخذونها ... مراغمةً ما دام للسيف قائِم ) ( ولا
صُلْحَ حتى تعثُر الخَيلُ بالقَنا ... وتُضْرَبَ بالبِيضِ الرّقاقِ الجَماجِمُ ) عروضه
من الطويل الشعر لابن براق وقيل ابن براقة والغناء لمحمد ابن إسحاق بن عمرو بن
بزيع ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي عمرو بن براق أخبرني علي بن سليمان
الأخفش قال حدثنا السكري عن ابن حبيب قال وأخبرنا الهمداني ثعلب عن ابن الأعرابي
عن المفضل قالا سلب منه ماله ثم استرده فقال في ذلك أغار رجل من همدان يقال له
حريم على إبل لعمرو بن براق وخيل فذهب بها فأتى عمرو امرأة كان يتحدث إليها
ويزورها فأخبرها أن حريما أغار على إبله وخيله فذهب بها وأنه يريد الغارة عليه
فقالت له المرأة ويحك لا تعرض لتلفات حريم فإني أخافه عليك قال فخالفها وأغار عليه
فاستاق كل شيء كان له فأتاه حريم بعد ذلك يطلب إليه أن يرد عليه ما أخذه منه فقال
لا أفعل وأبى عليه فانصرف فقال عمرو في ذلك ( تقول
سُلَيمى لا تعَرَّضْ لتَلفةٍ ... وليلُك عن ليل الصعاليك نائمُ ) ( وكيف
ينامُ الليلَ من جُلّ مالِهِ ... حُسامٌ كلون المِلحِ أَبيضُ صارمُ ) ( صَمُوتٌ
إذا عضَّ الكريهةَ لم يَدَعْ ... لها طَمعاً طوعُ اليمينِ ملازمُ ) ( نَقدْتُ
به ألْفاً وسامحتُ دونه ... على النقدِ إذ لا تُستطاع الدراهمُ ) ( ألم
تَعلمي أنَّ الصعاليكَ نومُهم ... قليلٌ إذا نام الدَّثُور المُسالِمُ ) ( إذا
الليل أدجى واكفهرّت نجومه ... وصاح من الإِفراط هامٌ جوائم ) ( ومال
بأصحاب الكرى غالباتُه ... فإني على أمر الغَواية حازم ) ( كذبتم
وبيتِ الله لا تأخذونها ... مُراغمةً ما دام للسيف قائمُ ) ( تَحالفَ
أقوامٌ عليّ ليسمَنُوا ... وجروا عليَّ الحَرْبَ إذا أَنَا سَالِمُ ) ( أَفَالآن
أُدْعَى للهَوادة بعدما ... أُجِيل على الحيّ المَذاكِي الصَّلادُمُ ) ( كأنَّ
حُريماً إذ رجا أن يَضُمَّها ... ويُذْهِبَ مالي يابنَة القوم حالِمُ ) ( متى
تجمع القلبَ الذَّكِيَّ وصارِماً ... وأنفاً حَمِيَّاً تَجْتَنِبْكَ المظالِمُ ) ( ومَن
يَطلبِ المالَ المُمَنَّع بالقَنَا ... يَعِشْ ذا غِنىً أو تَخْتَرِمْه المَخارِمُ ) ( وكنتُ
إذا قومُ غَزونِي غزَوْتُهم ... فهل أنا في ذا يا لَهَمْدان ظالمُ ) ( فلا
صُلْح حتى تعثر الخيل بالقنا ... وتُضْرب بالبِيض الرِّقاقِ الجَماجِمُ ) وأما
الشنفرى فإنه رجل من الأزد ثم من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد ومما يغنى فيه
من شعره قوله صوت ( أَلا أُمِّ عَمْروٍ أزمعت فاستقَلَّت ... وما ودَّعت جِيرانها
إذ تولَّتِ ) ( فوانَدَما بانَتْ أُمامةُ بعدما
... طَمِعْتُ فهَبْها نِعْمَةً قد تولَّتِ ) ( وقد
أعجَبتْنِي لا سَقُوطاً خِمارُها ... إذا ما مشَت ولا بذاتِ تَلَفُّتِ ) غنى
في هذه الأبيات إبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة أخبار الشنفرى ونسبه نشأ
في غير قومه وأخبرني بخبره الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا أبو يحيى المؤدب وأحمد
ابن أبي المنهال المهلبي عن مؤرخ عن أبي هشام محمد بن هشام النميري أن الشنفرى كان
من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد بن الغوث أسرته بنو شبابة بن فهم بن عمرو بن
قيس بن عيلان فلم يزل فيهم حتى أسرت بنو سلامان بن مفرج بن عوف بن ميدعان بن مالك
بن الأزد رجلا من فهم أحد بني شبابة ففدته بنو شبابة بالشنفرى قال فكان الشنفرى في
بني سلامان بن مفرج لا تحسبه إلا أحدهم حتى نازعته بنت الرجل الذي كان في حجره
وكان السلامي اتخذه ولدا وأحسن إليه وأعطاه فقال لها الشنفرى اغسلي رأسي يا أخية
وهو لا يشك في أنها أخته فأنكرت أن يكون أخاها ولطمته فذهبت مغاضبا حتى أتى الذي
اشتراه من فهم فقال له الشنفرى اصدقني ممن أنا قال أنت من الأواس بن الحجر فقال
أما إني لن أدعكم حتى أقتل منكم مائة بما استعبدتموني ثم إنه ما زال يقتلهم حتى قتل
تسعة وتسعين رجلا وقال الشنفرى للجارية السلامية التي لطمته وقالت لست بأخي ( أَلا
ليتَ شِعْري والتَّلَهُّفُ ضَلّةٌ ... بما ضَربتْ كَفُّ الفتاة هَجِينَها ) ( ولو
علمت قُعسوسُ أنساب والدي ... ووالدِها ظَلّت تقاصَرُ دونها ) ( أنا
ابن خيار الحُجْر بيتا ومَنْصِبا ... وأمي ابنةُ الأحرار لو تَعْرِفينها ) قال
ثم لزم الشنفرى دار فهم فكان يغير على الأزد على رجليه فيمن تبعه من فهم وكان يغير
وحده أكثر من ذلك وقال الشنفري لبني سلامان ( وإني
لأهوَى أن أَلُفُّ عجَاجتي ... على ذي كساء من سَلامانَ أَو بُرد ) ( وأصبحَ
بالعضْدَاء أبغي سَراتَهم ... وأسلكَ خَلاًّ بين أَرباع والسّرد ) فكان
يقتل بني سلامان بن مفرج حتى قعد له رهط من الغامديين من بني الرمداء فأعجزهم
فأشلوا عليه كلبا لهم يقال له حبيش ولم يضعوا له شيئا ومر وهو هارب بقرية يقال لها
دحيس برجلين من بني سلامان بن مفرج فأرادهما ثم خشي الطلب فقال ( قتيلَيْ
فِجارٍ أنتُما إن قُتِلتُما ... بجوف دَحِيس أو تبالةَ يا اسمعا ) يريد
يا هذان اسمعا وقال فيما كان يطالب به بني سلامان ( فإلا
تزرني حَتْفتي أو تُلاقني ... أُمشِّ بدَهْرٍ أو عذافَ فنوَّرا ) ( أمشي
بأطراف الحماطِ وتارةً ... تُنفَّضُ رجلي بَسْبُطاً فعَصَنْصَرا ) ( وأبغي
بني صَعب بن مُرٍّ بلادَهم ... وسوف أُلاقيهم انِ اللهُ يسّرا ) ( ويوما
بذاتِ الرَّأس أو بطن مِنجَلٍ ... هنالك تَلْقى القاضيَ المُتِغَوِّرا ) سملوا
عينه ثم قتلوه قال ثم قعد له بعد ذلك أسيد بن جابر السلاماني وخازم الفهمي بالناصف
من أبيدة ومع أسيد ابن أخيه فمر عليهم الشنفرى فأبصر السواد بالليل فرماه وكان لا
يرى سوادا إلا رماه كائنا ما كان فشك ذراع ابن أخي أسيد إلى عضده فلم يتكلم فقال
الشنفري إن كنت شيئا فقد أصبتك وإن لم تكن شيئا فقد أمنتك وكان خازم باطحا يعني
منبطحا بالطريق يرصده فنادى أسيد يا خازم أصلت يعني اسلل سيفك فقال الشنفري لكل
أصلت فأصلت الشنفري فقطع أصبعين من أصابع خازم الخنصر والبنصر وضبطه خازم حتى لحقه
أسيد وابن أخيه نجدة فأخذ أسيد سلاح الشنفرى وقد صرع الشنفري خازما وابن أخي أسيد
فضبطاه وهما تحته وأخذ أسيد برجل ابن أخيه فقال أسيد رجل من هذه فقال الشنفري رجلي
فقال ابن أخي أسيد بل هي رجلي يا عم فأسروا الشنفرى وأدوه إلى أهلهم وقالوا له أنشدنا
فقال إنما النشيد على المسرة فذهبت مثلا ثم ضربوا يده فتعرضت أي اضطربت فقال
الشنفرى في ذلك ( لا
تَبْعَدِي إمّا ذَهَبْتِ شامَهْ ... فرُبَّ وادٍ نَفَرَتْ حَمامَه ) ( ورُبَّ
قِرْنٍ فَصَلتْ عِظَامَهْ ... ) ثم
قال له السلامي أأطرفك ثم رماه في عينه فقال الشنفرى له كأن كنا نفعل أي كذلك كنا
نفعل وكان الشنفرى إذا رمى رجلا منهم قال له أأطرفك ثم يرمي عينه ثم قالوا له حين
أرادوا قتله أين نقبرك فقال ( لا
تَقبُرونِي إنّ قَبرِي مُحرَّم ... عليكم ولكن أبشِرِي أُمَّ عامر ) ( إذا
احْتَمَلَتْ رأسي وفي الرأس أكثَرِي ... وغُودِرَ
عند المُلْتَقَى ثَمّ سائِرِي ) ( هنالك
لا أرجو حياةً تَسُرُّني ... سَمِيرَ الليالي مُبْسَلاً بالحَرَائرِ ) تأبط
شرا يرثيه وقال تأبط شرا يرثي الشنفري ( على
الشَّنْفَرَى ساري الغمام ورائحٌ ... غزيرُ الكُلى وَصَيِّبُ الماء باكرُ ) ( عليك
جزاءٌ مثلُ يومِكَ بالجَبَا ... وقد أُرعِفتْ منك السُّيوفُ البواتر ) ( ويومِكَ
يوم العَيْكَتَيْن وعطفةٍ ... عطفتَ وقد مَسَّ القلُوبَ الحناجِرُ ) ( تجول
ببز الموت فيهم كأنهم ... بشوكتك الحُدّى ضَئِينٌ نوافرُ ) ( فإنك
لو لاقيتني بعدما ترى - ... وهل يُلقَيْن مَنْ غَيَّبته المقابر - ) ( لألفيتني
في غارة أنتمي بها ... إليك وإمّا راجعاً أنا ثائِرُ ) ( وإن
تكُ مأْسوراً وظلْت مُخَيِّماً ... وأبْليت حتى ما يكيدك واتِرُ ) ( وحتى
رماك الشَّيْبُ في الرأس عانسا وخيرُك مبسوطٌ وزادك حاضرُ ... ) ( وأجملُ
موتِ المرء إذ كان ميتا ... - ولا بد يوماً - مَوتُه وهو صابر ) ( فلا
يَبعَدنّ الشَّنْفَري وسِلاحُه الْحَديدُ ... وَشدَّ خَطْوُه متواتر ) ( إذا
راع رَوْعُ الموت راع وإن حَمَى ... حَمَى معه حُرٌّ كريم مُصابِرُ ) خبر
آخر عن سبب أسره ومقتله قال وقال غيره لا بل كان من أمر الشنفري وسبب أسره ومقتله
أن الأزد قتلت الحارث بن السائب الفهمي فأبوا أن يبوءوا بقتله فباء بقتله رجل منهم
يقال له حزام بن جابر قبل ذلك فمات أخو الشنفري فأنشأت أمه تبكيه فقال الشنفري
وكان أول ما قاله من الشعر ( ليس
لوالدة هوءُها ... ولا قولُها لابنها دَعْدَعْ ) ( تُطيف
وتُحدِث أحوالَه ... وغيْرُكِ أملكُ بالمَصْرَع ) قال
فلما ترعرع الشنفري جعل يغير على الأزد مع فهم فيقتل من أدرك منهم ثم قدم منى وبها
حزام بن جابر فقيل له هذا قاتل أبيك فشد عليه فقتله ثم سبق الناس على رجليه فقال ( قتلتُ
حزاماً مُهْدِياً بمُلَبَّدٍ ... ببطن مِنىً وسْط الحجيج المُصَوّتِ ) قال
ثم إن رجلا من الأزد أتى أسيد بن جابر وهو أخو حزام المقتول فقال تركت الشنفرى
بسوق حباشة فقال أسيد بن جابر والله لئن كنت صادقا لا نرجع حتى نأكل من جنى أليف
أبيدة فقعد له على الطريق هو وابنا حزام فأحسوه في جوف الليل وقد نزع نعلا ولبس
نعلا ليخفي وطأه فلما سمع الغلامان وطأه قالا هذه الضبع فقال أسيد ليست الضبع
ولكنه الشنفرى ليضع كل واحد منكما نعله على مقتله حتى إذا رأى سوادهم نكص مليا
لينظر هل يتبعه أحد ثم رجع حتى دنا منهم فقال الغلامان أبصرنا فقال عمهما لا والله
ما أبصركما ولكنه أطرد لكيما تتبعاه فليضع كل واحد منكما نعله على مقتله فرماهم
الشنفري فخسق في النعل ولم يتحرك المرمي ثم رمى فانتظم ساقي أسيد فلما رأى ذلك
أقبل حتى كان بينهم فوثبوا عليه فأخذوه فشدوه وثاقا ثم إنهم انطلقوا به إلى قومهم
فطرحوه وسطهم فتماروا بينهم في قتله فبعضهم يقول أخوكم وابنكم فلما رأى ذلك أحد
بني حزام ضربه ضربة فقطع يده من الكوع وكانت بها شامة سوداء فقال الشنفرى حين قطعت
يده ( لا تَبْعَدِي إمّا هَلَكْتِ شامَهْ
... فرُبَّ خَرقٍ قَطَعتْ قتَامَهْ ) ( ورُبَّ
قِرْنٍ فَصَلتْ عِظَامَهْ ... ) وقال
تأبط شرا يرثيه ( فلا
يَبعَدنّ الشَّنْفَرى وسِلاحُه الْحَديدُ ... وَشَدَّ خَطْوُه متواتر ) ( إذا
راع رَوْعَ الموت راع وإن حَمَى ... حَمَى معه حُرٌّ كريم مُصابِرُ ) قال
وذرع خطو الشنفرى ليلة قتل فوجد أول نزوة نزاها إحدى وعشرين خطوة ثم الثانية سبع
عشرة خطوة قال وقال ظالم العامري في الشنفرى وغاراته على الأزد وعجزهم عنه ويحمد
أسيد بن جابر في قتله الشنفرى ( فما
لَكُمْ لم تدركوا رِجْلَ شنفرى ... وأنتم خِفاف مثلُ أجنحة الغُرْبِ ) ( تعاديتُم
حتى إذا ما لحقتُم ... تباطأَ عنكم طالبٌ وأبو سَقْبِ ) ( لعمركَ
لَلسَّاعي أُسَيدُ بن جابِرٍ ... أحقُّ بها مِنْكم بَنِي عقبِ الكلب ) قال
ولما قتل الشنفرى وطرح رأسه مر به رجل منهم فضرب جمجمة الشنفرى بقدمه فعقرت قدمه
فمات بها فتمت به المائة شعره لما قتل حزاما قاتل أبيه وكان مما قاله الشنفرى فيهم
من الشعر وفي لطمه المرأة التي أنكرته الذي ذكرته واستغني عن إعادته مما تقدم ذكره
من شعر الشنفرى وقال الشنفرى في قتله حزاما قاتل أبيه ( أرَى
أُمَّ عمرو أجمعت فاستقلَّتِ ... وما ودَّعت جِيرانَها إذْ تولّتِ ) ( فقد
سبقتنا أُمُّ عمرو بأَمرها ... وقد كان أعناقُ المَطيِّ أظلَّتِ ) ( فواندَما
على أُميمةَ بعدما ... طمِعتُ فهَبْها نِعمةَ العيش ولَّتِ ) ( أُميمةُ
لا يُخزِي نَثاها حَليلها ... إذا ذُكِر النسوان عَفَّت وجَلّت ) ( يَحُلّ
بمنجاةٍ من اللّوم بيتُها ... إذا ما بُيوتٌ بالمَلامة حُلَّت ) ( فقد
أعجبتني لا سَقُوطٌ قِناعُها ... إذا ما مَشت ولا بذات تَلَفُّت ) ( كأَنّ
لها في الأرض نِسْياً تَقُصُّه ... إذا ما مشت وإن تُحدِّثْك تَبْلِت ) النسي
الذي يسقط من الإنسان وهو لا يدري أين هو يصفها بالحياء وأنها لا تلتفت يمينا ولا
شمالا ولا تبرج ويروى ( تقصه
على أمها وإن تكلمك ... ) ( فدقت
وجلت واسبكرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنَّت ) ( تبيتُ
بُعَيْدَ النوم تُهدِي غَبُوبَها ... لجاراتِها إذا الهديّة قَلَّت ) - الغبوب
ما غب عندها من الطعام أي بات ويروى غبوقها - ( فبِتنا
كأنَّ البيت حُجِّر حولنا ... بريحانةٍ راحت عِشاءً وطُلَّتِ ) ( بريحانة
من بطن حلية أمرعت ... لها أرجٌ من حولها غير مسنت ) ( غدوتُ
من الوادي الذي بين مَشْعَل ... وبين الجَبَاهيهات أنْسأتُ سُربتي ) ( أمشِّي
على الأرض التي لن تضيرَني ... لأكسِبَ مالا أو أُلاقِيَ حُمَّتِي ) ( إذا
ما أتتني حَتْفتي لم أُبالها ... ولم تُذْرِ خالاتي الدموع وعَمَّتِي ) ( وهَنِّيءَ
بي قومٌ وما إن هنأْتُهم ... وأصبحت في قوم وليسوا بمنْبِتي ) ( وأُمِّ
عيالٍ قد شهدتُ تَقُوتُهم ... إذا أطْعَمَتْهم أوْ تَحَتْ وأقلَّت ) ( تخاف
علينا الجوعَ إن هيَ أكثرت ... ونحن جياعٌ أيَّ أَلْيٍ تأَلَّتِ ) ( عُفَاهَيةٌ
لا يقصرُ السّترُ دونها ... ولا تُرتَجى للبَيْت إن لم تُبَيَّت ) ( لها
وَفْضَةٌ فيها ثلاثون سَلْجَماً ... إذَا ما رأَت أُولى العَدِي اقْشَعَرَّتِ ) ( وتأتي
العَدِيَّ بارزاً نصفُ ساقِها ... كعَدْو حِمار العانةِ المتفَلِّت ) ( إذا
فُزِّعت طارت بأَبيضَ صارمٍ ... وراحت بما في جُفرها ثم سَلَّت ) ( حُسامٍ
كلون الملح صافٍ حديدُه ... جُرازٍ من اقطار الحديد المنعَّت ) ( تراها
كأَذناب المَطِيّ صوادراً ... وقد نهِلتْ منَ الدّماء وعلّت ) ( سنجزي
سَلامانَ بنَ مُفْرج قرضَهم ... بما قدَّمت أيديهمُ وأَزَلَّت ) ( شفَيْنا
بعبد الله بعضَ غليلِنا ... وعوفٍ لدى لمَعْدَى أوانَ استهلَّت ) ( قتلنا
حزاما مُهدِيا بمُلَبّدٍ ... محلّهما بين الحجيج المصوِّت ) ( فإن
تُقبِلوا تُقبِل بمَنْ نِيلَ منهمُ ... وإن تُدْبِروا فأُمّ مَنْ نِيلَ فُتّت ) ( ألا
لا تزرني إن تشكيت خُلَّتي ... كفاني بأَعلى ذي الحُمَيرةِ عُدْوَتي ) ( وإني
لحُلوٌ إن أُرِيدت حلاوتي ... ومُرٌّ إذا النفس الصَّدوفُ استَمرَّتِ ) ( أبيّ
لما آبى وشيكٌ مَفِيئَتي ... إلى كُلِّ نفس تَنْتَجِي بمودّتي ) وقال
الشنفري أيضا ( ومرقبةٍ
عَنْقاء يَقصُرُ دونها ... أخو الضَّرْوذ الرّجْل الخفيُّ المخَفَّف ) ( نَميتُ
إلى أعلى ذراها وقد دنا ... من الليل ملتَفُّ الحدِيقةِ أسدَف ) ( فبِتُّ
على حَدّ الذّراعين أحدباً ... كما يَتَطَوَّى الأرقَم المُتَعَطِّفُ ) ( قليلٌ
جَهازِي غيرُ نعلين أُسحقَت ... صَدورهما مخصورةً لا تُخصَّفُ ) ( ومِلْحَفَةٍ
دَرْسٍ وَجَرْدِ مُلاَءةٍ ... إذا أنهجت من جانب لا تَكفّفُ ) ( وأبيضُ
من ماء الحديد مهنّدٌ ... مِجذٌّ لأطراف السّواعد مِقطفُ ) ( وصفراءُ
من نبعٍ أبيٌّ ظَهيرةٌ ... تُرِنّ كإرنان الشّجيّ وَتَهْتِفُ ) ( إذا
طال فيها النزع تأتي بعَجْسها ... وترمي بذَرْوَيْها بهنّ فتَقْذِفُ ) ( كأَنّ
حفِيفَ النَّبل من فوق عَجْسها ... عوازبُ نحلٍ أخطأَ الغارَ مُطْنِفُ ) ( نأتْ
أمُّ قيسِ المرْبَعَين كليهما ... وتحذَرُ أن يَنأَى بها المتصيَّفُ ) ( وإنك
لو تَدرينَ أنْ رُبَّ مشربٍ ... مخوفٍ كداء البطن أو هو أخوفُ ) ( وردتُ
بمأثورٍ ونبلٍ وضالةٍ ... تخيَّرتها مما أَريش وأرصُفُ ) ( أُركِّبها
في كل أحمر عاتِرٍ ... وأقذِفُ منهن الذي هو مقرف ) ( وتابعتُ
فيه البَرْيَ حتى تركتُه ... يَزِفُّ إذا أنفذتُه ويزفزفُ ) ( بِكفّيَ
منها للبغيض عُراضَةٌ ... إذا بعتُ خِلاًّ ما له مُتَخَوَّفُ ) ( ووادٍ
بعيدِ العُمق ضنكٍ جِماعُه ... بواطِنهُ للجنّ والأسْدِ مأْلَفُ ) ( تعسَّفتُ
منه بعدما سقط الندى ... غَماليل يخشى غِيلَها المُتعسِّفُ ) ( وإني
إذا خَامَ الجبانُ عن الرّدى ... فلِي حيث يُخشى أن يُجاوزَ مخسَف ) ( وإن
امرأً أجار سعدَ بنَ مالكٍ ... عليّ وأثوابِ الأُقَيْصِرِ يَعْنُف ) وقال
الشنفرى أيضا ( ومُستبسلٍ
ضافي القميصِ ضَغَتُّه ... بأَزرقَ لا نِكسٍ ولا مُتَعوِّج ) ( عليه
نُساريٌ على خُوطِ نَبْعةٍ ... وفُوقٌ كعرقوب القطاة مُحَدْرَجُ ) ( وقاربتُ
من كفِّيَّ ثم فَرَجتها ... بنزع إذا ما استُكرِه النزعُ مُخْلِج ) ( فصاحت
بكفي صيحةً ثم رجَّعَت ... أنينَ الأمِيم ذي الجراح المُشجَّع ) وقد
روي فناحت بكفي نوحة رواية ثالثة في مقتله وقال غيره لا بل كان من أمر الشنفرى أنه
سبت بنو سلامان بن مفرج ابن مالك بن هوازن بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن
الأزد الشنفرى - وهو
أحد بني ربيعة بن الحجر بن عمران بن عمرو بن حارثة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن
مازن بن الأزد - وهو غلام فجعله الذي سباه في بهمة يرعاها مع ابنة له فلما خلا بها
الشنفرى أهوى ليقبلها فصكت وجهه ثم سعت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليه ليقتله فوجده
وهو يقول ( ألاَ هل أَتى فِتيانَ قومي جَماعةً
... بما لطمت كفُّ الفتاة هجينَها ) ( ولو
علمت تلك الفتاةُ مَناسبي ... ونِسبتُها ظلَّت تقَاصَرُ دونها ) ( أليس
أبي خيرَ الأَواسِ وغيرِها ... وأُمِّي ابنةُ الخَيْرِينَ لو تَعلمينها )
( إذا ما أَرُومُ الودَّ بيني وبينها
... يؤمُّ بياضُ الوجه منّي يمينَها ) قال
فلما سمع قوله سأله ممن هو فقال أنا الشنفرى أخو بني الحارث بن ربيعة وكان من أقبح
الناس وجها فقال له لولا أني أخاف أن يقتلني بنو سلامان لأنكحتك ابنتي فقال علي إن
قتلوك أن أقتل بك مائة رجل منهم فأنكحه ابنته وخلى سبيله فسار بها إلى قومه فشدت
بنو سلامان خلافه على الرجل فقتلوه فلما بلغه ذلك سكت ولم يظهر جزعا عليه وطفق
يصنع النبل ويجعل أفواقها من القرون والعظام ثم إن امرأته بنت السلاماني قالت له
ذات يوم لقد خست بميثاق أبي عليك فقال ( كأَن
قَدْ - فلا يغْرُرْكِ مني تمَكُّثِي ... سلكتُ طريقاً بين يَرْبَغ فالسَّردِ ) ( وإنِّي
زعيمٌ أن تثور عَجَاجتي ... على ذي كِساءٍ من سَلامان أو بُرد ) ( همُ
عرفوني ناشئاً ذا مَخِيلة ... أُمشِّي خلال الدار كالفرس الوَرْدِ ) ( كأَني
إذا لم يُمسِ في الحي مالك ... بتيهاء لا أُهدَي السَّبِيلَ ولا أَهدِي ) قال
ثم غزاهم فجعل يقتلهم ويعرفون نبله بأفواقها في قتلاهم حتى قتل منهم تسعة وتسعين
رجلا ثم غزاهم غزوة فنذروا به فخرج هاربا وخرجوا في إثره فمر بامرأة منهم يلتمس
الماء فعرفته فأطعمته أقطا ليزيد عطشا ثم استسقى فسقته رائبا ثم غيبت عنه الماء ثم
خرج من عندها وجاءها القوم فأخبرتهم خبره ووصفت صفته وصفة نبله فعرفوه فرصدوه على
ركي لهم وهو ركي ليس لهم ماء غيره فلما جن عليه الليل أقبل إلى الماء فلما دنا منه
قال إني أراكم وليس يرى أحدا إنما يريد بذلك أن يخرج رصدا إن كان ثم فأصاخ القوم
وسكتوا ورأى سوادا وقد كانوا أجمعوا قبل إن قتل منهم قتيل أن يمسكه الذي إلى جنبه
لئلا تكون حركة قال فرمى لما أبصر السواد فأصاب رجلا فقتله فلم يتحرك أحد فلما رأى
ذلك امن في نفسه وأقبل إلى الركي فوضع سلاحه ثم انحدر فيه فلم يرعه إلا بهم على رأسه
قد أخذوا سلاحه فنزا ليخرج فضرب بعضهم شماله فسقطت فأخذها فرمى بها كبد الرجل فخر
عنده في القليب فوطىء على رقبته فدقها وقال في قطع شماله ( لا
تَبْعَدِي إمّا ذَهَبْتِ شامَهْ ... فرُبَّ وادٍ نَفَرَتْ حَمامَه ) ( ورُبَّ
قِرْنٍ فَصَلتْ عِظَامَهْ ... وربَّ حيٍّ حرَّقت سَوامَهْ ) قال
ثم خرج إليهم فقتلوه وصلبوه فلبث عاما أو عامين مصلوبا وعليه من نذره رجل قال ف
جاه رجل منهم كان غائبا فمر به وقد سقط فركض رأسه برجله فدخل فيها عظم من رأسه
فعلت عليه فمات منها فكان ذلك الرجل هو تمام المائة صوت ( ألا طرقتْ في الدّجى
زينبُ ... وأحببْ بزينبَ إذ تَطْرُقُ ) ( عجبتُ
لزينبَ أَنَّى سَرَت ... وزينبُ من ظلّها تَفرَق ) عروضه
من المتقارب الشعر لابن رهيمة والغناء لخليل المعلم رمل بالبنصر عن الهشامي وأبي
أيوب المدني أخبار الخليل ونسبه هو الخليل بن عمرو مكي مولى بني عامر بن لؤي مقل
لا تعرف له صنعة غير هذا الصوت أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن
مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني القطراني المغني عن محمد بن حسين
قال عمل في تأديب الصبيان وتعليم الجواري الغناء كان خليل المعلم يلقب خليلان وكان
يؤدب الصبيان ويلقنهم القرآن والخط ويعلم الجواري الغناء في موضع واحد فحدثني من
حضره قال كنت يوما عنده وهو يردد على صبي يقرأ بين يديه ( ومن الناس من يشتري لهو
الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ) ثم يلتفت إلى صبية بين يديه فيردد عليها ( اعتادَ
هذا القلبَ بلبالُهُ ... أن قُرِّبتْ للبَيْنِ أَجمالُهُ ) فضحكت
ضحكا مفرطا لما فعله فالتفت إلي فقال ويلك مالك فقال أتنكر ضحكي مما تفعل والله ما
سبقك إلى هذا أحد ثم قلت انظر أي شيء أخذت على الصبي من القرآن وأي شيء هو ذا تلقي
على الصبية والله إني لأظنك ممن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله فقال أرجو ألا
أكون كذلك إن شاء الله أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد
قال حدثني عبد الصمد بن المعذل قال كان خليلان المعلم أحسن الناس غناء وأفتاهم
وأفصحهم فدخل يوما على عقبة بن سلم الأزدي الهنائي فاحتبسه عنده فأكل معه ثم شرب
وحانت منه التفاتة فرأى عودا معلقا فعلم أنه عرض له به فدعا به وأخذه فغناهم ( يابنةَ
الأزديّ قلبي كَئِيبُ ... مُستَهامٌ عندها ما يُنِيبُ ) وحانت
منه التفاتة فرأى وجه عقبة بن سلم متغيرا وقد ظن أنه عرض به ففطن لما أراد فغنى ( ألا
هَزِئَت بِنا قُرَشِيَّة ... يهتزُّ موكِبُها ) فسري
عن عقبة وشرب فلما فرغ وضع العود من حجره وحلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يغني بعد يومه
ذلك إلا لمن يجوز حكمه عليه نسبة هذين الصوتين ( يابنةَ الأزديّ قلبي كَئِيبُ ...
مُستَهامٌ عندها ما يُنِيبُ ) ( ولقد
لاموا فقلتُ دعوني ... إنّ مَنْ تَنْهوْنَ عنه حَبيبُ ) ( إنما
أبلَى عِظامِي وجِسْمِي ... حُبُّها والحُبُّ شيءٌ عَجِيبُ ) ( أيها
العائِبُ عندي هَواهَا ... أنتَ تَفدي مَن أراك تَعِيبُ ) عروضه
من المديد والشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - والغناء
لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لمالك خفيف ثقيل أول
بالخنصر في مجرى البنصر عنه وفيه خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى لم ينسبه إسحاق
إلى أحد ووجدته في روايات لا أثق بها منسوبا إلى حنين وقد ذكر يونس أن فيه لحنين
ولمالك كلاهما ولعل هذا أحدهما وذكر حبش أن خفيف الرمل لابن سريج وذكر الهشامي
وعلي بن يحيى أن لحن مالك الآخر ثاني ثقيل وذكر الهشامي أن فيه لطويس هزجا مطلقا
في مجرى البنصر وذكر عمرو بن بانة أن لمالك فيه ثقيلا أولا وخفيفه ولمعبد خفيف
ثقيل آخر صوت ( ألا هَزِئَت بِنا قُرَشِيَّة ... يهتزُّ موكِبُها ) ( رأت
بي شيْبَةً في الرأ ... سِ مِنّي ما أُغَيّبُها ) ( فقالت
لي ابن قَيْسٍ ذا ... وبَعضُ الشيب يُعجبها ) ( لها
بعلٌ خبيثُ النَّفْس ... يحصُرُها ويحْجُبُها ) ( يراني
هكذا أمشي ... فيوعِدُها ويَضْرِبُها ) عروضه
من الوافر الشعر لابن قيس الرقيات والغناء لمعبد خفيف بالخنصر في مجرى الوسطى وفيه
ليونس ثقيل أول عن إسحاق بن إبراهيم والهشامي صوت ( هل
ما علمتَ وما استُودِعْتَ مكتومُ ... أم حَبلُها إذ نأتك اليومَ مَصرومُ ) ( أم
هل كئيبٌ بكى لم يقض عبرَتَهُ ... إثْرَ الأَحِبَّة يوم البين مَشْكُومُ ) ( يحملن
أُتْرُجّةً نَضْخُ العبير بها ... كأنَّ تَطيابَها في الأنفِ مشمومُ ) ( كأنّ
فَأْرَةَ مسكٍ في مفارقها ... للباسط المُتعاطي وَهْوَ مزكوم ) ( كأَنَّ
إبريقَهم ظبيٌ على شرف ... مُفَدَّمٌ بسَبَا الكتّان ملثُوم ) ( قد
أشْهدُ الشَّربَ فيهم مِزْهرٌ صَدِحٌ ... والقومُ تصرعهم صهباءُ خُرطومُ ) الشعر
لعلقمة بن عبدة والغناء لابن سريج وله فيه لحنان أحدهما في الأول والثاني خفيف
ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق والآخر رمل بالخنصر في مجرى البنصر في
الخامس والسادس من الأبيات وذكر عمرو بن بانة أن في الأربعة الأبيات الأول
المتوالية لمالك خفيف ثقيل بالوسطى وفيها ثقيل أول نسبه الهشامي إلى الغريض وذكر
حبش أن لحن الغريض ثاني ثقيل بالبنصر وذكر حبش أن في الخامس والسادس خفيف رمل
بالبنصر لابن سريج أخبار علقمة ونسبه هو علقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس
بن عبيد بن ربيعة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن
مضر بن نزار وكان زيد مناة بن تميم وفد هو وبكر بن وائل - وكانا لدة عصر واحد -
على بعض الملوك وكان زيد مناة حسودا شرها طعانا وكان بكر بن وائل خبيثا منكرا داهيا
فخاف زيد مناة أن يحظى من الملك بفائدة ويقل معها حظه فقال له يا بكر لا تلق الملك
بثياب سفرك ولكن تأهب للقائه وادخل عليه في أحسن زينة ففعل بكر ذلك وسبقه زيد مناة
إلى الملك فسأله عن بكر فقال ذلك مشغول بمغزالة النساء والتصدي لهن وقد حدث نفسه
بالتعرض لبنت الملك فغاظه ذلك وأمسك عنه ونمى الخبر إلى بكر بن وائل فدخل إلى
الملك فأخبره بما دار بينه وبين زيد مناة وصدقه عنه واعتذر إليه مما قاله فيه عذرا
قبله فلما كان من غد اجتمعا عند الملك فقال الملك لزيد مناة ما تحب أن أفعل بك
فقال لا تفعل ببكر شيئا إلا فعلت بي مثليه وكان بكر أعور العين اليمنى قد أصابها
ماء فذهب بها فكان لا يعلم من رآه أنه أعور فأقبل الملك على بكر بن وائل فقال له
ما تحب أن أفعل بك يا بكر قال تفقأ عيني اليمنى وتضعف لزيد مناة فأمر بعينه ففقئت
وأمر بعيني زيد مناة ففقئتا فخرج وهو أعور بحاله وخرج زيد مناة وهو أعمى سبب
تلقيبه بالفحل وأخبرني بذلك محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة ويقال
لعلقمة بن عبدة علقمة الفحل سمي بذلك لأنه خلف على امرأة امرىء القيس لما حكمت له
على امرىء القيس بأنه أشعر منه في صفة فرسه فطلقها فخالفه عليها وما زالت العرب
تسميه بذلك وقال الفرزدق ( والفحلُ
عَلقمةُ الذي كانت له ... حُلَلُ الملوك كلامُه يُتَنَحَّلُ ) علقمة
يحكم قريشا في شعره أخبرني عمي قال حدثني النضر بن عمرو قال حدثني أبو السوار عن
أبي عبيد الله مولى إسحاق بن عيسى عن حماد الراوية قال كانت العرب تعرض أشعارها
على قريش فما قبلوه منها كان مقبولا وما ردوه منها كان مردودا فقدم عليهم علقمة بن
عبدة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها ( هل
ما علمتَ وما استُودعْتَ مكتوم ... أم حَبْلُها أَنْ نأتْكَ اليومَ مصرومُ ) فقالوا
هذه سمط الدهر ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم ( طحابك
قلب في الحسان طروبُ ... بُعَيْد الشباب عصر حان مشيبُ ) فقالوا
هاتان سمطا الدهر أخبرني الحسن بن عليَّ قال حدثني هارون بن محمد بن عبدالملك عن
حماد بن إسحاق قال سمعت أبي يقولسرق ذو الرُّمة قوله : ( يطفو
إذا تلقَّته الجراثيم ... ) قول العجاج ( إذا
تلقَّتْه العقاقيلُ طفا ) العجَّاج من علقمةَ بن عبَدة في قوله : ( يطفو
إذا ما تلقته العقاقيل ... ) هو
وامرؤ القيس يتحاكمان إلى زوجته أخبرني عمِّي قال حدثنا الكرانيُّ قال حدثنا
العمريّ عن لقيط وأخبرني أحمد بن عبدالعزيز قال حدثنا عُمَر بن شبَّة قال حدثني
أبو عبيدة قال كانت تحت امريء القيس امرأةٌ من طيء تزوجها حين جاور فيهم فنزل به
علقمةُ الفحْل بن عبدة التَّميميّ فقال كل واحد منهما لصاحبه أنا أشعر منك فتحاكما
إليها فأنشد امرؤ القيس قوله : ( خليليَّ
مرََّّا بي على أمّ جُنْدُبِ ... ) مر بقوله : ( فللسَّوط
الهوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ ... وللزَّجر منه وقعُ أخرج مهذِب ) ويروى
أهوج منعب فأنشدها علقمة قوله ( ذهبْتَ
من الهِجران في غير مذْهَب ... ) انتهى إلى قوله : ( فأدركه
حتى ثنى من عِنانه ... يمُرُّ كغيث رائحٍ متحلبِّ ) فقالت
له علقمةُ أشعرُ منك قال وكيف قالت لأنك زجرت فرسَك وحرّكته بساقك وضربته بسوطك
وأنه جاء هذا الصيد ثم أدركه ثانياً من عِنانه فغضب امرؤ القيس وقال ليس كما قلتِ
ولكنك هَويِته فطلّقها فتزوجه علقمة بعد ذلك وبهذا لُقِّب علقمةَ الفحْل ربيعة بن
حذار يصنّف الشعراء أخبرني عمي قال حدثنا الكُرانيّ قال حدثنا العُمري عن لَقِيط
قال تحاكم علقمةُ بن عبدة التميمي والزبرقانُ بن بَدْر السعدي والمخبَّل وعمرو بن
الأهتم إلى ربيعة بن حذار الأسديّ فقال أما أنت يا زبرقان فإن شعرك كلحم لا أنضج
فيؤكل ولا ترك نيئا فينتفع به وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرد حبرة يتلألأ في
البصر فكلما أعدّته فيه نقص وأما أنت يا مخبّل فإنك قصّرت عن الجاهلية ولم تدرك
الإسلام وأما أنت يا علقمة فإن شعرك كمزادة قد أحكِم خزرُها فليس يقطر منها شيء أخبرني
محمدُ بن الحسنِ بن دُريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن ابيه قال رجل من
مزينَة على باب رجل من الأنصار وكان يُتَّهم بامرأته فلما حاذى بابَه تنفَّس ثم
تمثل : ( هل ما علمتَ وما استُودِعْتَ
مكتومُ ... أم حبلُها إذ نأتك اليوم مصرومُ ) قال
فتعلَّق به الرجل فرفعه إلى عمر رضوان الله عليه فاستعداه عليه فقال له المتمثِّل
وما عليَّ في أن أنشدتُ بيتَ شعر فقال له عمر رضي الله عنه مالك لم تُنْشِدْه قبل
أن تبلغ بابه ولكنّك عرَّضت به مع ما تعلم من القالةَ فيه أمر به فضُرِب عِشْرين
سَوْطاً صوت ( فوالله لا أنسَى قتِيلاً رُزِيتُه ... بجانب قَوسَى ما حييتُ على الأرض ) ( بلى
إنها تعْفُو الكلُومُ وإنما ... نوكِّلُ بالأدنى وإن جَلَّ ما يَمضِي ) ( ولم
أدرِ مَن أَلْقَي عليه رداءه ... ولكنه قد بُزَّ عن ماجدٍ محضِ ) الشعر
لأبي خراش الهذلي والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى من رواية عمرو بن بانة
وذكر يحيى بن المكي أنه لابن مُسجِح وذكر الهاشمي أنه ليحيى المكي نحله ابن مسجح
وفي أخبار معبد إن له فيه لحناً ذكر أبي خراش الهذلي وأخباره نسبه وموته أبو خراش
اسمه خويلد بن مرة أحد بني قرد واسم قرد عمرو بن معاوية بن سعد بن هذيل بن مدركة
بن إلياس بن مضر بن نزار شاعر فحل من شعراء هذيل المذكورين الفصحاء مخضرم أدرك
الجاهلية والإسلام فأسلم وعاش بعد النبي مدة ومات في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله
عنه نهشته أفعى فمات وكان ممن يعدو فيسبق الخيل في غارات قومه وحروبهم أخبرني حبيب
بن نصر المهلبي وعمي والحسن بن علي قالوا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا
أحمد بن عمير بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال حدثني أبو
بركة الأشجعي من أنفسهم قال خرج أبو خراش الهذلي من أرض هذيل يريد مكة فقال لزوجته
أم خراش ويحك إني أريد مكة لبعض الحاجة وإنك من أفك النساء وإن بني الديل يطلبونني
بترات فإياك وأن تذكريني لأحد من أهل مكة حتى نصدر منها قالت معاذ الله أن أذكرك لأهل
مكة وأنا أعرف السبب قال فخرج بأم خراش وكمن لحاجته وخرجت إلى السوق لتشتري عطرا
أو بعض ما تشتريه النساء من حوائجهن فجلست إلى عطار فمر بها فتيان من بني الديل
فقال أحدهما لصاحبه أم خراش ورب الكعبة وإنها لمن أفك النساء وإن كان أبو خراش معها
فستدلنا عليه قال فوقفا عليها فسلما وأحفيا المسألة والسلام فقلت من أنتما بأبي
أنتما فقالا رجلان من أهلك من هذيل قالت بأبي أنتما فإن أبا خراش معي ولا تذكراه
لأحد ونحن رائحون العشية فخرج الرجلان فجمعا جماعة من فتيانهم وأخذوا مولى لهم
يقال له مخلد وكان من أجود الرجال عدوا فكمنوا في عقبة على طريقه فلما رآهم قد
لاقوه في عين الشمس قال لها قتلتني ورب الكعبة لمن ذكرتني فقالت والله ما ذكرتك
لأحد إلا لفتيين من هذيل فقال لها والله ما هما من هذيل ولكنهما من بني الديل وقد
جلسا لي وجمعا علي جماعة من قومهم فاذهبي أنت فإذا جزت عليهم فإنهم لن يعرضوا لك
لئلا أستوحش فأفوتهم فاركضي بعيرك وضعي عليه العصا والنجاء النجاء قال فانطلقت وهي
على قعود عقيلي يسابق الريح فلما دنا منهم وقد تلثموا ووضعوا تمرا على طريقه على
كساء فوقف قليلا كأنه يصلح شيئا وجازت بهم أم خراش فلم يعرضوا لها لئلا ينفر منهم
ووضعت العصا على قعودها وتواثبوا إليه ووثب يعدو قال فزاحمه على المحجة التي يسلك
فيها على العقبة ظبي فسبقه أبو خراش وتصايح القوم يا مخلد أخذا أخذا قال ففات
الأخذ فقالوا ضربا ضربا فسبق الضرب فصاحوا رميا رميا فسبق الرمي وسبقت أم خراش إلى
الحي فنادت ألا إن أبا خراش قد قتل فقام أهل الحي إليها وقام أبوه وقال ويحك ما
كانت قصته فقالت إن بني الديل عرضوا له الساعة في العقبة قال فما رأيت أو ما سمعت
قالت سمعتهم يقولون يا مخلد أخذا أخذا قال ثم سمعت ماذا قالت ثم سمعتهم يقولون
ضربا ضربا قال ثم سمعت ماذا قالت سمعتهم يقولون رميا رميا قال فإن كنت سمعت رميا
رميا فقد أفلت وهو منا قريب ثم صاح يا أبا خراش فقال أبو خراش يا لبيك وإذا هو قد وافاهم
على أثرها وقال أبو خراش في ذلك شعره في نجاته من خصومه ( رَفَوْنِي وقالوا يا
خُوَيْلدُ لم تُرَعْ ... فقلت
وأنكرتُ الوجوهَ هُم هُم ) رفوني
بالفاء سكنوني وقالوا لا بأس عليك ( فغارَرْتُ
شيئَاً والدّريسُ كأنما ... يزعزعُه وعْلٌ من المُومِ مُرْدِمُ ) غاررت
تلبثت والدريس الخلق من الثياب ومثله الجرد والسحق والحشيف ومردم لازم ( تذكرتُ
ما أينَ المفرُّ وإنني ... بحبل الذي يُنْجِي من الموت مُعْصِم ) ( فواللهِ
ما ربْدَاءُ أو عِلْجُ عَانةٍ ... أقبُّ وما إنْ تَيْسُ رَمْلٍ مُصَمِّمِ ) ( بأسرعَ
منّي إذ عرفت عَدِيَّهُم ... كأني لأَولاهُمْ من القُرْبِ تَوْأَم ) ( وأجودَ
مِنِّي حينَ وافيْتُ ساعِياً ... وأخطأني خَلْف الثَّنِيَّة أسهُمُ ) ( أُوَائِلُ
بالشَّدِّ الذَّليقِ وحَثَّنِي ... لدى المتن مشبوحَ الذراعين خَلْجَمُ ) ( تَذَكَّرَ
ذَحْلاً عندنا وهو فاتكٌ ... من القوم يَعرُوه اجتراءٌ ومَأْثم ) ( تقول
ابنتي لما رأتني عشيَّةً ... سلمتَ وما إن كِدتَ بالأمس تَسلمُ ) ( فقلتُ
وقد جاوزت صَارَى عشيَّةً ... أجاوزتُ أولَى القوم أم أنا أحلُم ) ( فلولا
دِرَاكُ الشدّ آضتْ حليلَتي ... تخيَّر في خُطَّابِها وَهْيَ أيِّمُ ) ( فتسخَطُ
أو ترضَى مكانِي خليفةً ... وكادَ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَم ) عدا
بين فرسين فسبقهما أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن الحسين الكندي خطيب
المسجد الجامع بالقادسية قالا حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال حدثني رجل من
هذيل قال دخل أبو خراش الهذلي مكة وللوليد بن المغيرة المخزومي فرسان يريد أن يرسلهما
في الحلبة فقال للوليد ما تجعل لي إن سبقتهما قال إن فعلت فهما لك فأرسلا وعدا
بينهما فسبقهما فأخذهما قال الأصمعي إذا فاتك الهذلي أن يكون شاعرا أو ساعيا أو
راميا فلا خير فيه وأخبرني بما أذكره من مجموع أخبار أبي خراش علي بن سليمان
الأخفش عن أبي سعيد السكري وأخبرني بما أذكره من مجموع أشعارهم وأخبارهم فذكر أبو
سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن أبي حاتم عن أبي عبيدة وعن ابن حبيب عن أبي
عمرو وأخبرني ببعضه محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي وقد ذكرت
ما رواه في أشعار هذيل وأخبارها كل واحد منهم عن أصحابه في مواضعه قال السكري فيما
رواه عن ابن حبيب عن أبي عمرو قال نزل أبو خراش الهذلي دبية السلمي - وكان صاحب
العزى التي في غطفان وكان يسدنها وهي التي هدمها خالد بن الوليد لما بعثه رسول
الله إليها فهدمها وكسرها وقتل دبية السلمي - قال فلما نزل عليه أبو خراش أحسن
ضيافته ورأى في رجله نعلين قد أخلقتا فأعطاه نعلين من حذاء السبت فقال أبو خراش
يمدحه ( حذَانِيَ بعد ما خَذِمَتْ نِعالي
... دُبَيَّةُ إِنَّهُ نِعمَ الخليلُ ) ( مُقابَلَتين
من صلَوَيْ مُشِبٍّ ... من الثيران وصلُهما جميلُ ) ( بمثلِهما
يروح المرءُ لَهواً ... ويقْضِي الهمَّ ذو الأَربِ الرّجيلِ ) ( فنعم
مُعرَّسُ الأضيافِ تُذْحِي ... رحالَهُم شآميةٌ بَلِيلُ ) ( يُقاتل
جوعَهم بمكلَّلاَتٍ ... من الفُرْنيِّ يَرْعَبُها الجميل ) قال
أبو عمرو الجميل الإهالة ولا يقال لها جميل حتى تذاب إهالة كانت أو شحما وقال أبو
عمرو ولما بعث رسول الله خالد بن الوليد فهدم عزى غطفان وكانت ببطن نخلة نصبها
ظالم بن أسعد بن عامر بن مرة وقتل دبية فقال أبو خراش الهذلي يرثيه ( مَا
لِدُبَيَّةَ منذُ اليوم لم أَرَهُ ... وسْطَ الشُّرُوب ولم يُلْمِمْ ولم يطفِ ) ( لو
كان حيّاً لغاداهم بمُترعَةٍ ... فيها الرّواوِيق من شِيزَى بني الهَطِف ) بنو
الهطف قوم من بني أسد يعملون الجفان ( كَابِي
الرماد عظيمُ القِدْرِ جَفْنَتُه ... حين الشتاء كحَوْضِ المُنْهَلِ اللَّقِف ) - المنهل
الذي إبله عطاش واللقف الذي يضرب الماء أسفله فيتساقط وهو ملآن - ( أمسى
سَقامٌ خَلاءً لا أنيسَ به ... إلا السّباعُ ومَرُّ الريح بالغَرَفِ ) يرثي
زهير بن العجوة وقال الأصمعي وأبو عمرو في روايتهما جميعا أخذ أصحاب رسول الله في
يوم حنين أسارى وكان فيهم زهير بن العجوة أخو بني عمرو بن الحارث فمر به جميل بن
معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وهو مربوط في الأسرى وكانت بينهما إحنة في
الجاهلية فضرب عنقه فقال أبو خراش يرثيه ( فَجَّع
أصحابي جميلُ بن معْمَر ... بذي فَجَرٍ تأوِي إليه الأَراملُ ) ( طويلُ
نِجادِ السيف ليس بحَيْدَرٍ ... إذا قام واستنَّت عليه الحمائِلُ ) ( إلى
بَيْتِهِ يأوي الغريبُ إذا شتا ... ومُهتَلِكٌ بالي الدّريسَيْن عائِلُ ) ( تروَّحَ
مقروراً وراحت عشيّة ... لها حَدَبٌ تحتثُّه فيُوائِلُ ) ( تكاد
يداه تُسْلِمَان رداءَه ... من القُرِّ لمّا استقبلْته الشمائل ) ( فما
بالُ أهلِ الدّار لم يتصدَّعوا ... وقد خفّ منها اللّوذعيُّ الحُلاَحلُ ) ( فأُقسِمُ
لو لاقيتَه غيرَ موثَق ... لآبك بالجِزْع الضّباعُ النّواهلُ ) ( لظلَّ
جميلٌ أَسوأَ القوم تَلَّةً ... ولكنَّ ظَهْرَ القِرْنِ للمَرْء شاغلُ ) ( فليس
كعهدِ الدار يا أمَّ مالكٍ ... ولكنْ أحاطت بالرقاب السلاسل ) ( وعاد
الفتى كالكهل ليس بقائلٍ ... سوى الحقِّ شيئا فاستراح العواذلُ ) ( ولم
أَنْسَ أياماً لنا وليالياً ... بِحَلْيَةَ إذ نلقَى بها ما نحاول ) وقال
أيضا يرثيه ( أَفِي
كلِّ مَمسى ليلةٍ أنا قائل ... من الدهر لا يبعَدْ قتيلُ جميلِ ) ( فما
كنتُ أخشى أن تصيبَ دماءَنا ... قريشٌ ولما يُقتلوا بقتيل ) ( فأبرحُ
ما أُمِّرْتُمُ وعَمَرتُمُ ... مدَى الدهر حتى تُقْتَلُوا بِغَلِيلِ ) شعره
في إنقاذ أسرى وقال أبو عمرو في خبره خاصة أقبل أبو خراش وأخوه عروة وصهيب القردي
في بضعة عشر رجلا من بني قرد يطلبون الصيد فبينا هم بالمجمعة من نخلة لم يرعهم إلا
قوم قريب من عدتهم فظنهم القرديون قوما من بني ذؤيبة أحد بني سعد بن بكر بن هوازن
أو من بني حبيب أحد بني نصر فعدا الهذليون إليهم يطلبونهم وطمعوا فيهم حتى خالطوهم
وأسروهم جميعا وإذا هم قوم من بني ليث بن بكر فيهم ابنا شعوب أسرهما صهيب القردي
فهم بقتلهما وعرفهم أبو خراش فاستنقذهم جميعا من أصحابه وأطلقهم فقال أبو خراش في
ذلك يمن على ابني شعوب أحد بني شجع بن عامر بن ليث فعله بهما ( عدونَا
عدوةً لا شكَّ فيها ... وخِلناهمْ ذُؤيبةَ أو حَبيبا ) ( فنُغرِي
الثائرين بهم وقلنا ... شفاءُ النفس أنْ بَعَثوا الحروبا ) ( مَنَعْنا
من عدِيِّ بني حُنَيفٍ ... صِحابَ مضرّسٍ وابني شَعوبا ) ( فأَثْنُوا
يا بني شِجْع علَيْنَا ... وحقُّ ابني شَعُوبٍ أنْ يُثِيبا ) ( وسائلْ
سَبرةَ الشِّجْعِيِّ عنا ... غداة نخالهم نَجْوا جَنيبا ) ( بأنّ
السّابق القِرْدِيَّ ألقَى ... عليه الثوبَ إذ ولَّى دبيبا ) ( ولولا
ذاكَ أرهقَه صُهيبٌ ... حسامَ الحَدِّ مطروراً خشيبا ) شعره
في زهده أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال
أقفر أبو خراش الهذلي من الزاد أياما ثم مر بامرأة من هذيل جزلة شريفة فأمرت له
بشاة فذبحت وشويت فلما وجد بطنه ريح الطعام قرقر فضرب بيده على بطنه وقال إنك
لتقرقر لرائحة الطعام والله لا طعمت منه شيئا ثم قال يا ربة البيت هل عندك شيء من
صبر أو مر قالت تصنع به ماذا قال أريده فأتته منه بشيء فاقتمحه ثم أهوى إلى بعيره
فركبه فناشدته المرأة فأبى فقالت له يا هذا هل رأيت بأسا أو أنكرت شيئا قال لا
والله ثم مضى وأنشأ يقول ( وإني
لأثْوي الجوعَ حتى يَملَّني ... فأحيا ولم تدنَس ثيابي ولا جِرمي ) ( وأصْطَبحُ
الماءَ القَراحَ فأكتفي ... إذا الزادُ أضحَى للمزلَّجِ ذَا طَعْم ) ( أردُّ
شجاعَ البطن قد تَعلمِينه ... وأوثر غيرِي من عِيالك بالطُّعْم ) ( مخافَة
أن أحيا برَغمٍ وذِلَّةٍ ... فلِلْمَوْتُ خيرٌ من حياةٍ على رُغْم ) يفتدي
أخاه عروة بن مرة وأخبرني عمي عن هارون بن محمد الزيات عن أحمد بن الحارث عن
المدائني بنحو مما رواه الأصمعي وقال أبو عمرو أسرت فهم عروة بن مرة أخا أبي خراش
وقال غيره بل بنو كنانة أسرته فلما دخلت الأشهر الحرم مضى أبو خراش إليهم ومعه
ابنه خراش فنزل بسيد من ساداتهم ولم يعرفه نفسه ولكنه استضافه فأنزله وأحسن قراه
فلما تحرم به انتسب له وأخبره خبر أخيه وسأله معاونته حتى يشتريه منهم فوعده بذلك
وغدا على القوم مع ذلك الرجل فسألهم في الأسير أن يهبوه له فما فعلوا فقال لهم
فبيعونيه فقالوا أما هذا فنعم فلم يزل يساومهم حتى رضوا بما بذله لهم فدفع أبو
خراش إليهم ابنه خراشا رهينة وأطلق أخاه عروة ومضيا حتى أخذ أبو خراش فكاك أخيه
وعاد به إلى القوم حتى أعطاهم إياه وأخذ ابنه فبينما أبو خراش ذات يوم في بيته إذ
جاءه عبد له فقال إن أخاك عروة جاءني وأخذ شاة من غنمك فذبحها ولطمني لما منعته
منها فقال له دعه فلما كان بعد أيام عاد فقال له قد أخذ أخرى فذبحها فقال دعه فلما
أمسى قال له إن أخاك اجتمع مع شرب من قومه فلما انتشى جاء إلينا وأخذ ناقة من إبلك
لينحرها لهم فعاجله فوثب أبو خراش إليه فوجده قد أخذ الناقة لينحرها فطردها أبو
خراش فوثب أخوه عروة إليه فلطم وجهه وأخذ الناقة فعقرها وانصرف أبو خراش فلما كان
من غد لامه قومه وقالوا له بئست لعمر الله المكافأة كانت منك لأخيك رهن ابنه فيك
وفداك بماله ففعلت به ما فعلت فجاء عروة يعتذر إليه فقال أبو خراش ( لَعَلَّكَ
نافعي يا عُروَ يوماً ... إذا جاورْتُ مَنْ تحتَ القبورِ ) ( أخذتَ
خُفَارَتِي ولطمتَ عَيْني ... وكيف تُثِيبُ بالمنِّ الكبيرِ ) ( ويوم
قد صبْرتُ عليكَ نفسي ... لدى الأشْهَادِ مُرْتَدِي الحرورِ ) ( إذا
ما كان كَسُّ القوم رَوْقاً ... وجالت مقلتا الرجل البصير ) ( بما
يممتُه وتركْتُ بِكْرى ... وما أُطْعِمْتَ من لحم الجَزُور ) قال
معنى قوله بكري أي بكر ولدي أي أولهم كان بنو مرة عشرة وقال الأصمعي وأبو عبيدة
وأبو عمرو وابن الأعرابي كان بنو مرة عشرة أبو خراش وأبو جندب وعروة والأبح
والأسود وأبو الأسود وعمرو وزهير وجناد وسفيان وكانوا جميعا شعراء دهاة سراعا لا
يدركون عدوا فأما الأسود بن مرة فإنه كان على ماء من داءة وهو غلام شاب فوردت عليه
إبل رئاب بن ناضرة بن المؤمل من بني لحيان ورئاب شيخ كبير فرمى الأسود ضرع ناقة من
الإبل فعقرها فغضب رئاب فضربه بالسيف فقتله وكان أشدهم أبو جندب فعرف خبر أخيه
فغضب غضبا شديدا وأسف فاجتمعت رجال هذيل إليه يكلمونه وقالوا خذ عقل أخيك واستبق
ابن عمك فلم يزالوا به حتى قال نعم اجمعوا العقل فجاؤوه به في مرة واحدة فلما
أراحوه عليه صمت فطال صمته فقالوا له أرحنا اقبضه منا فقال إني أريد أن أعتمر
فاحبسوه حتى أرجع فإن هلكت فلأم ما أنتم هذه لغة هذيل يقولون أم بالكسر ولا
يستعملون الضم - وإن عشت فسوف ترون أمري وولى ذاهبا نحو الحرم فدعا عليه رجال من
هذيل وقالوا اللهم لا ترده فخرج فقدم مكة فواعد كل خليع وفاتك في الحرم أن يأتوه
يوم كذا وكذا فيصيب بهم قومه فخرج صادرا حتى أخذته الذبحة في جانب الحرم فمات قبل
أن يرجع فكان ذلك خبره خبر أخيه زهير قالوا وأما زهير بن مرة فخرج معتمرا قد جعل
على جسده من لحاء الحرم حتى ورد ذات الأقير من نعمان فبينا هو يسقي إبلا له إذ ورد
عليه قوم من ثمالة فقتلوه فله يقول أبو خراش وقد انبعث يغزو ثمالة ويغير عليهم حتى
قتل منهم بأخيه أهل دارين أي حلتين من ثمالة ( خذوا
ذلكم بالصُّلْحِ إني رأيتُكُم ... قتلتم زُهيرا وهو مهْدٍ ومُهْمِل ) مهد
أي أهدى هديا للكعبة ومهمل قد أهمل إبله في مراعيها ( قتلتم
فتى لا يفجُرُ الله عامداً ... ولا يجتويه جارُه عامَ يُمْحِلُ ) ولهم
يقول أبو خراش ( إنّي
امرؤٌ أَسْأَلُ كيما أَعلَما ... مَنْ شَرُّ رَهْطٍ يَشْهَدُونَ الموسِمَا ) ( وجدتُهم
ثُمالة بنَ أسلمَا ... ) وكان
أبو خراش إذا لقيهم في حروبه أوقع بهم ويقول ( إليك
أمَّ ذِبَّان ... ما ذاكِ من حلْبِ الضَّانْ ) ( لكن
مِصاع الفِتيانْ ... بكل لِيْنٍ حَرّان ) خبر
أخيه عروة قال وأما عروة بن مرة وخراش بن أبي خراش فأخذهما بطنان من ثمالة يقال
لهما بنو رزام وبنو بلال وكانوا متجاورين فخرج عروة بن مرة وابن أبي خراش أخيه
مغيرين عليهم طمعا في أن يظفروا من أموالهم بشيء فظفر بهما الثماليون فأما بنو
رزام فنهوا عن قتلهما وأبت بنو بلال إلا قتلهما حتى كاد يكون بينهم شر فألقى رجل
من القوم ثوبه على خراش حين شغل القوم بقتل عروة ثم قال له انج وانحرف القوم بعد
قتلهم عروة إلى الرجل وكانوا أسلموه إليه فقالوا أين خراش فقال أفلت مني فذهب فسعى
القوم في أثره فأعجزهم فقال أبو خراش في ذلك يرثي أخاه عروة ويذكر خلاص ابنه ( حمدتُ
إِلَهي بعد عُروةَ إذ نجا ... خراشٌ وبعضُ الشرِّ أهونُ من بعضِ ) ( فواللهِ
لا أَنسَى قتيلاً رُزِيتَه ... بجانب قَوْسَى ما حييتُ على الأرضِ ) ( بلى
إنها تَعفو الكلومُ وإنما ... نُوكِّلُ بالأَدْنى وإن جلَّ ما يَمضِي ) ( ولم
أدر مَن أَلْقَى عليه رداءَهُ ... سوى أنه قد سُلَّ عن ماجِدٍ محضِ ) ( ولم
يك مثلوجَ الفؤاد مهبَّلاً ... أضاع الشبابَ في الرّبيلَةِ والخفض ) ( ولكنهُ
قد نازعته مَجَاوعٌ ... على أنه ذو مرة صادق النهض ) قال
ثم إن أبا خراش وأخاه عروة استنفرا حيا من هذيل يقال لهم بنو زليفة بن صبيح ليغزوا
ثمالة بهم طالبين بثأر أخيهما فلما دنوا من ثمالة أصاب عروة ورد حمى وكانت به حمى
الربع فجعل عروة يقول ( أصبحتُ
موروداً فقرّبُوني ... الى سواد الحيِّ يَدْفِنوني ) ( إنّ
زهيراً وسطَهم يَدعوني ... رَبَّ المخاض والِلِّقاحِ الجُون ) فلبثوا
إلى أن سكنت الحمى ثم بيتوا ثمالة فوجدوهم خلوفا ليس فيهم رجال فقتلوا من وجدوا من
الرجال وساقوا النساء والذراري والأموال وجاء الصائح إلى ثمالة عشاء فلحقوهم
وانهزم أبو خراش وأصحابه وانقطعت بنو زليفة فنظر الأكنع الثمالي - وكان مقطوع
الأصبع - إلى عروة فقال يا قوم ذلك والله عروة وأنا والله رام بنفسي عليه حتى يموت
أحدنا وخرج يمعج نحو عروة فصلح عروة بأبي خراش أخيه أي أبا خراش هذا والله الأكنع
وهو قاتلي فقال أبو خراش أمضه وقعد له على طريقه ومر به الأكنع مصمما على عروة وهو
لا يعلم بموضع أبي خراش فوثب عليه أبو خراش فضربه على حبل عاتقه حتى بلغت الضربة
سحره وانهزمت ثمالة ونجا أبو خراش وعروة وقال أبو خراش يرثي أخاه ومن قتلته ثمالة
وكنانة من أهله وكان الأصمعي يفضلها ( فَقَدْتُ
بني لُبْنَى فلما فقدتُهم ... صبَرتُ فلم أقطعْ عليهم أَبَاجِلي ) الأبجل
عرق في الرجل ( رماحٌ
من الخطِّيِّ زُرْقٌ نِصالُها ... حِدادٌ أعاليها شِدادُ الأسافلِ ) ( فلَهفِي
على عمرِو بن مُرَّة لهفةً ... ولهْفِي على ميْتٍ بقَوسَى المعاقل ) ( حِسانُ
الوجوه طيِّبٌ حُجُزَاتُهُم ... كريمٌ نَثاهم غيرُ لُفٍّ مَعازلِ ) ( قتلتَ
قتيلاً لا يُحَالِفُ غَدْرَةً ... ولا سُبَّةً لا زِلتَ أسفلَ سافل ) ( وقد
أَمِنُونِي واطمأنّتْ نفوسُهم ... ولم يعلموا كلّ الذي هو داخلي ) ( فمن
كان يرجو الصلْحَ مِنِّي فإنه ... كأحمرِ عاد أو كُلَيْبِ بنِ وائلِ ) ( أُصيبتْ
هُذيلٌ بابن لُبْنَى وجُدّعت ... أُنوفُهُمُ باللَّوْذعيِّ الحُلاَحِل ) ( رأيتُ
بني العَلاَّتِ لما تضافروا ... يَحوزون سَهْمي دونَهمْ بالشَّمائل ) أخبار
سائر إخوته قالوا وأما أبو الأسود فقتلته فهم بياتا تحت الليل وأما الأبح فكان
شاعرا فأمسى بدار بعرعر من ضيم فذكر لسارية بن زنيم العبدي أحد بني عبد بن عدي ابن
الديل فخرج بقوم من عشيرته يريده ومن معه فوجدوهم قد ظعنوا وكان بين بني عبد بن
عدي بن الديل وبينهم حرب فقال الأبح في ذلك ( لعمرُكَ
سارِيَ بْنَ أبي زُنَيْمٍ ... لأَنْتَ بعَرْعَرَ الثأرُ المنيمُ ) ( تركتَ
بني معاويةَ بنِ صخرٍ ... وأنت بمربَعٍ وهُمُ بضِيمِ ) ( تُساقيهمْ
على رَصَفٍ وظُرٍّ ... كدابغةٍ وقد حَلِم الأَديمُ ) رصف
وظر ماءان ومربع وضيم موضعان ( فلم
نتركُهُم قصداً ولكنْ ... فرِقْتَ من المصالِت كالنّجوم ) ( رأيتَهُم
فوارسَ غيرَ عُزْلٍ ... إذا شَرِقَ المُقاتِلُ بالكُلومِ ) فأجابه
سارية قال ( لعلِك يا أَبَحُّ حسِبْتَ أنّي ...
قتلتُ الأسودَ الحسَن الكريمَا ) ( أخذتُمْ
عقِلَة وتركتُمُوه ... يسوق الظُّمْيَ وسْطَ بني تميمَا ) عيرهم
بأخذ دية الأسود بن مرة أخيهم وأنهم لم يدركوا بثأره وبنو تميم من هذيل قالوا وأما
جنادة وسفيان فماتا وقتل عمرو ولم يسم قاتله قالوا وأمهم جميعا لبنى إلا سفيان بن
مرة فإن أمه أم عمرو القردية وكان أيسر القوم وأكثرهم مالا وقال أبو عمرو وغزا أبو
خراش فهما فأصاب منهم عجوزا وأتى بها منزل قومه فدفعها إلى شيخ منهم وقال احتفظ
بها حتى آتيك وانطلق لحاجته فأدخلته بيتا صغيرا وأغلقت عليه وانطلقت فجاء أبو خراش
وقد ذهبت فقال ( سَدَّتْ
عليه دَوْلَجاً ثم يَمَّمَتْ ... بنيِ فالجٍ بالليث أهلَ الخزائم ) الدولج
بيت صغير يكون للبهم والليث ماء لهم والخزائم البقر واحدتها خزومة ( وقالت
له دَنِّخْ مكانَكَ إنني ... سألقاك إن وافيتَ أهلَ المواسم ) يقال
دنخ الرجل ودمخ إذا أكب على وجهه ويديه وقال أبو عمرو دخلت أميمة امرأة عروة بن
مرة على أبي خراش وهو يلاعب ابنه فقالت له يا أبا خراش تناسيت عروة وتركت الطلب
بثأره ولهوت مع ابنك أما والله لو كنت المقتول ما غفل عنك ولطلب قاتلك حتى يقتله
فبكى أبو خراش وأنشأ يقول ( لعمري
لقد راعتْ أُميمةَ طلعَتِي ... وإنّ ثَوائي عندها لقليلُ ) ( وقالت
أُراه بعد عُرْوة لاهِياً ... وذلك رُزْءٌ لو علمْت جليلُ ) ( فلا
تحسبي أني تناسيْتُ فقْدَهُ ... ولكنَّ صبري يا أُمَيْمَ جميلُ ) ( ألم
تعلمِي أنْ قدْ تفرّق قبلَنَا ... نديما صفاءٍ مالكٌ وعَقِيلُ ) ( أبى
الصبرَ أنّى لا يزال يَهِيجُنِي ... مبيتٌ لنا فيما خلا ومَقيلُ ) ( وأني
إذا ما الصُّبحُ آنَسْتُ ضوءَه ... يعاودني قُطْعٌ عليّ ثقيلُ ) قال
أبو عمرو فأما أبو جندب أخو أبي خراش فإنه كان جاور بني نفاثة ابن عدي بن الديل
حينا من الدهر ثم أنهم هموا بأن يغدروا به وكانت له إبل كثيرة فيها أخوه جنادة
فراح عليه أخوه جنادة ذات ليلة وإذا به كلوم فقال له أبو جندب مالك فقال ضربني رجل
من جيرانك فأقبل أبو جندب حتى أتى جيرانه من بني نفاثة فقال لهم يا قوم ما هذا
الجوار لقد كنت أرجو من جواركم خيرا من هذا أيتجاور أهل الأعراض بمثل هذا فقالوا
أو لم يكن بنو لحيان يقتلوننا فوالله ما قرت دماؤنا وما زالت تغلي والله إنك للثأر
المنيم فقال أما إنه لم يصب أخي إلا خير ولكنما هذه معاتبة لكم وفطن للذي يريد
القوم من الغدر به وكان بأسفل دفاق فأصبحوا ظاعنين وتواعدوا ماء ظر فنفذ الرجال
إلى الماء وأخروا النساء لأن يتبعنهم إذا نزلوا واتخذوا لحياض الإبل فأمر أبو جندب
أخاه جنادة وقال له اسرح مع نعم القوم نعم توقف وتأخر حتى تمر عليك النعم كلها
وأنت في آخرها سارح بإبلك واتركها متفرقة في المرعى فإذا غابوا عنك فاجمع إبلك
واطردها نحو أرضنا وموعدك نجد ألوذثنية في طريق بلاده وقال لامرأته أم زنباع وهي
من بني كلب بن عوف اظعني وتمكثي حتى تخرج آخر ظعينة من النساء ثم توجهي فموعدك
ثنية يدعان من جانب النخلة وأخذ أبو جندب دلوه وورد مع الرجال فاتخذ لقوم الحياض
واتخذ أبو جندب حوضا فملأه ماء ثم قعد عنده فمرت به إبل ثم إبل فكلما وردت إبل سأل
عن إبله فيقولون قد بلغت تركناها بالضجن ثم قدمت النساء كلما قدمت ظعينة سألها عن
أهله فيقولون بلغتك تركناها تظعن حتى إذا ورد آخر النعم وآخر الظعن قال والله لقد
حبس أهلي حابس أبصر يا فلان حتى أستأنس أهلي وإبلي وطرح دلوه على الحوض ثم ولى حتى
أدرك القوم بحيث وعدهم فقال أبو جندب في ذلك ( أَقول
لأُمِّ زِنْباعٍ أَقِيمي ... صُدورَ العِيسِ شطرَ بني تميم ) ( وغَرَّبْتُ
الدّعَاءَ وأَيْنَ منِّي ... أُناسٌ بين مرَّ وذي يَدومِ ) غربت
الدعاء دعوت من بعيد ( وَحَيٍّ
بالمناقب قد حمَوْها ... لدى قُرَّانَ حتى بطنِ ضِيمِ ) ( وأحياءٍ
لدى سعْدِ بن بكر ... بأَملاحٍ فظاهرةِ الأديم ) ( أُولئِكَ
معشري وهُمُ أرومي ... وبعض القوم ليس بذي أَرومِ ) ( هنالِكَ
لو دَعَوْتَ أَتَاكَ منهم ... رجالٌ مثل أَرمِيةِ الحميمِ ) الأرمية
السحاب الشديد الوقع واحدها رمي والحميم مطر القيظ ( أَقلَّ
الله خَيْرَهُم أَلمَّا ... يَدَعْهُم بعضُ شرّهُم القديم ) ( أَلمَّا
يَسلم الجيرانُ منهم ... وقد سال الفِجاج من الغميم ) ( غداةَ
كأَنَّ جنَّادَ بن لُبنى ... به نضخُ العبيرِ من الكُلومِ ) ( دعا
حَوْلي نفاثةُ ثم قالوا ... لعلك لسْتَ بالثّأْر المنيمِ ) المنيم
الذي إذا أدرك استراح أهله وناموا ( نعوْا
مَنْ قَتَّلَتْ لِحَيانُ منهم ... ومن يغترُّ بالْحربِ القرومِ ) قالوا
جميعا وكان أبو جندب ذا شر وبأس وكان قومه يسمونه المشؤوم فاشتكى شكوى شديدة وكان
له جار من خزاعة يقال له حاطم فوقعت به بنو لحيان فقتلوه قبل أن يستبل أبو جندب من
مرضه واستاقوا أمواله وقتلوا امرأته وقد كان أبو جندب كلم قومه فجمعوا لجاره غنما
فلما أفاق أبو جندب من مرضه خرج من أهله حتى قدم مكة ثم جاء يمشي حتى استلم الركن
وقد شق ثوبه عن استه فعرف الناس أنه يريد شرا فجعل يصيح ويقول ( إنّي
امرؤ أبكي على جارَيَّهْ ... أبكي على الكعبيِّ والكعبيَّهْ ) ( ولو
هَلكْتُ بَكَيا عليَّهْ ... كَانا مكَان الثوب من حَقْويَّه ) فلما
فرغ من طوافه وقضى حاجته من مكة خرج في الخلعاء من بكر وخزاعة فاستجاشهم على بني
لحيان فقتل منهم قتلى وسبى من نسائهم وذراريهم سبايا وقال في ذلك ( لقد
أمسى بنو لِحْيان منّي ... بحمد الله في خِزْيٍ مُبين ) ( تركتهمُ
على الرّكَباتِ صُعْراً ... يُشِيبُون الذَّوائب بالأنِين ) يشكو
إلى عمر شوقه إلى ابنه أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي
الأصمعي قال حدثني عمي قال هاجر خراش بن أبي خراش الهذلي في أيام عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وغزا مع المسلمين فأوغل في أرض العدو فقدم أبو خراش المدينة فجلس بين
يدي عمر وشكا إليه شوقه إلى ابنه وأنه رجل قد انقرض أهله وقتل إخوته ولم يبق له
ناصر ولا معين غير ابنه خراش وقد غزا وتركه وأنشأ يقول ( ألا
مَن مُبلغٌ عني خِراشاً ... وقد يأْتيك بالنّبأ البعيدُ ) ( وقد
يأتيكَ بالأخبار مَنْ لا ... تُجَهِّزُ بالحِذاء ولا تُزِيدُ ) - تزيد
وتزود واحد من الزاد - ( يُناديه
ليَغْبِقَه كَلِيبٌ ... ولا يأْتِي لقد سَفُه الوليدُ ) ( فردَّ
إناءَه لا شيءَ فيه ... كأنَّ دموعَ عينيه الفَريدُ ) ( وأصبحَ
دون عابقِه وأمسى ... جبالٌ من حِرارِ الشام سُودُ ) ( ألا
فاعلم خِراشُ بأنّ خيرَ المهاجر ... بعد هجرته زهيدُ ) ( رأيتكَ
وابتغاءَ البِرِّ دوني ... كمحصورِ اللَّبان ولا يصيدُ ) قال
فكتب عمر رضي الله عنه بأن يقبل خراش إلى أبيه وألا يغزو من كان له أب شيخ إلا بعد
أن يأذن له أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي وأخبرني
حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي
عن أبيه وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال أبو عبيدة وأخبرني
أيضا هاشم قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه وذكره أبو سعيد السكري في
رواية الأخفش عنه عن أصحابه قالوا جميعا أسلم أبو خراش فحسن إسلامه ثم أتاه نفر من
أهل اليمن قدموا حجاجا فنزلوا بأبي خراش والماء منهم غير بعيد فقال يا بني عمي ما
أمسى عندنا ماء ولكن هذه شاة وبرمة وقربة فردوا الماء وكلوا شاتكم ثم دعوا برمتنا
وقربتنا على الماء حتى نأخذها قالوا والله ما نحن بسائرين في ليلتنا هذه وما نحن ببارحين
حيث أمسينا فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى
ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل أن يصل إليهم فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال
اطبخوا شاتكم وكلوا ولم يعلمهم بما أصابه فباتوا على شاتهم يأكلون حتى أصبحوا
وأصبح أبو خراش في الموت فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يعالج الموت ( لعمرُكَ
والمنايا غالباتٌ ... على الإنسان تطلُع كلَّ نجدِ ) ( لقد
أهلكْتِ حيّةَ بطنِ أنفٍ ... على الأصحابِ ساقاً ذاتَ فقد ) وقال
أيضا ( لقد أهلكتِ حيةَ بطن أنفٍ ... على
الأصحاب ساقاً ذاتَ فضلِ ) ( فما
تركتْ عدوًّا بين بُصْرَى ... إلى صنعاءَ يطلبُهُ بذَحْل ) قال
بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبره فغضب غضبا شديدا وقال لولا أن تكون سبة لأمرت
ألا يضاف يمان أبدا ولكتبت بذلك إلى الآفاق إن الرجل ليضيف أحدهم فيبذل مجهوده
فيسخطه ولا يقبله منه ويطالبه بما لا يقدر عليه كأنه يطالبه بدين أو يتعنته ليفضحه
فهو يكلفه التكاليف حتى أهلك ذلك من فعلهم رجلا مسلما وقتله ثم كتب إلى عامله
باليمن بأن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرمهم ديته ويؤدبهم بعد ذلك بعقوبة
تمسهم جزاء لأعمالهم صوت ( تهيمُ بها لا الدهرُ فانٍ ولا المنى ... سواها ولا
يُنسيك نَأْيٌ ولا شُغلُ ) ( كبيضةِ
أُدحيٍّ بِميثِ خميلةٍ ... يحفِّفها جَوْنٌ بجؤجؤه صَعْلُ ) الشعر
لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى عن ابن المكي أخبار
ابن دارة ونسبه هو عبد الرحمن بن مسافع بن دارة وقيل بل هو عبد الرحمن بن ربعي بن
مسافع بن دارة وأخوه مسافع بن دارة وكلاهما شاعر وفي شعريهما جميعا غناء يذكر هاهنا
وأخوهما سالم بن مسافع بن دارة شاعر أيضا وفي بعض شعره غناء يذكر بعد أخبار هذين
فأما سالم فمخضرم قد أدرك الجاهلية والإسلام وأما هذان فمن شعراء الإسلام ودارة
لقب غلب على جدهم ومسافع أبوهم وهو ابن شريح بن يربوع الملقب بدارة بن كعب بن عدي
بن جشم بن عوف بن بهثة بن عبد الله بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر وهذا
الشعر يقوله عبد الرحمن في حبس السمهري العكلي اللص وقتله وكان نديما له وأخا هجا
بني أسد وحرض عكلا عليهم أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان
دماذ عن أبي عبيدة قال لما أخذ السمهري العكلي وحبس وقتل - وكانت بنو أسد أخذته
وبعثت به إلى السلطان وكان نديما لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة فقتل بعد طول حبس -
فقال عبد الرحمن بن مسافع يهجو بني أسد ويحرض عليهم عكلا صوت ( إن يُمْسِ بالعينين
سُقْمٌ فقد أتى ... لعينيكَ من طول البكاء على جُمْلِ ) ( تهيمُ
بها لا الدهرُ فانٍ ولا المنى ... سواها ولا تُسلى بنَأْيٌ ولا شُغلِ ) ( كبيضةِ
أُدحيٍّ بِمْيثِ خميلةٍ ... يُحَفِّفها جَوْنٌ بجؤجؤه الصَّعْلِ ) ( وما
الشمسُ تبدو يومَ غيم فأَشرقَتْ ... على الشّامة العنقاء فالنَّير فالذبل ) ( بدا
حَاجبٌ منهَا وضنَّتْ بحَاجبٍ ... بأَحسن منها يوم زالت على الحمْلِ ) ( يقولون
إزْلٌ حُبُّ جُمْلٍ وقُرْبُها ... وقد كذبوا ما في المودة من إزلِ ) ( إذا
شحَطتْ عنّي وجدتُ حرارةٍ ... على كبِدي كادت بها كَمداً تغلي ) ( ولم
أَرَ محزونَين أجملَ لوعةً ... على نائباتِ الدهرِ مِنِّي ومن جُمل ) ( كلانا
يذود النفسَ وهْي حزينةٌ ... ويُضمِرُ وجداً كَالنوافذ بالنبل ) ( وإنِّي
لمُبلِي اليأْسِ من حُبّ غيرها ... فأَمَّا على جُمْلٍ فإِنِّي لا أُبلي ) ( وإنَّ
شفاء النفس لو تُسْعِفُ المنى ... ذواتُ الثنايا الغُرّ والحدَقِ النُّجلِ ) ( أُولئِك
إن يَمْنَعْنَ فالمنعُ شِيمةٌ ... لهنَّ وإنْ يُعْطِينَ يُحْمَدْن بالبذلِ ) ( سأُمْسِك
بالوصل الذي كان بيننا ... وهل تركَ الواشون والنأْيُ من وصل ) ( أَلا
سَقِّيَانِي قهوةً فارسيّةً ... من الأوَّل المختوم ليست من الفضل ) ( تُنسّي
ذوي الأحلامِ واللبِّ حلمَهم ... إذا أَزبدت في دَنِّهَا زَبدَ الفحل ) ( ويا
راكباً إمَّا عرضت فبلِّغَنْ ... عَلَى نأْيهم مني القبائلَ من عُكل ) ( بأنَّ
الذي أمست تجمجم فقعَسٌ ... إسارٌ بلا أَسْرٍ وقتلٌ بلا قتلِ ) ( وكيف
تنام الليلَ عُكلٌ ولم تنَل ... رِضَى قَوَدٍ بالسمْهريّ ولا عقل ) ( فلا
صلحَ حتى تَنْحِط الخيلُ في القنا ... وتوقدَ نارُ الحرب بالحطب الجزل ) ( وَجُرْدٍ
تَعادَى بالكماة كأنها ... تُلاحِظ من غيظٍ بأَعينها القُبْل ) ( عليها
رجال جالدوا يوم مَنْعِجٍ ... ذوي التاج ضرَّابو الملوكِ على الوَهل ) ( بضربٍ
يُزيل الهامَ عن مستقرِّه ... وطعنٍ كأَفواه المفرَّجة الهُدْل ) ( علامَ
تُمشّي فقعسٌ بدمائكم ... وما هي بالفَرع المُنيفِ ولا الأصل ) ( وكنّا
حسِبنا فقعساً قبل هذه ... أذلَّ على وقع الهوان من النَّعْل ) ( فقد
نظرتْ نحو السماءِ وسلّمَت ... على الناس واعتاضت بخِصْبٍ من المحل ) ( رمى
الله في أكبادكم أن نجت بها ... شِعابُ القِنان من ضعيفٍ ومن وَغْل ) ( وإن
أنتُم لم تثأروا بأخيكم ... فكونوا نِساءً للخَلوق وللكُحْلِ ) ( وبيعوا
الرّدينياتِ بالحَلْي واقْعُدوا ... على الذلّ وابتاعوا المغازل بالنّبل ) ( ألا
حبّذا من عندَهُ القلبُ في كَبْلٍ ... ومَنْ حُبّه داءٌ وخبْلٌ من الخبل ) ( ومَن
هو لا يُنسَى ومَنْ كلُّ قَولِه ... لدينا كطعم الراح أو كجَنَى النّحل ) ( ومن
إن نأَى لم يحدث النأْيُ بُغضَه ... ومن إن دنا في الدار أُرْصِدَ بالبَذْلِ ) وأما
خبر السمهري ومقتله فإن علي بن سليمان الأخفش أخبرني به قال حدثنا أبو سعيد السكري
قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني قال خبر مصرع السمهري لقي السمهري بن
بشر بن أقيش بن مالك بن الحارث بن أقيش العكلي ويكنى أبا الديل هو وبهدل ومروان بن
قرفة الطائيان عون بن جعدة بن هبيرة ابن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن
مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ومعه خاله أحد بني حارثة بن لأم من طي
بالثعلبية وهو يريد الحج من الكوفة أو يريد المدينة وزعم آخرون أنهم لقوه بين نخل والمدينة
فقالوا له العراضة أي مر لنا بشيء فقال يا غلام جفن لهم فقالوا لا والله ما الطعام
نريد فقال عرضهم فقالوا ولا ذلك نريد فارتاب بهم فأخذ السيف فشد عليهم وهو صائم
وكان بهدل لا يسقط له سهم فرمى عونا فأقصده فلما قتلوه ندموا فهربوا ولم يأخذوا
إبله فتفرقت إبله ونجا خاله الطائي إما عرفوه فكفوا عن قتله وإما هرب ولم يعرف القتلة
فوجد بعض إبله في يدي شافع بن واتر الأسدي وبلغ عبد الملك بن مروان الخبر فكتب إلى
الحجاج بن يوسف وهو عامله على العراق وإلى هشام بن إسماعيل وهو عامله على المدينة
وإلى عامل اليمامة أن يطلبوا قتلة عون ويبالغوا في ذلك وأن يأخذوا السعاة به أشد
أخذ ويجعلوا لمن دل عليهم جعله وانشام السمهري في بلاد غطفان ما شاء الله ثم مر
بنخل فقالت عجوز من بني فزارة أظن والله هذا العكلي الذي قتل عونا فوثبوا عليه
فأخذوه ومر أيوب بن سلمة المخزومي بهم فقالت له بنو فزارة هذا العكلي قاتل عون ابن
عمك فأخذه منهم فأتى به هشام ابن إسماعيل المخزومي عامل عبد الملك على المدينة
فجحد وأبى أن يقر فرفعه إلى السجن فحبسه وزعم آخرون أن بني عذرة أخذوه فلما عرفت
إبل عون في يدي شافع ابن واتر اتهموه بقتله فأخذوه وقالوا أنت قرفتنا قتلت عونا
وحبسوه بصل ماء لبني أسد وجحد وقد كان عرف من قتله إما أن يكون كان معهم فورى عنهم
وبرأ نفسه وإما أن يكون أودعوها إياه أو باعوها منه فقال شافع ( فإن
سرَّكم أن تعلموا أين ثأْرُكُم ... فسلمَى معانٌ وابن قرفة ظالمُ ) ( وفي
السجن عُكْلِيٌّ شَريك لبهدل ... فولّوا ذُبابَ السّيف من هْو حازم ) ( فوالله
ما كنا جُناةً ولا بنا ... تأوّب عونا حتفُه وهو صائم ) فعرفوا
من قتله فألحوا على بهدل في الطلب وضيقوا على السمهري في القيود والسجن وجحد فلما
كان ذلك من إلحاحهم على السمهري أيقنت نفسه أنه غير ناج فجعل يلتمس الخروج من
السجن فلما كان يوم الجمعة والإمام يخطب وقد شغل الناس بالصلاة فك إحدى حلقتي قيده
ورمى بنفسه من فوق السجن والناس في صلاتهم فقصد نحو الحرة فولج غارا من الحرة
وانصرف الإمام من الصلاة فخاف أهل المدينة عامتهم أتباعه وغلقوا أبوابهم وقال لهم
الأمير اتبعوه فقالوا وكيف نتبعه وحدنا فقال لهم أنتم ألفا رجل فكيف تكونون وحدكم
فقالوا أرسل معنا الأبليين وهم حرس وأعوان من أهل الأبلة فأعجزهم الطلب فلما أمسى
كسر الحلقة الأخرى ثم همس ليلته طلقا فأصبح وقد قطع أرضا بعيدة فبينا هو يمضي إذ
نعب غراب عن شماله فتطير فإذا الغراب على شجرة بان ينشنش ريشه ويلقيه فاعتاف شيئا
في نفسه فمضى وفيها ما فيها فإذا هو قد لقي راعيا في وجهه ذلك فسأله من أنت قال
رجل من لهب من أزد شنوءة أنتجع أهلي فقال له هل عندك شيء من زجر قومك فقال إني
لآنس من ذلك شيئا أي لأبصر فقص عليه حاله غير أنه ورى الذنب على غيره والعيافة
وخبره عن الغراب والشجرة فقال اللهبي هذا الذي فعل ما فعل ورأى الغراب على البانة
يطرح ريشه سيصلب فقال السمهري بفيك الحجر فقال اللهبي بل بفيك الحجر استخبرتني
فأخبرتك ثم تغضب ثم مضى حتى اغترز في بلاد قضاعة وترك بلاد غطفان وذكر بعض الرواة
أنه توقف يومه وليلته فيما يعمله وهل يعود من حيث جاء ثم سار حتى أتى أرض عذرة بن
سعد يستجير القوم فجاء إلى القوم متنكرا ويستحلب الرعيان اللبن فيحلبون له ولقيه
عبد الله الأحدب السعدي أحد بني مخزوم من بني عبد شمس وكان أشد منه وألص فجنى
جناية فطلب فترك بلاد تميم ولحق ببلاد قضاعة وهو على نجيبة لا تساير فبينا السمهري
يماشي راعيا لبني عذرة ويحدثهم عن خيار إبلهم ويسأله السمهري عن ذلك - وإنما يسأله
عن أنجاهن ليركبها فيهرب بها لئلا يفارق الأحدب - أشار له إلى ناقة فقال السمهري
هذه خير من التي تفضلها هذه لا تجارى فتحين الغفلة فلما غفل وثب عليها ثم صاح بها
فخرجت تطير به وذلك في آخر الليل فلما أصبحوا فقدوها وفقدوه فطلبوه في الأثر وخرجا
حتى إذا كان حجر عن يسارهما وهو واد في جبل أو شبه الثقب في استقبلتهما سعة هي
أوسع من الطريق فظنا أن الطريق فيها فسارا مليا فيها ولا نجم يأتمان به فلما عرفا
أنهما حائدان والتفت عليهما الجبال أمامهما وجد الطلب إثر بعيريهما ورأوه وقد سلك الثقب
في غير طريق عرفوا أنه سيرجع فقعدوا له بفم الثقب ثم كرا راجعين وجاءت الناقة وعلى
رأسها مثل الكوكب من لغامها فلما أبصر القوم هم أن يعقر ناقتهم فقال له الأحدب ما
هذا جزاؤها فنزل ونزل الأحدب فقاتلهما القوم حتى كادوا يغشون السمهري فهتف بالأحدب
فطرد عنه القوم حتى توقلا في الجبل وفي ذلك يقول السمهري يعتذر من ضلاله متفرقات
من شعر السمهري ( وما كنتُ - مِحْيَاراً ولا فزِعَ السُّرَى ... ولكن
حِذَا حجْرٍ بغيرِ دليل ) وقال
الأحدب في ذلك ( لمّا
دعاني السمهريُّ أجبتُه ... بأبيضَ من ماء الحديد صقيلِ ) ( وما
كنتُ ما اشتدّتْ على السيفِ قبضتي ... لأُسْلِمَ من حُبِّ الحياة زميلي ) وقال
السمهري أيضا ( نجوتُ
ونفسي عند ليلى رهينة ... وقد غَمّني داجٍ من الليل دامسُ ) ( وغامسْتُ
عن نفسي بأخْلَقَ مِقصلٍ ... ولا خيرَ في نفس امرىءٍ لا تُغَامِس ) ( ولو
أَنّ لَيلَى أَبصرتنِيَ غدوةً ... ومَطْوَايَ والصفَّ الذين أُمارِس ) ( إذاً
لبكت ليلَى عليّ وأَعولت ... وما نالت الثوبَ الذي أَنا لابسُ ) فرجع
إلى صحراء منعج وهي إلى جنب أضاخ والحلة قريب منها وفيها منازل عكل فكان يتردد ولا
يقرب الحلة وقد كان أكثر الجعل فيه فمر بابني فائد بن حبيب من بني أسد ثم من بني
فقعس فقال أجيرا متنكرا فحلبا له فشرب ومضى لا يعرفانه وذهبا ثم لبث السمهري ساعة
وكر راجعا فتحدث إلى أخت ابني فائد فوجداه منبطحا على بطنه يحدثها فنظر أحدهما إلى
ساقه مكدحة وإذا كدوح طرية فأخبر أخاه بذلك فنظر فرأى ما أخبره أخوه فارتابا به
فقال أحدهما هذا والله السمهري الذي جعل فيه ما جعل فاتفقا على مضابرته فوثبا عليه
فقعد أحدهما على ظهره وأخذ الآخر برجليه فوثب السمهري فألقى الذي على ظهره وقال
أتلعبان وقد ضبط رأس الذي كان على ظهره تحت إبطه وعالجه الآخر فجعل رأسه تحت إبطه
أيضا وجعلا يعالجانه فناديا أختهما أن تعينهما فقالت ألي الشرك في جعلكما قالا نعم
فجاءت بجرير فجعلته في عنقه بأنشوطة ثم جذبته وهو مشغول بالرجلين يمنعهما فلما
استحكمت العقدة وراحت من علابيه خلى عنهما وشد أحدهما فجاء بصرار فألقاه في رجله
وهو يداور الآخر والأخرى تخنقه فخر لوجهه فربطاه ثم انطلقا به إلى عثمان بن حيان
المري وهو في إمارته على المدينة فأخذا ما جعل لأخذه فكتب فيه إلى الخليفة فكتب أن
ادفعه إلى ابن أخي عون عدي فدفع إليه فقال السمهري أتقتلني وأنت لا تدري أقاتل عمك
أنا أم لا ادن أخبرك فأراد الدنو منه فنودي إياك والكلب وإنما أراد أن يقطع أنفه
فقتله بعمه ولما حبسه ابن حيان في السجن تذكر زجر اللهبي وصدقه فقال ( ألا
أيّها البيتُ الذي أنا هاجِرُه ... فلا البيتُ منسيٌّ ولا أنا زائِرُهْ ) ( ألا
طرقت ليلَى وساقي رهينةٌ ... بأشهبَ مشدودٍ عليّ مَسامرُه ) ( فإن
أنجُ يا ليلى فربّ فتىً نجا ... وإن تَكُنِ الأخرى فشيءٌ أحاذره ) ( وما
أصْدَق الطيْر التي بَرِحت لنا ... وما أعيفَ اللَّهْبِيَّ لا عزَّ ناصرُه ) ( رأيتُ
غُراباً ساقطاً فوق بانة ... ينشنشُ أعلى ريشه ويُطايِره ) ( فقال
غرابٌ باغترابٍ من النوى ... وبانٌ بِبَيْنٍ من حبيبٍ تُحاذره ) ( فكان
اغترابٌ بالغُراب ونِيةٌ ... وبالبان بَيْنٌ بَيِّنٌ لك طائِرُه ) وقال
السمهري في الحبس يحرض أخاه مالكا على ابني فائد ( فمن
مُبلغٌ عنّي خلِيلَي مالكاً ... رسالة مشدود الوَثَاقِ غريبِ ) ( ومن
مبلغٌ حَزْماً وتَيْماً ومالكاً ... وأربابَ حامِي الحفر رهطِ شبيبِ ) ( ليُبْكوا
التي قالت بصحراء مَنْعِج ... لِيَ الشِّركُ يا بني فائدِ بن حبيب ) ( أَتضرب
في لحمي بسهم ولم يكن ... لها في سهام المسلمين نَصِيبُ ) وقال
السمهري يرقق بني أسد ( تمنّتْ
سُليمَى أن أَقِيلَ بأرضها ... وأَنّى لسَلْمَى ويْبَهَا ما تَمَنَّتِ ) ( ألا
ليتَ شعري هل أزورَنَّ ساجِراً ... وقد رَوِيَتْ ماءَ الغوادي وعلّت ) ( بني
أسد هل فيكمُ من هَوادةٍ ... فَتَغْفرَ إن كانتْ بي النعل زَلَّتِ ) وبنو
تميم تزعم أن البيت لمرة بن محكان السعدي وقال السمهري في الحبس يذم قومه ( لقد
جمع الحدّادُ بين عِصابة ... تسائل في الأقياد ماذا ذُنوبُها ) ( بمنزلة
أمّا اللئيمُ فشَامِتٌ ... بها وكِرامُ القوم بادٍ شحوبُها ) ( إذا
حَرَسِيٌّ قَعقعَ البابَ أُرْعِدَتْ ... فرائصُ أقوامٍ وطارت قلوبُها ) ( ألا
ليتني من غير عُكْلٍ قبيلتي ... ولم أدرِ ما شُبَّانُ عُكلٍ وشِيبُها ) ( قبيلة
مَنْ لا يقرع البابَ وفدُها ... لخير ولا يَهْدي الصوابَ خطيبُها ) ( نرى
الباب لا نَسطيع شيئا وراءه ... كأَنّا قُنِيٌّ أسلَمْتها كُعوبُها ) ( وإن
تكُ عُكلٌ سرَّها ما أصابني ... فقد كنتُ مصبوباً على ما يَرِيبها ) وقال
السمهري أيضا في الحبس ( ألا
حيِّ ليلَى إذ ألَمَّ لِمامُها ... وكان مع القوم الأعادِي كلامُها ) ( تعلَّلْ
بليلَى إنما أنتَ هامَةٌ ... من الغد يدنو كلَّ يوم حِمامُها ) ( وبادِرْ
بليلَى أوجهَ الركب إنهم ... متى يرجعوا يَحْرُمْ عليك كلامها ) ( وكيف
ترجِّيها وقد حِيلَ دونها ... وأَقسم أَقوامٌ مَخوفٌ قِسَامُها ) ( لأَجْتَنِبْنهَا
أو لَيَبْتَدِرُنَّنِي ... ببيضٍ عليها الأَثْرُ فَعْمٌ كِلامُها ) ( لقد
طرقتْ ليلَى ورِجْلِي رهينةٌ ... فما راعني في السجن إلا لِمامها ) ( فلمّا
انتهبتُ للخيال الذي سرى ... إذا الأرضُ قَفْرٌ قد علاها قَتامُها ) ( فإلاَّ
تكن ليلَى طَوتْك فإَنه ... شبيهٌ بليلى حُسنُها وقوامُها ) ( ألا
ليتنَا نَحْيا جميعاً بغِبْطَةٍ ... وتَبلى عظامِي حين تبلى عِظامُها ) وقال
أيضا ( ألا طرقتْ ليلَى وساقِي رَهينةٌ
... بأسمَر مشدودٍ عليّ ثقيلُ ) ( فما
البينُ يا سلْمى بأن تَشْحَطَ النّوى ... ولكنّ بيناً ما يُريد عقيلُ ) ( فإن
أنجُ منها أَنْجُ من ذي عظيمةٍ ... وإن تكن الأخرى فتلك سبيلُ ) وقال
أيضا وهو طريد ( فلا
تيأسَا من رحمةِ الله وانظُرا ... بوادي جَبُونَا أن تَهُبَّ شَمال ) ( ولا
تيأسا أن تُرْزَقا أريحِيّةً ... كعِينِ المها أعناقُهنّ طِوال ) ( من
الحارثِيِّينَ الذين دِماؤهم ... حَرامٌ وأما مالُهُم فحلال ) وقال
أيضا ( ألم ترَ أنِّي وابنَ أبيضَ قد جفت
... بنا الأرضُ إلا أَنْ نَؤمَّ الفَيافيا ) ( طَريديْن
من حيَّيْنِ شتى أَشَدَّنا ... مخافَتُنا حتى نخلْنا التّصافيا ) ( وما
لُمْتُه في أمرِ حَزمٍ ونجدةٍ ... ولا لامني في مِرَّتِي واحتياليا ) ( وقلتُ
له إذْ حلّ يسقي ويَسْتَقي ... وقد كَان ضوءُ الصبح لِلَّيْلِ حاديا ) ( لعمري
لقد لاقت ركابُك مشْرَباً ... لئنْ هِيَ لم تَضْبَحْ عليهنَّ عاليا ) وأخذت
طيء ببهدل ومروان أخيه أشد الأخذ وحبسوا فقالوا إن حبسنا لم نقدر عليهما ونحن
محبوسون ولكن خلوا عنا حتى نتجسس عنهما فنأتيكم بهما وكانا تأبدا مع الوحش يرميان
الصيد فهو رزقهما ولما طال ذلك على مروان هبط إلى راع فتحدث إليه فسقاه وبسطه حتى
اطمأن إليه ولم يشعره أنه يعرفه فجعل يأتيه بين الأيام فلا ينكره فانطلق الراعي
فأخبره باختلافه إليه فجاء معه الطلب وأكمنهم حتى إذا جاء مروان إلى الراعي كما
كان يفعل سقاه وحدثه فلم يشعر حتى أطافوا به فأخذوه وأتوا به عثمان بن حيان أيضا
عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة فأعطى الذي دل عليه جعله وقتله نهاية بهدل
وأما بهدل فكان يأوي إلى هضبة سلمى فبلغ ذلك سيدا من سلمى من طيء فقال قد أخيفت
طيء وشردت من السهل من أجل هذا الفاسق الهارب فجاء حتى حل بأهله أسفل تلك الهضبة
ومعه أهلات من قومه فقال لهم إنكم بعيني الخبيث فإذا كان النهار فليخرج الرجال من
البيوت وليخلوا النساء فإنه إذا رأى ذلك انحدر إلى القباب وطلب الحاجة والعل
فكانوا يخلون الرجال نهارا فإذا أظلموا ثابوا إلى رحالهم أياما فظن بهدل أنهم
يفعلون ذلك لشغل يأتيهم فانحدر إلى قبة السيد وقد أمر النساء إن انحدر إليكن رجل
فإنه ابن عمكن فأطعمنه وادهن رأسه وفي قبة السيد ابنتان له فسألهما من أنتما
فأخبرتاه وأطعمتاه ثم انصرف فلما راح أبوهما أخبرتاه فقال أحسنتما إلى ابن عمكما
فجعل ينحدر إليهما حتى اطمأن وغسلتا رأسه وفلتاه ودهنتاه فقال الشيخ لابنتيه
أفلياه ولا تدهناه إذا أتاكما هذه المرة واعقدا خصل لمته إذا نعس رويدا بخمل
القطيفة ثم إذا شددنا عليه فاقلبا القطيفة على وجهه وخذا أنتما بشعره من ورائه
فمدا به إليكما ففعلتا واجتمع له أصحابه فكروا إلى رحالهم قبل الوقت الذي كانوا يأتونها
وشدوا عليه فربطوه فدفعوه إلى عثمان بن حيان فقتله فقالت بنت بهدل ترثيه ( فيَا
ضَيْعةَ الفِتيانِ إذ يَعتِلونه ... ببطن الشّرى مثل الفنيق المسدّم ) ( دعَا
دعوة لما أَتى أرضَ مالك ... ومن لا يُجَبْ عند الحفيظة يُسلِم ) ( أما
كان في قيسٍ من ابن حفيظة ... من القوم طَلاَّبِ التِّرَات غَشمْشم ) ( فيقتُل
جَبراً بامرىءٍ لم يكن به ... بواءً ولكِنْ لا تكَايُلَ بالدم ) وكان
دعا يا لمالك لينتزعوه فلم يجبه أحد تساجل هو والكميت بن معروف قال ولما قال عبد
الرحمن بن دارة ابن عم سالم بن دارة هذه القصيدة يحض عكلا على بني فقعس اعترض
الكميت بن معروف الفقعسي فعيره بقتل سالم حين قتله زميل الفزاري فقال قوله ( فلا
تُكثِروا فيه الضَّجاج فإَنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا ) فقال
عبد الرحمن بن دارة ( فيا
راكباً إمّا عرضْتَ فبلّغَنْ ... مُغَلْغَلَةً عنّي القَبائلَ من عُكلِ ) ( جلت
حمماً عنها القِصَافُ وما جلتْ ... قُشَيْرٌ وفي الشّدَّاتِ والحرب ما يُجلي ) ( فإِن
يك باع الفَقعسِيُّ دِماءهَم ... بوَكسٍ فقد كانت دماؤكم تَغلِي ) ( وكيف
تنام الليلَ عُكلٌ ولم يكن ... لها قَوَدٌ بالسّمْهريّ ولا عَقْلُ ) ( رمى
اللهُ في أَكبَادِهم إِن نجتْ بها ... حروفُ القِنَانِ من ذليلٍ ومن وغلِ ) ( وكنا
حسِبْنَا فَقْعساً قبل هذه ... أذلّ على طول الهوان من النَّعل ) ( فإن
أنتمُ لم تثأَروا بأَخيكمُ ... فكونوا بَغايا للخَلُوق وللكُحل ) ( وبيعوا
الردينيّاتِ بالحلْيِ واقعدوا ... على الوِتْر وابتاعوا المغازلَ بالنَّبل ) ( فإنّ
الذي كانت تُجمجمُ فقْعَسٌ ... قتيلٌ بلا قَتْلَى وَتَبْلٌ بلا تَبْلِ ) ( فلا
سِلْمَ حتى تنحَطَ الخيلُ بالقنا ... وتُوقَدَ نارُ الحَرْب بالحَطَب الجَزْلِ ) فلما
بلغ قوله مالكا أخا السمهري بخراسان انحط من خراسان حتى قدم بلاد عكل فاستجاش نفرا
من قومه فعلقوا في أرض بني أسد يطلبون الغرة فوجدوا بثادق رجلا معه امرأة من فقعس
فقتلوه وحزوا رأسه وذهبوا بالرأس وتركوا جسده كما قتلوها أيضا وذكر لي أن الرجل
ابن سعدة والمرأة التي كانت معه هي سعدة أمه فقال عبد الرحمن في ذلك ( مَا
لقتيلِ فَقْعَسٍ لا رَأْسَ له ... هلاَّ سأَلْتَ فقْعساً من جَدّلَهْ ) ( لا
يتْبعنَّ فَقْعَسِيٌّ جملَهْ ... فرداً إذا ما الفقعسِيُّ أعملَه ) ( لا
يلقَيَنَّ قاتلاً فيقتلَه ... بسيفه قد سَمَّهُ وصقَلَهْ ) وقال
عبد الرحمن أيضا ( لمَّا
تمَالَى القومُ في رَأْدِ الضُّحَى ... نَظراً وقد لَمَعَ السّرابُ فجالا ) ( نظر
ابنُ سعْدةَ نظرةً ويَلاً لها ... كانت لصحبك والمطيِّ خَبالا ) ( لَمْحاً
رَأَى من فوقِ طودٍ يافعٍ ... بعضَ العُداة وجُنّة وظِلالا ) ( عيَّرتَنِي
طَلبَ الحُمُول وقد أَرَى ... لم آتهنَّ مكفِّفا بطَّالا ) ( فانظر
لنفسِكَ يابن سَعْدَةَ هل ترى ... ضبُعاً تجرُّ بثادِقٍ أَوْصالا )
( أوصالَ سَعْدَةَ والكميتِ وإنما
... كان الكُميتُ على الكُميت عِيالا ) وقال
عبد الرحمن في ذلك ( أصبحتُمُ
ثَكْلَى لِئاماً وأصبحتْ ... شياطينُ عُكْلٍ قد عَراهُنَّ فقْعَسُ ) ( قَضَى
مالكٌ ما قد قَضَى ثم قلّصت ... به في سواد الليل وجناءُ عِرْمُس ) ( فأضحتْ
بأَعلى ثادقٍ وكأنها ... مَحَالَةُ غَرْبٍ تستَمِرُّ وتمْرُس ) مقتله
وحدثني علي بن سليمان الأخفش أن بني أسد ظفرت بعبد الرحمن بن دارة بالجزيرة بعدما
أكثر من سبهم وهجائهم وتآمروا في قتله فقال بعضهم لا تقتلوه ولتأخذوا عليه أن
يمدحنا ونحسن إليه فيمحو بمدحه ما سلف من هجائه فعزموا على ذلك ثم إن رجلا منهم
كان قد عضه بهجائه اغتفله فضربه بسيفه فقتله وقال في ذلك ( قُتِلَ
ابنُ دارةَ بالجزيرةِ سَبَّنَا ... وزعمتَ أن سِبَابَنَا لا يَقْتُلُ ) قال
علي بن سليمان وقد روي أنا البيت المتقدم ( فلا
تُكثِروا فيه الضَّجاجُ فإَنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا ) لهذا
الشاعر الذي قتل ابن دارة وهو من بني أسد وهكذا ذكر السكري صوت ( كِلانا يرى
الجوزاءَ يا جُملُ إذ بدت ... ونَجْمَ الثريا والمزارُ بعيدُ ) ( فكيف
بكم يا جملُ أهلاً ودونكم ... بحورٌ يُقمِّصْن السّفينَ وبيدُ ) ( إذا
قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد ) الشعر
لمسعود بن خرشة المازني والغناء لبحر خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي أخبار مسعود بن
خرشة حنينه إلى جارية عشقها مسعود بن خرشة أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو
بن تميم شاعر إسلامي بدوي من لصوص بني تميم قال أبو عمرو وكان مسعود بن خرشة يهوى
امرأة من قومه من بني مازن يقال لها جمل بنت شراحيل أخت تمام بن شراحيل المازني
الشاعر فانتجع قومها ونأوا عن بلادهم فقال مسعود ( كِلانا
يرى الجوزاءَ يا جُملُ إذ بدت ... ونَجْمَ الثريا والمزارُ بعيدُ ) ( فكيف
بكم يا جملُ أهلاً ودونكم ... بحورٌ يُقمِّصْن السّفينَ وبيدُ ) ( إذا
قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد ) قال
أبو عمرو ثم خطبها رجل من قومها وبلغ ذلك مسعودا فقال ( أيا
جملُ لا تشقَيْ بأَقْعَسَ حَنْكلٍ ... قليلِ النَّدى يسعى بكِير ومِحْلَب ) ( له
أعنزٌ حُوٌّ ثمانٍ كأَنما ... يراهنّ غُرّ الخيل أَو هُنّ أنجب ) أخبار
مسعود بن خرشة حنينه إلى جارية عشقها مسعود بن خرشة أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك
بن عمرو بن تميم شاعر إسلامي بدوي من لصوص بني تميم قال أبو عمرو وكان مسعود بن
خرشة يهوى امرأة من قومه من بني مازن يقال لها جمل بنت شراحيل أخت تمام بن شراحيل
المازني الشاعر فانتجع قومها ونأوا عن بلادهم فقال مسعود ( كِلانا
يرى الجوزاءَ يا جُملُ إذ بدت ... ونَجْمَ الثّريَّا والمزارُ بعيدُ ) ( فكيف
بكم يا جُمْلُ أهلاً ودونَكم ... بُحورٌ يُقَمِّصْن السّفينَ وبيدُ ) ( إذا
قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد ) قال
أبو عمرو ثم خطبها رجل من قومها وبلغ ذلك مسعودا فقال ( أيا
جملُ لا تشقَيْ بأَقْعَسَ حَنْكلٍ ... قليلِ النَّدى يسعى بكِير ومِحْلَب ) ( له
أعنزٌ حُوٌّ ثمانٍ كأَنما ... يراهنّ غُرّ الخيل أَو هُنّ أنجب ) وقال
أبو عمرو وسرق مسعود بن خرشة إبلا من مالك بن سفيان بن عمرو الفقعسي هو ورفقاء له
وكان معه رجلان من قومه فأتوا بها اليمامة ليبيعوها فاعترض عليهم أمير كان بها من
بني أسد ثم عزل وولي مكانه رجل من بني عقيل فقال مسعود في ذلك ( يقول
المرجفون أجاءَ عهدٌ ... كفى عهداً بتنفيذ القِلاصِ ) ( أتى
عهدُ الإمارة من عُقيلٍ ... أغرَّ الوجه رُكّب في النواصي ) ( حُصونُ
بني عُقيلٍ كلُّ عَضْبٍ ... إذا فَزِعوا وسابغةٍ دِلاصِ ) ( وما
الجارات عند المَحْل فيهم ... ولو كثر الروازحُ بالخِماصِ ) قال
وقال مسعود وقد طلبه وإلي اليمامة فلجأ إلى موضع فيه ماء وقصب ( ألا
ليت شِعري هل أبيتنَّ ليلةً ... بوعثاءَ فيها للظباءِ مكانسُ ) ( وهل
أنجُوَنْ من ذي لَبِيدِ بن جابرٍ ... كأنَّ بناتِ الماء فيه المُجالس ) ( وهل
أسمعَنْ صوتَ القَطَا تندب القطا ... إلى الماء منه رابع وخوامس ) أخبار
بحر ونسبه هو بحر بن العلاء مولى بني أمية حجازي أدرك دولة بني هاشم وعمر إلى أيام
الرشيد وقد هرم وكان له أخ يقال له عباس وأخوه بحر أصغر منه مات في أيام المعتصم
وكان يلقب حامض الرأس وله صنعة وأقدمه الرشيد عليه ثم كرهه فصرفه الرشيد يشرب على
أصواته حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني أحمد بن أبي خالد الأحول عن
علي بن صالح صاحب المصلى أن الرشيد سمع من علويه ومخارق وهما يومئذ من صغار
المغنين في الطبقة الثالثة أصواتا استحسنها ولم يكن سمعها فقال لهما ممن أخذتما
هذه الأصوات فقالا من بحر فاستعادها وشرب عليها ثم غناه مخارق بعد أيام صوتا لبحر
فأمر بإحضاره وأمره أن يغني ذلك الصوت فغناه فسمع الرشيد صوتا حائلا مرتعشا فلم
يعجبه واستثقله لولائه لبني أمية فوصله وصرفه ولم يصل إليه بعد ذلك صوت ( ألا يا
لَقومي لِلنوائب والدّهر ... وللمرء يُردِي نفسه وَهْو لا يَدري ) ( وللأرض
كم من صالح قد تودّات ... عليه فوارتْهُ بلمّاعةٍ قَفرِ ) عروضه
من الطويل قال الأصمعني يقال للرجل أو للقوم إذا دعوتهم يال كذا بفتح اللام وإذا
دعوت للشيء قلت بالكسرة تقول يا للرجال ويا للقوم وتقول يا للغنيمة ويا للحادثة أي
اعجلوا للغنيمة وللحادثة فكأنه قال يا قوم اعجلوا للغنيمة وروى الأصمعي وغيره مكان
قد تودأت قد تلمأت عليه وتلاءمت أي وارته ويروى تأكمت أي صارت أكمة الشعر لهدبة بن
خشرم والغناء لمعبد ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق أخبار هدبة بن
خشرم ونسبه وقصته في قوله هذا الشعر وخبر مقتله هو هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية
بن الكاهن وهو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن
سعد بن هذيم وسعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف بن قضاعة ويقال بل هو سعد بن أسلم
وهذيم عبد لأبيه رباه فقيل سعد بن هذيم يعني سعدا هذا طبقته في الشعر وهدبة شاعر
فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعرا راوية كان يروي للحطيئة والحطيئة يروي لكعب
بن زهير وكعب بن زهير يروي لأبيه زهير وكان جميل راوية هدبة وكثير راوية جميل
فلذلك قيل إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر كثير وكان لهدبة ثلاثة إخوة كلهم
شاعر حوط وسيحان والواسع أمهم حية بنت أبي بكر بن أبي حية من رهطهم الأدنين وكان
شاعره أيضا أخبار هدبة بن خشرم ونسبه وقصته في قوله هذا الشعر وخبر مقتله هو هدبة
بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الكاهن وهو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد
الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم وسعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف بن
قضاعة ويقال بل هو سعد بن أسلم وهذيم عبد لأبيه رباه فقيل سعد بن هذيم يعني سعدا
هذا طبقته في الشعر وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعرا راوية كان
يروي للحطيئة والحطيئة يروي لكعب بن زهير وكعب بن زهير يروي لأبيه زهير وكان جميل
راوية هدبة وكثير راوية جميل فلذلك قيل إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر
كثير وكان لهدبة ثلاثة إخوة كلهم شاعر حوط وسيحان والواسع أمهم حية بنت أبي بكر بن
أبي حية من رهطهم الأدنين وكانت شاعرة أيضا وهذا الشعر يقوله هدبة في قتله زيادة
بن زيد بن مالك بن عامر بن قرة ابن حنش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان بن
الحارث بن سعد بن هذيم أخبرني بالخبر في ذلك جماعة من شيوخنا فجمعت بعض روايتهم
إلى بعض واقتصرت على ما لا بد منه من الأشعار وأتيت بخبرهما على شرح وألحقت ما نقص
من رواية بعضهم عن رواية صاحبه في موضع النقصان فممن حدثني به محمد بن العباس
اليزيدي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي تينة قال حدثنا خلف بن المثنى الحداني
عن أبي عمرو المديني وأخبرني الحسن بن يحيى ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي
عن حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه الحرب بين قومه بني عامر وقوم زيادة بن زياد
وأخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار
عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه عن عمه وقد نسبت إلى كل واحد منهم ما
انفرد به من الرواية وجمعت ما اتفقوا عليه قال عيسى بن إسماعيل في خبره خاصة كان
أول ما هاج الحرب بين بني عامر بن عبد الله بن ذبيان وبين بني رقاش وهم بنو قرة بن
حفش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان وهم رهط زيادة بن زيد وبنو عامر رهط
هدبة أن حوط بن خشرم أخا هدبة راهن زيادة بن زيد على جملين من إبلهما وكان مطلقهما
من الغاية على يوم وليلة وذلك في القيظ فتزودوا الماء في الروايا والقرب وكانت أخت
حوط سلمى بنت خشرم تحت زيادة بن زيد فمالت مع أخيها على زوجها فوهنت أوعية زيادة
ففني ماؤه قبل ماء صاحبه فقال زيادة ( قد
جعلت نَفْسِيَ في أَدِيم ... مُحَرّمِ الدّباغ ذِي هُزُومِ ) ( ثمّ
رَمَت بِي عُرُضَ الدّيْمومِ ... في بارحٍ من وَهَج السَّموم ) ( عند
اطّلاع وعرة النجوم ... ) قال
اليزيدي في خبره المحرم الذي لم يدبغ والهزوم الشقوق قال وقال زيادة أيضا ( قد
علِمَتْ سلمةُ بالعَميسِ ... ليلةَ مَرْمَارٍ وَمَرْمَرِيس ) ( أَنَّ
أَبَا المِسْور ذو شَرِيس ... يَشفي صُداع الأبلَج الدِّلْعِيس ) العميس
موضع والمرمار والمرمريس الشدة والاختلاط وأبا المسور يعني زيادة نفسه وكانت كنيته
أبا المسور تبادل التشبيب بأختيهما قال فكان ذلك أول ما أثبت الضغائن بينهما ثم إن
هدبة بن خشرم وزيادة بن زيد اصطحبا وهما مقبلان من الشام في ركب من قومهما فكانا
يتعاقبان السوق بالإبل وكان مع هدبة أخته فاطمة فنزل زيادة فارتجز فقال ( عُوجي
علينا واربَعِي يا فاطمَا ... ما دون أَن يُرَى البَعيرُ قائمَا ) أي
ما بين مناخ البعير إلى قيامه ( أَلاّ
تَرين الدمع منّي ساجمَا ... حِذارَ دارٍ منك لن تُلائمَا ) ( فَعرَّجَتْ
مطَّرداً عُراهِمَا ... فَعْماً يبذّ القُطُف الرَّوَاسما ) مطرد
متتابع السير وعراهم شديد وفعم ضخم والرسيم سير فوق العنق والرواسم الإبل التي
تسير هذا السير الذي ذكرناه ( كأنَّ
في المثْناة منه عائمَا ... إنّكَ والله لأَنْ تُبَاغِمَا ) المثناة
الزمام وعائم سائح تباغم تكلم ( خَوْذاً
كأّنّ البُوصَ والمآكما ... منا نقاً مُخالطٌ صَرائما ) البوص
العجز والمأكمتان ما عن يمين العجز وشماله والنقا ما عظم من الرمل والصرائم دونه ( خيرٌ
من استقبالك السَّمائمَا ... ومن مُنادٍ يبتغي مُعَاكِما ) ويروى
ومن نداء أي رجل تناديه تبتغي أن يعينك على عكمك حتى تشده فغضب هدبة حين سمع زيادة
يرتجز بأخته فنزل فرجز بأخت زيادة وكانت تدعى فيما روى اليزيدي أم حازم وقال
الآخرون أم القاسم فقال هدبة ( لقد
أراني والغُلامَ الحازمَا ... نُزجِي المَطيَّ ضُمَّراً سَواهِما ) ( متى
تَظُنّ القُلُصَ الرّوَاسما ... والجِلّةَ النّاجيةَ العَيَاهِما ) العياهم
الشداد ( يُبلِغْن أمَّ حازم وحازماً ...
إذا هَبَطن مُسْتَحيراً قاتِمَا ) ( ورجَّع
الحادي لها الهَمَاهِمَا ... ألا تَريْنَ الحُزنَ مني دائمَا ) ( حِذارَ
دارٍ منك لن تُلائما ... والله لا يَشفي الفؤادَ الهائمَا ) ( تَمساحُكَ
اللَّبّاتِ والمآكمَا ... ولا الِلّمامُ دون أن تلازِمَا ) ( ولا
اللِثام دون أن تُفاقما ... ولا الفِقامُ دون أن تفاغمَا ) ( وتعلو
القوائم القوائما ... ) قال
فشتمه زيادة وشتمه هدبة وتسابا طويلا فصاح بهما القوم اركبا لا حملكما الله فإنا
قوم حجاج وخشوا أن يقع بينهما شر فوعظهما حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه
وهدبة أشدهما حنقا لأنه رأي أن زيادة قد ضامه إذا زجر بأخته وهي تسمع قوله ورجز هو
بأخته وهي غائبة لا تسمع قوله فمضيا ولم يتحاورا بكلمة حتى قضيا حجهما ورجعا إلى
عشيرتهما خبر عمه زفر وسبب غضب قومه قال اليزيدي خاصة في خبره ثم التقى نفر من بني
عامر من رهط هدبة فيهم أبو جبر وهو رئيسهم الذي لا يعصونه وخشرم أبو هدبة وزفر عم
هدبة وهو الذي بعث الشر وحجاج بن سلامة وهو أبو ناشب ونفر من بني رقاش رهط زيادة
وفيهم زيادة بن زيد وإخوته عبدالرحمن ونفاع وأدرع بواد من أودية حرتهم فكان بينهم
كلام فغضب ابن الغسانية وهو أدرع وكان زفر هدبة يعزى رجل من بني رقاش فقام له أدرع
فزجر فقال ( أدُّوا إلينا زفرا ... نعرف منه
النظرا ) ( وعينه والأثر ... ) قال
فغضب رهط هدبة وادعوا حدا على بني رقاش فتداعوا إلى السلطان ثم اصطلحوا على أن
يدفع إليهم أدرعُ فيخلوا به نفر منهم فما رأوه عليه أمضوه فلما خلوا به ضربوه الحد
ضربا مبرحا فراح بنو رقاش وقد أضمروا الحرب وغضبوا فقال عبد الرحمن بن زيد ( ألا
أَبلغ أبا جَبْرٍ رسولاً ... فما بيني وبينكُم عِتابُ ) ( ألم
تعلم بأنَّ القوم راحوا ... عشيةَ فارقوك وهم غِضابُ ) فأجابه
الحجاج بن سلامة فقال ( إن
كان ما لاقى ابنُ كنعاء مُرغِماً ... رقاشَ فزاد اللهُ رَغْما سِبالَهما ) ( منعنا
أخانا إذ ضربنا أخاكُم ... وتلك من الأعداء لا مِثْلَ مالها ) هدبة
وزيادة يتهاديان الأشعار قال اليزيدي في خبره وجعل هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار
ويتفاخران ويطلب كل واحد منهما العلو على صاحبه في شعره وذكر أشعارا كثيرة فذكرت
بعضها وأتيت بمختار ما فيه فمن ذلك قول زيادة في قصيدة أولها ( أراك
خليلاً قد عزمت التّجنبا ... وقطَّعتَ حاجاتِ الفؤاد فأصحبا ) اخترت
منها قوله ( وأنك للناس الخليلُ إذا دنتْ ...
به الدارُ والباكي إذا ما تغيَّبا ) ( وقد
أعذَرَتْ صرفُ الليالي بأهلها ... وشَحْطُ النَّوَى بيني وبينك مَطلبا ) ( فلا
هي تأْلو ما نأَتْ وتباعَدَتْ ... ولا هو يأْلُو ما دنا وتقرَّبا ) ( أطعتُ
بها قول الوشاة فلا أرى الوشاةَ ... انتهوا عنه ولا الدهرَ أُعتبا ) ( فهلاّ
صَرمْتِ والحبالُ متينةٌ ... أُميمةُ إن واشٍ وشى وتكذَّبا ) ( إذا
خفتَ شكَّ الأمرِ فارمِ بعزمة ... غَيَابَتَه يركب بك الدهرُ مركبا ) ( وإن
وِجهةٌ سُدَّتْ عليك فُرُوجُها ... فأنّك لاقٍ لا محالة مذهبا ) ( يُلامُ
رجالٌ قبل تجريبِ غَيْبِهم ... وكيف يُلام المرءُ حتى يُجرَّبا ) ( وإنّي
لمِعراضٌ قليلٌ تعرُّضي ... لوجه امرىء يوماً إذا ما تجنَّبا ) ( قليلٌ
عِثَاري حين أُذعَرُ ساكنٌ ... جَناني إذا ما الحرب هرَّت لتكْلَبا ) ( بحسبك
ما يأتيك فاجمع لنازل ... قِراهُ ونَوِّبْه إذا ما تنوّبا ) ( ولا
تَنتجِع شَرًّا إذا حيل دونه ... بِسِتْرٍ وهَبْ أسبابَه ما تهيّبا ) ( أنا
ابن رَقاشٍ وابنُ ثعلبةَ الذي ... بنى هادياً يعلو الهواديَ أغلبا ) ( بنَى
العِزُّ بنياناً لقومي فما صَعُوا ... بأَسيافهم عنه فأَصبح مُصعَبا ) ( فما
إنْ ترى في الناس أُماً كأُمِّنا ... ولا كأبينا حين ننسبُهُ أَبا ) ( أَتمَّ
وأَنمى بالبنين إلى العلا ... وأَكرمَ منا في المناصب مَنصَبا ) ( مَلَكنا
ولم نُملَكْ وقُدْنا ولم نُقَدْ ... كأَنَّ لنا حقاً على الناس تُرتَبا ) قال
اليزيدي ترتب ثابت لازم ( بآيةِ
أنّا لا نرى مُتَتَوِّجاً ... من الناسِ يعلونا إذا ما تعصّبا ) ( ولا
مِلكاً إلا اتّقانا بمُلكه ... ولا سُوقةً إلا على الخَرْج أُتعِبا ) ( ملكنا
ملوكاً واستبحْنا حِماهُم ... وكنّا لهم في الجاهلية موكِبا ) ( ندامى
وأردافاً فلم تَرَ سُوقةً ... توازننا فاسأَل إياداً وتَغلِبا ) فأجابه
هدبة وهذا مختار ما فيها فقال ( تَذَكَّرَ
شَجواً من أُميمةَ مُنصِبا ... تليداً ومُنتاباً من الشوق مُجْلِبا ) ( تَذَكّرَ
حبًّا كان في مَيْعة الصِّبا ... ووجداً بها بعد المشيب مُعتِّبا ) ( إذا
كادَ ينساها الفؤادُ ذكرتُها ... فيا لكِ ما عَنّى الفؤادَ وعذَّبا ) ( غَدَا
في هواها مستكيناً كأَنه ... خليعُ قِداحٍ لم يجد مُتنشَّبا ) ( وقد
طال ما عُلِّقْتَ ليلى مُغَمّرا ... وليدا إلى أن صار رأْسُكَ أشْيَبا ) - المغمر
الغمر أي غير حدث - ( رأيتك
في لَيلَى كذي الدَّاءِ لم يجد ... طبيباً يداوِي ما به فَتَطَبَّبا ) ( فلما
اشتفى مما به كرَّ طِبُّه ... على نفسه من طول ما كان جرَّبا ) قتل
زيادة وتنحى ثم استسلم فلم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها فبيته فقتله وتنحى
مخافة السلطان وعلى المدينة يومئذ سعيد بن العاص فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم
بالمدينة فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه وتخلص عمه وأهله فلم يزل محبوسا
حتى شخص عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة إلى معاوية فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد
منه إذا قامت البينة فأقامها فمشت عذرة إلى عبد الرحمن فسألوه قبول الدية فامتنع
وقال صوت ( أَنختُم علينا كَلْكَلَ الحرب مُرَّة ... فنحن مُنيخُوها عليكم بكلكَلِ ) ( فلا
يدْعُني قومي لزيدِ بن مالك ... لئن لم أُعجِّل ضربةً أو أعجَّل ) ( أبعد
الذي بالنَّعْف نعفِ كُوَيْكِبٍ ... رهينةِ رمسٍ ذي تراب وجندلِ ) ( كريمٌ
أصابته دياتٌ كثيرة ... فلم يدر حتى حين من كل مدخل ) ( أُذكَّر
بالبُقْيا على من أَصابني ... وبُقيايَ أّني جاهدٌ غيرُ مؤتلِي ... ) غناه
ابن سريج رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وقيل إنه لمالك بن أبي السمح وله
فيه لحن آخر رجع الخبر إلى سياقته سعيد بن العاص يحكم معاوية في أمر هدبة وأما علي
بن محمد النوفلي فذكر عن أبيه أن سعيد بن العاص كره الحكم بينهما فحملهما إلى
معاوية فنظر في القصة ثم ردها إلى سعيد وأما غيره فذكر أن سعيدا هو الذي حكم
بينهما من غير أن يحملهما إلى معاوية قال علي بن محمد عن أبيه فلما صاروا بين يدي
معاوية قال عبد الرحمن أخو زيادة له يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي وما دفعت
إليه وجرى علي وعلى أهلي وقرباي وقتل أخي زيادة وترويع نسوتي فقال له معاوية يا
هدبة قل فقال إن هذا رجل سجاعة فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاما أو شعرا فعلت قال
لا بل شعرا فقال هدبة هذه القصيدة ارتجالا ( أَلا
يا لقَومي لِلنّوائب والدّهر ... ولِلمرء يُردِي نفسه وهُو لا يدرِي ) ( ولِلأرض
كم من صالحٍ قد تأَكَّمَت ... عليه فوارتْهُ بلمّاعةٍ قَفْر ) ( فلا
تتّقي ذا هَيْبة لجلاِله ... ولا ذا ضياعٍ هنّ يُتْركْن للفقرِ ) حتى
قال ( رُمِينا فَرامَينا فصادف رَمْيُنا
... مَنايا رجالٍ في كتابٍ وفي قَدْر ) ( وأنت
أميرُ المؤمنين فما لنا ... وراءك من مَعدىً ولا عنك من قَصْر ) ( فإن
تك في أموالنا لم نَضِق بها ... ذِراعاً وإن صبرٌ فنصبِرُ للصّبر ) فقال
له معاوية أراك قد أقررت بقتل صاحبهم ثم قال لعبد الرحمن هل لزيادة ولد قال نعم
المسور وهو غلام صغير لم يبلغ وأنا عمه وولي دم أبيه فقال إنك لا تؤمن على أخذ
الدية أو قتل الرجل بغير حق والمسور أحق بدم أبيه فرده إلى المدينة فحبس ثلاث سنين
حتى بلغ المسور جميل بن معمر يزوره في السجن ويهديه أخبرني الحرمي بن العلاء قال
حدثنا الزبير بن بكار قال نسخت من كتاب عامر بن صالح قال دخل جميل بن معمر العذري
على هدبة بن خشرم السجن وهو محبوس بدم زيادة بن زيد وأهدى له بردين من ثياب كساه
إياها سعيد بن العاص وجاءه بنفقة فلما دخل إليه عرض ذلك عليه وسأله أن يقبله منه
فقال له هدبة أأنت يا بن معمر الذي تقول ( بني
عامرٍ أنَّى انتجعْتُم وكنتُم ... إذا عُدِّد الأقوامُ كالخُصْية الفرد ) أما
والله لئن خلص الله لي ساقي لأمدن لك مضمارك خذ برديك ونفقتك فخرج جميل فلما بلغ
باب السجن خارجا قال اللهم أغن عني أجدع بني عامر قال وكانت بنو عامر قد قلت
فحالفت لإياد قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني فقالت أم هدبة فيه لما شخص
إلى المدينة فحبس بها ( أَيا
إخوتي أهلَ المدينة أكرموا ... أسيركُمُ إن الأسيرَ كريمُ ) ( فَرُبَّ
كريمٍ قد قَرَاه وضافَه ... ورُبَّ أمورٍ كلُّهن عظيمُ ) ( عَصَى
جلُّهَا يوماً عليه فراضَه ... من القوم عَيّافٌ أشمُّ حليمُ ) فأرسل
هدبة العشيرة إلى عبد الرحمن في أول سنة فكلموه فاستمع منهم ثم قال ( أَبعْدَ
الذي بالنَّعف نعفِ كُويْكِبِ ... رهينةِ رمسٍ ذي تُراب وجندَلِ ) ( أُذكِّر
بالبُقْيا على مَنْ أصابني ... وبُقْيَايَ أني جاهدٌ غيرُ مُؤْتلي ) فرجعوا
إلى هدبة بالأبيات فقال لم يوئسني بعد فلما كانت السنة الثالثة بلغ المسور فأرسل
هدبة إلى عبد الرحمن من كلمه فأنصت حتى فرغوا ثم قام عنه مغضبا وأنشأ يقول ( سأَكْذِب
أَقواماً يقولون إنَّني ... سآخذُ مالاً من دم أنا ثائرُهْ ) ( فبِاسْت
امرىءٍ واسْتِ التي زَحَرت به ... يسوق سَواماً من أخٍ هو واترُهْ ) ونهض
فرجعوا إلى هدبة فأخبروه الخبر فقال الآن أيست منه وذهب عبد الرحمن بالمسور وقد
بلغ إلى والي المدينة وهو سعيد بن العاص وقيل مروان بن الحكم فأخرج هدبة لقاؤه
الأخير بزوجته قالوا فلما كان في الليلة التي قتل في صباحها أرسل إلى امرأته وكان
يحبها إيتيني الليلة أستمتع بك وأعودك فأتته في اللباس والطيب فصارت إلى رجل قد
طال حبسه وأنتنت في الحديد رائحته فحادثها وبكى وبكت ثم راودها عن نفسها وطاوعته
فلما علاها سمعت قعقعة الحديد فاضربت تحته فتنحى عنه وأنشأ يقول ( وأدْنَيْتِني
حتى إذا ما جعلتِني ... لَدَى الخصْر أو أدنَى استقَلَّك راجفُ ) ( فإِن
شئتُ والله انتهيتُ وإنّني ... لئلا ترَيْني آخرَ الدهر خائفُ ) ( رأت
ساعدَيْ غُولٍ وتحت ثيابه ... جآجىء يدْمَى حدُّها وَالحراقفُ ) ثم
قال الشعر حتى أتى عليه وهو طويل جدا وفيه يقول صوت ( فلم تَرَ عيني مثلَ سربٍ
رأيتُهُ ... خرجْنَ علينا من زقاق ابنِ وَاقفِ ) ( تضمَّخْن
في الجاديِّ حتى كأنَّما الأنوفُ ... إذا استَعْرَضْتَهُنّ رَوَاعِف ) ( خرجن
بأَعناق الظباء وأعينُ الجآذِر ... وَارتجَّت لهن السَّوالف ) ( فلو
أنّ شيْئاً صاد شيئاً بطَرفه ... لصِدْن ظباء فوقهنَّ المطارفُ ) غنى
فيه الغريض رملا بالبنصر من رواية حبش وفيه لحن خفيف ثقيل وذكر إسحاق أن فيه لحنا
ليونس ولم يذكر طريقته في مجرده أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمه قال مر أبو
الحارث جمين يوما بسوق المدينة فخرج عليه رجل من زقاق ابن واقف بيده ثلاث سمكات قد
شق أجوافها وقد خرج شحمها فبكى أبو الحارث ثم قال تعس الذي يقول ( فلم
تَرَ عيني مثلَ سربٍ رأيتُهُ ... خرجْنَ علينا من زقاق ابنِ وَاقفِ ) وانتكس
ولا انجبر والله لهذه السمكات الثلاث أحسن من السرب الذي وصف وأحسب أن هذا الخبر
مصنوع لأنه ليس بالمدينة زقاق يعرف بزقاق ابن واقف ولا بها سمك ولكن رويت ما روي حذف
271 شعره في حبّى امرأة مالك وقال حماد بن إسحاق عن أبيه أن ابن كناسة قال مر
بهدبة على حبى فقالت في سبيل الله شبابك وجلدك وشعرك وكرمك فقال هدبة ( تَعَجَّبُ
حُبَّى من أَسيرٍ مُكبّلٍ ... صَلِيبِ العَصَا باقٍ على الرّسَفَانِ ) ( فلا
تَعْجَبي مِنِّي حَليلَة مالكٍ ... كذلك يأْتي الدهرُ بالحدَثانِ ) وقال
النوفلي عن أبيه فلما مضي به من السجن للقتل التفت فرأى امرأته وكانت من أجمل
النساء فقال ( أَقِلِّي
عليّ اللَّومَ يا أُمَّ بَوزَعا ... ولا تَجْزَعي ممّا أصَابَ فأَوجعا ) ( ولا
تنْكَحي إن فرّق الدهرُ بيننا ... أغَمّ القفا والوجه ليس بأنْزَعا ) ( كَليلاً
سوى ما كان من حَدّ ضِرْسه ... أُكَيْبِدَ مِبْطانَ العَشِيّاتِ أرْوَعا ) ( ضَروباً
بلَحْييه على عَظم زَوره ... إذا الناس هَشُّوا للفَعال تَقنَّعا ) ( وحُلِّي
بذي أُكرومة وحَمِيّةٍ ... وَصبْرٍ إذا ما الدهر عَضَّ فأَسرعا ) يذكر
شرط زوجته في الزواج بعد موته وقال حماد عن أبيه عن مصعب بن عبد الله قال لما أخرج
هدبة من السجن ليقتل جعل الناس يتعرضون له ويخبرون صبره ويستنشدونه فأدركه عبد
الرحمن بن حسان فقال له يا هدبة أتأمرني أن أتزوج هذه بعدك يعني زوجته وهي تمشي
خلفه فقال نعم إن كنت من شرطها قال وما شرطها قال قد قلت في ذلك ( فلاَ
تنْكَحِي إن فرَّق الدهرُ بيننا ... أغَمّ القفا والوجهِ ليس بأنْزَعا ) ( وكُوني
حَبيساً أو لأروعَ ماجدٍ ... إذا ضَنَّ أعشاشُ الرِّجالِ تَبرَّعا ) فمالت
زوجته إلى جزار وأخذت شفرته فجدعت بها أنفها وجاءته تدمى مجدوعة فقالت أتخاف أن
يكون بعد هذا نكاح قال فرسف في قيوده وقال الآن طاب الموت وقال النوفلي عن أبيه إنها
فعلت ذلك بحضرة مروان وقالت له إن لهدبة عندي وديعة فأمهله حتى آتيه بها قال أسرعي
فإن الناس قد كثروا وكان جلس لهم بارزا عن داره فمضت إلى السوق فانتهت إلى قصاب
وقالت أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك ففعل فقربت من حائط وأرسلت
ملحفتها على وجهها ثم جدعت أنفها من أصله وقطعت شفتيها ثم ردت الشفرة وأقبلت حتى
دخلت بين الناس وقالت يا هدبة أتراني متزوجة بعد ما ترى قال لا الآن طابت نفسي بعد
بالموت ثم خرج يرسف في قيوده فإذا هو بأبويه يتوقعان الثكل فهما بسوء حال فأقبل
عليهما وقال ( أَبلِياني
اليومَ صبرًا منكما ... إنّ حُزْناً إن بدا بادىءُ شرْ ) ( لا
أُراني اليومَ إلا ميِّتاً ... إنّ بعدَ الموت دارَ المستَقَرْ ) ( اصبِرَا
اليوم فإني صابرٌ ... كلُّ حَيٍّ لقَضاء وقَدرْ ) زوجته
تنكثت بعهدها قال النوفلي فحدثني أبي قال حدثني رجل من عذرة عن أبيه قال إني
لببلادنا يوما في بعض المياه فإذا أنا بامرأة تمشي أمامي وهي مدبرة ولها خلق عجيب
من عجز وهيئة وتمام جسم وكمال قامة فإذا صبيان قد اكتنفاها يمشيان قد ترعرعا
فتقدمتها والتفت إليها فإذا هي أقبح منظر وإذا هي مجدوعة الأنف مقطوعة الشفتين
فسألت عنها قيل لي هذه امرأة هدبة تزوجت بعده رجلا فأولدها هذين الصبيين قال ابن
قتيبة في حديثه فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدية عنه قال أعطيك ما لم
يعطه أحد من العرب أعطيك مائة ناقة حمراء ليس فيها جداء ولا ذات داء فقال له والله
لو نقبت لي قبتك هذه ثم ملأتها لي ذهبا ما رضيت بها من دم هذا الأجدع فلم يزل سعيد
يسأله ويعرض عليه فيأبى ثم قال له والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله ( لنَجدَعَنّ
بأَيدينا أُنوفَكم ... ويذهبُ القتلُ فيما بيننا هَدَرا ) فدفعه
حينئذ لقتله بأخيه تعريضه بحبي في طريقه إلى الموت قال حماد وقرأت على أبي عن مصعب
بن عبد الله الزبيري قال ومر هدبة بحبى فقالت له كنت أعدك في الفتيان وقد زهدت فيك
اليوم لأني لا أنكر أن يصبر الرجال على الموت لكن كيف تصبر عن هذه فقال أما والله
إن حبي لها لشديد وإن شئت لأصفن لك ذلك ووقف الناس معه فقال ( َوجِدت بها
ما لم تَجِد أُمّ واحدٍ ... ولا وجدُ حُبّى بابن أُمّ كِلابِ ) ( رأَته
طويل السّاعدين شمَرْدَلاً ... كما تَشْتَهي من قوة وشباب ) فانقمعت
داخلة إلى بيتها فأغلقت الباب دونه قالوا فدفع إلى أخي زيادة ليقتله قال فاستأذن
في أن يصلي ركعتين فأذن له فصلاهما وخفف ثم التفت إلى من حضر فقال لولا أن يظن بي
الجزع لأطلتهما فقد كنت محتاجا إلى إطالتهما ثم قال لأهله إنه بلغني أن القتيل
يعقل ساعة بعد سقوط راسه فإن عقلت فإني قابض رجلي وباسطها ثلاثا ففعل ذلك حين قتل
وقال قبل أن يقتل ( إنْ
تقتُلوني في الحديد فإنني ... قتلتُ أخاكم مُطْلقاً لم يُقَيّد ) فقال
عبد الرحمن أخو زيادة والله لا قتلته إلا مطلقا من وثاقه فأطلق له فقام إليه وهز
السيف ثم قال ( قد
علِمْتُ نفسي وأنت تعلمُهْ ... لأقتلَنَّ اليومَ من لا أَرحمُهْ ) ثم
قتله فقال حماد في روايته ويقال إن الذي تولى قتله ابنه المسور دفع إليه عمه السيف
وقال له قم فاقتل قاتل أبيك فقام فضربه ضربتين قتله فيهما هو أول من أقيد منه في
الإسلام أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي قال بلغني أن هدبة أول
من أقيد منه في الإسلام قال أحمد بن الحارث الخراز قال المدائني مرت كاهنة بأم
هدبة وهو وأخوته نيام بين يديها فقالت يا هذه إن الذي معي يخبرني عن بنيك هؤلاء
بأمر قالت وما هو قالت أما هدبة وحوط فيقتلان صبرا وأما الواسع وسيحان فيموتان
كمدا فكان كذلك أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي أخبرك مروان بن
أبي حفصة قال كان هدبة أشعر الناس منذ يوم دخل السجن إلى أن أقيد منه قال الخراز
عن المدائني قال واسع بن خشرم يرثي هدبة لما قتل ( يا
هُدْبَ يا خيْرَ فتيان العشيرةِ مَنْ ... يُفْجَعْ بمثلك في الدّنيا فقد فُجِعَا ) ( الله
يعلم أنّي لو خشيتهمُ ... أو أَوجسَ القلبُ من خوفٍ لهم فزعا ) ( لم
يقتلوه ولم أُسلِم أخي لهمُ ... حتى نَعيش جَمِيعاً أو نَمُوت معا ) وهذه
الأبيات تمثل بها إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله
عنهم لما بلغه قتل أخيه محمد أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن أبي
خيثمة قال حدثني مصعب الزبيري قال كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا
خبر هدبة وزيادة وأشعارهما ازدريناه وكنا نرفع من قدر أخبارهما وأشعارهما ونعجب
بها كان جميل بن معمر راوية هدبة أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني محمد
بن الحسن الأحول عن رواية من الكوفيين قالوا كان جميل بن معمر العذري راوية هدبة
وكان هدبة راوية الحطيئة وكان الحطيئة راوية كعب بن زهير وأبيه حدثني حبيب بن نصر
المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو المغيرة محمد بن إسحاق قال
حدثني أبو مصعب الزبيري قال حدثني المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه قال بعث
هدبة بن خشرم إلى عائشة زوج النبي يقول لها استغفري لي فقالت إن قتلت استغفرت لك صوت
( أَلم تَرَ أنّي يومَ جوِّ سُوَيْقَةٍ ... بكيتُ فنادتني هُنيدةُ ماليَا ) ( فقلتُ
لها إنّ البكاء لراحةٌ ... به يشتفي مَنْ ظَنّ أن لا تلاقيا ) ( قِفي
ودّعينا يا هُنَيْدَ فإنّني ... أرى القوم قد شاموا العَقِيقَ اليمانيا ) ويروى
أرى الركب قد شاموا - ( إذا
اغرورقت عَيناي أسبَلَ نهما ... الى أن تغيب الشِّعْريان بكائيا ) الشعر
للفرزدق من قصيدة يهجو بها جريرا وهي فيما قيل أول قصيدة هجاه بها والغناء لابن
سريج خفيف ثقيل عن الهشامي قال الهشامي وفيه لمالك ثقيل أول وابتداء اللحنين جميعا
( ألم تر أني يوم جوّ سُوَيْقَة ... ) ولعلوية
فيه لحن من الرمل المطلق ابتداؤه ( قِفي
ودّعينا يا هُنَيْدَ فإنّني ... ) نسب
الفرزدق وأخباره وذكر مناقضاته الفرزدق لقب غلب عليه وتفسيره الرغيف الضخم الذي
يجففه النساء للفتوت وقيل بل هو القطعة من العجين التي تبسط فيخبز منها الرغيف شبه
وجهه بذلك لأنه كان غليظا جهما واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن
محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك ابن حنظلة بن زيد مناة بن تميم قال أبو
عبيدة اسم دارم بحر واسم أبيه مالك عوف ويقال عرف وسمي دارم دارما لأن قوما أتوا
أباه مالكا في حمالة فقال له قم يا بحر فأتني بالخريطة - يعني
خريطة كان له فيها مال - فحملها يدرم عنها ثقلا والدرمان تقارب الخطو فقال لهم
جاءكم يدرم بها فسمي دارما وسمي أبوه مالك عرفا لجوده وأم غالب ليلى بنت حابس بن
عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع وكان للفرزدق أخ يقال له هميم ويلقب الأخطل ليست
له نباهة فأعقب ابنا يقال له محمد فمات والفرزدق حي فرثاه وخبره يأتي بعد وكان
للفرزدق من الولد خبطة ولبطة وسبطة هؤلاء المعروفون وكان له غيرهم فماتوا ولم
يعرفوا وكان له بنات خمس أو ست وأم الفرزدق - فيما ذكر أبو عبيدة - لينة بنت قرظة
الضبية كان يقال لجده صعصعة محيي الموءودات وكان يقال لصعصعة محيي الموؤودات وذلك أنه
كان مر برجل من قومه وهو يحفر بئرا وامرأته تبكي فقال لها صعصعة ما يبكيك قالت
يريد أن يئد ابنتي هذه فقال له ما حملك على هذا قال الفقر قال فإني أشتريها منك
بناقتين يتبعهما أولادهما تعيشون بألبانهما ولا تئد الصبية قال قد فعلت فأعطاه
الناقتين وجملا كان تحته فحلا وقال في نفسه إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من
العرب فجعل على نفسه ألا يسمع بموءودة إلا فداها فجاء الإسلام وقد فدى ثلثمائة
موءودة وقيل أربعمائة أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة وأخبرني
بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد
السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة عن عقال بن شبة قال قال صعصعة خرجت باغيا
ناقتين لي فارقتين - والفارق التي تفرق إذا ضربها المخاض فتند على وجهها حتى تنتج
- فرفعت لي نار فسرت نحوها وهممت بالنزول فجعلت النار تضيء مرة وتخبو أخرى فلم تزل
تفعل ذلك حتى قلت اللهم لك علي إن بلغتني هذه النار ألا أجد أهلها يوقدون لكربة
يقدر أحد من الناس أن يفرجها إلا فرجتها عنهم قال فلم أسر إلا قليلا حتى أتيتها
فإذا حي من بني أنمار بن الهجيم بن عمرو بن تميم وإذا أنا بشيخ حادر أشعر يوقدها
في مقدم بيته والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض قد حبستهن ثلاث ليال فسلمت فقال
الشيخ من أنت فقلت أنا صعصعة بن ناجية بن عقال قال مرحبا بسيدنا ففيم أنت يابن أخي
فقلت في بغاء ناقتين لي فارقتين عمي على أثرهما فقال قد وجدتهما بعد أن أحيا الله
بهما أهل بيت من قومك وقد نتجناهما وعطفت إحداهما على الأخرى وهما تانك في أدنى
الإبل قال قلت ففيم توقد نارك منذ الليلة قال أوقدها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ
ثلاث ليال وتكلمت النساء فقلن قد جاء الولد فقال الشيخ إن كان غلاما فوالله ما
أدري ما أصنع به وإن كانت جارية فلا أسمعن صوتها - أي اقتلنها - فقلت يا هذا ذرها
فإنها ابنتك ورزقها على الله فقال اقتلنها فقلت أنشدك الله فقال إني أراك بها حفيا
فاشترها مني فقلت إني أشتريها منك فقال ما تعطيني قلت أعطيك إحدى ناقتي قال لا قلت
فأزيدك الأخرى فنظر إلى جملي الذي تحتي فقال لا إلا أن تزيدني جملك هذا فإني أراه
حسن اللون شاب السن فقلت هو لك والناقتان على أن تبلغني أهلي عليه قال قد فعلت
فابتعتها منه بلقوحين وجمل وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما
عاشت حتى تبين منه أو يدركها الموت فلما برزت من عنده حدثتني نفسي وقلت إن هذه
لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فآليت ألا يئد أحد بنتا له إلا اشتريتها منه
بلقوحين وجمل فبعث الله عز و جل محمدا وقد أحييت مائة موءودة إلا أربعا ولم يشاركني
في ذلك أحد حتى أنزل الله تحريمه في القرآن وقد فخر بذلك الفرزدق في عدة قصائد من
شعره ومنها قصيدته التي أولها ( أبِي
أحدُ الغَيْثيْن صعصعةُ الذي ... متى تُخْلفِ الجوزاءُ والدّلْوُ يُمْطِرِ ) ( أَجارَ
بناتِ الوائدِينَ ومن يُجِرْ ... على الفقر يُعْلمْ أنه غيرُ مُخْفِر ) ( على
حينَ لا تحيا البناتُ وإذ هُمُ ... عكوف على الأصنام حول المدَوَّرِ ) - المدور
يعني الدوار الذي حول الصنم وهو طوافهم - ( أنا
ابن الذي ردّ المنيةَ فضلُهُ ... فما حسبٌ دافعتُ عنه بمُعْوِرِ ) ( وفارقِ
ليلٍ من نساء أتت أبي ... تُمارس ريحاً ليلُها غير مُقْمِر ) ( فقالت
أَجِرْ لي ما ولدتُ فإنني ... أتيتك من هزلَى الحَمولةِ مُقْتِر ) ( هِجفٌّ
من العُثْو الرؤوس إذا بدت ... له ابنةُ عامٍ يحطم العظم منكر ) ( رأى
الأرضَ منها راحةً فرمى بها ... إلى خُدَدٍ منها إلى شرّ مخفر ) ( فقال
لها فِيئي فإني بذمتي ... لبنتك جارٌ من أبيها القَنَوَّر ) إسلام
أبيه على يد الرسول ووفد غالب بن صعصعة إلى النبي فأسلم وقد كان وفده أبوه صعصعة
إلى النبي فأخبره بفعله في الموءودات فاستحسنه وسأله هل له في ذلك من أجر قال نعم
فأسلم وعمر غالب حتى لحق أمير المؤمنين عليا صلوات الله عليه بالبصرة وأدخل إليه
الفرزدق وأظنه مات في إمارة زياد وملك معاوية أخبرني محمد بن الحسين الكندي وهاشم
بن محمد الخزاعي وعبد العزيز بن أحمد عم أبي قالوا حدثنا الرياشي قال حدثنا العلاء
بن الفضل ابن عبد الملك بن أبي سوية قال حدثني عقال بن كسيب أبو الخنساء العنبري
قال حدثني الطفيف بن عمرو الربعي عن ربيعة بن مالك بن حنظلة عن صعصعة بن ناجية
المجاشعي جد الفرزدق قال قدمت على النبي فعرض علي الإسلام فأسلمت وعلمني آيات من
القرآن فقلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية هل لي فيها من أجر فقال وما
عملت فقلت إني أضللت ناقتين لي عشراوين فخرجت أبغيهما على جمل فرفع لي بيتان في فضاء
من الأرض فقصدت قصدهما فوجدت في أحدهما شيخا كبيرا فقلت له هل أحسست من ناقتين
عشراوين قال وما نارهما - يعني السمة - فقلت ميسم بني دارم فقال قد أصبت ناقتيك
ونتجناهما وظأرتا على أولادهما ونعش الله بهما أهل بيت من قومك من العرب من مضر
فبينا هو يخاطبني إذ نادته امرأة من البيت الآخر قد ولدت فقال وما ولدت إن كان
غلاما فقد شركنا في قوتنا وإن كانت جارية فادفنوها فقالت هي جارية أفأئدها فقلت
وما هذا المولود قالت بنت لي فقلت إني أشتريها منك فقال يا أخا بني تميم أتقول لي
أتبيعني ابنتك وقد أخبرتك أني من العرب من مضر فقلت إني لا أشتري منك رقبتها إنما
أشتري دمها لئلا تقتلها فقال وبم تشتريها فقلت بناقتي هاتين وولديهما قال لا حتى
تزيدني هذا البعير الذي تركبه قلت نعم على أن ترسل معي رسولا فإذا بلغت أهلي رددت
إليك البعير ففعل فلما بلغت أهلي رددت إليه البعير فلما كان في بعض الليل فكرت في
نفسي فقلت إن هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فظهر الإسلام وقد أحييت ثلثمائة
وستين موؤودة أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر يا
رسول الله فقال عليه السلام هذا باب من البر ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام
قال عباد ومصداق ذلك قول الفرزدق ( وجدِّي
الذي منع الوائداتِ ... وأحيا الوئيد فلم يُؤأَدِ ) أخبرني
محمد بن يحيى عن الغلابي عن العباس بن بكار عن أبي بكر الهذلي قال وفد صعصعة بن
ناجية جد الفرزدق على رسول الله في وفد من تميم وكان صعصعة قد منع الوئيد في
الجاهلية فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك فجاء الإسلام وقد فدى أربعمائة جارية
فقال للنبي أوصني فقال أوصيك بأمك وأبيك وأخيك وأختك وإمائك قال زدني قال احفظ ما
بين لحييك وما بين رجليك ثم قال له عليه السلام ما شيء بلغني عنك فعلته قال يا
رسول الله رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الوجه غير أني علمت أنهم
ليسوا عليه ورأيتهم يئدون بناتهم فعلمت أن ربهم لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم يئدون
وفديت من قدرت عليه وروى أبو عبيدة أنه قال للنبي إني حملت حمالات في الجاهلية والإسلام
وعلي منها ألف بعير فأديت من ذلك سبعمائة فقال له إن الإسلام أمر بالوفاء ونهى عن
الغدر فقال حسبي حسبي ووفى بها وروي أنه إنما قال هذا القول لعمر بن الخطاب وقد
وفد إليه في خلافته وكان صعصعة شاعرا وهو الذي يقول أنشدنيه محمد بن يحيى له ( إذا
المرءُ عادى من يودُّك صدرُه ... وكان لمن عاداك خِدْناً مُصَافيَا ) ( فلا
تسأَلنْ عما لديه فإنّه ... هو الداءُ لا يخفى بذلك خافيا ) أبوه
هو اعطى تميم وبكر أخبرني محمد بن يحيى عن محمد بن زكريا عن عبد الله بن الضحاك عن
الهيثم بن عدي عن عوانة قال تراهن نفر من كلب ثلاثة على أن يختاروا من تميم وبكر
نفرا ليسائلوهم فأيهم أعطى ولم يسألهم عن نسبهم من هم فهو أفضلهم فاختار كل رجل
منهم رجلا والذين اختيروا عمير بن السليك بن قيس بن مسعود الشيباني وطلبة بن قيس
بن عاصم المنقري وغالب بن صعصعة المجاشعي أبو الفرزدق فأتوا ابن السليك فسألوه
مائة ناقة فقال من أنتم فانصرفوا عنه ثم أتوا طلبة بن قيس فقال لهم مثل قول
الشيباني فأتوا غالبا فسألوه فأعطاهم مائة ناقة وراعيها ولم يسألهم من هم فساروا
بها ليلة ثم ردوها وأخذ صاحب غالب الرهن وفي ذلك يقول الفرزدق ( وإذا
ناحبْت كلَبٌ على الناس أيُّهم ... أحقُّ بتاج الماجد المتكرِّم ) ( على
نفرٍ هُم من نزار ذوي العلا ... وأهل الجراثيم التي لم تهدَّم ) ( فلم
يُجْزِ عن أَحسابهم غيرُ غالبٍ ... جرَى بعنان كلِّ أبيضَ خِضرم ) مباراة
في الكرم بين أبيه وسحيم بن وثيل أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم
عن أبي عبيدة عن جهم السليطي عن إياس بن شبة عن عقال بن صعصعة قال أجدبت بلاد تميم
وأصابت بني حنظلة سنة في خلافة عثمان فبلغهم خصب عن بلاد كلب بن وبرة فانتجعتها
بنو حنظلة فنزلوا أقصى الوادي وتسرع غالب بن صعصعة فيهم وحده دون بني مالك بن حنظلة
ولم يكن مع بني يربوع من بني مالك غير غالب فنحر ناقته فأطعمهم إياها فلما وردت
إبل سحيم بن وثيل الرياحي حبس منها ناقة فنحرها من غد فقيل لغالب إنما نحر سحيم
مواءمة لك أي مساواة لك فضحك غالب وقال كلا ولكنه امرؤ كريم وسوف أنظر في ذلك فلما
وردت إبل غالب حبس منها ناقتين فنحرهما فأطعمهما بني يربوع فعقر سحيم ناقتين فقال
غالب الآن علمت أنه يوائمني فعقر غالب عشرا فأطعمها بني يربوع فعقر سحيم عشرا فلما
بلغ غالبا فعله ضحك وكانت إبله ترد لخمس فلما وردت عقرها كلها عن آخرها فالمكثر
يقول كانت أربعمائة والمقل يقول كانت مائة فأمسك سحيم حينئذ ثم إنه عقر في خلافة
علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بكناسة الكوفة مائتي ناقة وبعير فخرج الناس
بالزنابيل والأطباق والحبال لأخذ اللحم ورآهم علي عليه السلام فقال أيها الناس لا يحل
لكم إنما اهل بها لغير الله عز و جل قال فحدثني من حضر ذلك قال كان الفرزدق يومئذ
مع أبيه وهو غلام فجعل غالب يقول يا بني اردد علي والفرزدق يردها عليه ويقول له يا
أبت اعقر قال جهم فلم يغن عن سحيم فعله ولم يجعل كغالب إذ لم يطق فعله قيد نفسه
حتى حفظ القرآن حدثني محمد بن يحيى عن محمد بن القاسم يعني أبا العيناء عن أبي زيد
النحوي عن أبي عمرو قال جاء غالب أبو الفرزدق إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه
بالفرزدق بعد الجمل بالبصرة فقال إن ابني هذا من شعراء مضر فأسمع منه قال علمه
القرآن فكان ذلك في نفس الفرزدق فقيد نفسه في وقت وآلى لا يحل قيده حتى يحفظ القرآن
قال محمد بن يحيى فقد صح لنا أن الفرزدق كان شاعرا موصوفا أربعا وسبعين سنة وندع
ما قبل ذلك لأن مجيئه به بعد الجمل على الاستظهار كان في سنة ست وثلاثين وتوفي
الفرزدق في سنة عشر ومائة في أول خلافة هشام هو وجرير والحسن البصري وابن سيرين في
ستة أشهر وحكي ذلك عن جماعة منهم الغلابي عن ابن عائشة عن أبيه أخبرني محمد بن
يحيى الصولي عن الغلابي عن ابن عائشة أيضا عن أبيه قال قال الفرزدق أيضا كنت أجيد
الهجاء في ايام عثمان قال ومات غالب أبو الفرزدق في أول أيام معاوية ودفن بكاظمة
فقال الفرزدق يرثيه ( لقد
ضمّت الأكفانُ من آل دارمٍ ... فتىً فائِضَ الكفّين محضَ الضَّرائب ) المفضل
الضبي يفاضل بينه وبين جرير أخبرني حبيب المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد
قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني جعفر بن محمد العنبري عن خالد ابن أم
كلثوم قال قيل للمفضل الضبي الفرزدق أشعر أم جرير قال الفرزدق قال قلت ولم قال
لأنه قال بيتا هجا فيه قبيلتين ومدح فيه قبيلتين وأحسن في ذلك فقال ( عجبتُ
لِعجلٍ إذ تُهاجِي عَبِيدَها ... كما آلُ يربوع هَجَوْا آلَ دَارِمِ ) فقيل
له قد قال جرير ( إنّ
الفرزدقَ والبَعِيثَ وأمّه ... وأَبَا البَعِيث لشرّ ما إِستارِ ) فقال
وأي شيء أهون من أن يقول إنسان فلان وفلان وفلان والناس كلهم بنو الفاعلة أخبرني
عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني موسى بن طلحة قال قال أبو
عبيدة معمر بن المثنى كان الشعراء في الجاهلية من قيس وليس في الإسلام مثل حظ تميم
في الشعر وأشعر تميم جرير والفرزدق ومن بني تغلب الأخطل قال يونس بن حبيب ما ذكر
جرير والفرزدق في مجلس شهدته قط فاتفق المجلس على أحدهما قال وكان يونس فرزدقيا أخبرني
عمي عن محمد بن رستم الطبري عن أبي عثمان المازني قال مر الفرزدق بابن ميادة
الرماح والناس حوله وهو ينشد ( لو
أنّ جميعَ الناس كانوا بربوة ... وجئتُ بجَدّي ظالِمٍ وابنِ ظَالِم ) ( لظلَّت
رقاب الناس خاضعةً لنا ... سُجوداً على أقدامنا بالجماجم ) فسمعه
الفرزدق فقال أما والله يا بن الفارسية لتدعنه لي أو لأنبشن أمك من قبرها فقال له
ابن ميادة خذه لا بارك الله لك فيه فقال الفرزدق ( لو
أنّ جميعَ الناس كانوا بربوة ... وجئتُ بجَدّي دارِمٍ وابنِ دارِمِ ) ( لظلَّت
رقاب الناس خاضعةً لنا ... سُجوداً على أقدامنا بالجماجم ) هو
وجرير يتشاكيان عند يزيد بن عبد الملك أخبرني عمي عن الكراني عن أبي فراس الهيثم
بن فراس قال حدثني ورقة بن معروف عن حماد الراوية قال دخل جرير والفرزدق على يزيد
بن عبد الملك وعنده بنية له يشمها فقال جرير ما هذه يا أمير المؤمنين عندك قال
بنية لي قال بارك الله لأمير المؤمنين فيها فقال الفرزدق إن يكن دارم يضرب فيها
فهي أكرم العرب ثم أقبل يزيد على جرير فقال مالك والفرزدق قال إنه يظلمني ويبغي
علي فقال الفرزدق وجدت آبائي يظلمون آباءه فسرت فيه بسيرتهم قال جرير وأما والله
لتردن الكبائر على أسافلها سائر اليوم فقال الفرزدق أما بك يا حمار بني كليب فلا
ولكن إن شاء صاحب السرير فلا والله ما لي كفء غيره فجعل يزيد يضحك أخبرنا عبد الله
بن مالك عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن حماد الراوية قال أنشدني الفرزدق يوما
شعرا له ثم قال لي أتيت الكلب يعني جريرا قلت نعم قال أفأنا أشعر أم هو قلت أنت في
بعض وهو في بعض قال لم تناصحني قال قلت هو أشعر منك إذا أرخي من خناقه وأنت أشعر
منه إذا خفت أو رجوت قال قضيت لي والله عليه وهل الشعر إلا في الخير والشر قال
وروي عن أبي الزناد عن أبيه قال قال لي جرير يا أبا عبد الرحمن أنا أشعر أم هذا
الخبيث يعني الفرزدق وناشدني لأخبرنه فقلت لا والله ما يشاركك ولا يتعلق بك في
النسيب قال أوه قضيت والله له علي أنا والله أخبرك ما دهاني إلا أني كذا وكذا
شاعرا فسمى عددا كثيرا وأنه تفرد لي وحدي خبره مع النوار ابنة عمه أخبرني عبد الله
قال قال المازني قال أبو علي الحرمازي كان من خبر الفرزدق والنوار ابنة أعين بن
صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعي وكانت ابنة عمه أنه خطبها رجل من بني عبد الله بن
دارم فرضيته وكان الفرزدق وليها فأرسلت إليه أن زوجني من هذا الرجل فقال لا أفعل
أو تشهديني أنك قد رضيت بمن زوجتك ففعلت فلما توثق منها قال أرسلي إلى القوم
فليأتوا فجاءت بنو عبد الله بن دارم فشحنوا مسجد بني مجاشع وجاء الفرزدق فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على
مائة ناقة حمراء سوداء الحدقة فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى ابن الزبير حين
أعياها أهل البصرة ألا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود وأعياها الشهود أن
يشهدوا لها اتقاء الفرزدق وابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعى له بالخلافة
فلم تجد من يحملها وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة بن أد يقال لهم بنو أم النسير
فسألتهم برحم تجمعهم وإياها وكانت بينها وبينهم قرابة فأقسمت عليهم أمها ليحملنها
فحملوها فبلغ ذلك الفرزدق فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه واوقروا له عدة من
الإبل وأعين بنفقة فتبع النوار وقال ( أطاعت
بني أم النُّسَيْر فأصبحت ... على شارفٍ ورقاءَ صعبٍ ذلولُها ) ( وإنّ
الذي أمسى يخبِّب زوجتي ... كماشٍ إلى أُسْد الشّرى يَستبِيلها ) فأدركها
وقد قدمت مكة فاستجارت بخولة بنت منظور بن زيان بن سيار الفزاري وكانت عند عبد
الله بن الزبير فلما قدم الفرزدق مكة اشرأب الناس إليه ونزل على بني عبد الله بن
الزبير فاستنشدوه واستحدثوه ثم شفعوا له إلى أبيهم فجعل يشفعهم في الظاهر حتى إذا
صار إلى خولة قلبته عن رأيه فمال إلى النوار فقال الفرزدق في ذلك صوت ( أمّا بنوه
فلم تُقْبل شفاعتُهم ... وشُفّعت بنتُ منظورِ بن زِبّانَا ) ( ليس
الشّفيع الذي يأتيك مُؤْتَزِراً ... مثلَ الشفيع الذي يأتيكَ عُرْيانَا ) لعريب
في هذا البيت خفيف رمل قال وسفر بينهما رجال من بني تميم كانوا بمكة فاصطلحا على
أن يرجعا إلى البصرة ولا يجمعهما ظل ولا كن حتى يجمعا في أمرهما ذلك بني تميم
ويصيرا على حكمهم ففعلا فلما صارا إلى البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها قال
وقال غير الحرمازي إن ابن الزبير قال للفرزدق جئني بصداقها فرقت بينكما فقال
الفرزدق أنا في بلاد عربة فكيف أصنع قالوا له عليك بسلم بن زياد فإنه محبوس في
السجن يطالبه ابن الزبير بمال فأتاه فقص عليه قصته قال كم صداقها قال أربعة آلاف
درهم فأمر له بها وبألفين للنفقة فقال للفرزدق ( دعِي
مُغلِقي الأبواب دون فَعالهم ... ولكن تمشَّى بي - هُبِلْت - إلى سَلمِ ) ( إلى
مَن يرى المعروفَ سهلاً سَبِيلُه ... ويفعلُ أفعال الرجال التي تَنمِي ) قال
فدفعها إليه الزبير فقال الفرزدق ( هلمّي
لابن عمك لا تكوني ... كمختارٍ على الفرس الحمارا ) قال
فجاء بها إلى البصرة - وقد أحبلها - فقال جرير في ذلك ( ألا
تِلكمُ عِرسُ الفرزدق جامحاً ... ولو رضِيَتْ رُمح استِهِ لاستقرَّت ) فأجابه
الفرزدق وقال ( وأمُّك
لو لاقيتُها بِطِمرَّةٍ ... وجاءت بها جوف استِها لاستقرّت ) وقال
الفرزدق وهو يخاصم النوار ( تُخاصمني
وقد أولجتُ فيها ... كرأس الضَّبّ يلتمس الجرادا ) قال
الحرمازي ومكثت النوار عنده زمانا ترضى عنه أحيانا وتخاصمه أحيانا وكانت النوار
امرأة صالحة فلم تزل تشمئز منه وتقول له ويحك تعلم أنك إنما تزوجت بي ضغطة وعلى
خدعة ثم لا تزال في كل ذلك حتى حلفت بيمين موثقة ثم حنثت وتجنبت فراشه فتزوج عليها
امرأة يقال لها جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لبني الحارث بن عباد بن ضبيعة
وأمها الخميصة من بني الحارث بن عباد فنافرته الخميصة واستعدت عليه فأنكرها
الفرزدق وقال إنها مني بريء طالق وطلق ابنتها وقال ( إن
الخميصةَ كانت لي ولاب نتها ... مثل الهَراسةِ بين النّعل والقَدَم ) ( إذا
أتت أهلَها مني مُطَلَّقة ... فلن أردَّ عليها زَفرَة النَّدم ) جعل
يأتي النوار وبه ردع الخلوق وعليه الأثر فقالت له النوار هل تزوجتها إلا هدادية -
تعني حيا من أزد عمان - فقال الفرزدق في ذلك ( تُريكَ
نجومَ الليل والشَّمسُ حَيَّةٌ ... كرامُ بنات الحارث بن عُبادِ ) ( أبوها
الذي قاد النّعامة بعد ما ... أبت وائلٌ في الحرب غير تمادِ ) ( نساءٌ
أبوهنّ الأعزُّ ولم تكن ... من الأزد في جاراتها وهَدادِ ) ( ولم
يكُ في الحيّ الغموضِ محلُّها ... ولا في العُمانيّيين رهطِ زيادِ ) ( عَدلتُ
بها مَيلَ النّوار فأَصبحتْ ... وقد رَضيت بالنّصف بعد بعادِ ) قال
فلم تزل النوار ترققه وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها وأخذ عليها ألا تفارقه ولا
تبرح من منزله ولا تتزوج رجلا بعده ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له وأخذت
عليه أن يشهد الحسن البصري على طلاقها ففعل ذلك قال المازني وحدثني محمد بن روح
العدوي عن أبي شفقل راوية الفرزدق قال ما استصحب الفرزدق أحدا غيري وغير راوية آخر
وقد صحب النوار رجال كثيرة إلا أنهم كانوا يلوذون بالسواري خوفا من أن يراهم
الفرزدق فأتيا الحسن فقال له الفرزدق يا أبا سعيد قال له الحسن ما تشاء قال أشهد
أن النوار طالق ثلاثا فقال الحسن قد شهدنا فلما انصرفنا قال يا أبا شفقل قد ندمت
فقلت له والله إني لأظن أن دمك يترقرق أتدري من أشهدت والله لئن رجعت لترجمن
بأحجارك فمضى وهو يقول ( ندمتُ
ندامةَ الكُسَعِيّ لمّا ... غدت منّي مُطلَّقةً نوارُ ) ( ولو
أنّي ملكتُ يدي وقلبي ... لكان عليّ للقدَر الخيارُ ) ( وكانت
جَنّتي فخرجتُ منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار ) ( وكنتُ
كفاقىءٍ عينيه عمداً ... فأصبح ما يضيء له النهارُ ) يهجو
بني قيس لأنهم ألجأوا النوار وأخبرني بخبره مع النوار أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا
عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى عن أبيه يحيى بن علي بن حميد أن النوار لما
كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري ليمنعوها فقال
الفرزدق فيهم ( بني
عاصم لا تجنبوها فإنكم ... ملاجِىءُ للسوءات دُسْم العَمائِم ) ( بَنِي
عاصمٍ لو كان حَيّاً أبوكم ... للام بنيه اليومَ قيسُ بن عاصمِ ) فبلغهم
ذلك الشعر فقالوا له والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة وخلوه والنوار
وأرادت منافرته إلى ابن الزبير فلم يقدر أحد على أن يكريها خوفا منه ثم إن قوما من
بني عدي يقال لهم بنو أم النسير أكروها فقال الفرزدق ( ولولا
أن يقول بنو عدِيٍّ ... ألم تَك أمَّ حَنظلة النَّوارُ ) ( أَتتكم
يا بني مِلْكان عنّي ... قوافٍ لا تُقسّمها التِّجارُ ) وقال
فيهم أيضا ( لعمري لقد أردى النّوارَ وساقها
... إلى البور أحلامٌ خِفافٌ عقولُها ) ( أطاعت
بني أمّ النسير فأصبحت ... على قَتب يعلو الفلاة دليلها ) ( وقد
سَخِطَت مِنّي النّوارُ الذي ارتضَى ... به قبلَها الأزواجُ خاب رحيلُها ) ( وإن
امرأ أمسى يُخَبّب زوجتي ... كساعٍ إلى أُسْدِ الشرى يستبيلها ) ( ومن
دون أَبواب الأسود بَسالةً ... وبَسْطَة أَيدٍ يمنع الضّيْمَ طُولُها ) ( وإنّ
أميرَ المؤرمنين لعالِمٌ ... بتأويل ما وَصَّى العِبَادَ رَسُولُها ) ( فَدُونَكَها
يابنَ الزبير فإنها ... مُوَلَّعَة يُوهِي الحجارةَ قِيلُها ) ( وما
جادل الأقوامَ من ذي خصومة ... كورهاء مَشْنوءٍ إليها حليلُها ) فلما
قدمت مكة نزلت على تماضر بنت منظور بن زبان زوجة عبد الله بن الزبير ونزل الفرزدق
بحمزة بن عبد الله بن الزبير ومدحه بقوله ( أَمسيتُ
قد نزلتْ بحمزة حاجَتِي ... إن المنوَّه باسمِه الموثوقُ ) ( بأبي
عمارةَ خيرِ من وَطِىء الحصا ... وجرت له في الصالحين عُروقُ ) ( بين
الحواريِّ الأعزّ وهاشمٍ ... ثم الخليفةُ بعدُ والصِّدِّيق ) غنى
في هذه الأبيات ابن سريج رملا بالبنصر قال فجعل أمر النوار يقوى وأمر الفرزدق يضعف
فقال ( أَمَّا بنوه فلم تُقْبل شفَاعتُهم
... وَشُفِّعَتْ بنتُ منظورِ بنِ زِبَّانَا ) ملاحاة
بينه وبين ابن الزبير وقال ابن الزبير للنوار إن شئت فرقت بينكما وقتلته فلا
يهجونا أبدا وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو فقالت ما أريد واحدة منهما فقال لها
فإنه ابن عمك وهو فيك راغب فأزوجك إياه قالت نعم فزوجها منه فكان الفرزدق يقول
خرجنا ونحن متباغضان فعدنا متحابين قال وكان الفرزدق قال لعبد الله بن الزبير -
وقد توجه الحكم عليه - إنما تريد أن أفارقها فتثب عليها وكان ابن الزبير حديدا
فقال له هل أنت قومك إلا جالية العرب ثم أمر به فأقيم وأقبل على من حضر فقال إن
بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه فاجتمعت
العرب عليها لما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من أرض تهامة قال فلقي
الفرزدق بعض الناس فقال إيه يعيرنا ابن الزبير بالجلاء اسمع ثم قال ( فإن
تغْضَبْ قريشٌ أو تَغَضَّب ... فإنَّ الأرضَ تُوعِبُها تميم ) ( هُم
عَددُ النجوم وكلُّ حيٍّ ... سواهمْ لا تُعدُّ له نجوم ) ( ولولا
بيت مكةَ ما ثويتم ... بها صحَّ المنابتُ والأروم ) ( بها
كثُر العديدُ وطاب منكم ... وغيرُكم أخِيذُ الريش هِيم ) ( فمهلاً
عن تعلّل مَن غَدَرْتم ... بخونته وعذَّبه الحَميم ) ( أعبدَ
اللهِ مهلاً عن أداتي ... فإني لا الضعيفُ ولا السؤوم ) ( ولكنِّي
صفاةٌ لم تُدَنَّس ... تزِلُّ الطيرُ عنها والعُصومُ ) ( أنا
ابن العاقِر الخُورَ الصّفايا ... بضوّى حين فُتِّحت العُكوم ) قال
فبلغ هذا الشعر ابن الزبير وخرج للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه فغمز عنقه فكاد
يدقها ثم قال ( لقد
أصبحت عِرسُ الفرزدق ناشزاً ... ولو رَضِيت رُمحَ استه لاستقرّت ) وقال
هذا الشعر لجعفر بن الزبير وقيل إن الذي كان تقرر عليه عشرة آلاف درهم وإن سلم بن
زياد أمر له بعشرين ألف درهم مهرا ونفقة فقبضها فقالت له زوجته أم عثمان بنت عبد
الله بن عمرو بن أبي العاص الثقفية أتعطي عشرين ألف درهم وأنت محبوس فقال ( ألا
بَكَرَتْ عِرسِي تلومُ سفاهةً ... على ما مضى مني وتأمرُ بالبُخْلِ ) ( فقلتُ
لها - والجودُ مِنِّي سجيّةٌ - ... وهل يمنع المعروفَ سُوَّالَه مِثلي ) ( ذَرِيني
فإنّي غيرُ تارك شِيمتي ... ولا مُقصرٍ طول الحياة عن البذْلِ ) ( ولا
طاردٍ ضيفي إذا جاء طارقا ... وقد طرق الأضيافُ شيخيَ من قبلي ) ( أَأَبخَلُ
إن البُخْل ليس بمُخْلِدي ... ولا الجودُ يدنيني إلى الموت والقتل ) ( أَبيعُ
بني حرب بآلِ خويلدٍ ... وما ذاك عند الله في البيع بالعدل ) ( وليس
ابنُ مروان الخليفةُ مشبهاً ... لفحل بَني العوَّام قُبِّح من فحل ) ( فإن
تُظهرُوا ليَ البخلَ آلَ خُوَيْلد ... فما دأْبكم دأْبِي ولا شكلُكم شكلِي ) ( وإن
تَقهروني حين غابت عشيرتي ... فمن عجبِ الأيام أن تقهروا مِثلي ) فلما
اصطلحا ورضيت به ساق إليها مهرها ودخل بها وأحبلها قبل أن يخرج من مكة ثم خرجا
وهما عديلان في محمل وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام عن إبراهيم بن حبيب بن
الشهيد بنحو من هذه القصة قال عمر بن شبة قال الفرزدق في خبره ( يا
حمزَ هل لك في ذي حاجة عَرضت ... أنضاؤه بمكان غيرِ ممطور ) ( فأنت
أحرى قريش أن تكون لها ... وأنت بين أبي بكر ومنظور ) ( بين الحواري والصدّيق في
شُعَبٍ ... ثَبَتْنَ في طُنُب الإِسلام والخير ) كانت
القبائل تتقي هجاءه أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا عبد القاهر
بن السري السلمي قال كان فتى من بني حرام شويعر هجا الفرزدق قال فأخذناه فأتينا به
الفرزدق وقلنا هذا بين يديك فإن شئت فاضرب وإن شئت فاحلق فلا عدوى عليك ولا قصاص
قد برئنا إليك منه قال فخلى سبيله وقال ( فمن
يك خائفاً لأذاة شعري ... فقد أمِنَ الهجاء بَنُو حرامِ ) ( هم
قادوا سفيههم وخافوا ... قلائدَ مثل أَطواق الحمامِ ) قال
ابن سلام وحدثني عبد القاهر قال مر الفرزدق بمجلسنا مجلس بني حرام ومعنا عنبسة
مولى عثمان بن عفان فقال يا أبا فراس متى تذهب إلى الآخرة قال وما حاجتك إلى ذاك
يا أخي قال أكتب معك إلى أبي قال أنا لا أذهب إلى حيث أبوك أبوك في النار اكتب
إليه مع ريالويه واصطقانوس أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه قال أخبرني مخبر
عن خالد بن كلثوم الكلبي قال مررت بالفرزدق وقد كنت دونت شيئا من شعره وشعر جرير
وبلغه ذلك فاستجلسني فجلست إليه وعذت بالله من شره وجعلت أحدثه حديث أبيه وأذكر له
ما يعجبه ثم قلت له إني لأذكر يوم لقبك بالفرزدق قال وأي يوم قال مررت به وأنت صبي
فقال له بعض من كان يجالسه كأن ابنك هذا الفرزدق دهقان الحيرة في تيهه وأبهته فسماك
بذاك فأعجبه هذا القول وجعل يستعيد ثم قال أنشدني بعض أشعار ابن المراغة فيّ فجعلت
أنشده حتى انتهيت ثم قال فأنشد نقائضها التي أجبته بها فقلت ما أحفظها فقال يا
خالد أتحفظ ما قاله في ولا تحفظ نقائضه والله لأهجون كلبا هجاء يتصل عاره بأعقابها
إلى يوم القيامة إن لم تقم حتى تكتب نقائضها أو تحفظها وتنشدنيها فقلت أفعل فلزمته
شهرا حتى حفظت نقائضها وأنشدته إياها خوفا من شره زواجه من حدراء بنت زيق أخبرني
عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال تزوج الفرزدق
حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس الشيباني وخاصمته النوار وأخذت بلحيته فجاذبها وخرج
عنها مغضبا وهو يقول ( قامَتْ
نوارُ إليَّ تَنتِف لِحيتي ... تَنْتافَ جعدةَ لحيةَ الخشخاشِ ) ( كلتاهما
أسدٌ إذا ما أُغْضِبت ... وإذا رَضينَ فهنْ خير معاشِ ) قال
والخشخاش رجل من عنزة وجعد امرأته فجاءت جعدة إلى النوار فقالت ما يريد مني
الفرزدق أما وجد لامرأته أسوة غيري وقال الفرزدق يفضل عليها حدراء ( لعمرِي
لأَعرابيَّةٌ في مَظلّةٍ ... تظلُّ برَوقي بيتها الريحُ تخْفُق ) ( أحبُّ
إلينا من ضِنَاك ضِفَنَّة ... إذا وُضعت عنها المراويحُ تَغرَقُ ) ( كرِيمِ
غزالٍ أو كُدرَّةِ غائصٍ ... يكاد - إذا مرت - لها الأرض تُشرقُ ) فلما
سمعت النوار ذلك أرسلت إلى جرير وقالت للفرزدق والله لأخزينك يا فاسق فجاء جرير
فقالت له أما ترى ما قال الفاسق وشكته إليه وأنشدته شعره فقال جرير أنا أكفيك
وأنشأ يقول ( ولَسْت
بمعطي الحكم عن شَفِّ منصبٍ ... ولا عن بنات الحنظليّين راغبُ ) ( وهنّ
كماء المزنِ يُشْفَى به الصَّدى ... وكانت مِلاحاً غيرَهُنَّ المشارِبُ ) ( لقد
كنتَ أهلا أن يسوق دياتكم ... إلى آل زِيق أن يعيبَك عائب ) ( وما
عدلتْ ذاتُ الصليبِ ظعينةً ... عُتَيْبةُ والرّدفان منها وحاجبُ ) ( أأهْديتَ
يا زيقُ بن بَسطامَ ظَبيةً ... إلى شرِّ من تُهْدَى إليه القرائبُ ) ( ألا
رُبَّما لم نُعْطِ زِيقاً بحُكمِه ... وأَدّى إلينا الحكمَ والغُلُّ لازبُ ) ( حَوينَا
أبا زِيقٍ وزيقاً وعمَّه ... وجَدّةُ زِيق قد حَوتْها المقانِبُ ) فأجابه
الفرزدق فقال ( تقول
كليبٌ حين مثَّت سِبالها ... وأعشَبَ من مرُوتِها كلُّ جانب ) ( لسوّاقِ
أغنام رعتهنّ أمّه ... إلى أن علاها الشيبُ فوق الذوائب ) ( ألستَ
إذا القعساءُ مرت براكب ... إلى آل بِسطام بن قيس بخاطب ) ( وقالوا
سمعنا أنّ حدراءَ زُوِّجَتْ ... على مائَةٍ شُمِّ الذُرى والغوارب ) ( فلو
كنتَ من أكفاء حدْراء لم تلُمْ ... على دَارِميٍّ بين ليلى وغالبِ ) ( فنل
مثلَها من مثلهم ثُم أُمَّهم ... بمِلكك من مال مُراح وعازب ) ( وإني
لأخشى إن خطبتَ إليهمُ ... عليك الذي لاقَى يسارُ الكَراعبِ ) ( ولو
تنكِحُ الشّمسُ النجومَ بناتِها ... نكحنا بناتِ الشمسِ قبل الكواكبِ ) وفي
المناقضات التي دارت بين الفرزدق وجرير حول زواج بنت زيق قال جرير أبياته التي
أولها ( يا زيقُ أنكحتَ قَيناً في استه
حَمَمٌ ... يا زيقُ ويْحَك من أنكحتَ يا زيق ) ( أين
الأُلى أنزلوا النعمان ضاحيةً ... أم أين أبناءُ شيبانَ الغرانيق ) ( يا
رُبّ قائلةٍ بعد البناء بها ... لا الصهرُ راضٍ ولا ابنُ القينِ معشوقُ ) ( غاب
المثنَّى فلم يشهد نَجِيَّكُما ... والحوفزَانُ ولم يشهدْك مفروق ) والفرزدق
يقول لجرير ( إن
كان أنفُك قد أعياك تحمِلُه ... فاركب أتانك ثم اخطُب إلى زِيق ) أخبرني
الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن زكريا بن ثباة الثقفي قال أنشدني
الفرزدق قصيدته التي رثى فيها ابنه فلما انتهى إلى قوله ( بِفي
الشَّامِتِين الصَّخْر إن كان مسَّني ... زريّةُ شِبْل مُخْدِرٍ في الضَّراغم ) قال
يا أبا يحيى أرأيت ابني قلت لا قال والله ما كان يساوي عباءته لبطة بن الفرزدق
ينشد لأبيه قال إسحاق حدثني أبو محمد العبدي عن اليربوعي عن أبي نصر قال قدم لبطة
بن الفرزدق الحيرة فمر بقوم من بني تغلب فاستقراهم فقروه ثم قالوا له من أنت قال
ابن شاعركم ومادحكم وأنا والله ابن الذي يقول فيكم ( أضحى
لتغلبَ من تميمٍ شاعِرٌ ... يرمي الأعاديَ بالقريض الأثقل ) ( إن
غاب كعبُ بني جُعَيلٍ عنهم ... وتنَمَّر الشعراء بعد الأخطل ) ( يتباشرون
بموتِه ووراءهم ... مِنّي لهم قِطعُ العذاب المُرْسلِ ) فقالوا
له فأنت ابن الفرزدق إذا قال أنا هو فتنادوا يا آل تغلب اقضوا حق شاعركم والذائد
عنكم في ابنه فجعلوا له مائة ناقة وساقوها إليه فانصرف بها أخبرنا أبو خليفة عن
محمد بن سلام قال أتى الفرزدق عبد الله بن مسلم الباهلي فسأله فثقل عليه الكثير
وخشيه في القليل وعنده عمرو بن عفراء الضبي راوية الفرزدق وقد كان هجاه جرير
لروايته للفرزدق في قوله ( ونُبِّئْتُ
جوَّاباً وسَلْماً يسبّني ... وعمرو بن عِفْري لا سلامٌ على عمرو ) فقال
ابن عفراء للباهلي لا يهولنك أمره أنا أرضيه عنك فأرضاه بدون ما كان هم له به
فأعطاه ثلثمائة درهم فقبلها الفرزدق ورضي عنه فبلغه بعد ذلك صنيع عمرو فقال ( ستعلم
يا عمرو بن عفْرى مَن الذي ... يُلام إذا ما الأمر غَبَّتْ عواقبُه ) ( نهيتُ
ابنَ عِفرى أن يعفّر أُمّه ... كعفْر السّلا إذا جرَّرَتْه ثعالبُه ) ( فلو
كنت ضَ3بِّياً صفحتُ ولو سَرتْ ... على قَدَمِي حيَّاتُه وعقاربه ) ( ولكنْ
دِيافِيٌّ أبوه وأُمّه ... بحوْران يعصِرْن السليط أقاربه ) ( ولما
رأى الدّهنا رمته جبالُها ... وقالت دِيافيٌّ مع الشام جانبه ) ( فإن
تغضب الدهنا عليك فما بها ... طريقٌ لمرتاد تُقاد رَكائِبُه ) ( تضِنُّ
بمال الباهليِّ كأنما ... تضِنُّ على المال الذي أنت كاسِبُه ) ( وإنّ
امرأ يَغْتَابُني لم أطأْ لَه ... حَرِيماً ولا يَنْهاهُ عنِّي أقارِبُه ) ( كمحتَطبٍ
يوماً أساودَ هَضْبةٍ ... أتاه بها في ظلمة الليل حاطبُه ) ( أحينَ
التقى ناباي وابيضّ مِسْحَلي ... وأطرق إطراق الكرى من يُجانِبه ) فقال
ابن عفراء وأتاه في نادي قومه أجهد جهدك هل هو إلا أن تسبني والله لا أدع لك مساءة
إلا أتيتها ولا تأمرني بشيء إلا اجتنبته ولا تنهاني عن شيء إلا ركبته قال فاشهدوا
أني أنهاه أن ينيك أمه فضحك القوم وخجل ابن عفرى أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام
قال حدثنا شعيب بن صخر قال تزوج ذبيان بن أبي ذبيان العدوي من بلعدوية فدعا الناس
في وليمته فدعا ابن أبي شيخ الفقيمي فألقى الفرزدق عنده فقال له يا أبا فراس انهض
قال إنه لم يدعني قال إن ابن ذبيان يؤتى وإن لم يدع ثم لا تخرج من عنده إلا بجائزة
فأتياه فقال الفرزدق حين دخل ( كم
قال لي ابنُ أبي شيخ وقلت له ... كيف السَّبيلُ إلى معروف ذُبيان ) ( إنّ
القلوصَ إذا أَلقت جآجئها ... قُدَّام بابك لم نرحل بحِرمان ) قال
أجل يا أبا فراس فدخل فتغدى عنده وأعطاه ثلثمائة درهم أخبرني أبو خليفة عن محمد بن
سلام قال حدثني أبو بكر المدني قال دخل الفرزدق المدينة فوافق فيها موت طلحة بن
عبد الرحمن بن عوف الزهري - وكان
سيدا سخيا شريفا - فقال يا أهل المدينة أنتم أذل قوم لله قالوا وما ذاك يا أبا
فراس قال غلبكم الموت على طلحة حتى أخذه منكم يعطى عروضا بدل النقد وأتى مكة فأتى
عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي - وهو سيد أهل مكة يومئذ - وليس
عنده نقد حاضر وهو يتوقع أعطيته وأعطية ولده وأهله فقال والله يا أبا فراس ما
وافقت عندنا نقدا ولكن عروضا إن شئت فعندنا رقيق فرهة فإن شئت أخذتهم قال نعم
فأرسل له بوصفاء من بنيه وبني أخيه فقال هم لك عندنا حتى تشخص وجاءه العطاء فأخبره
الخبر وفداهم فقال الفرزدق ونظر إلى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان يطوف
بالبيت الحرام يتبختر ( تمْشي
تَبَخْتُر حولَ البيتِ منتخَباً ... لو كنتَ عمرَو بنَ عبد الله لم تزدِ ) أخبرنا
أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثنا عامر بن أبي عامر - وهو صالح بن رستم الخراز
- قال أخبرني أبو بكر الهذلي قال إنا لجلوس عند الحسن إذ جاء الفرزدق يتخطى حتى
جلس إلى جنبه فجاء رجل فقال يا أبا سعيد الرجل يقول لا والله وبلى والله في كلامه
قال لا يريد اليمين فقال الفرزدق أو ما سمعت ما قلت في ذلك قال الحسن ما كل ما قلت
سمعوا فما قلت قال قلت ( ولستَ
بمأخوذٍ بلغوٍ تقوله ... إذا لم تعمَّدْ عاقداتِ العزائم ) قال
فلم ينشب أن جاء رجل آخر فقال يا أبا سعيد نكون في هذه المغازي فنصيب المرأة لها
زوج أفيحل غشيانها وإن لم يطلقها زوجها فقال الفرزدق أو ما سمعت ما قلت في ذلك قال
الحسن ما كل ما قلت سمعوا فما قلت قال قلت ( وذات
حَليلٍ أنكحتْنا رِماحُنا ... حلالاً لمن يَبْني بها لم تُطَلَّق ) يهجو
في شعره إبليس قال أبو خليفة أخبرني محمد بن سلام وأخبرني محمد بن جعفر قالا أتى
الفرزدق الحسن فقال إني هجوت إبليس فاسمع قال لا حاجة لنا بما تقول قال لتسمعن أو
لأخرجن فأقول للناس إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس قال اسكت فإنك بلسانه تنطق قال
محمد بن سلام أخبرني سلام أبو المنذر عن علي بن زيد قال ما سمعت الحسن متمثلا شعرا
قط إلا بيتا واحدا وهو قوله ( الموتُ
بابٌ وكُلُّ الناسِ داخلُه ... فليتَ شعريَ بعد الباب ما الدَّار ) قال
وقال لي يوما ما تقول في قول الشاعر ( لولا
جريرٌ هلكتْ بَجِيلهْ ... نِعْمَ الفتى وبِئسَتِ القبيلهْ ) أهجاه
أم مدحه قلت مدحه وهجا قومه قال ما مدح من هجي قومه وقال جرير بن حازم ولم أسمعه
ذكر شعرا قط إلا ( ليس
مَنْ مات فاستراح بمَيْتٍ ... إنما الميْتُ ميّتُ الأحياء ) وقال
رجل لابن سيرين وهو قائم يستقبل القبلة يريد أن يكبر أيتوضأ من الشعر فانصرف بوجهه
إليه فقال ( ألا أَصبحتْ عرسُ الفرزدق ناشِزاً
... ولو رضِيتْ رُمحَ استه لاستَقَرَّت ) ثم
كبر متفرقات من أبياته الشائعة قال ابن سلام وكان الفرزدق أكثرهم بيتا مقلدا - والمقلد
المغني المشهور الذي يضرب به المثل - من ذلك قوله ( فيا
عجباً حتى كليبٌ تسبني ... كأنّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشِعُ ) وقوله
( ليس الكرام بناحِليك أباهمُ ...
حتى يُردَّ إلى عطية نَهْشَلِ ) وقوله
( وكنّا إذا الجبّار صَعَّر خَدّه
... ضربناه حتى تستقيم الأَخادع ) وقوله
( وكنتَ كذئب السوء لما رأى دَمَاً
... بصاحبه يوماً أحال على الدَّم ) وقوله
( تُرجِّي رُبيعٌ أن تجيء صغارُها
... بخير وقد أعيا رُبيعاً كبارُها ) وقوله
( أكلتْ دوابرها الإِكَامُ فمشيها
... مما وَجِئْن كمشية الإِعياء ) وقوله
( قوارص تأتيني وتحتقرونها ... وقد
يملأ القطرُ الإِناءَ فَيَفعُمِ ) وقوله
( أحلاَمُنا تزن الجبالَ رَزانةً ...
وتخالنا جِناً إذا ما نجهل ) وقوله
( وإنك إذ تسعى لتدرك دارماً ...
لأنت المُعَنَّى يا جرير المُكَلف ) وقوله
( فإن تنجُ مني تنج من ذي عَظيمةٍ
... وإلا فإِنّي لا إِخالك ناجيا ) وقوله
( ترى كل مظلوم إلينا فِرارُه ...
ويهربُ منا جهدَه كُلُّ ظالمِ ) وقوله
( ترى الناس ما سِرْنا يسيرون حولَنا
... وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقَّفوا ) وقوله
( فسَيف بني عبسٍ وقد ضربوا به ...
نَبا بيَدَيْ وَرْقاءَ عن رأسِ خالد ) ( كذاك
سيوف الهند تنبو ظباتها ... ويَقطعن أَحياناً مَنَاط القَلائِد ) وكان
يداخل الكلام وكان ذلك يعجب أصحاب النحو من ذلك قوله يمدح هشام بن إسماعيل
المخزومي خال هشام بن عبد الملك ( وأصبح
ما في الناس إلا مُمَلَّكاً ... أبو أمه حَيٌّ أَبوه يُقاربه ) وقوله
( تالله قد سَفِهَتْ أميّةُ رأيَها
... فاستجهلت سُفهاؤها حلماءَها ) وقوله
( ألستم عائجين بنا لعنَّا ... نرى
العَرصاتِ أو أَثَر الخيام ) فقالوا
( إن فعلتَ فأغنِ عنا ... دُموعاً
غيرَ راقِئة السّجام ) وقوله
( فهل أنتَ إن ماتت أتانُكَ راحِلٌ
... إلى آل بِسطام بن قيس فخاطب ) وقوله
( فَنَلْ مثلَها من مثلِهم ثم
دُلَّهم ... على دارميّ بين ليلى وغالب ) وقوله
( تعالَ فإن عاهدتني لا تخونُني ...
نكنْ مثلَ مَنْ - يا ذئبُ - يَصْطحبان ) وقوله
( إنا وإياك إن بلّغْنَ أرحُلَنا ...
كمَنْ بِواديه بعد المَحْل مَمْطورُ ) وقوله
( بنى الفاروق أمّك وابن أروى ... به
عثمان مروان المصابا ) وقوله
( إلى مَلِك ما أمُّه من مُحاربٌ ...
أبوه ولا كانت كليب تصاهِرُه ) وقوله
( إليك أميرَ المؤمنين رمَتْ بنا ...
هموم المنا والهَوْجَل المتعسّف ) ( وعضّ
زمانٌ يا بن مروان لم يدعْ ... من المال إلا مُسحتاً أو مُجلَّف ) وقوله
( ولقد دنت لك بالتخلّف إذْ دنَت ...
منها بلا بَخَلٍ ولا مبذولِ ) ( وكأنّ
لونَ رُضابِ فيها إذ بدا ... بَرَدٌ برفع بَشامةٍ مصْقولُ ) وقوله
فيها لمالك بن المنذر ( إنّ
ابن ضيّاري ربيعةَ مالِكاً ... لله سيف صنيعةٍ مَسْلولُ ) ( ما
نال من آل المُعلّى قبلَه ... سيفٌ لكل خليفة ورسُولُ ) ( ما
من يَديْ رَجُل أحقُّ بما أتى ... من مكرمات عطاية الأخطارِ ) ( من
راحتين يزيدُ يقدح زندَه ... كفّاهما ويشد عقد جوار ) ( وقوله ... ) ( إذا
جئتَه أعطاك عفواً ولم يكن ... على ماله حال الندى منك سائله ) ( لدى
ملك لا تنصف النعلُ ساقَه ... أجل لا وإن كانت طُوالاً حمائله ) وقوله
( والشيب يَنْهَضُ في الشباب كأنه
... ليل يسير بجانبيه نهار ) كان
صادقا في مدحه قال أبو خليفة أخبرنا محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر عن محمد
بن زياد وأخبرني به الجوهري وجحظة عن ابن شبة عن محمد ابن سلام وكان محمد في زمام
الحجاج زمانا قال انتهيت إلى الفرزدق بعد موت الحجاج بالردم وهو قائم والناس حوله
ينشد مديح سليمان بن عبد الملك ( وكم
أطلقتْ كفاك من غلّ بائس ... ومن عُقدةٍ ما كان يُرجَى انحلالُها ) ( كثيراً
من الأيدي التي قد تُكتَّفَتْ ... فَكَكْتَ وأعناقاً عليها غِلالها ) قال
قلت أنا والله أحدهم فأخذ بيدي وقال أيها الناس سلوه عما أقول والله ما كذبت قط أخبرني
جحظة قال حدثني ابن شبة عن محمد بن سلام فذكر مثله وقال فيه والله ما كذبت قط ولا
أكذب أبدا يأبى الحضور إلى يزيد بن المهلب قبل أن يدفع له قال أبو خليفة قال ابن
سلام وسمعت الحارث بن محمد بن زياد يقول كتب يزيد بن المهلب لما فتح جرجان إلى
أخيه مدركة أو مروان احمل إلي الفرزدق فإذا شخص فأعط أهله كذا وكذا ذكر عشرة آلاف
درهم فقال له الفرزدق ادفعها إلي قال اشخص وادفعها إلى أهلك فأبى وخرج وهو يقول ( دعاني
إلى جُرجانَ والرّيُّ دونه ... لآتِيَهُ إنّي إذاً لزءورُ ) ( لآتِيَ
من آل المهلَّب ثائراً ... بأعراضِهم والدَّائرات تدُورُ ) ( سَآبَى
وتَأْبى لي تميمٌ وربما ... أبَيْتُ فلم يقدر عليّ أمير ) قال
أبو خليفة قال ابن سلام وسمعت سلمة بن عياش قال حبست في السجن فإذا فيه الفرزدق قد
حبسه مالك بن المنذر بن الجارود فكان يريد أن يقول البيت فيقول صدره وأسبقه إلى
القافية ويجيء إلى القافية فأسبقه إلى الصدر فقال لي ممن أنت قلت من قريش قال كل أير
حمار من قريش من أيهم أنت قلت من بني عامر بن لؤي قال لئام والله أذلة جاورتهم
فكانوا شر جيران قلت ألا أخبرك بأذل منهم وألأم قال من قلت بنو مجاشع قال ولم ويلك
قلت أنت سيدهم وشاعرهم وابن سيدهم جاءك شرطي مالك حتى أدخلك السجن لم يمنعوك قال
قاتلك الله قال أبو خليفة قال ابن سلام وكان مسلمة بن عبد الملك على العراق بعد
قتل يزيد بن المهلب فلبث بها غير كثير ثم عزله يزيد بن عبد الملك واستعمل عمر بن
هبيرة على العراق فأساء عزل مسلمة فقال الفرزدق وأنشدنيه يونس ( ولت
بمسلمةَ الركابُ مُودَّعاً ... فارعَيْ فزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ ) ( فسد
الزمانُ وبُدِّلت أعلامُه ... حتى أميّةُ عن فزارةَ تنْزِع ) ( ولقد
علمتُ إذا فزارةُ أُمِّرت ... أن سوف تطمع في الإِمارة أشجعُ ) ( وبحقّ
ربك ما لهم ولمثلهم ... في مثل ما نالت فَزارةُ مطمع ) ( عُزِل
ابنُ بشر وابنُ عَمْرو قبلَه ... وأَخو هَراةَ لمثلها يتوقَّع ) ابن
بشر عبد الملك بن بشر بن مروان كان على البصرة أمره عليها مسلمة وابن عمرو سعيد بن
حذيفة بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وأخو هراة عبد العزيز بن الحكم بن
أبي العاصي ويروى للفرزدق في ابن هبيرة ( أمير
المؤمنين وأنت عَفٌّ ... كريمٌ لستَ بالطَّبعِ الحريصِ ) ( أَولَّيتَ
العِراقَ ورافِدَيْه ... فزاريًّا أحذَّ يدِ القَميص ) ( ولم
يكُ قبلها راعي مخاضٍ ... لتأمنَه على وَرِكَيْ قَلُوصِ ) ( تفنَّن
بالعراق أبو المُثَنَّى ... وعَلّم أهلَه أكْلَ الخَبِيص ) وأنشدني
له يونس ( جَهّز فإنك ممتارٌ ومُبتعثٌ ...
إلى فزارة عِيراً تحمِل الكَمَرَا ) ( إنَّ
الفزاريَّ لو يعمى فأطعَمَه ... أيرَ الحِمارِ طبيبٌ أبرأَ البَصَرَا ) ( إن
الفزاريّ لا يشفيه من قَرَمٍ ... أطايبُ العَيْر حتى ينهش الذّكرا ) ( يقول
لمّا رأى ما في إنائهم ... لله ضيف الفزاريين ما انْتَظَرَا ) فلما
قدم خالد بن عبد الله القسري واليا على ابن هبيرة حبسه في السجن فنقب له سرب فخرج
منه فهرب إلى الشام فقال فيه الفرزدق يذكر خروجه ( ولما
رأيتَ الأرض قد سُدَّ ظهرُها ... ولم تر إلا بطنَها لك مخرجا ) ( دعوت
الذي ناداه يونُسُ بعد ما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرّجا ) ( فأصبحت
تحت الأرض قد سِرْت ليلةً ... وما سار سَارٍ مثلها حين أدلجا ) ( خرجتَ
ولم تمنُنْ عليك شفاعةٌ ... سوى رَبذِ التقريب من آل أعوجا ) ( أغرّ
من الحُوِّ اللهاميم إذ جرى ... جرى بكَ محبوكُ القِرى غير أفحجا ) ( جرى
به عُريان الحماتين ليلَهُ ... بك عنك أرخى الله ما كان أشرجا ) ( وما
احتال مُحتالٌ كحيلته التي ... بها نفسه تحت الصّريمة أولجا ) ( وظَلماء
تحت الأرض قد خُضت هولَها ... وليلٍ كلون الطيلَسانيّ أدْعجا ) ( هما
ظُلْمتا ليل وأرض تلاقتا ... على جامع من هَمّه ما تعوَّجا ) هجوه
لخالد القسري فحدثني جابر بن جندل قال فقيل لابن هبيرة من سيد العراق قال الفرزدق
هجاني أميرا ومدحني سوقة وقال الفرزدق لخالد القسري حين قدم العراق أميرا لهشام ( ألا
قطع الرحمن ظهرَ مطيَّةٍ ... أتتنا تمَطَّى من دمشقٍ بخالد ) ( وكيف
يؤمّ المسلمين وأمُّه ... تدين بأنّ الله ليس بواحد ) ( بَنَى
بَيْعَةً فيها الصَّليبُ لأمّه ... وهَدّم من كُفرٍ مَنارَ المساجدِ ) وقال
أيضا ( نزلت بجيلَةُ واسطاً فتمكنَّت ...
ونفتْ فزارةَ عن قرار المنزل ) وقال
أيضا ( لعمري لئن كانت بجيلةُ زانها ...
جَريرٌ لقد أخزى بجيلة خالدُ ) فلما
قدم العراق خالد أميرا أمر على شرطة البصرة مالك بن المنذر بن الجارود وكان عبد
الأعلى بن عبد الله بن عامر يدعي على مالك قرية فأبطلها خالد وحفر النهر الذي سماه
المبارك فاعترض عليه الفرزدق فقال ( أهلكتَ
مالَ الله في غير حقّه ... على النَّهَر المشؤوم غيرِ المباركِ ) ( وتَضربُ
أقواماً صِحاحاً ظهورهم ... وتتركُ حقَّ الله في ظَهْرِ مالك ) ( أإنفاقَ
مالِ الله في غير كُنهه ... ومَنْعاً لحقِّ المرمِلات الضرائك ) دخل
على الحجاج يستميحه مهر حدراء زوجته أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن
حبيب عن الأصمعي قال قال أعين بن لبطة دخل الفرزدق على الحجاج لما تزوج حدراء
يستميحه مهرها فقال له تزوجت أعرابية على مائة بعير فقال له عنبسة بن سعيد إنما هي
فرائض قيمتها ألفا درهم - الفريضة عشرون درهما - فقال له الحجاج ليس غيرها يا كعب
أعط الفرزدق ألفي درهم قال وقدم الفضيل العنزي بصدقات بكر بن وائل فاشترى الفرزدق
مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على أن يثبتها له في الديوان قال الفرزدق فصليت مع
الحجاج الظهر حتى إذا سلم خرجت فوقفت في الدار فرآني فقال مهيم فقلت إن الفضيل
العنزي قدم بصدقات بكر بن وائل وقد اشتريت منه مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على
أن تحتسب له في الديوان فإن رأى الأمير أن يأمر لي بإثباتها له فعل فأمر أبا كعب
أن يثبت للفضيل ألفين وخمسمائة درهم ونسي ما كان أمر له به قال فلما جاء الفرزدق
بالإبل قالت له النوار خسرت صفقتك أتتزوج أعرابية نصرانية سوداء مهزولة خمشاء
الساقين على مائة من الإبل فقال يعرض بالنوار وكانت أمها وليدة ( لجَاريةٌ
بين السّليل عروقُها ... وبين أبي الصّهباء من آل خالدِ ) ( أحقُّ
بإغلاء المهور من التي ... رَبَتْ تتردّى في حجور الولائدِ ) فأبت
النوار عليه أن يسوقها كلها فحبس بعضها وامتار عليه ما يحتاج إليه أهل البادية
ومضى ومعه دليل يقال له أوفى بن خنزير قال أعين فلما كان في أدنى الحي رأوا كبشا
مذبوحا فقال الفرزدق يا أوفى هلكت والله حدراء قال وما علمك بذلك قال ويقال إن
أوفى قال للفرزدق يا أبا فراس لن ترى حدراء فمضوا حتى وقفوا على نادي زيق وهو جالس
فرحب به وقال له انزل فإن حدراء قد ماتت وكان زيق نصرانيا فقال قد عرفنا أن نصيبك
من ميراثها في دينكم النصف وهو لك عندنا فقال له الفرزدق والله لا أرزؤك منه
قطميرا فقال زيق يا بني دارم ما صاهرنا أكرم منكم في الحياة ولا أكرم منكم شركة في
الممات فقال الفرزدق ( عَجِبت
لحادينا المقَحِّم سيره ... بنا مُوجعاتٍ من كَلالٍ وظُلَّعَا ) ( ليُدنِينَا
ممن إلينَا لقاؤه ... حبيبٌ ومن دارٍ أردنا لتجمعا ) ( ولو
نعلمُ الغيبَ الذي من أمامنا ... لكرّبنا الحادي المطِيّ فأَسرعا ) ( يقولون
زُرْ حدراءَ والتُّربُ دونها ... وكيف بشيء وصلُه قد تقطَّعا ) ( يقول
ابن خِنزير بكيت ولم تكن ... على امرأة عيني إخال لتدمعا ) ( وأهونُ
رزء لامرىء غير جازعٍ ... رزيئةُ مرتج الروادف أفرعا ) ( ولست
- وإن عزّت - عليّ بزائرٍ ... تُرابا على مرموسةٍ قد تضعضعا ) وقيل
إن النوار كانت استعانت بأم هاشم لا بتُماضر وأم هاشم أخت تماضر لأن تماضر ماتت
عند عبد الله بعد أن ولدت له خبيبا وثابتا ابني عبد الله بن الزبير وتزوج بعدها
أختها أم هاشم فولدت له هاشما وحمزة وعبادا وفي أم هاشم يقول الفرزدق ( تروّحتِ
الرّكبانُ يا أُمَّ هاشمٍ ... وهنَّ مُنَاخاتٌ لهن حنين ) ( وحُبِّسْن
حتّى ليس فيهن نافقٌ ... لبيعٍ ولا مركوبُهن سمين ) طلق
رهيمة زوجته لأنها نشزت به أخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني
الأصمعي قال نشزت رهيمة بنت غني بن درهم النمرية بالفرزدق فطلقها وقال يهجوها
بقوله ( لا ينكحنْ بعدي فتىً نَمريّةً ...
مُرَمَّلةً من بعلها لبعادِ ) ( وبيضاء
زَعراء المفارق شَخْتَةً ... مولّعةً في خُضرة وسوادِ ) ( لها
بَشَرٌ شَثْنٌ كأن مَضَمَّه ... إذا عانقت بَعوْلاً مَضَمُّ قتادِ ) ( قرنتُ
بنفسي الشؤمَ في وِرد حوضها ... فَجُرِّعتُه مِلحاً بماء رمادِ ) ( وما
زلتُ - حتى فرَّق الله بيننا ... له الحمدُ - منها في أذىً وجهاد ) ( تُجدِّد
لي ذكرى عذَاب جهنَّمٍ ... ثلاثاً تُمسِّيني بها وتغادي ) يحظى
بجارية بنسيئة فتحمل منه أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحسين بن موسى قال قال المدائني
لقي الفرزدق جارية لبني نهشل فجعل ينظر إليها نظرا شديدا فقالت له مالك تنظر
فوالله لو كان لي ألف حر ما طمعت في واحد منها قال ولم يا لخناء قالت لأنك قبيح
المنظر سيء المخبر فيما أرى قال أما والله لو جربتني لعفى خبري على منظري قال ثم
كشف لها عن مثل ذراع البكر فتضبعت له عن مثل سنام البكر فعالجها فقالت أنكاح
بنسيئة هذا شر القضية قال ويحك ما معي إلا جبتي أفتسلبينني إياها ثم تسنمها فقال ( أولجتُ
فيها كذِراع البَكرِ ... مُدملَكَ الرأس شديدَ الأسْرِ ) ( زاد
على شِبْرٍ ونصفِ شِبْرِ ... كأنني أوجتُه في جَمْرِ ) ( يُطير
عنه نَفَيانَ الشَّعْرِ ... نفي شُعور الناس يَوْمَ النَّحرِ ) قال
فحملت منه ثم ماتت فبكاها وبكى ولده منها ( وغمدِ
سلاحٍ قد رزئتُ فلم أنُح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا ) ( وفي
جَوفه من دارمٍ ذو حفيظةٍ ... لو أنّ المنايا أنسأته لياليا ) ( ولكنَّ
ريب الدهر يعْثُر بالفتى ... فلم يستطع رَدًّا لما كان جائيَا ) ( وكم
مثلِه في مثلِها قد وضعته ... وما زلت وثَّاباً أجرُّ المخازيا ) فقال
جرير يعيره ( وكم
لكَ يا بنَ القيْن إنْ جاء سائلٌ ... من ابنٍ قصير الباع مثلُك حاملُه ) ( وآخر
لم تشعُر به قد أضعتَه ... وأوردته رِحماً كثيراً غوائِلُه ) زواجه
من ظبية ابنة حالم وعجزه عنها أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن موسى
قال حدثني محمد بن سليمان الكوفي عن أبيه قال تزوج الفرزدق ظبية ابنة حالم من بني
مجاشع بعد أن أسن فضعف وتركها عند أمها بالبادية سنة ولم يكن صداقها عنده فكتب إلى
أبان بن الوليد البجلي - وهو على فارس عامل لخالد بن عبد الله القسري - فأعطاه ما
سأل وأرضاه فقال يمدحه ( فلو
جمعوا من الخِلاّنِ ألفا ... فقالوا أعطِنا بهمُ أبانا ) ( لقلتُ
لهم إذاً لغبنتموني ... وكيف أبيع من شرَط الزمانا ) ( خليلٌ
لا يرى المائةَ الصّفايا ... ولا الخيلَ الجيادَ ولا القيانَا ) ( عَطاءً
دون أضعاف عليها ... ويُطعمُ ضَيفَه العُبُطَ السِّمانا ) العبط
الإبل التي لا وجع بها ( فما
أرجو لظبيةَ غيرَ ربِّي ... وغيرَ أبي الوليد بما أعانا ) ( أعان
بهجمة أرضَتْ أباها ... وكانت عنده غَلَقاً رِهانا ) وقال
أيضا في ذلك ( لقد
طال ما استودعتُ ظبيةَ أمَّها ... وهذا زمان رُدّ فيه الودائعُ ) وقال
حين أراد أن يبني بها ( أبادر
سُؤَّالا بظبية أنني ... أتتني بها الأهوالُ من كل جانب ) ( بمالِئةِ
الحِجْليْن لو أَنَّ مَيِّتاً ... ولو كان في الأموات تحت النصائب ) ( دعته
لألقى الرُّبَ عند انتفاضِه ... - ولو كان تحت الراسيات الرواسب - ) فلما
ابتنى منها عجز عنها فقال ( يا
لهفَ نفسي على نَعْظٍ فُجِعْتُ به ... حين التقى الرَّكَبُ المحلوقُ والرَّكَبُ ) وقال
جرير ( وتقول ظبيةُ إذ رأتك محوقِلاً ...
- حَوْقَ الحمار - من الخبال الخابلِ ) ( إنَّ
البليَّة وهْي كلُّ بليةٍ ... شيخٌ يُعَلِّل عِرْسَه بالباطل ) ( لو
قد عَلقتِ من المهاجر سُلَّما ... لنجوتِ منه بالقضاء الفاصِلِ ) قال
فنشزت منه ونافرته إلى المهاجر وبلغه قول جرير فقال المهاجر لو أتتني بالملائكة
معها لقضيت للفرزدق عليها شعره في ابنته مكية وأمها الزنجية قال وكان للفرزدق ابنة
يقال لها مكية وكانت زنجية وكان إذا حمي الوطيس وبلغ منه الهجاء يكتني بها ويقال ( ذا
كمْ إذاً ما كنتُ ذا محميَّهْ ... بدارِميٍّ أمُّه ضَبِّيهْ ) ( صمحمح
يُكنَى أبا مكيَّه ... ) وقال
في أمها ( يا ربَّ خوْدٍ من بنات الزّنجِ ...
تحمل تنُّوراً شديدَ الوهْجِ ) ( أقعبَ
مثْلَ القَدْحِ الخَلَنجِ ... يزداد طيباً عند طول الهرجِ ) ( مَخَجْتُها
بالأَيْر أيَّ مخجِ ... ) فقالت
له النوار ريحها مثل ريحك وقال في أم مكية يخاطب النوار ( فإن
يكُ خالها من آل كسرى ... فكِسرى كان خيراً من عِقال ) ( وأكثرَ
جزيةً تُهدَى إليه ... وأصبرَ عند مختلِف العوالي ) قال
وكانت أم النوار خراسانية فقال لها في أم مكية ( أغرك
منها أُدْمَةٌ عربيّةٌ ... علت لونَها إن البِجَادِيَّ أحمرُ ) يمدح
سعيد بن العاص فيحقد عليه مروان حدثني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا السكن بن
سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قال دخل الفرزدق على سعيد بن العاص وهو والي
المدينة لمعاوية فأنشده ( ترى
الغرّ الجحاجِحَ من قريش ... إذا ما الخطب في الحدثان غالا ) ( وقُوفاً
ينظرون إلى سعيدٍ ... كأنهمُ يرون به هلالا ) وعنده
كعب بن جعيل فلما فرغ من إنشاده قال كعب هذه والله رؤياي البارحة رأيت كأن ابن مرة
في نواحي المدينة وأنا أضم ذلاذلي منه فلما خرج الفرزدق خرج مروان في أثره فقال لم
ترض أن نكون قعودا حتى جعلتنا قياما في قولك ( قِياماً
ينظرون إلى سعيد ... كأنهمُ يرون به هلالا ) فقال
له يا أبا عبد الملك إنك من بينهم صافن فحقد عليه مروان ذلك ولم تطل الأيام حتى
عزل سعيد وولي مروان فلم يجد على الفرزدق متقدما حتى قال قصيدته التي قال فيها ( هما
دَلّتاني من ثمانين قامةً ... كما انقضَّ باز أقتمُ الريش كاسرُهْ ) ( فلما
استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أخيٌّ يُرجَّى أم قتيلٌ نُحاذره ) ( فقلت
ارفعا الأمراسَ لا يشعروا بنا ... وأقبلتُ في أعقاب ليل أبادره ) ( أبادر
بوَّابين لم يشعروا بنا ... وأحمرَ من ساجٍ تلُوح مسامره ) فقال
له مروان أتقول هذا بين أزواج رسول الله اخرج عن المدينة فذلك قول جرير ( تدلَّيت
تزني من ثمانينَ قامةً ... وقَصَّرت عن باع الندى والمكارم ) أخبرنا
ابن دريد قال أخبرنا الرياشي عن محمد بن سلام قال خبر آخر في مدحه سعيدا دخل
الفرزدق المدينة هاربا من زياد وعليها سعيد بن العاص بن أمية ابن عبد شمس أميرا من
قبل معاوية فدخل على سعيد ومثل بين يديه وهو معتم وفي مجلس سعيد الحطيئة وكعب بن
جعيل التغلبي وصاح الفرزدق أصلح الله الأمير أنا عائذ بالله وبك أنا رجل من تميم
ثم أحد بني دارم أنا الفرزدق بن غالب قال فأطرق سعيد مليا فلم يجبه فقال الفرزدق
رجل لم يصب دما حراما ولا مالا حراما فقال سعيد إن كنت كذلك فقد أمنت فأنشده ( إليك
فررتُ مِنك ومن زيادٍ ... ولم أحسب دمي لكما حَلاَلا ) ( ولكنِّي
هجوتُ وقد هجاني ... معاشرُ قد رضخْتُ لهم سِجالا ) ( فإن
يكن الهجاء أحلَّ قتلي ... فقد قلنا لشاعرهم وقالا ) ( أرِقتُ
فلم أنم ليلاً طويلا ... أراقب هل أرى النَّسرينِ زالا ) ( عليك
بني أمية فاستجرهم ... وخذ منهم لما تخشى حِبالا ) ( فإنّ
بني أمية في قريش ... بَنَوْا لبيوتهم عَمَداً طوالا ) ( ترى
الغرَّ الجحاجح من قريشٍ ... إذا ما الأمر في الحدثان غالا ) ( قياماً
ينظرون إلى سعيدٍ ... كأنّهمُ يرون به هلالا ) قال
فلما قال هذا البيت قال الحطيئة لسعيد هذا والله الشعر لا ما كنت تعلل به منذ
اليوم فقال كعب بن جعيل فضلته على نفسك فلا تفضله على غيرك قال بلى والله إنه
ليفضلني وغيري يا غلام أدركت من قبلك وسبقت من بعدك ولئن طال عمرك لتبرزن ثم عبث
الحطيئة بالفرزدق فقال يا غلام أنجدت أمك قال لا بل أبي أراد الحطيئة إن كانت أمك
أنجدت فقد أصبتها فولدتك إذ شابهتني في الشعر فقال الفرزدق لا بل أبي فوجده لقنا أخبرني
ابن دريد قال قال لنا أبو حاتم قال الأصمعي ومن عبثات الفرزدق أنه لقي مخنثا فقال
له من أين راحت عمتنا فقال له المخنث نفاها الأغر بن عبد العزيز يريد قول جرير ( نفاك
الأغرّ بن عبد العزيز ... وحقُّك تُنْفَى من المسجدِ ) جرير
يقر له بالغلبة ويلقبه بالعزيز أخبرنا ابن دريد عن الرياشي عن النضر بن شميل قال
قال جرير ما قال لي ابن القين بيتا إلا وقد اكتفأته أي قلبته إلا قوله ( ليس
الكِرامُ بناحليك أباهم ... حتى يرد إلى عطية تعتل ) فإني
لا أدري كيف أقول فيها وأخبرني ابن دريد قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد
عن ابن الكلبي عن عوانة بن الحكم قال بينما جرير واقف في المربد وقد ركبه الناس
وعمر بن لجأ مواقفه فأنشده عمر جواب قوله ( يا
تَيْمُ تَيْمَ عديٍّ لا أبا لكم ... لا يقذفنَّكُم في سَوأَةٍ عمرُ ) ( أحين
صرْتُ سِماماً يا بني لجأٍ ... وخاطَرتْ بيَ عن أحسابها مُضرُ ) فقال
عمر جواب هذا ( لقد
كذبتَ وشرُّ القولِ أكذبُهُ ... ما خاطرَتْ بك عن أحسابها مُضَرُ ) ( ألَسْتَ
نَزوَة خوّارٍ على أمة ... لا يسبق الحلباتِ اللؤمُ والخورُ ) وقد
كان الفرزدق رفده بهذين البيتين في هذه القصيدة فقال جرير لما سمعها قبحا لك يا بن
لجأ أهذا شعرك كذبت والله ولو مت هذا شعر حنظلي هذا شعر العزيز يعني الفرزدق فأبلس
عمر فما رد جوابا وخرج غنيم بن أبي الرقراق حتى أتى الفرزدق فضحك وقال إيه يابن
أبي الرقراق وإن عندك لخبرا قلت خزي أخوك ابن قتب فحدثته فضحك حتى فحص برجليه ثم
قال في ساعته ( وما
أنت إن قَرْمَا تَمِيم تساميا ... أخا التّيم إلا كالوشِيظة في العَظم ) ( فلو
كنت مولى الظلم أو في ثِيابِه ... ظلمتَ ولكن لا يَدَيْ لك بالظُّلْم ) فما
بلغ هذان البيتان جريرا قال ما أنصفني في شعر قط قبل هذا يعني قوله ( إنْ
قرْمَا تميم تساميا ... ) يغتصب
جيد الشعراء أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا الرياشي قال كان الفرزدق مهيبا تخافه
الشعراء فمر يوما بالشمردل وهو ينشد قصيدته حتى بلغ إلى قوله ( وما
بين مَنْ لم يُعطِ سمعاً وطاعةً ... وبين تميمٍ غيرُ حزّ الغَلاصم ) قال
والله لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك قال خذه على كره مني فهو في قصيدة الفرزدق
التي أولها قوله ( تحنّ
بزورَاءِ المدينة ناقَتِي ... ) قال
وكان الفرزدق يقول خير السرقة ما لا يجب فيه القطع يعني سرقة الشعر أخبرنا ابن
دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن الضحاك بن بهلول الفقيمي قال بينما أنا بكاظمة
وذو الرمة ينشد قصيدته التي يقول فيها ( أحينَ
أعاذت بي تميمٌ نساءَها ... وجُرّدْت تجريدَ اليَمانِي من الغِمد ) إذا
راكبان قد تدليا من نعف كاظمة متقنعان فوقفا فلما فرغ ذو الرمة حسر الفرزدق عن
وجهه وقال يا عبيد اضممها إليك - يعني راويته - وهو عبيد أخو بني ربيعة بن حنظلة
فقال ذو الرمة نشدتك الله يا أبا فراس إن فعلت قال دع ذا عنك فانتحلها في قصيدته
وهي أربعة أبيات ( أحينَ
أعاذت بي تميمٌ نساءهَا ... وجُرّدت تجريدَ اليَمانِي من الغِمدِ ) ( ومدت
بضَبْعيَّ الرّبابُ ومالكٌ ... وعمروٌ وشالت من ورائي بنو سعد ) ( ومن
آل يربوعٍ زُهَاءٌ كأنه ... دُجَى الليل محمود النِّكاية والوِرد ) ( وكنّا
إذا الجبّارُ صَعَّرَ خدَّه ... ضربناه فوق الأُنْثَيَيْن على الكَرْد ) أخبرنا
ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال اجتمع الفرزدق وجرير وكثير وابن
الرقاع عند سليمان بن عبد الملك فقال أنشدونا من فخركم شيئا حسنا فبدرهم الفرزدق
فقال ( وما قوم إذا العلماء عَدّت ...
عروقَ الأكرمين إلى الترابِ ) ( بمختلفين
إن فضَّلتمونا ... عليهم في القَديم ولا غِضاب ) ( ولو
رَفع السحابُ إليه قوماً ... عَلَوْنا في السماء إلى السحاب ) فقال
سليمان لا تنطقوا فوالله ما ترك لكم مقالا أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد
بن عمران الضبي عن سليمان بن أبي سليمان الجوزجاني قال غاب الفرزدق فكتبت النوار
تشكو إليه مكية وكتب إليه أهله يشكون سوء خلقها وتبذيها عليهم فكتب إليهم ( كتبتم
عليها أنها ظلمتكم ... كذبتم وبيتِ الله بل تظلمونها ) ( فإلاّ
تعدُّوا أنها من نسائكم ... فإنّ ابنَ ليلى والدٌ لا يشينها ) ( وإنّ
لها أعمامَ صدق وإخوة ... وشيخاً إذا شاءت تَنَمّر دونها ) كان
ابنه لبطة عاقا به قال وكان للفرزدق ثلاثة أولاد يقال لواحد منهم لبطة والآخر حبطة
والثالث سبطة وكان لبطة من العققة فقال له الفرزدق ( أإنْ
أُرعِشتْ كفَّا أبيك وأصبَحتْ ... يداك يَدَيْ ليثٍ فإنك جادِبُه ) ( إذا
غالَبَ ابنٌ بالشباب أباً له ... كبيراً فإِن الله لا بدّ غالبُه ) ( رأيتُ
تباشيرَ العقوق هي التي ... من ابن امرىء ما إن يزال يُعاتبُه ) ( ولما
رآني قد كبِرتُ وأنني ... أخو الحي واستغنى عن المسح شاربُه ) ( أصاخ
لغربان النّجيِّ وإنه ... لأَزورُ عن بعض المقالة جانبه ) قال
أبو عبيدة في كتاب النقائض قال رؤبة بن العجاج حج سليمان بن عبد الملك وحجت معه
الشعراء فمر بالمدينة منصرفا فأتي بأسرى من الروم نحو أربعمائة فقعد سليمان وعنده
عبد الله بن حسن بن حسن - عليهم السلام - وعليه ثوبان ممصران وهو أقربهم منه مجلسا
فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعة فقال لعبد الله بن حسن قم فاضرب عنقه فقام فما
أعطاه أحد سيفا حتى دفع إليه حرسي سيفا كليلا فضربه فأبان عنقه وذراعه وأطن ساعده
وبعض الغل فقال له سليمان والله ما ضربته بسيفك ولكن بحسبك وجعل يدفع الأسرى إلى
الوجوه فيقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم فدست إليه بنو عبس سيفا قاطعا في
قراب أبيض فضربه فأبان رأسه ودفع إلى الفرزدق أسيرا فدست إليه القيسية سيفا كليلا
فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئا فضحك سليمان وضحك الناس معه وقيل إن سليمان
لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفا وقال اقتله به فقال لا بل أقتله بسيف مجاشع
واخترط سيفه فضربه فلم يغن شيئا فقال سليمان أما والله لقد بقي عليك عارها وشنارها
فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها وأولها جرير يهجوه وهو يجيب ( ألا حيِّ ربعَ
المنزل المُتقادِمِ ... وما حُلَّ مُذ حَلَّت به أمُّ سالمِ ) منها
( ألم تشهد الجَوْنَيْن والشِّعب ذا
الغَضَى ... وكَرَّاتِ قيسٍ يومَ دَيْر الجماجم ) ( تُحرِّضُ
يابنَ القَيْن قيساً ليجعلوا ... لقومك يوماً مثل يومِ الأراقم ) ( بسيفِ
أبي رَغْوَانَ سيفِ مُجاشِعٍ ... ضربتَ ولم تضربْ بسيف ابن ظالمِ ) ( ضربتَ
به عند الإِمام فأُرْعِشتْ ... يداك وقالوا مُحْدَثٌ غيرُ صارمِ ) فقال
الفرزدق يجيب جريرا عن قوله ( وهل
ضربةُ الرُّوميِّ جاعلةٌ لكم ... أباً عن كُلَيْب أو أباً مثلَ دارمِ ) ( كذاك
سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها ... وتقطعُ أحياناً مَناطَ التمائمِ ) ( ولا
نقتلُ الأسرَى ولكن نفكُّهُم ... إذا أثقل الأعناقَ حملُ المغارم ) وقال
يعرض بسليمان ويعيره نبو سيف ورقاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر وبنو عبس هم
أخوال سليمان ( فإِن
يكُ سيفٌ خان أو قَدَرٌ أبَى ... بتعجيلِ نفسٍ حتفُها غير شاهد ) ( فسيفُ
بني عبسٍ وقد ضربوا به ... نبا بيدَيْ وَرَقاءَ عن رأسِ خالد ) ( كذاك
سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها ... وتقطعُ أحيانا مَناط القلائدِ ) وأولها
( تباشَرُ يربوعٌ بنبوةِ ضربةٍ ...
ضربتُ بها بين الطُّلا والمحارِد ) ( ولو
شئتُ قدَّ السيفُ ما بين عُنقه ... الى عَلَق بين الحِجَابَيْن جامدِ ) وقيل
إن الفرزدق قال لسليمان يا أمير المؤمنين هب لي هذا الأسير فوهبه له فأعتقه وقال
الأبيات التي منها ( ولا
نقتُل الأسرى ولكن نفكُّهم ... إذا أثقلَ الأعناقَ حملُ المغارمِ ) ثم
أقبل على راويته فقال كأني بابن المراغة وقد بلغه خبري فقال ( بسيفِ
أبي رَغْوَانَ سيفِ مُجاشِعٍ ... ضربتَ ولم تضربْ بسيف ابن ظالمِ ) ( ضربتَ
به عند الإِمام فأُرْعِشتْ ... يداك وقالوا مُحْدَثٌ غيرُ صارمِ ) فما
لبثنا إلا أياما يسيرة حتى جاءتنا القصيدة وفيها البيتان فعجبنا من فطنة الفرزدق وقال
أيضا في ذلك ( أَيعجبُ
النَّاسُ أن أضحكتُ خيرَهُم ... خليفةَ الله يُستسقَى به المطرُ )
( فما نبا السيفُ عن جُبْنٍ وعن
دَهَشٍ ... عند الإِمامِ ولكن أُخِّر القدرُ ) ( ولو
ضربتُ به عمداً مُقلَّدَهُ ... لخرَّ جثمانُه ما فوقه شَعَرُ ) ( وما
يُقدِّم نفساً قبل مِيتَتِها ... جمعُ اليدين ولا الصَّمْصَامة الذكر ) متفرقات
من شعره وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال هجا
الفرزدق خالدا القسري وذكر المبارك النهر الذي حفره بواسط فبلغه ذلك وكتب خالد إلى
مالك بن المنذر أن احبس الفرزدق فإنه هجا نهر أمير المؤمنين بقوله ( وأهلكتَ
مالَ اللهِ في غير حقِّه ... على نهرك المشؤوم غير المُبَارك ) الأبيات
فأرسل مالك إلى أيوب بن عيسى الضبي فقال ائتني بالفرزدق فلم يزل يعمل فيه حتى أخذه
فطلب إليهم أن يمروا به على بني حنيفة فقال الفرزدق ما زلت أرجو أن أنجو حتى جاوزت
بني حنيفة فلما قيل لمالك هذا الفرزدق انتفخ وريد مالك غضبا فلما أدخل عليه قال ( أقول
لنفسي حين غصَّت بريقها ... ألا ليتَ شعري ما لها عند مالكِ ) ( لها
عنده أن يَرجِعَ اللهُ رُوحَها ... إليها وتنجو من جميع المهالك ) ( وأنت
ابنُ حَبَّارَيْ ربيعةَ أدركت ... بك الشمس والخضراءَ ذاتَ الحبائك ) فسكن
مالك وأمر به إلى السجن فقال يهجو أيوب بن عيسى الضبي ( فلو
كنتَ قَيْسيًّا إذاً ما حبستِني ... ولكنَّ زنجيًّا غليظاً مشافِرُه ) ( مَتَتُّ
له بالرِّحْم بَيْني وبينه ... فألفيتُه مني بَعيداً أواصِرُه ) ( وقلت
امرؤ من آل ضبةَ فاعتزى ... لغيرهم لونُ استِه ومَحاجِرُه ) ( فسوف
يرى النوبيّ ما اجترحَت له ... يَدَاه إذا ما الشِّعر عَيَّتْ نَوَافره ) ( ستُلقِي
عليك الخنفساء إذا فست ... عليك من الشعر الذي أنت حاذِرُه ) ( وتأتي
ابن زُبِّ الخنفساء قصيدةٌ ... تكون له مني عَذاباً يُباشِره ) ( تعذرت
يابن الخنفساء ولم تكن ... لتُقْبَلَ لابْنِ الخنفساء معاذرُه ) ( فإنكما
يا بني يسار نزوْتما ... على ثفرها ما حنّ للزيت عاصره ) ( لزِنجيَّة
بظراءَ شقق بظرَها ... زحيرٌ بأيوبٍ شديدٌ زوافره ) ثم
مدح خالد بن عبد الله ومالك بن المنذر وهو محبوس مديحا كثيرا فأنشدني يونس في كلمة
له طويلة ( يا مالِ هل هو مُهلكي ما لم أقل
... وليُعلَمَنَّ من القصائد قيلي ) ( يا
مالِ هل لك في كبير قد أتَتْ ... تسعون فوق يديه غير قليل ) ( فتجيرَ
ناصِيَتي وتُفْرجَ كُربتِي ... عني وتطلقَ لي يداك كُبُولِي ) ( ولقد
بنى لكم المُعَلَّى ذِروةً ... رَفعتْ بناءك في أشَمَّ طويلِ ) ( والخيلُ
تعلم في جَذِيمة أنها ... تَرْدَى بكل سَميدَعٍ بهلُول ) ( فاسقُوا
فقد ملأَ المعلّى حوضَكم ... بذَنوبِ مُلتَهِم الرَّباب سجيل ) وقال
يمدح مالكا وكانت أم مالك هذا بنت مالك بن مسمع ( وقِرْمٍ
بين أولاد المُعلّى ... وأولاد المَسامَعةِ الكرامِ ) ( تخمَّط
في ربيعة بين بكر ... وعبد القيس في الحسب اللُّهام ) فلما
لم تنفعه مديحة مالك قال يمدح هشام بن عبد الملك ويعتذر إليه ( أِلكْني
إلى رَاعِي البريَّةِ والذي ... له العَدلُ في الأرض العريضة نوّرا ) ( فإِن
تُنكروا شعرِي إذاً خرجت له ... بوادرُ لو يُرمَى بها لتَفَقَّرا ) ( ثبير
ولو مست حِرَاء لحرّكت ... به الراسيات الصُّمَّ حتى تكوّرا ) ( إذا
قال غاوٍ من مَعَدٍّ قصيدةً ... بها حَرَبٌ كانت وبالاً مُدمرّا ) ( أينطِقُها
غيري وأُرمَى بجُرمها ... فكيف أَلوم الدّهرَ أن يتغيّرا ) ( لئن
صَبَرتْ نفسِي لقد أُمِرت به ... وخيرُ عباد الله من كان أصبرا ) ( وكنت
ابنَ أحْذارٍ ولو كنتُ خائفاً ... لكنت من العصماء في الطود أحذرا ) ( ولكنْ
أتوْني آمناً لا أخافهم ... نهاراً وكان اللهُ ما شاء قدَّرا ) أخبرني
أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى قال قال الفرزدق لابنه لبطة وهو
محبوس أشخص إلى هشام وامدحه بقصيدة وقال استعن بالقيسية ولا يمنعك قولي فيهم فإنهم
سيغضبون لك وقال ( بكت
عينُ محزونٍ ففاض سجامُها ... وطالت ليالي ساهر لا ينامُها ) ( فإن
تبك لا تبك المصيبات إِذ أَتَى ... بها الدهر والأيام جَمٌّ خِصامُها ) ( ولكنما
تبكي تَهتّكَ خالد ... محارمَ مِنّا لا يحل حَرامُها ) ( فقُل
لبني مروان ما بال ذمَّة ... وحرمَةِ حَقٍّ ليس يُرْعى ذمامُها ) ( أنُقْتَل
فيكم أن قَتَلْنا عدوَّكُم ... على دينكم والحرب باقٍ قتامُها ) ( أتاك
بقتل ابن المُهَلَّب خالدٌ ... وفينا بَقيّاتُ الهدى وإمامها ) أقسام
الكتاب 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28
29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 الصفحة
الرئيسية حول الموقع اتصل بنا ترجمات القران أعلى الصفحة ISLAMICBOOK.WS © 2022 | جميع
الحقوق متاحة لجميع المسلمين كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني أخبرني عمر بن عبد
الله بن شبة عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام
عن محمد بن عمران عن عقبة بن سلم أن أبا جعفر دعاه فسأله عن اسمه ونسبه فقال أنا
عقبة بن سلم بن نافع بن الأزدهاني قال إني أرى لك هيئة وموضعا وإني لأريدك لأمر
أنا به معني قال أرجو أن أصدق ظن أمير المؤمنين قال فأخف شخصك وائتني في يوم كذا
وكذا فأتيته فقال إن بني عمنا هؤلاء قد أبوا إلا كيدا بملكنا ولهم شيعة بخراسان بقرية
كذا وكذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم بصدقات وألطاف فاذهب حتى تأتيهم متنكرا بكتاب
تكتبه عن أهل تلك القرية ثم تسير ناحيتهم فإن كانوا نزعوا عن رأيهم علمت ذلك وكنت
على حذر منهم حتى تلقى عبد الله بن الحسن متخشعا وإن جبهك وهو فاعل فاصبر وعاوده
أبدا حتى يأنس بك فإذا ظهر لك ما في قلبه فاعجل إلي ففعل ذلك وفعل به حتى أنس عبد
الله بناحيته فقال له عقبة الجواب فقال له أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد ولكن
أنت كتابي إليهم فأقرئهم السلام وأخبرهم أن ابني خارج لوقت كذا وكذا فشخص عقبة حتى
قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر بماذا أجاب أبا جعفر عندما سأله عن ابنيه أخبرني
العتكي عن عمر بن محمد بن يحيى بن الحارث بن إسحاق قال سأل أبو جعفر عبد الله بن
الحسن عن ابنيه لما حج فقال لا أعلم بهما حتى تغالظا فأمضه أبو جعفر فقال له يا
أبا جعفر بأي أمهاتي تمضني أبخديجة بنت خويلد أم بفاطمة نت رسول الله أم بفاطمة
بنت الحسين عليهم السلام أم بأم إسحاق بنت طلحة قال لا ولا بواحدة منهن ولكن
بالجرباء بنت قسامة فوثب المسيب بن زهير فقال يا أمير المؤمنين دعني أضرب عنق ابن الفاعلة
فقام زياد بن عبيد الله فألقى عليه رداءه وقال يا أمير المؤمنين هبه لي فأنا
المستخرج لك ابنيه فتخلصه منه قال ابن شبة وحدثني بكر بن عبد الله مولى أبي بكر عن
علي بن رباح أخي إبراهيم بن رباح عن صاحب المصلى قال إني لواقف على رأس أبي جعفر
وهو يتغدى بأوطاس وهو متوجه إلى مكة ومعه على مائدته عبد الله بن الحسن وأبو
الكرام الجعفري وجماعة من بني العباس فأقبل على عبد الله بن الحسن فقال يا أبا
محمد محمد وإبراهيم أراهما قد استوحشا من ناحيتي وإني لأحب أن يأنسا بي ويأتياني
فأصلهما وأزوجهما وأخلطهما بنفسي قال وعبد الله يطرق طويلا ثم يرفع رأسه ويقول
وحقك يا أمير المؤمنين مالي بهما ولا بموضعهما من البلاد علم ولقد خرجا عن يدي
فيقول لا تفعل يا أبا محمد اكتب إليهما وإلى من يوصل كتابك إليهما قال وامتنع أبو
جعفر عن عامة غدائه ذلك اليوم إقبالا على عبد الله وعبد الله يحلف أنه لا يعرف
موضعهما وأبو جعفر يكرر عليه لا تفعل يا أبا محمد قال ابن شبة فحدثني محمد بن عباد
عن السندي بن شاهك أن أبا جعفر قال لعقبة بن سلم إذا فرغنا من الطعام فلحظتك فامثل
بين يدي عبد الله فإنه سيصرف بصره عنك فدر حتى تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ
عينيه منك ثم حسبك وإياك أن يراك ما دام يأكل ففعل ذلك عقبة فلما رآه عبد الله وثب
حتى جثا بين يدي أبي جعفر وقال يا أمير المؤمنين أقلني أقالك الله قال لا أقالني
الله إن أقلتك ثم أمر بحبسه قال ابن شبة فحدثني أيوب بن عمر عن محمد بن خلف
المخزومي قال أخبرني العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس قال لما حج أبو
جعفر في سنة اربعين ومائة أتاه عبد الله وحسن ابنا حسن فإنهما وإياي لعنده وهو
مشغول بكتاب ينظر فيه إذ تكلم المهدي فلحن فقال عبد الله يا أمير المؤمنين ألا
تأمر بهذا من يعدل لسانه فإنه يفعل فعل الأمة فلم يفهم وغمزت عبد الله فلم ينتبه
وعاد لأبي جعفر فأحفظ من ذلك وقال له أين ابنك قال لا أدري قال لتأتيني به قال لو
كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه قال يا ربيع فمر به إلى الحبس توفي في محبسه
بالهاشمية أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن قال توفي عبد الله في
محبسه بالهاشمية وهو ابن خمس وسبعين سنة في سنة خمس وأربعين ومائة وهند التي عناها
عبد الله في شعره الذي فيه الغناء زوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة بن
الأسود بن المطلب بن أسد ابن عبد العزى بن قصي وأمها قرينة بنت يزيد بن عبد الله
بن وهب بن زمعة ابن الأسود بن المطلب وكان أبو عبيدة جوادا وممدحا وكانت هند قبل
عبد الله بن الحسن تحت عبد الله بن عبد الملك بن مروان فمات عنها فأخبرني الحرمي
عن الزبير عن سليمان بن عياش السعدي قال لما توفي أبو عبيدة وجدت ابنته هند وجدا
شديدا فكلم عبد الله بن الحسن محمد بن بشير الخارجي أن يدخل على هند بنت أبي عبيدة
فيعزيها ويؤسيها عن أبيها فدخل معه عليها فلما نظر إليها صاح بأبعد صوته ( قومي
اضربي عينيك يا هندُ لن تَرَيْ ... أَباً مثلَه تسمُو إليه المَفاخِرُ ) ( وكنت
إذا أَسبَلْتِ فوقك والدا ... تَزِيني كما زان اليدين الأساورُ ) فصكت
وجهها وصاحت بحربها وجهدها فقال له عبد الله بن الحسن ألهذا دخلت فقال الخارجي
وكيف أعزي عن أبي عبيدة وأنا أعزى به أخبرني العتكي عن شبة قال حدثني عبد الرحمن
بن جعفر بن سليمان عن علي بن صالح قال زوج عبد الملك بن مروان ابنه عبد الله هند
بنت أبي عبيدة وريطة بنت عبد الله بن عبد المدان لما كان يقال إنه كائن في
أولادهما فمات عنهما عبد الله أو طلقهما فتزوج هندا عبد الله بن الحسن وتزوج ريطة
محمد بن علي فجاءت بأبي العباس السفاح أخبرني العتكي عن عمر بن شبة عن ابن داجة عن
أبيه قال لما مات عبد الله بن عبد الملك رجعت هند بميراثها منه فقال عبد الله ابن حسن
لأمه فاطمة اخطبي علي هندا فقالت إذا تردك أتطمع في هند وقد ورثت ما ورثته وأنت
ترب لا مال لك فتركها ومضى إلى أبي عبيدة أبي هند فخطبها إليه فقال في الرحب
والسعة أما مني فقد زوجتك مكانك لا تبرح ودخل على هند فقال يا بنية هذا عبد الله
بن حسن أتاك خاطبا قالت فما قلت له قال زوجته قالت أحسنت قد أجزت ما صنعت وأرسلت
إلى عبد الله لا تبرح حتى تدخل على أهلك قال فتزينت له فبات بها معرسا من ليلته
ولا تشعر أمه فأقام سبعا ثم أصبح يوم سابعه غاديا على أمه وعليه ردع الطيب وفي غير
ثيابه التي تعرف فقالت له يا بني من أين لك هذا قال من عند التي زعمت أنها لا
تريدني أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي عبد العزيز بن أحمد بن بكار قالا حدثنا الزبير
قال حدثتني ظبية مولاة فاطمة قالت كان جدك عبد الله بن مصعب يستنشدني كثيرا أبيات
عبد الله بن حسن ويعجب بها ( إنّ
عيني تعوَّدت كُحْل هِنْدٍ ... جَمَعتْ كَفُّها مع الرِّفق لِينا ) صوت
( يا عِيدُ مالكَ من شوقٍ وإيراقِ ... ومرِّ طَيْفٍ على الأهوال طَرَّاقِ ) ( يَسْرِي
على الأَيْنِ والحيَّات مُحْتفياً ... نفسي فِداؤُك من سارٍ على ساقِ ) عروضه
من البسيط العيد ما اعتاد الإنسان من هم أو شوق أو مرض أو ذكر والأين والأيم ضرب
من الحيات والأين الإعياء أيضا وروى أبو عمرو ( يا
عيد قلبُك من شوق وإيراق ... ) الشعر
لتأبط شرا والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى من رواية يحيى المكي وحبش وذكر
الهشامي أنه من منحول يحيى إلى ابن محرز أخبار تأبط شرا ونسبه هو ثابت بن جابر بن
سفيان بن عميثل بن عدي بن كعب بن حزن وقيل حرب بن تميم بن سعد بن فهم بن عمرو بن
قيس عيلان بن مضر بن نزار وأمه امرأة يقال لها أميمة يقال إنها من بني القين بطن
من فهم ولدت خمسة نفر تأبط شرا وريش بلغب وريش نسر وكعب جدر ولا بواكي له وقيل
إنها ولدت سادسا اسمه عمرو لقبه وسببه وتأبط شرا لقب لقب به ذكر الرواة أنه كان
رأى كبشا في الصحراء فاحتمله تحت إبطه فجعل يبول عليه طول طريقه فلما قرب من الحي
ثقل عليه الكبش فلم يقله فرمى به فإذا هو الغول فقال له قومه ما تأبطت يا ثابت قال
الغول قالوا لقد تأبطت شرا فسمي بذلك وقيل بل قالت له أمه كل إخوتك يأتيني بشيء
إذا راح غيرك فقال لها سآتيك الليلة بشيء ومضى فصاد أفاعي كثيرة من أكبر ما قدر
عليه فلما راح أتى بهن في جراب متأبطا له فألقاه بين يديها ففتحته فتساعين في بيتها
فوثبت وخرجت فقال لها نساء الحي ماذا أتاك به ثابت فقالت أتاني بأفاع في جراب قلن
وكيف حملها قالت تأبطها قلن لقد تأبط شرا فلزمه تأبط شرا حدثني عمي قال حدثني علي
بن الحسين بن عبد الأعلى عن أبي محلم بمثل هذه الحكاية وزاد فيها أن أمه قالت له
في زمن الكمأة ألا ترى غلمان الحي يجتنون لأهليهم الكمأة فيروحون بها فقال أعطيني
جرابك حتى أجتني لك فيه فأعطته فملأه لها أفاعي وذكر باقي الخبر مثل ما تقدم ومن
ذكر أنه إنما جاءها بالغول يحتج بكثرة أشعاره في هذا المعنى فإنه يصف لقاءه إياها
في شعره كثيرا فمن ذلك قوله ( فأَصبحت
الغُولُ لي جارةً ... فيا جارتا لك ما أَهولا ) ( فطالبتُها
بُضْعَها فالتوت ... عليَّ وحاولتُ أن أَفعلا ) ( فمن
كان يسأل عن جارتي ... فإنّ لها باللِّوى مَنْزِلاَ ) كان
أحد العدائين المعدودين أخبرني عمي عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال
نزلت على حي من فهم إخوة بني عدوان من قيس فسألتهم عن خبر تأبط شرا فقال لي بعضهم
وما سؤالك عنه أتريد أن تكون لصا قلت لا ولكن أريد أن أعرف أخبار هؤلاء العدائين
فأتحدث بها فقالوا نحدثك بخبره إن تأبط شرا كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين
وكان إذا جاع لم تقم له قائمة فكان ينظر إلى الظباء فينتقي على نظره أسمنها ثم
يجري خلفه فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه ثم يشويه فيأكله وإنما سمي تأبط شرا
لأنه فيما حكي لنا لقي الغول في ليلة ظلماء في موضع يقال له رحى بطان في بلاد هذيل
فأخذت عليه الطريق فلم يزل بها حتى قتلها وبات عليها فلما أصبح حملها تحت إبطه
وجاء بها إلى أصحابه فقالوا له لقد تأبطت شرا فقال في ذلك شعره في غول تأبطها (
تأَبَّط شرّاً ثم راح أو اغْتَدى ... تُوائم غُنْما أو يَشِيف على ذَخْل ) يوائم
يوافق ويشيف يقتدر وقال أيضا في ذلك ( ألا
مَنْ مُبلغٌ فِتيانَ فَهمٍ ... بما لاقيتُ عند رَحَى بطانِ ) ( وأنِّي
قد لقيتُ الغولَ تهوي ... بسَهْب كالصحيفة صحصحانِ ) ( فقلت
لها كلانا نِضْو أَيْنٍ ... أخو سفر فخلّي لي مكاني ) ( فشدَّت
شدَّةً نحوي فأَهْوَى ... لها كفّي بمصقولٍ يَماني ) ( فأَضربها
بلا دَهَشٍ فَخَرّت ... صريعاً لليدين وللجِرانِ ) ( فقالت
عُد فقلت لها رُوَيداً ... مكانَك إنني ثَبْتُ الجنانِ ) ( فلم
أنفكَّ مُتّكِئاً عليها ... لأنظر مُصبِحاً ماذا أتاني ) ( إذا
عينان في رأسٍ قبيح ... كرأس الهِرِّ مَشْقوق اللِّسانِ ) ( وساقا
مُخدجٍ وشواةُ كلْب ... وثوب من عَباءٍ أو شِنان ) أخبرنا
الحسين بن يحيى قال قرأت على حماد وحدثك أبوك عن حمزة ابن عتبة اللهبي قال قيل
لتأبط شرا هذه الرجال غلبتها فكيف لا تنهشك الحيات في سراك فقال إني لأسري البردين
يعني أول الليل لأنها تمور خارجة من حجرتها وآخر الليل تمور مقبلة إليها قال حمزة
ولقي تأبط شرا ذات يوم رجلا من ثقيف يقال له أبو وهب كان جبانا أهوج وعليه حلة
جيدة فقال أبو وهب لتأبط شرا بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت كما أرى دميم ضئيل قال
باسمي إنما أقول ساعة ما ألقى الرجل أنا تأبط شرا فينخلع قلبه حتى أنال منه ما
أردت فقال له الثقفي أقط قال قط قال فهل لك أن تبيعني اسمك قال نعم فبم تبتاعه قال
بهذه الحلة وبكنيتك قال له أفعل ففعل وقال له تأبط شرا لك اسمي ولي كنيتك وأخذ
حلته وأعطاه طمرية ثم انصرف وقال في ذلك يخاطب زوجة الثقفي ( ألا
هل أتى الحسناءَ أنّ حَلِيلَها ... تأبّط شَرّاً واكتنيتُ أبَا وَهْب ) ( فهبه
تَسمَّى اسْمي وسُمِّيتُ باسمِه ... فأَين له صبرِي على مُعْظَمِ الخطب ) ( وأين
له بأْسٌ كَبَأْسي وسَوْرتي ... وأين له في كل فادحةٍ قَلْبِي ) أحب
جارية وعجز عنها قال حمزة وأحب تأبط شرا جارية من قومه فطلبها زمانا لا يقدر عليها
ثم لقيته ذات ليلة فأجابته وأرادها فعجز عنها فلما رأت جزعه من ذلك تناومت عليه
فآنسته وهدأ ثم جعل يقول ( مالكَ
من أَيْرٍ سُلِبْتَ الخلّه ... عجَزْتَ عن جارية رِفَلّهْ ) ( تمشي
إليك مشيةً خوزلَّهْ ... كمشية الأَرخِ تريد العلّهْ ) الأرخ
الأنثى من البقر التي لم تنتج العلة تريد أن تعل بعد النهل أي أنها قد رويت
فمشيتها ثقيلة والعل الشرب الثاني ( لو
أنها راعِيةٌ في ثُلَّه ... تحمل قِلْعَين لها قبَلّه ) ( لصرتُ
كالهراوة العُتُلّهْ ... ) خبره
مع بجيلة أخبرني الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن أبي بركة الأشجعي
قال أغار تأبط شرا وهو ثابت بن العميثل الفهمي ومعه ابن براق الفهمي على بجيلة فأطردا
لهم نعما ونذرت بهما بجيلة فخرجت في آثارهما ومضيا هاربين في جبال السراة وركبا
الحزن وعارضتهما بجيلة في السهل فسبقوهما إلى الوهط وهو ماء لعمرو بن العاص
بالطائف فدخلوا لهما في قصبة العين وجاءا وقد بلغ العطش منهما إلى العين فلما وقفا
عليها قال تأبط شرا لابن براق أقل من الشراب فإنها ليلة طرد قال وما يدريك قال والذي
أعدو بطيره إني لأسمع وجيب قلوب الرجال تحت قدمي وكان من أسمع العرب وأكيدهم فقال
له ابن براق ذلك وجيب قلبك فقال له تأبط شرا والله ما وجب قط ولا كان وجابا وضرب
بيده عليه وأصاخ نحو الأرض يستمع فقال والذي أعدو بطيره إني لأسمع وجيب قلوب
الرجال فقال له ابن براق فأنا أنزل قبلك فنزل فبرك وشرب وكان أكل القوم عند بجيلة
شوكة فتركوه وهم في الظلمة ونزل ثابت فلما توسط الماء وثبوا عليه فأخذوه وأخرجوه
من العين مكتوفا وابن براق قريب منهم لا يطمعون فيه لما يعلمون من عدوه فقال لهم
ثابت إنه من أصلف الناس وأشدهم عجبا بعدوه وسأقول له استأسر معي فسيدعوه عجبه
بعدوه إلى أن يعدو من بين أيديكم وله ثلاثة أطلاق أولها كالريح الهابة والثاني
كالفرس الجواد والثالث يكبو فيه ويعثر فإذا رأيتم منه ذلك فخذوه فإني أحب أن يصير
في أيديكم كما صرت إذ خالفني ولم يقبل رأيي ونصحي له قالوا فافعل فصاح به تأبط شرا
أنت أخي في الشدة والرخاء وقد وعدني القوم أن يمنوا عليك وعلي فاستأسر وواسني بنفسك
في الشدة كما كنت أخي في الرخاء فضحك ابن براق وعلم أنه قد كادهم وقال مهلا يا
ثابت أيستأسر من عنده هذا العدو ثم عدا فعدا أول طلق مثل الريح الهابة كما وصف لهم
والثاني كالفرس الجواد والثالث جعل يكبو ويعثر ويقع على وجهه فقال ثابت خذوه فعدوا
بأجمعهم فلما أن نفسهم عنه شيئا عدا تأبط شرا في كتافه وعارضه ابن براق فقطع كتافه
وأفلتا جميعا فقال تأبط شرا قصيدته القافية في ذلك ( يا
عِيدُ مالكَ من شَوْقٍ وإبْراقِ ... ومَرّ طيفٍ على الأهوال طرَّاقِ ) ( يسري
على الأَيْن والحيّات محتفِياً ... نفسي فداؤُك من سارٍ على ساقِ ) ( طيْف
ابنة الحُرِّ إذ كنّا نواصلُها ... ثم اجْتُنِبْتُ بها من بعد تَفْراقِ ) ( لتَقرعِنَّ
عليَّ السِّنَّ من نَدَمٍ ... إذا تذكَّرتِ يوماً بعضَ أخلاقِي ) ( تالله
آمنُ أنثى بعدما حَلَفَتْ ... أسماءُ بالله من عهدٍ وميثاقِ ) ( ممزوجَةَ
الودِّ بينا واصلَتْ صَرَمَتْ ... الأوَّلُ اللَّذْ مَضَى والآخِر الباقِي ) ( فالأوَّلُ
اللَّذْ مضى قال مودَّتَها ... واللَّذُّ منها هُذاءٌ غير إحقاقِ ) ( تُعْطِيكَ
وعدَ أَمانيٍّ تَغُرُّ به ... كالقَطْر مَرَّ على صَخْبَانَ بَرّاق ) ( إنّي
إذا حُلَّةٌ ضَنَّتَ بنائلها ... وأَمْسَكَت بضعيف الحَبْل أحْذَاقِ ) ( نجوْتُ
منها نجائي من بجيلةَ إذ ... ألقيْتُ للقوم يوم الرّوع أرواقي ) وذكرها
ابن أبي سعيد في الخبر إلى آخرها وأما المفضل الضبي فذكر أن تأبط شرا وعمرو بن
براق والشنفرى وغيره يجعل مكان الشنفرى السليك بن السلكة غزوا بجيلة فلم يظفروا
منهم بغرة وثاروا إليهم فأسروا عمرا وكتفوه وأفلتهم الآخران عدوا فلم يقدروا
عليهما فلما علما أن ابن براق قد أسر قال تأبط شرا لصاحبه امض فكن قريبا من عمرو
فإني سأتراءى لهم وأطمعهم في نفسي حتى يتباعدوا عنه فإذا فعلوا ذلك فحل كتافه وانجوا
ففعل ما أمره به وأقبل تأبط شرا حتى تراءى لبجيلة فلما رأوه طمعوا فيه فطلبوه وجعل
يطمعهم في نفسه ويعدو عدوا خفيفا يقرب فيه ويسألهم تخفيف الفدية وإعطاءه الأمان
حتى يستأسر لهم وهم يجيبونه إلى ذلك ويطلبونه وهو يحضر إحضارا خفيفا ولا يتباعد
حتى علا تلعة أشرف منها على صاحبيه فإذا هما قد نجوا ففطنت لهما بجيلة فألحقتهما طلبا
ففاتاهم فقال يا معشر بجيلة أأعجبكم عدو ابن براق اليوم والله لأعدون لكم عدوا
أنسيكم به عدوه ثم عدا عدوا شديدا ومضى وذلك قوله ( يا
عِيدُ مالكَ من شَوْقٍ وإبْراقِ ... ) وأما
الأصمعي فإنه ذكر فيما أخبرني به ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عمه أن
بجيلة أمهلتهم حتى وردوا الماء وشربوا وناموا ثم شدوا عليهم فأخذوا تأبط شرا فقال
لهم إن ابن براق دلاني في هذا وإنه لا يقدر على العدو لعقر في رجليه فإن تبعتموه
أخذتموه فكتفوا تأبط شرا ومضوا في أثر ابن براق فلما بعدوا عنه عدا في كتافه
ففاتهم ورجعوا أخبرني الحرمي بن ابي العلاء قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا
ابن الأثرم عن أبيه وحدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو قالا كان تأبط شرا يعدو على
رجليه وكان فاتكا شديدا فبات ليلة ذات ظلمة وبرق ورعد في قاع يقال له رحى بطان
فلقيته الغول فما زال يقاتلها ليلته إلى أن أصبح وهي تطلبه قال والغول سبع من سباع
الجن وجعل يراوغها وهي تطلبه وتلتمس غرة منه فلا تقدر عليه إلى أن أصبح فقال تأبط
شرا ( ألا مَنْ مُبلغٌ فِتيانَ فَهمٍ ...
بما لاقيتُ عند رَحَى بطانِ ) ( وبأنِّي
قد لقيتُ الغولَ تَهوي ... بسَهْبٍ كالصحيفة صَحصحانِ ) ( فقلت
لها كلانا نِضْو أَيْنِ ... أخو سَفَر فخَلَّي لي مكاني ) ( فشدَّت
شدَّةً نحوي فأَهْوَى ... لها كفّي بمصقولٍ يَماني ) ( فأَضربها
بلا دَهَشٍ فَخَرّت ... صريعاً لليدين وللجِرانِ ) ( فقالت
عُد فقلت لها رُوَيداً ... مكانَك إنني ثَبْتُ الجنانِ ) ( فلم
أنفكَّ مُتّكِئاً عليها ... لأنظرَ مُصبِحاً ماذا أتاني ) ( إذا
عينان في رأسٍ قبيحٍ ... كرأْس الهرِّ مشقوق اللِّسانِ ) ( وساقا
مُخْدِجٍ وشواةُ كلبٍ ... وثوبٌ من عَباءٍ أو شِنان ) غزا
بجيلة فقتل رجلا واستاق غنما قالوا وكان من حديثه أنه خرج غازيا يريد بجيلة هو
ورجل معه وهو يريد أن يغترهم فيصيب حاجته فأتى ناحية منهم فقتل رجلا ثم استاق غنما
كثيرة فنذروا به فتبعه بعضهم على خيل وبعضهم رجالة وهم كثير فلما رآهم وكان من
أبصر الناس عرف وجوههم فقال لصاحبه هؤلاء قوم قد عرفتهم ولن يفارقونا اليوم حتى
يقاتلونا أو يظفروا بحاجتهم فجعل صاحبه ينظر فيقول ما أتبين أحدا حتى إذ دهموهما
قال لصاحبه اشتد فإني سأمنعك ما دام في يدي سهم فاشتد الرجل ولقيهم تأبط شرا وجعل
يرميهم حتى نفدت نبله ثم إنه اشتد فمر بصاحبه فلم يطق شده فقتل صاحبه وهو ابن عم
لزوجته فلما رجع تأبط شرا وليس صاحبه معه عرفوا أنه قد قتل فقالت له امرأته تركت
صاحبك وجئت متباطئا فقال تأبط شرا في ذلك ( ألا
تِلكما عرسي منيعةُ ضُمِّنت ... من اللهِ إثماً مُستِسراًّ وعالِنا ) ( تقول
تركتَ صاحباً لك ضائعاً ... وجئت إلينا فارقاً مُتبَاطِنا ) ( إذا
ما تركتُ صاحبي لثلاثة ... أو اثْنَيْنِ مثْلَيْنا فلا أُبْتُ آمِنا ) ( وما
كنت أبّاء على الخِلّ إذ دعا ... ولا المرءِ يدعوني مُمِرّا مُداهِنا ) ( وكَرّي
إذا أُكْرِهتُ رهطاً وأَهلَه ... وأرضا يكون العَوْصُ فيها عُجاهِنَا ) ( ولمّا
سمعت العَوصَ تدعو تنفّرت ... عصافيرُ رأسي من غُواةٍ فَراتِنا ) ( ولم
أنتظر أن يَدهموني كأنهم ... ورائيَ نَحْل في الخليّة واكِنَا ) ( ولا
أن تُصِيب النّافذاتُ مقاتلي ... ولم أَكُ بالشدِّ الذِليق مُداينا ) ( فأرسلتُ
مثنيّاً عن الشدّ واهِناً ... وقلتُ تزحزحْ لا تكوننّ حَائِنا ) ( وحثحثتُ
مشعوفَ النَّجاء كأنه ... هِجفّ رأى قصراً سِمالاً وداجنا ) ( من
الحُصِّ هِزْروفٌ يطير عِفاؤه ... إذا استدرج الفَيْفا ومَدَّ المغابنا ) ( أزجُّ
زَلوجٌ هذرفيٌّ زفازفٌ ... هِزَفٌّ يبذُّ الناجياتِ الصوَّافِنا ) ( فزحزحت
عنهم أو تجِئْني مَنِيَّتي ... بغبراءَ أو عرفاءَ تَفْري الدَّفائنا ) ( كأنّي
أراها الموتَ لا درّ دَرُّها ... إذا أمكنَتْ أنيابَها والبراثنا ) ( وقالت
لأخرى خلفها وبناتها ... حتوف تُنَقِّي مخّ مَنْ كان واهنا ) ( أخاليجُ
ورَّادٍ على ذي محافل ... إذا نزعوا مدّوا الدِّلا والشّواطنا ) وقال
غيره بل خرج تأبط شرا هو وصاحبان له حتى أغاروا على العوص من بجيلة فأخذوا نعما
لهم واتبعتهم العوص فأدركوهم وقد كانوا استأجروا لهم رجالا كثيرة فلما رأى تأبط
شرا ألا طاقة لهم بهم شمر وتركهما فقتل صاحباه وأخذت النعم وأفلت حتى أتى بني
القين من فهم فبات عند امرأة منهم يتحدث إليها فلما أراد أن يأتي قومه دهنته
ورجلته فجاء إليهم وهم يبكون فقالت له امرأته لعنك الله تركت صاحبيك وجئت مدهنا
وإنه إنما قال هذه القصيدة في هذا الشأن وقال تأبط شرا يرثيهما وكان اسم أحدهما
عمرا ( أبعد قتيل العَوْص آسَى على فتىً
... وصاحِبه أو يأمُلُ الزّادَ طارقُ ) ( أأطْرُد
فَهماً آخر الليل أبتغِي ... عُلالة يوم أن تَعُوقَ العوائق ) ( لَعَمرُ
فتًى نِلتم كأنّ رداءه ... على سرحةٍ من سرح دومة سامق ) ( لأطرُد
نَهْباً أو نرودَ بفِتْيةٍ ... بأيمانهم سُمْر القَنا والعقائق ) ( مَساعَرةٌ
شُعْثٌ كأنّ عيونهم ... حريقُ الغضا تُلفَى عليها الشّقائق ) ( فعُدُّوا
شهورَ الحُرْمِ ثم تعرّفوا ... قتيل أناسٍ أو فتاةً تعانقُ ) محاولة
قتله هو وأصحابه بالسم قال الأثرم قال أبو عمرو في هذه الرواية وخرج تأبط شرا يريد
أن يغزو هذيلا في رهط فنزل على الأحل بن قنصل - رجل من بجيلة - وكان بينهما حلف
فأنزلهم ورحب بهم ثم إنه ابتغى لهم الذراريح ليسقيهم فيستريح منهم ففطن له تأبط
شرا فقام إلى أصحابه فقال إني أحب ألا يعلم أنا قد فطنا له ولكن سابوه حتى نحلف
ألا نأكل من طعامه ثم أغتره فأقتله لأنه إن علم حذرني - وقد كان مالأ ابن قنصل رجل
منهم يقال له لكيز قتلت فهم أخاه - فاعتل عليه وعلى أصحابه فسبوه وحلفوا ألا
يذوقوا من طعامه ولا من شرابه ثم خرج في وجهه وأخذ في بطن واد فيه النمور وهي لا
يكاد يسلم منها أحد والعرب تسمي النمر ذا اللونين وبعضهم يسميه السبنتي فنزل في
بطنه وقال لأصحابه انطلقوا جميعا فتصيدوا فهذا الوادي كثير الأروى فخرجوا وصادوا وتركوه
في بطن الوادي فجاءوا فوجدوه قد قتل نمرا وحده وغزا هديلا فغنم وأصاب فقال تأبط
شرا في ذلك ( أقسمتُ
لا أنسى وإن طال عيشُنا ... صنيع لُكيْزٍ والأَحلّ بن قنصل ) ( نزلنا
به يوماً فساء صَبَاحُنا ... فإنك عَمْرِي قد ترى أيْ منزل ) ( بَكَى
إذ رآنا نازلين ببابه ... وكَيف بُكاءُ ذي القليل المُعَيَّل ) ( فلا
وأبيك ما نَزَلنا بعامرٍ ... ولا عامر ولا الرئيس ابن قَوقل ) - عامر
بن مالك هو أبو براء ملاعب الأسنة وعامر بن الطفيل وابن قوقل مالك بن ثعلبة أحد
بني عوف بن الخزرج - ( ولا
بالشّليل ربّ مروان قاعداً ... بأحسن عَيْش والنُّفاثيّ نوفَلِ ) - رب
مروان جرير بن عبد الله البجلي ونوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن يعمر أحد بني
الديل بن بكر - ( ولا
ابن وَهيب كاسب الحمد والعُلاَ ... ولا ابن ضُبَيْعٍ وسط آل المُخبَّلِ ) ( ولا
ابنِ حُلَيْسٍ قاعداً في لِقاحِهِ ... ولا ابن جُرَيٍّ وسط آل المغفَّلِ ) ( ولا
ابنِ رياحٍ بالزُّليفات دارُه ... رِياح بن سعد لا رياح بن مَعْقل ) ( أولَئِك
أعطَى للوَلائد خِلْفَةً ... وأَدْعَى إلى شحم السَّديف المُرَعْبَلِ ) نجاته
من موت محتم وقال أيضا في هذه الرواية كان تأبط شرا يشتار عسلا في غار من بلاد
هذيل يأتيه كل عام وأن هذيلا ذكرته فرصدوه لإبان ذلك حتى إذا جاء هو وأصحابه تدلى
فدخل الغار وقد أغاروا عليهم فأنفروهم فسبقوهم ووقفوا على الغار فحركوا الحبل
فأطلع تأبط شرا رأسه فقالوا اصعد فقال ألا أراكم قالوا بلى قد رأيتنا فقال فعلام
أصعد أعلى الطلاقة أم الفداء قالوا لا شرط لك قال فأراكم قاتلي وآكلي جناي لا
والله لا أفعل قال وكان قبل ذلك نقب في الغار نقبا أعده للهرب فجعل يسيل العسل من
الغار ويهريقه ثم عمد إلى الزق فشده على صدره ثم لصق بالعسل فلم يبرح ينزلق عليه
حتى خرج سليما وفاتهم وبين موضعه الذي وقع فيه وبين القوم مسيرة ثلاث فقال تأبط
شرا في ذلك ( أقول
للحيانٍ وقد صَفِرت لهم ... وِطابي ويَوْمي ضَيّق الحَجْر مُعوِرُ ) ( هما
خُطَّتا إما إسارٌ ومِنَّةٌ ... وإما دَمٌ والقَتْلُ بالحُرِّ أجدَرُ ) ( وأُخرى
أصادِي النّفسَ عنها وإنها ... لمورِدٌ حَزْم إن ظَفِرت ومَصدَرُ ) ( فرْشتُ
لها صدري فزَلَّ عن الصَّفا ... به جؤجؤٌ صَلْبٌ ومتنُ مُخصَّرُ ) ( فخالطَ
سهلَ الأرض لم يكدح الصَّفا ... به كَدْحَةً والموتُ خَزيانُ يَنْظُرُ ) ( فأُبْتُ
إلى فَهمٍ وما كُنتُ آئباً ... وكم مثلها فارقتُها وهي تَصْفِر ) ( إذا
المرء لم يَحْتلْ وقد جَدّ جِدّه ... أضاع وقاسَى أمرَه وهو مُدبِرُ ) ( ولكن
أَخُو الحَزْم الذي ليس نازلاً ... به الأمرُ إلا وهُو للحزم مُبْصِرُ ) ( فذاك
قَريعُ الدَّهر ما كان حوَّلا ... إذا سُدّ منه مَنْخِرٌ جاش مَنْخرُ ) ( فإنّك
لو قَايَسْت باللِّصب حِيلَتي ... بلُقْمان لم يُقصِر بي الدهر مُقْصِرُ ) قتل
هو وأصحابه نفرا من العوص وقال أيضا في حديث تأبط شرا إنه خرج في عدة من فهم فيهم
عامر ابن الأخنس والشنفرى والمسيب وعمرو بن براق ومرة بن خليف حتى بيتوا العوص وهم
حي من بجيلة فقتلوا منهم نفرا وأخذوا لهم إبلا فساقوها حتى كانوا من بلادهم على
يوم وليلة فاعترضت لهم خثعم وفيهم ابن حاجز وهو رئيس القوم وهم يومئذ نحو من
أربعين رجلا فلما نظرت إليهم صعاليك فهم قالوا لعامر بن الأخنس ماذا ترى قال لا
أرى لكم إلا صدق الضراب فإن ظفرتم فذاك وإن قتلتم كنتم قد أخذتم ثأركم قال تأبط
شرا بأبي أنت وأمي فنعم رئيس القوم أنت إذا جد الجد وإذا كان قد أجمع رأيكم على
هذا فإني أرى لكم أن تحملوا على القوم حملة واحدة فإنكم قليل والقوم كثير ومتى
افترقتم كثركم القوم فحملوا عليهم فقتلوا منهم في حملتهم فحملوا ثانية فانهزمت
خثعم وتفرقت وأقبل ابن حاجز فأسند في الجبل فأعجز فقال تأبط شرا في ذلك ( جَزَى
الله فِتياناً على العوْص أمطرت ... سَماؤُهُم تحت العَجاجة بالدَّم ) ( وقد
لاح ضَوءُ الفجر عَرْضاً كأنه ... بلَمْحته إقراب أبْلَق أدْهَم ) ( فإنَّ
شِفَاءَ الداء إدراك ذَحْلةٍ ... صباحاً على آثار حوم عَرَمْرَمِ ) ( وضاربْتُهم
بالسفحِ إذ عارَضَتْهُمُ ... قبائلُ من أبناء قسرٍ وخثعم ) ( ضِراباً
عَدَا منه ابنُ حاجز هارباً ... ذُرا الصَّخر في جوف الوجين المُديَّم ) وقال
الشنفري في ذلك ( دَعِيني
وقُولي بَعدُ ما شئتِ إنّنِي ... سَيُغدَى بنَعْشِي مرةً فأُغيَّب ) ( خرجنَا
فلم نعهد وقَلَّت وصاتنا ... ثمانيةٌ ما بعدها مُتعَتَّب ) ( سراحينُ
فتيانٍ كأن وُجوهَهم ... مصابيحُ أو لونٌ من الماء مذهبُ ) ( نَمُرُّ
برَهْو الماء صَفْحاً وقد طَوَتْ ... ثمائِلُنا والزّادُ ظَنٌّ مُغَيَّبُ ) ( ثلاثاً
على الأَقدام حتى سما بنا ... على العَوْص شَعْشَاعٌ من القوم مِحْرَبُ ) ( فثاروا
إلينا في السواد فَهجْهَجُوا ... وصَوَّت فينا بالصَّباح المُثوَّب ) ( فشنَّ
عليهم هِزَّةَ السيف ثابِتٌ ... وصَمَّم فيهم بالحُسام المُسيِّبُ ) ( وظَلْتُ
بفتيانٍ معي أتّقيهمُ ... بهنّ قليلا ساعة ثم جنبوا ) ( وقد
خَرّ منهم راجلان وفارسٌ ... كميّ صرعناه وحَوْم مسلّب ) ( يَشُقُّ
إليه كلّ رَبْعٍ وقَلْعَةٍ ... ثمانيةٌ والقوم رَجْلٌ ومِقْنبُ ) ( فلما
رآنا قومنا قيل أفلَحُوا ... فقلنا اسألوا عن قائل لا يُكَذَّبُ ) وقال
تأبط شرا في ذلك ( أرى
قدمَيَّ وقَعهُما خَفيفٌ ... كتحليل الظَّليم حَدَا رِئالَه ) ( أرى
بهما عذاباً كلّ يومٍ ... بخَثْعَم أو بَجِيلَةَ أو ثُمالَه ) ففرق
تأبط شرا أصحابه ولم يزالوا يقاتلونهم حتى انهزمت خثعم وساق تأبط شرا وأصحابه
الإبل حتى قدم بها عليا مكة وقال غيره إنما سمي تأبط شرا ببيت قاله وهو ( تأبط
شرًّا ثم راح أو اغتدَى ... يُوائِم غُنْماً أو يَشِيفُ على ذَحْل ) شعره
عندما هرب من مراد إلى قومه قال وخرج تأبط شرا يوما يريد الغارة فلقي سرحا لمراد
فأطرده ونذرت به مراد فخرجوا في طلبه فسبقهم إلى قومه وقال في ذلك ( إذا
لاقيتَ يومَ الصّدق فارْبَع ... عليه ولا يَهمّك يومُ سَوِّ ) ( على
أنِّي بِسَرْح بني مرادٍ ... شجوتهُم سِباقاً أيَّ شجوِ ) ( وآخر
مثله لا عيبَ فيه ... بَصَرتُ به ليوم غيرِ زوِّ ) ( خَفَضتُ
بساحةٍ تجري علينا ... أباريق الكرامة يومَ لَهْوِ ) أغار
تأبط شرا وحده على خثعم فبينا هو يطوف إذ مر بغلام يتصيد الأرانب معه قوسه ونبله
فلما رآه تأبط شرا أهوى ليأخذه فرماه الغلام فأصاب يده اليسرى وضربه تأبط شرا
فقتله وقال في ذلك ( وكادت
وبيتِ الله أطناب ثابت ... تقوّضُ عن لَيْلَى وتبكي النَّوائح ) ( تمنّى
فتىً منّا يلاقي ولم يَكد ... غلامٌ نَمَتهُ المُحْصنات الصَّرائِح ) ( غلام
نَمى فوق الخماسيِّ قدره ... ودون الذي قد تَرْتَجِيه النَّواكِحُ ) ( فإن
تك نالته خطاطِيف كفّه ... بأبيض قصّال نمى وهو فادح ) ( فقد
شد في إحدى يديه كِنانه ... يُداوَى لها في أسود القلب قادح ) - هذه
الأبيات أن تكون لقوم المقتول أشبه منها بتأبط شرا - خبره
مع امرأة من هذيل قال وخطب تأبط شرا امرأة من هذيل من بني سهم فقال لها قائل لا
تنكحيه فإنه لأول نصل غدا يفقد فقال تأبط شرا ( وقالوا
لها لا تَنكَحِيه فإنّه ... لأول نَصْلٍ أن يُلاقى مَجْمَعا ) ( فلم
تَرَ مِنْ رأيٍ فتيلاً وحاذرت ... تأَيّمها من لابس الليلِ أَرْوَعا ) ( قليلِ
غِرارِ النّوم أكبرُ هَمّه ... دَمُ الثّأر أو يلقى كَمِيا مُقَنَّعا ) ( قليلِ
ادِّخارِ الزَّادِ إلاّ تَعِلَّة ... وقد نَشَزَ الشُّرسُوفُ والتصق المِعَى ) ( تُناضِله
كلٌ يشجّع نفسَه ... وما طبُّه في طرْقه أن يُشجَّعا ) ( يبيت
بمغنى الوحش حتى ألفْنه ... ويصبح لا يحمي لها الدهرَ مرتعا ) ( رأين
فتىً لا صَيْدُ وحش يَهمّه ... فَلَوْ صافحت إنْسا لصافَحْنَه معا ) ( ولكنّ
أربابَ المخاض يشقّهم ... إذا افتقدوه أو رأوه مُشيّعا ) ( وإني
- ولا عِلمٌ - لأَعلَمُ أنني ... سألقَى سِنانَ الموت يرشُق أضلعا ) ( على
غِرّةٍ أو جَهْرةٍ من مُكاثِرٍ ... أطال نِزالَ الموت حتى تَسَعْسَعا ) - تسعسع
فني وذهب يقال قد تسعسع الشهر ومنه حديث عمر رضي الله عنه حين ذكر شهر رمضان فقال
إن هذا الشهر قد تسعسع ( وكنتُ
أظن الموت في الحي أو أرى ... أَلَذّ وأُكرَى أو أَمُوتَ مُقَنَّعا ) ( ولست
أبيتُ الدَّهر إلا على فتى ... أسلِّبه أو أُذعِرُ السِّرْبَ أجمَعَا ) ( ومن
يَضربُ الأبطالَ لا بدّ أنه ... سيَلْقى بهم من مَصْرع الموت مَصْرعا ) قال
وخرج تأبط شرا ومعه صاحبان له عمرو بن كلاب أخو المسيب وسعد بن الأشرس وهم يريدون
الغارة على بجيلة فنذروا بهم وهم في جبل ليس لهم طريق عليهم فأحاطوا بهم وأخذوا
عليهم الطريق فقاتلوهم فقتل صاحبا تأبط شرا ونجا ولم يكد حتى أتى قومه فقالت له
امرأته وهي أخت عمرو بن كلاب إحدى نساء كعب بن علي بن إبراهيم بن رياح هربت عن أخي
وتركته وغررته أما والله لو كنت كريما لما أسلمته فقال تأبط شرا في ذلك ( ألا
تِلكما عِرْسي مَنيعة ضُمِّنَت ... من الله خِزْياً مُسْتسرّاً وعاهنا ) وذكر
باقي الأبيات وإنما دعا امرأته إلى أن عيرته أنه لما رجع بعد مقتل صاحبيه انطلق
إلى امرأة كان يتحدث عندها وهي من بني القين بن فهم فبات عندها فلما أصبح غدا إلى
امرأته وهو مدهن مترجل فلما رأته في تلك الحال علمت أين بات فغارت عليه فعيرته غارته
على خثعم وذكروا أن تأبط شرا أغار على خثعم فقال كاهن لهم أروني أثره حتى آخذه لكم
فلا يبرح حتى تأخذوه فكفئوا على أثره جفنة ثم أرسلوا إلى الكاهن فلما رأى أثره قال
هذا ما لا يجوز في صاحبه الأخذ فقال تأبط شرا ( ألا
أبلغ بني فَهْم بن عمرو ... على طولِ التَّنائي والمقَالَهْ ) ( مقَال
الكاهن الجامِيّ لمّا ... رأى أثري وقد أُنهِبتُ مالَهْ ) ( رأى
قدمَيّ وقعُهما حثيثٌ ... كتحليل الظليم دعا رئاله ) ( أرى
بهما عذاباً كلَّ عام ... لخثعمَ أو بجيلةَ أو ثُمالهْ ) ( وشرٌّ
كان صُبَّ على هذيلٍ ... إذا علقت حِبالهمُ حِبالَه ) ( ويَومُ
الأزد منهم شرّ يوم ... إذا بَعُدوا فقد صَدَّقتُ قاله ) فزعموا
أن ناسا من الأزد ربئوا لتأبط شرا ربيئة وقالوا هذا مضيق ليس له سبيل إليكم من
غيره فأقيموا فيه حتى يأتيكم فلما دنا من القوم توجس ثم انصرف ثم عاد فنهضوا في
أثره حين رأوه لا يجوز ومر قريبا فطمعوا فيه وفيهم رجل يقال له حاجز ليث من ليوثهم
سريع فأغروه به فلم يلحقه فقال تأبط شرا في ذلك ( تَتعتعتُ
حِضْنَيْ حاجزٍ وصحابِه ... وقد نبذوا خُلقانَهم وتشنَّعوا ) ( أَظن
وإن صادفتُ وعثاً وأَنْ جرَى ... بِيَ السّهلُ أو متنٌ من الأرض مَهْيَعُ ) ( أُجارِي
ظلالَ الطير لو فات واحدٌ ... ولو صدقوا قالوا له هو أسرع ) ( فلو
كان من فتيان قيسٍ وخِنْدفٍ ... أَطاف به القُنَّاصُ من حيث أُفزِعوا ) ( وجاب
بلاداً نصفَ يومٍ وليلةٍ ... لآبَ إليهم وهو أَشوسُ أرْوَع ) ( فلو
كان منكم واحدٌ لكُفِيتُه ... وما ارتجعوا لو كان في القوم مطمع ) فأجابه
حاجز ( فإن تك جاريْتَ الظلال فربما ...
سُبِقْتَ ويومُ القِرْن عُريان أسْنَعُ ) ( وخلَّيْتَ
إخوان الصفاء كأنهم ... ذبائحُ عَنزٍ أو فَحِيلٌ مُصرَّع ) ( تبكيِّهمُ
شجوَ الحمامة بعدما ... أرحْتَ ولَم تُرْفَع لهم منك إصْبَع ) ( فهذي
ثلاثٌ قد حويت نجاتَها ... وإن تنجُ أخرى فهي عندك أربع ) خير
أيامه أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال ذكر علي بن محمد المدائني عن
ابن داب قال سئل تأبط شرا أي يوم مر بك خير قال خرجت حتى كنت في بلاد بجيلة أضاءت
لي النار رجلا جالسا إلى امرأة فعمدت إلى سيفي فدفنته قريبا ثم أقبلت حتى استأنست
فنبحني الكلب فقال ما هذا فقلت بائس فقال ادنه فدنوت فإذا رجل جلحاب آدم وإذا أضوى
الناس إلى جانبه فشكوت إليه الجوع والحاجة فقال اكشف تلك القصعة فأتيت قصعة إلى
جنب إبله فإذا فيها تمر ولبن فأكلت منه حتى شبعت ثم خررت متناوما فوالله ما شئت أن
أضطجع حتى اضطجع هو ورفع رجله على رجله ثم اندفع يغني وهو يقول ( خَيرُ
اللَّيالي إن سألت بليلة ... ليل بخيْمة بين بِيشَ وعَثّرِ ) ( لِضَجيعِ
آنسةٍ كأَنَّ حَدِيثَها ... شَهدٌ يُشابُ بمزجةٍ من عَنْبر ) ( وضجيعِ
لاهيةٍ أُلاعِب مِثلَها ... بيضاءَ واضحةٍ كَظِيظ المِئْزَرِ ) ( ولأَنْت
مثلُهما وخَيرٌ منهما ... بعد الرُّقاد وقبل أَن لم تُسْحِري ) قال
ثم انحرف فنام ومالت فنامت فقلت ما رأيت كالليلة في الغرة فإذا عشر عشراوات بين أثلاث
فيها عبد واحد وأمة فوثبت فانتضيت سيفي على كبده حتى أخرجته من صلبه ثم ضربت فخذ
المرأة فجلست فلما رأته مقتولا جزعت فقلت لا تخافي أنا خير لك منه قال وقمت إلى جل
متاعها فرحلته على بعض الإبل أنا والأمة فما حللت عقده حتى نزلت بصعدة بني عوف بن
فهر وأعرست بالمرأة هناك وحين اضجعت فتحت عقيرتي وغنيت ( بحَليلة
البجليّ بِتْ من ليلِها ... بين الإِزار وكَشْحِها ثم الصَقِ ) ( بأَنِيسةٍ
طُويت على مَطْويّها ... طيَّ الحمالةِ أو كطيّ المِنْطَقِ ) ( فإذا
تقوم فصَعدةٌ في رَمْلَة ... لَبَدَت برِيّق دِيمة لم تُغدِق ) ( وإذا
تجيءُ تجيء شحب خلفها ... كالأَيْم أصْعَد في كَثِيبٍ يَرْتَقِي ) ( كَذَب
الكوَاهِنُ والسَّواحِرُ والهُنا ... أن لا وفاء لعاجِزٍ لا يَتَّقِي ) قال
فهذا خير يوم لقيته وشر يوم لقيت أني خرجت حتى إذا كنت في بلاد ثمالة أطوف حتى إذا
كنت من الفقير عشيا إذا بسبع خلفات فيهن عبد فأقبلت نحوه وكأني لا أريده وحذرني فجعل
يلوذ بناقة فيها حمراء فقلت في نفسي والله إنه ليثق بها فأفوق له ووضع رجله في
أرجلها وجعل يدور معها فإذا هو على عجزها وأرميه حين أشرف فوضعت سهمي في قلبه فخر
وندت الناقة شيئا وأتبعتها فرجعت فسقتهن شيئا ثم قلت والله لو ركبت الناقة وطردتهن
وأخذت بعثنون الحمراء فوثبت فساعة استويت عليها كرت نحو الحي تريع وتبعتها الخلفات
وجعلت أسكنها وذهبت فلما خشيت أن تطرحني في أيدي القوم رميت بنفسي عنها فانكسرت
رجلي وانطلقت والذود معها فخرجت أعرج حتى انخنست في طرف كثيب وجازني الطلب فمكثت
مكاني حتى أظلمت وشبت لي ثلاثة أنوار فإذا نار عظيمة ظننت أن لها أهلا كثيرا ونار
دونها ونويرة صغيرة فهويت للصغرى وأنا أجمر فلما نبحني الكلب نادى رجل فقال من هذا
فقلت بائس فقال ادنه فدنوت وجلست وجعل يسائلني إلى أن قال والله إني لأجد منك ريح
دم فقلت لا والله ما بي دم فوثب إلي فنفضني ثم نظر في جعبتي فإذا السهم فقلت رميت
العشية أرنبا فقال كذبت هذا ريح دم إنسان ثم وثب إلي ولا أدفع الشر عن نفسي
فأوثقني كتافا ثم علق جعبتي وقوسي وطرحني في كسر البيت ونام فلما أسحرت حركت رجلي
فإذا هي صالحة وانفتل الرباط فحللته ثم وثبت إلى قوسي وجعبتي فأخذتهما ثم هممت
بقتله فقلت أنا ضمن الرجل وأنا أخشى أن أطلب فأدرك ولم أقتل أحدا أحب إلي فوليت
ومضيت فوالله إني لفي الصحراء أحدث نفسي إذا أنا به على ناقة يتبعني فلما رأيته قد
دنا مني جلست على قوسي وجعبتي وأمنته وأقبل فأناخ راحلته ثم عقلها ثم أقبل إلي
وعهده بي عهده فقلت له ويلك ما تريد مني فأقبل يشتمني حتى إذا أمكنني وثبت عليه
فما ألبثته أن ضربت به الأرض وبركت عليه أربطه فجعل يصيح يا لثمالة لم أر كاليوم
فجنبته إلى ناقته وركبتها فما نزعت حتى أحللته في الحي وقلت ( أغرّكَ
منّي يابنَ فَعْلة عِلَّتي ... عَشِيَّةَ أَن رابت عليَّ روائِبِي ) ( ومَوقد
نيران ثَلاثٍ فشَرُّهَا ... وألأَمُها إذ قُدْتُها غير عازِبِ ) ( سلبتَ
سِلاحِي بَائِساً وشَتَمْتَنِي ... فيا خَيْر مَسْلُوبٍ ويا شَرَّ سَالِبِ ) ( فإن
أَكُ لم أخْضِبك فيها فإنَّها ... نُيوبُ أساوِيد وشَوْل عَقارِب ) ( ويا
رَكْبة الحَمْراء شَرَّة رَكْبةٍ ... وكادَتْ تكون شَرّ ركبةِ راكبِ ) غارته
على الأزد قال وخرج تأبط غازيا يريد الغارة على الأزد في بعض ما كان يغير عليهم
وحده فنذرت به الأزد فأهملوا له إبلا وأمروا ثلاثة من ذوي بأسهم حاجزين أبي وسواد
بن عمرو بن مالك وعوف بن عبد الله أن يتبعوه حتى ينام فيأخذوه أخذا فكمنوا له
مكمنا وأقبل تأبط شرا فبصر بالإبل فطردها بعض يومه ثم تركها ونهض في شعب لينظر هل
يطلبه أحد فكمن القوم حين رأوه ولم يرهم فلما لم ير أحدا في أثره عاود الإبل فشلها
يومه وليلته والغد حتى أمسى ثم عقلها وصنع طعاما فأكله والقوم ينظرون إليه في ظله
ثم هيأ مضطجعا على النار ثم أخمدها وزحف على بطنه ومعه قوسه حتى دخل بين الإبل
وخشي أن يكون رآه أحد وهو لا يعلم ويأبى إلا الحذر والأخذ بالحزم فمكث ساعة وقد
هيأ سهما على كبد قوسه فلما أحسوا نومه أقبلوا ثلاثتهم يؤمون المهاد الذي رأوه
هيأه فإذا هو يرمي أحدهم فيقتله وجال الآخران ورمى آخر فقتله وأفلت حاجز هاربا وأخذ
سلب الرجلين وأطلق عقل الإبل وشلها حتى جاء بها قومه وقال تأبط في ذلك ( تُرَجَّى
نِساءُ الأَزْدِ طلعةَ ثابِتٍ ... أسِيراً ولم يَدْرِينَ كيف حَوِيلي )
( فإنّ الأُلي أَوْصَيْتُم بَيْن
هارِبٍ ... طَرِيدٍ ومَسْفُوح الدِّماءِ قَتِيلِ ) ( وخدتُ
بهم حتى إذا طال وَخْدُهم ... ورابَ عليهم مَضْجَعِي وَمَقِيلِي ) ( مَهدتُ
لهم حتى إذا طاب رَوعُهم ... الى المَهْد خَاتلْت الضِّيا بِخَتِيل ) ( فلما
أحسُّوا النَّوم جاؤوا كأنَّهم ... سِباعٌ أَصابت هجمةٌ بِسَلِيلِ ) ( فَقلّدتُ
سَوَّارَ بنَ عَمْرو بنِ مَالِكٍ ... بأَسْمَر جَسْر القُذَّتَين طَمِيل ) ( فخَرَّ
كأَنَّ الفِيَل ألقى جِرانَه ... عليه بريّان القِواء أسيلِ ) ( وظل
رعاع المَتْن من وقع حاجِزٍ ... يخرُّ ولو نَهْنَهْتَ غَيْر قَلِيل ) ( لأبتَ
كما آبا ولو كُنتَ قَارِناً ... لجئتَ وما مالكتَ طول ذَمِيلِي ) ( فَسرَّكَ
نَدْمانَاك لمَّا تَتَابَعا ... وأنَّك لم تَرْجِع بعَوْص قَتِيلِ ) ( سَتأْتِي
إلى فَهْمٍ غَنِيمَةُ خلْسَة ... وفي الأزد نَوْحٌ وَيْلةٍ بِعَوِيلِ ) فقال
حاجز بن أبي الأزدي يجيبه ( سألت
فلم تُكلِّمني الرُّسوم ... ) وهي
في أشعار الأزد فأجابه تأبط شرا ( لقد
قال الخِليُّ وقال خَلْساً ... بظهر الليل شُدَّ به العُكومُ ) ( لِطَيفٍ
من ُسعادَ عَناك منها ... مُراعاةُ النُّجوم ومَنْ يَهِيمُ ) ( وتلك
لئن عُنِيتَ بها رَداحٌ ... من النّسوان مَنْطِقُها رَخِيمُ ) ( نِياقُ
القُرطِ غَرَّاءُ الثَّنايَا ... ورَيْداءُ الشَّباب ونِعْم خِيم ) ( ولكن
فاتَ صاحبُ بَطْن رَهْوٍ ... وصاحبه فأنتَ به زَعِيمُ ) ( أُؤاخِذُ
خُطَّة فيها سواء ... أَبِيتُ وَلَيلُ واترها نَؤُومُ ) ( ثأرتُ
به وما اقْتَرفَتْ يَدَاه ... فَظلَّ لها بنا يومٌ غَشُومُ ) ( نَحزُّ
رِقابَهم حتى نَزَعْنا ... وأنفُ المَوْتِ مَنْخِرُه رَمِيمُ ) ( وإن
تقع النّسورُ عليَّ يوْماً ... فلَحْم المْنِفي لَحْم كَريمُ ) ( وَذِي
رَحمٍ أحالَ الدَّهْر عنه ... فلَيْس له لذي رَحِمٍ حَرِيمُ ) ( أصاب
الدَّهْرُ آمنَ مَرْوَتَيْه ... فألقاه المصاحِب والحَمِيمُ ) ( مَددتُ
له يَميناً من جَناحي ... لها وَفرٌ وكافَيةٌ رَحُومُ ) ( أُواسيه
على الأَيَّام إني ... إذا قَعَدت به اللُّؤما أَلومُ ) رثاؤه
لأخيه عمرو ذكروا أنه لما انصرف الناس عن المستغل وهي سوق كانت العرب تجتمع بها
قال عمرو بن جابر بن سفيان أخو تأبط شرا لمن حضر من قومه لا واللات والعزى لا أرجع
حتى أغير على بني عتير من هذيل ومعه رجلان من قومه هو ثالثهما فأطردوا إبلا لبني
عتير فأتبعهم أرباب الإبل فقال عمرو أنا كار على القوم ومنهنهم عنكما فامضيا
بالإبل فكر عليهم فنهنهم طويلا فجرح في القوم رئيسا ورماه رجل من بني عتير بسهم
فقتله فقالت بنو عتير هذا عمرو بن جابر ما تصنعون أن تلحقوا بأصحابه أبعدها الله
من إبل فإنا نخشى أن نلحقهم فيقتل القوم منا فيكونوا قد أخذوا الثأر فرجعوا ولم
يجاوزوه وكانوا يظنون أن معه أناسا كثيرا فقال تأبط لما بلغه قتل أخيه ( وحرّمتُ
النساءَ وإن أُحِلَّت ... بشَور أو بمزج أو لِصابِ ) ( حياتي
أو أزور بني عُتَير ... وكاهلها بجَمْع ذي ضباب ) ( إذا
وَقَعت لكَعْب أو خثيمٍ ... وسيار يَسُوغ لها شَرابِي ) ( أَظُنّي
مَيِّتاً كَمِداً ولَمَّا ... أُطالِعْ طلعةً أهلَ الكِراب ) ( ودُمْتُ
مُسَيَّراً أهدِي رعيلا ... أؤم سوادَ طَوْدٍ ذِي نِقاب ) فأجابه
أنس بن حذيفة الهذلي ( لعلّك
أن تَجِيء بك المَنايَا ... تُساق لِفِتْية منا غضابِ ) ( فتنزلَ
في مَكَرِّهُم صريعاً ... وتنزلَ طُرْقةَ الضَّبعُ السّغابِ ) ( تأبَّطَ
سَوْأَةً وحملتَ شَرّاً ... لعلك أن تكون من المُصاب ) ثم
إن السمع بن جابر أخا تأبط شرا خرج في صعاليك من قومه يريد الغارة على بني عتير
ليثأر بأخيه عمرو بن جابر حتى إذا كان ببلاد هذيل لقي راعيا لهم فسأله عنهم فأخبره
بأهل بيت من عتير كثير مالهم فبيتهم فلم يفلت منهم مخبر واستاقوا أموالهم فقال في
ذلك السمع بن جابر ( بأعلى
ذي جماجم اهلُ دارٍ ... إذا ظَعنَت عشيرتُهم أقاموا ) ( طرقْتُهمُ
بفتيانٍ كِرامٍ ... مَساعِيرٍ إذا حَمِي المُقامُ ) ( متى
ما أدعُ من فَهْم تُجِبْني ... وعدوان الحماة لهم نظامُ ) أصابته
في غارته على الأزد ذكروا أن تأبط شرا خرج ومعه مرة بن خليف يريدان الغارة على
الأزد وقد جعلا الهداية بينهما فلما كانت هداية مرة نعس فجار عن الطريق ومضيا حتى
وقعا بين جبال ليس فيها جبل متقارب وإذا فيها مياه يصيح الطير عليها وإذا البيض
والفراخ بظهور الأكم فقال تأبط شرا هلكنا واللات يا مرة ما وطيء هذا المكان إنس
قبلنا ولو وطئته إنس ما باضت الطير بالأرض فاختر أية هاتين القنتين شئت وهما أطول
شيء يريان من الجبال فأصعد إحداهما وتصعد أنت الأخرى فإن رأيت الحياة فألح بالثوب
وإن رأيت الموت فألح بالسيف فإني فاعل مثل ذلك فأقاما يومين ثم إن تأبط شرا ألاح
بالثوب وانحدرا حتى التقيا في سفح الجبل فقال مرة ما رأيت يا ثابت قال دخانا أو
جرادا قال مرة إنك إن جزعت منه هلكنا فقال تأبط شرا أما أنا فإني سأخرم بك من حيث
تهتدي الريح فمكثا بذلك يومين وليلتين ثم تبعا الصوت فقال تأبط شرا النعم والناس أما
والله لئن عرفنا لنقتلن ولئن أغرنا لندركن فأت الحي من طرف وأنا من الآخر ثم كن
ضيفا ثلاثا فإن لم يرجع إليك قلبك فلا رجع ثم أغر على ما قبلك إذا تدلت الشمس
فكانت قدر قامة وموعدك الطريق ففعلاحتى إذا كان اليوم الثالث أغار كل واحد منهما
على ما يليه فاستاقا النعم والنغم وطردا يوما وليلة طردا عنيفا حتى أمسيا الليلة
الثانية دخلا شعبا فنحرا قلوصا فبينا هما يشويان إذ سمعا حسا على باب الشعب فقال
تأبط الطلب يا مرة إن ثبت فلم يدخل فقال مرة هلكنا ووضع تأبط شرا يده على عضد مرة
فإذا هي ترعد فهم مجيزون وإن دخل فهو الطلب فلم يلبث أن سمع الحسن يدخل فقال ما
أرعدت عضدك إلا من قبل أمك الوابشية من هذيل خذ بظهري فإن نجوت نجوت وإن قتلت
وقيتك فلما دنا القوم أخذ مرة بظهر تأبط وحمل تأبط فقتل رجلا ورموه بسهم فأعلقوه فيه
وأفلتا جميعا بأنفسهما فلما أمنا وكان من آخر الليل قال مرة ما رأيت كاليوم غنيمة
أخذت على حين أشرفنا على أهلنا وعض مرة عضده وكان الحي الذين أغاروا عليهم بجيلة
وأتى تأبط امرأته فلما رأت جراحته ولولت فقال تأبط في ذلك ( وبالشِّعب
إذ سدّت بجِيلةُ فَجَّةُ ... ومِن خَلفه هَضبٌ صغار وجامل ) ( شدَدْتُ
لنفس المرء مُرَّةَ حَزْمَه ... وقد نُصِبت دون النَّجاء الحبائل ) ( وقلت
له كن خلفَ ظهري فإنني ... سأفديك وأنظر بعدُ ما أنتَ فاعِل ) ( فعاذَ
بحدّ السيف صاحبُ أمرهم ... وَخَلَّوْا عن الشيء الذي لم يحاولوا ) ( وأخطأهم
قَتلِي ورفَّعتُ صاحبي ... على الليل لم تُؤخذ عليه المخاتلُ ) ( وأخطأ
غُنْم الحَيّ مُرَّة بعدما ... حوته إليه كفُّه والأناملُ ) ( يعض
على أطرافه كيف زَوْلُه ... ودون الملا سهلٌ من الأرض ماثل ) ( فقلت
له هذي بتلك وقد يَرَى ... لها ثَمَناً من نفسه ما يُزاول ) ( تُوَلْوِل
سُعدى أن أتيتُ مُجرَّحاً ... إليها وقد مَنَّت عليّ المَقاتلُ ) ( وكائِنْ
أتاها هارِباً قبل هذه ... ومن غَانمٍ فأين مِنْكِ الوَلاوِل ) أراد
هو وأصحابه الأخذ بثأر صاحبيهم فلما انقضت الأشهر الحرم خرج تأبط والمسيب بن كلاب
في ستة نفر يريدون الغارة على بجيلة والأخذ بثأر صاحبيهم عمرو بن كلاب وسعد بن الأشرس
فخرج تأبط والمسيب بن كلاب وعامر بن الأخنس وعمرو بن براق ومرة ابن خليف والشنفرى
بن مالك والسمع وكعب حدار ابنا جابر أخوا تأبط فمضوا حتى أغاروا على العوص فقتلوا
منهم ثلاثة نفر فارسين وراجلا وأطردوا لهم إبلا وأخذوا منهم امرأتين فمضوا بما
غنموا حتى إذا كانوا على يوم وليلة من قومهم عرضت لهم خثعم في نحو من أربعين رجلا
فيهم أبي بن جابر الخثعمي وهو رئيس القوم فقال تابط يا قوم لا تسلموا لهم ما في
أيديكم حتى تبلوا عذرا وقال عامر بن الأخنس عليكم بصدق الضراب وقد أدركتم بثأركم
وقال المسيب اصدقوا القوم الحملة وإياكم والفشل وقال عمرو بن براق ابذلوا مهجكم ساعة
فإن النصر عند الصبر وقال الشنفرى ( نحن
الصَّعالِيكُ الحُماةُ البُزَّلُ ... إذا لَقِينا لا نُرَى نُهَلّلُ ) وقال
مرة بن خليف ( يا
ثابتَ الخَيْر ويابنَ الأخنسِ ... ويابنَ بَرّاق الكَريمِ الأشْوس ) ( والشّنفَرى
عند حُيودِ الأنفسِ ... أنا ابن حَامِي السِّربِ في المغمِّس ) ( نحن
مساعِيرُ الحُروبِ الضُّرَّس ... ) وقال
كعب حدار أخو تأبط ( يا
قوم أَمَّا إذا لَقِيتم فاصْبِرُوا ... ولا تَخِيمُوا جزَعاً فتُدْبِروا ) وقال
السمع أخو تأبط ( يا
قوم كونوا عندها أَحْرار ... لا تُسلِموا العُونَ ولا البِكارا ) ( ولا
القَنَاعيسَ ولا العِشَارا ... لخَثْعمٍ وقد دَعَوْا غِرَارَا ) ( ساقوهُم
المَوْت معاً أحرارا ... وافتخِرُوا الدَّهْر بها افْتِخارا ) فلما
سمع تأبط مقالتهم قال بأبي أنتم وأمي نعم الحماة إذا جد الجد أما إذا أجمع رأيكم
على قتال القوم فاحملوا ولا تتفرقوا فإن القوم أكثر منكم فحملوا عليهم فقتلوا منهم
ثم كروا الثانية فقتلوا ثم كروا الثالثة فقتلوا فانهزمت خثعم وتفرقت في رؤوس
الجبال ومضى تأبط وأصحابه بما غنموا وأسلاب من قتلوا فقال تأبط في ذلك ( جَزَى
اللهُ فِتْياناً على العَوْصِ أشرقت ... سيوفهم تحت العَجاجَة بالدَّمِ ) الأبيات
وقال الشنفري في ذلك ( دَعِيني
وقُولي بعد ما شئتِ إنني ... سيُفدى بنَفْسي مَرَّةً فأُغيَّبُ ) الأبيات
وقال الشنفرى أيضا ( ألا
هل أَتَى عَنَّا سُعادَ ودُونَها ... مهامِهُ بِيدٍ تعْتَلي بالصعالِكِ ) ( بأَنَّا
صَبَحْنا القوم في حُرّ دارِهِم ... حِمامَ المنايا بالسُّيوف البَواتِك ) ( قَتَلْنا
بعمرو منهمُ خيْرَ فارس ... يزيدَ وسعدا وابنَ عوفٍ بمالك ) ( ظَلَلْنا
نُفَرِّي بالسّيوف رُؤُوسَهم ... ونَرشُقهم بالنَّبْل بين الدَّكَادِك )
كان ضعيفا أمام النساء قال وخرج
تأبط في سرية من قومه فيهم عمرو بن براق ومرة بن خليف والمسيب بن كلاب وعامر بن
الأخنس وهو رأس القوم وكعب حدار وريش كعب والسمع وشريس بنو جابر إخوة تأبط شرا
وسعد ومالك ابنا الأقرع حتى مروا ببني نفاثة بن الديل وهم يريدون الغارة عليهم
فباتوا في جبل مطل عليهم فلما كان في وجه السحر أخذ عامر بن الأخنس قوسه فوجد
وترها مسترخيا فجعل يوترها ويقول له تأبط بعض حطيط وترك يا عامر وسمعه شيخ من بني
نفاثة فقال لبنات له أنصتن فهذه والله غارة لبني ليث - وكان الذي بينهم يومئذ متفاقما
في قتل حميصة بن قيس أخي بلعاء وكانوا أصابوه خطأ - وكان بنو نفاثة في غزوة والحي
خلوف وليس عندهم غير أشياخ وغلمان لا طباخ بهم فقالت امرأة منهم اجهروا الكلام
والبسوا السلاح فإن لنا عدة فواللات ما هم إلا تأبط وأصحابه فبرزن مع نوفل وأصحابه
فلما بصر بهم قال انصرفوا فإن القوم قد نذروا بكم فأبوا عليه إلا الغارة فسل تأبط
سيفه وقال لئن أغرتم عليهم لاتكئن على سيفي حتى أنفذه من ظهري فانصرفوا ولا يحسبون
إلا أن النساء رجال حتى مروا بإبل البلعاء بن قيس بقرب المنازل فأطردوها فلحقهم
غلام من بني جندع بن ليث فقال يا عامر بن الأخنس أتهاب نساء بني نفاثة وتغير على
رجال بني ليث هذه والله إبل لبلعاء بن قيس فقال له عامر أو كان رجالهم خلوفا قال نعم
قال أقرىء بلعاء مني السلام وأخبره بردي إبله وأعلمه أني قد حبست منها بكرا
لأصحابي فإنا قد أرملنا فقال الغلام لئن حبست منها هلبة لأعلمنه ولا أطرد منها بعيرا
أبدا فحمل عليه تأبط فقتله ومضوا بالإبل إلى قومهم فقال في ذلك تأبط ( ألا
عَجِب الفِتْيانُ من أمّ مالك ... تقول أراك اليوم أشعَثَ أغبرا ) ( تَبوعاً
لآثار السَّرِيَّة بعد ما ... رأيتُك بَرَّاق المَفارق أَيْسرا ) ( فقلتُ
له يَوْمان يَومُ إقامة ... أهزّ به غُصْناً من البانِ أخضَرا ) ( ويومٌ
أهزّ السَّيفَ في جيد أغيد ... له نِسوةٌ لم تلق مثلي أنكرا ) ( يخفن
عليه وهو ينزِع نفسَه ... لقد كنت أبّاء الظلامة قَسْورا ) ( وقد
صِحْت في آثار حَوْم كأنها ... عَذارَى عُقيل أو بَكارةُ حِمْيرا ) ( أبعد
النّفاثيّين آمل طرقةً ... وآسَى على شيء إذا هو أَدْبَرا ) ( أكفكِف
عنهم صُحْبَتِي وإخالهم ... من الذلّ يَعْراً بالتّلاعة أَعْفَرا ) ( فلو
نالت الكَفَّان أصحابَ نوفلٍ ... بمهمهةٍ من بطن ظَرْء فعَرْعَرَا ) ( ولمّا
أَبَى الليثيُّ إلا تَهَكُّما ... بِعرضي وكان العِرضُ عِرضي أوفرا ) ( فقلت
له حقَّ الثناءُ فإنّني ... سأذهب حتى لم أجد متأخًّرَا ) ( ولما
رأيتُ الجَهْلَ زادَ لَجاجةً ... يقول فلا يأْلوك أَن تَتَشَوَّرَا ) ( دنوت
له حتى كَأنَّ قَميصَه ... تَشرَّب من نضح الأَخادِع عُصْفُرا ) ( فمن
مُبلغٌ ليثَ بنَ بكرٍ بأنَّنا ... تركنا أخاهم يوم قِرْنٍ مُعَفَّرا ) قال
غزا تأبط بني نفاثة بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهم خلوف ليس في دارهم
رجل وكان الخبر قد أتى تأبط فأشرف فوق جبل ينظر إلى الحي وهم أسفل منه فرأته امرأة
فطرح نفسه فعلمت المرأة أنه تأبط وكانت عاقلة فأمرت النساء فلبسن لبسة الرجال ثم
خرجن كأنهن يطلبن الضالة وكان أصحابه يتفلتون ويقولون اغز وإنما كان في سرية من
بين الستة إلى السبعة فأبى أن يدعهم وخرج يريد هذيلا وانصرف عن النفاثيين فبينا هو
يتردد في تلك الجبال إذ لقي حليفا له من هذيل فقال له العجب لك يا تأبط قال وما هو
قال إن رجال بني نفاثة كانوا خلوفا فمكرت بك امرأة وأنهم قد رجعوا ففي ذلك يقول ( ألا
عَجِب الفِتْيانُ من أمّ مالك ... تقول لقد أصبحت أشعَثَ أغبرا ) وذكر
باقي الأبيات المتقدمة وقال غيره لا بل قال هذه القصيدة في عامر بن الأخنس الفهمي
وكان من حديث عامر بن الأخنس أنه غزا في نفر بضعة وعشرين رجلا فيهم عامر بن الأخنس
وكان سيدا فيهم وكان إذا خرج في غزو رأسهم وكان يقال له سيد الصعاليك فخرج بهم حتى
باتوا على بني نفاثة بن عدي بن الديل ممسين ينتظرون أن ينام الحي حتى إذا كان في
سواد الليل مر بهم راع من الحي قد أغدر فمعه غديرته يسوقها فبصر بهم وبمكانهم فخلى
الغديرة وتبع الضراء ضراء الوادي حتى جاء الحي فأخبرهم بمكان القوم وحيث رآهم
فقاموا فاختاروا فتيان الحي فسلحوهم وأقبلوا نحوهم حتى إذا دنوا منهم قال رجل من
النفاثيين والله ما قوسي بموترة فقالوا فأوتر قوسك فوضع قوسه فأوترها فقال تأبط
لأصحابه اسكتوا واستمع فقال أتيتم والله قالوا وما ذلك قال أنا والله أسمع حطيط
وتر قوس قالوا والله ما نسمع شيئا قال بلى والله إني لأسمعه يا قوم النجاء قالوا
لا والله ما سمعت شيئا فوثب فانطلق وتركهم ووثب معه نفر وبيتهم بنو نفاثة فلم يفلت
منهم إنسان وخرج هو وأصحابه الذين انطلقوا معه وقتل تلك الليلة عامر بن الأخنس قال
ابن عمير وسألت أهل الحجاز عن عامر بن الأخنس فزعموا أنه مات على فراشه فلما رجع
تأبط قالت له امرأته تركت أصحابك فقال حينئذ ( ألا
عَجِب الفِتْيانُ من أُمّ مالك ... تقول لقد أصبحْتَ أشعَثَ أغْبَرا ) مصرعه
على يد غلام فلما رجع تأبط وبلغه ما لقي أصحابه قال والله ما يمس رأسي غسل ولا دهن
حتى أثأر بهم فخرج في نفر من قومه حتى عرض لهم بيت من هذيل بين صوى جبل فقال
اغنموا هذا البيت أولا قالوا لا والله ما لنا فيه أرب ولئن كانت فيه غنيمة ما
نستطيع أن نسوقها فقال إني أتفاءل أن أنزل ووقف وأتت به ضبع من يساره فكرهها وعاف
على غير الذي رأى فقال أبشري أشبعك من القوم غدا فقال له أصحابه ويحك انطلق فوالله
ما نرى أن نقيم عليها قال لا والله لا أريم حتى أصبح وأتت به ضبع عن يساره فقال
أشبعك من القوم غدا فقال أحد القوم والله إني أرى هاتين غدا بك فقال لا والله لا
أريم حتى أصبح فبات حتى إذا كان في وجه الصبح وقد رأى أهل البيت وعدهم على النار
وأبصر سواد غلام من القوم دون المحتلم وغدوا على القوم فقتلوا شيخا وعجوزا وحازوا
جاريتين وإبلا ثم قال تأبط إني قد رأيت معهم غلاما فأين الغلام الذي كان معهم
فأبصر أثره فاتبعه فقال له أصحابه ويلك دعه فإنك لا تريد منه شيئا فاتبعه واستتر
الغلام بقتادة إلى جنب صخرة وأقبل تأبط يقصه وفوق الغلام سهما حين رأى أنه لا ينجيه
شيء وأمهله حتى إذا دنا منه قفز قفزة فوثب على الصخرة وأرسل السهم فلم يسمع تأبط
إلى الحبضة فرفع رأسه فانتظم السهم قلبه وأقبل نحوه وهو يقول لا بأس فقال الغلام
لا بأس والله لقد وضعته حيث تكره وغشيه تأبط بالسيف وجعل الغلام يلوذ بالقتادة
ويضربها تأبط بحشاشته فيأخذ ما أصابت الضربة منها حتى خلص إليه فقتله ثم نزل إلى
أصحابه يجر رجله فلما رأوه وثبوا ولم يدروا ما أصابه فقالوا مالك فلم ينطق ومات في
أيديهم فانطلقوا وتركوه فجعل لا يأكل منه سبع ولا طائر إلا مات فاحتملته هذيل
فألقته في غار يقال له غار رخمان فقالت ريطة أخته وهي يومئذ متزوجة في بني الديل ( نِعْم
الفَتَى غادَرْتُم برُخمانْ ... ثابتٌ بنُ جابرِ بنِ سُفْيانْ ) وقال
مرة بن خليف يرثيه ( إن
العَزِيمةَ والعَزَّاءَ قد ثَوَيا ... أكفانَ ميت غدا في غار رُخْمانِ ) ( إلاّ
يَكُن كُرسفٌ كُفِّنتَ جَيّدَه ... ولا يكن كَفَنٌ من ثَوْبِ كَتَّانِ ) ( فإن
حُرًّا من الأَنْسابِ ألبسه ... ريش الندى والندى من خير أَكفان ) ( وليلةٍ
رأسُ أفعاها إلى حجرٍ ... ويوم أورِ من الجوزاءِ رنَّانِ ) ( أمضيتَ
أولَ رهطٍ عند آخره ... في إثر عاديةٍ أو إثر فتيانِ ) وقالت
أم تأبط ترثيه ( وابناهُ
وابنَ اللَّيْل ... ) قال
أبو عمرو الشيباني لا بل كان من شأن تأبط وهو ثابت بن جابر بن سفيان وكان جريئا
شاعرا فاتكا أنه خرج من أهله بغارة من قومه يريدون بني صاهلة بن كاهل بن الحارث بن
سعيد بن هذيل وذلك في عقب شهر حرام مما كان يحرم أهل الجاهلية حتى هبط صدر أدم
وخفض عن جماعة بني صاهلة فاستقبل التلاعة فوجد بها دارا من بني نفاثة بن عدي ليس
فيها إلا النساء غير رجل واحد فبصر الرجل بتأبط وخشيه وذلك في الضحى فقام الرجل
إلى النساء فأمرهن فجعلن رؤوسهن جمما وجعلن دروعهن أردية وأخذن من بيوتهن عمدا
كهيئة السيوف فجعلن لها حمائل ثم تأبطنها ثم نهض ونهضن معه يغريهن كما يغري القوم
وأمرهن أن لا يبرزن خدا وجعل هو يبرز للقوم ليروه وطفق يغري ويصيح على القوم حتى
أفزع تأبط شرا وأصحابه وهو على ذلك يغري في بقية ليلة أو ليلتين من الشهر الحرام
فنهضوا في شعب يقال له شعب وشل وتأبط ينهض في الشعب مع أصحابه ثم يقف في آخرهم ثم يقول
يا قوم لكأنما يطردكم النساء فيصيح عليه أصحابه فيقولون انج أدركك القوم وتأبى
نفسه فلم يزل به أصحابه حتى مضى معهم فقال تأبط في ذلك ( أبعد
النّفاثيين أزجر طائرا ... وآسَى على شيء إذا هو أدبرا ) ( أُنهنهِ
رِجلِي عنهم وإخالهم ... من الذُّلِّ يعراً بالتَّلاعة أعفرا ) ( ولو
نالت الكَفَّان أصحابَ نوفل ... بمَهْمَهَة من بين ظَرْء وعرعرا ) قال
ثم طلعوا الصدر حين أصبحوا فوجدوا أهل بيت شاذ من بني قريم ذنب نمار فظل يراقبهم
حتى أمسوا وذلك البيت لساعدة بن سفيان أحد بني حارثة بن قريم فحصرهم تأبط وأصحابه
حتى أمسوا قال وقد كانت قالت وليدة لساعدة إني قد رأيت اليوم القوم أو النفر بهذا
الجبل فبات الشيخ حذرا قائما بسيفه بساحة أهله وانتظر تأبط وأصحابه أن يغفل الشيخ
وذلك آخر ليلة من الشهر الحرام فلما خشوا أن يفضحهم الصبح ولم يقدروا على غرة مشوا
إليه وغروه ببقية الشهر الحرام وأعطوه من مواثيقهم ما أقنعه وشكوا إليه الجوع فلما
اطمأن إليهم وثبوا عليه فقتلوه وابنا له صغيرا حين مشى قال ومضى تأبط شرا إلى ابن
له ذي ذؤابة كان أبوه قد أمره فارتبأ من وراء ماله يقال له سفيان بن ساعدة فأقبل
إليه تأبط شرا مستترا بمجنة فلما خشي الغلام أن يناله تأبط بسيفه وليس مع الغلام
سيف وهو مفوق سهما رمى مجن تأبط بحجر فظن تأبط أنه قد أرسل سهمه فرمى مجنة عن يده
ومشى إليه فأرسل الغلام سهمه فلم يخط لبته حتى خرج منه السهم ووقع في البطحاء حذو القوم
وأبوه ممسك فقال أبو الغلام حين وقع السهم أخاطئه سفيان فحرد القوم فذلك حين قتلوا
الشيخ وابنه الصغير ومات تأبط أمه ترثيه فقالت أمه - وكانت امرأة من بني القين بن
جسر بن قضاعة - ترثيه ( قتِيلٌ
ما قتيلُ بني قُرَيْمٍ ... إذا ضَنّت جُمادى بالقِطارِ ) ( فتى
فَهْمٍ جميعاً غادَرُوه ... مقيما بالحُرَيْضَةِ من نُمارِ ) وقالت
أمه ترثيه أيضا ( ويلُ
امِّ طِرف غادروا برُخْمانْ ... بثابت بن جابر بن سفيان ) ( يجدِّلُ
القِرنَ ويُروِي النَّدمانْ ... ذو مأْقِطٍ يحمي وراء الإِخوان ) وقالت
ترثيه أيضا وابناه وابن الليل ليس بزميل شروب للقيل رقود بالليل وواد ذي هول أجزت بالليل
تضرب بالذيل برجل كالثول قال وكان تأبط شرا يقول قبل ذلك ( ولقد
علمتُ لتعدُوَنَّ ... م عليّ شتْمٌ كالحساكل ) ( يأكلنَ
أوصالا ولحما ... كالشَّكاعِي غيرَ جاذِل ) ( يا
طيرُ كُلْنَ فإنني ... سُمٌّ لَكُنّ وذو دَغَاوِل ) وقال
قبل موته ( لعلي ميِّتٌ كمداً ولمَّا ...
أطالع أهلَ ضيم فالكرابِ ) ( وإن
لم آتِ جمع بني خُثيم ... وكاهلها برَجْل كالضّباب ) ( إذا
وقعتْ بكعب أو قُرَيْمٍ ... وسيَّارٍ فيا سَوْغَ الشّراب ) فأجابه
شاعر من بني قريم ( تأبَّطَ
سَوْأَةً وحملْتَ شرًّا ... لعلك أن تكون من المصاب ) ( لعلك
أن تجيءَ بك المنايا ... تُساقُ لفتيةٍ منا غِضاب ) ( فتُصْبحَ
في مَكَرِّهمُ صريعاً ... وتصبحَ طرفة الضَّبُعِ السِّغاب ) ( فزلتم
تهربون ولو كرهتم ... تسوقون الحَرائمَ بالنقاب ) ( وزال
بأرضكم منّا غلامٌ ... طليعةُ فتْيَةٍ غُلْبِ الرقاب ) ونذكر
هاهنا بعد أخبار تأبط شرا أخبار صاحبيه عمرو بن براق والشنفرى ونبدأ بما يغني فيه
من شعريهما ونتبعه بالأخبار فأما عمرو بن براق فمما يغني فيه من شعره قوله صوت (
متى تجمع القلبَ الذكيَّ وصارما ... وأنفا حَمِيَّا تجتنبْكَ المَظالِمُ ) ( وكنت
إذا قومٌ غَزوْني غَزَوتهم ... فهل أنا في ذا يا لَهَمدَانَ ظَالمِ ) ( كذبتُم
وبيتِ الله لا تأخذونها ... مراغمةً ما دام للسيف قائِم ) ( ولا
صُلْحَ حتى تعثُر الخَيلُ بالقَنا ... وتُضْرَبَ بالبِيضِ الرّقاقِ الجَماجِمُ ) عروضه
من الطويل الشعر لابن براق وقيل ابن براقة والغناء لمحمد ابن إسحاق بن عمرو بن
بزيع ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي عمرو بن براق أخبرني علي بن سليمان
الأخفش قال حدثنا السكري عن ابن حبيب قال وأخبرنا الهمداني ثعلب عن ابن الأعرابي
عن المفضل قالا سلب منه ماله ثم استرده فقال في ذلك أغار رجل من همدان يقال له
حريم على إبل لعمرو بن براق وخيل فذهب بها فأتى عمرو امرأة كان يتحدث إليها
ويزورها فأخبرها أن حريما أغار على إبله وخيله فذهب بها وأنه يريد الغارة عليه
فقالت له المرأة ويحك لا تعرض لتلفات حريم فإني أخافه عليك قال فخالفها وأغار عليه
فاستاق كل شيء كان له فأتاه حريم بعد ذلك يطلب إليه أن يرد عليه ما أخذه منه فقال
لا أفعل وأبى عليه فانصرف فقال عمرو في ذلك ( تقول
سُلَيمى لا تعَرَّضْ لتَلفةٍ ... وليلُك عن ليل الصعاليك نائمُ ) ( وكيف
ينامُ الليلَ من جُلّ مالِهِ ... حُسامٌ كلون المِلحِ أَبيضُ صارمُ ) ( صَمُوتٌ
إذا عضَّ الكريهةَ لم يَدَعْ ... لها طَمعاً طوعُ اليمينِ ملازمُ ) ( نَقدْتُ
به ألْفاً وسامحتُ دونه ... على النقدِ إذ لا تُستطاع الدراهمُ ) ( ألم
تَعلمي أنَّ الصعاليكَ نومُهم ... قليلٌ إذا نام الدَّثُور المُسالِمُ ) ( إذا
الليل أدجى واكفهرّت نجومه ... وصاح من الإِفراط هامٌ جوائم ) ( ومال
بأصحاب الكرى غالباتُه ... فإني على أمر الغَواية حازم ) ( كذبتم
وبيتِ الله لا تأخذونها ... مُراغمةً ما دام للسيف قائمُ ) ( تَحالفَ
أقوامٌ عليّ ليسمَنُوا ... وجروا عليَّ الحَرْبَ إذا أَنَا سَالِمُ ) ( أَفَالآن
أُدْعَى للهَوادة بعدما ... أُجِيل على الحيّ المَذاكِي الصَّلادُمُ ) ( كأنَّ
حُريماً إذ رجا أن يَضُمَّها ... ويُذْهِبَ مالي يابنَة القوم حالِمُ ) ( متى
تجمع القلبَ الذَّكِيَّ وصارِماً ... وأنفاً حَمِيَّاً تَجْتَنِبْكَ المظالِمُ ) ( ومَن
يَطلبِ المالَ المُمَنَّع بالقَنَا ... يَعِشْ ذا غِنىً أو تَخْتَرِمْه المَخارِمُ ) ( وكنتُ
إذا قومُ غَزونِي غزَوْتُهم ... فهل أنا في ذا يا لَهَمْدان ظالمُ ) ( فلا
صُلْح حتى تعثر الخيل بالقنا ... وتُضْرب بالبِيض الرِّقاقِ الجَماجِمُ ) وأما
الشنفرى فإنه رجل من الأزد ثم من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد ومما يغنى فيه
من شعره قوله صوت ( أَلا أُمِّ عَمْروٍ أزمعت فاستقَلَّت ... وما ودَّعت جِيرانها
إذ تولَّتِ ) ( فوانَدَما بانَتْ أُمامةُ بعدما
... طَمِعْتُ فهَبْها نِعْمَةً قد تولَّتِ ) ( وقد
أعجَبتْنِي لا سَقُوطاً خِمارُها ... إذا ما مشَت ولا بذاتِ تَلَفُّتِ ) غنى
في هذه الأبيات إبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة أخبار الشنفرى ونسبه نشأ
في غير قومه وأخبرني بخبره الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا أبو يحيى المؤدب وأحمد
ابن أبي المنهال المهلبي عن مؤرخ عن أبي هشام محمد بن هشام النميري أن الشنفرى كان
من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد بن الغوث أسرته بنو شبابة بن فهم بن عمرو بن
قيس بن عيلان فلم يزل فيهم حتى أسرت بنو سلامان بن مفرج بن عوف بن ميدعان بن مالك
بن الأزد رجلا من فهم أحد بني شبابة ففدته بنو شبابة بالشنفرى قال فكان الشنفرى في
بني سلامان بن مفرج لا تحسبه إلا أحدهم حتى نازعته بنت الرجل الذي كان في حجره
وكان السلامي اتخذه ولدا وأحسن إليه وأعطاه فقال لها الشنفرى اغسلي رأسي يا أخية
وهو لا يشك في أنها أخته فأنكرت أن يكون أخاها ولطمته فذهبت مغاضبا حتى أتى الذي
اشتراه من فهم فقال له الشنفرى اصدقني ممن أنا قال أنت من الأواس بن الحجر فقال
أما إني لن أدعكم حتى أقتل منكم مائة بما استعبدتموني ثم إنه ما زال يقتلهم حتى قتل
تسعة وتسعين رجلا وقال الشنفرى للجارية السلامية التي لطمته وقالت لست بأخي ( أَلا
ليتَ شِعْري والتَّلَهُّفُ ضَلّةٌ ... بما ضَربتْ كَفُّ الفتاة هَجِينَها ) ( ولو
علمت قُعسوسُ أنساب والدي ... ووالدِها ظَلّت تقاصَرُ دونها ) ( أنا
ابن خيار الحُجْر بيتا ومَنْصِبا ... وأمي ابنةُ الأحرار لو تَعْرِفينها ) قال
ثم لزم الشنفرى دار فهم فكان يغير على الأزد على رجليه فيمن تبعه من فهم وكان يغير
وحده أكثر من ذلك وقال الشنفري لبني سلامان ( وإني
لأهوَى أن أَلُفُّ عجَاجتي ... على ذي كساء من سَلامانَ أَو بُرد ) ( وأصبحَ
بالعضْدَاء أبغي سَراتَهم ... وأسلكَ خَلاًّ بين أَرباع والسّرد ) فكان
يقتل بني سلامان بن مفرج حتى قعد له رهط من الغامديين من بني الرمداء فأعجزهم
فأشلوا عليه كلبا لهم يقال له حبيش ولم يضعوا له شيئا ومر وهو هارب بقرية يقال لها
دحيس برجلين من بني سلامان بن مفرج فأرادهما ثم خشي الطلب فقال ( قتيلَيْ
فِجارٍ أنتُما إن قُتِلتُما ... بجوف دَحِيس أو تبالةَ يا اسمعا ) يريد
يا هذان اسمعا وقال فيما كان يطالب به بني سلامان ( فإلا
تزرني حَتْفتي أو تُلاقني ... أُمشِّ بدَهْرٍ أو عذافَ فنوَّرا ) ( أمشي
بأطراف الحماطِ وتارةً ... تُنفَّضُ رجلي بَسْبُطاً فعَصَنْصَرا ) ( وأبغي
بني صَعب بن مُرٍّ بلادَهم ... وسوف أُلاقيهم انِ اللهُ يسّرا ) ( ويوما
بذاتِ الرَّأس أو بطن مِنجَلٍ ... هنالك تَلْقى القاضيَ المُتِغَوِّرا ) سملوا
عينه ثم قتلوه قال ثم قعد له بعد ذلك أسيد بن جابر السلاماني وخازم الفهمي بالناصف
من أبيدة ومع أسيد ابن أخيه فمر عليهم الشنفرى فأبصر السواد بالليل فرماه وكان لا
يرى سوادا إلا رماه كائنا ما كان فشك ذراع ابن أخي أسيد إلى عضده فلم يتكلم فقال
الشنفري إن كنت شيئا فقد أصبتك وإن لم تكن شيئا فقد أمنتك وكان خازم باطحا يعني
منبطحا بالطريق يرصده فنادى أسيد يا خازم أصلت يعني اسلل سيفك فقال الشنفري لكل
أصلت فأصلت الشنفري فقطع أصبعين من أصابع خازم الخنصر والبنصر وضبطه خازم حتى لحقه
أسيد وابن أخيه نجدة فأخذ أسيد سلاح الشنفرى وقد صرع الشنفري خازما وابن أخي أسيد
فضبطاه وهما تحته وأخذ أسيد برجل ابن أخيه فقال أسيد رجل من هذه فقال الشنفري رجلي
فقال ابن أخي أسيد بل هي رجلي يا عم فأسروا الشنفرى وأدوه إلى أهلهم وقالوا له أنشدنا
فقال إنما النشيد على المسرة فذهبت مثلا ثم ضربوا يده فتعرضت أي اضطربت فقال
الشنفرى في ذلك ( لا
تَبْعَدِي إمّا ذَهَبْتِ شامَهْ ... فرُبَّ وادٍ نَفَرَتْ حَمامَه ) ( ورُبَّ
قِرْنٍ فَصَلتْ عِظَامَهْ ... ) ثم
قال له السلامي أأطرفك ثم رماه في عينه فقال الشنفرى له كأن كنا نفعل أي كذلك كنا
نفعل وكان الشنفرى إذا رمى رجلا منهم قال له أأطرفك ثم يرمي عينه ثم قالوا له حين
أرادوا قتله أين نقبرك فقال ( لا
تَقبُرونِي إنّ قَبرِي مُحرَّم ... عليكم ولكن أبشِرِي أُمَّ عامر ) ( إذا
احْتَمَلَتْ رأسي وفي الرأس أكثَرِي ... وغُودِرَ عند المُلْتَقَى ثَمّ سائِرِي ) ( هنالك
لا أرجو حياةً تَسُرُّني ... سَمِيرَ الليالي مُبْسَلاً بالحَرَائرِ ) تأبط
شرا يرثيه وقال تأبط شرا يرثي الشنفري ( على
الشَّنْفَرَى ساري الغمام ورائحٌ ... غزيرُ الكُلى وَصَيِّبُ الماء باكرُ ) ( عليك
جزاءٌ مثلُ يومِكَ بالجَبَا ... وقد أُرعِفتْ منك السُّيوفُ البواتر ) ( ويومِكَ
يوم العَيْكَتَيْن وعطفةٍ ... عطفتَ وقد مَسَّ القلُوبَ الحناجِرُ ) ( تجول
ببز الموت فيهم كأنهم ... بشوكتك الحُدّى ضَئِينٌ نوافرُ ) ( فإنك
لو لاقيتني بعدما ترى - ... وهل يُلقَيْن مَنْ غَيَّبته المقابر - ) ( لألفيتني
في غارة أنتمي بها ... إليك وإمّا راجعاً أنا ثائِرُ ) ( وإن
تكُ مأْسوراً وظلْت مُخَيِّماً ... وأبْليت حتى ما يكيدك واتِرُ ) ( وحتى
رماك الشَّيْبُ في الرأس عانسا وخيرُك مبسوطٌ وزادك حاضرُ ... ) ( وأجملُ
موتِ المرء إذ كان ميتا ... - ولا بد يوماً - مَوتُه وهو صابر ) ( فلا
يَبعَدنّ الشَّنْفَري وسِلاحُه الْحَديدُ ... وَشدَّ خَطْوُه متواتر ) ( إذا
راع رَوْعُ الموت راع وإن حَمَى ... حَمَى معه حُرٌّ كريم مُصابِرُ ) خبر
آخر عن سبب أسره ومقتله قال وقال غيره لا بل كان من أمر الشنفري وسبب أسره ومقتله
أن الأزد قتلت الحارث بن السائب الفهمي فأبوا أن يبوءوا بقتله فباء بقتله رجل منهم
يقال له حزام بن جابر قبل ذلك فمات أخو الشنفري فأنشأت أمه تبكيه فقال الشنفري
وكان أول ما قاله من الشعر ( ليس
لوالدة هوءُها ... ولا قولُها لابنها دَعْدَعْ ) ( تُطيف
وتُحدِث أحوالَه ... وغيْرُكِ أملكُ بالمَصْرَع ) قال
فلما ترعرع الشنفري جعل يغير على الأزد مع فهم فيقتل من أدرك منهم ثم قدم منى وبها
حزام بن جابر فقيل له هذا قاتل أبيك فشد عليه فقتله ثم سبق الناس على رجليه فقال ( قتلتُ
حزاماً مُهْدِياً بمُلَبَّدٍ ... ببطن مِنىً وسْط الحجيج المُصَوّتِ ) قال
ثم إن رجلا من الأزد أتى أسيد بن جابر وهو أخو حزام المقتول فقال تركت الشنفرى
بسوق حباشة فقال أسيد بن جابر والله لئن كنت صادقا لا نرجع حتى نأكل من جنى أليف
أبيدة فقعد له على الطريق هو وابنا حزام فأحسوه في جوف الليل وقد نزع نعلا ولبس
نعلا ليخفي وطأه فلما سمع الغلامان وطأه قالا هذه الضبع فقال أسيد ليست الضبع
ولكنه الشنفرى ليضع كل واحد منكما نعله على مقتله حتى إذا رأى سوادهم نكص مليا
لينظر هل يتبعه أحد ثم رجع حتى دنا منهم فقال الغلامان أبصرنا فقال عمهما لا والله
ما أبصركما ولكنه أطرد لكيما تتبعاه فليضع كل واحد منكما نعله على مقتله فرماهم
الشنفري فخسق في النعل ولم يتحرك المرمي ثم رمى فانتظم ساقي أسيد فلما رأى ذلك
أقبل حتى كان بينهم فوثبوا عليه فأخذوه فشدوه وثاقا ثم إنهم انطلقوا به إلى قومهم
فطرحوه وسطهم فتماروا بينهم في قتله فبعضهم يقول أخوكم وابنكم فلما رأى ذلك أحد
بني حزام ضربه ضربة فقطع يده من الكوع وكانت بها شامة سوداء فقال الشنفرى حين قطعت
يده ( لا تَبْعَدِي إمّا هَلَكْتِ شامَهْ
... فرُبَّ خَرقٍ قَطَعتْ قتَامَهْ ) ( ورُبَّ
قِرْنٍ فَصَلتْ عِظَامَهْ ... ) وقال
تأبط شرا يرثيه ( فلا
يَبعَدنّ الشَّنْفَرى وسِلاحُه الْحَديدُ ... وَشَدَّ خَطْوُه متواتر ) ( إذا
راع رَوْعَ الموت راع وإن حَمَى ... حَمَى معه حُرٌّ كريم مُصابِرُ ) قال
وذرع خطو الشنفرى ليلة قتل فوجد أول نزوة نزاها إحدى وعشرين خطوة ثم الثانية سبع
عشرة خطوة قال وقال ظالم العامري في الشنفرى وغاراته على الأزد وعجزهم عنه ويحمد
أسيد بن جابر في قتله الشنفرى ( فما
لَكُمْ لم تدركوا رِجْلَ شنفرى ... وأنتم خِفاف مثلُ أجنحة الغُرْبِ ) ( تعاديتُم
حتى إذا ما لحقتُم ... تباطأَ عنكم طالبٌ وأبو سَقْبِ ) ( لعمركَ
لَلسَّاعي أُسَيدُ بن جابِرٍ ... أحقُّ بها مِنْكم بَنِي عقبِ الكلب ) قال
ولما قتل الشنفرى وطرح رأسه مر به رجل منهم فضرب جمجمة الشنفرى بقدمه فعقرت قدمه
فمات بها فتمت به المائة شعره لما قتل حزاما قاتل أبيه وكان مما قاله الشنفرى فيهم
من الشعر وفي لطمه المرأة التي أنكرته الذي ذكرته واستغني عن إعادته مما تقدم ذكره
من شعر الشنفرى وقال الشنفرى في قتله حزاما قاتل أبيه ( أرَى
أُمَّ عمرو أجمعت فاستقلَّتِ ... وما ودَّعت جِيرانَها إذْ تولّتِ ) ( فقد
سبقتنا أُمُّ عمرو بأَمرها ... وقد كان أعناقُ المَطيِّ أظلَّتِ ) ( فواندَما
على أُميمةَ بعدما ... طمِعتُ فهَبْها نِعمةَ العيش ولَّتِ ) ( أُميمةُ
لا يُخزِي نَثاها حَليلها ... إذا ذُكِر النسوان عَفَّت وجَلّت ) ( يَحُلّ
بمنجاةٍ من اللّوم بيتُها ... إذا ما بُيوتٌ بالمَلامة حُلَّت ) ( فقد
أعجبتني لا سَقُوطٌ قِناعُها ... إذا ما مَشت ولا بذات تَلَفُّت ) ( كأَنّ
لها في الأرض نِسْياً تَقُصُّه ... إذا ما مشت وإن تُحدِّثْك تَبْلِت ) النسي
الذي يسقط من الإنسان وهو لا يدري أين هو يصفها بالحياء وأنها لا تلتفت يمينا ولا
شمالا ولا تبرج ويروى ( تقصه
على أمها وإن تكلمك ... ) ( فدقت
وجلت واسبكرت وأكملت ... فلو جن إنسان من الحسن جنَّت ) ( تبيتُ
بُعَيْدَ النوم تُهدِي غَبُوبَها ... لجاراتِها إذا الهديّة قَلَّت ) - الغبوب
ما غب عندها من الطعام أي بات ويروى غبوقها - ( فبِتنا
كأنَّ البيت حُجِّر حولنا ... بريحانةٍ راحت عِشاءً وطُلَّتِ ) ( بريحانة
من بطن حلية أمرعت ... لها أرجٌ من حولها غير مسنت ) ( غدوتُ
من الوادي الذي بين مَشْعَل ... وبين الجَبَاهيهات أنْسأتُ سُربتي ) ( أمشِّي
على الأرض التي لن تضيرَني ... لأكسِبَ مالا أو أُلاقِيَ حُمَّتِي ) ( إذا
ما أتتني حَتْفتي لم أُبالها ... ولم تُذْرِ خالاتي الدموع وعَمَّتِي ) ( وهَنِّيءَ
بي قومٌ وما إن هنأْتُهم ... وأصبحت في قوم وليسوا بمنْبِتي ) ( وأُمِّ
عيالٍ قد شهدتُ تَقُوتُهم ... إذا أطْعَمَتْهم أوْ تَحَتْ وأقلَّت ) ( تخاف
علينا الجوعَ إن هيَ أكثرت ... ونحن جياعٌ أيَّ أَلْيٍ تأَلَّتِ ) ( عُفَاهَيةٌ
لا يقصرُ السّترُ دونها ... ولا تُرتَجى للبَيْت إن لم تُبَيَّت ) ( لها
وَفْضَةٌ فيها ثلاثون سَلْجَماً ... إذَا ما رأَت أُولى العَدِي اقْشَعَرَّتِ ) ( وتأتي
العَدِيَّ بارزاً نصفُ ساقِها ... كعَدْو حِمار العانةِ المتفَلِّت ) ( إذا
فُزِّعت طارت بأَبيضَ صارمٍ ... وراحت بما في جُفرها ثم سَلَّت ) ( حُسامٍ
كلون الملح صافٍ حديدُه ... جُرازٍ من اقطار الحديد المنعَّت ) ( تراها
كأَذناب المَطِيّ صوادراً ... وقد نهِلتْ منَ الدّماء وعلّت ) ( سنجزي
سَلامانَ بنَ مُفْرج قرضَهم ... بما قدَّمت أيديهمُ وأَزَلَّت ) ( شفَيْنا
بعبد الله بعضَ غليلِنا ... وعوفٍ لدى لمَعْدَى أوانَ استهلَّت ) ( قتلنا
حزاما مُهدِيا بمُلَبّدٍ ... محلّهما بين الحجيج المصوِّت ) ( فإن
تُقبِلوا تُقبِل بمَنْ نِيلَ منهمُ ... وإن تُدْبِروا فأُمّ مَنْ نِيلَ فُتّت ) ( ألا
لا تزرني إن تشكيت خُلَّتي ... كفاني بأَعلى ذي الحُمَيرةِ عُدْوَتي ) ( وإني
لحُلوٌ إن أُرِيدت حلاوتي ... ومُرٌّ إذا النفس الصَّدوفُ استَمرَّتِ ) ( أبيّ
لما آبى وشيكٌ مَفِيئَتي ... إلى كُلِّ نفس تَنْتَجِي بمودّتي ) وقال
الشنفري أيضا ( ومرقبةٍ
عَنْقاء يَقصُرُ دونها ... أخو الضَّرْوذ الرّجْل الخفيُّ المخَفَّف ) ( نَميتُ
إلى أعلى ذراها وقد دنا ... من الليل ملتَفُّ الحدِيقةِ أسدَف ) ( فبِتُّ
على حَدّ الذّراعين أحدباً ... كما يَتَطَوَّى الأرقَم المُتَعَطِّفُ ) ( قليلٌ
جَهازِي غيرُ نعلين أُسحقَت ... صَدورهما مخصورةً لا تُخصَّفُ ) ( ومِلْحَفَةٍ
دَرْسٍ وَجَرْدِ مُلاَءةٍ ... إذا أنهجت من جانب لا تَكفّفُ ) ( وأبيضُ
من ماء الحديد مهنّدٌ ... مِجذٌّ لأطراف السّواعد مِقطفُ ) ( وصفراءُ
من نبعٍ أبيٌّ ظَهيرةٌ ... تُرِنّ كإرنان الشّجيّ وَتَهْتِفُ ) ( إذا
طال فيها النزع تأتي بعَجْسها ... وترمي بذَرْوَيْها بهنّ فتَقْذِفُ ) ( كأَنّ
حفِيفَ النَّبل من فوق عَجْسها ... عوازبُ نحلٍ أخطأَ الغارَ مُطْنِفُ ) ( نأتْ
أمُّ قيسِ المرْبَعَين كليهما ... وتحذَرُ أن يَنأَى بها المتصيَّفُ ) ( وإنك
لو تَدرينَ أنْ رُبَّ مشربٍ ... مخوفٍ كداء البطن أو هو أخوفُ ) ( وردتُ
بمأثورٍ ونبلٍ وضالةٍ ... تخيَّرتها مما أَريش وأرصُفُ ) ( أُركِّبها
في كل أحمر عاتِرٍ ... وأقذِفُ منهن الذي هو مقرف ) ( وتابعتُ
فيه البَرْيَ حتى تركتُه ... يَزِفُّ إذا أنفذتُه ويزفزفُ ) ( بِكفّيَ
منها للبغيض عُراضَةٌ ... إذا بعتُ خِلاًّ ما له مُتَخَوَّفُ ) ( ووادٍ
بعيدِ العُمق ضنكٍ جِماعُه ... بواطِنهُ للجنّ والأسْدِ مأْلَفُ ) ( تعسَّفتُ
منه بعدما سقط الندى ... غَماليل يخشى غِيلَها المُتعسِّفُ ) ( وإني
إذا خَامَ الجبانُ عن الرّدى ... فلِي حيث يُخشى أن يُجاوزَ مخسَف ) ( وإن
امرأً أجار سعدَ بنَ مالكٍ ... عليّ وأثوابِ الأُقَيْصِرِ يَعْنُف ) وقال
الشنفرى أيضا ( ومُستبسلٍ
ضافي القميصِ ضَغَتُّه ... بأَزرقَ لا نِكسٍ ولا مُتَعوِّج ) ( عليه
نُساريٌ على خُوطِ نَبْعةٍ ... وفُوقٌ كعرقوب القطاة مُحَدْرَجُ ) ( وقاربتُ
من كفِّيَّ ثم فَرَجتها ... بنزع إذا ما استُكرِه النزعُ مُخْلِج ) ( فصاحت
بكفي صيحةً ثم رجَّعَت ... أنينَ الأمِيم ذي الجراح المُشجَّع ) وقد
روي فناحت بكفي نوحة رواية ثالثة في مقتله وقال غيره لا بل كان من أمر الشنفرى أنه
سبت بنو سلامان بن مفرج ابن مالك بن هوازن بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن
الأزد الشنفرى - وهو
أحد بني ربيعة بن الحجر بن عمران بن عمرو بن حارثة بن ثعلبة بن امرىء القيس بن
مازن بن الأزد - وهو غلام فجعله الذي سباه في بهمة يرعاها مع ابنة له فلما خلا بها
الشنفرى أهوى ليقبلها فصكت وجهه ثم سعت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليه ليقتله فوجده
وهو يقول ( ألاَ هل أَتى فِتيانَ قومي جَماعةً
... بما لطمت كفُّ الفتاة هجينَها ) ( ولو
علمت تلك الفتاةُ مَناسبي ... ونِسبتُها ظلَّت تقَاصَرُ دونها ) ( أليس
أبي خيرَ الأَواسِ وغيرِها ... وأُمِّي ابنةُ الخَيْرِينَ لو تَعلمينها ) ( إذا
ما أَرُومُ الودَّ بيني وبينها ... يؤمُّ بياضُ الوجه منّي يمينَها ) قال
فلما سمع قوله سأله ممن هو فقال أنا الشنفرى أخو بني الحارث بن ربيعة وكان من أقبح
الناس وجها فقال له لولا أني أخاف أن يقتلني بنو سلامان لأنكحتك ابنتي فقال علي إن
قتلوك أن أقتل بك مائة رجل منهم فأنكحه ابنته وخلى سبيله فسار بها إلى قومه فشدت
بنو سلامان خلافه على الرجل فقتلوه فلما بلغه ذلك سكت ولم يظهر جزعا عليه وطفق
يصنع النبل ويجعل أفواقها من القرون والعظام ثم إن امرأته بنت السلاماني قالت له
ذات يوم لقد خست بميثاق أبي عليك فقال ( كأَن
قَدْ - فلا يغْرُرْكِ مني تمَكُّثِي ... سلكتُ طريقاً بين يَرْبَغ فالسَّردِ ) ( وإنِّي
زعيمٌ أن تثور عَجَاجتي ... على ذي كِساءٍ من سَلامان أو بُرد ) ( همُ
عرفوني ناشئاً ذا مَخِيلة ... أُمشِّي خلال الدار كالفرس الوَرْدِ ) ( كأَني
إذا لم يُمسِ في الحي مالك ... بتيهاء لا أُهدَي السَّبِيلَ ولا أَهدِي ) قال
ثم غزاهم فجعل يقتلهم ويعرفون نبله بأفواقها في قتلاهم حتى قتل منهم تسعة وتسعين
رجلا ثم غزاهم غزوة فنذروا به فخرج هاربا وخرجوا في إثره فمر بامرأة منهم يلتمس
الماء فعرفته فأطعمته أقطا ليزيد عطشا ثم استسقى فسقته رائبا ثم غيبت عنه الماء ثم
خرج من عندها وجاءها القوم فأخبرتهم خبره ووصفت صفته وصفة نبله فعرفوه فرصدوه على
ركي لهم وهو ركي ليس لهم ماء غيره فلما جن عليه الليل أقبل إلى الماء فلما دنا منه
قال إني أراكم وليس يرى أحدا إنما يريد بذلك أن يخرج رصدا إن كان ثم فأصاخ القوم
وسكتوا ورأى سوادا وقد كانوا أجمعوا قبل إن قتل منهم قتيل أن يمسكه الذي إلى جنبه
لئلا تكون حركة قال فرمى لما أبصر السواد فأصاب رجلا فقتله فلم يتحرك أحد فلما رأى
ذلك امن في نفسه وأقبل إلى الركي فوضع سلاحه ثم انحدر فيه فلم يرعه إلا بهم على رأسه
قد أخذوا سلاحه فنزا ليخرج فضرب بعضهم شماله فسقطت فأخذها فرمى بها كبد الرجل فخر
عنده في القليب فوطىء على رقبته فدقها وقال في قطع شماله ( لا
تَبْعَدِي إمّا ذَهَبْتِ شامَهْ ... فرُبَّ وادٍ نَفَرَتْ حَمامَه ) ( ورُبَّ
قِرْنٍ فَصَلتْ عِظَامَهْ ... وربَّ حيٍّ حرَّقت سَوامَهْ ) قال
ثم خرج إليهم فقتلوه وصلبوه فلبث عاما أو عامين مصلوبا وعليه من نذره رجل قال ف
جاه رجل منهم كان غائبا فمر به وقد سقط فركض رأسه برجله فدخل فيها عظم من رأسه
فعلت عليه فمات منها فكان ذلك الرجل هو تمام المائة صوت ( ألا طرقتْ في الدّجى
زينبُ ... وأحببْ بزينبَ إذ تَطْرُقُ ) ( عجبتُ
لزينبَ أَنَّى سَرَت ... وزينبُ من ظلّها تَفرَق ) عروضه
من المتقارب الشعر لابن رهيمة والغناء لخليل المعلم رمل بالبنصر عن الهشامي وأبي
أيوب المدني أخبار الخليل ونسبه هو الخليل بن عمرو مكي مولى بني عامر بن لؤي مقل
لا تعرف له صنعة غير هذا الصوت أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن
مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني القطراني المغني عن محمد بن حسين
قال عمل في تأديب الصبيان وتعليم الجواري الغناء كان خليل المعلم يلقب خليلان وكان
يؤدب الصبيان ويلقنهم القرآن والخط ويعلم الجواري الغناء في موضع واحد فحدثني من
حضره قال كنت يوما عنده وهو يردد على صبي يقرأ بين يديه ( ومن الناس من يشتري لهو
الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ) ثم يلتفت إلى صبية بين يديه فيردد عليها ( اعتادَ
هذا القلبَ بلبالُهُ ... أن قُرِّبتْ للبَيْنِ أَجمالُهُ ) فضحكت
ضحكا مفرطا لما فعله فالتفت إلي فقال ويلك مالك فقال أتنكر ضحكي مما تفعل والله ما
سبقك إلى هذا أحد ثم قلت انظر أي شيء أخذت على الصبي من القرآن وأي شيء هو ذا تلقي
على الصبية والله إني لأظنك ممن يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله فقال أرجو ألا
أكون كذلك إن شاء الله أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد
قال حدثني عبد الصمد بن المعذل قال كان خليلان المعلم أحسن الناس غناء وأفتاهم
وأفصحهم فدخل يوما على عقبة بن سلم الأزدي الهنائي فاحتبسه عنده فأكل معه ثم شرب
وحانت منه التفاتة فرأى عودا معلقا فعلم أنه عرض له به فدعا به وأخذه فغناهم ( يابنةَ
الأزديّ قلبي كَئِيبُ ... مُستَهامٌ عندها ما يُنِيبُ ) وحانت
منه التفاتة فرأى وجه عقبة بن سلم متغيرا وقد ظن أنه عرض به ففطن لما أراد فغنى ( ألا
هَزِئَت بِنا قُرَشِيَّة ... يهتزُّ موكِبُها ) فسري
عن عقبة وشرب فلما فرغ وضع العود من حجره وحلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يغني بعد يومه
ذلك إلا لمن يجوز حكمه عليه نسبة هذين الصوتين ( يابنةَ الأزديّ قلبي كَئِيبُ ...
مُستَهامٌ عندها ما يُنِيبُ ) ( ولقد
لاموا فقلتُ دعوني ... إنّ مَنْ تَنْهوْنَ عنه حَبيبُ ) ( إنما
أبلَى عِظامِي وجِسْمِي ... حُبُّها والحُبُّ شيءٌ عَجِيبُ ) ( أيها
العائِبُ عندي هَواهَا ... أنتَ تَفدي مَن أراك تَعِيبُ ) عروضه
من المديد والشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - والغناء
لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لمالك خفيف ثقيل أول بالخنصر
في مجرى البنصر عنه وفيه خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى لم ينسبه إسحاق إلى أحد
ووجدته في روايات لا أثق بها منسوبا إلى حنين وقد ذكر يونس أن فيه لحنين ولمالك
كلاهما ولعل هذا أحدهما وذكر حبش أن خفيف الرمل لابن سريج وذكر الهشامي وعلي بن
يحيى أن لحن مالك الآخر ثاني ثقيل وذكر الهشامي أن فيه لطويس هزجا مطلقا في مجرى
البنصر وذكر عمرو بن بانة أن لمالك فيه ثقيلا أولا وخفيفه ولمعبد خفيف ثقيل آخر صوت
( ألا هَزِئَت بِنا قُرَشِيَّة ... يهتزُّ موكِبُها ) ( رأت
بي شيْبَةً في الرأ ... سِ مِنّي ما أُغَيّبُها ) ( فقالت
لي ابن قَيْسٍ ذا ... وبَعضُ الشيب يُعجبها ) ( لها
بعلٌ خبيثُ النَّفْس ... يحصُرُها ويحْجُبُها ) ( يراني
هكذا أمشي ... فيوعِدُها ويَضْرِبُها ) عروضه
من الوافر الشعر لابن قيس الرقيات والغناء لمعبد خفيف بالخنصر في مجرى الوسطى وفيه
ليونس ثقيل أول عن إسحاق بن إبراهيم والهشامي صوت ( هل
ما علمتَ وما استُودِعْتَ مكتومُ ... أم حَبلُها إذ نأتك اليومَ مَصرومُ ) ( أم
هل كئيبٌ بكى لم يقض عبرَتَهُ ... إثْرَ الأَحِبَّة يوم البين مَشْكُومُ ) ( يحملن
أُتْرُجّةً نَضْخُ العبير بها ... كأنَّ تَطيابَها في الأنفِ مشمومُ ) ( كأنّ
فَأْرَةَ مسكٍ في مفارقها ... للباسط المُتعاطي وَهْوَ مزكوم ) ( كأَنَّ
إبريقَهم ظبيٌ على شرف ... مُفَدَّمٌ بسَبَا الكتّان ملثُوم ) ( قد
أشْهدُ الشَّربَ فيهم مِزْهرٌ صَدِحٌ ... والقومُ تصرعهم صهباءُ خُرطومُ ) الشعر
لعلقمة بن عبدة والغناء لابن سريج وله فيه لحنان أحدهما في الأول والثاني خفيف
ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق والآخر رمل بالخنصر في مجرى البنصر في
الخامس والسادس من الأبيات وذكر عمرو بن بانة أن في الأربعة الأبيات الأول
المتوالية لمالك خفيف ثقيل بالوسطى وفيها ثقيل أول نسبه الهشامي إلى الغريض وذكر
حبش أن لحن الغريض ثاني ثقيل بالبنصر وذكر حبش أن في الخامس والسادس خفيف رمل
بالبنصر لابن سريج أخبار علقمة ونسبه هو علقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس
بن عبيد بن ربيعة ابن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن
مضر بن نزار وكان زيد مناة بن تميم وفد هو وبكر بن وائل - وكانا لدة عصر واحد -
على بعض الملوك وكان زيد مناة حسودا شرها طعانا وكان بكر بن وائل خبيثا منكرا داهيا
فخاف زيد مناة أن يحظى من الملك بفائدة ويقل معها حظه فقال له يا بكر لا تلق الملك
بثياب سفرك ولكن تأهب للقائه وادخل عليه في أحسن زينة ففعل بكر ذلك وسبقه زيد مناة
إلى الملك فسأله عن بكر فقال ذلك مشغول بمغزالة النساء والتصدي لهن وقد حدث نفسه
بالتعرض لبنت الملك فغاظه ذلك وأمسك عنه ونمى الخبر إلى بكر بن وائل فدخل إلى
الملك فأخبره بما دار بينه وبين زيد مناة وصدقه عنه واعتذر إليه مما قاله فيه عذرا
قبله فلما كان من غد اجتمعا عند الملك فقال الملك لزيد مناة ما تحب أن أفعل بك
فقال لا تفعل ببكر شيئا إلا فعلت بي مثليه وكان بكر أعور العين اليمنى قد أصابها
ماء فذهب بها فكان لا يعلم من رآه أنه أعور فأقبل الملك على بكر بن وائل فقال له
ما تحب أن أفعل بك يا بكر قال تفقأ عيني اليمنى وتضعف لزيد مناة فأمر بعينه ففقئت
وأمر بعيني زيد مناة ففقئتا فخرج وهو أعور بحاله وخرج زيد مناة وهو أعمى سبب
تلقيبه بالفحل وأخبرني بذلك محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة ويقال
لعلقمة بن عبدة علقمة الفحل سمي بذلك لأنه خلف على امرأة امرىء القيس لما حكمت له
على امرىء القيس بأنه أشعر منه في صفة فرسه فطلقها فخالفه عليها وما زالت العرب
تسميه بذلك وقال الفرزدق ( والفحلُ
عَلقمةُ الذي كانت له ... حُلَلُ الملوك كلامُه يُتَنَحَّلُ ) علقمة
يحكم قريشا في شعره أخبرني عمي قال حدثني النضر بن عمرو قال حدثني أبو السوار عن
أبي عبيد الله مولى إسحاق بن عيسى عن حماد الراوية قال كانت العرب تعرض أشعارها
على قريش فما قبلوه منها كان مقبولا وما ردوه منها كان مردودا فقدم عليهم علقمة بن
عبدة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها ( هل
ما علمتَ وما استُودعْتَ مكتوم ... أم حَبْلُها أَنْ نأتْكَ اليومَ مصرومُ ) فقالوا
هذه سمط الدهر ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم ( طحابك
قلب في الحسان طروبُ ... بُعَيْد الشباب عصر حان مشيبُ ) فقالوا
هاتان سمطا الدهر أخبرني الحسن بن عليَّ قال حدثني هارون بن محمد بن عبدالملك عن
حماد بن إسحاق قال سمعت أبي يقولسرق ذو الرُّمة قوله : ( يطفو
إذا تلقَّته الجراثيم ... ) قول العجاج ( إذا
تلقَّتْه العقاقيلُ طفا ) العجَّاج من علقمةَ بن عبَدة في قوله : ( يطفو
إذا ما تلقته العقاقيل ... ) هو
وامرؤ القيس يتحاكمان إلى زوجته أخبرني عمِّي قال حدثنا الكرانيُّ قال حدثنا
العمريّ عن لقيط وأخبرني أحمد بن عبدالعزيز قال حدثنا عُمَر بن شبَّة قال حدثني
أبو عبيدة قال كانت تحت امريء القيس امرأةٌ من طيء تزوجها حين جاور فيهم فنزل به
علقمةُ الفحْل بن عبدة التَّميميّ فقال كل واحد منهما لصاحبه أنا أشعر منك فتحاكما
إليها فأنشد امرؤ القيس قوله : ( خليليَّ
مرََّّا بي على أمّ جُنْدُبِ ... ) مر بقوله : ( فللسَّوط
الهوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ ... وللزَّجر منه وقعُ أخرج مهذِب ) ويروى
أهوج منعب فأنشدها علقمة قوله ( ذهبْتَ
من الهِجران في غير مذْهَب ... ) انتهى إلى قوله : ( فأدركه
حتى ثنى من عِنانه ... يمُرُّ كغيث رائحٍ متحلبِّ ) فقالت
له علقمةُ أشعرُ منك قال وكيف قالت لأنك زجرت فرسَك وحرّكته بساقك وضربته بسوطك
وأنه جاء هذا الصيد ثم أدركه ثانياً من عِنانه فغضب امرؤ القيس وقال ليس كما قلتِ
ولكنك هَويِته فطلّقها فتزوجه علقمة بعد ذلك وبهذا لُقِّب علقمةَ الفحْل ربيعة بن
حذار يصنّف الشعراء أخبرني عمي قال حدثنا الكُرانيّ قال حدثنا العُمري عن لَقِيط
قال تحاكم علقمةُ بن عبدة التميمي والزبرقانُ بن بَدْر السعدي والمخبَّل وعمرو بن
الأهتم إلى ربيعة بن حذار الأسديّ فقال أما أنت يا زبرقان فإن شعرك كلحم لا أنضج
فيؤكل ولا ترك نيئا فينتفع به وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرد حبرة يتلألأ في
البصر فكلما أعدّته فيه نقص وأما أنت يا مخبّل فإنك قصّرت عن الجاهلية ولم تدرك
الإسلام وأما أنت يا علقمة فإن شعرك كمزادة قد أحكِم خزرُها فليس يقطر منها شيء أخبرني
محمدُ بن الحسنِ بن دُريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن ابيه قال رجل من
مزينَة على باب رجل من الأنصار وكان يُتَّهم بامرأته فلما حاذى بابَه تنفَّس ثم
تمثل : ( هل ما علمتَ وما استُودِعْتَ
مكتومُ ... أم حبلُها إذ نأتك اليوم مصرومُ ) قال
فتعلَّق به الرجل فرفعه إلى عمر رضوان الله عليه فاستعداه عليه فقال له المتمثِّل
وما عليَّ في أن أنشدتُ بيتَ شعر فقال له عمر رضي الله عنه مالك لم تُنْشِدْه قبل
أن تبلغ بابه ولكنّك عرَّضت به مع ما تعلم من القالةَ فيه أمر به فضُرِب عِشْرين
سَوْطاً صوت ( فوالله لا أنسَى قتِيلاً رُزِيتُه ... بجانب قَوسَى ما حييتُ على الأرض ) ( بلى
إنها تعْفُو الكلُومُ وإنما ... نوكِّلُ بالأدنى وإن جَلَّ ما يَمضِي ) ( ولم
أدرِ مَن أَلْقَي عليه رداءه ... ولكنه قد بُزَّ عن ماجدٍ محضِ ) الشعر
لأبي خراش الهذلي والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى من رواية عمرو بن بانة
وذكر يحيى بن المكي أنه لابن مُسجِح وذكر الهاشمي أنه ليحيى المكي نحله ابن مسجح
وفي أخبار معبد إن له فيه لحناً ذكر أبي خراش الهذلي وأخباره نسبه وموته أبو خراش
اسمه خويلد بن مرة أحد بني قرد واسم قرد عمرو بن معاوية بن سعد بن هذيل بن مدركة
بن إلياس بن مضر بن نزار شاعر فحل من شعراء هذيل المذكورين الفصحاء مخضرم أدرك
الجاهلية والإسلام فأسلم وعاش بعد النبي مدة ومات في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله
عنه نهشته أفعى فمات وكان ممن يعدو فيسبق الخيل في غارات قومه وحروبهم أخبرني حبيب
بن نصر المهلبي وعمي والحسن بن علي قالوا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا
أحمد بن عمير بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال حدثني أبو
بركة الأشجعي من أنفسهم قال خرج أبو خراش الهذلي من أرض هذيل يريد مكة فقال لزوجته
أم خراش ويحك إني أريد مكة لبعض الحاجة وإنك من أفك النساء وإن بني الديل يطلبونني
بترات فإياك وأن تذكريني لأحد من أهل مكة حتى نصدر منها قالت معاذ الله أن أذكرك لأهل
مكة وأنا أعرف السبب قال فخرج بأم خراش وكمن لحاجته وخرجت إلى السوق لتشتري عطرا
أو بعض ما تشتريه النساء من حوائجهن فجلست إلى عطار فمر بها فتيان من بني الديل
فقال أحدهما لصاحبه أم خراش ورب الكعبة وإنها لمن أفك النساء وإن كان أبو خراش معها
فستدلنا عليه قال فوقفا عليها فسلما وأحفيا المسألة والسلام فقلت من أنتما بأبي
أنتما فقالا رجلان من أهلك من هذيل قالت بأبي أنتما فإن أبا خراش معي ولا تذكراه
لأحد ونحن رائحون العشية فخرج الرجلان فجمعا جماعة من فتيانهم وأخذوا مولى لهم
يقال له مخلد وكان من أجود الرجال عدوا فكمنوا في عقبة على طريقه فلما رآهم قد
لاقوه في عين الشمس قال لها قتلتني ورب الكعبة لمن ذكرتني فقالت والله ما ذكرتك
لأحد إلا لفتيين من هذيل فقال لها والله ما هما من هذيل ولكنهما من بني الديل وقد
جلسا لي وجمعا علي جماعة من قومهم فاذهبي أنت فإذا جزت عليهم فإنهم لن يعرضوا لك
لئلا أستوحش فأفوتهم فاركضي بعيرك وضعي عليه العصا والنجاء النجاء قال فانطلقت وهي
على قعود عقيلي يسابق الريح فلما دنا منهم وقد تلثموا ووضعوا تمرا على طريقه على
كساء فوقف قليلا كأنه يصلح شيئا وجازت بهم أم خراش فلم يعرضوا لها لئلا ينفر منهم
ووضعت العصا على قعودها وتواثبوا إليه ووثب يعدو قال فزاحمه على المحجة التي يسلك
فيها على العقبة ظبي فسبقه أبو خراش وتصايح القوم يا مخلد أخذا أخذا قال ففات
الأخذ فقالوا ضربا ضربا فسبق الضرب فصاحوا رميا رميا فسبق الرمي وسبقت أم خراش إلى
الحي فنادت ألا إن أبا خراش قد قتل فقام أهل الحي إليها وقام أبوه وقال ويحك ما
كانت قصته فقالت إن بني الديل عرضوا له الساعة في العقبة قال فما رأيت أو ما سمعت
قالت سمعتهم يقولون يا مخلد أخذا أخذا قال ثم سمعت ماذا قالت ثم سمعتهم يقولون
ضربا ضربا قال ثم سمعت ماذا قالت سمعتهم يقولون رميا رميا قال فإن كنت سمعت رميا
رميا فقد أفلت وهو منا قريب ثم صاح يا أبا خراش فقال أبو خراش يا لبيك وإذا هو قد وافاهم
على أثرها وقال أبو خراش في ذلك شعره في نجاته من خصومه ( رَفَوْنِي وقالوا يا
خُوَيْلدُ لم تُرَعْ ... فقلت
وأنكرتُ الوجوهَ هُم هُم ) رفوني
بالفاء سكنوني وقالوا لا بأس عليك ( فغارَرْتُ
شيئَاً والدّريسُ كأنما ... يزعزعُه وعْلٌ من المُومِ مُرْدِمُ ) غاررت
تلبثت والدريس الخلق من الثياب ومثله الجرد والسحق والحشيف ومردم لازم ( تذكرتُ
ما أينَ المفرُّ وإنني ... بحبل الذي يُنْجِي من الموت مُعْصِم ) ( فواللهِ
ما ربْدَاءُ أو عِلْجُ عَانةٍ ... أقبُّ وما إنْ تَيْسُ رَمْلٍ مُصَمِّمِ ) ( بأسرعَ
منّي إذ عرفت عَدِيَّهُم ... كأني لأَولاهُمْ من القُرْبِ تَوْأَم ) ( وأجودَ
مِنِّي حينَ وافيْتُ ساعِياً ... وأخطأني خَلْف الثَّنِيَّة أسهُمُ ) ( أُوَائِلُ
بالشَّدِّ الذَّليقِ وحَثَّنِي ... لدى المتن مشبوحَ الذراعين خَلْجَمُ ) ( تَذَكَّرَ
ذَحْلاً عندنا وهو فاتكٌ ... من القوم يَعرُوه اجتراءٌ ومَأْثم ) ( تقول
ابنتي لما رأتني عشيَّةً ... سلمتَ وما إن كِدتَ بالأمس تَسلمُ ) ( فقلتُ
وقد جاوزت صَارَى عشيَّةً ... أجاوزتُ أولَى القوم أم أنا أحلُم ) ( فلولا
دِرَاكُ الشدّ آضتْ حليلَتي ... تخيَّر في خُطَّابِها وَهْيَ أيِّمُ ) ( فتسخَطُ
أو ترضَى مكانِي خليفةً ... وكادَ خِراشٌ عند ذلك يَيْتَم ) عدا
بين فرسين فسبقهما أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن الحسين الكندي خطيب
المسجد الجامع بالقادسية قالا حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال حدثني رجل من
هذيل قال دخل أبو خراش الهذلي مكة وللوليد بن المغيرة المخزومي فرسان يريد أن يرسلهما
في الحلبة فقال للوليد ما تجعل لي إن سبقتهما قال إن فعلت فهما لك فأرسلا وعدا
بينهما فسبقهما فأخذهما قال الأصمعي إذا فاتك الهذلي أن يكون شاعرا أو ساعيا أو
راميا فلا خير فيه وأخبرني بما أذكره من مجموع أخبار أبي خراش علي بن سليمان
الأخفش عن أبي سعيد السكري وأخبرني بما أذكره من مجموع أشعارهم وأخبارهم فذكر أبو
سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن أبي حاتم عن أبي عبيدة وعن ابن حبيب عن أبي
عمرو وأخبرني ببعضه محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي وقد ذكرت
ما رواه في أشعار هذيل وأخبارها كل واحد منهم عن أصحابه في مواضعه قال السكري فيما
رواه عن ابن حبيب عن أبي عمرو قال نزل أبو خراش الهذلي دبية السلمي - وكان صاحب
العزى التي في غطفان وكان يسدنها وهي التي هدمها خالد بن الوليد لما بعثه رسول
الله إليها فهدمها وكسرها وقتل دبية السلمي - قال فلما نزل عليه أبو خراش أحسن
ضيافته ورأى في رجله نعلين قد أخلقتا فأعطاه نعلين من حذاء السبت فقال أبو خراش
يمدحه ( حذَانِيَ بعد ما خَذِمَتْ نِعالي
... دُبَيَّةُ إِنَّهُ نِعمَ الخليلُ ) ( مُقابَلَتين
من صلَوَيْ مُشِبٍّ ... من الثيران وصلُهما جميلُ ) ( بمثلِهما
يروح المرءُ لَهواً ... ويقْضِي الهمَّ ذو الأَربِ الرّجيلِ ) ( فنعم
مُعرَّسُ الأضيافِ تُذْحِي ... رحالَهُم شآميةٌ بَلِيلُ ) ( يُقاتل
جوعَهم بمكلَّلاَتٍ ... من الفُرْنيِّ يَرْعَبُها الجميل ) قال
أبو عمرو الجميل الإهالة ولا يقال لها جميل حتى تذاب إهالة كانت أو شحما وقال أبو
عمرو ولما بعث رسول الله خالد بن الوليد فهدم عزى غطفان وكانت ببطن نخلة نصبها
ظالم بن أسعد بن عامر بن مرة وقتل دبية فقال أبو خراش الهذلي يرثيه ( مَا
لِدُبَيَّةَ منذُ اليوم لم أَرَهُ ... وسْطَ الشُّرُوب ولم يُلْمِمْ ولم يطفِ ) ( لو
كان حيّاً لغاداهم بمُترعَةٍ ... فيها الرّواوِيق من شِيزَى بني الهَطِف ) بنو
الهطف قوم من بني أسد يعملون الجفان ( كَابِي
الرماد عظيمُ القِدْرِ جَفْنَتُه ... حين الشتاء كحَوْضِ المُنْهَلِ اللَّقِف ) - المنهل
الذي إبله عطاش واللقف الذي يضرب الماء أسفله فيتساقط وهو ملآن - ( أمسى
سَقامٌ خَلاءً لا أنيسَ به ... إلا السّباعُ ومَرُّ الريح بالغَرَفِ ) يرثي
زهير بن العجوة وقال الأصمعي وأبو عمرو في روايتهما جميعا أخذ أصحاب رسول الله في
يوم حنين أسارى وكان فيهم زهير بن العجوة أخو بني عمرو بن الحارث فمر به جميل بن
معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وهو مربوط في الأسرى وكانت بينهما إحنة في
الجاهلية فضرب عنقه فقال أبو خراش يرثيه ( فَجَّع
أصحابي جميلُ بن معْمَر ... بذي فَجَرٍ تأوِي إليه الأَراملُ ) ( طويلُ
نِجادِ السيف ليس بحَيْدَرٍ ... إذا قام واستنَّت عليه الحمائِلُ ) ( إلى
بَيْتِهِ يأوي الغريبُ إذا شتا ... ومُهتَلِكٌ بالي الدّريسَيْن عائِلُ ) ( تروَّحَ
مقروراً وراحت عشيّة ... لها حَدَبٌ تحتثُّه فيُوائِلُ ) ( تكاد
يداه تُسْلِمَان رداءَه ... من القُرِّ لمّا استقبلْته الشمائل ) ( فما
بالُ أهلِ الدّار لم يتصدَّعوا ... وقد خفّ منها اللّوذعيُّ الحُلاَحلُ ) ( فأُقسِمُ
لو لاقيتَه غيرَ موثَق ... لآبك بالجِزْع الضّباعُ النّواهلُ ) ( لظلَّ
جميلٌ أَسوأَ القوم تَلَّةً ... ولكنَّ ظَهْرَ القِرْنِ للمَرْء شاغلُ ) ( فليس
كعهدِ الدار يا أمَّ مالكٍ ... ولكنْ أحاطت بالرقاب السلاسل ) ( وعاد
الفتى كالكهل ليس بقائلٍ ... سوى الحقِّ شيئا فاستراح العواذلُ ) ( ولم
أَنْسَ أياماً لنا وليالياً ... بِحَلْيَةَ إذ نلقَى بها ما نحاول ) وقال
أيضا يرثيه ( أَفِي
كلِّ مَمسى ليلةٍ أنا قائل ... من الدهر لا يبعَدْ قتيلُ جميلِ ) ( فما
كنتُ أخشى أن تصيبَ دماءَنا ... قريشٌ ولما يُقتلوا بقتيل ) ( فأبرحُ
ما أُمِّرْتُمُ وعَمَرتُمُ ... مدَى الدهر حتى تُقْتَلُوا بِغَلِيلِ ) شعره
في إنقاذ أسرى وقال أبو عمرو في خبره خاصة أقبل أبو خراش وأخوه عروة وصهيب القردي
في بضعة عشر رجلا من بني قرد يطلبون الصيد فبينا هم بالمجمعة من نخلة لم يرعهم إلا
قوم قريب من عدتهم فظنهم القرديون قوما من بني ذؤيبة أحد بني سعد بن بكر بن هوازن
أو من بني حبيب أحد بني نصر فعدا الهذليون إليهم يطلبونهم وطمعوا فيهم حتى خالطوهم
وأسروهم جميعا وإذا هم قوم من بني ليث بن بكر فيهم ابنا شعوب أسرهما صهيب القردي
فهم بقتلهما وعرفهم أبو خراش فاستنقذهم جميعا من أصحابه وأطلقهم فقال أبو خراش في
ذلك يمن على ابني شعوب أحد بني شجع بن عامر بن ليث فعله بهما ( عدونَا
عدوةً لا شكَّ فيها ... وخِلناهمْ ذُؤيبةَ أو حَبيبا ) ( فنُغرِي
الثائرين بهم وقلنا ... شفاءُ النفس أنْ بَعَثوا الحروبا ) ( مَنَعْنا
من عدِيِّ بني حُنَيفٍ ... صِحابَ مضرّسٍ وابني شَعوبا ) ( فأَثْنُوا
يا بني شِجْع علَيْنَا ... وحقُّ ابني شَعُوبٍ أنْ يُثِيبا ) ( وسائلْ
سَبرةَ الشِّجْعِيِّ عنا ... غداة نخالهم نَجْوا جَنيبا ) ( بأنّ
السّابق القِرْدِيَّ ألقَى ... عليه الثوبَ إذ ولَّى دبيبا ) ( ولولا
ذاكَ أرهقَه صُهيبٌ ... حسامَ الحَدِّ مطروراً خشيبا ) شعره
في زهده أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال
أقفر أبو خراش الهذلي من الزاد أياما ثم مر بامرأة من هذيل جزلة شريفة فأمرت له
بشاة فذبحت وشويت فلما وجد بطنه ريح الطعام قرقر فضرب بيده على بطنه وقال إنك
لتقرقر لرائحة الطعام والله لا طعمت منه شيئا ثم قال يا ربة البيت هل عندك شيء من
صبر أو مر قالت تصنع به ماذا قال أريده فأتته منه بشيء فاقتمحه ثم أهوى إلى بعيره
فركبه فناشدته المرأة فأبى فقالت له يا هذا هل رأيت بأسا أو أنكرت شيئا قال لا
والله ثم مضى وأنشأ يقول ( وإني
لأثْوي الجوعَ حتى يَملَّني ... فأحيا ولم تدنَس ثيابي ولا جِرمي )
( وأصْطَبحُ الماءَ القَراحَ فأكتفي
... إذا الزادُ أضحَى للمزلَّجِ ذَا طَعْم ) ( أردُّ
شجاعَ البطن قد تَعلمِينه ... وأوثر غيرِي من عِيالك بالطُّعْم ) ( مخافَة
أن أحيا برَغمٍ وذِلَّةٍ ... فلِلْمَوْتُ خيرٌ من حياةٍ على رُغْم ) يفتدي
أخاه عروة بن مرة وأخبرني عمي عن هارون بن محمد الزيات عن أحمد بن الحارث عن
المدائني بنحو مما رواه الأصمعي وقال أبو عمرو أسرت فهم عروة بن مرة أخا أبي خراش
وقال غيره بل بنو كنانة أسرته فلما دخلت الأشهر الحرم مضى أبو خراش إليهم ومعه
ابنه خراش فنزل بسيد من ساداتهم ولم يعرفه نفسه ولكنه استضافه فأنزله وأحسن قراه
فلما تحرم به انتسب له وأخبره خبر أخيه وسأله معاونته حتى يشتريه منهم فوعده بذلك
وغدا على القوم مع ذلك الرجل فسألهم في الأسير أن يهبوه له فما فعلوا فقال لهم
فبيعونيه فقالوا أما هذا فنعم فلم يزل يساومهم حتى رضوا بما بذله لهم فدفع أبو
خراش إليهم ابنه خراشا رهينة وأطلق أخاه عروة ومضيا حتى أخذ أبو خراش فكاك أخيه
وعاد به إلى القوم حتى أعطاهم إياه وأخذ ابنه فبينما أبو خراش ذات يوم في بيته إذ
جاءه عبد له فقال إن أخاك عروة جاءني وأخذ شاة من غنمك فذبحها ولطمني لما منعته
منها فقال له دعه فلما كان بعد أيام عاد فقال له قد أخذ أخرى فذبحها فقال دعه فلما
أمسى قال له إن أخاك اجتمع مع شرب من قومه فلما انتشى جاء إلينا وأخذ ناقة من إبلك
لينحرها لهم فعاجله فوثب أبو خراش إليه فوجده قد أخذ الناقة لينحرها فطردها أبو
خراش فوثب أخوه عروة إليه فلطم وجهه وأخذ الناقة فعقرها وانصرف أبو خراش فلما كان
من غد لامه قومه وقالوا له بئست لعمر الله المكافأة كانت منك لأخيك رهن ابنه فيك
وفداك بماله ففعلت به ما فعلت فجاء عروة يعتذر إليه فقال أبو خراش ( لَعَلَّكَ
نافعي يا عُروَ يوماً ... إذا جاورْتُ مَنْ تحتَ القبورِ ) ( أخذتَ
خُفَارَتِي ولطمتَ عَيْني ... وكيف تُثِيبُ بالمنِّ الكبيرِ ) ( ويوم
قد صبْرتُ عليكَ نفسي ... لدى الأشْهَادِ مُرْتَدِي الحرورِ ) ( إذا
ما كان كَسُّ القوم رَوْقاً ... وجالت مقلتا الرجل البصير ) ( بما
يممتُه وتركْتُ بِكْرى ... وما أُطْعِمْتَ من لحم الجَزُور ) قال
معنى قوله بكري أي بكر ولدي أي أولهم كان بنو مرة عشرة وقال الأصمعي وأبو عبيدة
وأبو عمرو وابن الأعرابي كان بنو مرة عشرة أبو خراش وأبو جندب وعروة والأبح
والأسود وأبو الأسود وعمرو وزهير وجناد وسفيان وكانوا جميعا شعراء دهاة سراعا لا
يدركون عدوا فأما الأسود بن مرة فإنه كان على ماء من داءة وهو غلام شاب فوردت عليه
إبل رئاب بن ناضرة بن المؤمل من بني لحيان ورئاب شيخ كبير فرمى الأسود ضرع ناقة من
الإبل فعقرها فغضب رئاب فضربه بالسيف فقتله وكان أشدهم أبو جندب فعرف خبر أخيه
فغضب غضبا شديدا وأسف فاجتمعت رجال هذيل إليه يكلمونه وقالوا خذ عقل أخيك واستبق
ابن عمك فلم يزالوا به حتى قال نعم اجمعوا العقل فجاؤوه به في مرة واحدة فلما
أراحوه عليه صمت فطال صمته فقالوا له أرحنا اقبضه منا فقال إني أريد أن أعتمر
فاحبسوه حتى أرجع فإن هلكت فلأم ما أنتم هذه لغة هذيل يقولون أم بالكسر ولا
يستعملون الضم - وإن عشت فسوف ترون أمري وولى ذاهبا نحو الحرم فدعا عليه رجال من
هذيل وقالوا اللهم لا ترده فخرج فقدم مكة فواعد كل خليع وفاتك في الحرم أن يأتوه
يوم كذا وكذا فيصيب بهم قومه فخرج صادرا حتى أخذته الذبحة في جانب الحرم فمات قبل
أن يرجع فكان ذلك خبره خبر أخيه زهير قالوا وأما زهير بن مرة فخرج معتمرا قد جعل
على جسده من لحاء الحرم حتى ورد ذات الأقير من نعمان فبينا هو يسقي إبلا له إذ ورد
عليه قوم من ثمالة فقتلوه فله يقول أبو خراش وقد انبعث يغزو ثمالة ويغير عليهم حتى
قتل منهم بأخيه أهل دارين أي حلتين من ثمالة ( خذوا
ذلكم بالصُّلْحِ إني رأيتُكُم ... قتلتم زُهيرا وهو مهْدٍ ومُهْمِل ) مهد
أي أهدى هديا للكعبة ومهمل قد أهمل إبله في مراعيها ( قتلتم
فتى لا يفجُرُ الله عامداً ... ولا يجتويه جارُه عامَ يُمْحِلُ ) ولهم
يقول أبو خراش ( إنّي
امرؤٌ أَسْأَلُ كيما أَعلَما ... مَنْ شَرُّ رَهْطٍ يَشْهَدُونَ الموسِمَا ) ( وجدتُهم
ثُمالة بنَ أسلمَا ... ) وكان
أبو خراش إذا لقيهم في حروبه أوقع بهم ويقول ( إليك
أمَّ ذِبَّان ... ما ذاكِ من حلْبِ الضَّانْ ) ( لكن
مِصاع الفِتيانْ ... بكل لِيْنٍ حَرّان ) خبر
أخيه عروة قال وأما عروة بن مرة وخراش بن أبي خراش فأخذهما بطنان من ثمالة يقال
لهما بنو رزام وبنو بلال وكانوا متجاورين فخرج عروة بن مرة وابن أبي خراش أخيه
مغيرين عليهم طمعا في أن يظفروا من أموالهم بشيء فظفر بهما الثماليون فأما بنو
رزام فنهوا عن قتلهما وأبت بنو بلال إلا قتلهما حتى كاد يكون بينهم شر فألقى رجل
من القوم ثوبه على خراش حين شغل القوم بقتل عروة ثم قال له انج وانحرف القوم بعد
قتلهم عروة إلى الرجل وكانوا أسلموه إليه فقالوا أين خراش فقال أفلت مني فذهب فسعى
القوم في أثره فأعجزهم فقال أبو خراش في ذلك يرثي أخاه عروة ويذكر خلاص ابنه ( حمدتُ
إِلَهي بعد عُروةَ إذ نجا ... خراشٌ وبعضُ الشرِّ أهونُ من بعضِ ) ( فواللهِ
لا أَنسَى قتيلاً رُزِيتَه ... بجانب قَوْسَى ما حييتُ على الأرضِ ) ( بلى
إنها تَعفو الكلومُ وإنما ... نُوكِّلُ بالأَدْنى وإن جلَّ ما يَمضِي ) ( ولم
أدر مَن أَلْقَى عليه رداءَهُ ... سوى أنه قد سُلَّ عن ماجِدٍ محضِ ) ( ولم
يك مثلوجَ الفؤاد مهبَّلاً ... أضاع الشبابَ في الرّبيلَةِ والخفض ) ( ولكنهُ
قد نازعته مَجَاوعٌ ... على أنه ذو مرة صادق النهض ) قال
ثم إن أبا خراش وأخاه عروة استنفرا حيا من هذيل يقال لهم بنو زليفة بن صبيح ليغزوا
ثمالة بهم طالبين بثأر أخيهما فلما دنوا من ثمالة أصاب عروة ورد حمى وكانت به حمى
الربع فجعل عروة يقول ( أصبحتُ
موروداً فقرّبُوني ... الى سواد الحيِّ يَدْفِنوني ) ( إنّ
زهيراً وسطَهم يَدعوني ... رَبَّ المخاض والِلِّقاحِ الجُون ) فلبثوا
إلى أن سكنت الحمى ثم بيتوا ثمالة فوجدوهم خلوفا ليس فيهم رجال فقتلوا من وجدوا من
الرجال وساقوا النساء والذراري والأموال وجاء الصائح إلى ثمالة عشاء فلحقوهم
وانهزم أبو خراش وأصحابه وانقطعت بنو زليفة فنظر الأكنع الثمالي - وكان مقطوع
الأصبع - إلى عروة فقال يا قوم ذلك والله عروة وأنا والله رام بنفسي عليه حتى يموت
أحدنا وخرج يمعج نحو عروة فصلح عروة بأبي خراش أخيه أي أبا خراش هذا والله الأكنع
وهو قاتلي فقال أبو خراش أمضه وقعد له على طريقه ومر به الأكنع مصمما على عروة وهو
لا يعلم بموضع أبي خراش فوثب عليه أبو خراش فضربه على حبل عاتقه حتى بلغت الضربة
سحره وانهزمت ثمالة ونجا أبو خراش وعروة وقال أبو خراش يرثي أخاه ومن قتلته ثمالة
وكنانة من أهله وكان الأصمعي يفضلها ( فَقَدْتُ
بني لُبْنَى فلما فقدتُهم ... صبَرتُ فلم أقطعْ عليهم أَبَاجِلي ) الأبجل
عرق في الرجل ( رماحٌ
من الخطِّيِّ زُرْقٌ نِصالُها ... حِدادٌ أعاليها شِدادُ الأسافلِ ) ( فلَهفِي
على عمرِو بن مُرَّة لهفةً ... ولهْفِي على ميْتٍ بقَوسَى المعاقل ) ( حِسانُ
الوجوه طيِّبٌ حُجُزَاتُهُم ... كريمٌ نَثاهم غيرُ لُفٍّ مَعازلِ ) ( قتلتَ
قتيلاً لا يُحَالِفُ غَدْرَةً ... ولا سُبَّةً لا زِلتَ أسفلَ سافل ) ( وقد
أَمِنُونِي واطمأنّتْ نفوسُهم ... ولم يعلموا كلّ الذي هو داخلي ) ( فمن
كان يرجو الصلْحَ مِنِّي فإنه ... كأحمرِ عاد أو كُلَيْبِ بنِ وائلِ ) ( أُصيبتْ
هُذيلٌ بابن لُبْنَى وجُدّعت ... أُنوفُهُمُ باللَّوْذعيِّ الحُلاَحِل ) ( رأيتُ
بني العَلاَّتِ لما تضافروا ... يَحوزون سَهْمي دونَهمْ بالشَّمائل ) أخبار
سائر إخوته قالوا وأما أبو الأسود فقتلته فهم بياتا تحت الليل وأما الأبح فكان
شاعرا فأمسى بدار بعرعر من ضيم فذكر لسارية بن زنيم العبدي أحد بني عبد بن عدي ابن
الديل فخرج بقوم من عشيرته يريده ومن معه فوجدوهم قد ظعنوا وكان بين بني عبد بن
عدي بن الديل وبينهم حرب فقال الأبح في ذلك ( لعمرُكَ
سارِيَ بْنَ أبي زُنَيْمٍ ... لأَنْتَ بعَرْعَرَ الثأرُ المنيمُ ) ( تركتَ
بني معاويةَ بنِ صخرٍ ... وأنت بمربَعٍ وهُمُ بضِيمِ ) ( تُساقيهمْ
على رَصَفٍ وظُرٍّ ... كدابغةٍ وقد حَلِم الأَديمُ ) رصف
وظر ماءان ومربع وضيم موضعان ( فلم
نتركُهُم قصداً ولكنْ ... فرِقْتَ من المصالِت كالنّجوم ) ( رأيتَهُم
فوارسَ غيرَ عُزْلٍ ... إذا شَرِقَ المُقاتِلُ بالكُلومِ ) فأجابه
سارية قال ( لعلِك يا أَبَحُّ حسِبْتَ أنّي ...
قتلتُ الأسودَ الحسَن الكريمَا ) ( أخذتُمْ
عقِلَة وتركتُمُوه ... يسوق الظُّمْيَ وسْطَ بني تميمَا ) عيرهم
بأخذ دية الأسود بن مرة أخيهم وأنهم لم يدركوا بثأره وبنو تميم من هذيل قالوا وأما
جنادة وسفيان فماتا وقتل عمرو ولم يسم قاتله قالوا وأمهم جميعا لبنى إلا سفيان بن
مرة فإن أمه أم عمرو القردية وكان أيسر القوم وأكثرهم مالا وقال أبو عمرو وغزا أبو
خراش فهما فأصاب منهم عجوزا وأتى بها منزل قومه فدفعها إلى شيخ منهم وقال احتفظ
بها حتى آتيك وانطلق لحاجته فأدخلته بيتا صغيرا وأغلقت عليه وانطلقت فجاء أبو خراش
وقد ذهبت فقال ( سَدَّتْ
عليه دَوْلَجاً ثم يَمَّمَتْ ... بنيِ فالجٍ بالليث أهلَ الخزائم ) الدولج
بيت صغير يكون للبهم والليث ماء لهم والخزائم البقر واحدتها خزومة ( وقالت
له دَنِّخْ مكانَكَ إنني ... سألقاك إن وافيتَ أهلَ المواسم ) يقال
دنخ الرجل ودمخ إذا أكب على وجهه ويديه وقال أبو عمرو دخلت أميمة امرأة عروة بن
مرة على أبي خراش وهو يلاعب ابنه فقالت له يا أبا خراش تناسيت عروة وتركت الطلب
بثأره ولهوت مع ابنك أما والله لو كنت المقتول ما غفل عنك ولطلب قاتلك حتى يقتله
فبكى أبو خراش وأنشأ يقول ( لعمري
لقد راعتْ أُميمةَ طلعَتِي ... وإنّ ثَوائي عندها لقليلُ ) ( وقالت
أُراه بعد عُرْوة لاهِياً ... وذلك رُزْءٌ لو علمْت جليلُ ) ( فلا
تحسبي أني تناسيْتُ فقْدَهُ ... ولكنَّ صبري يا أُمَيْمَ جميلُ ) ( ألم
تعلمِي أنْ قدْ تفرّق قبلَنَا ... نديما صفاءٍ مالكٌ وعَقِيلُ ) ( أبى
الصبرَ أنّى لا يزال يَهِيجُنِي ... مبيتٌ لنا فيما خلا ومَقيلُ ) ( وأني
إذا ما الصُّبحُ آنَسْتُ ضوءَه ... يعاودني قُطْعٌ عليّ ثقيلُ ) قال
أبو عمرو فأما أبو جندب أخو أبي خراش فإنه كان جاور بني نفاثة ابن عدي بن الديل
حينا من الدهر ثم أنهم هموا بأن يغدروا به وكانت له إبل كثيرة فيها أخوه جنادة
فراح عليه أخوه جنادة ذات ليلة وإذا به كلوم فقال له أبو جندب مالك فقال ضربني رجل
من جيرانك فأقبل أبو جندب حتى أتى جيرانه من بني نفاثة فقال لهم يا قوم ما هذا
الجوار لقد كنت أرجو من جواركم خيرا من هذا أيتجاور أهل الأعراض بمثل هذا فقالوا
أو لم يكن بنو لحيان يقتلوننا فوالله ما قرت دماؤنا وما زالت تغلي والله إنك للثأر
المنيم فقال أما إنه لم يصب أخي إلا خير ولكنما هذه معاتبة لكم وفطن للذي يريد
القوم من الغدر به وكان بأسفل دفاق فأصبحوا ظاعنين وتواعدوا ماء ظر فنفذ الرجال
إلى الماء وأخروا النساء لأن يتبعنهم إذا نزلوا واتخذوا لحياض الإبل فأمر أبو جندب
أخاه جنادة وقال له اسرح مع نعم القوم نعم توقف وتأخر حتى تمر عليك النعم كلها
وأنت في آخرها سارح بإبلك واتركها متفرقة في المرعى فإذا غابوا عنك فاجمع إبلك
واطردها نحو أرضنا وموعدك نجد ألوذثنية في طريق بلاده وقال لامرأته أم زنباع وهي
من بني كلب بن عوف اظعني وتمكثي حتى تخرج آخر ظعينة من النساء ثم توجهي فموعدك
ثنية يدعان من جانب النخلة وأخذ أبو جندب دلوه وورد مع الرجال فاتخذ لقوم الحياض
واتخذ أبو جندب حوضا فملأه ماء ثم قعد عنده فمرت به إبل ثم إبل فكلما وردت إبل سأل
عن إبله فيقولون قد بلغت تركناها بالضجن ثم قدمت النساء كلما قدمت ظعينة سألها عن
أهله فيقولون بلغتك تركناها تظعن حتى إذا ورد آخر النعم وآخر الظعن قال والله لقد
حبس أهلي حابس أبصر يا فلان حتى أستأنس أهلي وإبلي وطرح دلوه على الحوض ثم ولى حتى
أدرك القوم بحيث وعدهم فقال أبو جندب في ذلك ( أَقول
لأُمِّ زِنْباعٍ أَقِيمي ... صُدورَ العِيسِ شطرَ بني تميم ) ( وغَرَّبْتُ
الدّعَاءَ وأَيْنَ منِّي ... أُناسٌ بين مرَّ وذي يَدومِ ) غربت
الدعاء دعوت من بعيد ( وَحَيٍّ
بالمناقب قد حمَوْها ... لدى قُرَّانَ حتى بطنِ ضِيمِ ) ( وأحياءٍ
لدى سعْدِ بن بكر ... بأَملاحٍ فظاهرةِ الأديم ) ( أُولئِكَ
معشري وهُمُ أرومي ... وبعض القوم ليس بذي أَرومِ ) ( هنالِكَ
لو دَعَوْتَ أَتَاكَ منهم ... رجالٌ مثل أَرمِيةِ الحميمِ ) الأرمية
السحاب الشديد الوقع واحدها رمي والحميم مطر القيظ ( أَقلَّ
الله خَيْرَهُم أَلمَّا ... يَدَعْهُم بعضُ شرّهُم القديم ) ( أَلمَّا
يَسلم الجيرانُ منهم ... وقد سال الفِجاج من الغميم ) ( غداةَ
كأَنَّ جنَّادَ بن لُبنى ... به نضخُ العبيرِ من الكُلومِ ) ( دعا
حَوْلي نفاثةُ ثم قالوا ... لعلك لسْتَ بالثّأْر المنيمِ ) المنيم
الذي إذا أدرك استراح أهله وناموا ( نعوْا
مَنْ قَتَّلَتْ لِحَيانُ منهم ... ومن يغترُّ بالْحربِ القرومِ ) قالوا
جميعا وكان أبو جندب ذا شر وبأس وكان قومه يسمونه المشؤوم فاشتكى شكوى شديدة وكان
له جار من خزاعة يقال له حاطم فوقعت به بنو لحيان فقتلوه قبل أن يستبل أبو جندب من
مرضه واستاقوا أمواله وقتلوا امرأته وقد كان أبو جندب كلم قومه فجمعوا لجاره غنما
فلما أفاق أبو جندب من مرضه خرج من أهله حتى قدم مكة ثم جاء يمشي حتى استلم الركن
وقد شق ثوبه عن استه فعرف الناس أنه يريد شرا فجعل يصيح ويقول ( إنّي
امرؤ أبكي على جارَيَّهْ ... أبكي على الكعبيِّ والكعبيَّهْ ) ( ولو
هَلكْتُ بَكَيا عليَّهْ ... كَانا مكَان الثوب من حَقْويَّه ) فلما
فرغ من طوافه وقضى حاجته من مكة خرج في الخلعاء من بكر وخزاعة فاستجاشهم على بني
لحيان فقتل منهم قتلى وسبى من نسائهم وذراريهم سبايا وقال في ذلك ( لقد
أمسى بنو لِحْيان منّي ... بحمد الله في خِزْيٍ مُبين ) ( تركتهمُ
على الرّكَباتِ صُعْراً ... يُشِيبُون الذَّوائب بالأنِين ) يشكو
إلى عمر شوقه إلى ابنه أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي
الأصمعي قال حدثني عمي قال هاجر خراش بن أبي خراش الهذلي في أيام عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وغزا مع المسلمين فأوغل في أرض العدو فقدم أبو خراش المدينة فجلس بين
يدي عمر وشكا إليه شوقه إلى ابنه وأنه رجل قد انقرض أهله وقتل إخوته ولم يبق له
ناصر ولا معين غير ابنه خراش وقد غزا وتركه وأنشأ يقول ( ألا
مَن مُبلغٌ عني خِراشاً ... وقد يأْتيك بالنّبأ البعيدُ ) ( وقد
يأتيكَ بالأخبار مَنْ لا ... تُجَهِّزُ بالحِذاء ولا تُزِيدُ ) - تزيد
وتزود واحد من الزاد - ( يُناديه
ليَغْبِقَه كَلِيبٌ ... ولا يأْتِي لقد سَفُه الوليدُ ) ( فردَّ
إناءَه لا شيءَ فيه ... كأنَّ دموعَ عينيه الفَريدُ ) ( وأصبحَ
دون عابقِه وأمسى ... جبالٌ من حِرارِ الشام سُودُ ) ( ألا
فاعلم خِراشُ بأنّ خيرَ المهاجر ... بعد هجرته زهيدُ ) ( رأيتكَ
وابتغاءَ البِرِّ دوني ... كمحصورِ اللَّبان ولا يصيدُ ) قال
فكتب عمر رضي الله عنه بأن يقبل خراش إلى أبيه وألا يغزو من كان له أب شيخ إلا بعد
أن يأذن له أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي وأخبرني
حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي
عن أبيه وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال أبو عبيدة وأخبرني
أيضا هاشم قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه وذكره أبو سعيد السكري في
رواية الأخفش عنه عن أصحابه قالوا جميعا أسلم أبو خراش فحسن إسلامه ثم أتاه نفر من
أهل اليمن قدموا حجاجا فنزلوا بأبي خراش والماء منهم غير بعيد فقال يا بني عمي ما
أمسى عندنا ماء ولكن هذه شاة وبرمة وقربة فردوا الماء وكلوا شاتكم ثم دعوا برمتنا
وقربتنا على الماء حتى نأخذها قالوا والله ما نحن بسائرين في ليلتنا هذه وما نحن ببارحين
حيث أمسينا فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى
ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل أن يصل إليهم فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال
اطبخوا شاتكم وكلوا ولم يعلمهم بما أصابه فباتوا على شاتهم يأكلون حتى أصبحوا
وأصبح أبو خراش في الموت فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يعالج الموت ( لعمرُكَ
والمنايا غالباتٌ ... على الإنسان تطلُع كلَّ نجدِ ) ( لقد
أهلكْتِ حيّةَ بطنِ أنفٍ ... على الأصحابِ ساقاً ذاتَ فقد ) وقال
أيضا ( لقد أهلكتِ حيةَ بطن أنفٍ ... على
الأصحاب ساقاً ذاتَ فضلِ ) ( فما
تركتْ عدوًّا بين بُصْرَى ... إلى صنعاءَ يطلبُهُ بذَحْل ) قال
بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه خبره فغضب غضبا شديدا وقال لولا أن تكون سبة لأمرت
ألا يضاف يمان أبدا ولكتبت بذلك إلى الآفاق إن الرجل ليضيف أحدهم فيبذل مجهوده
فيسخطه ولا يقبله منه ويطالبه بما لا يقدر عليه كأنه يطالبه بدين أو يتعنته ليفضحه
فهو يكلفه التكاليف حتى أهلك ذلك من فعلهم رجلا مسلما وقتله ثم كتب إلى عامله
باليمن بأن يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرمهم ديته ويؤدبهم بعد ذلك بعقوبة
تمسهم جزاء لأعمالهم صوت ( تهيمُ بها لا الدهرُ فانٍ ولا المنى ... سواها ولا
يُنسيك نَأْيٌ ولا شُغلُ ) ( كبيضةِ
أُدحيٍّ بِميثِ خميلةٍ ... يحفِّفها جَوْنٌ بجؤجؤه صَعْلُ ) الشعر
لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى عن ابن المكي أخبار
ابن دارة ونسبه هو عبد الرحمن بن مسافع بن دارة وقيل بل هو عبد الرحمن بن ربعي بن
مسافع بن دارة وأخوه مسافع بن دارة وكلاهما شاعر وفي شعريهما جميعا غناء يذكر
هاهنا وأخوهما سالم بن مسافع بن دارة شاعر أيضا وفي بعض شعره غناء يذكر بعد أخبار
هذين فأما سالم فمخضرم قد أدرك الجاهلية والإسلام وأما هذان فمن شعراء الإسلام
ودارة لقب غلب على جدهم ومسافع أبوهم وهو ابن شريح بن يربوع الملقب بدارة بن كعب
بن عدي بن جشم بن عوف بن بهثة بن عبد الله بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر
وهذا الشعر يقوله عبد الرحمن في حبس السمهري العكلي اللص وقتله وكان نديما له وأخا
هجا بني أسد وحرض عكلا عليهم أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو
غسان دماذ عن أبي عبيدة قال لما أخذ السمهري العكلي وحبس وقتل - وكانت بنو أسد
أخذته وبعثت به إلى السلطان وكان نديما لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة فقتل بعد طول
حبس - فقال عبد الرحمن بن مسافع يهجو بني أسد ويحرض عليهم عكلا صوت ( إن يُمْسِ
بالعينين سُقْمٌ فقد أتى ... لعينيكَ من طول البكاء على جُمْلِ ) ( تهيمُ
بها لا الدهرُ فانٍ ولا المنى ... سواها ولا تُسلى بنَأْيٌ ولا شُغلِ ) ( كبيضةِ
أُدحيٍّ بِمْيثِ خميلةٍ ... يُحَفِّفها جَوْنٌ بجؤجؤه الصَّعْلِ ) ( وما
الشمسُ تبدو يومَ غيم فأَشرقَتْ ... على الشّامة العنقاء فالنَّير فالذبل ) ( بدا
حَاجبٌ منهَا وضنَّتْ بحَاجبٍ ... بأَحسن منها يوم زالت على الحمْلِ ) ( يقولون
إزْلٌ حُبُّ جُمْلٍ وقُرْبُها ... وقد كذبوا ما في المودة من إزلِ ) ( إذا
شحَطتْ عنّي وجدتُ حرارةٍ ... على كبِدي كادت بها كَمداً تغلي ) ( ولم
أَرَ محزونَين أجملَ لوعةً ... على نائباتِ الدهرِ مِنِّي ومن جُمل ) ( كلانا
يذود النفسَ وهْي حزينةٌ ... ويُضمِرُ وجداً كَالنوافذ بالنبل ) ( وإنِّي
لمُبلِي اليأْسِ من حُبّ غيرها ... فأَمَّا على جُمْلٍ فإِنِّي لا أُبلي ) ( وإنَّ
شفاء النفس لو تُسْعِفُ المنى ... ذواتُ الثنايا الغُرّ والحدَقِ النُّجلِ ) ( أُولئِك
إن يَمْنَعْنَ فالمنعُ شِيمةٌ ... لهنَّ وإنْ يُعْطِينَ يُحْمَدْن بالبذلِ ) ( سأُمْسِك
بالوصل الذي كان بيننا ... وهل تركَ الواشون والنأْيُ من وصل ) ( أَلا
سَقِّيَانِي قهوةً فارسيّةً ... من الأوَّل المختوم ليست من الفضل ) ( تُنسّي
ذوي الأحلامِ واللبِّ حلمَهم ... إذا أَزبدت في دَنِّهَا زَبدَ الفحل ) ( ويا
راكباً إمَّا عرضت فبلِّغَنْ ... عَلَى نأْيهم مني القبائلَ من عُكل ) ( بأنَّ
الذي أمست تجمجم فقعَسٌ ... إسارٌ بلا أَسْرٍ وقتلٌ بلا قتلِ ) ( وكيف
تنام الليلَ عُكلٌ ولم تنَل ... رِضَى قَوَدٍ بالسمْهريّ ولا عقل ) ( فلا
صلحَ حتى تَنْحِط الخيلُ في القنا ... وتوقدَ نارُ الحرب بالحطب الجزل ) ( وَجُرْدٍ
تَعادَى بالكماة كأنها ... تُلاحِظ من غيظٍ بأَعينها القُبْل ) ( عليها
رجال جالدوا يوم مَنْعِجٍ ... ذوي التاج ضرَّابو الملوكِ على الوَهل ) ( بضربٍ
يُزيل الهامَ عن مستقرِّه ... وطعنٍ كأَفواه المفرَّجة الهُدْل ) ( علامَ
تُمشّي فقعسٌ بدمائكم ... وما هي بالفَرع المُنيفِ ولا الأصل ) ( وكنّا
حسِبنا فقعساً قبل هذه ... أذلَّ على وقع الهوان من النَّعْل ) ( فقد
نظرتْ نحو السماءِ وسلّمَت ... على الناس واعتاضت بخِصْبٍ من المحل ) ( رمى
الله في أكبادكم أن نجت بها ... شِعابُ القِنان من ضعيفٍ ومن وَغْل ) ( وإن
أنتُم لم تثأروا بأخيكم ... فكونوا نِساءً للخَلوق وللكُحْلِ ) ( وبيعوا
الرّدينياتِ بالحَلْي واقْعُدوا ... على الذلّ وابتاعوا المغازل بالنّبل ) ( ألا
حبّذا من عندَهُ القلبُ في كَبْلٍ ... ومَنْ حُبّه داءٌ وخبْلٌ من الخبل ) ( ومَن
هو لا يُنسَى ومَنْ كلُّ قَولِه ... لدينا كطعم الراح أو كجَنَى النّحل ) ( ومن
إن نأَى لم يحدث النأْيُ بُغضَه ... ومن إن دنا في الدار أُرْصِدَ بالبَذْلِ ) وأما
خبر السمهري ومقتله فإن علي بن سليمان الأخفش أخبرني به قال حدثنا أبو سعيد السكري
قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني قال خبر مصرع السمهري لقي السمهري بن
بشر بن أقيش بن مالك بن الحارث بن أقيش العكلي ويكنى أبا الديل هو وبهدل ومروان بن
قرفة الطائيان عون بن جعدة بن هبيرة ابن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن
مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ومعه خاله أحد بني حارثة بن لأم من طي
بالثعلبية وهو يريد الحج من الكوفة أو يريد المدينة وزعم آخرون أنهم لقوه بين نخل والمدينة
فقالوا له العراضة أي مر لنا بشيء فقال يا غلام جفن لهم فقالوا لا والله ما الطعام
نريد فقال عرضهم فقالوا ولا ذلك نريد فارتاب بهم فأخذ السيف فشد عليهم وهو صائم
وكان بهدل لا يسقط له سهم فرمى عونا فأقصده فلما قتلوه ندموا فهربوا ولم يأخذوا
إبله فتفرقت إبله ونجا خاله الطائي إما عرفوه فكفوا عن قتله وإما هرب ولم يعرف القتلة
فوجد بعض إبله في يدي شافع بن واتر الأسدي وبلغ عبد الملك بن مروان الخبر فكتب إلى
الحجاج بن يوسف وهو عامله على العراق وإلى هشام بن إسماعيل وهو عامله على المدينة
وإلى عامل اليمامة أن يطلبوا قتلة عون ويبالغوا في ذلك وأن يأخذوا السعاة به أشد
أخذ ويجعلوا لمن دل عليهم جعله وانشام السمهري في بلاد غطفان ما شاء الله ثم مر
بنخل فقالت عجوز من بني فزارة أظن والله هذا العكلي الذي قتل عونا فوثبوا عليه
فأخذوه ومر أيوب بن سلمة المخزومي بهم فقالت له بنو فزارة هذا العكلي قاتل عون ابن
عمك فأخذه منهم فأتى به هشام ابن إسماعيل المخزومي عامل عبد الملك على المدينة
فجحد وأبى أن يقر فرفعه إلى السجن فحبسه وزعم آخرون أن بني عذرة أخذوه فلما عرفت
إبل عون في يدي شافع ابن واتر اتهموه بقتله فأخذوه وقالوا أنت قرفتنا قتلت عونا
وحبسوه بصل ماء لبني أسد وجحد وقد كان عرف من قتله إما أن يكون كان معهم فورى عنهم
وبرأ نفسه وإما أن يكون أودعوها إياه أو باعوها منه فقال شافع ( فإن
سرَّكم أن تعلموا أين ثأْرُكُم ... فسلمَى معانٌ وابن قرفة ظالمُ ) ( وفي
السجن عُكْلِيٌّ شَريك لبهدل ... فولّوا ذُبابَ السّيف من هْو حازم ) ( فوالله
ما كنا جُناةً ولا بنا ... تأوّب عونا حتفُه وهو صائم ) فعرفوا
من قتله فألحوا على بهدل في الطلب وضيقوا على السمهري في القيود والسجن وجحد فلما
كان ذلك من إلحاحهم على السمهري أيقنت نفسه أنه غير ناج فجعل يلتمس الخروج من
السجن فلما كان يوم الجمعة والإمام يخطب وقد شغل الناس بالصلاة فك إحدى حلقتي قيده
ورمى بنفسه من فوق السجن والناس في صلاتهم فقصد نحو الحرة فولج غارا من الحرة
وانصرف الإمام من الصلاة فخاف أهل المدينة عامتهم أتباعه وغلقوا أبوابهم وقال لهم
الأمير اتبعوه فقالوا وكيف نتبعه وحدنا فقال لهم أنتم ألفا رجل فكيف تكونون وحدكم
فقالوا أرسل معنا الأبليين وهم حرس وأعوان من أهل الأبلة فأعجزهم الطلب فلما أمسى
كسر الحلقة الأخرى ثم همس ليلته طلقا فأصبح وقد قطع أرضا بعيدة فبينا هو يمضي إذ
نعب غراب عن شماله فتطير فإذا الغراب على شجرة بان ينشنش ريشه ويلقيه فاعتاف شيئا
في نفسه فمضى وفيها ما فيها فإذا هو قد لقي راعيا في وجهه ذلك فسأله من أنت قال
رجل من لهب من أزد شنوءة أنتجع أهلي فقال له هل عندك شيء من زجر قومك فقال إني
لآنس من ذلك شيئا أي لأبصر فقص عليه حاله غير أنه ورى الذنب على غيره والعيافة
وخبره عن الغراب والشجرة فقال اللهبي هذا الذي فعل ما فعل ورأى الغراب على البانة
يطرح ريشه سيصلب فقال السمهري بفيك الحجر فقال اللهبي بل بفيك الحجر استخبرتني
فأخبرتك ثم تغضب ثم مضى حتى اغترز في بلاد قضاعة وترك بلاد غطفان وذكر بعض الرواة
أنه توقف يومه وليلته فيما يعمله وهل يعود من حيث جاء ثم سار حتى أتى أرض عذرة بن
سعد يستجير القوم فجاء إلى القوم متنكرا ويستحلب الرعيان اللبن فيحلبون له ولقيه
عبد الله الأحدب السعدي أحد بني مخزوم من بني عبد شمس وكان أشد منه وألص فجنى
جناية فطلب فترك بلاد تميم ولحق ببلاد قضاعة وهو على نجيبة لا تساير فبينا السمهري
يماشي راعيا لبني عذرة ويحدثهم عن خيار إبلهم ويسأله السمهري عن ذلك - وإنما يسأله
عن أنجاهن ليركبها فيهرب بها لئلا يفارق الأحدب - أشار له إلى ناقة فقال السمهري
هذه خير من التي تفضلها هذه لا تجارى فتحين الغفلة فلما غفل وثب عليها ثم صاح بها
فخرجت تطير به وذلك في آخر الليل فلما أصبحوا فقدوها وفقدوه فطلبوه في الأثر وخرجا
حتى إذا كان حجر عن يسارهما وهو واد في جبل أو شبه الثقب في استقبلتهما سعة هي
أوسع من الطريق فظنا أن الطريق فيها فسارا مليا فيها ولا نجم يأتمان به فلما عرفا
أنهما حائدان والتفت عليهما الجبال أمامهما وجد الطلب إثر بعيريهما ورأوه وقد سلك الثقب
في غير طريق عرفوا أنه سيرجع فقعدوا له بفم الثقب ثم كرا راجعين وجاءت الناقة وعلى
رأسها مثل الكوكب من لغامها فلما أبصر القوم هم أن يعقر ناقتهم فقال له الأحدب ما
هذا جزاؤها فنزل ونزل الأحدب فقاتلهما القوم حتى كادوا يغشون السمهري فهتف بالأحدب
فطرد عنه القوم حتى توقلا في الجبل وفي ذلك يقول السمهري يعتذر من ضلاله متفرقات
من شعر السمهري ( وما كنتُ - مِحْيَاراً ولا فزِعَ السُّرَى ... ولكن
حِذَا حجْرٍ بغيرِ دليل ) وقال
الأحدب في ذلك ( لمّا
دعاني السمهريُّ أجبتُه ... بأبيضَ من ماء الحديد صقيلِ ) ( وما
كنتُ ما اشتدّتْ على السيفِ قبضتي ... لأُسْلِمَ من حُبِّ الحياة زميلي ) وقال
السمهري أيضا ( نجوتُ
ونفسي عند ليلى رهينة ... وقد غَمّني داجٍ من الليل دامسُ ) ( وغامسْتُ
عن نفسي بأخْلَقَ مِقصلٍ ... ولا خيرَ في نفس امرىءٍ لا تُغَامِس ) ( ولو
أَنّ لَيلَى أَبصرتنِيَ غدوةً ... ومَطْوَايَ والصفَّ الذين أُمارِس ) ( إذاً
لبكت ليلَى عليّ وأَعولت ... وما نالت الثوبَ الذي أَنا لابسُ ) فرجع
إلى صحراء منعج وهي إلى جنب أضاخ والحلة قريب منها وفيها منازل عكل فكان يتردد ولا
يقرب الحلة وقد كان أكثر الجعل فيه فمر بابني فائد بن حبيب من بني أسد ثم من بني
فقعس فقال أجيرا متنكرا فحلبا له فشرب ومضى لا يعرفانه وذهبا ثم لبث السمهري ساعة
وكر راجعا فتحدث إلى أخت ابني فائد فوجداه منبطحا على بطنه يحدثها فنظر أحدهما إلى
ساقه مكدحة وإذا كدوح طرية فأخبر أخاه بذلك فنظر فرأى ما أخبره أخوه فارتابا به
فقال أحدهما هذا والله السمهري الذي جعل فيه ما جعل فاتفقا على مضابرته فوثبا عليه
فقعد أحدهما على ظهره وأخذ الآخر برجليه فوثب السمهري فألقى الذي على ظهره وقال
أتلعبان وقد ضبط رأس الذي كان على ظهره تحت إبطه وعالجه الآخر فجعل رأسه تحت إبطه
أيضا وجعلا يعالجانه فناديا أختهما أن تعينهما فقالت ألي الشرك في جعلكما قالا نعم
فجاءت بجرير فجعلته في عنقه بأنشوطة ثم جذبته وهو مشغول بالرجلين يمنعهما فلما
استحكمت العقدة وراحت من علابيه خلى عنهما وشد أحدهما فجاء بصرار فألقاه في رجله
وهو يداور الآخر والأخرى تخنقه فخر لوجهه فربطاه ثم انطلقا به إلى عثمان بن حيان
المري وهو في إمارته على المدينة فأخذا ما جعل لأخذه فكتب فيه إلى الخليفة فكتب أن
ادفعه إلى ابن أخي عون عدي فدفع إليه فقال السمهري أتقتلني وأنت لا تدري أقاتل عمك
أنا أم لا ادن أخبرك فأراد الدنو منه فنودي إياك والكلب وإنما أراد أن يقطع أنفه
فقتله بعمه ولما حبسه ابن حيان في السجن تذكر زجر اللهبي وصدقه فقال ( ألا
أيّها البيتُ الذي أنا هاجِرُه ... فلا البيتُ منسيٌّ ولا أنا زائِرُهْ ) ( ألا
طرقت ليلَى وساقي رهينةٌ ... بأشهبَ مشدودٍ عليّ مَسامرُه ) ( فإن
أنجُ يا ليلى فربّ فتىً نجا ... وإن تَكُنِ الأخرى فشيءٌ أحاذره ) ( وما
أصْدَق الطيْر التي بَرِحت لنا ... وما أعيفَ اللَّهْبِيَّ لا عزَّ ناصرُه ) ( رأيتُ
غُراباً ساقطاً فوق بانة ... ينشنشُ أعلى ريشه ويُطايِره ) ( فقال
غرابٌ باغترابٍ من النوى ... وبانٌ بِبَيْنٍ من حبيبٍ تُحاذره ) ( فكان
اغترابٌ بالغُراب ونِيةٌ ... وبالبان بَيْنٌ بَيِّنٌ لك طائِرُه ) وقال
السمهري في الحبس يحرض أخاه مالكا على ابني فائد ( فمن
مُبلغٌ عنّي خلِيلَي مالكاً ... رسالة مشدود الوَثَاقِ غريبِ ) ( ومن
مبلغٌ حَزْماً وتَيْماً ومالكاً ... وأربابَ حامِي الحفر رهطِ شبيبِ ) ( ليُبْكوا
التي قالت بصحراء مَنْعِج ... لِيَ الشِّركُ يا بني فائدِ بن حبيب ) ( أَتضرب
في لحمي بسهم ولم يكن ... لها في سهام المسلمين نَصِيبُ ) وقال
السمهري يرقق بني أسد ( تمنّتْ
سُليمَى أن أَقِيلَ بأرضها ... وأَنّى لسَلْمَى ويْبَهَا ما تَمَنَّتِ ) ( ألا
ليتَ شعري هل أزورَنَّ ساجِراً ... وقد رَوِيَتْ ماءَ الغوادي وعلّت ) ( بني
أسد هل فيكمُ من هَوادةٍ ... فَتَغْفرَ إن كانتْ بي النعل زَلَّتِ ) وبنو
تميم تزعم أن البيت لمرة بن محكان السعدي وقال السمهري في الحبس يذم قومه ( لقد
جمع الحدّادُ بين عِصابة ... تسائل في الأقياد ماذا ذُنوبُها ) ( بمنزلة
أمّا اللئيمُ فشَامِتٌ ... بها وكِرامُ القوم بادٍ شحوبُها ) ( إذا
حَرَسِيٌّ قَعقعَ البابَ أُرْعِدَتْ ... فرائصُ أقوامٍ وطارت قلوبُها ) ( ألا
ليتني من غير عُكْلٍ قبيلتي ... ولم أدرِ ما شُبَّانُ عُكلٍ وشِيبُها ) ( قبيلة
مَنْ لا يقرع البابَ وفدُها ... لخير ولا يَهْدي الصوابَ خطيبُها ) ( نرى
الباب لا نَسطيع شيئا وراءه ... كأَنّا قُنِيٌّ أسلَمْتها كُعوبُها ) ( وإن
تكُ عُكلٌ سرَّها ما أصابني ... فقد كنتُ مصبوباً على ما يَرِيبها ) وقال
السمهري أيضا في الحبس ( ألا
حيِّ ليلَى إذ ألَمَّ لِمامُها ... وكان مع القوم الأعادِي كلامُها ) ( تعلَّلْ
بليلَى إنما أنتَ هامَةٌ ... من الغد يدنو كلَّ يوم حِمامُها ) ( وبادِرْ
بليلَى أوجهَ الركب إنهم ... متى يرجعوا يَحْرُمْ عليك كلامها ) ( وكيف
ترجِّيها وقد حِيلَ دونها ... وأَقسم أَقوامٌ مَخوفٌ قِسَامُها ) ( لأَجْتَنِبْنهَا
أو لَيَبْتَدِرُنَّنِي ... ببيضٍ عليها الأَثْرُ فَعْمٌ كِلامُها ) ( لقد
طرقتْ ليلَى ورِجْلِي رهينةٌ ... فما راعني في السجن إلا لِمامها ) ( فلمّا
انتهبتُ للخيال الذي سرى ... إذا الأرضُ قَفْرٌ قد علاها قَتامُها ) ( فإلاَّ
تكن ليلَى طَوتْك فإَنه ... شبيهٌ بليلى حُسنُها وقوامُها ) ( ألا
ليتنَا نَحْيا جميعاً بغِبْطَةٍ ... وتَبلى عظامِي حين تبلى عِظامُها ) وقال
أيضا ( ألا طرقتْ ليلَى وساقِي رَهينةٌ
... بأسمَر مشدودٍ عليّ ثقيلُ ) ( فما
البينُ يا سلْمى بأن تَشْحَطَ النّوى ... ولكنّ بيناً ما يُريد عقيلُ ) ( فإن
أنجُ منها أَنْجُ من ذي عظيمةٍ ... وإن تكن الأخرى فتلك سبيلُ ) وقال
أيضا وهو طريد ( فلا
تيأسَا من رحمةِ الله وانظُرا ... بوادي جَبُونَا أن تَهُبَّ شَمال ) ( ولا
تيأسا أن تُرْزَقا أريحِيّةً ... كعِينِ المها أعناقُهنّ طِوال ) ( من
الحارثِيِّينَ الذين دِماؤهم ... حَرامٌ وأما مالُهُم فحلال ) وقال
أيضا ( ألم ترَ أنِّي وابنَ أبيضَ قد جفت
... بنا الأرضُ إلا أَنْ نَؤمَّ الفَيافيا ) ( طَريديْن
من حيَّيْنِ شتى أَشَدَّنا ... مخافَتُنا حتى نخلْنا التّصافيا ) ( وما
لُمْتُه في أمرِ حَزمٍ ونجدةٍ ... ولا لامني في مِرَّتِي واحتياليا ) ( وقلتُ
له إذْ حلّ يسقي ويَسْتَقي ... وقد كَان ضوءُ الصبح لِلَّيْلِ حاديا ) ( لعمري
لقد لاقت ركابُك مشْرَباً ... لئنْ هِيَ لم تَضْبَحْ عليهنَّ عاليا ) وأخذت
طيء ببهدل ومروان أخيه أشد الأخذ وحبسوا فقالوا إن حبسنا لم نقدر عليهما ونحن
محبوسون ولكن خلوا عنا حتى نتجسس عنهما فنأتيكم بهما وكانا تأبدا مع الوحش يرميان
الصيد فهو رزقهما ولما طال ذلك على مروان هبط إلى راع فتحدث إليه فسقاه وبسطه حتى
اطمأن إليه ولم يشعره أنه يعرفه فجعل يأتيه بين الأيام فلا ينكره فانطلق الراعي
فأخبره باختلافه إليه فجاء معه الطلب وأكمنهم حتى إذا جاء مروان إلى الراعي كما
كان يفعل سقاه وحدثه فلم يشعر حتى أطافوا به فأخذوه وأتوا به عثمان بن حيان أيضا
عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة فأعطى الذي دل عليه جعله وقتله نهاية بهدل
وأما بهدل فكان يأوي إلى هضبة سلمى فبلغ ذلك سيدا من سلمى من طيء فقال قد أخيفت
طيء وشردت من السهل من أجل هذا الفاسق الهارب فجاء حتى حل بأهله أسفل تلك الهضبة
ومعه أهلات من قومه فقال لهم إنكم بعيني الخبيث فإذا كان النهار فليخرج الرجال من
البيوت وليخلوا النساء فإنه إذا رأى ذلك انحدر إلى القباب وطلب الحاجة والعل
فكانوا يخلون الرجال نهارا فإذا أظلموا ثابوا إلى رحالهم أياما فظن بهدل أنهم
يفعلون ذلك لشغل يأتيهم فانحدر إلى قبة السيد وقد أمر النساء إن انحدر إليكن رجل
فإنه ابن عمكن فأطعمنه وادهن رأسه وفي قبة السيد ابنتان له فسألهما من أنتما
فأخبرتاه وأطعمتاه ثم انصرف فلما راح أبوهما أخبرتاه فقال أحسنتما إلى ابن عمكما
فجعل ينحدر إليهما حتى اطمأن وغسلتا رأسه وفلتاه ودهنتاه فقال الشيخ لابنتيه
أفلياه ولا تدهناه إذا أتاكما هذه المرة واعقدا خصل لمته إذا نعس رويدا بخمل
القطيفة ثم إذا شددنا عليه فاقلبا القطيفة على وجهه وخذا أنتما بشعره من ورائه
فمدا به إليكما ففعلتا واجتمع له أصحابه فكروا إلى رحالهم قبل الوقت الذي كانوا يأتونها
وشدوا عليه فربطوه فدفعوه إلى عثمان بن حيان فقتله فقالت بنت بهدل ترثيه ( فيَا
ضَيْعةَ الفِتيانِ إذ يَعتِلونه ... ببطن الشّرى مثل الفنيق المسدّم ) ( دعَا
دعوة لما أَتى أرضَ مالك ... ومن لا يُجَبْ عند الحفيظة يُسلِم ) ( أما
كان في قيسٍ من ابن حفيظة ... من القوم طَلاَّبِ التِّرَات غَشمْشم ) ( فيقتُل
جَبراً بامرىءٍ لم يكن به ... بواءً ولكِنْ لا تكَايُلَ بالدم ) وكان
دعا يا لمالك لينتزعوه فلم يجبه أحد تساجل هو والكميت بن معروف قال ولما قال عبد
الرحمن بن دارة ابن عم سالم بن دارة هذه القصيدة يحض عكلا على بني فقعس اعترض
الكميت بن معروف الفقعسي فعيره بقتل سالم حين قتله زميل الفزاري فقال قوله ( فلا
تُكثِروا فيه الضَّجاج فإَنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا ) فقال
عبد الرحمن بن دارة ( فيا
راكباً إمّا عرضْتَ فبلّغَنْ ... مُغَلْغَلَةً عنّي القَبائلَ من عُكلِ ) ( جلت
حمماً عنها القِصَافُ وما جلتْ ... قُشَيْرٌ وفي الشّدَّاتِ والحرب ما يُجلي ) ( فإِن
يك باع الفَقعسِيُّ دِماءهَم ... بوَكسٍ فقد كانت دماؤكم تَغلِي ) ( وكيف
تنام الليلَ عُكلٌ ولم يكن ... لها قَوَدٌ بالسّمْهريّ ولا عَقْلُ ) ( رمى
اللهُ في أَكبَادِهم إِن نجتْ بها ... حروفُ القِنَانِ من ذليلٍ ومن وغلِ )
( وكنا حسِبْنَا فَقْعساً قبل هذه
... أذلّ على طول الهوان من النَّعل ) ( فإن
أنتمُ لم تثأَروا بأَخيكمُ ... فكونوا بَغايا للخَلُوق وللكُحل ) ( وبيعوا
الردينيّاتِ بالحلْيِ واقعدوا ... على الوِتْر وابتاعوا المغازلَ بالنَّبل ) ( فإنّ
الذي كانت تُجمجمُ فقْعَسٌ ... قتيلٌ بلا قَتْلَى وَتَبْلٌ بلا تَبْلِ ) ( فلا
سِلْمَ حتى تنحَطَ الخيلُ بالقنا ... وتُوقَدَ نارُ الحَرْب بالحَطَب الجَزْلِ ) فلما
بلغ قوله مالكا أخا السمهري بخراسان انحط من خراسان حتى قدم بلاد عكل فاستجاش نفرا
من قومه فعلقوا في أرض بني أسد يطلبون الغرة فوجدوا بثادق رجلا معه امرأة من فقعس
فقتلوه وحزوا رأسه وذهبوا بالرأس وتركوا جسده كما قتلوها أيضا وذكر لي أن الرجل
ابن سعدة والمرأة التي كانت معه هي سعدة أمه فقال عبد الرحمن في ذلك ( مَا
لقتيلِ فَقْعَسٍ لا رَأْسَ له ... هلاَّ سأَلْتَ فقْعساً من جَدّلَهْ ) ( لا
يتْبعنَّ فَقْعَسِيٌّ جملَهْ ... فرداً إذا ما الفقعسِيُّ أعملَه ) ( لا
يلقَيَنَّ قاتلاً فيقتلَه ... بسيفه قد سَمَّهُ وصقَلَهْ ) وقال
عبد الرحمن أيضا ( لمَّا
تمَالَى القومُ في رَأْدِ الضُّحَى ... نَظراً وقد لَمَعَ السّرابُ فجالا ) ( نظر
ابنُ سعْدةَ نظرةً ويَلاً لها ... كانت لصحبك والمطيِّ خَبالا ) ( لَمْحاً
رَأَى من فوقِ طودٍ يافعٍ ... بعضَ العُداة وجُنّة وظِلالا ) ( عيَّرتَنِي
طَلبَ الحُمُول وقد أَرَى ... لم آتهنَّ مكفِّفا بطَّالا ) ( فانظر
لنفسِكَ يابن سَعْدَةَ هل ترى ... ضبُعاً تجرُّ بثادِقٍ أَوْصالا ) ( أوصالَ
سَعْدَةَ والكميتِ وإنما ... كان الكُميتُ على الكُميت عِيالا ) وقال
عبد الرحمن في ذلك ( أصبحتُمُ
ثَكْلَى لِئاماً وأصبحتْ ... شياطينُ عُكْلٍ قد عَراهُنَّ فقْعَسُ ) ( قَضَى
مالكٌ ما قد قَضَى ثم قلّصت ... به في سواد الليل وجناءُ عِرْمُس ) ( فأضحتْ
بأَعلى ثادقٍ وكأنها ... مَحَالَةُ غَرْبٍ تستَمِرُّ وتمْرُس ) مقتله
وحدثني علي بن سليمان الأخفش أن بني أسد ظفرت بعبد الرحمن بن دارة بالجزيرة بعدما
أكثر من سبهم وهجائهم وتآمروا في قتله فقال بعضهم لا تقتلوه ولتأخذوا عليه أن
يمدحنا ونحسن إليه فيمحو بمدحه ما سلف من هجائه فعزموا على ذلك ثم إن رجلا منهم
كان قد عضه بهجائه اغتفله فضربه بسيفه فقتله وقال في ذلك ( قُتِلَ
ابنُ دارةَ بالجزيرةِ سَبَّنَا ... وزعمتَ أن سِبَابَنَا لا يَقْتُلُ ) قال
علي بن سليمان وقد روي أنا البيت المتقدم ( فلا
تُكثِروا فيه الضَّجاجُ فإَنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا ) لهذا
الشاعر الذي قتل ابن دارة وهو من بني أسد وهكذا ذكر السكري صوت ( كِلانا يرى
الجوزاءَ يا جُملُ إذ بدت ... ونَجْمَ الثريا والمزارُ بعيدُ ) ( فكيف
بكم يا جملُ أهلاً ودونكم ... بحورٌ يُقمِّصْن السّفينَ وبيدُ ) ( إذا
قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد ) الشعر
لمسعود بن خرشة المازني والغناء لبحر خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي أخبار مسعود بن
خرشة حنينه إلى جارية عشقها مسعود بن خرشة أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو
بن تميم شاعر إسلامي بدوي من لصوص بني تميم قال أبو عمرو وكان مسعود بن خرشة يهوى
امرأة من قومه من بني مازن يقال لها جمل بنت شراحيل أخت تمام بن شراحيل المازني
الشاعر فانتجع قومها ونأوا عن بلادهم فقال مسعود ( كِلانا
يرى الجوزاءَ يا جُملُ إذ بدت ... ونَجْمَ الثريا والمزارُ بعيدُ ) ( فكيف
بكم يا جملُ أهلاً ودونكم ... بحورٌ يُقمِّصْن السّفينَ وبيدُ ) ( إذا
قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد ) قال
أبو عمرو ثم خطبها رجل من قومها وبلغ ذلك مسعودا فقال ( أيا
جملُ لا تشقَيْ بأَقْعَسَ حَنْكلٍ ... قليلِ النَّدى يسعى بكِير ومِحْلَب ) ( له
أعنزٌ حُوٌّ ثمانٍ كأَنما ... يراهنّ غُرّ الخيل أَو هُنّ أنجب ) أخبار
مسعود بن خرشة حنينه إلى جارية عشقها مسعود بن خرشة أحد بني حرقوص بن مازن بن مالك
بن عمرو بن تميم شاعر إسلامي بدوي من لصوص بني تميم قال أبو عمرو وكان مسعود بن
خرشة يهوى امرأة من قومه من بني مازن يقال لها جمل بنت شراحيل أخت تمام بن شراحيل
المازني الشاعر فانتجع قومها ونأوا عن بلادهم فقال مسعود ( كِلانا
يرى الجوزاءَ يا جُملُ إذ بدت ... ونَجْمَ الثّريَّا والمزارُ بعيدُ ) ( فكيف
بكم يا جُمْلُ أهلاً ودونَكم ... بُحورٌ يُقَمِّصْن السّفينَ وبيدُ ) ( إذا
قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد ) قال
أبو عمرو ثم خطبها رجل من قومها وبلغ ذلك مسعودا فقال ( أيا
جملُ لا تشقَيْ بأَقْعَسَ حَنْكلٍ ... قليلِ النَّدى يسعى بكِير ومِحْلَب ) ( له
أعنزٌ حُوٌّ ثمانٍ كأَنما ... يراهنّ غُرّ الخيل أَو هُنّ أنجب ) وقال
أبو عمرو وسرق مسعود بن خرشة إبلا من مالك بن سفيان بن عمرو الفقعسي هو ورفقاء له
وكان معه رجلان من قومه فأتوا بها اليمامة ليبيعوها فاعترض عليهم أمير كان بها من
بني أسد ثم عزل وولي مكانه رجل من بني عقيل فقال مسعود في ذلك ( يقول
المرجفون أجاءَ عهدٌ ... كفى عهداً بتنفيذ القِلاصِ ) ( أتى
عهدُ الإمارة من عُقيلٍ ... أغرَّ الوجه رُكّب في النواصي ) ( حُصونُ
بني عُقيلٍ كلُّ عَضْبٍ ... إذا فَزِعوا وسابغةٍ دِلاصِ ) ( وما
الجارات عند المَحْل فيهم ... ولو كثر الروازحُ بالخِماصِ ) قال
وقال مسعود وقد طلبه وإلي اليمامة فلجأ إلى موضع فيه ماء وقصب ( ألا
ليت شِعري هل أبيتنَّ ليلةً ... بوعثاءَ فيها للظباءِ مكانسُ ) ( وهل
أنجُوَنْ من ذي لَبِيدِ بن جابرٍ ... كأنَّ بناتِ الماء فيه المُجالس ) ( وهل
أسمعَنْ صوتَ القَطَا تندب القطا ... إلى الماء منه رابع وخوامس ) أخبار
بحر ونسبه هو بحر بن العلاء مولى بني أمية حجازي أدرك دولة بني هاشم وعمر إلى أيام
الرشيد وقد هرم وكان له أخ يقال له عباس وأخوه بحر أصغر منه مات في أيام المعتصم
وكان يلقب حامض الرأس وله صنعة وأقدمه الرشيد عليه ثم كرهه فصرفه الرشيد يشرب على
أصواته حدثني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني أحمد بن أبي خالد الأحول عن
علي بن صالح صاحب المصلى أن الرشيد سمع من علويه ومخارق وهما يومئذ من صغار
المغنين في الطبقة الثالثة أصواتا استحسنها ولم يكن سمعها فقال لهما ممن أخذتما
هذه الأصوات فقالا من بحر فاستعادها وشرب عليها ثم غناه مخارق بعد أيام صوتا لبحر
فأمر بإحضاره وأمره أن يغني ذلك الصوت فغناه فسمع الرشيد صوتا حائلا مرتعشا فلم
يعجبه واستثقله لولائه لبني أمية فوصله وصرفه ولم يصل إليه بعد ذلك صوت ( ألا يا
لَقومي لِلنوائب والدّهر ... وللمرء يُردِي نفسه وَهْو لا يَدري ) ( وللأرض
كم من صالح قد تودّات ... عليه فوارتْهُ بلمّاعةٍ قَفرِ ) عروضه
من الطويل قال الأصمعني يقال للرجل أو للقوم إذا دعوتهم يال كذا بفتح اللام وإذا
دعوت للشيء قلت بالكسرة تقول يا للرجال ويا للقوم وتقول يا للغنيمة ويا للحادثة أي
اعجلوا للغنيمة وللحادثة فكأنه قال يا قوم اعجلوا للغنيمة وروى الأصمعي وغيره مكان
قد تودأت قد تلمأت عليه وتلاءمت أي وارته ويروى تأكمت أي صارت أكمة الشعر لهدبة بن
خشرم والغناء لمعبد ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق أخبار هدبة بن
خشرم ونسبه وقصته في قوله هذا الشعر وخبر مقتله هو هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية
بن الكاهن وهو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن
سعد بن هذيم وسعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف بن قضاعة ويقال بل هو سعد بن أسلم
وهذيم عبد لأبيه رباه فقيل سعد بن هذيم يعني سعدا هذا طبقته في الشعر وهدبة شاعر
فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعرا راوية كان يروي للحطيئة والحطيئة يروي لكعب
بن زهير وكعب بن زهير يروي لأبيه زهير وكان جميل راوية هدبة وكثير راوية جميل
فلذلك قيل إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر كثير وكان لهدبة ثلاثة إخوة
كلهم شاعر حوط وسيحان والواسع أمهم حية بنت أبي بكر بن أبي حية من رهطهم الأدنين
وكان شاعره أيضا أخبار هدبة بن خشرم ونسبه وقصته في قوله هذا الشعر وخبر مقتله هو
هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الكاهن وهو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن
عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم وسعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف
بن قضاعة ويقال بل هو سعد بن أسلم وهذيم عبد لأبيه رباه فقيل سعد بن هذيم يعني
سعدا هذا طبقته في الشعر وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعرا راوية كان
يروي للحطيئة والحطيئة يروي لكعب بن زهير وكعب بن زهير يروي لأبيه زهير وكان جميل
راوية هدبة وكثير راوية جميل فلذلك قيل إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر
كثير وكان لهدبة ثلاثة إخوة كلهم شاعر حوط وسيحان والواسع أمهم حية بنت أبي بكر بن
أبي حية من رهطهم الأدنين وكانت شاعرة أيضا وهذا الشعر يقوله هدبة في قتله زيادة
بن زيد بن مالك بن عامر بن قرة ابن حنش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان بن
الحارث بن سعد بن هذيم أخبرني بالخبر في ذلك جماعة من شيوخنا فجمعت بعض روايتهم
إلى بعض واقتصرت على ما لا بد منه من الأشعار وأتيت بخبرهما على شرح وألحقت ما نقص
من رواية بعضهم عن رواية صاحبه في موضع النقصان فممن حدثني به محمد بن العباس
اليزيدي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي تينة قال حدثنا خلف بن المثنى الحداني
عن أبي عمرو المديني وأخبرني الحسن بن يحيى ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي
عن حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه الحرب بين قومه بني عامر وقوم زيادة بن زياد
وأخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار
عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه عن عمه وقد نسبت إلى كل واحد منهم ما
انفرد به من الرواية وجمعت ما اتفقوا عليه قال عيسى بن إسماعيل في خبره خاصة كان
أول ما هاج الحرب بين بني عامر بن عبد الله بن ذبيان وبين بني رقاش وهم بنو قرة بن
حفش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان وهم رهط زيادة بن زيد وبنو عامر رهط
هدبة أن حوط بن خشرم أخا هدبة راهن زيادة بن زيد على جملين من إبلهما وكان مطلقهما
من الغاية على يوم وليلة وذلك في القيظ فتزودوا الماء في الروايا والقرب وكانت أخت
حوط سلمى بنت خشرم تحت زيادة بن زيد فمالت مع أخيها على زوجها فوهنت أوعية زيادة
ففني ماؤه قبل ماء صاحبه فقال زيادة ( قد
جعلت نَفْسِيَ في أَدِيم ... مُحَرّمِ الدّباغ ذِي هُزُومِ ) ( ثمّ
رَمَت بِي عُرُضَ الدّيْمومِ ... في بارحٍ من وَهَج السَّموم ) ( عند
اطّلاع وعرة النجوم ... ) قال
اليزيدي في خبره المحرم الذي لم يدبغ والهزوم الشقوق قال وقال زيادة أيضا ( قد
علِمَتْ سلمةُ بالعَميسِ ... ليلةَ مَرْمَارٍ وَمَرْمَرِيس ) ( أَنَّ
أَبَا المِسْور ذو شَرِيس ... يَشفي صُداع الأبلَج الدِّلْعِيس ) العميس
موضع والمرمار والمرمريس الشدة والاختلاط وأبا المسور يعني زيادة نفسه وكانت كنيته
أبا المسور تبادل التشبيب بأختيهما قال فكان ذلك أول ما أثبت الضغائن بينهما ثم إن
هدبة بن خشرم وزيادة بن زيد اصطحبا وهما مقبلان من الشام في ركب من قومهما فكانا
يتعاقبان السوق بالإبل وكان مع هدبة أخته فاطمة فنزل زيادة فارتجز فقال ( عُوجي
علينا واربَعِي يا فاطمَا ... ما دون أَن يُرَى البَعيرُ قائمَا ) أي
ما بين مناخ البعير إلى قيامه ( أَلاّ
تَرين الدمع منّي ساجمَا ... حِذارَ دارٍ منك لن تُلائمَا ) ( فَعرَّجَتْ
مطَّرداً عُراهِمَا ... فَعْماً يبذّ القُطُف الرَّوَاسما ) مطرد
متتابع السير وعراهم شديد وفعم ضخم والرسيم سير فوق العنق والرواسم الإبل التي
تسير هذا السير الذي ذكرناه ( كأنَّ
في المثْناة منه عائمَا ... إنّكَ والله لأَنْ تُبَاغِمَا ) المثناة
الزمام وعائم سائح تباغم تكلم ( خَوْذاً
كأّنّ البُوصَ والمآكما ... منا نقاً مُخالطٌ صَرائما ) البوص
العجز والمأكمتان ما عن يمين العجز وشماله والنقا ما عظم من الرمل والصرائم دونه ( خيرٌ
من استقبالك السَّمائمَا ... ومن مُنادٍ يبتغي مُعَاكِما ) ويروى
ومن نداء أي رجل تناديه تبتغي أن يعينك على عكمك حتى تشده فغضب هدبة حين سمع زيادة
يرتجز بأخته فنزل فرجز بأخت زيادة وكانت تدعى فيما روى اليزيدي أم حازم وقال
الآخرون أم القاسم فقال هدبة ( لقد
أراني والغُلامَ الحازمَا ... نُزجِي المَطيَّ ضُمَّراً سَواهِما ) ( متى
تَظُنّ القُلُصَ الرّوَاسما ... والجِلّةَ النّاجيةَ العَيَاهِما ) العياهم
الشداد ( يُبلِغْن أمَّ حازم وحازماً ...
إذا هَبَطن مُسْتَحيراً قاتِمَا ) ( ورجَّع
الحادي لها الهَمَاهِمَا ... ألا تَريْنَ الحُزنَ مني دائمَا ) ( حِذارَ
دارٍ منك لن تُلائما ... والله لا يَشفي الفؤادَ الهائمَا ) ( تَمساحُكَ
اللَّبّاتِ والمآكمَا ... ولا الِلّمامُ دون أن تلازِمَا ) ( ولا
اللِثام دون أن تُفاقما ... ولا الفِقامُ دون أن تفاغمَا ) ( وتعلو
القوائم القوائما ... ) قال
فشتمه زيادة وشتمه هدبة وتسابا طويلا فصاح بهما القوم اركبا لا حملكما الله فإنا
قوم حجاج وخشوا أن يقع بينهما شر فوعظهما حتى أمسك كل واحد منهما على ما في نفسه
وهدبة أشدهما حنقا لأنه رأي أن زيادة قد ضامه إذا زجر بأخته وهي تسمع قوله ورجز هو
بأخته وهي غائبة لا تسمع قوله فمضيا ولم يتحاورا بكلمة حتى قضيا حجهما ورجعا إلى
عشيرتهما خبر عمه زفر وسبب غضب قومه قال اليزيدي خاصة في خبره ثم التقى نفر من بني
عامر من رهط هدبة فيهم أبو جبر وهو رئيسهم الذي لا يعصونه وخشرم أبو هدبة وزفر عم
هدبة وهو الذي بعث الشر وحجاج بن سلامة وهو أبو ناشب ونفر من بني رقاش رهط زيادة
وفيهم زيادة بن زيد وإخوته عبدالرحمن ونفاع وأدرع بواد من أودية حرتهم فكان بينهم
كلام فغضب ابن الغسانية وهو أدرع وكان زفر هدبة يعزى رجل من بني رقاش فقام له أدرع
فزجر فقال ( أدُّوا إلينا زفرا ... نعرف منه
النظرا ) ( وعينه والأثر ... ) قال
فغضب رهط هدبة وادعوا حدا على بني رقاش فتداعوا إلى السلطان ثم اصطلحوا على أن
يدفع إليهم أدرعُ فيخلوا به نفر منهم فما رأوه عليه أمضوه فلما خلوا به ضربوه الحد
ضربا مبرحا فراح بنو رقاش وقد أضمروا الحرب وغضبوا فقال عبد الرحمن بن زيد ( ألا
أَبلغ أبا جَبْرٍ رسولاً ... فما بيني وبينكُم عِتابُ ) ( ألم
تعلم بأنَّ القوم راحوا ... عشيةَ فارقوك وهم غِضابُ ) فأجابه
الحجاج بن سلامة فقال ( إن
كان ما لاقى ابنُ كنعاء مُرغِماً ... رقاشَ فزاد اللهُ رَغْما سِبالَهما ) ( منعنا
أخانا إذ ضربنا أخاكُم ... وتلك من الأعداء لا مِثْلَ مالها ) هدبة
وزيادة يتهاديان الأشعار قال اليزيدي في خبره وجعل هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار
ويتفاخران ويطلب كل واحد منهما العلو على صاحبه في شعره وذكر أشعارا كثيرة فذكرت
بعضها وأتيت بمختار ما فيه فمن ذلك قول زيادة في قصيدة أولها ( أراك
خليلاً قد عزمت التّجنبا ... وقطَّعتَ حاجاتِ الفؤاد فأصحبا ) اخترت
منها قوله ( وأنك للناس الخليلُ إذا دنتْ ...
به الدارُ والباكي إذا ما تغيَّبا ) ( وقد
أعذَرَتْ صرفُ الليالي بأهلها ... وشَحْطُ النَّوَى بيني وبينك مَطلبا ) ( فلا
هي تأْلو ما نأَتْ وتباعَدَتْ ... ولا هو يأْلُو ما دنا وتقرَّبا ) ( أطعتُ
بها قول الوشاة فلا أرى الوشاةَ ... انتهوا عنه ولا الدهرَ أُعتبا ) ( فهلاّ
صَرمْتِ والحبالُ متينةٌ ... أُميمةُ إن واشٍ وشى وتكذَّبا ) ( إذا
خفتَ شكَّ الأمرِ فارمِ بعزمة ... غَيَابَتَه يركب بك الدهرُ مركبا ) ( وإن
وِجهةٌ سُدَّتْ عليك فُرُوجُها ... فأنّك لاقٍ لا محالة مذهبا ) ( يُلامُ
رجالٌ قبل تجريبِ غَيْبِهم ... وكيف يُلام المرءُ حتى يُجرَّبا ) ( وإنّي
لمِعراضٌ قليلٌ تعرُّضي ... لوجه امرىء يوماً إذا ما تجنَّبا ) ( قليلٌ
عِثَاري حين أُذعَرُ ساكنٌ ... جَناني إذا ما الحرب هرَّت لتكْلَبا ) ( بحسبك
ما يأتيك فاجمع لنازل ... قِراهُ ونَوِّبْه إذا ما تنوّبا ) ( ولا
تَنتجِع شَرًّا إذا حيل دونه ... بِسِتْرٍ وهَبْ أسبابَه ما تهيّبا ) ( أنا
ابن رَقاشٍ وابنُ ثعلبةَ الذي ... بنى هادياً يعلو الهواديَ أغلبا ) ( بنَى
العِزُّ بنياناً لقومي فما صَعُوا ... بأَسيافهم عنه فأَصبح مُصعَبا ) ( فما
إنْ ترى في الناس أُماً كأُمِّنا ... ولا كأبينا حين ننسبُهُ أَبا ) ( أَتمَّ
وأَنمى بالبنين إلى العلا ... وأَكرمَ منا في المناصب مَنصَبا ) ( مَلَكنا
ولم نُملَكْ وقُدْنا ولم نُقَدْ ... كأَنَّ لنا حقاً على الناس تُرتَبا ) قال
اليزيدي ترتب ثابت لازم ( بآيةِ
أنّا لا نرى مُتَتَوِّجاً ... من الناسِ يعلونا إذا ما تعصّبا ) ( ولا
مِلكاً إلا اتّقانا بمُلكه ... ولا سُوقةً إلا على الخَرْج أُتعِبا ) ( ملكنا
ملوكاً واستبحْنا حِماهُم ... وكنّا لهم في الجاهلية موكِبا ) ( ندامى
وأردافاً فلم تَرَ سُوقةً ... توازننا فاسأَل إياداً وتَغلِبا ) فأجابه
هدبة وهذا مختار ما فيها فقال ( تَذَكَّرَ
شَجواً من أُميمةَ مُنصِبا ... تليداً ومُنتاباً من الشوق مُجْلِبا ) ( تَذَكّرَ
حبًّا كان في مَيْعة الصِّبا ... ووجداً بها بعد المشيب مُعتِّبا ) ( إذا
كادَ ينساها الفؤادُ ذكرتُها ... فيا لكِ ما عَنّى الفؤادَ وعذَّبا ) ( غَدَا
في هواها مستكيناً كأَنه ... خليعُ قِداحٍ لم يجد مُتنشَّبا ) ( وقد
طال ما عُلِّقْتَ ليلى مُغَمّرا ... وليدا إلى أن صار رأْسُكَ أشْيَبا ) - المغمر
الغمر أي غير حدث - ( رأيتك
في لَيلَى كذي الدَّاءِ لم يجد ... طبيباً يداوِي ما به فَتَطَبَّبا ) ( فلما
اشتفى مما به كرَّ طِبُّه ... على نفسه من طول ما كان جرَّبا ) قتل
زيادة وتنحى ثم استسلم فلم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها فبيته فقتله وتنحى
مخافة السلطان وعلى المدينة يومئذ سعيد بن العاص فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم
بالمدينة فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه وتخلص عمه وأهله فلم يزل محبوسا
حتى شخص عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة إلى معاوية فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد
منه إذا قامت البينة فأقامها فمشت عذرة إلى عبد الرحمن فسألوه قبول الدية فامتنع
وقال صوت ( أَنختُم علينا كَلْكَلَ الحرب مُرَّة ... فنحن مُنيخُوها عليكم بكلكَلِ ) ( فلا
يدْعُني قومي لزيدِ بن مالك ... لئن لم أُعجِّل ضربةً أو أعجَّل ) ( أبعد
الذي بالنَّعْف نعفِ كُوَيْكِبٍ ... رهينةِ رمسٍ ذي تراب وجندلِ ) ( كريمٌ
أصابته دياتٌ كثيرة ... فلم يدر حتى حين من كل مدخل ) ( أُذكَّر
بالبُقْيا على من أَصابني ... وبُقيايَ أّني جاهدٌ غيرُ مؤتلِي ... ) غناه
ابن سريج رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وقيل إنه لمالك بن أبي السمح وله
فيه لحن آخر رجع الخبر إلى سياقته سعيد بن العاص يحكم معاوية في أمر هدبة وأما علي
بن محمد النوفلي فذكر عن أبيه أن سعيد بن العاص كره الحكم بينهما فحملهما إلى
معاوية فنظر في القصة ثم ردها إلى سعيد وأما غيره فذكر أن سعيدا هو الذي حكم
بينهما من غير أن يحملهما إلى معاوية قال علي بن محمد عن أبيه فلما صاروا بين يدي
معاوية قال عبد الرحمن أخو زيادة له يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي وما دفعت
إليه وجرى علي وعلى أهلي وقرباي وقتل أخي زيادة وترويع نسوتي فقال له معاوية يا
هدبة قل فقال إن هذا رجل سجاعة فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاما أو شعرا فعلت قال
لا بل شعرا فقال هدبة هذه القصيدة ارتجالا ( أَلا
يا لقَومي لِلنّوائب والدّهر ... ولِلمرء يُردِي نفسه وهُو لا يدرِي ) ( ولِلأرض
كم من صالحٍ قد تأَكَّمَت ... عليه فوارتْهُ بلمّاعةٍ قَفْر ) ( فلا
تتّقي ذا هَيْبة لجلاِله ... ولا ذا ضياعٍ هنّ يُتْركْن للفقرِ ) حتى
قال ( رُمِينا فَرامَينا فصادف رَمْيُنا
... مَنايا رجالٍ في كتابٍ وفي قَدْر ) ( وأنت
أميرُ المؤمنين فما لنا ... وراءك من مَعدىً ولا عنك من قَصْر ) ( فإن
تك في أموالنا لم نَضِق بها ... ذِراعاً وإن صبرٌ فنصبِرُ للصّبر ) فقال
له معاوية أراك قد أقررت بقتل صاحبهم ثم قال لعبد الرحمن هل لزيادة ولد قال نعم
المسور وهو غلام صغير لم يبلغ وأنا عمه وولي دم أبيه فقال إنك لا تؤمن على أخذ
الدية أو قتل الرجل بغير حق والمسور أحق بدم أبيه فرده إلى المدينة فحبس ثلاث سنين
حتى بلغ المسور جميل بن معمر يزوره في السجن ويهديه أخبرني الحرمي بن العلاء قال
حدثنا الزبير بن بكار قال نسخت من كتاب عامر بن صالح قال دخل جميل بن معمر العذري
على هدبة بن خشرم السجن وهو محبوس بدم زيادة بن زيد وأهدى له بردين من ثياب كساه
إياها سعيد بن العاص وجاءه بنفقة فلما دخل إليه عرض ذلك عليه وسأله أن يقبله منه فقال
له هدبة أأنت يا بن معمر الذي تقول ( بني
عامرٍ أنَّى انتجعْتُم وكنتُم ... إذا عُدِّد الأقوامُ كالخُصْية الفرد ) أما
والله لئن خلص الله لي ساقي لأمدن لك مضمارك خذ برديك ونفقتك فخرج جميل فلما بلغ
باب السجن خارجا قال اللهم أغن عني أجدع بني عامر قال وكانت بنو عامر قد قلت
فحالفت لإياد قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني فقالت أم هدبة فيه لما شخص
إلى المدينة فحبس بها ( أَيا
إخوتي أهلَ المدينة أكرموا ... أسيركُمُ إن الأسيرَ كريمُ ) ( فَرُبَّ
كريمٍ قد قَرَاه وضافَه ... ورُبَّ أمورٍ كلُّهن عظيمُ ) ( عَصَى
جلُّهَا يوماً عليه فراضَه ... من القوم عَيّافٌ أشمُّ حليمُ ) فأرسل
هدبة العشيرة إلى عبد الرحمن في أول سنة فكلموه فاستمع منهم ثم قال ( أَبعْدَ
الذي بالنَّعف نعفِ كُويْكِبِ ... رهينةِ رمسٍ ذي تُراب وجندَلِ ) ( أُذكِّر
بالبُقْيا على مَنْ أصابني ... وبُقْيَايَ أني جاهدٌ غيرُ مُؤْتلي ) فرجعوا
إلى هدبة بالأبيات فقال لم يوئسني بعد فلما كانت السنة الثالثة بلغ المسور فأرسل
هدبة إلى عبد الرحمن من كلمه فأنصت حتى فرغوا ثم قام عنه مغضبا وأنشأ يقول ( سأَكْذِب
أَقواماً يقولون إنَّني ... سآخذُ مالاً من دم أنا ثائرُهْ ) ( فبِاسْت
امرىءٍ واسْتِ التي زَحَرت به ... يسوق سَواماً من أخٍ هو واترُهْ ) ونهض
فرجعوا إلى هدبة فأخبروه الخبر فقال الآن أيست منه وذهب عبد الرحمن بالمسور وقد
بلغ إلى والي المدينة وهو سعيد بن العاص وقيل مروان بن الحكم فأخرج هدبة لقاؤه
الأخير بزوجته قالوا فلما كان في الليلة التي قتل في صباحها أرسل إلى امرأته وكان
يحبها إيتيني الليلة أستمتع بك وأعودك فأتته في اللباس والطيب فصارت إلى رجل قد
طال حبسه وأنتنت في الحديد رائحته فحادثها وبكى وبكت ثم راودها عن نفسها وطاوعته
فلما علاها سمعت قعقعة الحديد فاضربت تحته فتنحى عنه وأنشأ يقول ( وأدْنَيْتِني
حتى إذا ما جعلتِني ... لَدَى الخصْر أو أدنَى استقَلَّك راجفُ ) ( فإِن
شئتُ والله انتهيتُ وإنّني ... لئلا ترَيْني آخرَ الدهر خائفُ ) ( رأت
ساعدَيْ غُولٍ وتحت ثيابه ... جآجىء يدْمَى حدُّها وَالحراقفُ ) ثم
قال الشعر حتى أتى عليه وهو طويل جدا وفيه يقول صوت ( فلم تَرَ عيني مثلَ سربٍ
رأيتُهُ ... خرجْنَ علينا من زقاق ابنِ وَاقفِ ) ( تضمَّخْن
في الجاديِّ حتى كأنَّما الأنوفُ ... إذا استَعْرَضْتَهُنّ رَوَاعِف ) ( خرجن
بأَعناق الظباء وأعينُ الجآذِر ... وَارتجَّت لهن السَّوالف ) ( فلو
أنّ شيْئاً صاد شيئاً بطَرفه ... لصِدْن ظباء فوقهنَّ المطارفُ ) غنى
فيه الغريض رملا بالبنصر من رواية حبش وفيه لحن خفيف ثقيل وذكر إسحاق أن فيه لحنا
ليونس ولم يذكر طريقته في مجرده أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمه قال مر أبو
الحارث جمين يوما بسوق المدينة فخرج عليه رجل من زقاق ابن واقف بيده ثلاث سمكات قد
شق أجوافها وقد خرج شحمها فبكى أبو الحارث ثم قال تعس الذي يقول ( فلم
تَرَ عيني مثلَ سربٍ رأيتُهُ ... خرجْنَ علينا من زقاق ابنِ وَاقفِ ) وانتكس
ولا انجبر والله لهذه السمكات الثلاث أحسن من السرب الذي وصف وأحسب أن هذا الخبر
مصنوع لأنه ليس بالمدينة زقاق يعرف بزقاق ابن واقف ولا بها سمك ولكن رويت ما روي حذف
271 شعره في حبّى امرأة مالك وقال حماد بن إسحاق عن أبيه أن ابن كناسة قال مر
بهدبة على حبى فقالت في سبيل الله شبابك وجلدك وشعرك وكرمك فقال هدبة ( تَعَجَّبُ
حُبَّى من أَسيرٍ مُكبّلٍ ... صَلِيبِ العَصَا باقٍ على الرّسَفَانِ ) ( فلا
تَعْجَبي مِنِّي حَليلَة مالكٍ ... كذلك يأْتي الدهرُ بالحدَثانِ ) وقال
النوفلي عن أبيه فلما مضي به من السجن للقتل التفت فرأى امرأته وكانت من أجمل
النساء فقال ( أَقِلِّي
عليّ اللَّومَ يا أُمَّ بَوزَعا ... ولا تَجْزَعي ممّا أصَابَ فأَوجعا ) ( ولا
تنْكَحي إن فرّق الدهرُ بيننا ... أغَمّ القفا والوجه ليس بأنْزَعا ) ( كَليلاً
سوى ما كان من حَدّ ضِرْسه ... أُكَيْبِدَ مِبْطانَ العَشِيّاتِ أرْوَعا ) ( ضَروباً
بلَحْييه على عَظم زَوره ... إذا الناس هَشُّوا للفَعال تَقنَّعا ) ( وحُلِّي
بذي أُكرومة وحَمِيّةٍ ... وَصبْرٍ إذا ما الدهر عَضَّ فأَسرعا ) يذكر
شرط زوجته في الزواج بعد موته وقال حماد عن أبيه عن مصعب بن عبد الله قال لما أخرج
هدبة من السجن ليقتل جعل الناس يتعرضون له ويخبرون صبره ويستنشدونه فأدركه عبد
الرحمن بن حسان فقال له يا هدبة أتأمرني أن أتزوج هذه بعدك يعني زوجته وهي تمشي
خلفه فقال نعم إن كنت من شرطها قال وما شرطها قال قد قلت في ذلك ( فلاَ
تنْكَحِي إن فرَّق الدهرُ بيننا ... أغَمّ القفا والوجهِ ليس بأنْزَعا ) ( وكُوني
حَبيساً أو لأروعَ ماجدٍ ... إذا ضَنَّ أعشاشُ الرِّجالِ تَبرَّعا ) فمالت
زوجته إلى جزار وأخذت شفرته فجدعت بها أنفها وجاءته تدمى مجدوعة فقالت أتخاف أن
يكون بعد هذا نكاح قال فرسف في قيوده وقال الآن طاب الموت وقال النوفلي عن أبيه إنها
فعلت ذلك بحضرة مروان وقالت له إن لهدبة عندي وديعة فأمهله حتى آتيه بها قال أسرعي
فإن الناس قد كثروا وكان جلس لهم بارزا عن داره فمضت إلى السوق فانتهت إلى قصاب
وقالت أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا أردها عليك ففعل فقربت من حائط وأرسلت
ملحفتها على وجهها ثم جدعت أنفها من أصله وقطعت شفتيها ثم ردت الشفرة وأقبلت حتى
دخلت بين الناس وقالت يا هدبة أتراني متزوجة بعد ما ترى قال لا الآن طابت نفسي بعد
بالموت ثم خرج يرسف في قيوده فإذا هو بأبويه يتوقعان الثكل فهما بسوء حال فأقبل
عليهما وقال ( أَبلِياني
اليومَ صبرًا منكما ... إنّ حُزْناً إن بدا بادىءُ شرْ ) ( لا
أُراني اليومَ إلا ميِّتاً ... إنّ بعدَ الموت دارَ المستَقَرْ ) ( اصبِرَا
اليوم فإني صابرٌ ... كلُّ حَيٍّ لقَضاء وقَدرْ ) زوجته
تنكثت بعهدها قال النوفلي فحدثني أبي قال حدثني رجل من عذرة عن أبيه قال إني
لببلادنا يوما في بعض المياه فإذا أنا بامرأة تمشي أمامي وهي مدبرة ولها خلق عجيب
من عجز وهيئة وتمام جسم وكمال قامة فإذا صبيان قد اكتنفاها يمشيان قد ترعرعا
فتقدمتها والتفت إليها فإذا هي أقبح منظر وإذا هي مجدوعة الأنف مقطوعة الشفتين
فسألت عنها قيل لي هذه امرأة هدبة تزوجت بعده رجلا فأولدها هذين الصبيين قال ابن
قتيبة في حديثه فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدية عنه قال أعطيك ما لم
يعطه أحد من العرب أعطيك مائة ناقة حمراء ليس فيها جداء ولا ذات داء فقال له والله
لو نقبت لي قبتك هذه ثم ملأتها لي ذهبا ما رضيت بها من دم هذا الأجدع فلم يزل سعيد
يسأله ويعرض عليه فيأبى ثم قال له والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله ( لنَجدَعَنّ
بأَيدينا أُنوفَكم ... ويذهبُ القتلُ فيما بيننا هَدَرا ) فدفعه
حينئذ لقتله بأخيه تعريضه بحبي في طريقه إلى الموت قال حماد وقرأت على أبي عن مصعب
بن عبد الله الزبيري قال ومر هدبة بحبى فقالت له كنت أعدك في الفتيان وقد زهدت فيك
اليوم لأني لا أنكر أن يصبر الرجال على الموت لكن كيف تصبر عن هذه فقال أما والله
إن حبي لها لشديد وإن شئت لأصفن لك ذلك ووقف الناس معه فقال ( َوجِدت بها
ما لم تَجِد أُمّ واحدٍ ... ولا وجدُ حُبّى بابن أُمّ كِلابِ ) ( رأَته
طويل السّاعدين شمَرْدَلاً ... كما تَشْتَهي من قوة وشباب ) فانقمعت
داخلة إلى بيتها فأغلقت الباب دونه قالوا فدفع إلى أخي زيادة ليقتله قال فاستأذن
في أن يصلي ركعتين فأذن له فصلاهما وخفف ثم التفت إلى من حضر فقال لولا أن يظن بي
الجزع لأطلتهما فقد كنت محتاجا إلى إطالتهما ثم قال لأهله إنه بلغني أن القتيل
يعقل ساعة بعد سقوط راسه فإن عقلت فإني قابض رجلي وباسطها ثلاثا ففعل ذلك حين قتل
وقال قبل أن يقتل ( إنْ
تقتُلوني في الحديد فإنني ... قتلتُ أخاكم مُطْلقاً لم يُقَيّد ) فقال
عبد الرحمن أخو زيادة والله لا قتلته إلا مطلقا من وثاقه فأطلق له فقام إليه وهز
السيف ثم قال ( قد
علِمْتُ نفسي وأنت تعلمُهْ ... لأقتلَنَّ اليومَ من لا أَرحمُهْ ) ثم
قتله فقال حماد في روايته ويقال إن الذي تولى قتله ابنه المسور دفع إليه عمه السيف
وقال له قم فاقتل قاتل أبيك فقام فضربه ضربتين قتله فيهما هو أول من أقيد منه في
الإسلام أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي قال بلغني أن هدبة أول
من أقيد منه في الإسلام قال أحمد بن الحارث الخراز قال المدائني مرت كاهنة بأم
هدبة وهو وأخوته نيام بين يديها فقالت يا هذه إن الذي معي يخبرني عن بنيك هؤلاء
بأمر قالت وما هو قالت أما هدبة وحوط فيقتلان صبرا وأما الواسع وسيحان فيموتان
كمدا فكان كذلك أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي أخبرك مروان بن
أبي حفصة قال كان هدبة أشعر الناس منذ يوم دخل السجن إلى أن أقيد منه قال الخراز
عن المدائني قال واسع بن خشرم يرثي هدبة لما قتل ( يا
هُدْبَ يا خيْرَ فتيان العشيرةِ مَنْ ... يُفْجَعْ بمثلك في الدّنيا فقد فُجِعَا ) ( الله
يعلم أنّي لو خشيتهمُ ... أو أَوجسَ القلبُ من خوفٍ لهم فزعا ) ( لم
يقتلوه ولم أُسلِم أخي لهمُ ... حتى نَعيش جَمِيعاً أو نَمُوت معا ) وهذه
الأبيات تمثل بها إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب رضي الله
عنهم لما بلغه قتل أخيه محمد أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن أبي
خيثمة قال حدثني مصعب الزبيري قال كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند أحدنا
خبر هدبة وزيادة وأشعارهما ازدريناه وكنا نرفع من قدر أخبارهما وأشعارهما ونعجب
بها كان جميل بن معمر راوية هدبة أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني محمد
بن الحسن الأحول عن رواية من الكوفيين قالوا كان جميل بن معمر العذري راوية هدبة
وكان هدبة راوية الحطيئة وكان الحطيئة راوية كعب بن زهير وأبيه حدثني حبيب بن نصر
المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو المغيرة محمد بن إسحاق قال
حدثني أبو مصعب الزبيري قال حدثني المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه قال بعث
هدبة بن خشرم إلى عائشة زوج النبي يقول لها استغفري لي فقالت إن قتلت استغفرت لك صوت
( أَلم تَرَ أنّي يومَ جوِّ سُوَيْقَةٍ ... بكيتُ فنادتني هُنيدةُ ماليَا ) ( فقلتُ
لها إنّ البكاء لراحةٌ ... به يشتفي مَنْ ظَنّ أن لا تلاقيا ) ( قِفي
ودّعينا يا هُنَيْدَ فإنّني ... أرى القوم قد شاموا العَقِيقَ اليمانيا ) ويروى
أرى الركب قد شاموا - ( إذا
اغرورقت عَيناي أسبَلَ نهما ... الى أن تغيب الشِّعْريان بكائيا ) الشعر
للفرزدق من قصيدة يهجو بها جريرا وهي فيما قيل أول قصيدة هجاه بها والغناء لابن
سريج خفيف ثقيل عن الهشامي قال الهشامي وفيه لمالك ثقيل أول وابتداء اللحنين جميعا
( ألم تر أني يوم جوّ سُوَيْقَة ... ) ولعلوية
فيه لحن من الرمل المطلق ابتداؤه ( قِفي
ودّعينا يا هُنَيْدَ فإنّني ... ) نسب
الفرزدق وأخباره وذكر مناقضاته الفرزدق لقب غلب عليه وتفسيره الرغيف الضخم الذي
يجففه النساء للفتوت وقيل بل هو القطعة من العجين التي تبسط فيخبز منها الرغيف شبه
وجهه بذلك لأنه كان غليظا جهما واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن
محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن مالك ابن حنظلة بن زيد مناة بن تميم قال أبو
عبيدة اسم دارم بحر واسم أبيه مالك عوف ويقال عرف وسمي دارم دارما لأن قوما أتوا
أباه مالكا في حمالة فقال له قم يا بحر فأتني بالخريطة - يعني
خريطة كان له فيها مال - فحملها يدرم عنها ثقلا والدرمان تقارب الخطو فقال لهم
جاءكم يدرم بها فسمي دارما وسمي أبوه مالك عرفا لجوده وأم غالب ليلى بنت حابس بن
عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع وكان للفرزدق أخ يقال له هميم ويلقب الأخطل ليست
له نباهة فأعقب ابنا يقال له محمد فمات والفرزدق حي فرثاه وخبره يأتي بعد وكان
للفرزدق من الولد خبطة ولبطة وسبطة هؤلاء المعروفون وكان له غيرهم فماتوا ولم
يعرفوا وكان له بنات خمس أو ست وأم الفرزدق - فيما ذكر أبو عبيدة - لينة بنت قرظة
الضبية كان يقال لجده صعصعة محيي الموءودات وكان يقال لصعصعة محيي الموؤودات وذلك أنه
كان مر برجل من قومه وهو يحفر بئرا وامرأته تبكي فقال لها صعصعة ما يبكيك قالت
يريد أن يئد ابنتي هذه فقال له ما حملك على هذا قال الفقر قال فإني أشتريها منك
بناقتين يتبعهما أولادهما تعيشون بألبانهما ولا تئد الصبية قال قد فعلت فأعطاه
الناقتين وجملا كان تحته فحلا وقال في نفسه إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من
العرب فجعل على نفسه ألا يسمع بموءودة إلا فداها فجاء الإسلام وقد فدى ثلثمائة
موءودة وقيل أربعمائة أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة وأخبرني
بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد
السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة عن عقال بن شبة قال قال صعصعة خرجت باغيا
ناقتين لي فارقتين - والفارق التي تفرق إذا ضربها المخاض فتند على وجهها حتى تنتج
- فرفعت لي نار فسرت نحوها وهممت بالنزول فجعلت النار تضيء مرة وتخبو أخرى فلم تزل
تفعل ذلك حتى قلت اللهم لك علي إن بلغتني هذه النار ألا أجد أهلها يوقدون لكربة
يقدر أحد من الناس أن يفرجها إلا فرجتها عنهم قال فلم أسر إلا قليلا حتى أتيتها
فإذا حي من بني أنمار بن الهجيم بن عمرو بن تميم وإذا أنا بشيخ حادر أشعر يوقدها
في مقدم بيته والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض قد حبستهن ثلاث ليال فسلمت فقال
الشيخ من أنت فقلت أنا صعصعة بن ناجية بن عقال قال مرحبا بسيدنا ففيم أنت يابن أخي
فقلت في بغاء ناقتين لي فارقتين عمي على أثرهما فقال قد وجدتهما بعد أن أحيا الله
بهما أهل بيت من قومك وقد نتجناهما وعطفت إحداهما على الأخرى وهما تانك في أدنى
الإبل قال قلت ففيم توقد نارك منذ الليلة قال أوقدها لامرأة ماخض قد حبستنا منذ
ثلاث ليال وتكلمت النساء فقلن قد جاء الولد فقال الشيخ إن كان غلاما فوالله ما
أدري ما أصنع به وإن كانت جارية فلا أسمعن صوتها - أي اقتلنها - فقلت يا هذا ذرها
فإنها ابنتك ورزقها على الله فقال اقتلنها فقلت أنشدك الله فقال إني أراك بها حفيا
فاشترها مني فقلت إني أشتريها منك فقال ما تعطيني قلت أعطيك إحدى ناقتي قال لا قلت
فأزيدك الأخرى فنظر إلى جملي الذي تحتي فقال لا إلا أن تزيدني جملك هذا فإني أراه
حسن اللون شاب السن فقلت هو لك والناقتان على أن تبلغني أهلي عليه قال قد فعلت
فابتعتها منه بلقوحين وجمل وأخذت عليه عهد الله وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما
عاشت حتى تبين منه أو يدركها الموت فلما برزت من عنده حدثتني نفسي وقلت إن هذه
لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فآليت ألا يئد أحد بنتا له إلا اشتريتها منه
بلقوحين وجمل فبعث الله عز و جل محمدا وقد أحييت مائة موءودة إلا أربعا ولم
يشاركني في ذلك أحد حتى أنزل الله تحريمه في القرآن وقد فخر بذلك الفرزدق في عدة
قصائد من شعره ومنها قصيدته التي أولها ( أبِي
أحدُ الغَيْثيْن صعصعةُ الذي ... متى تُخْلفِ الجوزاءُ والدّلْوُ يُمْطِرِ ) ( أَجارَ
بناتِ الوائدِينَ ومن يُجِرْ ... على الفقر يُعْلمْ أنه غيرُ مُخْفِر ) ( على
حينَ لا تحيا البناتُ وإذ هُمُ ... عكوف على الأصنام حول المدَوَّرِ ) - المدور
يعني الدوار الذي حول الصنم وهو طوافهم - ( أنا
ابن الذي ردّ المنيةَ فضلُهُ ... فما حسبٌ دافعتُ عنه بمُعْوِرِ ) ( وفارقِ
ليلٍ من نساء أتت أبي ... تُمارس ريحاً ليلُها غير مُقْمِر ) ( فقالت
أَجِرْ لي ما ولدتُ فإنني ... أتيتك من هزلَى الحَمولةِ مُقْتِر ) ( هِجفٌّ
من العُثْو الرؤوس إذا بدت ... له ابنةُ عامٍ يحطم العظم منكر ) ( رأى
الأرضَ منها راحةً فرمى بها ... إلى خُدَدٍ منها إلى شرّ مخفر ) ( فقال
لها فِيئي فإني بذمتي ... لبنتك جارٌ من أبيها القَنَوَّر ) إسلام
أبيه على يد الرسول ووفد غالب بن صعصعة إلى النبي فأسلم وقد كان وفده أبوه صعصعة
إلى النبي فأخبره بفعله في الموءودات فاستحسنه وسأله هل له في ذلك من أجر قال نعم
فأسلم وعمر غالب حتى لحق أمير المؤمنين عليا صلوات الله عليه بالبصرة وأدخل إليه
الفرزدق وأظنه مات في إمارة زياد وملك معاوية أخبرني محمد بن الحسين الكندي وهاشم
بن محمد الخزاعي وعبد العزيز بن أحمد عم أبي قالوا حدثنا الرياشي قال حدثنا العلاء
بن الفضل ابن عبد الملك بن أبي سوية قال حدثني عقال بن كسيب أبو الخنساء العنبري
قال حدثني الطفيف بن عمرو الربعي عن ربيعة بن مالك بن حنظلة عن صعصعة بن ناجية
المجاشعي جد الفرزدق قال قدمت على النبي فعرض علي الإسلام فأسلمت وعلمني آيات من
القرآن فقلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية هل لي فيها من أجر فقال وما
عملت فقلت إني أضللت ناقتين لي عشراوين فخرجت أبغيهما على جمل فرفع لي بيتان في فضاء
من الأرض فقصدت قصدهما فوجدت في أحدهما شيخا كبيرا فقلت له هل أحسست من ناقتين
عشراوين قال وما نارهما - يعني السمة - فقلت ميسم بني دارم فقال قد أصبت ناقتيك
ونتجناهما وظأرتا على أولادهما ونعش الله بهما أهل بيت من قومك من العرب من مضر
فبينا هو يخاطبني إذ نادته امرأة من البيت الآخر قد ولدت فقال وما ولدت إن كان
غلاما فقد شركنا في قوتنا وإن كانت جارية فادفنوها فقالت هي جارية أفأئدها فقلت
وما هذا المولود قالت بنت لي فقلت إني أشتريها منك فقال يا أخا بني تميم أتقول لي
أتبيعني ابنتك وقد أخبرتك أني من العرب من مضر فقلت إني لا أشتري منك رقبتها إنما
أشتري دمها لئلا تقتلها فقال وبم تشتريها فقلت بناقتي هاتين وولديهما قال لا حتى
تزيدني هذا البعير الذي تركبه قلت نعم على أن ترسل معي رسولا فإذا بلغت أهلي رددت
إليك البعير ففعل فلما بلغت أهلي رددت إليه البعير فلما كان في بعض الليل فكرت في
نفسي فقلت إن هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فظهر الإسلام وقد أحييت ثلثمائة
وستين موؤودة أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر يا
رسول الله فقال عليه السلام هذا باب من البر ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام
قال عباد ومصداق ذلك قول الفرزدق ( وجدِّي
الذي منع الوائداتِ ... وأحيا الوئيد فلم يُؤأَدِ ) أخبرني
محمد بن يحيى عن الغلابي عن العباس بن بكار عن أبي بكر الهذلي قال وفد صعصعة بن
ناجية جد الفرزدق على رسول الله في وفد من تميم وكان صعصعة قد منع الوئيد في
الجاهلية فلم يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك فجاء الإسلام وقد فدى أربعمائة جارية
فقال للنبي أوصني فقال أوصيك بأمك وأبيك وأخيك وأختك وإمائك قال زدني قال احفظ ما
بين لحييك وما بين رجليك ثم قال له عليه السلام ما شيء بلغني عنك فعلته قال يا
رسول الله رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الوجه غير أني علمت أنهم
ليسوا عليه ورأيتهم يئدون بناتهم فعلمت أن ربهم لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم يئدون
وفديت من قدرت عليه وروى أبو عبيدة أنه قال للنبي إني حملت حمالات في الجاهلية والإسلام
وعلي منها ألف بعير فأديت من ذلك سبعمائة فقال له إن الإسلام أمر بالوفاء ونهى عن
الغدر فقال حسبي حسبي ووفى بها وروي أنه إنما قال هذا القول لعمر بن الخطاب وقد
وفد إليه في خلافته وكان صعصعة شاعرا وهو الذي يقول أنشدنيه محمد بن يحيى له ( إذا
المرءُ عادى من يودُّك صدرُه ... وكان لمن عاداك خِدْناً مُصَافيَا ) ( فلا
تسأَلنْ عما لديه فإنّه ... هو الداءُ لا يخفى بذلك خافيا ) أبوه
هو اعطى تميم وبكر أخبرني محمد بن يحيى عن محمد بن زكريا عن عبد الله بن الضحاك عن
الهيثم بن عدي عن عوانة قال تراهن نفر من كلب ثلاثة على أن يختاروا من تميم وبكر
نفرا ليسائلوهم فأيهم أعطى ولم يسألهم عن نسبهم من هم فهو أفضلهم فاختار كل رجل
منهم رجلا والذين اختيروا عمير بن السليك بن قيس بن مسعود الشيباني وطلبة بن قيس
بن عاصم المنقري وغالب بن صعصعة المجاشعي أبو الفرزدق فأتوا ابن السليك فسألوه
مائة ناقة فقال من أنتم فانصرفوا عنه ثم أتوا طلبة بن قيس فقال لهم مثل قول
الشيباني فأتوا غالبا فسألوه فأعطاهم مائة ناقة وراعيها ولم يسألهم من هم فساروا
بها ليلة ثم ردوها وأخذ صاحب غالب الرهن وفي ذلك يقول الفرزدق ( وإذا
ناحبْت كلَبٌ على الناس أيُّهم ... أحقُّ بتاج الماجد المتكرِّم ) ( على
نفرٍ هُم من نزار ذوي العلا ... وأهل الجراثيم التي لم تهدَّم ) ( فلم
يُجْزِ عن أَحسابهم غيرُ غالبٍ ... جرَى بعنان كلِّ أبيضَ خِضرم ) مباراة
في الكرم بين أبيه وسحيم بن وثيل أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم
عن أبي عبيدة عن جهم السليطي عن إياس بن شبة عن عقال بن صعصعة قال أجدبت بلاد تميم
وأصابت بني حنظلة سنة في خلافة عثمان فبلغهم خصب عن بلاد كلب بن وبرة فانتجعتها
بنو حنظلة فنزلوا أقصى الوادي وتسرع غالب بن صعصعة فيهم وحده دون بني مالك بن
حنظلة ولم يكن مع بني يربوع من بني مالك غير غالب فنحر ناقته فأطعمهم إياها فلما
وردت إبل سحيم بن وثيل الرياحي حبس منها ناقة فنحرها من غد فقيل لغالب إنما نحر
سحيم مواءمة لك أي مساواة لك فضحك غالب وقال كلا ولكنه امرؤ كريم وسوف أنظر في ذلك
فلما وردت إبل غالب حبس منها ناقتين فنحرهما فأطعمهما بني يربوع فعقر سحيم ناقتين
فقال غالب الآن علمت أنه يوائمني فعقر غالب عشرا فأطعمها بني يربوع فعقر سحيم عشرا
فلما بلغ غالبا فعله ضحك وكانت إبله ترد لخمس فلما وردت عقرها كلها عن آخرها
فالمكثر يقول كانت أربعمائة والمقل يقول كانت مائة فأمسك سحيم حينئذ ثم إنه عقر في
خلافة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بكناسة الكوفة مائتي ناقة وبعير فخرج الناس
بالزنابيل والأطباق والحبال لأخذ اللحم ورآهم علي عليه السلام فقال أيها الناس لا يحل
لكم إنما اهل بها لغير الله عز و جل قال فحدثني من حضر ذلك قال كان الفرزدق يومئذ
مع أبيه وهو غلام فجعل غالب يقول يا بني اردد علي والفرزدق يردها عليه ويقول له يا
أبت اعقر قال جهم فلم يغن عن سحيم فعله ولم يجعل كغالب إذ لم يطق فعله قيد نفسه
حتى حفظ القرآن حدثني محمد بن يحيى عن محمد بن القاسم يعني أبا العيناء عن أبي زيد
النحوي عن أبي عمرو قال جاء غالب أبو الفرزدق إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه
بالفرزدق بعد الجمل بالبصرة فقال إن ابني هذا من شعراء مضر فأسمع منه قال علمه
القرآن فكان ذلك في نفس الفرزدق فقيد نفسه في وقت وآلى لا يحل قيده حتى يحفظ القرآن
قال محمد بن يحيى فقد صح لنا أن الفرزدق كان شاعرا موصوفا أربعا وسبعين سنة وندع
ما قبل ذلك لأن مجيئه به بعد الجمل على الاستظهار كان في سنة ست وثلاثين وتوفي
الفرزدق في سنة عشر ومائة في أول خلافة هشام هو وجرير والحسن البصري وابن سيرين في
ستة أشهر وحكي ذلك عن جماعة منهم الغلابي عن ابن عائشة عن أبيه أخبرني محمد بن
يحيى الصولي عن الغلابي عن ابن عائشة أيضا عن أبيه قال قال الفرزدق أيضا كنت أجيد
الهجاء في ايام عثمان قال ومات غالب أبو الفرزدق في أول أيام معاوية ودفن بكاظمة
فقال الفرزدق يرثيه ( لقد
ضمّت الأكفانُ من آل دارمٍ ... فتىً فائِضَ الكفّين محضَ الضَّرائب ) المفضل
الضبي يفاضل بينه وبين جرير أخبرني حبيب المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد
قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني جعفر بن محمد العنبري عن خالد ابن أم
كلثوم قال قيل للمفضل الضبي الفرزدق أشعر أم جرير قال الفرزدق قال قلت ولم قال
لأنه قال بيتا هجا فيه قبيلتين ومدح فيه قبيلتين وأحسن في ذلك فقال ( عجبتُ
لِعجلٍ إذ تُهاجِي عَبِيدَها ... كما آلُ يربوع هَجَوْا آلَ دَارِمِ ) فقيل
له قد قال جرير ( إنّ
الفرزدقَ والبَعِيثَ وأمّه ... وأَبَا البَعِيث لشرّ ما إِستارِ )
فقال وأي شيء أهون من أن يقول
إنسان فلان وفلان وفلان والناس كلهم بنو الفاعلة أخبرني عبد الله بن مالك قال
حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني موسى بن طلحة قال قال أبو عبيدة معمر بن المثنى كان
الشعراء في الجاهلية من قيس وليس في الإسلام مثل حظ تميم في الشعر وأشعر تميم جرير
والفرزدق ومن بني تغلب الأخطل قال يونس بن حبيب ما ذكر جرير والفرزدق في مجلس
شهدته قط فاتفق المجلس على أحدهما قال وكان يونس فرزدقيا أخبرني عمي عن محمد بن
رستم الطبري عن أبي عثمان المازني قال مر الفرزدق بابن ميادة الرماح والناس حوله
وهو ينشد ( لو أنّ جميعَ الناس كانوا بربوة
... وجئتُ بجَدّي ظالِمٍ وابنِ ظَالِم ) ( لظلَّت
رقاب الناس خاضعةً لنا ... سُجوداً على أقدامنا بالجماجم ) فسمعه
الفرزدق فقال أما والله يا بن الفارسية لتدعنه لي أو لأنبشن أمك من قبرها فقال له
ابن ميادة خذه لا بارك الله لك فيه فقال الفرزدق ( لو
أنّ جميعَ الناس كانوا بربوة ... وجئتُ بجَدّي دارِمٍ وابنِ دارِمِ ) ( لظلَّت
رقاب الناس خاضعةً لنا ... سُجوداً على أقدامنا بالجماجم ) هو
وجرير يتشاكيان عند يزيد بن عبد الملك أخبرني عمي عن الكراني عن أبي فراس الهيثم
بن فراس قال حدثني ورقة بن معروف عن حماد الراوية قال دخل جرير والفرزدق على يزيد
بن عبد الملك وعنده بنية له يشمها فقال جرير ما هذه يا أمير المؤمنين عندك قال
بنية لي قال بارك الله لأمير المؤمنين فيها فقال الفرزدق إن يكن دارم يضرب فيها
فهي أكرم العرب ثم أقبل يزيد على جرير فقال مالك والفرزدق قال إنه يظلمني ويبغي
علي فقال الفرزدق وجدت آبائي يظلمون آباءه فسرت فيه بسيرتهم قال جرير وأما والله
لتردن الكبائر على أسافلها سائر اليوم فقال الفرزدق أما بك يا حمار بني كليب فلا
ولكن إن شاء صاحب السرير فلا والله ما لي كفء غيره فجعل يزيد يضحك أخبرنا عبد الله
بن مالك عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن حماد الراوية قال أنشدني الفرزدق يوما
شعرا له ثم قال لي أتيت الكلب يعني جريرا قلت نعم قال أفأنا أشعر أم هو قلت أنت في
بعض وهو في بعض قال لم تناصحني قال قلت هو أشعر منك إذا أرخي من خناقه وأنت أشعر
منه إذا خفت أو رجوت قال قضيت لي والله عليه وهل الشعر إلا في الخير والشر قال
وروي عن أبي الزناد عن أبيه قال قال لي جرير يا أبا عبد الرحمن أنا أشعر أم هذا
الخبيث يعني الفرزدق وناشدني لأخبرنه فقلت لا والله ما يشاركك ولا يتعلق بك في
النسيب قال أوه قضيت والله له علي أنا والله أخبرك ما دهاني إلا أني كذا وكذا
شاعرا فسمى عددا كثيرا وأنه تفرد لي وحدي خبره مع النوار ابنة عمه أخبرني عبد الله
قال قال المازني قال أبو علي الحرمازي كان من خبر الفرزدق والنوار ابنة أعين بن
صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعي وكانت ابنة عمه أنه خطبها رجل من بني عبد الله بن
دارم فرضيته وكان الفرزدق وليها فأرسلت إليه أن زوجني من هذا الرجل فقال لا أفعل
أو تشهديني أنك قد رضيت بمن زوجتك ففعلت فلما توثق منها قال أرسلي إلى القوم
فليأتوا فجاءت بنو عبد الله بن دارم فشحنوا مسجد بني مجاشع وجاء الفرزدق فحمد الله
وأثنى عليه ثم قال قد علمتم أن النوار قد ولتني أمرها وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على
مائة ناقة حمراء سوداء الحدقة فنفرت من ذلك وأرادت الشخوص إلى ابن الزبير حين
أعياها أهل البصرة ألا يطلقوها من الفرزدق حتى يشهد لها الشهود وأعياها الشهود أن
يشهدوا لها اتقاء الفرزدق وابن الزبير يومئذ أمير الحجاز والعراق يدعى له بالخلافة
فلم تجد من يحملها وأتت فتية من بني عدي بن عبد مناة بن أد يقال لهم بنو أم النسير
فسألتهم برحم تجمعهم وإياها وكانت بينها وبينهم قرابة فأقسمت عليهم أمها ليحملنها
فحملوها فبلغ ذلك الفرزدق فاستنهض عدة من أهل البصرة فأنهضوه واوقروا له عدة من
الإبل وأعين بنفقة فتبع النوار وقال ( أطاعت
بني أم النُّسَيْر فأصبحت ... على شارفٍ ورقاءَ صعبٍ ذلولُها ) ( وإنّ
الذي أمسى يخبِّب زوجتي ... كماشٍ إلى أُسْد الشّرى يَستبِيلها ) فأدركها
وقد قدمت مكة فاستجارت بخولة بنت منظور بن زيان بن سيار الفزاري وكانت عند عبد
الله بن الزبير فلما قدم الفرزدق مكة اشرأب الناس إليه ونزل على بني عبد الله بن
الزبير فاستنشدوه واستحدثوه ثم شفعوا له إلى أبيهم فجعل يشفعهم في الظاهر حتى إذا
صار إلى خولة قلبته عن رأيه فمال إلى النوار فقال الفرزدق في ذلك صوت ( أمّا بنوه
فلم تُقْبل شفاعتُهم ... وشُفّعت بنتُ منظورِ بن زِبّانَا ) ( ليس
الشّفيع الذي يأتيك مُؤْتَزِراً ... مثلَ الشفيع الذي يأتيكَ عُرْيانَا ) لعريب
في هذا البيت خفيف رمل قال وسفر بينهما رجال من بني تميم كانوا بمكة فاصطلحا على
أن يرجعا إلى البصرة ولا يجمعهما ظل ولا كن حتى يجمعا في أمرهما ذلك بني تميم
ويصيرا على حكمهم ففعلا فلما صارا إلى البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها قال
وقال غير الحرمازي إن ابن الزبير قال للفرزدق جئني بصداقها فرقت بينكما فقال
الفرزدق أنا في بلاد عربة فكيف أصنع قالوا له عليك بسلم بن زياد فإنه محبوس في
السجن يطالبه ابن الزبير بمال فأتاه فقص عليه قصته قال كم صداقها قال أربعة آلاف
درهم فأمر له بها وبألفين للنفقة فقال للفرزدق ( دعِي
مُغلِقي الأبواب دون فَعالهم ... ولكن تمشَّى بي - هُبِلْت - إلى سَلمِ ) ( إلى
مَن يرى المعروفَ سهلاً سَبِيلُه ... ويفعلُ أفعال الرجال التي تَنمِي ) قال
فدفعها إليه الزبير فقال الفرزدق ( هلمّي
لابن عمك لا تكوني ... كمختارٍ على الفرس الحمارا ) قال
فجاء بها إلى البصرة - وقد أحبلها - فقال جرير في ذلك ( ألا
تِلكمُ عِرسُ الفرزدق جامحاً ... ولو رضِيَتْ رُمح استِهِ لاستقرَّت ) فأجابه
الفرزدق وقال ( وأمُّك
لو لاقيتُها بِطِمرَّةٍ ... وجاءت بها جوف استِها لاستقرّت ) وقال
الفرزدق وهو يخاصم النوار ( تُخاصمني
وقد أولجتُ فيها ... كرأس الضَّبّ يلتمس الجرادا ) قال
الحرمازي ومكثت النوار عنده زمانا ترضى عنه أحيانا وتخاصمه أحيانا وكانت النوار
امرأة صالحة فلم تزل تشمئز منه وتقول له ويحك تعلم أنك إنما تزوجت بي ضغطة وعلى
خدعة ثم لا تزال في كل ذلك حتى حلفت بيمين موثقة ثم حنثت وتجنبت فراشه فتزوج عليها
امرأة يقال لها جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لبني الحارث بن عباد بن ضبيعة
وأمها الخميصة من بني الحارث بن عباد فنافرته الخميصة واستعدت عليه فأنكرها
الفرزدق وقال إنها مني بريء طالق وطلق ابنتها وقال ( إن
الخميصةَ كانت لي ولاب نتها ... مثل الهَراسةِ بين النّعل والقَدَم ) ( إذا
أتت أهلَها مني مُطَلَّقة ... فلن أردَّ عليها زَفرَة النَّدم ) جعل
يأتي النوار وبه ردع الخلوق وعليه الأثر فقالت له النوار هل تزوجتها إلا هدادية -
تعني حيا من أزد عمان - فقال الفرزدق في ذلك ( تُريكَ
نجومَ الليل والشَّمسُ حَيَّةٌ ... كرامُ بنات الحارث بن عُبادِ ) ( أبوها
الذي قاد النّعامة بعد ما ... أبت وائلٌ في الحرب غير تمادِ ) ( نساءٌ
أبوهنّ الأعزُّ ولم تكن ... من الأزد في جاراتها وهَدادِ ) ( ولم
يكُ في الحيّ الغموضِ محلُّها ... ولا في العُمانيّيين رهطِ زيادِ ) ( عَدلتُ
بها مَيلَ النّوار فأَصبحتْ ... وقد رَضيت بالنّصف بعد بعادِ ) قال
فلم تزل النوار ترققه وتستعطفه حتى أجابها إلى طلاقها وأخذ عليها ألا تفارقه ولا
تبرح من منزله ولا تتزوج رجلا بعده ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له وأخذت
عليه أن يشهد الحسن البصري على طلاقها ففعل ذلك قال المازني وحدثني محمد بن روح
العدوي عن أبي شفقل راوية الفرزدق قال ما استصحب الفرزدق أحدا غيري وغير راوية آخر
وقد صحب النوار رجال كثيرة إلا أنهم كانوا يلوذون بالسواري خوفا من أن يراهم
الفرزدق فأتيا الحسن فقال له الفرزدق يا أبا سعيد قال له الحسن ما تشاء قال أشهد
أن النوار طالق ثلاثا فقال الحسن قد شهدنا فلما انصرفنا قال يا أبا شفقل قد ندمت
فقلت له والله إني لأظن أن دمك يترقرق أتدري من أشهدت والله لئن رجعت لترجمن
بأحجارك فمضى وهو يقول ( ندمتُ
ندامةَ الكُسَعِيّ لمّا ... غدت منّي مُطلَّقةً نوارُ ) ( ولو
أنّي ملكتُ يدي وقلبي ... لكان عليّ للقدَر الخيارُ ) ( وكانت
جَنّتي فخرجتُ منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار ) ( وكنتُ
كفاقىءٍ عينيه عمداً ... فأصبح ما يضيء له النهارُ ) يهجو
بني قيس لأنهم ألجأوا النوار وأخبرني بخبره مع النوار أحمد بن عبد العزيز قال
حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى عن أبيه يحيى بن علي بن حميد أن النوار
لما كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري ليمنعوها فقال
الفرزدق فيهم ( بني
عاصم لا تجنبوها فإنكم ... ملاجِىءُ للسوءات دُسْم العَمائِم ) ( بَنِي
عاصمٍ لو كان حَيّاً أبوكم ... للام بنيه اليومَ قيسُ بن عاصمِ ) فبلغهم
ذلك الشعر فقالوا له والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة وخلوه والنوار
وأرادت منافرته إلى ابن الزبير فلم يقدر أحد على أن يكريها خوفا منه ثم إن قوما من
بني عدي يقال لهم بنو أم النسير أكروها فقال الفرزدق ( ولولا
أن يقول بنو عدِيٍّ ... ألم تَك أمَّ حَنظلة النَّوارُ ) ( أَتتكم
يا بني مِلْكان عنّي ... قوافٍ لا تُقسّمها التِّجارُ ) وقال
فيهم أيضا ( لعمري لقد أردى النّوارَ وساقها
... إلى البور أحلامٌ خِفافٌ عقولُها ) ( أطاعت
بني أمّ النسير فأصبحت ... على قَتب يعلو الفلاة دليلها ) ( وقد
سَخِطَت مِنّي النّوارُ الذي ارتضَى ... به قبلَها الأزواجُ خاب رحيلُها ) ( وإن
امرأ أمسى يُخَبّب زوجتي ... كساعٍ إلى أُسْدِ الشرى يستبيلها ) ( ومن
دون أَبواب الأسود بَسالةً ... وبَسْطَة أَيدٍ يمنع الضّيْمَ طُولُها ) ( وإنّ
أميرَ المؤرمنين لعالِمٌ ... بتأويل ما وَصَّى العِبَادَ رَسُولُها ) ( فَدُونَكَها
يابنَ الزبير فإنها ... مُوَلَّعَة يُوهِي الحجارةَ قِيلُها ) ( وما
جادل الأقوامَ من ذي خصومة ... كورهاء مَشْنوءٍ إليها حليلُها ) فلما
قدمت مكة نزلت على تماضر بنت منظور بن زبان زوجة عبد الله بن الزبير ونزل الفرزدق
بحمزة بن عبد الله بن الزبير ومدحه بقوله ( أَمسيتُ
قد نزلتْ بحمزة حاجَتِي ... إن المنوَّه باسمِه الموثوقُ ) ( بأبي
عمارةَ خيرِ من وَطِىء الحصا ... وجرت له في الصالحين عُروقُ ) ( بين
الحواريِّ الأعزّ وهاشمٍ ... ثم الخليفةُ بعدُ والصِّدِّيق ) غنى
في هذه الأبيات ابن سريج رملا بالبنصر قال فجعل أمر النوار يقوى وأمر الفرزدق يضعف
فقال ( أَمَّا بنوه فلم تُقْبل شفَاعتُهم
... وَشُفِّعَتْ بنتُ منظورِ بنِ زِبَّانَا ) ملاحاة
بينه وبين ابن الزبير وقال ابن الزبير للنوار إن شئت فرقت بينكما وقتلته فلا
يهجونا أبدا وإن شئت سيرته إلى بلاد العدو فقالت ما أريد واحدة منهما فقال لها
فإنه ابن عمك وهو فيك راغب فأزوجك إياه قالت نعم فزوجها منه فكان الفرزدق يقول
خرجنا ونحن متباغضان فعدنا متحابين قال وكان الفرزدق قال لعبد الله بن الزبير -
وقد توجه الحكم عليه - إنما تريد أن أفارقها فتثب عليها وكان ابن الزبير حديدا
فقال له هل أنت قومك إلا جالية العرب ثم أمر به فأقيم وأقبل على من حضر فقال إن
بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه فاجتمعت
العرب عليها لما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من أرض تهامة قال فلقي
الفرزدق بعض الناس فقال إيه يعيرنا ابن الزبير بالجلاء اسمع ثم قال ( فإن
تغْضَبْ قريشٌ أو تَغَضَّب ... فإنَّ الأرضَ تُوعِبُها تميم ) ( هُم
عَددُ النجوم وكلُّ حيٍّ ... سواهمْ لا تُعدُّ له نجوم ) ( ولولا
بيت مكةَ ما ثويتم ... بها صحَّ المنابتُ والأروم ) ( بها
كثُر العديدُ وطاب منكم ... وغيرُكم أخِيذُ الريش هِيم ) ( فمهلاً
عن تعلّل مَن غَدَرْتم ... بخونته وعذَّبه الحَميم ) ( أعبدَ
اللهِ مهلاً عن أداتي ... فإني لا الضعيفُ ولا السؤوم ) ( ولكنِّي
صفاةٌ لم تُدَنَّس ... تزِلُّ الطيرُ عنها والعُصومُ ) ( أنا
ابن العاقِر الخُورَ الصّفايا ... بضوّى حين فُتِّحت العُكوم ) قال
فبلغ هذا الشعر ابن الزبير وخرج للصلاة فرأى الفرزدق في طريقه فغمز عنقه فكاد
يدقها ثم قال ( لقد
أصبحت عِرسُ الفرزدق ناشزاً ... ولو رَضِيت رُمحَ استه لاستقرّت ) وقال
هذا الشعر لجعفر بن الزبير وقيل إن الذي كان تقرر عليه عشرة آلاف درهم وإن سلم بن
زياد أمر له بعشرين ألف درهم مهرا ونفقة فقبضها فقالت له زوجته أم عثمان بنت عبد
الله بن عمرو بن أبي العاص الثقفية أتعطي عشرين ألف درهم وأنت محبوس فقال ( ألا
بَكَرَتْ عِرسِي تلومُ سفاهةً ... على ما مضى مني وتأمرُ بالبُخْلِ ) ( فقلتُ
لها - والجودُ مِنِّي سجيّةٌ - ... وهل يمنع المعروفَ سُوَّالَه مِثلي ) ( ذَرِيني
فإنّي غيرُ تارك شِيمتي ... ولا مُقصرٍ طول الحياة عن البذْلِ ) ( ولا
طاردٍ ضيفي إذا جاء طارقا ... وقد طرق الأضيافُ شيخيَ من قبلي ) ( أَأَبخَلُ
إن البُخْل ليس بمُخْلِدي ... ولا الجودُ يدنيني إلى الموت والقتل ) ( أَبيعُ
بني حرب بآلِ خويلدٍ ... وما ذاك عند الله في البيع بالعدل ) ( وليس
ابنُ مروان الخليفةُ مشبهاً ... لفحل بَني العوَّام قُبِّح من فحل ) ( فإن
تُظهرُوا ليَ البخلَ آلَ خُوَيْلد ... فما دأْبكم دأْبِي ولا شكلُكم شكلِي ) ( وإن
تَقهروني حين غابت عشيرتي ... فمن عجبِ الأيام أن تقهروا مِثلي ) فلما
اصطلحا ورضيت به ساق إليها مهرها ودخل بها وأحبلها قبل أن يخرج من مكة ثم خرجا
وهما عديلان في محمل وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام عن إبراهيم بن حبيب بن
الشهيد بنحو من هذه القصة قال عمر بن شبة قال الفرزدق في خبره ( يا
حمزَ هل لك في ذي حاجة عَرضت ... أنضاؤه بمكان غيرِ ممطور ) ( فأنت
أحرى قريش أن تكون لها ... وأنت بين أبي بكر ومنظور ) ( بين الحواري والصدّيق في
شُعَبٍ ... ثَبَتْنَ في طُنُب الإِسلام والخير ) كانت
القبائل تتقي هجاءه أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا عبد القاهر
بن السري السلمي قال كان فتى من بني حرام شويعر هجا الفرزدق قال فأخذناه فأتينا به
الفرزدق وقلنا هذا بين يديك فإن شئت فاضرب وإن شئت فاحلق فلا عدوى عليك ولا قصاص
قد برئنا إليك منه قال فخلى سبيله وقال ( فمن
يك خائفاً لأذاة شعري ... فقد أمِنَ الهجاء بَنُو حرامِ ) ( هم
قادوا سفيههم وخافوا ... قلائدَ مثل أَطواق الحمامِ ) قال
ابن سلام وحدثني عبد القاهر قال مر الفرزدق بمجلسنا مجلس بني حرام ومعنا عنبسة
مولى عثمان بن عفان فقال يا أبا فراس متى تذهب إلى الآخرة قال وما حاجتك إلى ذاك
يا أخي قال أكتب معك إلى أبي قال أنا لا أذهب إلى حيث أبوك أبوك في النار اكتب
إليه مع ريالويه واصطقانوس أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه قال أخبرني مخبر
عن خالد بن كلثوم الكلبي قال مررت بالفرزدق وقد كنت دونت شيئا من شعره وشعر جرير
وبلغه ذلك فاستجلسني فجلست إليه وعذت بالله من شره وجعلت أحدثه حديث أبيه وأذكر له
ما يعجبه ثم قلت له إني لأذكر يوم لقبك بالفرزدق قال وأي يوم قال مررت به وأنت صبي
فقال له بعض من كان يجالسه كأن ابنك هذا الفرزدق دهقان الحيرة في تيهه وأبهته فسماك
بذاك فأعجبه هذا القول وجعل يستعيد ثم قال أنشدني بعض أشعار ابن المراغة فيّ فجعلت
أنشده حتى انتهيت ثم قال فأنشد نقائضها التي أجبته بها فقلت ما أحفظها فقال يا
خالد أتحفظ ما قاله في ولا تحفظ نقائضه والله لأهجون كلبا هجاء يتصل عاره بأعقابها
إلى يوم القيامة إن لم تقم حتى تكتب نقائضها أو تحفظها وتنشدنيها فقلت أفعل فلزمته
شهرا حتى حفظت نقائضها وأنشدته إياها خوفا من شره زواجه من حدراء بنت زيق أخبرني
عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال تزوج الفرزدق
حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس الشيباني وخاصمته النوار وأخذت بلحيته فجاذبها وخرج
عنها مغضبا وهو يقول ( قامَتْ
نوارُ إليَّ تَنتِف لِحيتي ... تَنْتافَ جعدةَ لحيةَ الخشخاشِ ) ( كلتاهما
أسدٌ إذا ما أُغْضِبت ... وإذا رَضينَ فهنْ خير معاشِ ) قال
والخشخاش رجل من عنزة وجعد امرأته فجاءت جعدة إلى النوار فقالت ما يريد مني
الفرزدق أما وجد لامرأته أسوة غيري وقال الفرزدق يفضل عليها حدراء ( لعمرِي
لأَعرابيَّةٌ في مَظلّةٍ ... تظلُّ برَوقي بيتها الريحُ تخْفُق ) ( أحبُّ
إلينا من ضِنَاك ضِفَنَّة ... إذا وُضعت عنها المراويحُ تَغرَقُ ) ( كرِيمِ
غزالٍ أو كُدرَّةِ غائصٍ ... يكاد - إذا مرت - لها الأرض تُشرقُ ) فلما
سمعت النوار ذلك أرسلت إلى جرير وقالت للفرزدق والله لأخزينك يا فاسق فجاء جرير
فقالت له أما ترى ما قال الفاسق وشكته إليه وأنشدته شعره فقال جرير أنا أكفيك
وأنشأ يقول ( ولَسْت
بمعطي الحكم عن شَفِّ منصبٍ ... ولا عن بنات الحنظليّين راغبُ ) ( وهنّ
كماء المزنِ يُشْفَى به الصَّدى ... وكانت مِلاحاً غيرَهُنَّ المشارِبُ ) ( لقد
كنتَ أهلا أن يسوق دياتكم ... إلى آل زِيق أن يعيبَك عائب ) ( وما
عدلتْ ذاتُ الصليبِ ظعينةً ... عُتَيْبةُ والرّدفان منها وحاجبُ ) ( أأهْديتَ
يا زيقُ بن بَسطامَ ظَبيةً ... إلى شرِّ من تُهْدَى إليه القرائبُ ) ( ألا
رُبَّما لم نُعْطِ زِيقاً بحُكمِه ... وأَدّى إلينا الحكمَ والغُلُّ لازبُ ) ( حَوينَا
أبا زِيقٍ وزيقاً وعمَّه ... وجَدّةُ زِيق قد حَوتْها المقانِبُ ) فأجابه
الفرزدق فقال ( تقول
كليبٌ حين مثَّت سِبالها ... وأعشَبَ من مرُوتِها كلُّ جانب ) ( لسوّاقِ
أغنام رعتهنّ أمّه ... إلى أن علاها الشيبُ فوق الذوائب ) ( ألستَ
إذا القعساءُ مرت براكب ... إلى آل بِسطام بن قيس بخاطب ) ( وقالوا
سمعنا أنّ حدراءَ زُوِّجَتْ ... على مائَةٍ شُمِّ الذُرى والغوارب ) ( فلو
كنتَ من أكفاء حدْراء لم تلُمْ ... على دَارِميٍّ بين ليلى وغالبِ ) ( فنل
مثلَها من مثلهم ثُم أُمَّهم ... بمِلكك من مال مُراح وعازب ) ( وإني
لأخشى إن خطبتَ إليهمُ ... عليك الذي لاقَى يسارُ الكَراعبِ ) ( ولو
تنكِحُ الشّمسُ النجومَ بناتِها ... نكحنا بناتِ الشمسِ قبل الكواكبِ ) وفي
المناقضات التي دارت بين الفرزدق وجرير حول زواج بنت زيق قال جرير أبياته التي
أولها ( يا زيقُ أنكحتَ قَيناً في استه
حَمَمٌ ... يا زيقُ ويْحَك من أنكحتَ يا زيق ) ( أين
الأُلى أنزلوا النعمان ضاحيةً ... أم أين أبناءُ شيبانَ الغرانيق ) ( يا
رُبّ قائلةٍ بعد البناء بها ... لا الصهرُ راضٍ ولا ابنُ القينِ معشوقُ ) ( غاب
المثنَّى فلم يشهد نَجِيَّكُما ... والحوفزَانُ ولم يشهدْك مفروق ) والفرزدق
يقول لجرير ( إن
كان أنفُك قد أعياك تحمِلُه ... فاركب أتانك ثم اخطُب إلى زِيق ) أخبرني
الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن زكريا بن ثباة الثقفي قال أنشدني
الفرزدق قصيدته التي رثى فيها ابنه فلما انتهى إلى قوله ( بِفي
الشَّامِتِين الصَّخْر إن كان مسَّني ... زريّةُ شِبْل مُخْدِرٍ في الضَّراغم ) قال
يا أبا يحيى أرأيت ابني قلت لا قال والله ما كان يساوي عباءته لبطة بن الفرزدق
ينشد لأبيه قال إسحاق حدثني أبو محمد العبدي عن اليربوعي عن أبي نصر قال قدم لبطة
بن الفرزدق الحيرة فمر بقوم من بني تغلب فاستقراهم فقروه ثم قالوا له من أنت قال
ابن شاعركم ومادحكم وأنا والله ابن الذي يقول فيكم ( أضحى
لتغلبَ من تميمٍ شاعِرٌ ... يرمي الأعاديَ بالقريض الأثقل ) ( إن
غاب كعبُ بني جُعَيلٍ عنهم ... وتنَمَّر الشعراء بعد الأخطل ) ( يتباشرون
بموتِه ووراءهم ... مِنّي لهم قِطعُ العذاب المُرْسلِ ) فقالوا
له فأنت ابن الفرزدق إذا قال أنا هو فتنادوا يا آل تغلب اقضوا حق شاعركم والذائد
عنكم في ابنه فجعلوا له مائة ناقة وساقوها إليه فانصرف بها أخبرنا أبو خليفة عن
محمد بن سلام قال أتى الفرزدق عبد الله بن مسلم الباهلي فسأله فثقل عليه الكثير
وخشيه في القليل وعنده عمرو بن عفراء الضبي راوية الفرزدق وقد كان هجاه جرير
لروايته للفرزدق في قوله ( ونُبِّئْتُ
جوَّاباً وسَلْماً يسبّني ... وعمرو بن عِفْري لا سلامٌ على عمرو ) فقال
ابن عفراء للباهلي لا يهولنك أمره أنا أرضيه عنك فأرضاه بدون ما كان هم له به
فأعطاه ثلثمائة درهم فقبلها الفرزدق ورضي عنه فبلغه بعد ذلك صنيع عمرو فقال ( ستعلم
يا عمرو بن عفْرى مَن الذي ... يُلام إذا ما الأمر غَبَّتْ عواقبُه ) ( نهيتُ
ابنَ عِفرى أن يعفّر أُمّه ... كعفْر السّلا إذا جرَّرَتْه ثعالبُه ) ( فلو
كنت ضَ3بِّياً صفحتُ ولو سَرتْ ... على قَدَمِي حيَّاتُه وعقاربه ) ( ولكنْ
دِيافِيٌّ أبوه وأُمّه ... بحوْران يعصِرْن السليط أقاربه ) ( ولما
رأى الدّهنا رمته جبالُها ... وقالت دِيافيٌّ مع الشام جانبه ) ( فإن
تغضب الدهنا عليك فما بها ... طريقٌ لمرتاد تُقاد رَكائِبُه ) ( تضِنُّ
بمال الباهليِّ كأنما ... تضِنُّ على المال الذي أنت كاسِبُه ) ( وإنّ
امرأ يَغْتَابُني لم أطأْ لَه ... حَرِيماً ولا يَنْهاهُ عنِّي أقارِبُه ) ( كمحتَطبٍ
يوماً أساودَ هَضْبةٍ ... أتاه بها في ظلمة الليل حاطبُه ) ( أحينَ
التقى ناباي وابيضّ مِسْحَلي ... وأطرق إطراق الكرى من يُجانِبه ) فقال
ابن عفراء وأتاه في نادي قومه أجهد جهدك هل هو إلا أن تسبني والله لا أدع لك مساءة
إلا أتيتها ولا تأمرني بشيء إلا اجتنبته ولا تنهاني عن شيء إلا ركبته قال فاشهدوا
أني أنهاه أن ينيك أمه فضحك القوم وخجل ابن عفرى أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام
قال حدثنا شعيب بن صخر قال تزوج ذبيان بن أبي ذبيان العدوي من بلعدوية فدعا الناس
في وليمته فدعا ابن أبي شيخ الفقيمي فألقى الفرزدق عنده فقال له يا أبا فراس انهض
قال إنه لم يدعني قال إن ابن ذبيان يؤتى وإن لم يدع ثم لا تخرج من عنده إلا بجائزة
فأتياه فقال الفرزدق حين دخل ( كم
قال لي ابنُ أبي شيخ وقلت له ... كيف السَّبيلُ إلى معروف ذُبيان ) ( إنّ
القلوصَ إذا أَلقت جآجئها ... قُدَّام بابك لم نرحل بحِرمان ) قال
أجل يا أبا فراس فدخل فتغدى عنده وأعطاه ثلثمائة درهم أخبرني أبو خليفة عن محمد بن
سلام قال حدثني أبو بكر المدني قال دخل الفرزدق المدينة فوافق فيها موت طلحة بن
عبد الرحمن بن عوف الزهري - وكان
سيدا سخيا شريفا - فقال يا أهل المدينة أنتم أذل قوم لله قالوا وما ذاك يا أبا
فراس قال غلبكم الموت على طلحة حتى أخذه منكم يعطى عروضا بدل النقد وأتى مكة فأتى
عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي - وهو سيد أهل مكة يومئذ - وليس
عنده نقد حاضر وهو يتوقع أعطيته وأعطية ولده وأهله فقال والله يا أبا فراس ما
وافقت عندنا نقدا ولكن عروضا إن شئت فعندنا رقيق فرهة فإن شئت أخذتهم قال نعم
فأرسل له بوصفاء من بنيه وبني أخيه فقال هم لك عندنا حتى تشخص وجاءه العطاء فأخبره
الخبر وفداهم فقال الفرزدق ونظر إلى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان يطوف
بالبيت الحرام يتبختر ( تمْشي
تَبَخْتُر حولَ البيتِ منتخَباً ... لو كنتَ عمرَو بنَ عبد الله لم تزدِ ) أخبرنا
أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثنا عامر بن أبي عامر - وهو صالح بن رستم الخراز
- قال أخبرني أبو بكر الهذلي قال إنا لجلوس عند الحسن إذ جاء الفرزدق يتخطى حتى
جلس إلى جنبه فجاء رجل فقال يا أبا سعيد الرجل يقول لا والله وبلى والله في كلامه
قال لا يريد اليمين فقال الفرزدق أو ما سمعت ما قلت في ذلك قال الحسن ما كل ما قلت
سمعوا فما قلت قال قلت ( ولستَ
بمأخوذٍ بلغوٍ تقوله ... إذا لم تعمَّدْ عاقداتِ العزائم ) قال
فلم ينشب أن جاء رجل آخر فقال يا أبا سعيد نكون في هذه المغازي فنصيب المرأة لها
زوج أفيحل غشيانها وإن لم يطلقها زوجها فقال الفرزدق أو ما سمعت ما قلت في ذلك قال
الحسن ما كل ما قلت سمعوا فما قلت قال قلت ( وذات
حَليلٍ أنكحتْنا رِماحُنا ... حلالاً لمن يَبْني بها لم تُطَلَّق ) يهجو
في شعره إبليس قال أبو خليفة أخبرني محمد بن سلام وأخبرني محمد بن جعفر قالا أتى
الفرزدق الحسن فقال إني هجوت إبليس فاسمع قال لا حاجة لنا بما تقول قال لتسمعن أو
لأخرجن فأقول للناس إن الحسن ينهى عن هجاء إبليس قال اسكت فإنك بلسانه تنطق قال
محمد بن سلام أخبرني سلام أبو المنذر عن علي بن زيد قال ما سمعت الحسن متمثلا شعرا
قط إلا بيتا واحدا وهو قوله ( الموتُ
بابٌ وكُلُّ الناسِ داخلُه ... فليتَ شعريَ بعد الباب ما الدَّار ) قال
وقال لي يوما ما تقول في قول الشاعر ( لولا
جريرٌ هلكتْ بَجِيلهْ ... نِعْمَ الفتى وبِئسَتِ القبيلهْ ) أهجاه
أم مدحه قلت مدحه وهجا قومه قال ما مدح من هجي قومه وقال جرير بن حازم ولم أسمعه
ذكر شعرا قط إلا ( ليس
مَنْ مات فاستراح بمَيْتٍ ... إنما الميْتُ ميّتُ الأحياء ) وقال
رجل لابن سيرين وهو قائم يستقبل القبلة يريد أن يكبر أيتوضأ من الشعر فانصرف بوجهه
إليه فقال ( ألا أَصبحتْ عرسُ الفرزدق ناشِزاً
... ولو رضِيتْ رُمحَ استه لاستَقَرَّت ) ثم
كبر متفرقات من أبياته الشائعة قال ابن سلام وكان الفرزدق أكثرهم بيتا مقلدا - والمقلد
المغني المشهور الذي يضرب به المثل - من ذلك قوله ( فيا
عجباً حتى كليبٌ تسبني ... كأنّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشِعُ ) وقوله
( ليس الكرام بناحِليك أباهمُ ...
حتى يُردَّ إلى عطية نَهْشَلِ ) وقوله
( وكنّا إذا الجبّار صَعَّر خَدّه
... ضربناه حتى تستقيم الأَخادع ) وقوله
( وكنتَ كذئب السوء لما رأى دَمَاً
... بصاحبه يوماً أحال على الدَّم ) وقوله
( تُرجِّي رُبيعٌ أن تجيء صغارُها
... بخير وقد أعيا رُبيعاً كبارُها ) وقوله
( أكلتْ دوابرها الإِكَامُ فمشيها
... مما وَجِئْن كمشية الإِعياء ) وقوله
( قوارص تأتيني وتحتقرونها ... وقد
يملأ القطرُ الإِناءَ فَيَفعُمِ ) وقوله
( أحلاَمُنا تزن الجبالَ رَزانةً ...
وتخالنا جِناً إذا ما نجهل ) وقوله
( وإنك إذ تسعى لتدرك دارماً ...
لأنت المُعَنَّى يا جرير المُكَلف ) وقوله
( فإن تنجُ مني تنج من ذي عَظيمةٍ
... وإلا فإِنّي لا إِخالك ناجيا ) وقوله
( ترى كل مظلوم إلينا فِرارُه ...
ويهربُ منا جهدَه كُلُّ ظالمِ ) وقوله
( ترى الناس ما سِرْنا يسيرون حولَنا
... وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقَّفوا ) وقوله
( فسَيف بني عبسٍ وقد ضربوا به ...
نَبا بيَدَيْ وَرْقاءَ عن رأسِ خالد ) ( كذاك
سيوف الهند تنبو ظباتها ... ويَقطعن أَحياناً مَنَاط القَلائِد ) وكان
يداخل الكلام وكان ذلك يعجب أصحاب النحو من ذلك قوله يمدح هشام بن إسماعيل
المخزومي خال هشام بن عبد الملك ( وأصبح
ما في الناس إلا مُمَلَّكاً ... أبو أمه حَيٌّ أَبوه يُقاربه ) وقوله
( تالله قد سَفِهَتْ أميّةُ رأيَها
... فاستجهلت سُفهاؤها حلماءَها ) وقوله
( ألستم عائجين بنا لعنَّا ... نرى
العَرصاتِ أو أَثَر الخيام ) فقالوا
( إن فعلتَ فأغنِ عنا ... دُموعاً
غيرَ راقِئة السّجام ) وقوله
( فهل أنتَ إن ماتت أتانُكَ راحِلٌ
... إلى آل بِسطام بن قيس فخاطب ) وقوله
( فَنَلْ مثلَها من مثلِهم ثم
دُلَّهم ... على دارميّ بين ليلى وغالب ) وقوله
( تعالَ فإن عاهدتني لا تخونُني ...
نكنْ مثلَ مَنْ - يا ذئبُ - يَصْطحبان ) وقوله
( إنا وإياك إن بلّغْنَ أرحُلَنا ...
كمَنْ بِواديه بعد المَحْل مَمْطورُ ) وقوله
( بنى الفاروق أمّك وابن أروى ... به
عثمان مروان المصابا ) وقوله
( إلى مَلِك ما أمُّه من مُحاربٌ ...
أبوه ولا كانت كليب تصاهِرُه ) وقوله
( إليك أميرَ المؤمنين رمَتْ بنا ...
هموم المنا والهَوْجَل المتعسّف ) ( وعضّ
زمانٌ يا بن مروان لم يدعْ ... من المال إلا مُسحتاً أو مُجلَّف ) وقوله
( ولقد دنت لك بالتخلّف إذْ دنَت ...
منها بلا بَخَلٍ ولا مبذولِ ) ( وكأنّ
لونَ رُضابِ فيها إذ بدا ... بَرَدٌ برفع بَشامةٍ مصْقولُ ) وقوله
فيها لمالك بن المنذر ( إنّ
ابن ضيّاري ربيعةَ مالِكاً ... لله سيف صنيعةٍ مَسْلولُ ) ( ما
نال من آل المُعلّى قبلَه ... سيفٌ لكل خليفة ورسُولُ ) ( ما
من يَديْ رَجُل أحقُّ بما أتى ... من مكرمات عطاية الأخطارِ ) ( من
راحتين يزيدُ يقدح زندَه ... كفّاهما ويشد عقد جوار ) ( وقوله ... ) ( إذا
جئتَه أعطاك عفواً ولم يكن ... على ماله حال الندى منك سائله ) ( لدى
ملك لا تنصف النعلُ ساقَه ... أجل لا وإن كانت طُوالاً حمائله ) وقوله
( والشيب يَنْهَضُ في الشباب كأنه
... ليل يسير بجانبيه نهار ) كان
صادقا في مدحه قال أبو خليفة أخبرنا محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر عن محمد
بن زياد وأخبرني به الجوهري وجحظة عن ابن شبة عن محمد ابن سلام وكان محمد في زمام
الحجاج زمانا قال انتهيت إلى الفرزدق بعد موت الحجاج بالردم وهو قائم والناس حوله
ينشد مديح سليمان بن عبد الملك ( وكم
أطلقتْ كفاك من غلّ بائس ... ومن عُقدةٍ ما كان يُرجَى انحلالُها ) ( كثيراً
من الأيدي التي قد تُكتَّفَتْ ... فَكَكْتَ وأعناقاً عليها غِلالها ) قال
قلت أنا والله أحدهم فأخذ بيدي وقال أيها الناس سلوه عما أقول والله ما كذبت قط أخبرني
جحظة قال حدثني ابن شبة عن محمد بن سلام فذكر مثله وقال فيه والله ما كذبت قط ولا
أكذب أبدا يأبى الحضور إلى يزيد بن المهلب قبل أن يدفع له قال أبو خليفة قال ابن
سلام وسمعت الحارث بن محمد بن زياد يقول كتب يزيد بن المهلب لما فتح جرجان إلى
أخيه مدركة أو مروان احمل إلي الفرزدق فإذا شخص فأعط أهله كذا وكذا ذكر عشرة آلاف
درهم فقال له الفرزدق ادفعها إلي قال اشخص وادفعها إلى أهلك فأبى وخرج وهو يقول ( دعاني
إلى جُرجانَ والرّيُّ دونه ... لآتِيَهُ إنّي إذاً لزءورُ ) ( لآتِيَ
من آل المهلَّب ثائراً ... بأعراضِهم والدَّائرات تدُورُ ) ( سَآبَى
وتَأْبى لي تميمٌ وربما ... أبَيْتُ فلم يقدر عليّ أمير ) قال
أبو خليفة قال ابن سلام وسمعت سلمة بن عياش قال حبست في السجن فإذا فيه الفرزدق قد
حبسه مالك بن المنذر بن الجارود فكان يريد أن يقول البيت فيقول صدره وأسبقه إلى
القافية ويجيء إلى القافية فأسبقه إلى الصدر فقال لي ممن أنت قلت من قريش قال كل أير
حمار من قريش من أيهم أنت قلت من بني عامر بن لؤي قال لئام والله أذلة جاورتهم
فكانوا شر جيران قلت ألا أخبرك بأذل منهم وألأم قال من قلت بنو مجاشع قال ولم ويلك
قلت أنت سيدهم وشاعرهم وابن سيدهم جاءك شرطي مالك حتى أدخلك السجن لم يمنعوك قال
قاتلك الله قال أبو خليفة قال ابن سلام وكان مسلمة بن عبد الملك على العراق بعد
قتل يزيد بن المهلب فلبث بها غير كثير ثم عزله يزيد بن عبد الملك واستعمل عمر بن
هبيرة على العراق فأساء عزل مسلمة فقال الفرزدق وأنشدنيه يونس ( ولت
بمسلمةَ الركابُ مُودَّعاً ... فارعَيْ فزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ ) ( فسد
الزمانُ وبُدِّلت أعلامُه ... حتى أميّةُ عن فزارةَ تنْزِع ) ( ولقد
علمتُ إذا فزارةُ أُمِّرت ... أن سوف تطمع في الإِمارة أشجعُ ) ( وبحقّ
ربك ما لهم ولمثلهم ... في مثل ما نالت فَزارةُ مطمع ) ( عُزِل
ابنُ بشر وابنُ عَمْرو قبلَه ... وأَخو هَراةَ لمثلها يتوقَّع ) ابن
بشر عبد الملك بن بشر بن مروان كان على البصرة أمره عليها مسلمة وابن عمرو سعيد بن
حذيفة بن عمرو بن الوليد بن عقبة بن أبي معيط وأخو هراة عبد العزيز بن الحكم بن
أبي العاصي ويروى للفرزدق في ابن هبيرة ( أمير
المؤمنين وأنت عَفٌّ ... كريمٌ لستَ بالطَّبعِ الحريصِ ) ( أَولَّيتَ
العِراقَ ورافِدَيْه ... فزاريًّا أحذَّ يدِ القَميص ) ( ولم
يكُ قبلها راعي مخاضٍ ... لتأمنَه على وَرِكَيْ قَلُوصِ ) ( تفنَّن
بالعراق أبو المُثَنَّى ... وعَلّم أهلَه أكْلَ الخَبِيص ) وأنشدني
له يونس ( جَهّز فإنك ممتارٌ ومُبتعثٌ ...
إلى فزارة عِيراً تحمِل الكَمَرَا ) ( إنَّ
الفزاريَّ لو يعمى فأطعَمَه ... أيرَ الحِمارِ طبيبٌ أبرأَ البَصَرَا ) ( إن
الفزاريّ لا يشفيه من قَرَمٍ ... أطايبُ العَيْر حتى ينهش الذّكرا ) ( يقول
لمّا رأى ما في إنائهم ... لله ضيف الفزاريين ما انْتَظَرَا ) فلما
قدم خالد بن عبد الله القسري واليا على ابن هبيرة حبسه في السجن فنقب له سرب فخرج
منه فهرب إلى الشام فقال فيه الفرزدق يذكر خروجه ( ولما
رأيتَ الأرض قد سُدَّ ظهرُها ... ولم تر إلا بطنَها لك مخرجا ) ( دعوت
الذي ناداه يونُسُ بعد ما ... ثوى في ثلاث مظلمات ففرّجا ) ( فأصبحت
تحت الأرض قد سِرْت ليلةً ... وما سار سَارٍ مثلها حين أدلجا ) ( خرجتَ
ولم تمنُنْ عليك شفاعةٌ ... سوى رَبذِ التقريب من آل أعوجا ) ( أغرّ
من الحُوِّ اللهاميم إذ جرى ... جرى بكَ محبوكُ القِرى غير أفحجا ) ( جرى
به عُريان الحماتين ليلَهُ ... بك عنك أرخى الله ما كان أشرجا ) ( وما
احتال مُحتالٌ كحيلته التي ... بها نفسه تحت الصّريمة أولجا ) ( وظَلماء
تحت الأرض قد خُضت هولَها ... وليلٍ كلون الطيلَسانيّ أدْعجا ) ( هما
ظُلْمتا ليل وأرض تلاقتا ... على جامع من هَمّه ما تعوَّجا ) هجوه
لخالد القسري فحدثني جابر بن جندل قال فقيل لابن هبيرة من سيد العراق قال الفرزدق
هجاني أميرا ومدحني سوقة وقال الفرزدق لخالد القسري حين قدم العراق أميرا لهشام ( ألا
قطع الرحمن ظهرَ مطيَّةٍ ... أتتنا تمَطَّى من دمشقٍ بخالد ) ( وكيف
يؤمّ المسلمين وأمُّه ... تدين بأنّ الله ليس بواحد ) ( بَنَى
بَيْعَةً فيها الصَّليبُ لأمّه ... وهَدّم من كُفرٍ مَنارَ المساجدِ ) وقال
أيضا ( نزلت بجيلَةُ واسطاً فتمكنَّت ...
ونفتْ فزارةَ عن قرار المنزل ) وقال
أيضا ( لعمري لئن كانت بجيلةُ زانها ...
جَريرٌ لقد أخزى بجيلة خالدُ ) فلما
قدم العراق خالد أميرا أمر على شرطة البصرة مالك بن المنذر بن الجارود وكان عبد
الأعلى بن عبد الله بن عامر يدعي على مالك قرية فأبطلها خالد وحفر النهر الذي سماه
المبارك فاعترض عليه الفرزدق فقال ( أهلكتَ
مالَ الله في غير حقّه ... على النَّهَر المشؤوم غيرِ المباركِ ) ( وتَضربُ
أقواماً صِحاحاً ظهورهم ... وتتركُ حقَّ الله في ظَهْرِ مالك ) ( أإنفاقَ
مالِ الله في غير كُنهه ... ومَنْعاً لحقِّ المرمِلات الضرائك ) دخل
على الحجاج يستميحه مهر حدراء زوجته أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن
حبيب عن الأصمعي قال قال أعين بن لبطة دخل الفرزدق على الحجاج لما تزوج حدراء
يستميحه مهرها فقال له تزوجت أعرابية على مائة بعير فقال له عنبسة بن سعيد إنما هي
فرائض قيمتها ألفا درهم - الفريضة عشرون درهما - فقال له الحجاج ليس غيرها يا كعب
أعط الفرزدق ألفي درهم قال وقدم الفضيل العنزي بصدقات بكر بن وائل فاشترى الفرزدق
مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على أن يثبتها له في الديوان قال الفرزدق فصليت مع
الحجاج الظهر حتى إذا سلم خرجت فوقفت في الدار فرآني فقال مهيم فقلت إن الفضيل
العنزي قدم بصدقات بكر بن وائل وقد اشتريت منه مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على
أن تحتسب له في الديوان فإن رأى الأمير أن يأمر لي بإثباتها له فعل فأمر أبا كعب
أن يثبت للفضيل ألفين وخمسمائة درهم ونسي ما كان أمر له به قال فلما جاء الفرزدق
بالإبل قالت له النوار خسرت صفقتك أتتزوج أعرابية نصرانية سوداء مهزولة خمشاء
الساقين على مائة من الإبل فقال يعرض بالنوار وكانت أمها وليدة ( لجَاريةٌ
بين السّليل عروقُها ... وبين أبي الصّهباء من آل خالدِ ) ( أحقُّ
بإغلاء المهور من التي ... رَبَتْ تتردّى في حجور الولائدِ ) فأبت
النوار عليه أن يسوقها كلها فحبس بعضها وامتار عليه ما يحتاج إليه أهل البادية
ومضى ومعه دليل يقال له أوفى بن خنزير قال أعين فلما كان في أدنى الحي رأوا كبشا
مذبوحا فقال الفرزدق يا أوفى هلكت والله حدراء قال وما علمك بذلك قال ويقال إن
أوفى قال للفرزدق يا أبا فراس لن ترى حدراء فمضوا حتى وقفوا على نادي زيق وهو جالس
فرحب به وقال له انزل فإن حدراء قد ماتت وكان زيق نصرانيا فقال قد عرفنا أن نصيبك
من ميراثها في دينكم النصف وهو لك عندنا فقال له الفرزدق والله لا أرزؤك منه
قطميرا فقال زيق يا بني دارم ما صاهرنا أكرم منكم في الحياة ولا أكرم منكم شركة في
الممات فقال الفرزدق ( عَجِبت
لحادينا المقَحِّم سيره ... بنا مُوجعاتٍ من كَلالٍ وظُلَّعَا ) ( ليُدنِينَا
ممن إلينَا لقاؤه ... حبيبٌ ومن دارٍ أردنا لتجمعا ) ( ولو
نعلمُ الغيبَ الذي من أمامنا ... لكرّبنا الحادي المطِيّ فأَسرعا ) ( يقولون
زُرْ حدراءَ والتُّربُ دونها ... وكيف بشيء وصلُه قد تقطَّعا ) ( يقول
ابن خِنزير بكيت ولم تكن ... على امرأة عيني إخال لتدمعا ) ( وأهونُ
رزء لامرىء غير جازعٍ ... رزيئةُ مرتج الروادف أفرعا ) ( ولست
- وإن عزّت - عليّ بزائرٍ ... تُرابا على مرموسةٍ قد تضعضعا ) وقيل
إن النوار كانت استعانت بأم هاشم لا بتُماضر وأم هاشم أخت تماضر لأن تماضر ماتت
عند عبد الله بعد أن ولدت له خبيبا وثابتا ابني عبد الله بن الزبير وتزوج بعدها
أختها أم هاشم فولدت له هاشما وحمزة وعبادا وفي أم هاشم يقول الفرزدق ( تروّحتِ
الرّكبانُ يا أُمَّ هاشمٍ ... وهنَّ مُنَاخاتٌ لهن حنين ) ( وحُبِّسْن
حتّى ليس فيهن نافقٌ ... لبيعٍ ولا مركوبُهن سمين ) طلق
رهيمة زوجته لأنها نشزت به أخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني
الأصمعي قال نشزت رهيمة بنت غني بن درهم النمرية بالفرزدق فطلقها وقال يهجوها
بقوله ( لا ينكحنْ بعدي فتىً نَمريّةً ...
مُرَمَّلةً من بعلها لبعادِ ) ( وبيضاء
زَعراء المفارق شَخْتَةً ... مولّعةً في خُضرة وسوادِ ) ( لها
بَشَرٌ شَثْنٌ كأن مَضَمَّه ... إذا عانقت بَعوْلاً مَضَمُّ قتادِ ) ( قرنتُ
بنفسي الشؤمَ في وِرد حوضها ... فَجُرِّعتُه مِلحاً بماء رمادِ ) ( وما
زلتُ - حتى فرَّق الله بيننا ... له الحمدُ - منها في أذىً وجهاد ) ( تُجدِّد
لي ذكرى عذَاب جهنَّمٍ ... ثلاثاً تُمسِّيني بها وتغادي ) يحظى
بجارية بنسيئة فتحمل منه أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحسين بن موسى قال قال المدائني
لقي الفرزدق جارية لبني نهشل فجعل ينظر إليها نظرا شديدا فقالت له مالك تنظر
فوالله لو كان لي ألف حر ما طمعت في واحد منها قال ولم يا لخناء قالت لأنك قبيح
المنظر سيء المخبر فيما أرى قال أما والله لو جربتني لعفى خبري على منظري قال ثم
كشف لها عن مثل ذراع البكر فتضبعت له عن مثل سنام البكر فعالجها فقالت أنكاح
بنسيئة هذا شر القضية قال ويحك ما معي إلا جبتي أفتسلبينني إياها ثم تسنمها فقال ( أولجتُ
فيها كذِراع البَكرِ ... مُدملَكَ الرأس شديدَ الأسْرِ ) ( زاد
على شِبْرٍ ونصفِ شِبْرِ ... كأنني أوجتُه في جَمْرِ ) ( يُطير
عنه نَفَيانَ الشَّعْرِ ... نفي شُعور الناس يَوْمَ النَّحرِ ) قال
فحملت منه ثم ماتت فبكاها وبكى ولده منها ( وغمدِ
سلاحٍ قد رزئتُ فلم أنُح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا ) ( وفي
جَوفه من دارمٍ ذو حفيظةٍ ... لو أنّ المنايا أنسأته لياليا ) ( ولكنَّ
ريب الدهر يعْثُر بالفتى ... فلم يستطع رَدًّا لما كان جائيَا ) ( وكم
مثلِه في مثلِها قد وضعته ... وما زلت وثَّاباً أجرُّ المخازيا ) فقال
جرير يعيره ( وكم
لكَ يا بنَ القيْن إنْ جاء سائلٌ ... من ابنٍ قصير الباع مثلُك حاملُه ) ( وآخر
لم تشعُر به قد أضعتَه ... وأوردته رِحماً كثيراً غوائِلُه ) زواجه
من ظبية ابنة حالم وعجزه عنها أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن موسى
قال حدثني محمد بن سليمان الكوفي عن أبيه قال تزوج الفرزدق ظبية ابنة حالم من بني
مجاشع بعد أن أسن فضعف وتركها عند أمها بالبادية سنة ولم يكن صداقها عنده فكتب إلى
أبان بن الوليد البجلي - وهو على فارس عامل لخالد بن عبد الله القسري - فأعطاه ما
سأل وأرضاه فقال يمدحه ( فلو
جمعوا من الخِلاّنِ ألفا ... فقالوا أعطِنا بهمُ أبانا ) ( لقلتُ
لهم إذاً لغبنتموني ... وكيف أبيع من شرَط الزمانا ) ( خليلٌ
لا يرى المائةَ الصّفايا ... ولا الخيلَ الجيادَ ولا القيانَا ) ( عَطاءً
دون أضعاف عليها ... ويُطعمُ ضَيفَه العُبُطَ السِّمانا ) العبط
الإبل التي لا وجع بها ( فما
أرجو لظبيةَ غيرَ ربِّي ... وغيرَ أبي الوليد بما أعانا ) ( أعان
بهجمة أرضَتْ أباها ... وكانت عنده غَلَقاً رِهانا ) وقال
أيضا في ذلك ( لقد
طال ما استودعتُ ظبيةَ أمَّها ... وهذا زمان رُدّ فيه الودائعُ ) وقال
حين أراد أن يبني بها ( أبادر
سُؤَّالا بظبية أنني ... أتتني بها الأهوالُ من كل جانب ) ( بمالِئةِ
الحِجْليْن لو أَنَّ مَيِّتاً ... ولو كان في الأموات تحت النصائب ) ( دعته
لألقى الرُّبَ عند انتفاضِه ... - ولو كان تحت الراسيات الرواسب - ) فلما
ابتنى منها عجز عنها فقال ( يا
لهفَ نفسي على نَعْظٍ فُجِعْتُ به ... حين التقى الرَّكَبُ المحلوقُ والرَّكَبُ ) وقال
جرير ( وتقول ظبيةُ إذ رأتك محوقِلاً ...
- حَوْقَ الحمار - من الخبال الخابلِ ) ( إنَّ
البليَّة وهْي كلُّ بليةٍ ... شيخٌ يُعَلِّل عِرْسَه بالباطل ) ( لو
قد عَلقتِ من المهاجر سُلَّما ... لنجوتِ منه بالقضاء الفاصِلِ ) قال
فنشزت منه ونافرته إلى المهاجر وبلغه قول جرير فقال المهاجر لو أتتني بالملائكة
معها لقضيت للفرزدق عليها شعره في ابنته مكية وأمها الزنجية قال وكان للفرزدق ابنة
يقال لها مكية وكانت زنجية وكان إذا حمي الوطيس وبلغ منه الهجاء يكتني بها ويقال ( ذا
كمْ إذاً ما كنتُ ذا محميَّهْ ... بدارِميٍّ أمُّه ضَبِّيهْ ) ( صمحمح
يُكنَى أبا مكيَّه ... ) وقال
في أمها ( يا ربَّ خوْدٍ من بنات الزّنجِ ...
تحمل تنُّوراً شديدَ الوهْجِ ) ( أقعبَ
مثْلَ القَدْحِ الخَلَنجِ ... يزداد طيباً عند طول الهرجِ ) ( مَخَجْتُها
بالأَيْر أيَّ مخجِ ... ) فقالت
له النوار ريحها مثل ريحك وقال في أم مكية يخاطب النوار ( فإن
يكُ خالها من آل كسرى ... فكِسرى كان خيراً من عِقال ) ( وأكثرَ
جزيةً تُهدَى إليه ... وأصبرَ عند مختلِف العوالي ) قال
وكانت أم النوار خراسانية فقال لها في أم مكية ( أغرك
منها أُدْمَةٌ عربيّةٌ ... علت لونَها إن البِجَادِيَّ أحمرُ ) يمدح
سعيد بن العاص فيحقد عليه مروان حدثني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا السكن بن
سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قال دخل الفرزدق على سعيد بن العاص وهو والي
المدينة لمعاوية فأنشده ( ترى
الغرّ الجحاجِحَ من قريش ... إذا ما الخطب في الحدثان غالا ) ( وقُوفاً
ينظرون إلى سعيدٍ ... كأنهمُ يرون به هلالا ) وعنده
كعب بن جعيل فلما فرغ من إنشاده قال كعب هذه والله رؤياي البارحة رأيت كأن ابن مرة
في نواحي المدينة وأنا أضم ذلاذلي منه فلما خرج الفرزدق خرج مروان في أثره فقال لم
ترض أن نكون قعودا حتى جعلتنا قياما في قولك ( قِياماً
ينظرون إلى سعيد ... كأنهمُ يرون به هلالا ) فقال
له يا أبا عبد الملك إنك من بينهم صافن فحقد عليه مروان ذلك ولم تطل الأيام حتى
عزل سعيد وولي مروان فلم يجد على الفرزدق متقدما حتى قال قصيدته التي قال فيها ( هما
دَلّتاني من ثمانين قامةً ... كما انقضَّ باز أقتمُ الريش كاسرُهْ ) ( فلما
استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أخيٌّ يُرجَّى أم قتيلٌ نُحاذره ) ( فقلت
ارفعا الأمراسَ لا يشعروا بنا ... وأقبلتُ في أعقاب ليل أبادره ) ( أبادر
بوَّابين لم يشعروا بنا ... وأحمرَ من ساجٍ تلُوح مسامره ) فقال
له مروان أتقول هذا بين أزواج رسول الله اخرج عن المدينة فذلك قول جرير ( تدلَّيت
تزني من ثمانينَ قامةً ... وقَصَّرت عن باع الندى والمكارم ) أخبرنا
ابن دريد قال أخبرنا الرياشي عن محمد بن سلام قال خبر آخر في مدحه سعيدا دخل
الفرزدق المدينة هاربا من زياد وعليها سعيد بن العاص بن أمية ابن عبد شمس أميرا من
قبل معاوية فدخل على سعيد ومثل بين يديه وهو معتم وفي مجلس سعيد الحطيئة وكعب بن
جعيل التغلبي وصاح الفرزدق أصلح الله الأمير أنا عائذ بالله وبك أنا رجل من تميم
ثم أحد بني دارم أنا الفرزدق بن غالب قال فأطرق سعيد مليا فلم يجبه فقال الفرزدق
رجل لم يصب دما حراما ولا مالا حراما فقال سعيد إن كنت كذلك فقد أمنت فأنشده ( إليك
فررتُ مِنك ومن زيادٍ ... ولم أحسب دمي لكما حَلاَلا ) ( ولكنِّي
هجوتُ وقد هجاني ... معاشرُ قد رضخْتُ لهم سِجالا ) ( فإن
يكن الهجاء أحلَّ قتلي ... فقد قلنا لشاعرهم وقالا ) ( أرِقتُ
فلم أنم ليلاً طويلا ... أراقب هل أرى النَّسرينِ زالا ) ( عليك
بني أمية فاستجرهم ... وخذ منهم لما تخشى حِبالا ) ( فإنّ
بني أمية في قريش ... بَنَوْا لبيوتهم عَمَداً طوالا ) ( ترى
الغرَّ الجحاجح من قريشٍ ... إذا ما الأمر في الحدثان غالا ) ( قياماً
ينظرون إلى سعيدٍ ... كأنّهمُ يرون به هلالا ) قال
فلما قال هذا البيت قال الحطيئة لسعيد هذا والله الشعر لا ما كنت تعلل به منذ
اليوم فقال كعب بن جعيل فضلته على نفسك فلا تفضله على غيرك قال بلى والله إنه
ليفضلني وغيري يا غلام أدركت من قبلك وسبقت من بعدك ولئن طال عمرك لتبرزن ثم عبث الحطيئة
بالفرزدق فقال يا غلام أنجدت أمك قال لا بل أبي أراد الحطيئة إن كانت أمك أنجدت
فقد أصبتها فولدتك إذ شابهتني في الشعر فقال الفرزدق لا بل أبي فوجده لقنا أخبرني
ابن دريد قال قال لنا أبو حاتم قال الأصمعي ومن عبثات الفرزدق أنه لقي مخنثا فقال
له من أين راحت عمتنا فقال له المخنث نفاها الأغر بن عبد العزيز يريد قول جرير ( نفاك
الأغرّ بن عبد العزيز ... وحقُّك تُنْفَى من المسجدِ ) جرير
يقر له بالغلبة ويلقبه بالعزيز أخبرنا ابن دريد عن الرياشي عن النضر بن شميل قال
قال جرير ما قال لي ابن القين بيتا إلا وقد اكتفأته أي قلبته إلا قوله ( ليس
الكِرامُ بناحليك أباهم ... حتى يرد إلى عطية تعتل ) فإني
لا أدري كيف أقول فيها وأخبرني ابن دريد قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد
عن ابن الكلبي عن عوانة بن الحكم قال بينما جرير واقف في المربد وقد ركبه الناس
وعمر بن لجأ مواقفه فأنشده عمر جواب قوله ( يا
تَيْمُ تَيْمَ عديٍّ لا أبا لكم ... لا يقذفنَّكُم في سَوأَةٍ عمرُ ) ( أحين
صرْتُ سِماماً يا بني لجأٍ ... وخاطَرتْ بيَ عن أحسابها مُضرُ ) فقال
عمر جواب هذا ( لقد
كذبتَ وشرُّ القولِ أكذبُهُ ... ما خاطرَتْ بك عن أحسابها مُضَرُ ) ( ألَسْتَ
نَزوَة خوّارٍ على أمة ... لا يسبق الحلباتِ اللؤمُ والخورُ ) وقد
كان الفرزدق رفده بهذين البيتين في هذه القصيدة فقال جرير لما سمعها قبحا لك يا بن
لجأ أهذا شعرك كذبت والله ولو مت هذا شعر حنظلي هذا شعر العزيز يعني الفرزدق فأبلس
عمر فما رد جوابا وخرج غنيم بن أبي الرقراق حتى أتى الفرزدق فضحك وقال إيه يابن
أبي الرقراق وإن عندك لخبرا قلت خزي أخوك ابن قتب فحدثته فضحك حتى فحص برجليه ثم
قال في ساعته ( وما
أنت إن قَرْمَا تَمِيم تساميا ... أخا التّيم إلا كالوشِيظة في العَظم ) ( فلو
كنت مولى الظلم أو في ثِيابِه ... ظلمتَ ولكن لا يَدَيْ لك بالظُّلْم ) فما
بلغ هذان البيتان جريرا قال ما أنصفني في شعر قط قبل هذا يعني قوله ( إنْ
قرْمَا تميم تساميا ... ) يغتصب
جيد الشعراء أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا الرياشي قال كان الفرزدق مهيبا تخافه
الشعراء فمر يوما بالشمردل وهو ينشد قصيدته حتى بلغ إلى قوله ( وما
بين مَنْ لم يُعطِ سمعاً وطاعةً ... وبين تميمٍ غيرُ حزّ الغَلاصم ) قال
والله لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك قال خذه على كره مني فهو في قصيدة الفرزدق
التي أولها قوله ( تحنّ
بزورَاءِ المدينة ناقَتِي ... ) قال
وكان الفرزدق يقول خير السرقة ما لا يجب فيه القطع يعني سرقة الشعر أخبرنا ابن
دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن الضحاك بن بهلول الفقيمي قال بينما أنا بكاظمة
وذو الرمة ينشد قصيدته التي يقول فيها ( أحينَ
أعاذت بي تميمٌ نساءَها ... وجُرّدْت تجريدَ اليَمانِي من الغِمد ) إذا
راكبان قد تدليا من نعف كاظمة متقنعان فوقفا فلما فرغ ذو الرمة حسر الفرزدق عن
وجهه وقال يا عبيد اضممها إليك - يعني راويته - وهو عبيد أخو بني ربيعة بن حنظلة
فقال ذو الرمة نشدتك الله يا أبا فراس إن فعلت قال دع ذا عنك فانتحلها في قصيدته
وهي أربعة أبيات ( أحينَ
أعاذت بي تميمٌ نساءهَا ... وجُرّدت تجريدَ اليَمانِي من الغِمدِ ) ( ومدت
بضَبْعيَّ الرّبابُ ومالكٌ ... وعمروٌ وشالت من ورائي بنو سعد ) ( ومن
آل يربوعٍ زُهَاءٌ كأنه ... دُجَى الليل محمود النِّكاية والوِرد ) ( وكنّا
إذا الجبّارُ صَعَّرَ خدَّه ... ضربناه فوق الأُنْثَيَيْن على الكَرْد ) أخبرنا
ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال اجتمع الفرزدق وجرير وكثير وابن
الرقاع عند سليمان بن عبد الملك فقال أنشدونا من فخركم شيئا حسنا فبدرهم الفرزدق
فقال ( وما قوم إذا العلماء عَدّت ... عروقَ
الأكرمين إلى الترابِ ) ( بمختلفين
إن فضَّلتمونا ... عليهم في القَديم ولا غِضاب ) ( ولو
رَفع السحابُ إليه قوماً ... عَلَوْنا في السماء إلى السحاب ) فقال
سليمان لا تنطقوا فوالله ما ترك لكم مقالا أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد
بن عمران الضبي عن سليمان بن أبي سليمان الجوزجاني قال غاب الفرزدق فكتبت النوار
تشكو إليه مكية وكتب إليه أهله يشكون سوء خلقها وتبذيها عليهم فكتب إليهم ( كتبتم
عليها أنها ظلمتكم ... كذبتم وبيتِ الله بل تظلمونها ) ( فإلاّ
تعدُّوا أنها من نسائكم ... فإنّ ابنَ ليلى والدٌ لا يشينها ) ( وإنّ
لها أعمامَ صدق وإخوة ... وشيخاً إذا شاءت تَنَمّر دونها ) كان
ابنه لبطة عاقا به قال وكان للفرزدق ثلاثة أولاد يقال لواحد منهم لبطة والآخر حبطة
والثالث سبطة وكان لبطة من العققة فقال له الفرزدق ( أإنْ
أُرعِشتْ كفَّا أبيك وأصبَحتْ ... يداك يَدَيْ ليثٍ فإنك جادِبُه ) ( إذا
غالَبَ ابنٌ بالشباب أباً له ... كبيراً فإِن الله لا بدّ غالبُه ) ( رأيتُ
تباشيرَ العقوق هي التي ... من ابن امرىء ما إن يزال يُعاتبُه ) ( ولما
رآني قد كبِرتُ وأنني ... أخو الحي واستغنى عن المسح شاربُه ) ( أصاخ
لغربان النّجيِّ وإنه ... لأَزورُ عن بعض المقالة جانبه ) قال
أبو عبيدة في كتاب النقائض قال رؤبة بن العجاج حج سليمان بن عبد الملك وحجت معه
الشعراء فمر بالمدينة منصرفا فأتي بأسرى من الروم نحو أربعمائة فقعد سليمان وعنده
عبد الله بن حسن بن حسن - عليهم السلام - وعليه ثوبان ممصران وهو أقربهم منه مجلسا
فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعة فقال لعبد الله بن حسن قم فاضرب عنقه فقام فما
أعطاه أحد سيفا حتى دفع إليه حرسي سيفا كليلا فضربه فأبان عنقه وذراعه وأطن ساعده
وبعض الغل فقال له سليمان والله ما ضربته بسيفك ولكن بحسبك وجعل يدفع الأسرى إلى
الوجوه فيقتلونهم حتى دفع إلى جرير رجلا منهم فدست إليه بنو عبس سيفا قاطعا في
قراب أبيض فضربه فأبان رأسه ودفع إلى الفرزدق أسيرا فدست إليه القيسية سيفا كليلا
فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئا فضحك سليمان وضحك الناس معه وقيل إن سليمان
لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفا وقال اقتله به فقال لا بل أقتله بسيف مجاشع
واخترط سيفه فضربه فلم يغن شيئا فقال سليمان أما والله لقد بقي عليك عارها وشنارها
فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها وأولها جرير يهجوه وهو يجيب ( ألا حيِّ ربعَ
المنزل المُتقادِمِ ... وما حُلَّ مُذ حَلَّت به أمُّ سالمِ ) منها
( ألم تشهد الجَوْنَيْن والشِّعب ذا
الغَضَى ... وكَرَّاتِ قيسٍ يومَ دَيْر الجماجم ) ( تُحرِّضُ
يابنَ القَيْن قيساً ليجعلوا ... لقومك يوماً مثل يومِ الأراقم ) ( بسيفِ
أبي رَغْوَانَ سيفِ مُجاشِعٍ ... ضربتَ ولم تضربْ بسيف ابن ظالمِ ) ( ضربتَ
به عند الإِمام فأُرْعِشتْ ... يداك وقالوا مُحْدَثٌ غيرُ صارمِ ) فقال
الفرزدق يجيب جريرا عن قوله ( وهل
ضربةُ الرُّوميِّ جاعلةٌ لكم ... أباً عن كُلَيْب أو أباً مثلَ دارمِ ) ( كذاك
سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها ... وتقطعُ أحياناً مَناطَ التمائمِ ) ( ولا
نقتلُ الأسرَى ولكن نفكُّهُم ... إذا أثقل الأعناقَ حملُ المغارم ) وقال
يعرض بسليمان ويعيره نبو سيف ورقاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر وبنو عبس هم
أخوال سليمان ( فإِن
يكُ سيفٌ خان أو قَدَرٌ أبَى ... بتعجيلِ نفسٍ حتفُها غير شاهد ) ( فسيفُ
بني عبسٍ وقد ضربوا به ... نبا بيدَيْ وَرَقاءَ عن رأسِ خالد ) ( كذاك
سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها ... وتقطعُ أحيانا مَناط القلائدِ ) وأولها
( تباشَرُ يربوعٌ بنبوةِ ضربةٍ ...
ضربتُ بها بين الطُّلا والمحارِد ) ( ولو
شئتُ قدَّ السيفُ ما بين عُنقه ... الى عَلَق بين الحِجَابَيْن جامدِ ) وقيل
إن الفرزدق قال لسليمان يا أمير المؤمنين هب لي هذا الأسير فوهبه له فأعتقه وقال
الأبيات التي منها ( ولا
نقتُل الأسرى ولكن نفكُّهم ... إذا أثقلَ الأعناقَ حملُ المغارمِ ) ثم
أقبل على راويته فقال كأني بابن المراغة وقد بلغه خبري فقال ( بسيفِ
أبي رَغْوَانَ سيفِ مُجاشِعٍ ... ضربتَ ولم تضربْ بسيف ابن ظالمِ ) ( ضربتَ
به عند الإِمام فأُرْعِشتْ ... يداك وقالوا مُحْدَثٌ غيرُ صارمِ ) فما
لبثنا إلا أياما يسيرة حتى جاءتنا القصيدة وفيها البيتان فعجبنا من فطنة الفرزدق وقال
أيضا في ذلك ( أَيعجبُ
النَّاسُ أن أضحكتُ خيرَهُم ... خليفةَ الله يُستسقَى به المطرُ ) ( فما
نبا السيفُ عن جُبْنٍ وعن دَهَشٍ ... عند الإِمامِ ولكن أُخِّر القدرُ ) ( ولو
ضربتُ به عمداً مُقلَّدَهُ ... لخرَّ جثمانُه ما فوقه شَعَرُ ) ( وما
يُقدِّم نفساً قبل مِيتَتِها ... جمعُ اليدين ولا الصَّمْصَامة الذكر ) متفرقات
من شعره وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال هجا
الفرزدق خالدا القسري وذكر المبارك النهر الذي حفره بواسط فبلغه ذلك وكتب خالد إلى
مالك بن المنذر أن احبس الفرزدق فإنه هجا نهر أمير المؤمنين بقوله ( وأهلكتَ
مالَ اللهِ في غير حقِّه ... على نهرك المشؤوم غير المُبَارك ) الأبيات
فأرسل مالك إلى أيوب بن عيسى الضبي فقال ائتني بالفرزدق فلم يزل يعمل فيه حتى أخذه
فطلب إليهم أن يمروا به على بني حنيفة فقال الفرزدق ما زلت أرجو أن أنجو حتى جاوزت
بني حنيفة فلما قيل لمالك هذا الفرزدق انتفخ وريد مالك غضبا فلما أدخل عليه قال ( أقول
لنفسي حين غصَّت بريقها ... ألا ليتَ شعري ما لها عند مالكِ ) ( لها
عنده أن يَرجِعَ اللهُ رُوحَها ... إليها وتنجو من جميع المهالك ) ( وأنت
ابنُ حَبَّارَيْ ربيعةَ أدركت ... بك الشمس والخضراءَ ذاتَ الحبائك ) فسكن
مالك وأمر به إلى السجن فقال يهجو أيوب بن عيسى الضبي ( فلو
كنتَ قَيْسيًّا إذاً ما حبستِني ... ولكنَّ زنجيًّا غليظاً مشافِرُه ) ( مَتَتُّ
له بالرِّحْم بَيْني وبينه ... فألفيتُه مني بَعيداً أواصِرُه ) ( وقلت
امرؤ من آل ضبةَ فاعتزى ... لغيرهم لونُ استِه ومَحاجِرُه ) ( فسوف
يرى النوبيّ ما اجترحَت له ... يَدَاه إذا ما الشِّعر عَيَّتْ نَوَافره ) ( ستُلقِي
عليك الخنفساء إذا فست ... عليك من الشعر الذي أنت حاذِرُه ) ( وتأتي
ابن زُبِّ الخنفساء قصيدةٌ ... تكون له مني عَذاباً يُباشِره ) ( تعذرت
يابن الخنفساء ولم تكن ... لتُقْبَلَ لابْنِ الخنفساء معاذرُه ) ( فإنكما
يا بني يسار نزوْتما ... على ثفرها ما حنّ للزيت عاصره ) ( لزِنجيَّة
بظراءَ شقق بظرَها ... زحيرٌ بأيوبٍ شديدٌ زوافره ) ثم
مدح خالد بن عبد الله ومالك بن المنذر وهو محبوس مديحا كثيرا فأنشدني يونس في كلمة
له طويلة ( يا مالِ هل هو مُهلكي ما لم أقل
... وليُعلَمَنَّ من القصائد قيلي ) ( يا
مالِ هل لك في كبير قد أتَتْ ... تسعون فوق يديه غير قليل ) ( فتجيرَ
ناصِيَتي وتُفْرجَ كُربتِي ... عني وتطلقَ لي يداك كُبُولِي ) ( ولقد
بنى لكم المُعَلَّى ذِروةً ... رَفعتْ بناءك في أشَمَّ طويلِ ) ( والخيلُ
تعلم في جَذِيمة أنها ... تَرْدَى بكل سَميدَعٍ بهلُول ) ( فاسقُوا
فقد ملأَ المعلّى حوضَكم ... بذَنوبِ مُلتَهِم الرَّباب سجيل ) وقال
يمدح مالكا وكانت أم مالك هذا بنت مالك بن مسمع ( وقِرْمٍ
بين أولاد المُعلّى ... وأولاد المَسامَعةِ الكرامِ ) ( تخمَّط
في ربيعة بين بكر ... وعبد القيس في الحسب اللُّهام ) فلما
لم تنفعه مديحة مالك قال يمدح هشام بن عبد الملك ويعتذر إليه ( أِلكْني
إلى رَاعِي البريَّةِ والذي ... له العَدلُ في الأرض العريضة نوّرا ) ( فإِن
تُنكروا شعرِي إذاً خرجت له ... بوادرُ لو يُرمَى بها لتَفَقَّرا ) ( ثبير
ولو مست حِرَاء لحرّكت ... به الراسيات الصُّمَّ حتى تكوّرا ) ( إذا
قال غاوٍ من مَعَدٍّ قصيدةً ... بها حَرَبٌ كانت وبالاً مُدمرّا ) ( أينطِقُها
غيري وأُرمَى بجُرمها ... فكيف أَلوم الدّهرَ أن يتغيّرا ) ( لئن
صَبَرتْ نفسِي لقد أُمِرت به ... وخيرُ عباد الله من كان أصبرا ) ( وكنت
ابنَ أحْذارٍ ولو كنتُ خائفاً ... لكنت من العصماء في الطود أحذرا ) ( ولكنْ
أتوْني آمناً لا أخافهم ... نهاراً وكان اللهُ ما شاء قدَّرا ) أخبرني
أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى قال قال الفرزدق لابنه لبطة وهو
محبوس أشخص إلى هشام وامدحه بقصيدة وقال استعن بالقيسية ولا يمنعك قولي فيهم فإنهم
سيغضبون لك وقال ( بكت
عينُ محزونٍ ففاض سجامُها ... وطالت ليالي ساهر لا ينامُها ) ( فإن
تبك لا تبك المصيبات إِذ أَتَى ... بها الدهر والأيام جَمٌّ خِصامُها ) ( ولكنما
تبكي تَهتّكَ خالد ... محارمَ مِنّا لا يحل حَرامُها ) ( فقُل
لبني مروان ما بال ذمَّة ... وحرمَةِ حَقٍّ ليس يُرْعى ذمامُها ) ( أنُقْتَل
فيكم أن قَتَلْنا عدوَّكُم ... على دينكم والحرب باقٍ قتامُها ) ( أتاك
بقتل ابن المُهَلَّب خالدٌ ... وفينا بَقيّاتُ الهدى وإمامها ) ===========================================
ج41. كتاب:الأغاني لأبي الفرج
الأصفهاني ( فغيِّر - أمير المؤمنين - فإنها
... يمانيةٌ حَمْقاءُ وأنت هشامُها ) ( أرى
مُضَرَ المِضْرين قد ذَلَّ نصرُها ... ولَكنْ عسى أن لا يَذِلّ شآمُها ) ( فَمنْ
مُبلغٍ بالشام قيساً وخِندِفاً ... أحاديثَ ما يُشْفَى ببرءٍ سَقامُها ) ( أحاديثَ
منا نشتكيها إليهمُ ... ومظلمةً يغشى الوجوهَ قتامُها ) ( فإن
مَنْ بها لم يُنكرِ الضّيمَ منهمُ ... فيغضبَ منها كهلُها وغلامُها ) ( نمَتْ
مثلُها من مثلِهم وتُنكِّلوا ... فيعلمَ أهلُ الجَوْر كيف انتقامُها ) ( بغلباءَ
من جُمهورنا مضريَّةٍ ... يُزايل فيها أذرعَ القوم هامُها ) ( وبيْضٍ
على هام الرجال كأنّها ... كواكب يحلوها لسار ظلامُها ) ( غضِبنا
لكم يا آل مروان فاغضبوا ... عسى أنَّ أرواحا يسوغُ طَعامها ) ( ولا
تقطعوا الأرحامَ منا فإنها ... ذُنوبٌ من الأعمال يُخشى أَثامُها ) ( ألم
تكُ في الأرحامِ منّا ومنكمُ ... حواجزُ أيام عزيزٍ مَرامُها ) ( فترعى
قريشٌ من تميمٍ قرابةً ... ونَجْزي بأيامٍ كريمٍ مَقامها ) ( لقد
علمَتْ أبناءُ خِندف أننا ... ذُراها وأنا عزُّهَا وسَنامها ) ( وقد
علم الأحياء من كل موطن ... إذا عُدَّت الأحياء أنّا كرامها ) ( وأنّا
إذا الحربُ العَوانُ تضرَّمت ... نَلِيها إذا ما الحرب شُبَّ ضِرامُها ) ( قِوامُ
قُوَى الإِسلام والأمرِ كلِّه ... وهل طاعة إلا تميم قوامها ) ( تميمُ
التي تخشى معدٌّ وغيرُها ... إذا ما أبى أن يستقيم همامها ) ( إلى
الله تشكو عزَّنا الأرضُ فوقَها ... وتعلم أنا ثِقْلُها وغَرامها ) ( شكتنا
إلى الله العزيز فأسمعتْ ... قريباً وأعيا مَنْ سِواه كلامُها ) ( نَصولُ
بحول الله في الأمرِ كلِّه ... إذا خِيف من مصدوعةٍ ما التآمها ) فأعانته
القيسية وقالوا كلما كان ناب من مضر أو شاعر أو سيد وثب عليه خالد وقال الفرزدق
أبياتا كتب بها إلى سعيد بن الوليد الأبرش وكلم له هشاما ( إلى
الأبرشِ الكلبيّ أسندتُ حاجةً ... تواكلَها حَيّا تميمٍ ووائلِ ) ( على
حين أن زلت بي النعل زَلَّةً ... فَأَخلفَ ظنّي كُلُّ حافٍ وناعل ) ( فدونكها
يا بن الوليد فإنها ... مفضِّلة أصحابَها في المحافل ) ( ودونكها
يا بن الوليد فقم بها ... قيام امرىء في قومه غيرِ خامل ) فكلم
هشاما وأمر بتخليته فقال يمدح الأبرش ( لقد
وثب الكلبيُّ وَثبةَ حازمٍ ... الى خير خلقِ الله نفساً وعُنصرا ) ( إلى
خير أبناء الخليفة لم يجد ... لحاجته من دونها مُتَأَخّرا ) ( أبَى
حِلْفُ كلبٍ في تميمٍ وعقدُها ... كما سنَّت الآباء أن يتغيَّرا ) وكان
هذا الحلف حلفا قديما بين تيمم وكلب في الجاهلية وذلك قول جرير بن الخطفى في الحلف
( تميمٌ إلى كلبٍ وكلبٌ إليهمُ ...
أحقُّ وأدنى من صُداءَ وحِميرَا ) وقال
الفرزدق ( أشدُّ حبالٍ بين حيَّين مِرّةً ...
حبالٌ أُمِرَّت من تميمٍ ومن كلبِ ) ( وليس
قُضاعيٌّ لدينا بخائفٍ ... ولو أصبَحتْ تغلي القدورُ من الحرب ) وقال
أيضا ( ألم كر قيساً قَيسَ عَيلاَن
شمَّرتْ ... لنَصرِي وحاطتني هناك قُرومُها ) ( فقد
حالفتْ قيسٌ على النأي كلُّهم ... تميماً فهم منها ومنها تَميمُها ) ( وعادتْ
عَدوّي إن قيساً لأسرتي ... وقومي إذا ما الناس عُدَّ صميمُها ) خبره
مع الشرطيين أخبرني ابن دريد قال حدثني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال بينما الفرزدق
جالس بالبصرة أيام زياد في سكة ليس لها منفذ إذ مر به رجلان من قومه كانا في
الشرطة وهما راكبان فقال أحدهما لصاحبه هل لك أن أفزعه - وكان
جبانا - فحركا دابتيهما نحوه فأدبر موليا فعثر في طرف برده فشقه وانقطع شسع نعله
وانصرفا عنه وعرف أنهما هزئا منه فقال ( لقد
خار إذ يُجري عليّ حمَارَه ... ضِرارُ الخنا والعنبريُّ بن أخوقَا ) ( وما
كنتُ لو خَوَّفتماني كلاكما ... بأُمَّيكُما عُرْيَانَتَيْن لأفرَقا ) ( ولكنما
خَوّفتُماني بخادر ... شَتيمِ إذا ما صادف القِرن مزَّقا ) نزل
بدار ليلى الأخيلية والتقى توبة بن الحمير أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد
بن موسى قال حدثنا القحذمي عن بعض ولد قتيبة بن مسلم عن ابن زالان المازني قال
حدثني الفرزدق قال لما طردني زياد أتيت المدينة وعليها مروان بن الحكم فبلغه أني
خرجت من دار ابن صياد وهو رجل يزعم أهل المدينة أنه الدجال فليس يكلمه أحد ولا
يجالسه أحد ولم أكن عرفت خبره فأرسل إلي مروان فقال أتدري ما مثلك حديث تحدث به العرب
أن ضبعا مرت بحي قوم وقد رحلوا فوجدت مرآة فنظرت وجهها فيها فلما نظرت قبح وجهها
ألقتها وقالت من شر ما أطرحك أهلك ولكن من شر ما اطرحك أميرك فلا تقيمن بالمدينة
بعد ثلاثة أيام قال فخرجت أريد اليمن حتى إذا صرت بأعلى ذي قسي - وهو طريق اليمن
من البصرة - فإذا رجل مقبل فقلت من أين أوضع الراكب قال من البصرة قلت فما الخبر
وراءك قال أتانا أن زيادا مات بالكوفة قال فنزلت عن راحلتي فسجدت وقلت لو رجعت
فمدحت عبيد الله بن زياد وهجوت مروان بن الحكم فقلت ( وقفتُ
بأعلى ذي قسِيٍّ مطيّتي ... أمثِّل في مروانَ وابنِ زيادِ ) ( فقلت
عُبَيْدُ الله خَيرهما لنا ... وأدناهما من رأفةٍ وَسَداد ) ومضيت
لوجهي حتى وطئت بلاد بني عقيل فوردت ما بين مياههم فإذا بيت عظيم وإذا فيه امرأة
سافرة لم أر كحسنها وهيئتها قط فدنوت فقلت أتأذنين في الظل قالت انزل فلك الظل
والقرى فأنخت وجلست إليها قال فدعت جارية لها سوداء كالراعية فقالت ألطفيه شيئا
واسعي إلى الراعي فردي علي شاة فاذبحيها له وأخرجت إلي تمرا وزبدا قال وحادثتها
فوالله ما رأيت مثلها قط ما أنشدتها شعرا إلا أنشدتني أحسن منه قال فأعجبني المجلس
والحديث إذ أقبل رجل بين بردين فلما رأته رمت ببرقعها على وجهها وجلس وأقبلت عليه
بوجهها وحديثها فدخلني من ذلك غيظ فقلت للحين هل لك في الصراع فقال سوأة لك إن
الرجل لا يصارع ضيفه قال فألححت عليه فقالت له ما عليك لو لاعبت ابن عمك فقام وقمت
فلما رمى ببرده إذا خلق عجيب فقلت هلكت ورب الكعبة فقبض على يدي ثم اختلجني إليه
فصرت في صدره ثم حملني قال فوالله ما اتقيت الأرض إلا بظهر كبدي وجلس على صدري فما
ملكت نفسي أن ضرطت ضرطة منكرة قال وثرت إلى جملي فقال أنشدك الله فقالت المرأة
عافاك الله الظل والقرى فقلت أخزى الله ظلكم وقراكم ومضيت فبينا أسير إذ لحقني الفتى
على نجيب يجنب بخيتا برحله وزمامه وكان رحله من أحسن الرحال فقال يا هذا والله ما
سرني ما كان وقد أراك أبدعت أي كلت ركابك فخذ هذا النجيب وإياك أن تخدع عنه فقد
والله اعطيت به مائتي دينار قلت نعم آخذه ولكن أخبرني من أنت ومن هذه المرأة قال
أنا توبة بن الحمير وتلك ليلى الأخيلية خبر آخر عن لقائه بليلى وتوبة وقد أخبرني
بهذا الخبر عمي قال حدثني القاسم بن محمد الأنباري قال حدثني أحمد بن عبيد عن
الأصمعي قال كانت امرأة من عقيل يقال لها ليلى يتحدث إليها الشباب فدخل الفرزدق
إليها فجعل يحادثها وأقبل فتى من قومها كانت تألفه ودخل إليها فأقبلت عليه بحديثها
وتركت الفرزدق فغاظه ذلك فقال للرجل أتصارعني قال ذلك إليك فقام إليه الرجل فلم
يلبث أن أخذ الفرزدق مثل الكرة فصرعه وجلس على صدره فضرط الفرزدق فوثب عنه الرجل
خجلا وقال له الرجل يا أبا فراس هذا مقام العائذ بك والله ما أردت بك ما جرى فقال
ويحك أن بي ما صرعتني ولكن كأني بابن الأتان جرير وقد بلغه خبري هذا فقال يهجوني ( جلستَ
إلى ليلى لتحظَى بقُربها ... فخانك دُبْرٌ لا يزال يَخونُ ) ( فلو
كنتَ ذا حزمٍ شددتَ وكاءهَا ... كما شدَّ خَرْتاً للدِّلاص قُيونُ ) قالوا
فوالله ما مضت أيام حتى بلغ جريرا الخبر فقال فيه هذين البيتين يومه كيوم امرىء
القيس بدارة جلجل أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني
القحذمي قال حدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن زالان التميمي راوية الفرزدق أن
الفرزدق قال أصابنا بالبصرة مطر جود ليلا فإذا أنا بأثر دواب قد خرجت ناحية البرية
فظننت قوما قد خرجوا لنزهة فقلت خليق أن تكون معهم سفرة وشراب فقصصت أثرهم حتى
وقفت إلى بغال عليها رحائل موقوفة على غدير فأعذذت السير نحو الغدير فإذا نسوة
مستنقعات في الماء فقلت لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل وانصرفت مستحييا منهن
فنادينني بالله يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء فانصرفت إليهن وهن في الماء إلى
حلوقهن فقلن بالله إلا ما خبرتنا بحديث دارة جلجل فقلت إن امرأ القيس كان عاشقا
لابنة عم له يقال لها عنيزة فطلبها زمانا فلم يصل إليها وكان في طلب غرة من أهلها
ليزورها فلم يقض له حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل وذلك أن الحي احتملوا
فتقدم الرجال وتخلف النساء والخدم والثقل فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعدما سار مع
قومه غلوة فكمن في غيابة من الأرض حتى مر به النساء فإذا فتيات وفيهن عنيزة فلما
وردن الغدير قلن لو نزلنا فذهب عنا بعض الكلال فنزلن إليه ونحين العبيد عنهن ثم
تجردن فاغتمسن في الغدير كهيئتكن الساعة فأتاهن امرؤ القيس محتالا كنحو ما أتيتكن
وهن غوافل فأخذ ثيابهن فجمعها - ورمى الفرزدق بنفسه عن بغلته فأخذ بعض أثوابهن
فجمعها ووضعها على صدره - وقال لهن كما أقول لكن والله لا أعطي جارية منكن ثوبها
ولو أقامت في الغدير يومها حتى تخرج مجردة قال الفرزدق فقالت إحداهن وكان أمجنهن
ذلك كان عاشقا لابنة عمه أفعاشق أنت لبعضنا قال لا والله ما أعشق منكن واحدة ولكن
أشتهيكن قال فنعرن وصفقن بأيديهن وقلن خذ في حديثك فلست منصرفا إلا بما تحب قال
الفرزدق في حديث امرىء القيس فتأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار ثم خشين أن يقصرن
دون المنزل الذي أردنه فخرجت إحداهن فوضع لها ثوبها ناحية فأخذته فلبسته ثم تتابعن
على ذلك حتى بقيت عنيزة فناشدته الله أن يطرح إليها ثوبها فقال دعينا منك فأنا
حرام إن أخذت ثوبك إلا بيدك فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة فوضع لها ثوبها فأخذته
وأقبلن عليه يلمنه ويعذلنه ويقلن عريتنا وحبستنا وجوعتنا قال فإن نحرت لكن مطيتي
أتأكلن منها قلن نعم فاخترط سيفه فعقرها ونحرها وكشطها وصاح بالخدم فجمعوا له حطبا
فأجج نارا عظيمة ثم جعل يقطع لهن من سنامها وأطايبها وكبدها فيلقيها على الجمر
فيأكلن ويأكل معهن ويشرب من ركوة كانت معه ويغنيهن وينبذ إلى العبيد والخدم من
الكباب حتى شبعن وطربن فلما أراد الرحيل قالت إحداهن أنا أحمل طنفسته وقالت الأخرى
أنا أحمل رحله وقالت الأخرى أنا أحمل حشيته وأنساعه فتقسمن متاع راحلته بينهن
وبقيت عنيزة لم يحملها شيئا فقال لها امرؤ القيس يا بنة الكرام لا بد لك أن
تحمليني معك فإني لا أطيق المشي وليس من عادتي فحملته على غارب بعيرها فكان يدخل
رأسه في خدرها فيقبلها فإذا امتنعت مال حدجها فتقول يا امرؤ القيس عقرت بعيري
فانزل فذلك قوله ( تقول
وقد مال الغَبيطُ بنا معاً ... عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانزلِ ) فلما
فرغ الفرزدق من الحديث قالت تلك الماجنة قاتلك الله ما أحسن حديثك ما فتى وأظرفك
فمن أنت قال قلت من مضر قالت ومن أيها فقلت من تميم قالت ومن أيها قلت إلى ههنا
انتهى الكلام قالت إخالك والله الفرزدق قلت الفرزدق شاعر وأنا رواية قالت دعنا من
توريتك على نسبك أسألك بالله أنت هو قال أنا هو والله قالت فإن كنت أنت هو فلا
أحسبك مفارقا ثيابنا إلا عن رضا قلت أجل قالت فاصرف وجهك عنا ساعة وهمست إلى
صويحباتها بشيء لم أفهمه فغططن في الماء فتوارين وأبدين رؤوسهن وخرجن ومع كل واحدة
منهن ملء كفيها طينا وجعلن يتعادين نحوي فضربن بذلك الطين والحمأة وجهي وملأن عيني
وثيابي فوقعت على وجهي فصرت مشغولا بعيني وما فيها وشددن على ثيابهن فأخذنها وركبت
الماجنة بغلتي وتركتني منبطحا بأسوأ حال وأخزاها وهي تقول زعم الفتى أنه لا بد أن ينيكنا
فما زلت من ذلك المكان حتى غسلت وجهي وثيابي وجففتها وانصرفت عند مجيء الظلام إلى
منزلي على قدمي وبغلتي قد وجهن بها إلى منزلي مع رسول لهن قل له تقول لك أخواتك
طلبت منا ما لم يمكننا وقد وجهنا إليك بزوجتك فنكها سائر ليلتك وهذا كسر درهم
لحمامك إذا أصبحت فكان إذا حدث بهذا الحديث يقول ما منيت بمثلهن يهجو مسكينا
الدارمي أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم الحراني قال حدثني الأصمعي
قال حدثنا العلاء بن أسلم قال لما مات زياد رثاه مسكين الدارمي فقال الفرزدق ( أَمسكينُ
أبكى الله عينيك إنما ... جرى في ضلال دمعُها إذ تحدَّرَا ) ( بكيتَ
امرأ من آل مَيْسانَ كافراً ... ككِسرى على عِدَّانِه أو كقيصرا ) ( أقول
له لمّا أتانِي نَعِيُّه ... به لا بظبيٍ بالصَّريمة أعفرا ) هجا
ومدح آل المهلب أخبرنا عبد الله بن مالك عن أبي مسلم الحراني قال حدثنا الأصمعي
قال حدثنا العلاء بن أسلم قال لما أراد المهلب الخروج إلى الأزارقة لقي الفرزدق
جريرا فقال له يا أبا فراس هل لك أن تكلم المهلب حتى يضع عني البحث وأعطيك ألف
درهم فكلم المهلب فأجابه فلامه جذيع رجل من عشيرته وشكا ذلك إلى خيرة امرأة المهلب
وقال لها لا يزال الآن الرجل يجيء فيسأل في عشيرته وصديقه فلامته خيرة بنت ضمرة
القشيرية فقال المهلب إنما اشتريت عرضي منه فبلغ ذلك الفرزدق فقال يهجو جذيعا ( إن
تَبْن دَارَكَ يا جُذَيع فما بنى ... لك يا جذيع أبوك من بُنْيانِ ) ( وأبوك
ملتزم السفينة عاقدٌ ... خَصْيَيْه فوق بنائق التُّبّان ) ( ويظلّ
يدفَع باستِه متقاعِساً ... في البحر معتمداً على السُّكّان ) ( لا
تحسبنّ دراهماً جمَّعتَها ... تمحو مَخازِيَك التي بِعُمان ) وقال
يهجو خيرة ( ألاَ قشَر الإِلهُ بني قَشُيرٍ ...
كقَشْر عصا المنقِّح من مُعَال ) ( أرى
رهطاً لخيرة لم يَؤُوبوا ... بسهم في اليمين ولا الشمال ) ( إذا
رُهِزَت رأيت بني قُشَيْرٍ ... من الخُيَلاء مُنتفِشي السِّبالِ ) فغضب
بنو المهلب لما هجا جذيعا وخيرة فنالوا منه فهجاهم فقال ( وكَائِن
للمهلّب من نَسِيبٍ ... يُرى بلَبانه أَثرُ الزِّيار ) ( بِخارَكَ
لم يقُد فرساً ولكن ... يقود السّاج بالمسَد المغار ) ( عمِيٌّ
بالتَّنَائف حين يُضحى ... دَليلَ اللّيل في اللجج الغِمار ) ( وما
لِله يسجُد إذ يصلّي ... ولكن يسجدون لكل نارِ ) فلما
ولي يزيد بن المهلب خراسان والعراق بعد أبيه ولاه سليمان بن عبد الملك خاف الفرزدق
من بني المهلب فقال يمدحهم ( فلأَمدحنَّ
بنِي المهلَّب مِدحةً ... غَرّاءَ قاهرة على الأشعارِ ) ( مثل
النجوم أمامها قَمْراؤها ... تجلو العَمى وتضيء ليلَ السَّاري ) ( ورِثوا
الطّعان عن المهلّب والقِرى ... وخلائقاً كتدفُّقِ الأنهارِ ) ( كان
المهلّب للعراق وقايةً ... وحَيَا الرَّبيعِ ومَعقِل الفُرَّار ) ( وإذا
الرجال رأوا يزيد رأيتَهم ... خضُعَ الرِّقاب نواكسَ الأبصار ) ( ما
زال مُذ شَدّ الإزار بكفه ... ودنا فأدرك خمسة الأشبار ) ( أيزيدُ
إنك للمهلب أدركت ... كفَّاك خيرَ خَلائقِ الأخيار ) أخبرنا
عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال لما قدم يزيد بن
المهلب واسطا قال لأمية بن الجعد وكان صديق الفرزدق إني لأحب أن تأتيني بالفرزدق
فقال للفرزدق ماذا فاتك من يزيد أعظم الناس عفوا وأسخى الناس كفا قال صدقت ولكن
أخشى أن آتيه فأجد العمانية ببابه فيقوم إلي رجل منهم فيقول هذا الفرزدق الذي
هجانا فيضرب عنقي فيبعث إليه يزيد فيضرب عنقه ويبعث إلى أهلي ديتي فإذا يزيد قد
صار أوفى العرب وإذ الفرزدق فيما بين ذلك قد ذهب قال لا والله لا أفعل فأخبر يزيد
بما قال فقال أما إذ قد وقع هذا بنفسه فدعه لعنه الله خبره مع الماجن الذي أراده
قال ابن حبيب وحدثنا يعقوب بن محمد الزهري عن أبيه عن جده قال دخل الفرزدق مع
فتيان من آل المهلب في بركة يتبردون فيها ومعهم ابن أبي علقمة الماجن فجعل يتفلت
إلى الفرزدق فيقول دعوني أنكحه حتى لا يهجونا أبدا وكان الفرزدق من أجبن الناس
فجعل يستغيث ويقول ويلكم لا يمس جلده جلدي فيبلغ ذلك جريرا فيوجب على أنه قد كان
منه الذي يقول فلم يزل يناشدهم حتى كفوه عنه أخبرني عبيد الله قال حدثني محمد بن
حبيب قال حدثني موسى بن طلحة قال لما ولي خالد بن عبد الله العراق فقدمها وكان من
أشد خلق الله عصبية على نوار فقال لبطة بن الفرزدق فلبس أبي من صالح ثيابه وخرج
يريد السلام عليه فقلت له يا أبت إن هذا الرجل يماني وفيه من العصبية ما قد علمت
فلو دخلت إليه فأنشدته مدائحك أهل اليمن لعل الله أن يأتيك منه بخير فإنك قد كبرت
على الرحلة فجعل لا يرد علي شيئا حتى دفعنا إلى البواب فأذن له فدخل وسلم فاستجلسه
ثم قال إيه يا أبا فراس أنشدنا مما أحدثت فأنشدته ( يختلف
الناسُ ما لم نجتمعْ لهمُ ... ولا خلاف إذا ما أجمعت مُضرُ ) ( فينا
الكواهلُ والأعناقُ تقدُمها ... فيها الرؤوسُ وفيها السَّمعُ والبصر ) ( ولا
نحالف غيرَ الله من أحد ... إلا السيوفَ إذا ما اغرَوْرَقَ النظر ) ( ومن
يَملْ يُملِ المأثورُ قُلَّتَه ... بحيث يَلقى حِفَافَيْ رأسه الشعر ) ( أما
الملوكُ فإنا لا نلين لهم ... حتى يلينَ لضرس الماضِغ الحجرُ ) ثم
قام فخرجنا قلت أهكذا أوصيتك قال اسكت لا أم لك فما كنت قط أملأ لقلبه مني الساعة يفحم
المنذر بن الجارود أخبرني عبد الله قال حدثني محمد بن حبيب عن موسى بن طلحة قال كان
الفرزدق في حلقة في المسجد الجامع وفيها المنذر بن الجارود العبدي فقال المنذر من
الذي يقول ( وجدنا في كتاب بني تميم ... أحقُّ
الخيلِ بالركضِ المعارُ ) فقال
الفرزدق يا أبا الحكم هو الذي يقول ( أشاربُ
قهوةٍ وخدينُ زِيرٍ ... وعَبْديٌّ لفَسْوَته بُخارُ ) ( وجَدنا
الخيلَ في أبناء بكرٍ ... وأفضلُ خيلهم خشبٌ وقار ) قال
فخجل المنذر حتى ما قدر على الكلام أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن
موسى قال حدثنا الأصمعي قال دخل الفرزدق على بعض خلفاء بني مروان ففاخره قوم من
الشعراء فأنشأ يقول ( ما
حمِلَتْ ناقةٌ من معشر رجلاً ... مثلي إذا الريح لفَّتْنِي على الكُورِ ) ( أعزَّ
قوماً وأوفى عند مكرمةٍ ... لمعْظَمٍ من دماء القوم مهجورِ ) فقال
له إيه فقال ( إلاّ
قُريشاً فإنّ الله فضَّلها ... على البرِيّةِ بالإِسلامِ والخيرِ ) ( تلقى
وجوهَ بني مرْوانَ تحسبُها ... عند اللقاء مشُوفاتِ الدَّنانير ) ففضله
عليهم ووصله يمدح عيسى بن حصيلة لأنه أعانه على الفرار قال ابن حبيب وكان الفرزدق
يهاجي الأشهب بن رميلة النهشلي وبني فقيم فأرفث بهم فاستعدوا عليه زيادا فحدثني جابر
بن جندل قال فأتى عيسى بن حصيلة بن مغيث بن نصر بن خالد السلمي ثم من بني بهز فقال
يا أبا حصيلة إن هذا الرجل قد أخافني وقد لفظني جميع من كنت أرجو قال فمرحبا بك يا
أبا فراس فكان عنده ليالي ثم قال إني أريد أن ألحق بالشام قال إن أقمت ففي الرحب
والسعة وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بها وألف درهم فركب الناقة وخرج من عنده
ليلا فأرسل عيسى معه من أجازه من البيوت فأصبح وقد جاوز مسيرة ثلاث فقال يمدحه ( كفاني
بها البَهْزيُّ حُملانَ منْ أبى ... من الناس والجاني تُخاف جرائمُهْ ) ( فتى
الجودِ عيسى والمكارمِ والعُلا ... إذا المال لم ينفَع بخيلاً كرائمه ) ( ومن
كان يا عيسى يُؤنّب ضَيْفَهُ ... فَضَيْفُكَ يا عيسى هنيءٌ مطاعمُه ) ( وقال
تَعلَّمْ أنها أرحبِيَّةٌ ... وأنَّ لك الليلَ الذي أنت جاشِمُه ) ( فأَصْبَحْتُ
والمُلْقَى ورائي وحنبَلٌ ... وما صَدَرَتْ حتى علا النجمَ عاتمه ) ( تَزاوَر
في آل الحقيق كأنها ... ظليمٌ تبارى جُنح ليل نعائمه ) ( رأت
دون عينيها ثويَّة فانجلى ... لها الصبح عن صَعْلٍ أسيلٍ مخاطمه ) وقال
( تدارَكني أسبابُ عيسى من الرَّدَى
... ومن يَكُ مولاه فليس بواحدِ ) ( نمتْه
النواصي من سُليْمٍ إلى العلا ... وأعراقُ صدق بين نَصْر وخالد ) ( سأُثنِي
بما أولَيْتَني وأَرُبُّه ... إذا القوم عدُّوا فضْلَهم في المشاهد ) فلما
بلغ زيادا شخوصه أتبعه علي بن زهدم الفقيمي أحد بني مؤلة فلم يلحقه فقال الفرزدق ( فإنك
لو لاقيتَني يابنَ زهدمٍ ... لأبت شعاعيًّا على غير تمثال ) يلجأ
إلى بكر بن وائل فأتى بكر بن وائل فجاورهم فأمن فقال ( وقد
مَثلت أين المسيرُ فلم تجد ... لعَوذَتها كالحيّ بكر بن وائل ) ( وسارت
إلى الأجفان خمساً فأصبحت ... مكان الثريا من يد المتناول ) ( وما
ضرها إذ جاورت في بلادها ... بني الحصِن ما كان اختلاف القَبائل ) الحصن
بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل اطمأن عند سعيد بن العاصي
بالمدينة وهرب الفرزدق من زياد فأتى سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي ابن أمية
وهو على المدينة لمعاوية بن أبي سفيان فأمنه سعيد فبلغ الفرزدق أن زيادا قال لو
أتاني أمنته وأعطيته فقال في كلمة له ( دعاني
زياد للعطاءِ ولم أكُنْ ... لآتِيَهُ ما ساق ذو حسبٍ وَقْرا ) ( وَعند
زيادٍ لو أراد عطاءهَم ... رجالٌ كثيرٌ قد يرى بهمُ فقرا ) ( قعودٌ
لدى الأَبواب طلاَّبُ حاجة ... عوانٍ من الحاجات أو حاجة بكرا ) ( فلما
خشيتُ أن يكون عطاؤه ... أداهمَ سوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمرا ) ( نميْتُ
إلى حَرْف أضرَّ بنَيِّها ... سُرَى اللَّيل واستعراضُها البلد القفْرا ) فلما
اطمأن عند سعيد بن العاصي بالمدينة قال ( ألا
مَنْ مبلغٌ عنّي زِياداً ... مُغلغلةً يخُبُّ بها البَريدُ ) ( بأنّي
قد فررتُ إلى سعيدٍ ... ولا يُسْطَاعُ ما يَحْمِي سعيد ) ( فررتُ
إليه من ليثٍ هِزَبْرٍ ... تفادى عن فريسته الأُسود ) ( فإن
شئتُ انتميْت إلى النصارى ... وَنَاسبني وَنَاسبتِ اليهودُ ) ( وإن
شئت انتسبت إلى فُقَيْمٍ ... وَنَاسبني وَنَاسبتِ القرود ) ( وَأبغضُهم
إليَّ بَنُو فُقيم ... وَلكن سوف آتي ما تُرِيد ) فأقام
الفرزدق بالمدينة فكان يدخل بها على القيان فقال ( إذا
شئتُ غنَّاني من العاج قاصفٌ ... على معصم ريّان لم يتخدَّدِ ) ( لبيضاءَ
من أهل المدينة لم تعِش ... ببؤس ولم تتبعْ حُمولة مُجْحد ) ( وقامت
تُخشيِّينيَ زياداً وأجفلت ... حواليَّ في بُردَيْ يمانٍ وَمُجسَد ) ( فقلتُ
دعيني من زياد فإنَّني ... أَرى الموت وَقَّاعاً على كل مَرْصَدِ ) ملاحاة
بينه وبين مسكين الدارمي فلما هلك زياد رثاه مسكين بن عامر بن شريح بن عمرو بن عدي
بن عدس بن عبد الله بن دارم فقال ( رأيت
زيادة الإسلام وَلَّت ... جهاراً حين فارقها زِيادُ ) فبلغ
ذلك الفرزدق فقال ( أمسكينُ
أبكى الله عينيك إنَّما ... جرى في ضلالٍ دَمعُها فتحدَّرا ) ( أتبكي
امرأً من آل مَيسَان كافراً ... ككسرى على عِدَّانه أو كقيصرا ) ( أقول
له لما أتانِي نَعِيُّه ... به لا بظبيٍ بالصّرِيمة أعفرا ) فقال
مسكين ( ألا أيها المرءُ الذي لَسْتُ
قائماً ... ولا قاعداً في القوم إلاَّ انبرى لِيَا ) ( فجِئْنِي
بعَمٍّ مثل عَمِّي أَو أَبٍ ... كمثلِ أبي أو خالِ صدقٍ كخاليَا ) ( بعَمرو
بن عمرو أو زرارةَ ذي النّدى ... سموتُ به حتى فَرعتُ الرّوابيا ) فأمسك
الفرزدق عنه وكان يقول نجوت من أن يهجوني مسكين فإن أجبته ذهب بشطر فخري وإن أمسكت
عنه كانت وصمة على مدى الدهر أخبرني أبو خليفة فقال أخبرنا ابن سلام قال حدثني
الحكم بن محمد المازني قال كان تميم بن زيد القضاعي ثم أحد بني القين بن جسر غزا
الهند في جيش فجمرهم وفي جيشه رجل يقال له حبيش فلما طالت غيبته على أمه اشتاقته
فسألت عمن يكلم لها تميم بن زيد أن يقفل ابنها فقيل لها عليك بالفرزدق فاستجيري بقبر
أبيه فأتت قبر غالب بكاظمة حتى علم الفرزدق مكانها ثم أتته وطلبت إليه حاجتها فكتب
إلى تميم بن زيد هذه الأبيات ( هَبْ
لي حُبَيشاً واتخذ فيه مِنّةً ... لغُصَّةِ أَمٍّ ما يَسوغُ شرابُها ) ( أَتتني
فعَاذت يا تميمُ بغالبٍ ... وبالحفرة السافي عليها تُرابُها ) ( تَميمُ
بن زَيدٍ لا تكوننَّ حاجتي ... بظَهرٍ فلا يخفى عليَّ جَوابها ) فلما
أتاه كتابه لم يدر ما اسمه حبيش أو حنيش فأخرج ديوانه وأقفل كل حبيش وحنيش في جيشه
وهم عدة وأنفذهم إلى الفرزدق قبر أبيه معاذ الناس قال أبو خليفة قال ابن سلام
وحدثني أبو يحيى الضبي قال ضرب مكاتب لبني منقر بساطا على قبر غالب أبي الفرزدق
فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه بمكانه عند قبر أبيه ثم قدم عليه فقال ( بقبر
ابن لَيْلَى غالب عُذْتُ بعدما ... خَشِيت الرَّدَى أو أن أُرَدَّ عَلَى قَسْر ) ( فأخبرني
قبرُ ابنِ لَيْلَى فقال لي ... فِكاككَ أن تأتي الفرزدقَ بالمِصْرِ ) فقال
الفرزدق صدق أبي أنخ ثم طاف له في الناس حتى جمع له مكاتبته وفضلا وكان نفيع ذو
الأهدام أحد بني جعفر بن كلاب يتعصب لجرير بمدحه قيسا فهجاه الفرزدق فاستجارت أمه
بقبر غالب وعاذت من هجاء الفرزدق فقال ( ونُبّئْتُ
ذا الأَهدام يعوي ودونه ... من الشَّام زُرَّاعاتُها وَقُصُورُها ) ( على
حينَ لم أتركْ عَلَى الأَرْض حيَّةً ... ولا نابِحاً إلا استقرّ عقورُها ) ( كلابٌ
نَبَحن الحيّ من كل جانبٍ ... فعاد عُواءً بعد نَبْحٍ هريرُها ) ( عجوزٌ
تصلي الخمس عاذت بغالبٍ ... فلا والذي عاذت به لا أضيرُها ) ( لئن
نافعٌ لم يرع أرحامَ أُمِّه ... وَكَانت كدَلوٍ لا يزال يعيرُها ) ( لبئس
دمُ المولود بلَّ ثَيابَها ... عشيَّةَ نادى بالغلام بشيرُها ) ( وإنِّي
على إشفاقها من مخافتي ... وَإن عَقّهَا بي نافعٌ لمجيرِها ) ( وَلو
أنَّ أمَّ الناس حوّاءَ جاوَرت ... تميمَ بن مُرٍّ لم تجد من يجيرها ) وهذا
البيت يروى لغيره في غير هذه القصيدة أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن
حبيب قال حدثنا أحمد بن حاتم المعروف بابن نصر عن الأصمعي قال كان عبد الله بن
عطية راوية الفرزدق وجرير قال فدعاني الفرزدق يوما فقال إني قلت بيت شعر والنوار
طالق إن نقضه ابن المراغة قلت ما هو قال قلت ( فإني
أنا الموتُ الذي هو نازلٌ ... بنفسك فانظر كيف أنت تُحاوله ) ارحل
إليه بالبيت قال فرحلت إلى اليمامة قال ولقيت جريرا بفناء بيته يعبث بالرمل فقلت
إن الفرزدق قال بيتا وحلف بطلاق النوار أنك لا تنقضه قال هيه أظن والله ذلك ما هو
ويلك فأنشدته إياه فجعل يتمرغ في الرمل ويحثوه على رأسه وصدره حتى كادت الشمس تغرب
ثم قال أنا أبو حزرة طلقت امرأة الفاسق وقال ( أنا
الدهرُ يفنى الموتُ والدهر خالدٌ ... فجئني بمثل الدهرِ شيئاً يطاوله ) ارحل
إلى الفاسق قال فقدمت على الفرزدق فأنشدته إياه وأعملته بما قال فقال أقسمت عليك
لما سترت هذا الحديث أخبرني عبد الله قال أخبرني محمد بن حبيب قال حدثنا الأصمعي
وأبو عبيدة قال دخل الفرزدق على بلال بن أبي بردة وعنده ناس من اليمامة فضحكوا
فقال يا أبا فراس أتدري مم ضحكوا قال لا قال من جفائك قال أصلح الله الأمير حججت فإذا
أنا برجل منهم على عاتقه الأيمن صبي وعلى عاتقه الأيسر صبي وإذا امرأة آخذة بمئزره
وهو يقول ( أنت وهبت زائداً ومزْيَدا ...
وكهلةً أُولجُ فيها الأجردا ) والمرأة
تقول من خلفه إذا شئت فسألت ممن هو فقيل من الأشعريين أفأنا أجفى أم ذلك فقال بلال
لا حياك الله قد علمت أنهم لن يفلتوا منك أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد
بن حبيب قال حدثنا موسى بن طلحة عن أبي زيد الأنصاري قال ركب الفرزدق بغلته فمر
بنسوة فلما حاذاهن لم تتمالك البغلة أن ضرطت فضحكن منه فالتفت إليهن فقال لا تضحكن
فما حملتني أنثى إلا ضرطت فقالت له إحداهن ما حملتك أنثى أكثر من أمك فأراها قاست
منك ضراطا كثيرا فحرك بغلته وهرب منهن وبهذا الإسناد قال أتى الفرزدق الحسن البصري
فقال إني قد هجوت إبليس فقال كيف تهجوه وعن لسانه تنطق وبهذا الإسناد قال حمزة بن
بيض للفرزدق يا أبا فراس أسألك عن مسألة قال سل عما أحببت قال أيما أحب إليك أتسبق
الخير أم يسبقك قال إن سبقني فاتني وإن سبقته فته ولكن نكون معا لا يسبقني ولا
أسبقه ولكن أسألك عن مسألة قال ابن بيض سل قال أيما أحب إليك أن تنصرف إلى منزلك فتجد
امرأتك قابضة على أير رجل أم تراه قابضا على هنها قال فتحير وكان قد نهي عنه فلم
يقبل هو وجرير لا يصطلحان أبدا أخبرني عبد الله قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال
حدثني الأصمعي قال اجتمع الفرزدق وجرير عند بشر بن مروان فرجا أن يصلح بينهما حتى
يتكافا فقال لهما ويحكما قد بلغتما من السن ما قد بلغتما وقربت آجالكما فلو
اصطلحتما ووهب كل واحد منكما لصاحبه ذنبه فقال جرير أصلح الله الأمير إنه يظلمني ويتعدى
علي فقال الفرزدق أصلح الله الأمير إني وجدت آبائي يظلمون آباءه فسلكت طريقهم في
ظلمه فقال بشر عليكما لعنة الله لا تصطلحان والله أبدا وأخبرني عبد الله بن مالك
قال حدثنا محمد بن عمران الضبي قال حدثنا الأصمعي قال الفرزدق ما أعياني جواب أحد
ما أعياني جواب دهقان مرة قال لي أنت الفرزدق الشاعر قلت نعم قال أفأموت إن هجوتني
قلت لا قال أفتموت عيشونة ابنتي قلت لا قال فرجلي إلى عنقي في حر أمك قال قلت ويلك
لم تركت رأسك قال حتى أنظر أي شيء تصنع أخبرني عبد الله قال حدثنا محمد بن حبيب عن
الأصمعي قال مر الفرزدق بمأجل فيه ماء فأشرع بغلته فيه فقال له مجنون بالبصرة يقال
له حربيش نح بغلتك جذ الله رجليك قال ولم ويلك قال لأنك كذوب الحنجرة زاني الكمرة
فقال الفرزدق لبغلته عدس ومضى وكره أن يسمع قوله الناس يؤثر القصائد القصار أخبرنا
عبد الله بن مالك عن ابن حبيب عن سعدان بن المبارك قال قيل للفرزدق ما اختيارك في
شعرك للقصار قال لأني رأيتها أثبت في الصدور وفي المحافل أجول قال وقيل للحطيئة ما
بال قصارك أكثر من طوالك قال لأنها في الآذان أولج وفي أفواه الناس أعلق أخبرني
عبد الله بن حبيب عن سعدان بن المبارك قال قيل لعقيل ابن علفة مالك تقصر في هجائك
قال حسبك من القلادة ما أحاط بالرقبة أخبرني عبد الله عن محمد بن علي بن سعيد
الترمذي عن أحمد بن حاتم أبي نصر قال قال الجهم بن سويد بن المنذر الجرمي للفرزدق
أما وجدت أمك اسما لك إلا الفرزدق الذي تكسره النساء في سويقها قال والعرب تسمى
خبز الفتوت الفرزدق فأقبل الفرزدق على قوم معه في المجلس فقال ما اسمه فلم يخبروه
باسمه فقال والله لئن لم تخبروني لأهجونكم كلكم قال الجهم بن سويد بن المنذر فقال
الفرزدق أحق الناس ألا يتكلم في هذا أنت لأن اسمك اسم متاع المرأة واسم أبيك اسم
الحمار واسم جدك اسم الكلب بيتان لكثير يغيران لون وجهه أخبرنا عبد الله بن مالك
عن الزبير عن عمه عن بعض القرويين قال قدم علينا الفرزدق فقلنا له قدم علينا جرير
فأنشدنا قصيدة يمدح بها هؤلاء القوم ومضى يريدهم فقال أنشدونيها فأنشدناه قصيدة
كثير التي يقول فيها ( وما
زالت رُقاك تسُلُّ ضِغْنِي ... وتخرج من مكامنها ضِبابي ) ( ويَرقيني
لك الحاوون حتى ... أجابك حيّةٌ تحت الحِجاب ) قال
فجعل وجهه يتغير وعندنا كانون ونحن في الشتاء فلما رأينا ما به قلنا هون عليك يا
أبا فراس فإنما هي لابن أبي جمعة فانثنى سريعا ليسجد فأصاب ناحية الكانون وجهه
فأدماه أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى قال أخبرني القحذمي قال لقي
الفرزدق الحسين بن علي عليهما السلام متوجها إلى الكوفة خارجا من مكة في اليوم السادس
من ذي الحجة فقال له الحسين صلوات الله عليه وآله ما وراءك قال يا بن رسول الله
أنفس الناس معك وأيديهم عليك قال ويحك معي وقر بعير من كتبهم يدعونني ويناشدونني
الله قال فلما قتل الحسين صلوات الله عليه قال الفرزدق انظروا فإن غضبت العرب لابن
سيدها وخيرها فاعلموا أنه سيدوم عزها وتبقى هيبتها وإن صبرت عليه ولم تتغير لم
يزدها الله إلا ذلا إلى آخر الدهر وأنشد في ذلك ( فإن
أنتُم لم تثأَروا لابن خيركم ... فألقوا السلاح واغزِلوا بالمغازِل ) أخبرنا
عبد الله بن مالك قال أخبرني أبو مسلم قال حدثني الأصمعي قال أنشد الراعي الفرزدق
أربع قصائد فقال له الفرزدق أعيدها عليك لقد أتى علي زمان ولو سمعت ببيت شعر وأنا
أهوي في بئر ما ذهب عني أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني ابو مسلم الحراني عن
الأصمعي قال تغدى الفرزدق عند صديق له ثم انصرف فمر ببني أسد فحدثهم ساعة ثم
استسقى ماء فقال فتى منهم أو لبنا فقال لبنا فقام إلى عس فصب فيه رطلا من خمر ثم
حلب وناوله إياه فلما كرع فيه انتفخت أوداجه واحمر وجهه ثم رد العس وقال جزاك الله
خيرا فإني ما علمتك تحب أن تحفي صديقك وتخفي معروفك ثم مضى قصته مع المرأة الشريفة
وزوجته النوار وأخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن القحذمي قال كان
الفرزدق أراد امرأة شريفة على نفسها فامتنعت عليه وتهددها بالهجاء والفضيحة
فاستغاثت بالنوار امرأته وقصت عليها القصة فقالت لها واعديه ليلة ثم أعلميني ففعلت
وجاءت النوار فدخلت الحجلة مع المراة فلما دخل الفرزدق البيت أمرت الجارية فأطفأت
السراج وغادرت المرأة الحجلة واتبعها الفرزدق فصار إلى الحجلة وقد انسلت المرأة
خلف الحجلة وبقيت النوار فيها فوقع بالنوار وهو لا يشك أنها صاحبته فلما فرغ قالت
له يا عدو الله يا فاسق فعرف نغمتها وأنه خدع فقال لها وأنت هي يا سبحان الله ما
أطيبك حراما وأرداك حلالا يهجو ابن سبرة لأنه منعه عن جارية أخبرني عبد الله بن
مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني القحذمي قال استعمل الحجاج الخيار بن سبرة
المجاشعي على عمان فكتب إليه الفرزدق يستهديه جارية فكتب إليه الخيار ( كتبت
إليّ تستهدي الجواري ... لقد أنعظتَ من بلدٍ بعيد ) فأجابه
الفرزدق ( ألا قال الخيارُ وكان جهلا ... قد
استهدى الفرزدقُ من بعيد ) ( فلولا
أن أمك كان عمِّي ... أباها كنت أخرس بالنشيد ) ( وأَنّ
أبي لَعَمُّ أبيك لحًّا ... وأنك حين أغضبُ من أسودي ) ( إذاً
لشددتُ شدَّةَ أعوجيٍّ ... يدقّ شكيمَ مجدول الحديد ) أخبرنا
عبد الله بن مالك عن الأصمعي قال سمع الفرزدق رجلا يقرأ والسارق والسارقة فاقطعوا
أيديهما جراء بما كسبا نكالا من الله والله غفور رحيم فقال لا ينبغي أن يكون هذا
هكذا قال فقيل له إنما هو ( عزيز حكيم ) قال هكذا ينبغي أن يكون يمدح أسماء بن
خارجة أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا الأصمعي قال مر أسماء
بن خارجة الفزاري على الفرزدق وهو يهنأ بعيرا له بنقسه فقال له أسماء يا فرزدق كسد
شعرك واطرحتك الملوك فصرت إلى مهنة إبلك فقد أمرت لك بمائة بعير فقال الفرزدق فيه
يمدحه ( إنَّ السّماحَ الذي في الناس
كلّهمُ ... قد حازه اللهُ للمفضَال أسماءِ ) ( يُعطي
الجزيلَ بلا مَنٍّ يكدِّره ... عفواً ويُتبع آلاءَ بنعماءِ ) ( ما
ضَرَّ قوماً إذا أمسى يجاورهم ... ألاّ يكونوا ذوي إبلٍ ولا شاءِ ) أخبرني
عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى بن طلحة قال قال أبو عبيدة دخل الفرزدق على بلال
بن أبي بردة فأنشده قصيدته المشهورة فيهم التي يقول فيها ( فإن
أبا موسى خليلُ محمدٍ ... وكفَّاه يُمْنَى للهدى وشِمالُها ) فقال
ابن أبي بردة هلكت والله يا أبا فراس فارتاع الشيخ وقال كيف ذاك قال ذهب شعرك أين
مثل شعرك في سعيد وفي العباس بن الوليد وسمى قوما فقال جئني بحسب مثل أحسابهم حتى
أقول فيك كقولي فيهم فغضب بلال حتى درت أوداجه ودعي له بطست فيه ماء بارد فوضع يده
فيها حتى سكن فكلمه فيه جلساؤه وقالوا قد كفاك الشيخ نفسه وقل ما يبقى حتى يموت
فلم يحل عليه الحول حتى مات اغتلم فاحتال على قابلة أخبرنا عبد الله بن مالك عن
محمد بن موسى عن سعيد بن همام اليمامي قال شرب الفرزدق شرابا باليمامة وهو يريد
العراق فقال لصاحب له إن الغلمة قد آذتني فأكسبني بغيا قال من أين أصيب لك ها هنا
بغيا قال فلا بد لك من أن تحتال قال فمضى الرجل إلى القرية وترك الفرزدق ناحية
فقال هل من امرأة تقبل فإن معي امرأتي وقد أخذها الطلق فبعثوا معه امرأة فأدخلها
على الفرزدق وقد غطاه فلما دنت منه واثبها ثم ارتحل مبادرا وقال كأني بابن الخبيثة
يعني جريرا لو قد بلغه الخبر قد قال ( وكنتَ
إذا حللتَ بدار قومٍ ... رحلتَ بخِزْيةٍ وتركتَ عارا ) قال
فبلغ جريرا الخبر فهجاه بهذا الشعر وأخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى قال
قال أبو نهشل حدثنا بعض أصحابنا قال وقف الفرزدق على الشمردل وهو ينشد قصيدة له
فمر هذا البيت في بعض قوله ( وما
بين مَن لم يعطِ سمعاً وطاعةً ... وبين جرير غير حزِّ الحلاقم ) فقال
الفرزدق يا شمردل لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك قال خذه لا بارك الله لك فيه
فهو في قصيدته التي ذكر فيها قتيبة بن مسلم وهي التي أولها قوله ( تحنُّ
إلى زورا اليمامة ناقتي ... حنينَ عجولٍ تبتغي البوَّ رائمِ ) امرأة
تستعيذ بقبر أبيه أخبرنا عبدالله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال جاءت
امرأة إلى قبر غالب أبي الفرزدق فضربت عليه فسطاطا فأتاها فسألها عن أمرها فقالت
إني عائذة بقبر غالب من أمر نزل بي قال لها وما هو قد ضمنت خلاصك منه قالت إن ابنا
لي أغزي إلى السند مع تميم بن زيد وهو واحدي قال انصرفي فعلي انصرافه إليك إن شاء
الله قال وكتب من وقته إلى تميم بقوله ( تميم
بنَ زيد لا تكوننَّ حاجتِي ... بظَهرٍ فلا يخفى عليَّ جَوابُها ) ( وهب
لي حُبيْشاً واتَّخِذْ فيه مِنَّةً ... لحرْمة أمٍّ ما يسوغُ شَرَابُهَا ) ( أتتنِي
فعاذت يا تَمِيمُ بغَالبٍ ... ويالحفْرة السّاقي عليها ترابُهَا ) قال
فعرض تميم جميع من معه من الجند فلم يدع أحدا اسمه حبيش ولا حنيش إلا وصله وأذن له
في الانصراف إلى أهله أخبرنا عبد الله بن مالك قال أخبرنا محمد بن حبيب عن الأصمعي
قال مر الفرزدق بصديق له فقال له ما تشتهي يا أبا فراس قال أشتهي شوا ء رشراشا ونبيذا
سعيرا وغناء يفتق السمع الرشراش الرطب والسعير الكثير أخبرنا عبد الله بن مالك قال
حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني السعدي عن أبي مالك الزبيدي قال أتينا الفرزدق لنسمع
منه شيئا فجلسنا ببابه ننتظر إذ خرج علينا في ملحفة فقال لنا يا أعداء الله ما
اجتماعكم ببابي والله لو أردت أن أزني ما قدرت أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا
أبو مسلم قال حدثنا الأصمعي عن هشام بن القاسم قال قال الفرزدق قد علم الناس أني
فحل الشعراء وربما أتت علي الساعة لقلع ضرس من أضراسي أهون علي من قول بيت شعر كان
الفرزدق بن مالك عن أبي مسلم عن الأصمعي قال كان الفرزدق وأبو شقفل راويته في
المسجد فدخلت امرأة فسألت عن مسألة وتوسمت فرأت هيئة أبي شقفل فسألته عن مسألتها
فقال الفرزدق ( أبو
شَقْفَل شيخ عن الحق جائرٌ ... بباب الهدى والرّشد غيرُ بصير ) فقالت
المرأة سبحان الله أتقول هذا لمثل هذا الشيخ فقال أبو شقفل دعيه فهو أعلم بي سكينة
بنت الحسين تكذب ادعاءاته أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال
حدثنا المدائني قال خرج الفرزدق حاجا فمر بالمدينة فأتى سكينة بنت الحسين صلوات
الله عليه وآله فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي
يقول ( بنفسي مَنْ تجنُّبُه عزيزٌ ...
عليَّ وَمَنْ زِيارتُه لِمَامُ ) ( وَمن
أُمسِي وَأُصبِح لا أراه ... وَيطرُقني إذا هجعَ النيامُ ) فقال
والله لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه فقالت أقيموه فأخرج ثم عاد إليها في اليوم
الثاني فقالت له يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول ( لولا
الحياءُ لهاجني استعبارُ ... وَلزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ ) ( لا
يلبث القُرفاءُ أن يتفرّقوا ... ليلٌ بكرّ عليهمُ ونهارُ ) ( كانت
إذا هجر الضجيعُ فراشها ... كُتِمَ الحديثُ وعَفّت الأسرار ) قال
أفأسمعك أحسن منه قالت اخرج ثم عاد إليها في اليوم الثالث وعلى رأسها جارية كأنها
ظبية فاشتد عجبه بها فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك
الذي يقول ( إنّ العيونَ التي في طَرفِها
مَرَضٌ ... قتَلْننا ثم لم يُحيين قَتْلانَا ) ( يَصرعْن
ذا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ له ... وهُنَّ أضعفُ خَلْقِ الله أَركانا ) ثم
قالت قم فاخرج فقال لها يا بنت رسول الله إن لي عليك لحقا إذ كنت إنما جئت مسلما
عليك فكان من تكذيبك إياي وصنيعك بي حين أردت أن أسمعك شيئا من شعري ما ضاق به
صدري والمنايا تغدو وتروح ولا أدري لعلي لا أفارق المدينة حتى أموت فإن مت فمري من
يدفنني في حر هذه الجارية التي على رأسك فضحكت سكينة حتى كادت تخرج من ثيابها
وأمرت له بالجارية وقالت أحسن صحبتها فقد آثرتك بها على نفسي قال فخرج وهو آخذ
بريطتها يطالب معاوية بتراث عمه أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال
حدثنا المدائني قال وفد الحتات عم الفرزدق على معاوية فخرجت جوائزهم فانصرفوا ومرض
الحتات فأقام عند معاوية حتى مات فأمر معاوية بماله فأدخل بيت المال فخرج الفرزدق إلى
معاوية وهو غلام فلما أذن للناس دخل بين السماطين ومثل بين يدي معاوية فقال ( أبوك
وعمّي يا معاويَ ورَّثا ... تراثاً فيحتازُ التّراثَ أَقاربُه ) ( فما
بال ميراثِ الحتات أكلتَهُ ... وميراثُ حرب جامدٌ ليَ ذائبه ) ( فلو
كان هذا الأمرُ في جاهليَّةٍ ... علمتَ مَن المولى القليلُ حلائبُه ) ( ولو
كان هذا الأمر في مِلك غيركم ... لأدّاه لي أو غصّ بالماء شاربه ) فقال
له معاوية من أنت قال أنا الفرزدق قال ادفعوا إليه ميراث عمه الحتات وكان ألف
دينار فدفع إليه امرأة ترجز به فيذكرها بشعر فاحش أخبرنا عبد الله بن مالك عن أبي
حمزة الأنصاري قال أخبرنا أبو زيد قال قال أبو عبيدة انصرف الفرزدق من عند بعض
الأمراء في غداة باردة وأمر بجزور فنحرت ثم قسمت فأغفل امرأة من بني فقيم نسيها
فرجزت به فقالت ( فيْشلةٌ
هدْلاءُ ذات شِقْشِقِ ... مشرفةُ اليافوخِ والمحوَّقِ ) ( مُدمَجةٌ
ذاتُ حِفافٍ أخلقِ ... نِيطت بحَقْوَيْ قَطِمٍ عشَنَّق ) ( أولجتها
في سَبّة الفرزدق ... ) قال
أبو عبيدة فبلغني أنه هرب منها فدخل في بيت حماد بن الهيثم ثم إن الفرزدق قال فيها
بعد ذلك ( قتلتُ قتيلاً لم ير الناسُ مثلَه
... أُقلِّبه ذا تَوْمَتين مُسَوَّرا ) ( حملتُ
عليه حملتين بطعنةٍ ... فغَادرتُه فوق الحشَايا مكوّرا ) ( ترى
جرحَه من بعد ما قد طعنته ... يفوح كمثل المسك خالطَ عنبرا ) ( وما
هو يوم الزحف بارزَ قِرنَه ... ولا هو ولّى يوم لاقى فأدبرا ) ( بني
دارم ما تأمرون بشاعرٍ ... برود الثّنَايَا ما يزال مزعفرا ) ( إذا
ما هو استلقى رأيت جهَازه ... كمقطع عُنق الناب أسود أحمرا ) ( وكيف
أُهَاجي شاعراً رمحُهُ استُه ... أعدَّ ليوم الروع دِرْعاً وَمَجْمرا ) فقالت
المرأة ألا لا أرى الرجال يذكرون مني هذا وعاهدت الله ألا تقول شعرا أخبرنا عبد
الله بن مالك بن مسلم عن الأصمعي قال مر الفرزدق يوما في الأزد فوثب عليه ابن أبي
علقمة لينكحه وأعانه على ذلك سفهاؤهم فجاءت مشايخ الأزد وأولو النهى منهم فصاحوا
بابن أبي علقمة وبأولئك السفهاء فقال لهم ابن أبي علقمة ويلكم أطيعوني اليوم
واعصوني الدهر هذا شاعر مضر ولسانها قد شتم أعراضكم وهجا ساداتكم والله لا تنالون
من مضر مثلها أبدا فحالوا بينه وبينه فكان الفرزدق يقول بعد ذلك قاتله الله أي والله
لقد كان أشار عليهم بالرأي رجل من الأنصار يتحداه بشاعرهم حسان بن ثابت أخبرني عبد
الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال قال الكلبي قال إبراهيم بن محمد بن سعيد
بن أبي وقاص وأخبرنا بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي والأخفش جميعا عن السكري عن
ابن حبيب عن أبي عبيدة والكلبي قال وأخبرنا به إبراهيم بن سعدان عن أبيه عن أبي
عبيدة قالوا جميعا قدم الفرزدق المدينة في إمارة أبان بن عثمان فأتى الفرزدق وكثير
عزة فبينا هما يتناشدان الأشعار إذ طلع عليهما غلام شخت رقيق الأدمة في ثوبين
ممصرين فقصد نحونا فلم يسلم وقال أيكم الفرزدق فقلت مخافة أن يكون من قريش أهكذا تقول
لسيد العرب وشاعرها فقال لو كان كذلك لم أقل هذا فقال له الفرزدق من أنت لا أم لك
قال رجل من الأنصار ثم من بني النجار ثم أنا ابن أبي بكر بن حزم بلغني أنك تزعم
أنك أشعر العرب وتزعمه مضر وقد قال شاعرنا حسان بن ثابت شعرا فأردت أن أعرضه عليك
وأؤجلك سنة فإن قلت مثله فأنت أشعر العرب كما قيل وإلا فأنت منتحل كذاب ثم أنشده ( ألم
تسألِ الرّبع الجديدَ التكلُّما ... ) حتى
بلغ إلى قوله ( وأبقى
لنا مَرُّ الحروب ورزؤُها ... سيوفاً وأدراعاً وجمًّا عرمرما ) ( متى
ما تُرِدْنا من مَعَدٍّ عِصابةٌ ... وغسانَ نمنعْ حوضنا أن يُهدَّما ) ( لنا
حاضر فعْمٌ وبادٍ كأنه ... شماريخُ رَضْوَى عِزةً وتكرُّما ) ( أبى
فِعلُنَا المعروفَ أن ننطق الخنا ... وقائلُنا بالعُرف إلا تَكلُّما ) ( بكل
فتىً عاري الأشاجع لاحَه ... قِراعُ الكماة يرشح المِسكَ والدّما ) ( ولدنا
بني العنقاء وابنَيْ محرِّقٍ ... فأكرم بذا خالاً وأكرم بذا ابْنما ) ( يُسَوِّدُ
ذا المالِ القليل إذا بدت ... مروءتُه فينا وإن كان مُعدِما ) ( وإنا
لنَقْرِي الضيفَ إن جاء طارقاً ... من الشحم ما أمسى صحيحا مُسلَّما ) ( لنا
الجَفَناتُ الغُرُّ يلمَعنَ بالضّحى ... وأسيافُنا يقطُرن من نجدةٍ دَمَا ) فأنشده
القصيدة وهي نيف وثلاثون بيتا وقال له قد أجلتك في جوابها حولا فانصرف الفرزدق
مغضبا يسحب رداءه وما يدري أية طرقه حتى خرج من المسجد فأقبل على كثير فقال له قاتل
الله الأنصار ما أفصح لهجتهم وأوضح حجتهم وأجود شعرهم فلم نزل في حديث الأنصار
والفرزدق بقية يومنا حتى إذا كان من الغد خرجت من منزلي إلى المسجد الذي كنت فيه
بالأمس فأتى كثير فجلس معي وأنا لنتذاكر الفرزدق ونقول ليت شعري ما صنع إذ طلع
علينا في حلة أفواف قد أرخى غديرته حتى جلس في مجلسه بالأمس ثم قال ما فعل
الأنصاري فنلنا منه وشتمناه فقال قاتله الله ما منيت بمثله ولا سمعت بمثل شعره
فارقته وأتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في كل فن من الشعر فكأني مفحم لم أقل شعرا
قط حتى إذا نادى المنادي بالفجر رحلت ناقتي وأخذت بزمامها حتى أتيت ريانا وهو جبل بالمدينة
ثم ناديت بأعلى صوتي أخاكم أخاكم يعني شيطانه فجاش صدري كما يجيش المرجل فعقلت
ناقتي وتوسدت ذراعها فما عتمت حتى قلت مائة بيت من الشعر وثلاثة عشر بيتا فبينا هو
ينشد إذ طلع الأنصاري حتى إذا انتهى إلينا سلم علينا ثم قال إني لم آتك لأعجلك عن
الأجل الذي وقته لك ولكني أحببت ألا أراك إلا سألتك أيش صنعت فقال اجلس وأنشده
قوله ( عزفتَ بأعشاشٍ وما كنت تعزفُ ...
وأنكرتَ من حدراءَ ما كنت تعرف ) ( ولجّ
بك الهجرانُ حتى كأنما ... ترى الموت في البيت الذي كنت تألف ) في
رواية ابن حبيب تيلف حتى بلغ إلى قوله ( تَرى
الناسَ ما سِرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقَّفوا ) وأنشدها
الفرزدق حتى بلغ إلى آخرها فقام الأنصاري كئيبا فلما توارى طلع أبوه أبو بكر بن
حزم في مشيخة من الأنصار فسلموا عليه وقالوا يا أبا فراس قد عرفت حالنا ومكاننا من
رسول الله وقد بلغنا أن سفيها من سفهائنا ربما تعرض لك فنسألك بحق الله وحق رسوله
لما حفظت فينا وصية رسول الله ووهبتنا له ولم تفضحنا قال محمد بن إبراهيم فأقبلت
عليه أكلمه فلما أكثرنا عليه قال اذهبوا فقد وهبتكم لهذا القرشي قال سليمان بن عبد
الملك للفزردق أنشدني أجود شعر عملته فأنشده ( عزفتَ
بأَعشاش وما كدت تعزف ... ) فقال
زدني فأنشده ( ثلاثٌ
واثنتان فتلك خمس ... وواحدة تميل إلى الشِّمام ) ( فبِتْنَ
بجانبيّ مصرَّعاتٍ ... وبتُّ أفضُّ أغلاق الخِتَامِ ) فقال
له سليمان ما أراك إلا قد أحللت نفسك للعقوبة أقررت بالزنى عندي وأنا إمام ولا
تريد مني إقامة الحد عليك فقال إن أخذت في بقول الله عز و جل لم تفعل قال وما قال
قال قال الله تبارك وتعالى ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد
يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) سليمان
وقال تلافيتها ودرأت عنك الحد وخلع عليه وأجازه يجتمع هو وجرير بالشام أخبرنا عبد
الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال قدم الفرزدق الشام وبها جرير
بن الخطفي فقال له جرير ما ظننتك تقدم بلدا أنا فيه فقال له الفرزدق إني طالما
أخلفت ظن العاجز أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى بن طلحة قال قال
أبو مخنف كان الفرزدق لعنة أي يتلعن به كأنه لعنة على قوم وكان جرير شهابا من شهب النار
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا الأزدي قال حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال
قال أبو عمرو بن العلاء مر الفرزدق بمحمد بن وكيع بن أبي سود وهو على ناقة فقال له
غدني قال ما يحضرني غداء قال فاسقني سويقا قال ما هو عندي قال فاسقني نبيذا قال أو
صاحب نبيذ عهدتني قال فما يقعدك في الظل قال فما أصنع قال أطل وجهك بدبس ثم تحول
إلى الشمس واقعد فيها حتى يشبه لونك لون أبيك الذي تزعمه قال أبو عمرو فما زال ولد
محمد يسبون بذلك من قول الفرزدق انتهى أخبرنا عبد الله بن مالك عن ابن حبيب عن
موسى بن طلحة عن أبي عبيدة عن أبي العلاء قال أخبرني هاشم بن القاسم العنزي أنه
قال جمعني والفرزدق مجلس فتجاهلت عليه فقلت له من أنت قال أما تعرفني قلت لا قال
فأنا أبو فراس قلت ومن أبو فراس قال أنا الفرزدق قلت ومن الفرزدق قال أو ما تعرف
الفرزدق قلت أعرف الفرزدق أنه شيء يتخذه النساء عندنا يتسمن به وهو الفتوت فضحك
وقال الحمد لله الذي جعلني في بطون نسائكم أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن
حبيب عن النضر بن حديد قال مر الفرزدق بماء لبني كليب مجتازا فأخذوه وكان جبانا
فقالوا والله لتلقين منا ما تكره أو لتنكحن هذه الأتان وأتوه بأتان فقال ويلكم
اتقوا الله فإنه شيء ما فعلته قط فقالوا إنه لا ينجيك والله إلا الفعل قال أما إذا
أبيتم فأتوني بالصخرة التي يقوم عليها عطية فضحكوا وقالوا اذهب لا صحبك الله فتى
اسود يستخف به أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن العتبي قال دخل الفرزدق
على قوم يشربون عند رجل بالبصرة وفي صدر مجلسهم فتى أسود وعلى رأسه إكليل فلم يحفل
بالفرزدق ولم يحف به تهاونا فغضب الفرزدق من ذلك وقال ( جلوسُك
في صدر الفراش مَذَلَّةٌ ... ورأسك في الإكليل إحدى الكبائر ) ( وما
نَطَفَتْ كأسٌ ولا لذَّ طعمُها ... ضربْتُ على حافاتها بالمشافِر ) أخبرني
عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن العتبي قال لما مات وكيع بن أبي سود أقبل
الفرزدق حين أخرج وعليه قميص أسود وقد شقه إلى سرته وهو يقول ( فمات
ولم يوتر وما من قبيلة ... من الناس إلا قد أباءت على وتر ) ( وإنّ
الذي لاقى وكيعاً وناله ... تناول صِدّيق النبيّ أبا بكر ) قال
فعلق الناس الشعر فجعلوا ينشدونه حتى دفن وتركوا الاستغفار له ميميته المشهورة في
مدح زين العابدين أخبرنا عبد الله بن علي بن الحسن الهاشمي عن حيان بن علي العنزي
عن مجالد عن الشعبي قال حج الفرزدق بعد ما كبر وقد أتت له سبعون سنة وكان هشام بن
عبد الملك قد حج في ذلك العام فرأى علي بن الحسين في غمار الناس في الطواف فقال من
هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآه صينية تتراءى فيها عذارى الحي وجوهها فقالوا
هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم فقال الفرزدق ( هذا
الذي تَعرِف البطحاءُ وطأَتَه ... والبَيْتُ يَعْرِفُه والحِلُّ والحرمُ ) ( هذا
ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهم ... هذا التقيُّ النقيُّ الطاهرُ العَلَمُ ) ( هذا
ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهلهُ ... بجدِّه أنبياءُ الله قد خُتِمُوا ) ( وليس
قولُك مَن هذا بضائرِه ... العُرْبُ تعرِف مَنْ أنكرتَ والعجم ) ( إذا
رأته قريشٌ قال قائلها ... إلى مكارمِ هذا ينتهي الكرمُ ) ( يُغْضِي
حياءً ويُغْضى من مهابته ... فما يُكَلَّمُ إلا حين يَيْتَسِمُ ) ( بكَفّه
خيزُرانٌ رِيحُها عَبِقٌ ... من كفّ أروعَ في عِرْنينه شمم ) ( يكاد
يُمسكه عِرْفانَ راحته ... رُكنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم ) ( الله
شرَّفه قِدْماً وعَظّمه ... جَرَى بذاك له في لوحِه القلم ) ( أيُّ
الخلائق ليست في رقابهم ... لأَوَّلِيَّه هذا أولَهُ نِعَمُ ) ( مَنْ
يشكرِ الله يشكرْ أَوّليَّة ذا ... فالدِّين من بيت هذا ناله الأمم ) ( يَنْمِي
إلى ذِروة الدين التي قَصُرت ... عنها الأكفُّ وعن إدراكها القَدَمُ ) ( مَنْ
جَدُّه دان فَضْلُ الأنبياء له ... وفَضْلُ أمَّته دانت له الأمم ) ( مُشتقَّةٌ
من رسول الله نَبعتُه ... طابت مغارسُه والخِيمُ والشِّيَمُ ) ( ينشقُّ
ثَوبُ الدُّجى عن نُور غُرَّته ... كالشمس تنجابُ عن إشراقها الظُلم ) ( مِنْ
معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهمُ ... كُفْرٌ وقُرْبُهُم مَنْجىً ومُعْتَصِمُ ) ( مُقَدَّمٌ
بعد ذكر الله ذِكرُهُم ... في كلِّ بدْء ومختومٌ به الكَلِم ) ( إن
عُدَّ أهلُ التُّقى كانوا أئمتَهم ... أو قيل مَنْ خيرُ أهل الأرض قيلَ همُ ) ( لا
يستطيع جوادٌ كنهَ جودهمُ ... ولا يدانيهمُ قومٌ وإن كرموا ) ( يُسْتَدْفَع
الشّرُّ والبلوى بحبِّهمُ ... ويستربُّ به الإِحْسانُ والنِّعَمُ ) وقد
حدثني بهذا الخبر أحمد بن الجعد قال حدثنا أحمد بن القاسم البرتي قال حدثنا إسحاق
بن محمد النخعي فذكر أن هشاما حج في حياة أبيه فرأى علي بن الحسين رضي الله تعالى
عنهم يطوف بالبيت والناس يفرجون له فقال من هذا فقال الأبرش الكلبي ما أعرفه فقال
الفرزدق ولكني أعرفه فقال من هو فقال ( هذا
الذي تعرِف البطحاء وطأته ... ) وذكر
الأبيات . . . الخ قال فغضب هشام فحبسه بين مكة والمدينة فقال ( أتَحبِسني
بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يَهْوى مُنِيبُها ) ( يقلِّبُ
رأساً لم يكن رأس سيِّد ... وعيناً له حولاء بادٍ عيوبُها ) فبلغ
شعره هشاما فوجه فأطلقه يعجب بشعر لحائك أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى
عن الهيثم بن عدي قال أخبرنا أبو روح الراسبي قال لما ولي خالد بن عبد الله العراق
ولى مالك بن المنذر شرطة البصرة فقال الفرزدق ( يُبَغِّض
فينا شرطةَ المصر أنني ... رأيتُ عليها مالكاً عَقِبَ الكلبِ ) قال
فقال مالك علي به فمضوا به إليه فقال ( أقول
لنفسي إذ تَغَصُّ بريقها ... ألا ليت شعري ما لها عند مَالِكِ ) قال
فسمع قوله حائك يطلع من طرازه فقال ( لها
عنده أن يَرجعَ اللهُ ريقها ... إليها وتنجُو من عظيم المهالك ) فقال
الفرزدق هذا أشعر الناس وليعودن مجنونا يصيح الصبيان في أثره فقال فرأوه بعد ذلك
مجنونا يصيح الصبيان في أثره أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن علي بن
سعيد قال حدثنا القحذمي قال فلما أتوا مالك بن المنذر بالفرزدق قال هيه عقب الكلب
قال ليس هذا هكذا قلت وإنما قلت ( ألم
ترني ناديتُ بالصوت مالكاً ... ليسمع لما غصَّ من ريقه الفمُ ) ( أعوذ
بقبرٍ فيه أكفانُ مُنْذرٍ ... فهن لأيدي المستجيرين مَحْرَم ) قال
قد عذت بمعاذ وخلى سبيله خالد القسري يأمر مالك بن المنذر بطلب الفرزدق أخبرنا عبد
الله قال حدثني محمد بن موسى قال كتب خالد القسري إلى مالك بن المنذر يأمره بطلب
الفرزدق ويذكر أنه بلغه أنه هجاه وهجا نهره المبارك وهو النهر الذي بواسط الذي كان
حفره فاشتد مالك في طلبه حتى ظفر به في البراجم فأخذه وحبسه ومروا به على بني
مجاشع فقال يا قوم اشهدوا أنه لا خاتم بيدي وذلك أنه أخذ عمر بن يزيد بن أسيد ثم
أمر به فلويت عنقه ثم أخرجوه ليلا إلى السجن فجعل رأسه يتقلب والأعوان يقولون له
قوم رأسك فلما أتوا به السجان قال لا أتسلمه منكم ميتا فأخذوا المفاتيح منه
وأدخلوه الحبس وأصبح ميتا فسمعوا أنه مص خاتمه وكان فيه سم فمات وتكلم الناس في
أمره فدخل لبطة بن الفرزدق على ابيه فقال يا نبي هل كان من خبر قال نعم عمر بن
يزيد مص خاتمه في الحبس وكان فيه سم فمات فقال الفرزدق والله يا بني لئن لم تلحق
بواسط ليمص أبوك خاتمه وقال في ذلك ( ألم
يَكُ قَتْلُ عبد الله ظُلما ... أبا حفص من الحُرَم العظامِ ) ( قتيلُ
عداوةٍ لم يجنِ ذنباً ... يُقطّعُ وهو يهتف للإِمامِ ) قال
وكان عمر عارض خالدا وهو يصف لهشام طاعة أهل اليمن وحسن موالاتهم ونصيحتهم فصفق
عمرو بن يزيد إحدى يديه على الأخرى حتى سمع له في الإيوان دوي ثم قال كذب والله يا
أمير المؤمنين ما أطاعت اليمانية ولا نصحت أليس هم أعداؤك وأصحاب يزيد بن المهلب
وابن الأشعث والله ما ينعق ناعق إلا أسرعوا الوثبة إليه فاحذرهم يا أمير المؤمنين
قال فتبين ذلك في وجه هشام ووثب رجل من بني أمية فقال لعمرو بن يزيد وصل الله رحمك
وأحسن جزاءك فلقد شددت من أنفس قومك وانتهزت الفرصة في وقتها ولكن أحسب هذا الرجل
سيلي العراق وهو منكر حسود وليس يخار لك إن ولي فلم يرتدع عمر بقوله وظن أنه لا
يقدم عليه فلما ولي لم تكن له همة غيره حتى قتله قال شفاعة جرير له ثم إن مالكا
وجه الفرزدق إلى خالد فلما قدم عليه وجده قد حج واستخلف أخاه أسد بن عبد الله على
العراق فحبسه أسد ووافق عنده جريرا فوثب يشفع له وقال إن رأى الأمير أن يهبه لي
فقال أسد أتشفع له يا جرير فقال إن ذلك أذل له أصلحك الله وكلم أسد ابنه المنذر
فخلى سبيله فقال الفرزدق في ذلك ( لا
فضلَ إلا فضلُ أمٍّ على ابنها ... كفضل أبي الأشبال عند الفرزدق ) ( تداركني
من هُوَّةٍ دون قعرِها ... ثمانون باعاً للطُّوال العَشَنَّقِ ) وقال
جرير يذكر شفاعته له ( وهل
لك في عان وليس بشاكرٍ ... فتطلقَ عنه عضَّ مَسِّ الحدائدِ ) ( يعودُ
وكان الخُبْثُ منه سجيّةً ... وإن قال إني مُنْتَهٍ غَيْرُ عائد ) هجاؤه
بني فقيم أخبرني عبيد الله عن محمد بن موسى عن القحذمي قال كان سبب هرب الفرزدق من
زياد وهو على العراق أنه كان هجا بني فقيم فقال فيهم أبياتا منها ( وآب
الوفدُ وفدُ بني فُقَيْمٍ ... بأخبث ما تؤوب به الوفودُ ) ( أَتَوْنا
بالقرود مُعادليها ... فصار الجَدُّ للجدِّ السعيدُ ) وقال
يهجو زيد بن مسعود الفقيمي والأشهب بن رميلة بأبيات منها قوله ( تمنّى
ابنُ مسعودٍ لقائي سفاهةً ... لقد قال مَيْناً يوم ذاك ومنكرا ) ( غناءٌ
قَلِيلٌ عن فُقَيمٍ ونهْشلٍ ... مَقامُ هَجينٍ ساعةً ثم أَدْبرا ) يعني
الأشهب بن رميلة وكان الأشهب خطب إلى بني فقيم فردوه وقالوا له اهج الفرزدق حتى
نزوجك فرجز به الأشهب فقال ( يا
عجبا هل يركبُ القَيْنُ الفرسْ ... وَعَرَقُ القيْنِ على الخيل نَجَسْ ) ( وإنما
سلاحُه إذا جَلَسْ ... الكَلْبَتان والعَلاةُ والقَبَسْ ) يهرب
من زياد فلما بلغ الفرزدق قوله هجاه فأرفث له وألح الفرزدق على النهشليين بالهجاء
فشكوه إلى زياد وكان يزيد بن مسعود ذا منزلة عند زياد فطلبه زياد فهرب فأتى بكر بن
وائل فأجاروه فقال الفرزدق يمدحهم بأبيات ( إني
وإن كانت تميمٌ عِمارتِي ... وكنتُ إلى القُرْمُوسِ منها القُماقمُ ) ( لمُثْنٍ
على أبناء بكرِ بن وائلٍ ... ثناءً يوافي ركبهم في المواسم ) ( همو
يوم ذي قار أناخوا فجالدوا ... برأسٍ به تَدْمَى رؤوسُ الصّلادم ) وهرب
حتى أتى سعيد بن العاصي فأقام بالمدينة يشرب ويدخل إلى القيان وقال ( إذا
شئتُ غَنَّاني من العاج قاصف ... على معصم ريّانَ لم يتخدّدِ ) ( لبيضاءَ
من أهل المدينة لم تعِشْ ... ببؤس ولم تتبعْ حمولة مُجْحَد ) ( وقامت
تخشِّيني زياداً وأجفلت ... حواليَّ في بُرْدٍ يمانٍ ومَجْسَد ) ( فقلتُ
دعيني من زيادٍ فإنّني ... أرى الموت وقَّافاً على كلِّ مَرْصَدِ ) مروان
يتوعده ويؤجله ثلاثا فبلغ شعره مروان فدعاه وتوعده وأجله ثلاثا وقال اخرج عني
فأنشأ يقول الفرزدق ( دعانا
ثم أجلنا ثلاثاً ... كما وُعِدَتْ لمَهْلَكِها ثمودُ ) قال
مروان قولوا له عني إني أجبته فقلت ( قل
للفرزدق والسّفاهةُ كاسْمِها ... إن كنت تاركَ ما أمرتُك فاجلِس ) ( ودعِ
المدينةَ إنها محظورةٌ ... والحَقْ بمكةَ أو ببيتِ المقدِسِ ) قال
وعزم على الشخوص إلى مكة فكتب له مروان إلى بعض عماله ما بين مكة والمدينة بمائتي
دينار فارتاب بكتاب مروان فجاء به إليه وقال ( مروانُ
إنّ مطيتي معقولةٌ ... ترجو الحباءَ وربُّها لم ييأسِ ) ( آتيتني
بصحيفةٍ مختومةٍ ... يُخشَى عليَّ بها حِباءُ النّقرس ) ( ألقِ
الصحيفةَ يا فرزدق لا تكن ... نكراء مثلَ صحيفةِ المُتَلَمِّسِ ) قال
ورمى بها إلى مروان فضحك وقال ويحك إنك أمي لا تقرأ فاذهب بها إلى من يقرؤها ثم
ردها حتى أختمها فذهب بها فلما قرئت إذا فيها جائزة قال فردها إلى مروان فختمها
وأمر له الحسين بن علي عليهما السلام بمائتي دينار قال ولما بلغ جريرا أنه أخرج عن
المدينة قال ( إذا
حلّ المدينةَ فارجُمُوهُ ... ولا تدْنوهُ من جَدَث الرسول ) ( فما
يُحْمَى عليه شرابُ حدٍّ ... ولا وَرْهاءُ غائبةُ الحليل ) فأجابه
الفرزدق فقال ( نعتْ
لنا من الورْهاء نَعْتاً ... قعدتُ به لأمك بالسبيلِ ) ( فلا
تبْغي إذا ما غاب عنها ... عطيةُ غيرَ نَعْتِك من حَليل ) مرضه
وموته أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثنا أبو عكرمة الضبي
عن أبي حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله الأنصاري قال أبو عكرمة وحكي لنا عن
لبطة بن الفرزدق أن أباه أصابته ذات الجنب فكانت سبب وفاته قال ووصف له أن يشرب
النفط الأبيض فجعلناه له في قدح وسقيناه إياه فقال يا بني عجلت لأبيك شراب أهل
النار فقلت له يا ابت قل لا إله إلا الله فجعلت أكررها عليه مرارا فنظر إلي وجعل
يقول ( فَظلَّتْ تعالى باليَفاع كأنها ...
رماح نحاها وِجْهة الرّيح راكز ) فكان
ذا هجيراه حتى مات أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر قال دخل
بلال بن ابي بردة على الفرزدق في مرضه الذي مات فيه وهو يقول ( أروني
مَنْ يقومُ لكم مقامي ... إذا ما الأمر جلَّ عن الخطاب ) البيتين
فقال بلال إلى الله إلى الله أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الأصمعي
قال كان الفرزدق قد دبر عبيدا له وأوصى بعتقهم بعد موته ويدفع شيء من ماله إليهم
فلما احتضر جمع سائر أهل بيته وأنشأ يقول ( أروني
مَنْ يقومُ لكم مقامي ... إذا ما الأمر جلَّ عن الخطاب ) ( إلى
مَن تفزعون إذا حَثَوْتم ... بأيديكم عليَّ من التُّرابِ ) فقال
له بعض عبيده الذين أمر بعتقهم إلى الله فأمر ببيعه قبل وفاته وأبطل وصيته فيه
والله أعلم أخبرني الحسن بن علي عن بشر بن مروان عن الحميدي عن سفيان عن لبطة بن الفرزدق
قال لما احتضر أبو فراس قال أي لبطة أبغني كتابا أكتب فيه وصيتي فأتيته بكتاب فكتب
وصيته ( أروني من يقوم لكم مقامي ... ) البيتين
فقالت مولاة له قد كان أوصى لها بوصية إلى الله عز و جل فقال يا لبطة امحها من
الوصية قال سفيان نعم ما قالت وبئس ام قال أبو فراس وصيته شعرا وقال عوانة قيل للفرزدق
في مرضه الذي مات فيه أوص فقال ( أوصيِّ
تميماً إن قضاعةَ ساقها ... نَدَى الغيث عن دارٍ بدومةَ أَو جدْبِ ) ( فإنكم
الأكفاءُ والغيث دولةٌ ... يكون بشرق من بلاد ومن غَرْب ) ( إذا
انتجعت كلْبٌ عليكم فوسِّعوا ... لها الدارَ في سهل المقَامَة والرَّحب ) ( فأعظمُ
من أَحلام عاد حُلومُهم ... وأَكثرهم عند العديد من التُّرْب ) ( أشدُّ
حبالٍ بعد حَيَّيْن مِرَّةً ... حِبالٌ أُمِرّت من تميم ومن كلب ) قال
وتوفي للفرزدق ابن صغير قبل وفاته بأيام وصلى عليه ثم التفت إلى الناس فقال ( وما
نَحْن إلا مِثلُهم غير أَنَّنا ... أَقَمنا قليلاً بعدهم وَتَقَدَّمُوا ) قال
فلم يلبث إلا أياما حتى مات شعره عند موته وقال المدائني قال لبطة أغمي على أبي
فيكينا ففتح عينيه وقال أعلي تبكون قلنا نعم أفعلى ابن المراغة نبكي فقال ويحكم
أهذا موضع ذكره وقال ( إذا
ما دبَّت الأنقاءُ فوقي ... وصاح صدىً عليَّ مع الظلامِ ) ( فقد
شَمِتَتْ أعاديكم وقالت ... أدانيكم مِنَ أينَ لنا المحامي ) أخبرني
أبو خليفة الفضل بن الحباب إجازة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا أبو العراف قال
نعي الفرزدق لجرير وهو عند المهاجر بن عبد الله باليمامة فقال ( مات
الفرزدقُ بعدما جرَّعتُهُه ... ليْتَ الفزدقَ كان عاش قليلا ) فقال
له المهاجر بئس ما قلت أتهجو ابن عمك بعد ما مات ولو رثيته كان أحسن بك فقال والله
إني لأعلم أن بقائي بعده لقليل وأن نجمي لموافق لنجمه أفلا أرثيه قال أبعد ما قيل
لك ألو كنت بكيته ما نسيتك العرب قال أبو خليفة قال ابن سلام فأنشدني معاوية بن
عمرو قال أنشدني عمارة بن عقيل لجرير يرثي الفرزدق بأبيات منها ( فلا
ولَدَتْ بعد الفرزدق حاملٌ ... ولا ذاتُ بعل من نِفاسٍ تعَلَّتِ ) ( هو
الوافد المأمونُ والرَّاتِقُ الثَّأَى ... إذا النعلُ يوماً بالعشيرة زَلَّتِ ) أخبرني
أحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة بخبر جرير لما بلغه وفاة الفرزدق وهو عند المهاجر
فذكر نحوا مما ذكره ابن سلام وزاد فيه قال ثم قام وبكى وندم وقال ما تقارب رجلان
في أمر قط فمات أحدهما إلا أوشك صاحبه أن يتبعه الاختلاف في سنة وفاته قال أبو زيد
مات الحسن وابن سيرين والفرزدق وجرير في سنة عشر ومائة فقبر الفرزدق بالبصرة وقبر
جرير وايوب السختياني ومالك بن دينار باليمامة في موضع واحد وهذا غلط من أبي زيد
عمر بن شبة لأن الفرزدق مات بعد يوم كاظمة وكان ذلك في سنة اثنتي عشرة ومائة وقد
قال فيه الفرزدق شعرا وذكره في مواضع من قصائده ويقوي ذلك ما أخبرنا به وكيع قال حدثنا
عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني ابن النطاح عن المدائني عن أبي اليقظان
وأبي همام المجاشعي أن الفرزدق مات سنة أربع عشرة ومائة قال أبو عبيدة جرير يرثي
نفسه ويرثيه حدثني أبو أيوب بن كسيب من آل الخطفي وأمه ابنة جرير بن عطية قال بينا
جرير في مجلس بفناء داره بحجر إذ راكب قد أقبل فقال له جرير من أين وضح الراكب قال
من البصرة فسأل عن الخبر فأخبره بموت الفرزدق فقال ( مات
الفرزدقُ بعد ما جرّعتُه ... ليْتَ الفزدقَ كان عاش قليلا ) ثم
سكت ساعة فظنناه يقول شعرا فدمعت عيناه فقال القوم سبحان الله أتبكي على الفرزدق
فقال والله ما أبكي إلا على نفسي أما والله إن بقائي خلافه لقليل إنه قل ما كان
مثلنا رجلان يجتمعان على خير أو شر إلا كان أمد ما بينهما قريبا ثم أنشأ يقول ( فُجِعنا
بحمَّالِ الدِّيات ابنِ غالبٍ ... وحامي تميمٍ كلِّها والبَراجِم ) ( بكيناكَ
حِدْثَانَ الفِراق وإِنَّما ... بكَيناك شجْواً للأمور العظائم ) ( فلا
حَملَت بعدَ ابنِ ليلى مَهيرَةٌ ... ولا شُدَّ أنساعُ المطيِّ الرَّواسِمِ ) وقال
البلاذري حدثنا أبو عدنان عن أبي اليقظان قال أسن الفرزدق حتى قارب المائة فأصابته
الدبيلة وهو بالبادية فقدم إلى البصرة فأتي برجل من بني قيس متطبب فأشار بأن يكوى
ويشرب النفط فقال أتعجلون لي طعام أهل النار في الدنيا وجعل يقول ( أروني
مَنْ يقومُ لكم مقامي ... إذا ما الأمر جلَّ عن الخطابِ ) أبو
ليلى المجاشعي يرثيه وقال أبو ليلى المجاشعي يرثي الفرزدق ( لعمري
لقد أشجى تميماً وهَدَّها ... على نكباتِ الدهر موتُ الفرزدق ) ( عشيَّةَ
قُدْنَا للفرزدق نعشَه ... الى جَدَثٍ في هُوّة الأرض مُعْمَق ) ( لقد
غيّبوا في اللَّحد مَنْ كان ينتمي ... الى كل بدر في السماء مُحَلِّقِِ ) ( ثَوَى
حاملُ الأثقال عن كل مُثقلِ ... ودفَّاعُ سلطانِ الغشوم السَّمَلَّقِ ) ( لسانُ
تميمٍ كلِّها وعِمَادُها ... وناطقُها المعروف عند المُخَنَّق ) ( فمن
لتميمٍ بعد موت ابن غالبٍ ... إذا حلَّ يومٌ مظلمٌ غَيرُ مُشرِق ) ( لتبكِ
النِّساءُ المعْوِلاتُ ابنَ غالبٍ ... لجانٍ وعانٍ في السلاسل مُوثق ) وقال
ابن زكريا الغلابي عن ابن عائشة قال مات الفرزدق وجرير في سنة عشرة ومائة ومات
جرير بعده بستة أشهر ومات في هذه السنة الحسن البصري وابن سيرين قال فقالت امرأة
من اهل البصرة كيف يفلح بلد مات فقيهاه وشاعراه في سنة ونسبت جريرا إلى البصرة
لكثرة قدومه إليها من اليمامة وقبر جرير باليمامة وبها مات وقبر الأعشى أيضا
باليمامة أعشى بني قيس بن ثعلبة وقبر الفرزدق بالبصرة في مقابر بني تميم وقال جرير
لما بلغه موت الفرزدق قلما تصاول فحلان فمات أحدهما إلا أسرع لحاق الآخر به وثاهما
جماعة فمنهم أبو ليلى الأبيض من بني الأبيض بن مجاشع فقال فيهما ( لعمري
لئنْ قَرْما تَميمٍ تتابعا ... مُجيبِيْن للدّاعي الذي قد دَعَاهُما ) ( لرُبّ
عَدُوٍّ فرّق الدهرُ بينه ... وَبيْنهما لم تُشْوِه ضَغمْتَاهما ) أخبرني
ابن عمار عن يعقوب بن إسرائيل عن قعنب بن المحرز الباهلي عن الأصمعي عن جرير يعني
أبا حازم قال رئي الفرزدق وجرير في النوم فرثي الفرزدق بخير وجرير معلق قال قعنب
وأخبرني الأصمعي عن روح الطائي قال رئي الفرزدق في النوم فذكر أنه غفر له بتكبيرة
كبرها في المقبرة عند قبر غالب قال قعنب وأخبرني أبو عبيدة النحوي وكيسان بن
المعروف النحوي عن لبطة بن الفرزدق قال رأيت أبي فيما يرى النائم فقلت له ما فعل
الله بك قال نفعتني الكلمة التي نازعنيها الحسن على القبر هو والحسن البصري في
جنازة النوار أخبرني وكيع عن محمد بن إسماعيل الحساني عن علي بن عاصم عن سفيان بن
الحسن وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام والرواية قريب بعضها من بعض أن النوار
لما حضرها الموت أوصت الفرزدق وهو ابن عمها أن يصلي عليها الحسن البصري فأخبره
الفرزدق فقال إذا فرغتم منها فأعلمني وأخرجت وجاءها الحسن وسبقهما الناس
فانتظروهما فأقبلا والناس ينتظرون فقال الحسن ما للناس فقال ينتظرون خير الناس وشر
الناس فقال إني لست بخيرهم ولست بشرهم وقال له الحسن على قبرها ما أعددت لهذا
المضطجع فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة هذا لفظ محمد بن سلام وقال
وكيع في خبره فتشاغل الفرزدق بدفنها وجلس الحسن يعظ الناس فلما فرغ الفرزدق وقف
على حلقة الحسن وقال ( لقد
خاب من أولاد آدمَ مَنْ مَشَى ... إلى النار مغلولَ القِلادةِ أزرقا ) ( أخاف
وراءَ القبر إن لم يُعافِني ... أشدَّ من القبر التهاباً وأضيقا ) ( إذا
جاءني يومَ القيامة قائدٌ ... عَنِيفٌ وسَوَّاقٌ يَقُود الفرزدقا ) أخبرنا
أحمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا حيان بن هلال قال حدثنا خالد بن الحر قال رأيت
الحسن في جنازة أبي رجاء العطاردي فقال للفرزدق ما أعددت لهذا اليوم فقال شهادة أن
لا إله إلا الله منذ بضع وتسعين سنة قال إذا تنجو إن صدقت قال وقال الفرزدق في هذه
الجنازة خير الناس وشر الناس فقال الحسن لست بخير الناس ولست بشرهم يذكر ذنوبه
ويبكي أخبرنا ابن عمار عن أحمد بن إسرائيل عن عبيد الله بن محمد القرشي بطوس قال حدثني
يزيد بن هاشم العبدي قال حدثنا أبي قال حدثنا فضيل الرقاشي قال خرجت في ليلة باردة
فدخلت المسجد فسمعت نشيجا وبكاء كثيرا فلم أعلم من صاحب ذلك إلى أن أسفر الصبح
فإذا الفرزدق فقلت يا أبا فراس تركت النوار وهي لينة الدثار دفئة الشعار قال إني
والله ذكرت ذنوبي فأقلقتني ففزعت إلى الله عز و جل أخبرني وكيع عن ابي العباس
مسعود بن عمرو بن مسعود الجحدري قال حدثني هلال بن يحيى الرازي قال حدثني شيخ كان
ينزل سكة قريش قال رأيت الفرزدق في النوم فقلت يا أبا فراس ما فعل الله بك قال غفر
لي بإخلاصي يوم الحسن وقال لولا شيبتك لعذبنك بالنار أخبرني هاشم الخزاعي عن دماذ
عن أبي عبيدة عن لبطة بن الفرزدق عن أبيه قال لقيت الحسين بن علي صلوات الله
عليهما وأصحابه بالصفاح وقد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل متقلدين السيوف متنكبين
القسي عليهم يلامق من الديباج فسلمت عليه وقلت أين تريد قال العراق فكيف تركت
الناس قال تركت الناس قلوبهم معك وسيوفهم عليك والدنيا مطلوبة وهي في أيدي بني
أمية والأمر إلى الله عز و جل والقضاء ينزل من السماء بما شاء أخبرني حبيب بن نصر
المهلبي وأحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة قال حدثني هارون بن عمر عن ضمرة بن شوذب
قال قيل لأبي هريرة هذا الفرزدق قال هذا الذي يقذف المحصنات ثم قال له إني أرى عظمك
رقيقا وعرقك دقيقا ولا طاقة لك بالنار فتب فإن التوبة مقبولة من ابن آدم حتى يطير
غرابه أخبرني هاشم بن محمد عن الرياشي عن المنهال بن بحر بن أبي سلمة عن صالح المري
عن حبيب بن أبي محمد قال رأيت الفرزدق بالشام فقال قال لي أبو هريرة إنه سيأتيك
قوم يوئسونك من رحمة الله فلا تيأس موازنة بينه وبين جرير والأخطل قال أبو الفرج
والفرزدق مقدم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل ومحله في الشعر أكبر من أن
ينبه عليه بقول أو يدل على مكانه بوصف لأن الخاص والعام يعرفانه بالاسم ويعلمان
تقدمه بالخبر الشائع علما يستغنى به عن الإطالة في الوصف وقد تكلم الناس في هذا
قديما وحديثا وتعصبوا واحتجوا بما لا مزيد فيه واختلفوا بعد اجتماعهم على هذه
الطبقة في أيهم أحق بالتقدم على سائرها فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا
بينهما وبين الأخطل لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر ولا له مثل ما لهما من فنونه ولا
تصرف كتصرفهما في سائره وزعموا أن ربيعة أفرطت فيه حتى ألحقته بهما وهم في ذلك
طبقتان أما من كان يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدة أسره فيقدم الفرزدق وأما من
كان يميل إلى أشعار المطبوعين وإلى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريرا أخبرنا
أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال سمعت يونس بن حبيب يقول ما شهدت مشهدا قط
ذكر فيه الفرزدق وجرير فاجتمع أهل ذلك المجلس على أحدهما قال ابن سلام وكان يونس
يقدم الفرزدق تقدمة بغير إفراط وكان المفضل يقدمه تقدمة شديدة قال ابن سلام وقال
ابن دأب وسئل عنهما فقال الفرزدق أشعر خاصة وجرير أشعر عامة أخبرني الجوهري وحبيب
المهلبي عن ابن شبة عن العلاء بن الفضل قال قال لي أبو البيداء يا أبا الهذيل
أيهما أشعر أجرير أم الفرزدق قال قلت ذاك إليك ثم قال ألم تسمعه يقول ( ما
حُمِّلت ناقةٌ من معشرٍ رجلاً ... مثلي إذا الريح لفّتني على الكُورِ ) ( إلا
قريشاً فإن الله فضّلها ... مع النبوّة بالإِسلام والخِيرِ ) ويقول
جرير ( لا تحسبَنَّ مِرَاسَ الحرب إذ
لَقِحَتْ ... شُرْبَ الكسِيس وأكلَ الخبز بالصِّير ) سلح
والله أبو حزرة أخبرني هاشم الخزاعي عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة قال سمعت
يونس يقول لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة العرب أخبرني هاشم الخزاعي عن أبي غسان
عن أبي عبيدة قال قال يونس أبو البيداء قال الفرزدق كنت أهاجي شعراء قومي وأنا
غلام في خلافة عثمان بن عفان فكان قومي يخشون معرة لساني منذ يومئذ ووفد بي أبي
إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عام الجمل فقال له إن ابني هذا يقول الشعر
فقال علمه القرآن فهو خير له يمضي خمسا وسبعين سنة يباري الشعراء ويهجو الأشراف
قال أبو عبيدة ومات الفرزدق في سنة عشر ومائة وقد نيف على التسعين سنة كان منها
خمسة وسبعين سنة يباري الشعراء ويهجو الأشراف فيغضهم ما ثبت له أحد منهم قط إلا
جريرا أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد
بن معاوية الأسدي قال حدثنا ابن الرازي عن خالد بن كلثوم قال قيل للفرزدق مالك
وللشعر فوالله ما كان أبوك غالب شاعرا ولا كان صعصعة شاعرا فمن أين لك هذا قال من
قبل خالي قيل أي أخوالك قال خالي العلاء بن قرظة الذي يقول ( إذا
ما الدهر جرّ على أُناسٍ ... بكلكله أناخ بآخرينا ) ( فقل
للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا ) يرد
على قوم من بني ضبة أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي عن
حماد الراوية وأخبرني هاشم الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال دخل قوم من
بني ضبة على الفرزدق فقالوا له قبحك الله من ابن أخت قد عرضتنا لهذا الكلب السفيه
يعنون جريرا حتى يشتم أعراضنا ويذكر نساءنا فغضب الفرزدق وقال بل قبحكم الله من
أخوال فوالله لقد شرفكم من فخري أكثر مما غضكم من هجاء جرير أفأنا ويلكم عرضتكم
لسويد بن أبي كاهل حيث يقول ( لقد
زَرِقتْ عيناك يابن مُكَعْبَرٍ ... كما كلُّ ضَبِّيٍّ من اللؤم أزرقُ ) ( ترى
اللؤمَ فيهم لائحاً في وجوههم ... كما لاح في خيل الحلائب أبلق ) أو
أنا عرضتكم للأغلب العجلي حيث يقول ( لن
تجد الضَّبِّيَّ إلاّ فَلاّ ... عبداً إِذانا ولقومٍ ذَلاَّ ) ( مثل
قَفا المُدية أو أَكَلاَّ ... حتى يكون الأَلأَمَ الأقلاَّ ) أو
أنا عرضتكم له حيث يقول ( إذا
رأَيتَ رجلاً من ضبَّهْ ... فنكه عمداً في سَوَاء السَّبَّهْ ) ( إنَّ
اليَمانِيَّ عِقَاصُ الزّبًّهْ ... ) أو
أنا عرضتكم لمالك بن نويرة حيث يقول ( ولو
يُذبَح الضَّبِّيُّ بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضّبّيّ لحماً ولا دما ) والله
لما ذكرت من شرفكم وأظهرت من أيامكم أكثر ألست القائل ( وأنا
ابنُ حنظلةَ الأغرُّ وإنني ... في آل ضبَّة للمُعِمُّ المُخْوِلُ ) ( فرعان
قد بلغ السّماءَ ذُرَاهما ... وإليهما من كل خوف يُعْقَلُ ) بنو
حرام يخشون معرة لسانه أخبرنا أبو خليفة عن ابن سلام عن أبي بكر محمد بن واسع وعبد
القاهر قالا كان فتى في بني حرام بن سماك شويعر قد هجا الفرزدق فأخذناه فأتينا به الفرزدق
وقلنا هو بين يديك فإن شئت فاضرب وإن شئت فاحلق لا عدوى عليك ولا قصاص فخلى عنه
وقال ( فمن يكُ خائفاً لأذاة قولِي ...
فقد أَمِنَ الهِجاءَ بنو حَرامِ ) ( همُ
قادوا سفيهَهُمُ وخافوا ... قلائدَ مثلَ أطواق الحمَامِ ) أخبرنا
أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني الحكم بن محمد قال كان رجل من قضاعة ثم من
بني القين على السند وفي حبسه رجل يقال له حبيش - أو خنيس - وطالت
غيبته عن أهله فأتت أمه قبر غالب بكاظمة فأقامت عليه حتى علم الفرزدق بمكانها ثم
إنها أتت فطلبت إليه في أمر ابنها فكتب إلى تميم القضاعي ( هَب
لي خُنَيْساً واتّخذْ فيه منّةً ... لُغصَّة أُمٍّ ما يَسوغ شرابُها ) ( أَتَتْني
فعاذت يا تميمُ بغالبٍ ... وبالحفرة السَّافي عليه ترابها ) ( تميمُ
بنَ زيد لا تكونَنَّ حاجتي ... بظهرٍ فلا يخفَى عليَّ جوابُها ) فلما
أتاه الكتاب لم يدر أخنيس أم حبيش فأطلقهما جميعا أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد
بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال ضرب مكاتب لبني منقر خيما على قبر غالب فقدم
الناس على الفرزدق فأخبروه أنهم رأوا بناء على قبر غالب أبيه ثم قدم عليه وهو
بالمربد فقال ( بقبرِ
ابن ليلى غالبٍ عُذْتُ بعدما ... خشيتُ الرَّدَى أَو أَن أُردَّ على قسرِ ) ( فخاطبني
قبرُ ابن ليلى وقال لي ... فَكَاكُك أن تَلْقَى الفرزدقَ بالمِصْر ) فقال
له الفرزدق صدق أبي أنخ أنخ ثم طاف في الناس حتى جمع كتابته وفضلا يناقض نفسه في
شعره أخبرني ابن خلف وكيع عن هارون بن الزيات عن أحمد بن حماد ابن الجميل قال
حدثنا القحذمي عن ابن عياش قال لقيت الفرزدق فقلت له يا أبا فراس أنت الذي تقول ( فليتَ
الأكفَّ الدافناتِ ابنَ يوسفٍ ... يُقطَّعْن إذ غيَّبْن تحت السقائفِ ) فقال
نعم أنا فقلت له ثم قلت بعد ذلك له ( لئن
نفرُ الحجّاج آلُ مُعَتِّبٍ ... لَقُوادوْلةً كان العدوُّ يُدالُها ) ( لقد
أصبح الأحياءُ منهم اذلةً ... وفي الناس موتاهم كلوحاً سِبالُها ) قال
فقال الفرزدق نعم نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه فإذا تخلى منه انقلبنا عليه
أخبرنا هاشم بن محمد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن بعض أشياخه قال شهد
الفرزدق عند إياس بن معاوية فقال أجزنا شهادة الفرزدق أبي فراس وزيدونا شهودا فقام
الفرزدق فرحا فقيل له أما والله ما أجاز شهادتك قال بلى قد سمعته يقول قد قبلنا
شهادة أبي فراس قالوا أفما سمعته يستزيد شاهدا آخر فقال وما يمنعه ألا يقبل شهادتي
وقد قذفت ألف محصنة أخبرنا ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة عن يونس قال كان
عطية بن جعال الغداني صديقا ونديما للفرزدق فبلغ الفرزدق أن رجلا من بني غدانة
هجاه وعاون جريرا عليه وأنه أراد أن يهجو بني غدانة فأتاه عطية بن جعال فسأله أن
يصفح له عن قومه ويهب له أعراضهم ففعل ثم قال ( أبني
غُدانة إنني حَرّرتكم ... فوهبتكم لعطيةَ بنِ جُعال ) ( لولا
عطيةُ لاجتَدعْتُ أنوفكم ... من بين ألأم أعين وسبال ) فبلغ
ذلك عطية فقال ما أسرع ما ارتجع أخي هبته قبحها الله من هبة ممنونة مرتجعة خبر آخر
عن المجنون الذي أراده أخبرني وكيع عن هارون بن محمد قال حدثني قبيصة بن معاوية المهلبي
عن المدائني عن محمد بن النضر أن الفرزدق مر بباب المفضل بن المهلب فأرسل إليه
غلمة فاحتملوه حتى أدخل إليه بواسط وقد خرج من تيار ماء كان فيه فأمر به فألقي فيه
بثيابه وعنده ابن أبي علقمة اليحمدي المجنون فسعى إلى الفرزدق فقال له المفضل ما
تريد قال أريد أن أنيكه وأفضحه فوالله لا يهجو بعدها أحدا من الأزد فصاح الفرزدق الله
الله أيها الأمير في أنا في جوارك وذمتك فمنع عنه ابن أبي علقمة فلما خرج قال قاتل
الله مجنونهم والله لو مس ثوبه ثوبي لقام بها جرير وقعد وفضحني في العرب فلم يبق
لي فيهم باقية وأخبرني بنحو هذا الخبر حبيب المهلبي عن ابن شبة عن محمد بن يحيى عن
عبد الحميد عن أبيه عن جده قال أبو زيد وأخبرني أبو عاصم عن الحسن بن دينار قال
قال لي الفرزدق ما مر بي يوم قط أشد علي من يوم دخلت فيه على أبي عيينة بن المهلب
- وكان يوما شديد الحر - فما منا أحد إلا جلس في أبزن فقلنا له إن أردت أن تنفعنا فابعث
إلى ابن أبي علقمة فقال لا تريدوه فإنه يكدر علينا مجلسنا فقلنا لا بد منه فأرسل
إليه فلما دخل فرآني قال الفرزدق والله ووثب إلي وقد أنعظ أيره وجعل يصيح والله
لأنيكنه فقلت لأبي عيينة الله الله في أنا في جوارك فوالله لئن دنا إلي لا تبقى لي
باقية مع جرير فلم يتكلم أبو عيينة ولم تكن لي همة إلا أن عدوت حتى صعدت إلى السطح
فاقتحمت الحائط فقيل له ولا يوم زياد كان مثل يومئذ فقال ولا مثل يوم زياد عمر بن
عبد العزيز يجيزه ثم ينفيه أخبرني عمي عن ابن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن إسحاق بن
مروان مولى جهينة وكان يقال له كوزا الراوية قال أحمد بن عمر وأخبرني عثمان بن
خالد العثماني أن الفرزدق قدم المدينة في سنة مجدبة حصاء فمشى أهل المدينة إلى عمر
بن عبد العزيز فقالوا له أيها الأمير إن الفرزدق قدم مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة
التي أهلكت عامة الأموال التي لأهل المدينة وليس عند أحد منهم ما يعطيه شاعرا فلو
أن الأمير بعث إليه فأرضاه وتقدم إليه ألا يعرض لأحد بمدح ولا هجاء فبعث إليه عمر
إنك يا فرزدق قدمت مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة وليس عند أحد ما يعطيه شاعرا
وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم فخذها ولا تعرض لأحد بمدح ولا هجاء فأخذها الفرزدق
ومر بعبد الله بن عمرو بن عثمان وهو جالس في سقيفة داره وعليه مطرف خز أحمر وجبة
خز أحمر فوقف عليه وقال ( أَعبد
الله أَنت أَحقُّ ماشٍ ... وساعٍ بالجماهير الكبارِ ) ( نما
الفاروقُ أُمَّك وابنُ أَروَى ... أَبوك فأَنت مَنصَدَعُ النّهارِ ) ( هما
قَمَرَا السماء وأَنتَ نجمٌ ... به في الليل يُدْلج كُلُّ سارِ ) فخلع
عليه الجبة والعمامة والمطرف وأمر له بعشرة آلاف درهم فخرج رجل كان حضر عبد الله
والفرزدق عنده ورأى ما أعطاه إياه وسمع ما أمره عمر به من ألا يعرض لأحد فدخل إلى
عمر بن عبد العزيز فأخبره فبعث إليه عمر ألم أتقدم إليك يا فرزدق ألا تعرض لأحد
بمدح ولا هجاء أخرج فقد أجلتك ثلاثا فإن وجدتك بعد ثلاث نكلت بك فخرج وهو يقول ( فأجّلني
وواعدني ثلاثاً ... كما وُعِدَت لمهْلكِها ثَمُودُ ) قال
وقال جرير فيه ( نفَاك
الأغرُّ ابنُ عبد العزيزِ ... ومثلُك يُنفَى من المسجدِ ) ( وَشبَّهْتَ
نفسَكَ أشقى ثَمُودَ ... فقالوا ضلَلتَ ولم تهْتَدِ ) يهجو
ابن عفراء لأنه استكثر عليه الجائزة أخبرني حبيب المهلبي عن ابن أبي سعد عن صباح
عن النوفلي بن خاقان عن يونس النحوي قال مدح الفرزدق عمر بن مسلم الباهلي فأمر له
بثلثمائة درهم وكان عمرو بن عفراء الضبي صديقا لعمر فلامه وقال أتعطي الفرزدق
ثلثمائة درهم وإنما كان يكفيه عشرون درهما فبلغه ذلك فقال ( نهيتُ
ابنَ عِفْرَى أن يعفِّر أمَّهُ ... كعَفْر السَّلا إذ جرّرَتْه ثعَالبُه ) ( وإنّ
امرأً يَغْتابني لم أَطَأ له ... حريماً فلا ينهَاهُ عنِّي أَقاربُه ) ( كمحتطبٍ
يوماً أَساودَ هضْبةٍ ... أَتاه بها في ظلمة الليل حاطبه ) ( ألَمّاَ
استوى ناباي وابيضَّ مِسْحَلي ... وأطرقَ إطراقَ الكرى مَنْ أحاربُه ) ( فلو
كان ضَبيَّاً صفحتُ ولو سرتْ ... على قَدَمِي حيَّاتُه وعقاربه ) ( ولكنْ
دِيافِيٌّ أبوه وأُمّه ... بحَوْرانَ يعصِرْنَ السّليطَ قرائبه ) صوت
( ومقالها بالنَّعف نعف مُحَسَّرٍ ... لفتاتها هل تعرفين المُعْرِضا ) ( ذاك
الذي أعطى مواثقَ عَهدِه ... ألاّ يخونَ وخِلتُ أن لن يَنْقُضا ) ( فلئن
ظفرتُ بمثْلِها من مثلِه ... يوماً ليَعترفَنَّ ما قد أقْرَضا ) الشعر
لخالد القسري والناس ينسبونه إلى عمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض ثقيل أول
بالوسطى عن الهشامي وابن المكي وحبش وقبل أن أذكر أخباره ونسبه فإني أذكر الرواية
في أن هذا الشعر له أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال أخبرني عبد الواحد بن سعيد قال
حدثني أبو بشر محمد بن خالد البجلي قال حدثني أبو الخطاب بن يزيد بن عبد الرحمن
قال سمعت أبي يحدث قال حدثني مسمع بن مالك بن جحوش البجلي قال ركب خالد بن عبد
الله وهو أمير العراق وهو يومئذ بالكوفة إلى ضيعته التي يقال لها المكرخة وهي من
الكوفة على أربعة فراسخ وركبت معه في زورق فقال لي نشدتك الله يابن جحوش هل سمعت
غريض مكة يتغنى ( ومقالها
بالنَّعفِ نعفِ مُحَسَّرٍ ... لفتاتها هل تعرفين المُعْرِضا ) قال
قلت نعم قال الشعر والله لي والغناء لغريض مكة وما وجدت هذا الشعر في شيء من
دواوين عمر بن أبي ربيعة التي رواها المدنيون والمكيون وإنما يوجد في الكتب
المحدثة والإسنادات المنقطعة ثم نرجع الآن إلى ذكره بسم الله الرحمن الرحيم أخبار
خالد بن عبد الله نسبه هو خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز بن عامر بن عبد
الله بن عبد شمس بن غمغمة بن جرير بن شق بن صعب وشق بن صعب هذا هو الكاهن المشهور بن
يشكر بن رهم بن أقزل وهو سعد الصبح بن زيد بن قسر بن عبقر بن أنمار بن إراش بن
عمرو بن لحيان بن الغوث بن القرز ويقال الفرز بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن
سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان فأما غلبة بجيلة على هذا النسب في شهرته بها فإن
بجيلة ليست برجل إنما هي امرأة قد اختلف في نسبها فقال ابن الكلبي يقال لها بجيلة
بنت صعب بن سعد العشيرة تزوجها أنمار بن إراش فولدت له الغوث ووداعة وصهيبة وجذيمة
وأشهل وشهلاء وطريفا والحارث ومالكا وفهما وشيبة قال ابن الكلبي ويقال إن بجيلة
إمرأة حبشية كانت قد حضنت بني أنمار جميعا غير خثعم فإنه انفرد فصار قبيلة على
حدته ولم تحضنه بجيلة واحتج من قال هذا القول بقول شاعرهم ( وما
قَرُبت بجِيلةُ منك دوني ... بشيء غيرِ ما دُعِيت بجيَلةْ ) ( وما
لِلغوثِ عندك أن نُسِبْنَا ... علينا في القرابة من فضيلةْ ) ( ولكَنَّا
وإيَّاكم كثُرنا ... فصِرنا في المحلِّ على جَدِيلةْ ) جديلة
ها هنا موضع لا قبيلة وهم أهل بيت شرف في بجيلة لولا ما يقال في عبد الله بن أسد
فإن أصحاب المثالب ينفونه عن أبيه ويقولون فيه أقوالا أنا ذاكرها في موضعها من
أخبار خالد المذمومة في هذا الموضع من كتابنا إن شاء الله وعلى ما قيل فيه أيضا
فقد كان له ولابنه خالد سؤدد وشرف وجود وكان يقال لكرز كرز الأعنة وإياه عنى قيس
بن الخطيم بقوله لما خرج يطلب النصر على الخزرج ( فإِن
تنْزِلْ بذي النَّجدَاتِ كُرْزٍ ... تُلاقِ لديه شَرْباً غيرَ نَزْرِ ) ( له
سَجْلان سَجْلٌ من صريحٍ ... وسجلُ رثيئةٍ بعتيق خمر ) ( ويمنعُ
مَن أراد ولا يُعايا ... مُقاماً في المحلَة وسطَ قسر ) وكان
أسد بن كرز يدعى في الجاهلية رب بجيلة وكان ممن حرم الخمر في جاهليته تنزها عنها
وله يقول القتال السحمي ( فأَبلِغ
ربَّنا أَسَدَ بن كُرْزٍ ... بأنّ النأيَ لم يك عن تَقالي ) وله
يقول القتال يعتذر ( فأَبلغ
ربَّنا أسدَ بنَ كُرْزٍ ... بأنّي قد ضَلَلْت وما اهتديْتُ ) وله
يقول تأبط شرا ( وجدتُ
ابنَ كُرْز تستهلُّ يمينُه ... ويُطلق أَغلالَ الأسير المكَبَّل ) وكان
قوم من سحمة عرضوا لجار الأسد بن كرز فأطردوا إبلا له فأوقع بهم أسد وقعة عظيمة في
الجاهلية وتتبعهم حتى عاذوا به فقال القتال فيه عدة قصائد يعتذر إليه لقومه
ويستقيله فعلهم بجاره ولم أذكرها ههنا لطولها وأن ذلك ليس من الغرض المطلوب في هذا
الكتاب وإنما نذكرها هنا لمعا وسائره مذكور في جمهرة أنساب العرب الذي جمعت فيه
أنسابها وأخبارها وسميته - كتاب
التعديل والانتضاف - ولبني سحمة يقول أسد بن كرز في هذه القصة وكان شاعرا فاتكا
مغوارا ( ألا أبلِغا أبناءَ سُحْمَةَ
كُلِّها ... بني خثعمٍ عنّي وذَلٌّ لخثعم ) ( فما
أنتُم منّي ولا أنا منكم ... فراش حريقِ العَرْفَجِ المتضرِّم ) ( فلستُ
كمن تُزري المقالةُ عِرضَه ... دنيئاً كعود الدوحةِ المترنِّم ) ( وما
جارُ بيتي بالذليل فَتُرْتَجى ... ظُلامَتُه يوماً ولا المتهضَّم ) ( وَأَقْزَلُ
آبائي وقسرٌ عَمارتي ... هما ردَّياني عِزَّتي وتكرُّمي ) ( وأحمسُ
يوماً إن دعوتُ أجابني ... عرانينُ منهم أهل أيدٍ وأنعم ) ( فمن
جار موْلىً يدفع الضيمَ جارُهُ ... إذا ضاع جاري يا أميمةُ أوْ دمي ) ( وكيف
يخاف الضيمَ من كان جاره ... مع الشمس ما إن يستطاع بسلم ) وهي
قصيدة طويلة ولأسد أشعار كثيرة ذكرت هذه منها ها هنا لأن تعلم إعراقهم في العلم
والشعر وسائرها يذكر في كتاب النسب مع أخبار شعراء القبائل إن شاء الله تعالى جده
وابنه أدركا الإسلام وأدرك أسد بن كرز الإسلام هو وابنه يزيد بن أسد فأسلما فأما
أسد فلا أعلمه روى عن رسول الله وآله رواية كثيرة بل ما روى شيئا وأما يزيد ابنه
فروى عنه رواية يسيرة وذكر جرير بن عبد الله خبر إسلامه حدث بذلك عنه خالد بن يزيد
عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله قال أسلم أسد بن
كرز ومعه رجل من ثقيف فأهدى إلى النبي قوسا فقال له يا أسد من أين لك هذه النبعة
فقال يا رسول الله تنبت بجبلنا بالسراة فقال الثقفي يا رسول الله الجبل لنا أم لهم
فقال بل الجبل جبل قسر به سمي أبوهم قسر عبقر فقال أسد يا رسول الله ادع لي فقال
اللهم اجعل نصرك ونصر دينك في عقب أسد بن كرز وما أدري ما أقول في هذا الحديث
وأكره أن أكذب بما روي عن رسول الله ولكن ظاهر الأمر يوجب أنه لو كان رسول الله
دعا له بهذا الدعاء لم يكن ابنه مع معاوية بصفين على علي أمير المؤمنين علي بن أبي
طالب صلوات الله عليه ولا كان ابن ابنه خالد يلعنه على المنبر ويتجاوز ذلك إلى ما
ساء ذكره من شنيع أخباره قبحه الله ولعنه إلا أني أذكر الشيء كما روي ومن قال على
رسول الله وآله ما لم يقل فقد تبوأ مقعده من النار كما وعده وكان جرير بن عبد الله
نافر قضاعة فبلغ ذلك أسد بن عبد الله وكان بينه وبينه أعني جريرا تباعد فأقبل في
فوارس من قومه ناصرا لجرير ومعاونا له ومنجدا فزعموا أن أسدا لما أقبل في أصحابه
فرآه جرير ورأى أصحابه في السلاح ارتاع وخافه فقيل له هذا أسد جاءك ناصرا لك فقال
جرير ليت لي بكل بلد ابن عم عاقا مثل أسد فقال جعدة بن عبد الله الخزاعي يذكر ذلك
من فعل أسد ( تدارك
رَكْضُ المرء من آل عبقر ... جريراً وقد رانت عليه حلائبُه ) ( فنفَّسَ
واسترخى به العَقْدُ بعد ما ... تغشَّاه يوم لا تَوارى كواكبه ) ( وقاك
ابن كُرْزٍ ذو الفَعَال بنفسه ... وما كنتَ وَصَّالاً له إذ تحاربُهْ ) ( إلى
أسدٍ يأوِي الذليلُ ببيتِه ... ويلجَأ إذ أعيت عليه مذاهبهُ ) ( فتى
لا يزال الدهرُ يحمل مُعْظَماً ... إذا المجتدَى المسؤول ضَنَّت رواجِبُه ) خبر
على لسان جده يزيد وأما يزيد بن أسد فقد ذكرت إسلامه وقدومه مع أبيه على النبي وقد
روى عنه أيضا حديثا ذكره هشيم بن بشر الواسطي عن سنان بن أبي الحكم قال سمعت خالد
بن عبد الله القسري وهو على المنبر يقول حدثني أبي عن جدي يزيد بن أسد قال قال
رسول الله يا يزيد أحبب للناس ما تحبه لنفسك وخرج يزيد بن أسد في أيام عمر بن
الخطاب في بعوث المسلمين إلى الشام فكان بها وكان مطاعا في اليمن عظيم الشأن ولما
كتب عثمان إلى معاوية حين حصر يستنجده بعث معاوية إليه بيزيد بن أسد في أربعة آلاف
من أهل الشام فوجد عثمان قد قتل فانصرف إلى معاوية ولم يحدث شيئا ولما كان يوم
صفين قام في الناس فخطب خطبة مذكورة حرضهم فيها فذكر من روى عنه خبره في ذلك
الموضع أنه قام وعليه عمامة خز سوداء وهو متكئ على قائم سيفه فقال بعد حمد الله
تعالى والصلاة على نبيه وقد كان من قضاء الله جل وعز أن جمعنا وأهل ديننا في هذه
الرقعة من الأرض والله يعلم أني كنت لذلك كارها ولكنهم لم يبلعونا ريقنا ولم
يدعونا نرتاد لديننا وننظر لمعادنا حتى نزلوا في حريمنا وبيضتنا وقد علمنا أن
بالقوم حلماء وطغاما فلسنا نأمن طغاهم على ذرارينا ونسائنا وقد كنا لا نحب أن
نقاتل أهل ديننا فأحرجونا حتى صارت الأمور إلى أن يصير غدا قتالنا حمية فإنا لله
وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين والذي بعث محمدا بالحق لوددت أني مت قبل
هذا ولكن الله تبارك وتعالى إذا أراد أمرا لم يستطع العباد رده فنستعين بالله العظيم
ثم انكفأ تخنثه في حداثته ولم تكن لعبد الله بن يزيد نباهة من ذكرت من آبائه وأهل المثالب
يقولون إنه دعي وكان مع عمرو بن سعيد الأشدق على شرطته أيام خلافة عبد الملك بن
مروان فلما قتل عمرو هرب حتى سألت اليمانية عبد الملك فيه لما أمن الناس عام
الجماعة فأمنه ونشأ خالد بن عبد الله بالمدينة وكان في حداثته يتخنث ويتتبع
المغنين والمخنثين ويمشي بين عمر بن أبي ربيعة وبين النساء في رسائلهن إليه وفي
رسائله إليهن وكان يقال له خالد الخريت فقال مصعب الزبيري كل ما ذكره عمر بن أبي
ربيعة في شعره فقال أرسلت الخريت أو قال أرسلت الجري فإنما يعني خالدا القسري وكان
يترسل بينه وبين النساء أخبرني بذلك الحرمي ومحمد بن مزيد وغيرهما عن الزبير عن
عمه وأخبرني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال كان صديقا لعمر
بن أبي ربيعة بينما عمر بن أبي ربيعة ذات يوم يمشي ومعه خالد بن عبد الله القسري
وهو خالد الخزاعي الذي يذكره في شعره إذا هما بأسماء وهند اللتين كان عمر يشبب بهما
وهما يتماشيان فقصداهما وجلسا معهما مليا فأخذتهم السماء ومطروا فقام خالد
وجاريتان للمرأتين فظللوا عليهم بمطرفة وبردين له حتى كف المطر وتفرقوا وفي ذلك
يقول عمر بن أبي ربيعة ( أفي
رسم دارٍ دمعُكَ المترقرقُ ... سفَاهاً وما استِنطاق ما ليس ينطِق ) ( بحيث
التقى جَمعٌ ومُفْضَى مُحسِّرٍ ... معالمُ قد كادت على الدهر تَخْلُق ) ( ذكرتُ
بها ما قد مضى من زماننا ... وذكرُك رسمَ الدّار مما يشوِّق ) ( مُقاماً
لنا عند العشاء ومَجْلساً ... لنا لم يكدِّره علينا مُعوّق ) ( وممشَى
فتاةٍ بالكساء يَكُنُّها ... به تحت عينٍ برقُها يتأَلَّق ) ( يُبلُّ
أَعالِي الثوب قطرٌ وتحته ... شُعاعٌ بدا يُعشِي العيونَ ويُشرِقُ ) ( فأَحسنُ
شيء بدءُ أولِ ليلةٍ ... وآخرُها حُزْنٌ إذا نَتَفرق ) الغناء
في هذه الأبيات لمعبد خفيف ثقيل أول بالسبابة والوسطى عن يحيى المكي وذكر الهشامي
أنه منحول أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العباس المروزي قال حدثنا
ابن عائشة قال حضر ابن أبي عتيق عمر بن أبي ربيعة يوما وهو ينشد قوله ( ومن
كان محروباً لإهْراق دمعة ... وَهَى غربُها فليأتنا نَبْكِه غدا ) ( نُعنِه
على الإثكال إن كان ثاكلاً ... وإن كان محزوناً وإن كان مُقْصَدا ) قال
فلما أصبح ابن أبي عتيق أخذ معه خالدا الخريت وقال قم بنا إلى عمر فمضينا إليه
فقال له ابن أبي عتيق قد جئنا لموعدك قال وأي موعد بيننا قال قولك فليأتنا نبكه
غدا قد جئناك لموعدك والله لا نبرح أو تبكي إن كنت صادقا في قولك أو ننصرف على أنك
غير صادق ثم مضى وتركه قال ابن عائشة خالد الخريت هو خالد القسري أخبرنا علي بن
صالح بن الهيثم قال حدثنا أبو هفان عن إسحاق وأخبرنا محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه
عن الحزامي والمثنى ومحمد بن سلام قالوا خرجت هند والرباب إلى متنزه لهما بالعقيق
في نسوة فجلستا هناك تتحدثان مليا ثم أقبل إليهما خالد القسري وهو يومئذ غلام مؤنث
يصحب المغنين والمخنثين ويترسل بين عمر بن أبي ربيعة وبين النساء فجلس إليهما فذكرتا
عمر بن أبي ربيعة وتشوقتاه فقالتا لخالد يا خريت وكان يعرف بذلك لك عندنا حكمك إن
جئتنا بعمر بن أبي ربيعة من غير أن يعلم أنا بعثنا بك إليه فقال أفعل فكيف تريان
أن أقول له قالتا تؤذنه بنا وتعلمه أنا خرجنا في سر منه ومره أن يتنكر ويلبس لبسة
الاعراب ليرانا في أحسن صورة ونراه في أسوإ حال فنمزح بذلك معه فجاء خالد إلى عمر
فقال له هل لك في هند والرباب وصواحبات لهما قد خرجن إلى العقيق على حال حذر منك
وكتمان لك أمرهما قال والله إني إلى لقائهن لمشتاق قال فتنكر والبس لبسة الاعراب
وهلم نمض إليهن ففعل ذلك عمر ولبس ثيابا جافية وتعمم عمة الأعراب وركب قعودا له على
رحل غير جيد وصار إليهن فوقف منهن قريبا وسلم فعرفنه فقلن هلم إلينا يا أعرابي
فجاءهن وأناخ قعوده وجعل يحدثهن وينشدهن فقلن له يا أعرابي ما أظرفك وأحسن إنشادك
فما جاء بك إلى هذه الناحية قال جئت أنشد ضالة لي فقالت له هند أنزل إلينا واحسر
عمامتك عن وجهك فقد عرفنا ضالتك وأنت الآن تقدر انك قد احتلت علينا ونحن والله
احتلنا عليك وبعثنا إليك بخالد الخريت حتى قال لك ما قال فجئتنا على أسوأ حالاتك
وأقبح ملابسك فضحك عمر ونزل إليهن فتحدث معهن حتى أمسوا ثم إنهم تفرقوا ففي ذلك
يقول عمر بن أبي ربيعة صوت ( ألم تعرفِ الأطلالَ والمتربَّعا ... ببطن حُليَّات
دوارس بلقعا ) ( إلى
السّرْح من وادي المغمَّس بُدِّلَت ... معالمُه وبلا ونكباءَ زعزعا ) ( فيَبْخلْنَ
أو يُخبرن بالعلم بعد ما ... نَكَأْنَ فؤاداً كان قِدْماً مفجَّعا ) ( لهندٍ
وأَتْرابٍ لهند إذ الهوى ... جميعٌ وإِذْ لم نَخْشَ أن يتصدّعا ) في
هذه الأبيات ثقيل أول لمعبد ( تبالهنَ
بالعِرفان لمّا رأينني ... وقُلْنَ امرؤ باغٍ أَكلَّ وأوضعَا ) ( وقرّبن
أسبابَ الهوى لمتيّمٍ ... يقيس ذِراعاً كلّما قِسْنَ إِصْبعا ) أخبرني
الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني وذكر مثل ذلك أبو عبيدة معمر
بن المثنى أن كرز بن عامر جد خالد بن عبد الله عبد كان آبقا عن مواليه عبد القيس
من هجر ويقال إن أصله من يهود تيماء وكان أبق فظفرت به عبد شمس فكان فيهم عند غمغمة
بن شق الكاهن ثم وهبوه لقوم من بني طهية فكان عندهم حتى أدرك وهرب فأخذته بنو أسد
بن خزيمة فكان فيهم وتزوج مولاة لهم يقال لها زرنب ويقال إنها كانت بغيا فأصابها
فولدت له أسد بن كرز سماه باسم أسد بن خزيمة لرقة كانت فيهم ثم أعتقوه ثم إن نفرا
من أهل هجر مروا به فعرفوه فلما رجعوا إلى هجر اخذوا فداءه وصاروا إلى مواليه
فاشتروه وابنه فلم يزل فيهم حتى خرج معهم في تجارة إلى الطائف فلما رأى دار بجيلة
أعجبته فاشترى نفسه وابنه فجاء فنزل فيهم فأقام مدة ثم ادعى إليهم وعاونه على ذلك
حي من أحمس يقال لهم بنو منبة فنفاهم أبو عامر ذو الرقعة سمي بذلك لأن عينه أصيبت
فكان يغطيها بخرقة وهو ابن عبد شمس بن جوين بن شق فنزل كرز في بني سحمة هاربا من ذي
الرقعة ثم وثب على ابن عم للقتال بن مالك السحمي فقتله وهرب إلى البحرين مع التجار
فأقام مدة ثم مات ونشأ ابنه يزيد بن أسد يدعي في بجيلة ولا تلحقه إلى أن مات ونشأ
ابنه عبد الله بن يزيد ثم مضى إلى حبيب بن مسلمة الفهري وكتب له وكان كاتبا مفوها
وذلك في إمارة عثمان بن عفان فنال حظا وشرفا وكان يقال له خطيب الشيطان ووسم خيله
القسري ثم تدسس ليملك خيلا في بلاد قسر فمنعته بجيلة ذلك أشد المنع فلم يقدر عليه
حتى عظم أمره ونشأ ابنه خالد ومات هو فكان خالد في مرتبته ثم ولي العراق وقال قيس بن
القتال له في هذا المعنى ( ومن
سَمَّاك باسمك يا بن كرز ... وأين المولد المعروف تدري ) وقال
بجير بن ربيعة السحمي ( نفته
من الشِّعبين قَسرٌ بِعزّها ... إلى دار عبد القيس نَفْي المُزَنَّم ) أبوه
وابن نصير في حضرة عبد الملك بن مروان قال أبو عبيدة وكان بين عبد الله بن يزيد بن
أسد بن كرز وبين أبي موسى بن نصير كلام عند عبد الملك بن مروان فقال له عبد الله
إنما أنت عبد لعبد القيس فقال اسكت فقد عرفناك إن لم تعرف نفسك فقال له عبد الله
أنا ابن أسد بن كرز نحن الذين نضمن الشهر ونطعم الدهر فقال له تلك قسر ولست منهم
وإنما أنت عبد آبق قد كنت أراك تروم مثل ذلك فلا تقدر عليه ثم نفاه جرير بن عبد
الله إلى الشام فأقام بها مدة ثم مضى إلى حبيب فقال له دع ذكر البحرين لفرارك
أتراك منهم وأنت عبد واهلك من يهود تيماء فأسكتهما عبد الملك ولم يسره ما قال عبد
الله لأبي موسى بن نصير لأنه كان على شرطه عمرو بن سعيد يوم قتله فقال في ذلك أبو
موسى بن نصير ( جاريت
غيرَ سَؤُومٍ في مطاولة ... يا بن الوشائط من أبناء ذي هجر ) ( لا
من نزارٍ ولا قحطان تعرفكم ... سوى عبيدٍ لعبد القيس أو مُضر ) عرفت
أسرته بالكذب وقال أبو عبيدة فأخبرني عبد الله بن عمر بن زيد الحكمي قال كان يزيد
بن أسد يلقب خطيب الشيطان وكان أكذب الناس في كل شيء معروفا بذلك ثم نشأ ابنه عبد
الله فسلك منهاجه في الكذب ثم نشأ خالد ففاق الجماعة إلا أن رياسة وسخاء كانا فيه
سترا ذلك من أمره قال عمر بن زيد فإني لجالس على باب هشام بن عبد الملك إذ قدم
إسماعيل بن عبد الله أخو خالد بخبر المغيرة بن سعد وخروجه بالكوفة فجعل يأتي
بأحاديث أنكرها فقلت له من أنت يا بن أخي قال إسماعيل بن عبد الله بن يزيد القسري فقلت
يا بن أخي لقد أنكرت ما جرى حتى عرفت نسبك فجعل يضحك أخبرني اليزيدي عن سليمان بن
أبي شيخ عن محمد بن الحكم وذكره أبو عبيدة واللفظ له قالا كان خالد بن عبد الله من
أجبن الناس فلما خرج عليه المغيرة عرف ذلك وهو على المنبر فدهش وتحير فقال أطعموني
ماء فقال الكميت في ذلك ومدح يوسف بن عمر ( خرجتَ
لهم تمشي البَراحَ ولم تكن ... كمن حِصْنُه فيه الرِّتَاحُ المُضَبَّبُ ) ( وما
خالدٌ يستطعم الماءَ فاغرا ... بِعدْلِكَ والداعي إلى الموت ينعَبُ ) وقال
ابن الكلبي أول كذبة كذبتها في النسب أن خالد بن عبد الله سألني عن جدته أم كرز
وكانت أمة بغيا لبني أسد يقال لها زرنب فقلت له هي زينب بنت عرعرة بن جذيمة بن نصر
بن قعين فسر بذلك ووصلني بنو أسد يتبرؤون منه قال قال خالد ذات يوم لمحمد بن منظور
الأسدي يا أبا الصباح قد ولدتمونا فقال ما أعرف فينا ولادة لكم وإن هذا لكذب فقيل
له لو أقررت للأمير بولادة ما ضرك قال أأفسد وأستنبط ما ليس مني وأقر بالكذب على قومي
فأمر خالد خداشا الكندي وكان عامله بضرب مولى لعباد بن إياس الأسدي فقتله فرفع إلى
خالد فلم يقده فوثب عباد على خداش فقتله وقال ( لعمرِي
لئن جارتْ قضيةُ خالدٍ ... عن القصد ما جارت سيوف بني نصر ) فأخبرني
الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن سحيم بن حصين قال قتل
خداش الكندي رجلا من بني أسد وكان الكندي عاملا لخالد القسري فطولب بالقود وهو على
دهلك فقال والله لئن أقدت من عاملي لأقيدن من نفسي ولئن أقدت من نفسي ليقيدن أمير
المؤمنين من نفسه ولئن أقاد أمير المؤمنين من نفسه ليقيدن رسول الله من نفسه ولئن
أقاد رسول الله من نفسه هاه هاه يعرض بالله عز و جل لعنة الله على خالد أعشى همدان
يهجوه ويهجو أمه أخبرني الحسن قال حدثنا الخراز عن المدائني عن عيسى بن يزيد وابن
جعدبة وأبي اليقظان قالوا كانت أم خالد رومية نصرانية فبنى لها كنيسة في ظهر قبلة
المسجد الجامع بالكوفة فكان إذا أراد المؤذن في المسجد أن يؤذن ضرب لها بالناقوس
وإذا قام الخطيب على المنبر رفع النصارى أصواتهم بقراءتهم فقال أعشى همدان يهجوه
ويعيره بأمه وكان الناس بالكوفة إذا ذكروه في ذلك الوقت قالوا ابن البظراء فأنف من
ذلك فيقال إنه ختن أمه وهي كارهة فعيره الأعشى بذلك حين يقول ( لعمرُكَ
ما أدري وإِني لسائلٌ ... أبظراءُ أم مختونةٌ أمُّ خالد ) ( فإن
كانت الموسى جرت فوق بَظرها ... فما خُتِنت إلا وَمَصَّانُ قاعد ) ( يرى
سوأة من حيث أطلع رأسه ... تمرّ عليها مرهفاتُ الحدائِد ) وقال
أيضا فيه يرميه باللواط ( ألم
تَرَ خالداً يَختار ميماً ... ويترك في النِّكاح مَشَقَّ صادِ ) ( ويُبغِض
كلَّ آنسةٍ لعوبِ ... ويَنكِح كلَّ عبدٍ مستقاد ) ( ألا
لعن الإلهُ بني كُرَيْزٍ ... فكرزٌ من خنازير السواد ) قال
المدائني في خبره وأخبرني ابن شهاب بن عبد الله قال قال لي خالد بن عبد الله
القسري اكتب لي النسب فبدأت بنسب مضر فمكثت فيه أياما ثم أتيته فقال ما صنعت فقلت بدأت
بنسب مضر وما أتممته فقال اقطعه قطعه الله مع أصولهم واكتب لي السيرة فقلت له فإنه
يمر بي الشيء من سير علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فأذكره فقال لا إلا أن تراه
في قعر الجحيم لعن الله خالدا ومن ولاه وقبحهم وصلوات الله على أمير المؤمنين أخبار
عن زندقته وقال أبو عبيدة حدثني أبو الهذيل العلاف قال صعد خالد القسري المنبر
فقال إلى كم يغلب باطلنا حقكم أما آن لربكم أن يغضب لكم وكان زنديقا أمه نصرانية
فكان يولي النصارى والمجوس على المسلمين ويأمرهم بامتهانهم وضربهم وكان أهل الذمة
يشترون الجواري المسلمات ويطئونهن فيطلق لهم ذلك ولا يغير عليهم وقال المدائني كان
خالد يقول لو أمرني أمير المؤمنين نقضت الكعبة حجرا حجرا ونقلتها إلى الشام قال
ودخل عليه فراس بن جعدة بن هبيرة وبين يديه نبق فقال له العن علي بن أبي طالب ولك
بكل نبقة دينار ففعل فأعطاه بكل نبقة دينارا قال المدائني وكان له عامل يقال له
خالد بن أمي وكان يقول والله لخالد بن أمي أفضل أمانة من علي بن أبي طالب صلوات
الله عليه وقال له يوما أيما أعظم ركيتنا أم زمزم فقال له أيها الأمير من يجعل
الماء العذب النقاخ مثل الملح الأجاج وكان يسمى زمزم أم الجعلان أخبرني هاشم بن
محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال أتى الفرزدق خالد بن عبد
الله القسري يستحمله في ديات حملها فقال له إيه يا فرزدق كأني بك قد قلت آتي
الحائك بن الحائك فأخدعه عن ماله إن أعطاني أو أذمه إن منعني فأنا حائك بن حائك ولست
أعطيك شيئا فاذممني كيف شئت فهجاه الفرزدق بأشعار كثيرة منها ( ليتني
من بَجيلةِ اللؤم حتى ... يُعْزلَ العاملُ الذي بالعراق ) ( فإذا
عامل العراقين ولَّى ... عدت في أسرة الكرام العتاق ) قال
وإنما أراد خالد بقوله الحائك بن الحائك تصحيح نسبه في اليمن والانتفاء من
العبودية لأهل هجر تطاوله على الخلافة والنبوة كان خالد شديد العصبية على مضر وبلغ
هشاما أنه قال ما ابني يزيد بن خالد بدون مسلمة بن هشام فكان ذلك سبب عزله إياه عن
العراق قال وخطب بمكة وقد أخذ بعض التابعين فحبسه في دور آل الحضرمي فأعظم الناس ذلك
وأنكروه فقال قد بلغني ما أنكرتم من أخذي عدو أمير المؤمنين ومن حاربه والله لو
أمرني أمير المؤمنين أن أنقض هذه الكعبة حجرًا حجراً لنقضتها والله لأمير المؤمنين
أكرم على الله من أنبيائه عليهم السلام ولعن الله تعالى خالدا وأخزاه أخبرني أبو
عبيدة الصيرفي قال حدثنا الفضل بن الحسن المصري قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني
عبيد الله بن حباب قال حدثني عطاء بن مسلم قال قال خالد بن عبد الله وذكر النبي
فقال أيما أكرم عندكم على الرجل رسوله في حاجته أو خليفته في أهله يعرض بأن هشاما
خير من النبي قال أبو عبيدة خطب خالد يوما فقال إن إبراهيم خليل الله استسقى ماء
فسقاه الله ملحا أجاجا وإن أمير المؤمنين استسقى الله ماء فسقاه الله عذبا نقاخا وكان
الوليد حفر بئرا بين ثنية ذي طوى وثنية الحجون فكان خالد ينقل ماءها فيوضع في حوض
إلى جنب زمزم ليرى الناس فضلها قال فغارت تلك البئر فلا يدرى أين هي إلى اليوم كرهه
لعلي بن أبي طالب أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا العباس بن ميمون طايع عن ابن
عائشة قال كان خالد بن عبد الله زنديقا وكانت أمه رومية نصرانية وهبها عبد الملك لأبيه
فرأى يوما عكرمة مولى ابن عباس وعلى رأسه عمامة سوداء فقال إنه بلغني أن هذا العبد
يشبه علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وسلامه وإني لأرجو أن يسود الله وجهه كما
سود وجه ذاك قال حدثني من سمعه وقد لعن عليا صلوات الله عليه وسلامه فقال في ذكره
علي بن أبي طالب بن عم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب وزوج ابنته فاطمة وأبو الحسن
والحسين هل كنيت اللهم العن خالدا واخزه وجدد على روحه العذاب وقال أبو عبيدة ذكر
إسماعيل بن خالد بن عبد الله القسري بني أمية عند أبي العباس السفاح في دولة بني
هاشم فذمهم وسبهم وقال له حماس الشاعر مولى عثمان بن عفان يا أمير المؤمنين أيسب
بني عمك وعمالهم وعماتك رجل اجتمع هو والخريت في نسب أن بني أمية لحمك ودمك فكلهم
ولا تؤكلهم فقال له صدقت وأمسك إسماعيل فلم يحر جوابا سليمان أمر له بمائة سوط
وقال ابن الكلبي كان خالد بن عبد الله أميرا على مكة فأمر رأس الحجبة أن يفتح له
الباب وهو ينظر فأبى فضربه مائة سوط فخرج الشيبي إلى سليمان بن عبد الملك يشكوه
فصادف الفرزدق بالباب فاسترفده فلما أذن للناس ودخلا شكا الشيبي ما لحقه من خالد
ووثب الفرزدق فأنشأ يقول ( سلُوا
خالداً لا أكرم الله خالداً ... متى ولِيَتْ قسرٌ قريشاً تَدينُها ) ( أَقْبلَ
رسول الله أم ذاك بعدَه ... فتلك قريشٌ قد أغثَّ سمينُها ) ( رَجَونا
هُدَاه لا هدَى الله خالداً ... فما أمُّه بالأم يُهْدَى جنِينُها ) فحمي
سليمان وأمر بقطع يد خالد وكان يزيد بن المهلب عنده فما زال يفديه ويقبل يده حتى
أمر بضربه مائة سوط ويعفى عن يمينه فقال الفرزدق في ذلك ( لعمري
لقد صُبَّتْ على ظهر خالد ... شآبيبُ ما استَهْللْنَ من سَبَل القَطر ) ( أيُضْرَبُ
في العِصيان من كان طائعاً ... ويَعصِي أميرَ المؤمنين أخو قَسْرِ ) ( فنفسَك
لُمْ فيما أتيتَ فإنما ... جُزِيت جزاءً بالمُحَدْرَجَةِ السُّمرِ ) ( وأنتَ
ابنُ نصرانيَّةٍ طال بَظْرها ... غَذَتْك بأولاد الخنازير والخمر ) ( فلولا
يزيدُ بن المهلَّب حَلَّقَتْ ... بكفك فتخاءٌ إلى الفرخ في الوكرِ ) ( لَعمرِي
لقد صالَ ابنُ شيبةَ صولةً ... أرتْك نجومَ الليل ظاهرةً تسري ) هجو
الفرزدق له فحقدها خالد على الفرزدق فلما وُلِّي وحفر نهر العراق بواسط قال فيه
الفرزدق أبياتا يهجوه منها ( وأهلكتَ
مَالَ الله في غير حقِّهِ ... على النَّهر المشؤوم غيرِ المباركِ ) ( وتضرب
أقواماً صِحاحاً ظُهورُهم ... وتتْركُ حقَّ الله في ظهر مالِك ) وقال
ويقال إنها للمفرج بن المرقع ( كأنك
بالمبارك بعد شهرٍ ... يخوض غمارَهُ نَقْعُ الكلاب ) ( كذبت
خليفةَ الرحمن عنه ... وكيف يرى الكذوبُ جَزا الكِذاب ) فأخذ
خالد الفرزدق فحبسه واعتل عليه بهجائه إياه في حفر المبارك فقال الفرزدق في السجن ( أَبلغْ
أميرَ المؤمنين رسالةً ... فعجَّل هداكَ الله نزعَك خالدَا ) ( بَنَى
بِيعةً فيها الصَّليبُ لأمّهِ ... وهدَّم من بغض الإله المساجدَا ) فبعث
هشام إلى خالد بن سويد يأمره بإطلاق الفرزدق فأطلقه فقال الفرزدق يهجو خالدا
القسري ( أَلا لَعن الرحمنُ ظهرَ مطيةٍ ...
أّتتْنَا تَخَطَّى من بعيد بخالد ) ( وكيف
يؤمُّ المسلمين وأمُّه ... تدين بأنّ الله ليس بواحد ) أخبرنا
الحسن قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني قال شتم عبد الله بن عياش
الهمذاني خالد بن عبد الله في أيام منصور بن جمهور فسمعه رجل من لخم فقدمه إلى
منصور واستعداه عليه فقال له منصور ما تريد فقال ابن عياش أمرنا أيها الأمير برقية
العقرب وفيه عجب لخمي يستنصر كلبيا على همذاني لبجلي دعي وقال المدائني في خبره
كان خالد بن عبد الله قريبا من هشام بن عبد الملك مكينا عنده فأدل وتمرغ عليه حتى
إنه التفت يوما إلى ابنه يزيد بن خالد عند هشام فقال له كيف بك يا بني إذا احتاج
إليك بنو أمير المؤمنين قال أواسيهم ولو في قميصي فتبين الغضب في وجه هشام
واحتملها لقب هشاما بابن الحمقاء قال المدائني حدثني بذلك عبد الكريم مولى هشام
إنه كان واقفا على رأس هشام فسمع هذا من خالد قال وكان إذا ذكر هشام قال له ابن الحمقاء
فسمعها رجل من أهل الشام فقال لهشام إن هذا البطر الأشر الكافر لنعمتك ونعمة أبيك
وإخوتك يذكرك بأسوأ الذكر فقال ماذا يقول لعله يقول الأحول قال لا والله ولكن مالا
تنشق به الشفتان قال فلعله قال ابن الحمقاء فأمسك الشامي فقال قد بلغني كل ذلك عنه
واتخذ خالد ضياعا كثيرة حتى بلغت غلته عشرة آلاف ألف درهم فدخل عليه دهقان كان
يأنس به فقال له إن الناس يحبون جسمك وأنا أحب جسمك وروحك قد بلغت غلة ابنك أكثر
من عشرة آلاف ألف سوى غلتك وإن الخلفاء لا يصبرون على هذا فاحذر فقال له خالد إن
أخي أسد بن عبد الله قد كلمني بمثل هذا أفأنت أمرته قال نعم قال ويحك دعه فرب يوم
كان يطلب فيه الدرهم فلا يجده عرف ببخله الشديد وقال المدائني في خبره كان خالد بن
عبد الله بخيلا على الطعام فوفد إليه رجل له به حرمة فأمر أن يكتب له بعشرة آلاف
درهم وحضر الطعام فأتي به فأكل أكلا منكرا فأغضبه وقال للخازن لا تعرض علي صكه
فعرفه الخازن ذلك فقال له ويحك فما الحيلة قال تشتري غدا كل ما يحتاج إليه في مطبخه
وتهب الطباخ دراهم حتى لا يشتري شيئًا وتسأله إذا أكل خالد أن يقول له إنك اليوم
في ضيافة فلان فاشترى كل ما أراد حتى الحطب فبلغ خمسمائة درهم فأكل خالد فاستطاب
ما صنع له فقال له الطباخ إنك كنت اليوم في ضيافة فلان قال له وكيف ذاك فأخبره فاستحيا
خالد ودعا بصكه فصيره ثلاثين ألفا ووقع فيه وأمر الخازن بتسليمها إليه قال وكان
لبعض التجار على رجل دين فأراد استعداء خالد عليه فلاذ الرجل ببواب خالد وبره فقال
له سأحتال لك في أمر هذا بحيلة لا يدخله عليه أبدا قال فافعل فلما جلس خالد للأكل
أذن البواب للتاجر فدخل وخالد يأكل سمكا فجعل يأكل أكلا شنيعا كثيرا فغاظ ذلك
خالدا فلما خرج قال لبوابه فيم أتاني هذا قال يستعدي على فلان في دين يدعيه عليه
قال والله إني لأعلم أنه كاذب فلا يدخلن علي وتقدم إلى صاحب الشرطة بقبض يده عن
صاحبه كان يلحن في خطبه وقال المدائني في خبره كان خالد يوما يخطب على المنبر وكان
لحنة وكان له مؤدب يقال له الحسين بن رهمة الكلبي وكان يجلس بإزائه فإذا شك في شيء
أومأ إليه وكان لخالد صديق من تغلب زنديق يقال له زمزم فلما قام يخطب على المنبر
قام إليه التغلبي في وسط خطبته وقال قد حضرتني مسألة قال ويحك أما ترى الشيطان
عينه في عيني يعني حسينا قال لا بد والله منها قال هاتها قال أخبرني قلمسان إذا
ساف ثم رفع رأسه وكرف أي شيء يقول قال أراه يقول ما أطيبه يا رباه قال صدقت ما كان
ليستشهد على هذا سوى ربه قال المدائني وقال خالد يوما على المنبر هذا كما قال الله
عز و جل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم أرتج عليه فقال للتغلبي قم فافتح علي يا
أبا زمزم سورة كذا وكذا فقال خفض عليك أيها الأمير لا يهولنك ذلك فما رأيت قط عاقلا
حفظ القرآن وإنما يحفظه الحمقى من الرجال قال صدقت يرحمك الله وقال المدائني حدثني
أبو يعقوب الثقفي قال قال خالد بن عبد الله للعريان يا عريان أعجزت عن الشرط حتى
أولي غيرك فإن الغناء قد فشا وظهر قال لم أعجز وإن شئت فاعزلني فقال له خذ لي
المغنيات فأحضره خمسا منهن أو ستا فأدخلهن إليه فنظر إلى واحدة منهن بيضاء دعجاء
كأنها أشربت ماء الذهب فدعا لها بكرسي فجلست ثم قال لها أين البربط الذي كانت تضرب
به فأحضر ثم سوته فغنت ( إلى
خالدٍ حتّى أنخنَ بخالدٍ ... فنعم الفتى يُرجَى ونعم المؤمّلُ ) فقال
اعدلي عن هذا إلى غيره فغنت ( أروحُ
إلى القصَّاص كل عَشيَّةٍ ... أرجِّي ثوابَ الله في عدد الخُطَا ) قال
وأقبل قاص المصر فقال له خالد أكانت هذه تروح إليك قال لا وما مثلها يروح إلي قال
خذ بيدها فهي لك ومولاها بالباب فسأل عنها فقيل وهبها للقاص فتحمل عليه بأشراف
الكوفة فلم يرددها حتى اشتراها منه بمائتي دينار وقال المدائني قال خالد في خطبته
والله ما إمارة العراق مما يشرفني فبلغ ذلك هشاما فغاظه جدا وكتب إليه بلغني يا بن
النصرانية أنك تقول إن إمارة العراق ليست مما يشرفك صدقت والله ما شيء يشرفك وكيف
تشرف وأنت دعي إلى بجيلة القبيلة القليلة الذليلة أما والله إني لأظن أن أول ما
يأتيك ضغن من قيس فيشد يديك إلى عنقك هشام يعزله ويعذبه وقال المدائني حدثني شبيب
بن شيبة عن خالد بن صفوان بن الأهتم قال لم تزل أفعال خالد به حتى عزله هشام وعذبه
وقتل ابنه يزيد بن خالد فرأيت في رجله شريطا قد شد به والصبيان يجرونه فدخلت إلى
هشام يوما فحدثته وأطلت فتنفس ثم قال يا خالد رب خالد كان أحب إلي قربا وألذ عندي
حديثا منك قال يعني خالدا القسري فانتهزتها ورجوت أن أشفع له فتكون لي عند خالد يد
فقلت يا أمير المؤمنين فما يمنعك من استئناف الصنيعة عنده فقد أدبته بما فرط منه
فقال هيهات إن خالدا أوجف فأعجف وأدل فأمل وأفرط في الإساءة فأفرطنا في المكافأة
فحلم الأديم ونغل الجرح وبلغ السيل الزبى والحزام الطبيين فلم يبق فيه مستصلح ولا
للصنيعة عنده موضع عد إلى حديثك أخباره مع عمر بن أبي ربيعة فأما أخباره في تخنثه
وإرسال عمر بن أبي ربيعة إياه إلى النساء فأخبرني به علي بن صالح بن الهيثم عن أبي
هفان عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن عثمان بن إبراهيم الحاطبي وأخبرني الحرمي بن
أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الحارث بن سعد السعيدي عن
إبراهيم بن قدامة الحاطبي عن أبيه واللفظ لعلي بن صالح في خبره قالا قال الحاطبي أتيت
عمر بن أبي ربيعة بعد أن نسك بسنين فانتظرته في مجلس قومه حتى إذا تفرق القوم دنوت
منه ومعي صاحب لي فقال لي صاحبي هل لك في أن تريغه عن الغزل فننظر هل بقي منه شيء
عنده فقلت له دونك فقال يا أبا الخطاب أحسن والله ريسان العذري قاتله الله قال
وفيم أحسن قلت حيث يقول ( لو
جُزَّ بالسيف رأسِي في مودّتها ... لمالَ لا شك يَهوِي نحوَها راسي ) فقال
نعم أحسن فقلت يا أبا الخطاب وأحسن والله تحية بن جنادة العذري قال في ماذا قلت
حيث يقول ( سرت لعينيك سَلْمى بعد مغفاها ...
فبِتَّ مستوهناً من بَعْدِ مسراها ) ( فقلت
أهلاً وسهلاً من هَدَاكِ لنا ... إن كنتِ تمثالَها أو كنتِ إِيَّاها ) وفي
رواية الزبير خاصة ( تأتي
الرياحُ التي من نَحْوِ أرضكم ... حتى أقولُ دنَتْ منّا برَيّاها ) ( وقد
تراخت بها عنّا نوىً قَذَفٌ ... هيهاتَ مُصْبحُها من بعدِ مُمْساها ) ( مِنْ
حُبِّها أتمنّى أنْ يلاقِيَني ... من نحو بلدتها ناعٍ فينعاها ) ( كيما
أقولَ فِراقٌ لا لقاء له ... وتُضمرَ اليأسَ نفسِي ثم تَسْلاها ) ( ولو
تموت لراعتْنِي وقلتُ لها ... يا بؤسَ للدهر ليت الدهرَ أبقاها ) ويروي
( لراعتني منِيَّتُها وقلتُ يا بؤس
ليت الدهرَ أبقاها ) فضحك
عمر ثم قال يا ويحه أحسن والله لقد هيجتما علي ما كان ساكنا مني فلأحدثنكما حديثا
حلوا بينا أنا أول أعوامي جالس إذا بخالد الخريت قال مررت بأربع نسوة قبيل يردن
ناحية كذا وكذا من مكة لم أر مثلهن قط فيهن هند فهل لك أن تأتيهن متنكرا فتسمع من
حديثهن ولا يعلمن فقلت وكيف لي بأن يخفى ذلك قال تلبس لبسة الأعراب ثم تقعد على
قعود كأنك تنشد ضالة فلا يشعرن حتى تهجم عليهن قال فجلست على قعود ثم أتيتهن فسلمت
عليهن فآنسنني وسألنني أن أنشدهن فأنشدتهن لكثير وجميل وغيرهما وقلن يا أعرابي ما أملحك
لو نزلت فتحدثت معنا يومنا هذا فإذا أمسيت انصرفت فأنخت قعودي وجلست معهن فحدثتهن
وأنشدتهن فدنت هند فمدت يدها فجذبت عمامتي فألقتها عن رأسي ثم قالت تالله لظننت
أنك خدعتنا نحن والله خدعناك أرسلنا إليك خالدا الخريت في إتياننا بك على أقبح
هيئتك ونحن على أحسن هيئتنا ثم أخذن بنا في الحديث فقالت إحداهن يا سيدي لو رأيتني
منذ أيام وأصبحت عند أهلي فأدخلت رأسي في جيبي فنظرت إلى حري فرأيته ملء العس
والقس فصحت يا عمراه فصحت لبيك لبيك ولم أزل معهن في أحسن وقت إلى أن أمسينا
فتفرقنا عن أنعم عيش فذلك حين أقول ( أَلم
تعرفِ الأطلالَ والمتربَّعا ... ببطن حُلَيّات دَوارسَ بَلْقعا ) وذكر
الأبيات انقضت أخبار خالد لعنة الله عليه أبدا صوت ( أنائلُ ما رؤيا زعمتِ
رأيْتِها ... لنا عجبٌ لو أَنَّ رؤياكِ تَصْدُقُ ) ( أنائلُ
ما للعيش بعدك لذةٌ ... ولا مشربٌ نلقاه إلا مُرَنَّق ) ( أنائلُ
إنِّي والذي أَنا عبدُه ... لقد جعلتْ نفسي من البين تُشفِق ) ( لعمرُك
إن البين منك يشوقني ... وبعضُ بُعادِ البين والنأي أشوقُ ) الشعر
لصخر بن الجعد الخضري أخبرنا بذلك محمد بن مزيد عن الزبير بن بكار أن عمه أنشده
هذه القصيدة لصخر بن الجعد الخضري وأنا أذكرها بعقب أخبار صخر ومن الناس من يروي
هذه الأبيات لجميل ولم يأت ذلك من وجه يصح والزبير أعلم بأشعار الحجازيين والغناء
لعريب خفيف ثقيل عن الهشامي وفيه لابن المكي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو أخبار صخر
بن الجعد ونسبه صخر بن الجعد الخضري والخضر ولد مالك بن طريف بن محارب بن خصفة بن
قيس بن عيلان بن مضر وصخر أحد بني جحاش بن سلمة بن ثعلبة بن مالك بن طريف قال وسمي
ولد مالك بن طريف الخضر لسوادهم وكان مالك شديد الأدمة وخرج ولده إليه فقيل لهم
الخضر والعرب تسمي الأسود الأخضر وهو شاعر فصيح من مخضرمي الدولتين الأموية
والعباسية وقد كان يعرض لابن ميادة لما انقضى ما بينه وبين حكم الخضري من المهاجاة
ورام أن يهاجيه فترفع ابن ميادة عنه خبره مع محبوبته كأس أخبرني بخبره علي بن
سليمان الأخفش عن هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن الزبير بن بكار مجموعا
وأخبرني بأخبار له متفرقة الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار وحدثني بها
غيرهما من غير رواية الزبير فذكرت كل شيء من ذلك مفردا ونسبته إلى راويه قال
الزبير فيما رواه هارون عنه حدثني من أثق به عن عبد الرحمن بن الأحول بن الجون قال
كان صخر بن الجعد مغرما بكأس بنت بجير بن جندب وكان يشبب بها فلقيه أخوها وقاص
وكان شجاعا فقال له يا صخر إنك تتسبب بابنة عمك وشهرتها ولعمري ما بها عنك مذهب
ولا لنا عنك مرغب فإن كانت لك فيها حاجة فهلم أزوجكها وإن لم تكن لك فيها حاجة فلا
أعلمن ما عرضت لها بذكر ولا أسمعنه منك فأقسم بالله لئن فعلت ذلك ليخالطنك سيفي
فقال له بل والله إن لي لأشد الحاجة إليها فوعده موعدا وخرج صخر لموعده حتى نزل
بأبيات القوم فنزل منزل الضيف فقام وقاص فذبح وجمع أصحابه وأبطأ صخر عنهم فلما رأى
ذلك وقاص بعث إليه أن هلم لحاجتك فأبطأ ورجع الرسول فقال مثل قوله فغضب وعمد إلى
رجل من الحي ليس يعدل بصخر يقال له حصن وهو مغضب لما صنع فحمد الله وأثنى عليه
وزوجه كأس وافترق القوم ومروا بصخر فأعلموه تزويج كأس بحصن فرحل عنهم من تحت الليل
واندفع يهجوها بالأبيات التي قذفها فيها فيما قذفها وذلك قوله حين يقول ( وأنكحَها
حصناً لَيَطْمِسَ حَملَها ... وقد حملَتْ من قبلِ حصنٍ وجرَّتِ ) أي
زادت على تسعة أشهر قال وترافع القوم إلى المدينة وأميرها يومئذ طارق مولى عثمان
قال فتنازعوا إليه ومعهم يومئذ رجل يقال له حزم وكان من أشد الناس على صخر شراًّ
قال وفيه يقول صخر ( كفى
حَزَناً لو يعلمُ النّاسُ أنّني ... أدافعُ كأساً عند أبوابِ طارقِ ) ( أَتنسيْنَ
أياماً لنا بسُويْقَةٍ ... وأيامَنا بالجِزع جِزْع الخلائقِ ) ( لياليَ
لا نخشى انصِداعاً من الهوى ... وأيامَ حزمٌ عندنا غيرُ لائِق ) ( إذا
قلت لا تَفْشِي حديثي تعجرفَت ... زياداً لِوُدِّها هنا غيرِ صادق ) قال
فأقاموا عليه البينة بقذف كأس فضرب الحد وعاد إلى قومه وأسف على ما فاته من تزويج
كأس فطفق يقول فيها الشعر قصيدته في كأس قال الزبير فأنشدني عمي وغيره لصخر قوله ( لقد
عاود النمسَ الشقيَّةَ عِيدُها ... نعم إِنَّهُ قد عاد نحساً سُعودُها ) ( وَعاوَدَهُ
من حُبِّ كأسٍ ضَمانةٌ ... على النأْيِ كانت هيضةً تستقيدها ) ( وَأنى
ترجِّيها وأصبحَ وصلُها ... ضعيفاً وأمست هَمَّه لا يكيدها ) ( وقد
مَرَّ عَصْرٌ وهْي لا تستزيدُني ... لما استُوْدِعتْ عندي ولا أستزيدها ) ( فما
زلتَ حتى زلَّتِ النعلُ زَلَّة ... برجلك في زوراءَ وعثٍ صعودها ) ( ألا
قل لكأْسٍ إن عرضتَ لبيتِها ... فأَين بُكا عيني وأين قصيدُها ) ( لعل
البُكا يا كأسُ إن نفع البكا ... يُقرِّب دنيانا لنا فيعيدُها ) ( وكانتْ
تناهتْ لوعةُ الودِّ بيننا ... فقد أصبَحَتْ يُبْساً وأُذبل عودُها ) ويروى
وقد ذاء عودها يقال ذبل وذأى وذوى بمعنى واحد ( لياليَ
ذاتُ الرمْسِ لا زال هيْجُها ... جنوباً ولا زالت سحابٌ تجودُها ) ( وعيشٌ
لنا في الدهر إذ كان قَلبُه ... يطيب لديه بُخْلُ كأسٍ وجودُها ) ( تذكَّرتُ
كأساً إذ سَمِعْتُ حمامةً ... بكت في ذُرَا نخل طِوالٍ جريدُها ) ( دعت
ساقَ حُرٍّ فاستَجبتُ لصوتها ... مولَّهَةً لم يبقَ إلا شريدُها ) ( فيا
نفسُ صبراً كلُّ أَسبابِ واصلٍ ... ستنمِي لها أسباب هَجْرٍ تُبيدُها ) قال
أبو الحسن الأخفش ستنمي لها أسباب صرم تبيدها أجود ( وليلٍ
بَدَتْ للعين نارٌ كأنها ... سنا كوكبٍ للمستبين خُمودها ) ( فقلت
عساها نارُ كأسٍ وعلَّها ... تَشكَّى فأَمْضِي نحوَها وأعودُها ) ( فتسمع
قولي قبل حتف يَصِيدُني ... تُسَرُّ بِه أو قّبْلَ حتفٍ يصيدها ) ( كأن
لم نكُنْ يا كأس إلْفَى مَودةٍ ... إذِ الناسُ والأيامُ تُرْعَى عهودُها ) أخبرني
عبد الله بن مالك النحوي قال حدثنا محمد بن حبيب قال لما ضرب صخر بن الجعد الحد
لكأس وصارت إلى زوجها ندم على ما فرط منه واستحيا من الناس للحد الذي ضربه فلحق
بالشام فطالت غيبته بها ثم عاد فمر بنخل كان لأهله ولأهل كأس فباعوه وانتقلوا إلى
الشام فمر بها صخر ورأى المبتاعين لها يصرمونها فبكى عند ذلك بكاء شديدا وأنشأ
يقول ( مررتُ على خَيماتِ كأسٍ فأَسبلتْ
... مدامعُ عيني والرياحُ تُميلُها ) ( وفي
دارهمْ قومٌ سواهم فأَسبلتْ ... دموعٌ من الأجفان فاض مسيلُها ) ( كذاكَ
الليالي ليسَ فيها بسالمٍ ... صديقٌ ولا يبقى عليها خَليلُها ) وقال
وهو بالشام ( ألا
ليتَ شعري هل تغيَّرَ بَعدَنا ... عن العهدِ أم أَمْسَى على حاله نجدُ ) ( وعهدِي
بنجدٍ منذ عشرين حِجَّةً ... ونحن بُدنيا ثَمَّ لمْ نَلْقَها بعدُ ) ( به
الخوصَةُ الدهماءُ تحت ظلالها ... رياضٌ بها الحَوْذان والنَّفَل الجعد ) قال
ومر على غدير كانت كأس تشرب منه ويحضره أهلها ويجتمعون عليه فوقف طويلا عليه يبكي
وكان يقال لذلك الغدير جنان فقال صخر ( بَلِيتُ
كما يَبْلَى الرّداءُ ولا أَرَى ... جَناناً ولا أكنافَ ذِرْوَةَ تَخْلُقُ ) ( أُلَوِّي
حيازيمي بِهِنَّ صبابةً ... كما تتلوَّى الحيَّةُ المُتَشَرِّقُ ) شعره
في رثاء كأس أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن حبيب قال قال السعيدي حدثني سبرة
مولى يزيد بن العوام قال كان صخر بن الجعد المحاربي خدنا لعوام بن عقبة وكان عوام
يهوى امرأة من قومه يقال لها سوداء فماتت فرثاها فلما سمع صخر بن الجعد المرثية
قال وددت أن أعيش حتى تموت كأس فأرثيها فماتت كأس فقال ( على
أُمّ داودَ السلامُ ورحمةٌ ... من الله يجري كلَّ يوم بشيرُها ) ( غداة
غدا الغادون عنها وغُودِرَتْ ... بلمَاعَةِ القِيعان يستنُّ مورُها ) ( وغيِّبتُ
عنها يوم ذاك وليْتَني ... شهِدت فيحوي مَنْكِبيَّ سريرُها ) ويروى
فيعلو منكبي ( نزَت
كبدِي لما أتاني نِعيُّها ... فقلت أدانٍ صدعُها فمُطيرُها ) أخبرني
الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثني خالد بن الوضاح قال قال عبد
الأعلى بن عبيد بن محمد بن صفوان الجمحي لعبد الله بن مصعب سألني أمير المؤمنين
اليوم في موكبه من الذي يقول ( ألا
يا كأسُ قد أَفنيتُ شِعْري ... فلستُ بقائلٍ إلا رجيعا ) ولم
أدر لمن الشعر فقال عبد الله بن مصعب هو لصخر الخضري وأنشد باقي الأبيات وهي ( تُرجِّي
أَنْ تلاقيَ آلَ كأسٍ ... كما يرْجو أَخو السَّنةِ الربيعا ) ( فلستَ
بنائمٍ إلا بحُزْنٍ ... ولا مستيقظاً إلا مَرُوعا ) ( فإنَّكَ
لو نظرتَ إذا التقينا ... إلى كبدِي رأَيتَ بها صُدوعا ) ندمه
بعد أن تزوجت كأس قال ابن حبيب في رواية عبد الله بن مالك لما زوجت كأس جزع صخر بن
الجعد لما فرط منه وندم وأسف وقال في ذلك ( هنيئاً
لكأسٍ قطعُها الحبلَ بعدما ... عقدْنا لكأس موثِقاٌ لا نخونُها ) ( وإِشْماتُهَا
الأعداءَ لمّا تأَلَّبوا ... حواليَّ واشتدَّت عليَّ ضُغُونُها ) ( فإن
حَراماً أنْ أخونَك ما دعا ... بِيلْيَلَ قُمْرِيُّ الحمام وجُونها ) ( وقد
أَيْقَنَتْ نفسي لقد حِيل دونها ... ودونكَ لو يأتي بيأسٍ يَقينُها ) ( ولكن
أَبَتْ لا تستفيقُ ولاَ تَرى ... عَزَاءً ولا مجلودَ صَبْرٍ يُعينها ) ( لو
أنَّا إذ الدّنيا لَنا مطمئنَّةٌ ... دَحَا ظِلُّها ثم ارجحنَّت غُصونها ) ( لهونا
ولكنا بغرَّة عيشِنا ... عجِبنَا لدُنيانَا فكِدنا نُعنيها ) ( وكنا
إذا نحن التقيْنا وما نُرى ... لعينين إلا من حجابٍ يَصونها ) ( أخذنا
بأطراف الأحاديث بيننا ... وأَوساطِها حتى تُمَلّ فنونها ) قال
ابن حبيب أرسلت كأس بعد أن زوجت إلى صخر بن الجعد تخبره أنها رأته فيما يرى النائم
كأنه يلبسها خمارا وأن ذلك جدد لها شوقا إليه وصبابة فقال صخر ( أنائلُ
ما رؤيا زعمتِ رأَيتِها ... لنا عجَب لو أنّ رؤياكِ تَصْدُق ) ( أنائِلُ
لولا الودُّ ما كان بينُنَا ... نضاً مثل ما ينضو الخضابُ فيخلُق ) خبره
مع سيار التاجر أخبرنا حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني محمد بن
عبد الله البكري قال قدم صخر بن الجعد الخضري المدينة فأتى تاجرا من تجارها يقال
له سيار فابتاع منه برا وعطرا وقال تأتينا غدوة فأقضيك وركب من تحت ليلته فخرج إلى
البادية فلما أصبح سيار سأل عنه فعرف خبره فركب في جماعة من أصحابه في طلبه حتى
أتوا بئر مطلب وهي على سبعة أميال من المدينة وقد جهدوا من الحر فنزلوا عليها
فأكلوا تمرا كان معهم وأراحوا دوابهم وسقوها حتى إذ برد النهار انصرفوا راجعين
وبلغ الخبر صخر بن الجعد فقال ( أَهْوِنْ
عليًّ بسيّارٍ وصفوته ... إذا جعلتُ صِراراً دون سيَّار ) ( إنّ
القضاءَ سيأْتِي دونه زمن ... فاطوِ الصّحيفةَ واحفَظهَا من العار ) ( يسائل
الناسَ هل أحْسَسْتُمُ جَلباً ... محاربياًّ أتى من نحو أظفارِ ) ( وما
جَلَبْتُ إليهمْ غيرَ راحلة ... وغيرَ رحل وسيف جَفنة عار ) ( وما
أُرِيتُ لهم إلا لأدفعهم ... عني ويخرجُني نقضي وإمراري ) ( حتى
استغاثُوا بأوْرَى بئرِ مُطّلِب ... وقد تحرَّق منهم كلُّ تَمّار ) ( وقال
أوّلُهم نُصحاً لآخرهم ... ألا ارجِعُوا واتركوا الأَعْرابَ في النار ) جاريته
سمحاء توقع به وتخدعه أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن حبيب قال حدثنا ابن الأعرابي
قال كان الجعد المحاربي أبو صخر بن الجعد قد عمر حتى خرف وكان يكنى أبا الصموت وكانت
له وليدة يقال لها سمحاء فقالت له يوما يا أبا الصموت زعم بنوك أنك إن مت قتلوني
قال ولم قالت مالي إليهم ذنب غير حبي لك فأعتقها على أن تكون معه فمكثت يسيرا ثم
قالت له يا أبا الصموت هذا عرابة من أهل المعدن يخطبني قال أين هذا مما قلت لي
قالت إنه ذو مال وإنما أردت ماله لك قال فأتني به فأتته فزوجه إياها فولدت له
أولادا وقوته بما كانت تصيبه من الجعد وكانت تأتي الجعد في أيام فتخضب رأسه ثم
قطعته فأنشأ الجعد يقول ( أمْسَى
عَرابةُ ذا مال وذا ولدٍ ... من مالِ جَعْدٍ وجعدٌ غيرُ محمود ) ( تظل
تُنْشِقُه الكافورَ متكئاً ... على السرير وتعطيني على العُود ) قال
والجعد هو القائل لامرأته ( تُعالجنِي
أُمّ الصَّموت كأنما ... تُدَاوِي حِصاناً أوهنَ العظمَ كاسِرُه ) ( فلا
تعجبي أُمَّ الصَّموت فإنَّه ... لكل جواد مَعْثَرٌ هو عاثِره ) ( وقد
كنتُ أصطاد الظباءَ مُوَطَّئاً ... وأضربُ رأْسَ القِرن والرمحُ شاجِره ) ( فأَصْبَحْتُ
مثل العشّ طارَت فراخُه ... وغودر في رأْس الهشيمة سائره ) أولاده
يتخلون عنه ويقتسمون أمواله فلما كبر حمله بنوه فأتوا به مكة وقالوا له تعبد ها
هنا ثم اقتسموا المال وتركوا له منه ما يصلحه فقال ( ألا
أبلغ بني جَعْدٍ رسولا ... وإن حالت جبالُ الغَوْرِ دُوني ) ( فلم
أَرَ مَعْشَراً تركوا أَباهُم ... من الآفاق حيث تركتموني ) ( فإني
والرَّوافِض حول جَمْعٍ ... ومَحْطِمُهُنّ من حَصْبا الحجون ) ( لو
أني ذو مدافعةٍ وحولي ... كما قد كنت أحياناً كمُوني ) ( إذاً
لمَنَعْتُكُمْ مالِي ونفسِي ... بنصلِ السّيف أَو لقتلتُمونِي ) وأخبرني
الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن عبد الله بن
عثمان البكري عن عروة بن زيد الخضري عن أبيه قال كنت في ركب فيهم صخر بن الجعد
ودرن مولى الخضريين معنا ونحن نريد خيبر فنزلنا منزلا تعشينا فيه فهيجنا إبل صخر
فلما ركبنا ساق بنا واندفع يرجز ويقول ( لقد
بعثت حاديا قراصِفا ... ) فردده
قطعا من الليل لا ينفده ولا يقول غيره ثم قال لنا إني نسيت عقالا فرجع يطلبه في
المتعشى ونزل درن يسوق بالقوم فارتجز درن ببيت صخر وقال ( لقد
بعثتُ حادياً قُراصِفَا ... من منزلٍ رَحَلْتُ عنه آنفا ) ( يسوق
خُوصاً رجَّفاً حواجفا ... مثلَ القِسيّ تقذف المقاذفا ) ( حتى
ترى الرَّباعِيَ العُتارِفا ... من شدة السير يُزَجَّى واجفا ) قال
فأدركه صخر وهو في ذلك فقال له يا بن الخبيثة أتجترئ على أن تنفذ بيتا أعياني
فقاتله فضربه حتى نزلنا ففرقنا بينهما صوت ( إِذا سَرَّها أمر وفيه مَساءتي ...
قضيتُ لها فيما تُحِبُّ على نفسي ) ( وما
مرَّ يومٌ أرتجي منه راحَةً ... فأَذكره إلا بكيت على أمسي ) الشعر
لأبي حفص الشطرنجي والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن عمرو أخبار أبي حفص
الشطرنجي ونسبه أبو حفص عمر بن عبد العزيز مولى بني العباس وكان أبوه من موالي
المنصور فيما يقال وكان اسمه اسما أعجميا فلما نشأ أبو حفص وتأدب غيره وسماه عبد
العزيز أخبرني بذلك عمي عن أحمد بن الطيب عن جماعة من موالي المهدي ونشأ أبو حفص
في دار المهدي ومع أولاد مواليه وكان كأحدهم وتأدب وكان لاعبا بالشطرنج مشغوفا به
فلقب به لغلبته عليه انقطاعه إلى علية بنت المهدي فلما مات المهدي انقطع إلى عليه
وخرج معها لما زوجت وعاد معها لما عادت إلى القصر وكان يقول لها الأشعار فيما
تريده من الأمور بينها وبين إخوتها وبني أخيها من الخلفاء فتنتحل بعض ذلك وتترك
بعضه ومما ينسب إليها من شعره ولها فيه غناء وقد ذكرنا ذلك في أغانيها وأخبارها ( تَحَبَّبْ
فإن الحبَّ داعيةُ الحب ... ) وهو
صوت مشهور لها حدثني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال
حدثني الكندي عن محمد بن الجهم البرمكي قال رأيت أبا حفص الشطرنجي الشاعر فرأيت
منه إنسانا يلهيك حضوره عن كل غائب وتسليك مجالسته عن هموم المصائب قربة عرس
وحديثه أنس جده لعب ولعبه جد دين ماجد إن لبسته على ظاهره لبست موموقا لا تمله وإن
تتبعته لتستبطن خبرته وقفت على مروة لا تطير الفواحش بجنباتها وكان فيما علمته أقل
ما فيه الشعر وهو الذي يقول صوت ( تَحبَّبْ
فإِن الحُبَّ داعيةُ الحبِّ ... وكم من بعيدِ الدار مُسْتَوْجِب القُرب ) ( إذا
لم يكن في الحب عَتبٌ ولا رضاً ... فأين حلاوات الرسائل والكُتب ) ( تفكَّرْ
فإن حُدِّثتَ أنَّ أخَا هوًى ... نجا سالماً فارجُ النّجاة من الكرب ) ( وأَطيبُ
أيامِ الهوى يومُك الذي ... تُرَوَّعُ بالتّحريش فيه وبالعَتْب ) قال
وفي هذه الأبيات غناء لعلية بنت المهدي وكانت تأمره أن يقول الشعر في المعاني التي
تريدها فيقولها وتغني فيها قال وأنشدني لأبي حفص أيضا صوت ( عَرِّضَنْ للذي تُحِبّ
بحبًّ ... ثم دَعْهُ يَرُوضُهُ إبليسُ ) ( فلعَلَّ
الزّمانَ يُدْنيك منه ... إن هذا الهوى جليلٌ نفيسُ ) ( صابِر
الحبَّ لا يُصرِّفْكَ فيه ... من حبيب تجهُّمٌ وعبوس ) ( وأَقِلَّ
اللَّجاجَ واصبر على الجهد ... فإن الهوى نعيمٌ وبُوس ) في
هذه الأبيات للمسدود هزج ذكره لي جحظة وغيره عنه وأما قوله ( تحبَّب
فإن الحبّ داعية الحبّ ... ) فقد
مضت نسبته في أخبار علية ماردة الجارية تأمره أن يجيب الرشيد على رسالته أخبرني
الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك
وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العباس الكاتب قال كان الرشيد
يحب ماردة جاريته وكان خلفها بالرقة فلما قدم إلى مدينة السلام اشتاقها فكتب إليها
صوت ( سلامٌ على النازح المغتربْ ...
تحيةَ صَبٍّ به مكتئبْ ) ( غَزالٌ
مراتعُه بالبليخِ ... إلى دَيْرِ زكّى فقَصِر الخشبْ ) ( أيا
مَنْ أعان على نفسه ... بتخليفه طائعاً مَنْ أحبْ ) ( سأستر
والسَّترُ من شيمتي ... هوى من أُحِبُّ بمَنْ لا أُحبْ ) فلما
ورد كتابه عليها أمرت أبا حفص الشطرنجي صاحب علية فأجاب الرشيد عنها بهذه الأبيات
فقال ( أتاني كتابُك يا سيدي ... وفيه
العجائبُ كلّ العجَبْ ) ( أتزعمُ
أنّك لي عاشقٌ ... وأَنك بي مُستهامٌ وصبّ ) ( فلو
كان هذا كذا لم تكن ... لتتركني نُهْزَةً للكُرَبْ ) ( وأنت
ببغدادَ ترعى بها ... نباتَ اللَّذاذةِ مَعْ مَنْ تُحِبّ ) ( فيا
مَن جفاني ولم أجفُه ... ويا مَن شجاني بما في الكتب ) ( كتابُك
قد زادني صَبوةً ... وأَسْعَرَ قلبي بحَرّ اللّهب ) ( فهَبنِي
نَعَمْ قد كتمتُ الهوى ... فكيف بكتمانِ دَمْعٍ سَرَب ) ( ولولا
اتقاؤك يا سيدي ... لوافتك بي النّاجيات النُّجُب ) فلما
قرأ الرشيد كتابها أنفذ من وقته خادما على البريد حتى حدرها إلى بغداد في الفرات
وأمر المغنيين جميعا فغنوا في شعره قال الأصبهاني فممن غنى فيه إبراهيم الموصلي
غنى فيه لحنين أحدهما ماخوري والآخر ثاني ثقيل عن الهشامي وغنى يحيى بن سعد بن بكر
بن صغير العين فيه رملا ولابن جامع فيه رمل بالبنصر ولفليح بن العوراء ثاني ثقيل
بالوسطى وللمعلى خفيف رمل بالوسطى ولحسين بن محرز هزج بالوسطى ولأبي زكار الأعمى هزج
بالبنصر هذه الحكايات كلها عن الهشامي وقال كان المختار في هذه الألحان كلها عند
الرشيد الذي اشتهاه منها وارتضاه لحن سليم أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب
قال حدثني محمد بن يزيد النحوي قال حدثني جماعة من كتاب السلطان أن الرشيد غضب على
علية بنت المهدي فأمرت أبا حفص الشطرنجي شاعرها أن يقول شعرا يعتذر فيه عنها إلى
الرشيد ويسأله الرضا عنها فيستعطفه لها فقال صوت ( لو
كان يمنعُ حسنُ العقل صاحِبَه ... من أن يكون له ذنبٌ إلى أحدِ ) ( كانت
عُلَيَّةُ أبرأ الناس كلَّهمُ ... من أن تُكافَا بسوءِ آخرَ الأبد ) ( مالي
إذا غِبتُ لم أُذكَر بواحدةٍ ... وإن سَقِمْتُ فطال السُّقْمُ لم أُعَدِ ) ( ما
أعجبَ الشيءَ ترجوه فتُحْرَمُه ... قد كنتُ أحسبُ أنِّي قد ملأَتُ يدِي ) فأَتاها
بالأبيات فاستحسنتها وغنت فيها وألقت الغناء على جماعة من جواري الرشيد فغنينه
إياه في أول مجلس فيه معهن فطرب طربا شديدا وسألهن عن القصة فأخبرنه بها فبعث
إليها فحضرت فقبل رأسها واعتذرت فقبل عذرها وسألها إعادة الصوت فأعادته عليه فبكى
وقال لا جرم أني لا أغضب أبدا عليك ما عشت قال في دنانير بيتين فاستحق مائتي دينار
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الحسين بن يحيى عن عمرو بن بانة قال دخل أبو
حفص الشطرنجي على يحيى بن خالد وعنده ابن جامع وهو يلقي على دنانير صوتا أمره يحيى
بإلقائه عليها وقال لأبي حفص قل في دنانير بيتين يغني فيهما ابن جامع ولك بكل بيت
مائة دينار إن جاءت كما أريد فقال أبو حفص صوت ( أشبهَكِ المسكُ وأشبهتِه ...
قائمةً في لونه قاعده ) ( لا
شكَّ إذْ لونُكما واحدٌ ... أنكما من طينةٍ واحدَه ) قال
فأمر له يحيى بمائة دينار وغنى فيهما ابن جامع قال الأصبهاني لحن ابن جامع في هذين
البيتين هزج أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال عتابه ابن
الرشيد لأنه لم يعده في مرضه كان أبو حفص الشطرنجي ينادم أبا عيسى بن الرشيد ويقول
له الشعر فينتحله ويفعل مثل ذلك بأخيه صالح وأخته وكذلك بعلية عمتهم وكان بنو
الرشيد جميعا يزورونه ويأنسون به فمرض فعادوه جميعا سوى أبي عيسى فكتب إليه ( إِخَاءُ
أبي عيسى إخاء ابنِ ضَرَّةٍ ... ووُدِّيَ وُدٌّ لابنِ أُمًّ ووالدِ ) ( ألم
يأْته أنّ التأَدَّبَ نِسبةٌ ... تلاصق أهواءَ الرجالِ الأَباعدِ ) ( فمَا
بالُه مُستعذِباً من جفائِنَا ... مواردَ لم تَعذُبْ لنا من موارِدِ ) ( أقمتُ
ثلاثاً حِلْفَ حُمَّى مُضِرَّةٍ ... فلم أرَه في أهل ودّي وعائدي ) ( سلام
هي الدنيا قروضٌ وإنما ... أخوك مُديمُ الوصلِ عند الشدائد ) حدثني
جعفر بن الحسين قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثنا أبي عن أبي حفص الشطرنجي قال قال
لي الرشيد يوما يا حبيبي لقد أحسنت ما شئت في بيتين قلتهما قلت ما هما يا سيدي فمن
شرفهما استحسانك لهما فقال قولك صوت ( لم أَلْقَ ذا شَجَن يبوح بحُبِّه ... إلا
حَسِبتُك ذلك المحبوبَا ) ( حذراً
عليكِ وإنني بكِ واثقٌ ... ألاَّ ينالَ سوايَ منكِ نصيبا ) فقلت
يا أمير المؤمنين ليسا لي هما للعباس بن الأحنف فقال صدقك والله أعجب إلي وأحسن
منهما بيتاك حيث تقول ( إذا
سرَّها أمرٌ وفيه مساءتي ... قضيْتُ لها فيما تريد على نفسِي ) ( وما
مرَّ يوم أرتجِي فيه راحةً ... فأذْكُرَه إلا بكيتُ على أَمْسِي ) في
البيتين الأولين اللذين للعباس بن الأحنف ثقيل لإبراهيم الموصلي وفيهما لابن جامع
رمل عن الهشامي الروايتان جميعا لعبد الرحمن وفي أبيات أبي حفص الأخيرة لحن من
كتاب إبراهيم غير مجنس رثى نفسه قبل أن يموت أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني
الحسين بن يحيى قال حدثني عبد الله بن الفضل قال دخلت على أبي حفص الشطرنجي شاعر
علية بنت المهدي أعوده في علته التي مات فيها قال فجلست عنده فأنشدني لنفسه صوت (
نعَى لك ظلَّ الشَّبابِ المشيبُ ... ونَادَتك باسمٍ سِواكَ الخطوبُ ) ( فكُن
مستعِداًّ لداعي الفناءِ ... فإن الذي هو آتٍ قريبُ ) ( ألسنا
نرى شهواتِ النفوس ... تَفْنَى وتبقى عليها الذنوبُ ) ( وقبلَك
داوى المريضَ الطبيبُ ... فعاش المريضُ ومات الطبيبُ ) ( يخاف
على نفسه مَن يتوبُ ... فكيف ترى حال من لا يتوب ) غنى
في الأول والثاني إبراهيم هزجاً انقضت أخباره صوت ( أَبَى
لَيْلِيَ أن يذهبْ ... ونِيطَ الطرْفُ بالكوكبْ ) ( ونجمٍ
دونه النَّسران ... بين الدَّلْوِ والعقرَبْ ) ( وهذا
الصُّبحُ لا يأتي ... ولا يدنو ولا يَقْرُبْ ) الشعر
لأميمة بنت عبد شمس بن عبد مناف والغناء لأسحاق هزج بالوسطى دمن الجارية تسرق لحنا
من إسحاق وهو سكران أخبرنا محمد بن يحيى ومحمد بن جعفر النحوي قالا حدثنا محمد بن
حماد قال التقيت مع دمن جارية إسحاق بن إبراهيم الموصلي يوما فقلت لها أسمعيني
شيئا أخذته من إسحاق فقالت والله ما أحد من جواريه أخذ منه صوتا قط ولا ألقى علينا
شيئا قط وإنما كان يأمر من أخذ منه من الرجال مثل مخارق وعلويه ووجه القرعة
الخزاعي وجواري الحارث بن بسخنر أن يلقوا علينا ما يختارون من أغانيهم وأما عنه
فما أخذت شيئا قط إلا ليلة فإنه انصرف من عند المعتصم وهو سكران فقال للخادم القيم
على حرمة جئني بدمن فجاءني الخادم فدعاني فخرجت معه فإذا هو في البيت الذي ينام
فيه وهو يصنع في هذا الشعر ( أَبَى
لَيْلِيَ أن يَذْهَبْ ... ونِيط الطَّرْفُ بالكوكبْ ) وهو
يتزايد فيه ويقومه حتى استوى له ثم قام إلى عود مصلح معلق كان يكون في بيت منامه
فأخذه فغنى الصوت حتى صح له واستقام عليه وأخذته عنه فلما فرغ منه قال أين دمن
فقلت هو ذا أنا ها هنا فارتاع وقال مذ كم أنت ها هنا قلت مذ بدأت بالصوت وقد أخذته
بغير حمدك فقال خذي العود فغنيه فأخذته فغنيته حتى فرغت منه وهو يكاد أن يتميز
غيظا ثم قال قد بقي عليك فيه شيء كثير وأنا أصلحه لك فقلت أنا مستغنية عن إصلاحك
فأصلحه لنفسك فاضطجع في فراشه ونام وانصرفت فمكث أياما إذا رآني قطب وجهه وهذا
الشعر تقوله أميمة بنت عبد شمس بن عبد مناف ترثي به من قتل في حروب الفجار من قريش
ذكر الخبر في حروب الفجار وحروب عكاظ ونسب أميمة بنت عبد شمس أميمة بنت عبد شمس بن
عبد مناف وأمها تفخر بنت عبيد بن رواس بن كلاب وكان عند حارثة بن الأوقص بن مرة بن
هلال بن فالح بن ذكوان السلمي فولدت له أمية بن حارثة وكانت هذه الحرب بين قريش
وقيس عيلان في أربعة أعوام متواليات ولم يكن لقريش في أولها مدخل ثم التحقت بها فأما
الفجار الأول فكانت الحرب فيه ثلاثة أيام ولم تسم باسم لشهرتها وأما الفجار الثاني
فإنه كان أعظمهما لأنهم استحلوا فيه الحرم وكانت أيامه يوم نخلة وهو الذي لم يشهده
رسول الله منها وشهد سائرها وكان الرؤساء فيه حرب بن أمية في القلب وعبد الله بن
جدعان وهشام بن المغيرة في المجنبتين ثم يوم شمطة ثم يوم العبلاء ثم يوم عكاظ ثم
يوم الحرة أول أمر الفجار قال أبو عبيدة كان أول أمر الفجار أن بدر بن معشر
الغفاري أحد بني غفار بن مالك بن ضمرة بن بكر بن عبد مناه بن كنانة كان رجلا منيعا
مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظ فاتخذ مجلسا بسوق عكاظ وقعد فيه وجعل يبذخ على
الناس ويقول ( نحن
بنو مدركةَ بنِ خِنْدِف ... مَن يطعنوا في عينه لا يَطْرِف ) ( ومَنْ
يكونوا قومه يُغطرِف ... كأنهم لُجَّةُ بحرٍ مُسدِفِ ) وبدر
بن معشر باسط رجليه يقول أنا أعز العرب فمن زعم أنه أعز مني فليضرب هذه بالسيف فهو
أعز مني فوثب رجل من بني نصر بن معاوية يقال له الأحمر بن مازن بن أوس بن النابغة
فضربه بالسيف على ركبته فأندرها ثم قال خذها إليك أيها المخندف وهو ماسك سيفه وقام
أيضا رجل من هوازن فقال ( أنا
ابن هَمْدَانَ ذوي التَّغطرفِ ... بحرُ بحورٍ زاخرٌ لم يُنزَفِ ) ( نحن
ضَربنا ركبة المخندِف ... أذ مدّها في أشهر المُعَرّفِ ) وفي
هذه الضربة أشعار لقيس كثيرة لا معنى لذكرها اليوم الثاني من أيام الفجار الأولى
ثم كان اليوم الثاني من أيام الفجار الأول وكان السبب في ذلك أن شبابا من قريش
وبني كنانة كانوا ذوي غرام فرأوا امرأة من بني عامر جميلة وسيمة وهي جالسة بسوق
عكاظ في درع وهي فضل عليها برقع لها وقد اكتنفها شباب من العرب وهي تحدثهم فجاء
الشباب من بني كنانة وقريش فأطافوا بها وسألوها أن تسفر فأبت فقام أحدهم فجلس
خلفها وحل طرف ردائها وشده إلى فوق حجزتها بشوكة وهي لا تعلم فلما قامت انكشف
درعها عن دبرها فضحكوا وقالوا منعتنا النظر إلى وجهك وجدت لنا بالنظر إلى دبرك
فنادت يا آل عامر فثاروا وحملوا السلاح وحملته كنانة واقتتلوا قتالا شديدا ووقعت بينهم
دماء فتوسط حرب بن أمية واحتمل دماء القوم وأرضى بني عامر من مثلة صاحبتهم اليوم
الثالث من أيام الفجار الأولى ثم كان اليوم الثالث من الفجار الأول وكان سببه أنه
كان لرجل من بني جشم بن بكر بن هوازن دين على رجل من بني كنانة فلواه به وطال اقتضاؤه
إياه فلم يعطه شيئا فلما أعياه وافاه الجشمي في سوق عكاظ بقرد ثم جعل ينادي من يبيعني
مثل هذا الرباح بما لي على فلان بن فلان الكناني من يعطيني مثل هذا بما لي على
فلان بن فلان الكناني رافعا صوته بذلك فلما طال نداؤه بذلك وتعييره به كنانة مر به
رجل منهم فضرب القرد بسيفه فقتله فهتف به الجشمي يا آل هوازن وهتف الكناني يا آل
كنانة فتجمع الحيان فاقتتلوا حتى تحاجزوا ولم يكن بينهم قتلى ثم كفوا وقالوا أفي
رباح تريقون دماءكم وتقتلون أنفسكم وحمل ابن جدعان ذلك في ماله بين الفريقين اليوم
الأول من أيام الفجار الثاني قال ثم كان يوم الفجار الثاني وأول يوم حروبه يوم
نخلة وبينه وبين مبعث النبي ست وعشرون سنة وشهد النبي ذلك اليوم مع قومه وله أربع
عشرة سنة وكان يناول عمومته النبل هذا قول أبي عبيدة وقال غيره بل شهدها وهو ابن
ثمان وعشرين سنة قال أبو عبيدة كان الذي هاج هذه الحرب يوم الفجار الآخر أن البراض
بن قيس بن رافع أحد بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة كان سكيرا فاسقا خلعه قومه
وتبرؤوا منه فشرب في بني الديل فخلعوه فأتى مكة وأتى قريشا فنزل على حرب بن أمية
فحالفه فأحسن حرب جواره وشرب بمكة حتى هم حرب أن يخلعه فقال لحرب إنه لم يبق أحد
ممن يعرفني إلا خلعني سواك وإنك إن خلعتني لم ينظر إلي أحد بعدك فدعني على حلفك
وأنا خارج عنك فتركه وخرج فلحق بالنعمان بن المنذر بالحيرة وكان النعمان يبعث إلى
سوق عكاظ في وقتها بلطيمة يجيزها له سيد مضر فتباع ويشترى له بثمنها الأدم والحرير
والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشي والمسير والعدني وكانت سوق عكاظ في أول
ذي القعدة فلا تزال قائمة يباع فيها ويشترى إلى حضور الحج وكان قيامها فيما بين
النخلة والطائف عشرة أميال وبها نخل وأموال لثقيف فجهز النعمان لطيمة له وقال من
يجيزها فقال البراض أنا أجيزها على بني كنانة فقال النعمان إنما أريد رجلا يجيزها
على أهل نجد فقال عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب وهو يومئذ رجل من هوازن أنا
أجيزها أبيت اللعن فقال له البراض من بني كنانة تجيزها يا عروة قال نعم وعلى الناس
جميعا أفكلب خليع يجيزها قال ثم شخص بها وشخص البراض وعروة يرى مكانه لا يخشاه على
ما صنع حتى إذا كان بين ظهري غطفان إلى جانب فدك بأرض يقال لها أوارة قريب من
الوادي الذي يقال له تيمن نام عروة في ظل شجرة ووجد البراض غفلته فقتله وهرب في
عضاريط الركاب فاستاق الركاب وقال البراض في ذلك ( وداهيةٍ
يُهال الناسُ منها ... شددتُ لها بني بكر ضلوعي ) ( هتكتُ
بها بيوتَ بني كلاب ... وأرضعتُ الموالي بالضروع ) ( جمعت
لها يديَّ بنصل سيفٍ ... أَفلّ فَخرَّ كالجِذْع الصّريع ) وقال
أيضا في ذلك ( نقَمْتُ
على المرء الكلابيّ فخرَه ... وكنت قديماً لا اُقِزُّ فَخارا ) ( علوتُ
بحدّ السيف مفرِقَ رأْسه ... فأسمع أهلَ الواديين خُوارا ) قال
وأم عروة الرحال نفيرة بنت أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعة فقال لبيد
بن ربيعة يحض على الطلب بدمه ( فأبلغْ
إن عرضتَ بني نُمَيْرٍ ... وأخوالَ القتيل بني هِلال ) ( بأنَّ
الوافدَ الرحَّال أضحى ... مقيماً عند تَيْمَنَ ذي الظِّلال ) قال
أبو عبيدة فحدثني أبو عمرو بن العلاء قال لقي البراض بشر بن أبي خازم فقال له هذه
القلائص لك على أن تأتي حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان وهشاما والوليد ابني
المغيرة فتخبرهم أن البراض قتل عروة فإني أخاف أن يسبق الخبر إلى قيس أن يكتموه
حتى يقتلوا به رجلا من قومك عظيما فقال له وما يؤمنك أن تكون أنت ذلك القتيل قال
إن هوازن لا ترضى أن تقتل بسيدها رجلا خليعا طريدا من بني ضمرة قال ومر بهما
الحليس بن يزيد أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وهو يومئذ سيد الأحابيش من بني
كنانة والأحابيش من بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وهو نفاثة بن الديل وبنو
لحيان من خزاعة والقارة وهو أثيع بن الهون بن خزيمة وعضل بن دمس بن ملحم بن عائذ
بن أثيع بن الهون كانوا تحالفوا على سائر بني بكر بن عبد مناة فقال لهم الحليس
مالي أراكم نجيا فأخبروه الخبر ثم ارتحلوا وكتموا الخبر على اتفاق منهم قال وكانت
العرب إذا قدمت عكاظ دفعت أسلحتها إلى ابن جدعان حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم ثم
يردها عليهم إذا ظعنوا وكان سيدا حكيما مثريا من المال فجاءه القوم فأخبروه خبر
البراض وقتله عروة وأخبروا حرب بن أمية وهشاما والوليد ابني المغيرة فجاء حرب إلى
عبد الله بن جدعان فقال له احتبس قبلك سلاح هوازن فقال له ابن جدعان أبالغدر
تأمرني يا حرب والله لو أعلم أنه لا يبقى منها سيف إلا ضربت به ولا رمح إلا طعنت
به ما أمسكت منها شيئا ولكن لكم مائة درع ومائة رمح ومائة سيف في مالي تستعينون
بها ثم صاح ابن جدعان في الناس من كان له قبلي سلاح فليأت وليأخذه فأخذ الناس
أسلحتهم وبعث ابن جدعان وحرب بن أمية وهشام والوليد إلى أبي براء إنه قد كان بعد خروجنا
حرب وقد خفنا تفاقم الأمر فلا تنكروا خروجنا وساروا راجعين إلى مكة فلما كان آخر
النهار بلغ أبا براء قتل البراض عروة فقال خدعني حرب وابن جدعان وركب فيمن حضر
عكاظ من هوازن في أثر القوم فأدركوهم بنخلة فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم وجن
عليهم الليل فكفوا ونادى الأدرم بن شعيب أحد بني عامر بن ربيعة بن صعصعة يا معشر
قريش ميعاد ما بيننا هذه الليلة من العام المقبل بعكاظ وكان يومئذ رؤساء قريش حرب
بن أمية في القلب وابن جدعان في إحدى المجنبتين وهشام بن المغيرة في الأخرى وكان
رؤساء قيس عامر بن مالك ملاعب الأسنة على بني عامر وكدام بن عمير على فهم وعدوان ومسعود
بن سهم على ثقيف وسبيع بن ربيعة النصري علي بني نصر بن معاوية والصمة بن الحارث
وهو أبو دريد بن الصمة علي بني جشم وكانت الراية مع حرب بن أمية وهي راية قصي التي
يقال لها العقاب فقال في ذلك خداش بن زهير ( يا
شَدَّةً ما شددْنا غيرَ كاذبةً ... على سَخِينَةَ لولا الليلُ والحَرَم ) ( إذ
يَتَّقِينَا هشامٌ بالوليد ولو ... أنَّا ثَقِفنا هشاماً شالت الخَدَم ) ( بين
الأراكِ وبين المرج تبطحُهم ... زُرقُ الأسِنَّة في أطرافها السُهُم ) ( فإن
سمعتم بجيش سالكٍ سَرفاً ... وبطنَ مُرّ فأخفوا الجرس واكْتَتِمُوا ) وزعموا
أن عبد الملك بن مروان استنشد رجلا من قيس هذه الكلمة فجعل يحيد عن قوله سخينة
فقال عبد الملك إنا قوم لم يزل يعجبنا السخن فهات فلما فرغ قال يا أخا قيس ما أرى
صاحبك زاد على التمني والاستنشاء قال وقدم البراض باللطيمة مكة وكان يأكلها وكان
عامر بن يزيد بن الملوح بن يعمر الكناني نازلا في أخواله من بني نمير بن عامر وكان
ناكحا فيهم فهمت بنو كلاب بقتله فمنعته بنو نمير ثم شخصوا به حتى نزل في قومه
واستغوت كنانة بني أسد وبني نمير واستغاثوا بهم فلم تغثهم ولم يشهد الفجار أحد من
هذين الحيين اليوم الثاني من أيام الفجار الثاني ثم كان اليوم الثاني من الفجار
الثاني وهو يوم شمطة فتجمعت كنانة وقريش بأسرها وبنو عبد مناة والأحابيش وأعطت قريش
رؤوس القبائل أسلحة تامة وأعطى عبدالله بن جدعان خاصة من ماله مائة رجل من كنانة
أسلحة تامة وأداة وجمعت هوازن وخرجت فلم تخرج معهم كلاب ولا كعب ولا شهد هذان
البطنان من أيام الفجار إلا يوم نخلة مع أبي براء عامر بن مالك وكان القوم جميعا
متساندين على كل قبيلة سيدهم فكان على بني هاشم وبني المطلب ولفهم الزبير بن عبد
المطلب ومعهم النبي إلا أن بني المطلب وإن كانوا مع بني هاشم كان يرأسهم الزبير بن
عبد المطلب بن هاشم ورجل منهم وهو عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف وأم
الزبير الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف وكان على بني عبد شمس ولفها حرب بن أمية ومعه أخواه
أبو سفين وسفيان ومعهم بنو نوفل بن عبد مناف يرأسهم بعد حرب مطعم بن عدي بن نوفل
وكان على بني عبد الدار ولفها خويلد بن أسد وعثمان بن الحويرث وكان على بني زهرة
ولفها مخرمة بن نوفل بن وهيب بن عبد مناف بن زهرة وأخوه صفوان وكان على بني تيم بن
مرة ولفها عبد الله بن جدعان وعلى بني مخزوم هشام بن المغيرة وعلى بني سهم العاصي
بن وائل وعلى بني جمح ولفها أمية بن خلف وعلى بني عدي زيد بن عمرو بن نفيل والخطاب
بن نفيل عمه وعلى بني عامر بن لؤي عمرو بن عبد شمس بن عبد ود أبو سهل بن عمرو وعلى
بني الحارث بن فهر عبد الله بن الجراح أبو أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح
وعلى بني بكر بلعاء بن قيس ومات في تلك الأيام وكان جثامة بن قيس أخوه مكانه وعلى الأحابيش
الحليس بن يزيد وكانت هوازن متساندين كذلك وكان عطية بن عفيف النصري على بني نصر
بن معاوية وقيل بل كان عليهم أبو أسماء بن الضريبة وكان الخنيسق الجشمي على بني
جشم وسعد ابني بكر وكان وهب بن معتب على ثقيف ومعه أخوه مسعود وكان على بني عامر
بن ربيعة وحلفائهم من بني جسر بن محارب سلمة بن إسماعيل أحد بني البكاء ومعه خالد
بن هوذة أحد بني الحارث بن ربيعة وعلى بني هلال بن عامر بن صعصعة ربيعة بن أبي
ظبيان بن ربيعة بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر قال فسبقت هوازن قريشا فنزلت
شمطة من عكاظ وظنوا أن كنانة لم توافهم وأقبلت قريش فنزلت من دون المسيل وجعل حرب
بني كنانة في بطن الوادي وقال لهم لا تبرحوا مكانكم ولو أبيحت قريش فكانت هوازن من
وراء المسيل قال أبو عبيدة فحدثني أبو عمرو بن العلاء قال كان ابن جدعان في إحدى
المجنبتين وفي الأخرى هشام بن المغيرة وحرب في القلب وكانت الدائرة في أول النهار
لكنانة فلما كان آخر النهار تداعت هوازن وصبروا واستحر القتل في قريش فلما رأى ذلك
بنو الحارث بن كنانة وهم في بطن الوادي مالوا إلى قريش وتركوا مكانهم فلما استحر
القتل بهم قال أبو مساحق بلعاء بن قيس لقومه ألحقو برخم وهو جبل ففعلوا وانهزم
الناس وكان رسول الله لا يصير في فئة إلا انهزم من يحاذيها فقال حرب بن أمية وعبد الله
بن جدعان ألا ترون إلى هذا الغلام ما يحمل على فئة إلا انهزمت وفي ذلك يقول خداش
بن زهير في كلمة له ( فأبلغ
إن عرضْتَ بنا هِشاما ... وعبدَ الله أبلغْ والوَليدا ) ( أولئك
إن يكن في الناس خيرٌ ... فإن لديهمُ حَسَباً وجُودا ) ( همُ
خير المعاشرِ من قريشٍ ... وأَوْرَاها إذا قُدِحت زنودا ) ( بأنّا
يومَ شَمطةَ قد أقمنا ... عمودَ المجدِ إنَّ له عمودا ) ( جلَبنا
الخيلَ ساهمةً إليهم ... عوابسَ يَدَّرِعْنَ النقَع قودا ) ( فبِتنا
نعقِدُ السِّيَما وباتوا ... وقلنا صبَّحوا الإنسَ الحديدا ) ( فجاؤوا
عارضاً بَرِداً وجئنا ... كما أضرمتَ في الغاب الوقودا ) ( ونادوا
يا لعمروٍ لا تفِرّوا ... فقلنا لا فِرارَ ولا صُدُودَا ) قوله
نعقد السيما أي العلامات ( فَعاركْنا
الكُماةَ وعاركونا ... عِراكَ النُّمْر عاركتِ الأسودا ) ( فولَّوْا
نضْربُ الهاماتِ منهم ... بما انتهكوا المحارِمَ والحُدودا ) ( تركنا
بطن شَمْطَةَ من علاءٍ ... كأَنّ خلالها معَزاً شريدا ) ( ولم
أرَ مثلَهم هُزِموا وفُلُّوا ... ولا كذِيادِنَا عَنَقاً مذودا ) قوله
يا لعمرو يعني عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة اليوم الثالث من أيام
الفجار وهو يوم العبلاء ثم كان اليوم الثالث من أيام الفجار وهو يوم العبلاء فجمع
القوم بعضهم لبعض والتقوا على قرن الحول بالعبلاء وهو موضع قريب من عكاظ ورؤساؤهم
يومئذ على ما كانوا عليه يوم شمطة وكذلك من كان على المجنبتين فاقتتلوا قتالا
شديدا فانهزمت كنانة فقال خداش بن زهير في ذلك ( ألم
يَبلغْك بالعبلاء أنّا ... ضَرَبْنا خِنْدِفاً حتى استقادوا ) ( نُبَنِّي
بالمنازل عِزَّ قيسٍ ... وودُّوا لو تَسِيخُ بنا البلادُ ) وقال
أيضا ( ألم يبلغْك ما لاقَتْ قريشٌ ...
وحيُّ بني كنانة إذ أُثيرُوا ) ( دهمناهم
بأرعَنَ مكفهرٍّ ... فظلَّ لنا بعَقْوَتِهم زئير ) ( نقوِّمُ
مارِنَ الخطِّيّ فيهم ... يجيء على أسنّتِنا الجزير ) اليوم
الرابع من أيام الفجار وهو يوم عكاظ ثم كان اليوم الرابع من أيامهم يوم عكاظ
فالتقوا في هذه المواضع على رأس الحول وقد جمع بعضهم لبعض واحتشدوا والرؤساء
بحالهم وحمل عبد الله بن جدعان يومئذ ألف رجل من بني كنانة على ألف بعير وخشيت
قريش أن يجري عليها مثل ما جرى يوم العبلاء فقيد حرب وسفيان وأبو سفيان بنو أمية
بن عبد شمس أنفسهم وقالوا لا نبرح حتى نموت مكاننا وعلى أبي سفيان يومئذ درعان قد
ظاهر بينهما وزعم أبو عمرو بن العلاء أن أبا سفيان بن أمية خاصة قيد نفسه فسمي
هؤلاء الثلاثة يومئذ العنابس وهي الأسود واحدها عنبسة فاقتتل الناس يومئذ قتالا
شديدا وثبت الفريقان حتى همت بنو بكر بن عبد مناة وسائر بطون كنانة بالهرب وكانت
بنو مخزوم تلي كنانة فحافظت حفاظا شديدا وكان أشدهم يومئذ بنو المغيرة فإنهم صبروا
وأبلوا بلاء حسنا فلما رأت ذلك بنو عبد مناة من كنانة تذامروا فرجعوا وحمل بلعاء
بن قيس وهو يقول ( إِنَّ
عُكاظَ مأوانا فخلُّوهْ ... وذا المجاز بعد أن تَحُلوهْ ) وخرج
الحليس بن يزيد أحد بني الحارث بن عبد مناة بن كنانة وهو رئيس الأحابيش يومئذ فدعا
إلى المبارزة فبرز إليه الحدثان بن سعد النصري فطعنه الحدثان فدق عضده وتحاجزا واقتتل
القوم قتالا شديدا وحملت قريش وكنانة على قيس من كل وجه فانهزمت قيس كلها إلا بني
نصر فإنهم صبروا ثم هربت بنو نصر وثبت بنو دهمان فلم يغنوا شيئا فانهزموا وكان
عليهم سبيع بن أبي ربيعة أحد بني دهمان فعقل نفسه ونادى يا آل هوازن يا آل هوازن
يا آل نصر فلم يعرج عليه أحد وأجفلوا منهزمين فكر بنو أمية خاصة في بني دهمان
ومعهم الخنيسق وقشعة الجشميان فقاتلوا فلم يغنوا شيئا فانهزموا وكان مسعود بن معتب
الثقفي قد ضرب على امرأته سبيعة بنت عبد شمس بن عبد مناف خباء وقال لها من دخله من
قريش فهو آمن فجعلت توصل في خبائها ليتسع فقال لها لا يتجاوزني خباؤك فإني لا أمضي
لك إلا من أحاط به الخباء فأحفظها فقالت أما والله إني لأظن أنك ستود أن لو زدت في
توسعته فلما انهزمت قيس دخلوا خباءها مستجيرين بها فأجار لها حرب بن أمية جيرانها
وقال لها يا عمة من تمسك بأطناب خبائك أو دار حوله فهو آمن فنادت بذلك فاستدارت
قيس بخبائها حتى كثروا جدا فلم يبق أحد لا نجاة عنده إلا دار بخبائها فقيل لذلك
الموضع مدار قيس وكان يضرب به المثل فتغضب قيس منه وكان زوجها مسعود بن معتب بن مالك
بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن قيس وهو من ثقيف قد أخرج معه يومئذ بنيه من سبيعة
وهم عروة ولوحة ونويرة والأسود فكانوا يدورون وهم غلمان في قيس يأخذون بأيديهم إلى
خباء أمهم ليجيروهم فيسودوا بذلك أمرتهم أمهم أن يفعلوا فأخبرني الحرمي والطوسي
قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الحسن عن المحرز بن جعفر وغيره أن
كنانة وقيسا لما توافوا من العام المقبل من مقتل عروة بن عتبة بن جعفر بن كلاب ضرب
مسعود الثقفي على امرأته سبيعة بنت عبد شمس أم بنيه خباء فرآها تبكي حين تدانى
الناس فقال لها ما يبكيك فقالت لما يصاب غدا من قومي فقال لها من دخل خباءك فهو
آمن فجعلت توصل فيه القطعة بعد القطعة والخرقة والشيء ليتسع فخرج وهب بن معتب حتى
وقف عليها وقال لها لا يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربطت به رجلا من بني كنانة
فلما صف القوم بعضهم لبعض خرجت سبيعة فنادت بأعلى صوتها إن وهبا يأتلي ويحلف ألا
يبقى طنب من أطناب هذا البيت إلا ربط به رجلا من كنانة فالجد الجد فلما هزمت قيس
لجأ نفر منهم إلى خباء سبيعة بنت عبد شمس فأجارهم حرب بن أمية أخبرني هاشم بن محمد
قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال لما هزمت قيس لجأت إلى خباء سبيعة حتى
أخرجوها منه فخرجت فنادت من تعلق بطنب من أطناب بيتي فهو آمن من ذمتي فداروا
بخبائها حتى صاروا حلقة فأمضى ذلك كله حرب بن أمية لعمته فكان يضرب في الجاهلية
بمدار قيس المثل ويعيرون بمدارهم يومئذ بخباء سبيعة بنت عبد شمس قال وقال ضرار بن
الخطاب الفهري قوله ( ألم
تسألِ الناسَ عن شأننا ... ولم يُثبتِ الأمرَ كالخابرِ ) ( غداةَ
عُكاظ إذا استكملَتْ ... هوازنُ في كفِّها الحاضر ) ( وجاءت
سُلَيمٌ تَهزّ القَنا ... على كل سَلْهَبةٍ ضامر ) ( وجئنا
إليهم على المضمراتِ ... بأرْعَنَ ذي لَجبٍ زَاخِرِ ) ( فلما
التقينا أذقناهمُ ... طِعاناً بِسُمْرِ القنا العائر ) ( ففرّت
سُلَيمٌ ولم يصبروا ... وطارت شَعَاعاً بنو عامر ) ( وفرت
ثقيفً إلى لاَتِها ... بمُنقَلب الخائبِ الخاسرِ ) ( وقاتلت
العَنْسُ شَطْرَ النها ... رثم تولّت مع الصادر ) ( على
أن دُهمانَها حافظت ... أخيراً لدى دارةِ الدائرِ ) وقال
خداش بن زهير ( أتتنا
قريش حافلين بجمعهم ... عليهم من الرحمن واقٍ وناصرُ ) ( فلما
دنونا للقِبابِ وأهلِها ... أُتيحَ لنا ريبٌ مع الليل ناجرُ ) ( أُتيحت
لنا بكرٌ وحول لوائها ... كتائبُ يخشاها العزيز المكاثر ) ( جئت
دونهم بكرٌ فلم تستطعهمُ ... كأنهمُ بالمشرفيَّة سامر ) ( وما
برحت خيلٌ تثور وتُدَّعى ... ويَلْحقُ منهم أولون وآخر ) ( لدن
غدوة حتى أتى وانجلى لنا ... عَمايَةُ يومٍ شرُّه متظاهر ) ( وما
زال ذاك الدأب حتى تخاذلت ... هوازنُ وارفضَّت سُلَيمٌ وعامر ) ( وكانت
قريشٌ يَفْلِقُ الصخرَ حدُّها ... إذا أوهن الناسَ الجدودُ العواثرُ ) اليوم
الخامس من حرب الفجار وهو يوم حريرة ثم كان اليوم الخامس وهو يوم الحريرة وهي حرة
إلى جانب عكاظ والرؤساء بحالهم إلا بلعاء بن قيس فإنه قد مات فصار أخوه مكانه على
عشيرته فاقتتلوا فانهزمت كنانة وقتل يومئذ أبو سفيان بن أمية وثمانية رهط من بني
كنانة قتلهم عثمان بن أسد من بني عمرو بن عامر بن ربيعة وقتل ورقاء بن الحارث أحد
بني عمرو بن عامر من بني كنانة وخمسة نفر وقال خداش بن زهير في ذلك ( لَقد
بَلَوْكُمْ فأبلَوْكمْ بلاءهم ... يوم الحُرَيرة ضرباً غيرَ تكذيبِ ) ( إن
تُوعدوني فإني لاَبْنُ عمِّكمُ ... وقد أصابوكمُ منه بشُؤْبوب ) ( وإن
ورقاءَ قد أردَى أبا كنَفٍ ... وابَنيْ إياسٍ وعمراً وابنَ أيّوب ) ( وإن
عثمانَ قد أردى ثمانيةً ... منكم وأنتم على خُبْرٍ وتجريب ) ثم
كان الرجل منهم بعد ذلك يلقى الرجل والرجلان يلقيان الرجلين فيقتل بعضهم بعضا فلقى
ابن محمية بن عبد الله الديلي زهير بن ربيعة أبا خداش فقال زهير إني حرام جئت
معتمرا فقال له ما تلقى طوال الدهر إلا قلت أنا معتمر ثم قتله فقال الشويعر الليثي
واسمه ربيعة بن علس ( تركنا
ثاوياً يزقو صداهُ ... زهيراً بالعوالي والصِّفاحِ ) ( أُتيح
له ابنُ مَحميَةَ بنِ عبدٍ ... فأعجله التسوُّم بالبطاح ) ثم
تداعوا إلى الصلح على أن يدي من عليه فضل في القتلى الفضل إلى أهله فأبى ذلك وهب
بن معتب وخالف قومه واندس إلى هوازن حتى أغارت على بني كنانة فكان منهم بنو عمرو
بن عامر بن ربيعة عليهم سلمة بن سعدي البكائي وبنو هلال عليهم ربيعة بن أبي ظبيان
الهلالي وبنو نصر بن معاوية عليهم مالك بن عوف وهو يومئذ أمرد فأغاروا على بني ليث
بن بكر بصحراء الغميم فكانت لبني ليث أول النهار فقتلوا عبيد بن عوف البكائي قتله
بنو مدلج وسبيع بن المؤمل الجسري حليف بني عامر ثم كانت على بني ليث آخر النهار
فانهزموا واستحر القتل في بني الملوح بن يعمر بن ليث وأصابوا نعما ونساء حينئذ
فكان ممن قتل في حروب الفجار من قريش العوام بن خويلد قتله مرة بن معتب وقتل حزام
بن خويلد وأحيحة بن أبي أحيحة ومعمر بن حبيب الجمحي وجرح حرب بن أمية وقتل من قيس
الصمة أبو دريد بن الصمة قتله جعفر بن الأحنف اجتماع القبائل على الصلح ثم تراضوا
بأن يعدوا القتلى فيدوا من فضل فكان الفضل لقيس على قريش وكنانة فاجتمعت القبائل
على الصلح وتعاقدوا ألا يعرض بعضهم لبعض فرهن حرب بن أمية ابنه أبا سفيان بن حرب
ورهن الحارث بن كلدة العبدي ابنه النصر ورهن سفيان بن عوف أحد بني الحارث بن عبد
مناة ابنه الحارث حتى وديت الفضول ويقال إن عتبة بن ربيعة تقدم يومئذ فقال يا معشر
قريش هلموا إلى صلة الأرحام والصلح قالوا وما صلحكم هنا فإنا موتورون فقال على أن
ندي قتلاكم ونتصدق عليكم بقتلانا فرضوا بذلك وساد عتبة مذ يومئذ قال فلما رأت
هوازن رهائن قريش بأيديهم رغبوا في العفو فأطلقوهم النبي شهد الفجار إلا يوم نحلة
قال أبو عبيدة ولم يشهد الفجار من بني هاشم غير الزبير بن عبد المطلب وشهد النبي
وآله سائر الأيام إلا يوم نخلة وكان يناول عمه وأهله النبل قال وشهدها وهو ابن
عشرين سنة وطعن النبي وآله أبا براء ملاعب الأسنة وسئل وآله عن مشهده يومئذ فقال
ما سرني أني لم أشهده إنهم تعدوا على قومي عرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض
صاحبهم فأبوا قال وكان الفضل عشرين قتيلا من هوازن فوادهم حرب بن أمية فيما تروي
قريش وبنو كنانة تزعم أن القتلى الفاضلين قتلاهم وأنهم هم ودوهم وزعم قوم من قريش
أن أبا طالب وحمزة والعباس بني عبد المطلب عليهما السلام شهدوا هذه الحروب ولم يرد
ذلك أهل العلم بأخبار العرب قال أبو عبيدة ولما انهزمت قيس خرج مسعود بن معتب لا
يعرج على شيء حتى أتى سبيعة بنت عبد شمس زوجته فجعل أنفه بين ثدييها وقال أنا
بالله وبك فقالت كلا زعمت أنك ستملأ بيتي من أسرى قومي اجلس فأنت آمن أميمة ترثي
قومها وقالت أميمة بنت عبد شمس ترثي ابن أخيها أبا سفيان بن أمية ومن قتل من قومها
والأبيات التي فيها الغناء منها ( أبى
لَيلُكَ لا يذهبْ ... ونِيط الطَّرفُ بالكوكبْ ) ( ونجم
دونه الأهْوال ... ُ بين الدَّلو والعقربْ ) ( وهذا
الصبحُ لا يأتي ... ولا يدنو ولا يقربْ ) ( بعَقرِ
عشيرةٍ منّا ... كرام الخِيم والمنصِبْ ) ( أَحالَ
عليهمُ دهرٌ ... حديدُ النّاب والمِخلبْ ) ( فحلَّ
بهم وقد أمِنوا ... ولم يُقْصرْ ولم يَشْطُبْ ) ( وما
عَنْهُ إذا ما حلّ ... من مَنجًى ولا مَهربْ ) ( ألا
يا عينُ فابكيِهم ... بدمعٍ منك مستغْرِبْ ) ( فإن
أبكِ فهم عِزّي ... وهم ركني وهم مَنكِبْ ) ( وهم
أصلي وهم فرعي ... وهم نسبي إذا أُنْسَبْ ) ( وهم
مجدِي وهم شرفِي ... وهم حِصنِي إذا أرْهَبْ ) ( وهم
رُمحِي وهم تُرسي ... وهم سيفي إذا أغضبْ ) ( فكم
من قائلٍ منهم ... إذا ما قال لا يكذِبْ ) ( وكم
من ناطقٍ فيهم ... خطيبٍ مِصقَعٍ مُعْرِبْ ) ( وكم
من فارسٍ فيهم ... كمِيٍّ مُعْلَمٍ مِحْرَب ) ( وكم
من مِدرَةٍ فيهم ... أريبٍ حُوَّل قُلَّبْ ) ( وكم
من جَحفلٍ فيهم ... عظيمِ النّار والموكِبْ ) ( وكم
من خِضْرمٍ فيهم ... نجيبٍ ماجد مُنجِبْ ) صوت
( أُحِبُّ هبوطَ الواديين وإنني ... لمشتهرٌ بالواديين غريبُ ) ( أحقاًّ
عبادَ الله أَنْ لستُ خارجاً ... ولا والجاً إلا عليّ رقيبُ ) ( ولا
زائراً فرداً ولا في جماعة ... من الناس إلا قيل أنت مُرِيبُ ) ( وهل
ريبةٌ في أن تحِنَّ نَجِيبةٌ ... إلى إلفها أو أن يَحِنّ نَجيبُ ) الشعر
فيما ذكره أبو عمرو الشيباني في أشعار بني جعدة وذكره أبو الحسن المدائني في أخبار
رواها لمالك بن الصمصامة الجعدي ومن الناس من يرويه لابن الدمينة ويدخله في قصيدته
التي على هذه القافية والروي والغناء لإسحاق هزج بالبنصر عن عمرو أخبار مالك ونسبه
هو مالك بن الصمصامة بن سعد بن مالك أحد بني جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن
صعصعة شاعر بدوي مقل كان يهوى جنوب بنت محصن الجعدية أخبرني بخبره هاشم بن محمد
الخزاعي ومحمد بن خلف بن المرزبان قالا أخبرنا أحمد بن الحارث الخزاز عن المدائني
ونسخت خبره أيضا من كتاب أبي عمرو الشيباني قالوا كان مالك بن الصمصامة الجعدي فارسا
شجاعا جوادا جميل الوجه وكان يهوى جنوب بنت محصن الجعدية وكان أخوها الأصبغ بن
محصن من فرسان العرب وشجعانهم وأهل النجدة والبأس منهم فنمى إليه نبذ من خبر مالك
فآلى يمينا جزما لئن بلغه أنه عرض لها أوزارها ليقتلنه ولئن بلغه أنه ذكرها في شعر
أو عرض بها ليأسرنه ولا يطلقه إلا أن يجز ناصيته في نادي قومه فبلغ ذلك مالك بن الصمصامة
فقال ( إذا شئتَ فاقرِنِّي إلى جَنْب
عيهبٍ ... أجبَّ ونِضوي للقلوص جنيب ) ( فما
الحلْق بعد الأسر شرٌّ بَقِيةً ... من الصَّدّ والهِجران وهي قريب ) ( ألا
أيها الساقي الذي بلّ دَلوَه ... بقُريان يَسْقِي هل عليك رقيبُ ) ( إذا
أنتَ لم تشرب بقُريان شربةً ... وحانيةِ الجدران ظَلْتَ تَلوب ) ( أحبّ
هبوطَ الواديين وإنني ... لمشتهر بالواديين غريب ) ( أحقًّا
عِبادَ الله أنْ لستُ خارجاً ... ولا والجا إلا عليَّ رقيب ) ( ولا
زائراً وحدي ولا في جماعةٍ ... من الناس إلا قيل أنتَ مُريبُ ) ( وهل
ريبة في أن تَحِنَّ نجيبةٌ ... إلى إلفها أو أن يحِنَّ نجيب ) كان
يراها ولا يستطيع مخاطبتها وقال أبو عمرو خاصة حدثنا فتيان من بني جعدة أنها أقبلت
ذات يوم وهو جالس في مجلس فيه أخوها فلما رآها عرفها ولم يقدر على الكلام بسبب
أخيها فأغمي عليه وفطن أخوها لما به فتغافل عنه وأسنده بعض فتيان العشيرة إلى صدره
فما تحرك ولا أحار جوابا ساعة من نهاره وانصرف أخوها كالخجل فلما أفاق قال ( ألَمَّتْ
فما حيّت وعاجتْ فأسرعت ... إلى جرعة بين المخارم فالنّحر ) ( خليليَّ
قد حانَتْ وفاتِيَ فاحفِروا ... برابيةٍ بين المخافر والبُتر ) ( لكيما
تقول العبدليَّةُ كلما ... رأت جدثي سُقِّيت يا قبرُ من قبر ) وقال
المدائني في خبره انتجع أهل بيت جنوب ناحية حسي والحمى وقد أصابها الغيث فأمرعت
فلما أرادوا الرحيل وقف لهم مالك بن الصمصامة حتى إذا بلغته جنوب أخذ بخطام بعيرها
ثم أنشأ يقول ( أَريْتُكِ
إن أزمعتمُ اليوم نِيَّةً ... وغالكِ مُصطافُ الحِمى ومرابعُه ) ( أترعَيْن
ما استُودِعْتِ أم أنتِ كالذي ... إذا ما نأى هانت عليه ودَائعُهُ ) فبكت
وقالت بل أرعى والله ما استودعت ولا أكون كمن هانت عليه ودائعه فأرسل بعيرها وبكى
حتى سقط مغشيا عليه وهي واقفة ثم أفاق وقام فانصرف وهو يقول ( ألاَ
إنَّ حِسْياً دونه قُلَّةُ الحِمى ... مُنَى النفس لو كانت تُنال شرائعهُ ) ( وكيف
ومِن دونِ الورودِ عوائقٌ ... وأصبغُ حامي ما أُحِبُّ ومانعُه ) ( فلا
أنا فيما صدَّني عنه طامعٌ ... ولا أرتجي وصلَ الذي هو قاطعه ) صوت
( يا دارَ هنْدٍ عفاها كلُّ هطّالِ ... بالخَبتِ مثلُ سحيقِ اليَمْنَة البَالي ) ( أربَّ
فيها وليٌّ ما يغَيِّرها ... والريحُ مما تعفِّيها بأذيال ) ( دارٌ
وقفتُ بها صَحبيِ أُسائلها ... والدمع قد بلَّ مني جّيْبَ سِرْبالي ) ( شوقاً
إلى الحيِّ أيامَ الجميعُ بها ... وكيف يطربُ أو يشتاق أمثالي ) قوله
أرب فيها أي أقام فيها وثبت والولي الثاني من أمطار السنة أولها الوسمي والثاني
الولي ويروى ( جرت
عليها رياح الصيف فاطَّرقت ... ) واطرقت
تلبدت الشعر لعبيد بن الأبرص والغناء لإبراهيم هزج بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن
إسحاق وفيه لابن جامع رمل بالوسطى وقد نسب لحنه هذا إلى إبراهيم ولحن إبراهيم إليه
أخبار عبيد بن الأبرص ونسبه قال أبو عمرو الشيباني هو عبيد بن الأبرص بن حنتم بن
عامر بن مالك بن زهير بن مالك بن الحارث بن سعد بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة
بن مدركة بن إلياس بن مضر شاعر فحل فصيح من شعراء الجاهلية وجعله ابن سلام في
الطبقة الرابعة من فحول الجاهلية وقرن به طرفة وعلقمة بن عبدة وعدي بن زيد أخبرنا
أبو خليفة عن محمد بن سلام قال عبيد بن الأبرص قديم الذكر عظيم الشهرة وشعره مضطرب
ذاهب لا أعرف له إلا قوله في كلمته ( أَقْفَرَ
من أَهْلِهِ مَلْحُوبُ ) ولا
أدري ما بعد ذلك اتهم بأخته ماوية أخبرنا عبد الله بن مالك النحوي الضرير قال
حدثنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني قالا كان من حديث عبيد بن
الأبرص أنه كان رجلا محتاجا ولم يكن له مال فأقبل ذات يوم ومعه غنيمة له ومعه أخته
ماوية ليوردا غنمها الماء فمنعه رجل من بني مالك بن ثعلبة وجبهه فانطلق حزينا
مهموما للذي صنع به المالكي حتى أتى شجرات فاستظل تحتهن فنام هو وأخته فزعموا أن
المالكي نظر إليه وأخته إلى جنبه فقال ( ذاك
عبيدٌ قد أصاب مَيّا ... يا ليتَه ألقحها صبيًّا ) ( فحملت
فوضعت ضاوياًّ ... ) فسمعه
عبيد فرفع يديه ثم ابتهل فقال اللهم إن كان فلان ظلمني ورماني بالبهتان فأدلني منه
أي اجعل لي منه دولة وانصرني عليه ووضع رأسه فنام ولم يكن قبل ذلك يقول الشعر فذكر
أنه أتاه آت في المنام بكبة من شعر حتى ألقاها في فيه ثم قال قم فقام وهو يرتجز
يعني بني مالك وكان يقال لهم بنو الزنية يقول ( أيا
بني الزِّنْية ما غرّكمُ ... فلكُم الويلُ بسربال حَجَرْ ) ثم
استمر بعد ذلك في الشعر وكان شاعر بني أسد غير مدافع امرؤ القيس يرفض دية أبيه
ويهدد بني أسد فينشد عبيد بن الأبرص أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو
غسان دماذ عن أبي عبيدة قال اجتمعت بنو أسد بعد قتلهم حجر بن عمرو والد امرئ القيس
إلى امرئ القيس ابنه على أن يعطوه ألف بعير دية أبيه أو يقيدوه من أي رجل شاء من
بني أسد أو يمهلهم حولا فقال أما الدية فما ظننت أنكم تعرضونها على مثلي وأما
القود فلو قيد إلي ألف من بني أسد ما رضيتهم ولا رأيتهم كفؤا لحجر وأما النظرة فلكم
ثم ستعرفونني في فرسان قحطان أحكم فيكم ظبا السيوف وشبا الأسنة حتى أشفي نفسي
وأنال ثأري فقال عبيد بن الأبرص في ذلك صوت ( يا ذا المُخوِّفُنا بقتل ... ِ أبيه
إذلالا وحَيْنا ) ( أزعمتَ
أنك قد قَتلْتَ ... سَراتنا كذِباً وميْنا ) ( هلاَّ
على حُجْرِ ابن أمم ... ِ قطامِ تبكي لا علينا ) ( إنَّا
إذا عَضَّ الثِّقاف ... ُ برأس صَعْدتِنا لَوَيْنا ) ( نحمي
حقيقتنا وبعضُ ... الناس يسقط بين بينا ) ( هلاَّ
سألتَ جموع كِندةَ ... يوم وَلَّوْا أين أينا ) الغناء
لحنين رمل في مجرى الوسطى مطلق عن الهشامي وفيه ليحيى المكي خفيف ثقيل قال وتمام
هذه الأبيات ( أيامَ
نضربُ هامَهم ... ببواترٍ حتى انحنينا ) ( وجموعَ
غسَّانَ الملوك ... أتينَهم وقد انطويْنا ) ( لُحُقاً
أياطِلُهنّ قد ... عالجن أسفاراً وأينا ) والأياطل
الخواصر أي هن ضوامرها ( نحن
الأُلَى فاجمع جمو ... عَك ثم وجِّههم إلينا ) ( واعلمْ
بأنّ جِيادَنا ... آليْنَ لا يقضِين دينا ) ( ولقد
أبَحْنَا ما حَميتَ ... ولا مُبيحَ لما حَمينا ) ( هذا
ولو قَدَرَتْ عليكَ ... رماحُ قومي ما انتهينا ) ( حتى
تنوشَك نَوْشَةً ... عاداتِهنَّ إذا انتويْنا ) ( نُغْلي
السِّباءَ بكل عاتقة ... ٍ شمولٍ ما صَحْونا ) ( ونُهِينُ
في لذّاتنا ... عُظْمَ التّلاد إذا انتشينا ) ( لا
يبلُغ الباني ولو ... رفعَ الدّعائمَ ما بَنَيْنا ) ( كم
من رئيسٍ قد قتلناهُ ... وضَيمٍ قدْ أبينا ) ( ولربَّ
سَيِّدِ معشرٍ ... ضخمِ الدّسيعة قد رمينا ) ( عِقْبانُه
بظلالِ عِقبانٍ ... تُتَمِّمُ ما نوينا ) ( حتى
تركنا شِلوَه ... جَزَرَ السّباع وقد مضينا ) ( إنّا
لعمرُك ما يُضامُ ... حليفُنا أبداً لدينا ) ( وأوانِس
مثلِ الدُّمى ... حُورِ العيون قد استبينا ) وفاء
ثعبان له وقرأت في بعض الكتب عن ابن الكلبي عن أبيه وهو خبر مصنوع يتبين التوليد
فيه أنَّ عبيدَ بن الأبرص سافر في ركب من بني أسد فبيناهم يسيرون إذا هم بشجاع
يتمعك على الرمضاء فاتحا فاه من العطش وكانت مع عبيد فضلة من ماء ليس معه ماء غيرها
فنزل فسقاه الشجاع عن آخره حتى روي وانتعش فأنساب في الرمل فلما كان من الليل ونام
القوم ندت رواحلهم فلم ير لشيء منها أثر فقام كل واحد يطلب راحلته فتفرقوا فبينا
عبيد كذلك وقد أيقن بالهلكة والموت إذا هو بهاتف يهتف به ( يا
أَيُّها الساري المضِلُّ مذهبُهْ ... دونكَ هذا البَكَر منّا فاركبه ) ( وبكْرُكَ
الشارد أيضاً فاجنبُهْ ... حتى إذا الليلُ تَجَلّى غيهبه ) ( فَحُطّ
عنه رحلَه وسَيّبُه ... ) فقال
له عبيد يا هذا المخاطب نشدتك الله إلا أخبرتني من أنت فأنشأ يقول ( أنا
الشّجاع الذي ألفيْتَه رَمِضاً ... في قفرةٍ بين أحجارٍ وأعقادِ ) ( فَجُدْتَ
بالماء لما ضَنَّ حامُله ... وزِدتَ فيه ولم تبخل بإِنكادِ ) ( الخيرُ
يبقى وإن طال الزمانُ به ... والشرُّ أخبثُ ما أوْعيتَ من زادِ ) فركب
البكر وجنب بكره وسار فبلغ أهله مع الصبح فنزل عنه وحل رحله وخلاه فغاب عن عينه
وجاء من سلم من القوم بعد ثلاث كان للمنذر بن ماء السماء يومان أخبرني محمد بن
عمران المؤدب وعمي قالا حدثنا محمد بن عبيد قال حدثني محمد بن يزيد بن زياد الكلبي
عن الشرقي بن القطامي قال كان المنذر بن ماء السماء قد نادمه رجلان من بني أسد
أحدهما خالد بن المضلل والآخر عمرو بن مسعود بن كلدة فأغضباه في بعض المنطق فأمر
بأن يحفر لكل واحد حفيرة بظهر الحيرة ثم يجعلا في تابوتين ويدفنا في الحفرتين ففعل
ذلك بهما حتى إذا أصبح سأل عنهما فأخبر بهلاكهما فندم على ذلك وغمه وفي عمرو بن مسعود
وخالد بن المضلل الأسديين يقول شاعر بني أسد ( يا
قبرُ بينَ بيوتٍ آل محرِّقٍ ... جادت عليك رواعدٌ وبروقُ ) ( أمّا
البكاءُ فقلَّ عنك كثيرُه ... ولئن بُكِيتَ فَللْبُكاء خَليق ) ثم
ركب المنذر حتى نظر إليهما فأمر ببناء الغريين عليهما فبنيا عليهما وجعل لنفسه
يومين في السنة يجلس فيهما عند الغريين يسمى أحدهما يوم نعيم والآخر يوم بؤس فأول
من يطلع عليه يوم نعيمه يعطيه مائة من الإبل شوما أي سودا وأول من يطلع عليه يوم
بؤسه يعطيه رأس ظربان أسود ثم يأمر به فيذبح ويغرى بدمه الغريان فلبث بذلك برهة من
دهره عبيد يقتل في يوم البؤس ثم إن عبيد بن الأبرص كان أول من أشرف عليه في يوم بؤسه
فقال هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد فقال أتتك بحائن رجلاه فأرسلها مثلا فقال له
المنذر أو أجل بلغ إناه فقال له المنذر أنشدني فقد كان شعرك يعجبني فقال عبيد حال
الجريض دون القريض وبلغ الحزام الطبيين فأرسلها مثلا فقال له النعمان أسمعني فقال المنايا
على الحوايا فأرسلها مثلا فقال له آخر ما أشد جزعك من الموت فقال لا يرحل رحلك من
ليس معك فأرسلها مثلا فقال له المنذر قد أمللتني فأرحني قبل أن آمر بك فقال عبيد
من عز بز فأرسلها مثلا فقال المنذر أنشدني قولك ( أقفرَ
مِن أهله مَلحوبُ ... ) فقال
عبيد صوت ( أقفر من أهله عَبِيدُ ... فليس يُبدِي ولا يُعِيدُ ) ( عَنتْ
له عَنَّةٌ نكُودٌ ... وحان منها له ورودُ ) فقال
له المنذر يا عبيد ويحك أنشدني قبل أن أذبحك فقال عبيد ( والله
إن مِتُّ لما ضرّني ... وإن أعشْ ما عشتُ في واحدَه ) فقال
المنذر إنه لا بد من الموت ولو أن النعمان عرض لي في يوم بؤس لذبحته فاختر إن شئت
الأكحل وإن شئت الأبجل وإن شئت الوريد فقال عبيد ثلاث خصال كسحابات عاد واردها شر
وراد وحاديها شر حاد ومعادها شر معاد ولا خير فيه لمرتاد وإن كنت لا محالة قاتلي
فاسقني الخمر حتى إذا ماتت مفاصلي وذهلت لها ذواهلي فشأنك وما تريد فأمر المنذر
بحاجته من الخمر حتى إذا أخذت منه وطابت نفسه دعا به المنذر ليقتله فلما مثل بين
يديه أنشأ يقول ( وخيّرني
ذُو البؤس في يوم بؤسه ... خِصالاً أرى في كلها الموتَ قد بَرَقْ ) ( كما
خُيِّرت عادٌ من الدهر مَرّةً ... سحائبَ ما فيها لذي خِيرة أنَقْ ) ( سحائب
ريح لم تُوكَّل ببلدةٍ ... فتتركها إلا كما ليلةِ الطَّلَق ) فأمر
به المنذر ففصد فلما مات غري بدمه الغريان خبر الطائي الذي يرمز إلى وفاء العرب
بالعهد فلم يزل كذلك حتى مر به رجل من طيىء يقال له حنظلة بن أبي عفراء أو ابن أبي
عفر فقال له أبيت اللعن والله ما أتيتك زائرا ولأهلي من خيرك مائرا فلا تكن ميرتهم
قتلى فقال لا بد من ذلك فاسأل حاجة أقضينها لك فقال تؤجلني سنة أرجع فيها إلى أهلي
وأحكم من أمرهم ما أريد ثم أصير إليك فأنفذ في حكمك فقال ومن يكفل بك حتى تعود
فنظر في وجوه جلسائه فعرف منهم شريك بن عمرو أبا الحوفزان بن شريك فأنشد يقول ( يا
شريكٌ يا بنَ عمروٍ ... ما من الموت مَحالَهْ ) ( يا
شريكٌ يا بنَ عمرو ... يا أخا من لا أخالهْ ) ( يا
أخا شَيْبان فُكَّ اليوم ... رهنا قد أناله ) ( يا
أخا كلِّ مُضافٍ ... وحيَا مَنْ لا حَيَا له ) ( إنّ
شَيْبانَ قبيلٌ ... أكرمَ اللهُ رجالَهْ ) ( وأبوك
الخيرُ عمروٌ ... وشراحيلُ الحَمَا لَهْ ) ( رَقيَّاك
اليوم في المجد ... وفي حُسنِ المقالَهْ ) فوثب
شريك وقال أبيت اللعن يدي بيده ودمي بدمه إن لم يعد إلى أجله فأطلقه المنذر فلما
كان من القابل جلس في مجلسه ينتظر حنظلة أن يأتيه فأبطأ عليه فأمر بشريك فقرب
ليقتله فلم يشعر إلا براكب قد طلع عليهم فتأملوه فإذا هو حنظلة قد أقبل متكفنا متحنطا
معه نادبته تندبه وقد قامت نادبة شريك تندبه فلما رآه المنذر عجب من وفائهما
وكرمهما فأطلقهما وأبطل تلك السنة خبر آخر عن مقتل عبيد بن الأبرص أخبرني الحسن بن
علي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن هشام بن الكلبي قال
كان من حديث عبيد بن الأبرص وقتله أن المنذر بن ماء السماء بنى الغريين فقيل له ما
تريد إليهما وكان بناهما على قبري رجلين من بني أسد كانا نديميه أحدهما خالد بن
المضلل الفقعسي والآخر عمرو بن مسعود فقال ما أنا بملك إن خالف الناس أمري لا يمرن
أحد من وفود العرب إلا بينهما وكان له يومان في السنة يوم يسميه يوم النعيم ويوم
يسميه يوم البؤس فإذا كان في يوم نعيمه أتي بأول من يطلع عليه فحباه وكساه ونادمه
يومه وحمله فإذا كان يوم بؤسه أتي بأول من يطلع عليه فأعطاه رأس ظربان أسود ثم أمر
به فذبح وغري بدمه الغريان فبينا هو جالس في يوم بؤسه إذ أشرف عليه عبيد فقال لرجل
كان معه من هذا الشقي فقال له هذا عبيد بن الأبرص الأسدي الشاعر فأتي به فقال له الرجل
الذي كان معه اتركه أبيت اللعن فإني أظن أن عنده من حسن القريض أفضل مما تدرك في
قتله فاسمع منه فإن سمعت حسنا استزدته وإن لم يعجبك فما أقدرك على قتله فإذا نزلت
فادع به قال فنزل وطعم وشرب وبينه وبين الناس حجاب ستر يراهم منه ولا يرونه فدعا
بعبيد من وراء الستر فقال له رديفه هلا كان الذبح لغيرك يا عبيد فقال أتتك بحائن رجلاه
فأرسلها مثلا فقال ما ترى يا عبيد قال أرى الحوايا عليها المنايا فقال فهل قلت
شيئا فقال حال الجريض دون القريض فقال أنشدني ( أقفرَ
من أهلِه مَلحوب ... ) فقال
( أقْفَرَ من أَهله عبيدُ ... فليس
يُبدي ولا يعيدُ ) ( عنَّت
له خُطَّةٌ نكودُ ... وحان منها له ورودُ ) فقال
أنشدنا ( هِيَ الخمر تُكنى بأمِّ الطِّلىَ
... كما الذئبُ يُكنى أبا جَعْدَه ) وأبى
أن ينشدهم شيئا مما أرادوا فأمر به فقتل فأما خبر عمرو بن مسعود وخالد بن المضلل
ومقتلهما فإنهما كانا نديمين للمنذر بن ماء السماء فيما ذكره خالد بن كلثوم
فراجعاه بعض القول على سكره فغضب فأمر بقتلهما وقيل بل دفنهما حيين فلما أصبح سأل
عنهما فأخبر خبرهما فندم على فعله فأمر بإبل فنحرت على قبريهما وغري بدمائها
قبراهما إعظاما لهما وحزن عليهما وبنى الغريين فوق قبريهما وأمر فيهما بما قدمت
ذكره من أخبارهما فقالت نادبة الأسديين ( ألا
بَكرَ الناعي بخير بني أسدْ ... بعمرِو بن مسعودٍ وبالسيّد الصَّمَدْ ) وقال
بعض شعراء بني أسد يرثي خالد بن المضلل وعمرو بن مسعود وفيه غناء صوت ( يا قبرُ
بينَ بيوتِ آل مُحرّقٍ ... جادت عليك رواعدٌ وبروقُ ) ( أمّا
البُكاءُ فقلّ عنك كثيرُهُ ... ولئن بُكِيتَ فبِالبِكاء خليقُ ) الغناء
لابن سريج ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى من جامع أغانيه ومما يغنى به أيضا من شعر
عبيد صوت ( طاف الخيال علينا ليلةَ الوادي ...
من أمِّ عمرو ولم يُلْمِمْ لميعادِ ) ( أنيَّ
اهتديت لِركبٍ طال سيرهمُ ... في سَبْسَبٍ بين دَكْداكٍ وأعقاد ) ( اذهب
إليك فإني من بني أسد ... أهلِ القباب وأهل الجودِ والنَّادي ) الغناء
للغريض ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه ثقيل أول بالوسطى ذكر
الهشامي أنه لأبي زكار الأعمى وذكر حبش أنه لابن سريج وفي هذه القصيدة يقول يخاطب
حجر بن الحارث أبا امرئ القيس وكان حجر يتوعده في شيء بلغه عنه ثم استصلحه فقال
يخاطبه ( أبلغ أبَا كَرِبٍ عنّي وإخوتَه ...
قولاً سيذهب غَوْراً بعد إنجادِ ) ( لا
أعرفنَّك بعد الموت تَندُبني ... وفي حياتيَ ما زودّتني زادي ) ( إنَّ
أمامَك يوماً أنتَ مدركُهُ ... لا حاضرٌ مفلِتٌ منه ولا بادي ) ( فانظر
إلى ظلّ مُلْكٍ أنْت تاركُهُ ... هل تُرسِيَنَّ أواخيه بأوتاد ) ( الخيرُ
يبقى وإن طال الزمانُ به ... والشَّرّ أخبث ما أوعيتَ من زاد ) عمر
بن الخطاب يبكي مع نساء بني مخزوم خالد بن الوليد أخبرنا عيسى بن الحسين قال حدثنا
أحمد بن الحارث الخزاعي عن المدائني عن أبي بكر الهذلي قال سمع عمر بن الخطاب نساء
بني مخزوم يبكين على خالد بن الوليد فبكى وقال ليقل نساء بني مخزوم في أبي سليمان
ما شئن فإنهن لا يكذبن وعلى مثل أبي سليمان تبكي البواكي فقال له طلحة بن عبيد
الله إنك وإياه لكما قال عبيد بن الأبرص ( لا
أُلْفِيَنَّك بعدَ الموتِ تندُبني ... وفي حياتيَ ما زوّدتني زادي ) أخبرني
عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله الغبدي قال حدثني
سيف الكاتب قال وليت ولاية فمررت بصديق لي في بعض المنازل فنزلت به قال فنلنا من
الطعام والشراب ثم غلب علينا النبيذ فنمنا فانتبهت من نومي فإذا أنا بكلب قد دخل على
كلب الرجل فجعل يبش به ويسلم عليه لا أنكر من كلامهما شيئا ثم جعل الكلب الداخل
عليه يخبره عن طريقه بطول سفره وقال له هل عندك شيء تطعمنيه قال نعم قد بقي لهم في
موضع كذا وكذا طعام وليس عليه شيء فذهبا إليه فكأني أسمع ولوغهما في الإناء حتى
أكلا ما كان هناك فيه ثم سأله نبيذا فقال نعم لهم نبيذ في إناء آخر ليس له غطاء فذهبا
إليه فشربا ثم قال له هل تطربني بشيء قل إي وعيشك صوت كان أبو يزيد يغنيه فيجيده
ثم غناه في شعر عبيد بن الأبرص صوت ( طاف
الخيالُ علينا ليلةَ الوادي ... لآل أسماءَ لم يُلمِمْ لميعادِ ) ( أنىَّ
اهتديت لركبٍ طال سيرهُم ... في سَبسبٍ بين دكَدْاكٍ وأعقادِ ) قال
فلم يزل يغنيه هذا الصوت ويشربان مليا حتى فني ذلك النبيذ ثم خرج الكلب الداخل فخفت
والله على نفسي أن أذكر ذلك لصاحب المنزل فأمسكت وما أذكر أني سمعت أحسن من ذلك
الغناء ومما يغني فيه من شعره قوله صوت ( لمن
جِمالٌ قُبيلَ الصّبح مزمُومَه ... ميمِّماتٌ بلاداً غيرَ معلومه ) ( فيهنّ
هندٌ وقد هام الفؤاد بها ... بيضاءُ آنسةٌ بالحسن موسومهْ ) الغناء
لابن سريج رمل عن يونس والهشامي وحبش ومنها قوله صوت ( دَرَّ دَرُّ الشباب
والشعَرِ الأسود ... والضَّامراتِ تحت الرِّحالِ ) ( فالخناذيذِ
كالقداحِ من الشّوحط ... يحملن شِكّة الأبطال ) ( ليس
رسمٌ على الدّفين ببالٍ ... فَلِوَى ذرْوةٍ فَجَنْبيْ أُثَال ) ( تلك
عَرسي قد عيّرتني خِلالي ... ألِبينٍ تريد أم لدلالِ ) الغناء
لطويس خفيف رمل لا شك فيه وفيه ثقيل أول ذكر علي بن يحيى أنه لطويس أيضا ووجدته في
صنعة عبد العزيز بن عبد الله بن طاهر وفي الثالث والرابع من الأبيات لدلال خفيف
رمل بالبنصر عن عبد الله بن موسى والهشامي صوت ( لمن
الدّيارُ كأنها لم تُحْلَلِ ... بجنوبِ أسنمةٍ فَقُفِّ العُنْصُلِ ) ( دَرَسَتْ
معالُمها فباقي رَسْمِها ... خَلَقٌ كعنوان الكتاب المُحْولِ ) ( دارٌ
لسُعدي إذ سعادٌ كأنها ... رشأ غضيضُ الطّرف رَخْصُ المِفْصل ) عروضه
من الكامل جنوب أسنمة أودية معروفة والقف الكثيب من الرمل ليس بالمشرف ولا الممتد
والعنصل بصل معروف الشعر لربيعة بن مقروم الضبي والغناء فيه لسياط هزج بالبنصر عن
الهشامي أخبار ربيعة بن مقروم ونسبه هو ربيعة بن مقروم الضبي بن قيس بن جابر بن خالد
بن عمرو بن عبد الله بن السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد بن طابخة بن
إلياس بن مضر بن نزار شاعر إسلامي مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وكان ممن أصفق
عليه كسرى ثم عاش في الإسلام زمانا هجوه ضابئ بن الحارث قال أبو عمرو الشيباني كان
ربيعة بن مقروم باع عجرد بن عبد عمرو بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن درام لقحة
إلى أجل فلما بايعه وجد ابن مقروم ضابئ بن الحارث عند عجرد وقد نهاه عن إنظاره
بالثمن فقال ابن مقروم يعرض بضابئ إنه أعان عليه وكان ضلعه معه ( أَعَجْرُ
ابن المليحة إنَّ همّي ... إذا ما لَجّ عُذاَّلي لَعَان ) قوله
لعان أي عان من العناء عناني الشيء يعنيني وهو لي عان ( يَرى
مالا أرى ويقول قولاً ... وليس على الأمور بمستعان ) ( ويحلِف
عند صاحبه لَشاةٌ ... أحبُّ إليَّ من تلك الثّمان ) ( وحامل
ضبّ ضِغنٍ لم يَضِرْني ... بعيدٍ قلبُه حلوِ اللسان ) ( ولو
أني أشاء نقَمتُ منه ... بِشَغْبٍ من لسانٍ تَيِّحان ) ( ولكني
وصلتُ الحبل منه ... مواصلة بحبلِ أبي بيان ) ( ترفَّع
في بني قَطَنٍ وحلّت ... بيوتَ المجد يبنيهن باني ) يعني
حلت بنو قطن بيوت المجد ( وضَمرة
إن ضمرةَ خيرُ جارٍ ... إلى قطن بأسبابِ مِتانِ ) ( هجانُ
الحيِّ كالذهب المصفّى ... صبيحةَ ديمةٍ يجنيه جان ) قال
أبو عمرو الذهب في معدنه إذا جاءه المطر ليلا لاح من غد عند طلوع الشمس فيتتبع
ويؤخذ مدحه مسعود بن سالم الذي خلصه من الأسر قال أبو عمرو وأسر ربيعة بن مقروم واستيق
ماله فتخلصه مسعود بن سالم بن أبي سلمى بن ذبيان بن عامر بن ثعلبة بن ذؤيب بن
السيد فقال ربيعة بن مقروم فيه قوله ( كَفَانِي
أبو الأشوسِ المنكراتِ ... كفاهُ الإلهُ الذي يَجْذَرُ ) ( أعزُّ
من السِّيدِ في منصِبٍ ... إليه العَزازة والمفخرُ ) وقال
يمدحه أيضا ( بَانَ
الخليطُ فأمسى القلب معموداً ... وأخلفْتك ابنةُ الحرِّ المواعيدا ) ( كأنها
ظبيةٌ بِكْرٌ أطاع لها ... من حَوملٍ تَلعَاتُ الحيِّ أو أُودا ) ( قامت
تريك غداةَ البين مُنسدِلاً ... تجللت فوق متنيها العناقيدا ) ( وبارداً
طَيِّباً عذباً مَذاقتُه ... شربتُه مَزِجاً بالظلم مشهودا ) ( وجَسْرةٍ
أُجُد تَدمَى مناسمُهَا ... أعْمَلتُهَا بِيَ حَتى تَقطعَ البيدا ) ( كلّفتُها
فأتى حتماً تكلُّفها ... ظهيرةً كأجيج النار صَيخودا ) ( في
مهمةٍ قُذُفٍ يُخشَى الهلاكُ به ... أصداؤُه لا تَنِي بالليل تغريدا ) ( لمّا
تشكّت إليّ الأينَ قلتُ لها ... لا تستريحِنَّ ما لم ألق مسعودا ) ( ما
لم ألاقِ امرأً جَزْلاً مواهبُه ... رحبُ الفِنَاء كريمَ الفِعْل محمُودا ) ( وقد
سمعتُ بقوم يُحمَدون فلم ... أسمع بمثلِك لا حِلْماً ولا جودا ) ( ولا
عفافاً ولا صبراً لنائبة ... ولا أُخَبِّرُ عنك الباطلَ السِّيدا ) السيد
قبيل الممدوح من آل ضبة ( لا
حلمُك الحلمُ موجودٌ عليه ولا ... يُلْفَى عَطَاؤُك في الأقوام منكودا ) ( وقد
سبقتَ لغاياتِ الجواد وقد ... أشبهت آباءَك الشُّمَّ الصناديدا ) ( هذا
ثنائي بما أوليتَ من حسَنٍ ... لا زلتَ براًّ قريرَ العينِ محسودا ) قال
أبو عمرو كان لضابئ بن الحارث البرجمي على عجرد بن عبد عمرو دين بايعه به نعما
واستخار الله في ذلك وبايعه ربيعة بن مقروم ولم يستخر الله تعالى ثم خافه ضابئ
فاستجار بربيعة بن مقروم في مطالبته إياه فضمن له جواره فوفى عجرد لضابئ ولم يف
لربيعة فقال ربيعة ( أَعجْرِد
إني من أمانيَّ بَاطلٍ ... وقولِ غِداً شيخٌ لذاك سؤوم ) ( وإنّ
اختلافي نصف حولٍ محرَّم ... إليكم بني هندٍ عليَّ عظيم ) ( فلا
أعرفنّي بعد حولٍ محرَّم ... وقولٍ خلا يُشكُونَنِي فألوم ) ( ويلتمسوا
وُدِّي وعطفيَ بعد ما ... تنَاشدَ قولي وائلٌ وتميمُ ) ( وإن
لم يكن إلا اختلافي إليكم ... فإني امرؤٌ عِرضي عليّ كريم ) ( فلا
تُفسِدوا ما كان بينِي وبينكم ... بني قَطَنٍ إنَّ المُليم مُليمُ ) فاجتمعت
عشيرة عجرد عليه وأخذوه بإعطاء ربيعة ماله فأعطاه إياه حماد الراوية ينشد الوليد
بن يزيد شعر ربيعة بن مقروم أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه
عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال دخلت على الوليد بن يزيد وهو مصطبح وبين
يديه معبد ومالك وابن عائشة وأبو كامل وحكم الوادي وعمر الوادي يغنونه وعلى رأسه
وصيفة تسقيه لم أر مثلها تماما وكمالا وجمالا فقال لي يا حماد أمرت هؤلاء أن يغنوا
صوتا يوافق صفة هذه الوصيفة وجعلتها لمن وافق صفتها نحلة فما أتى أحد منهم بشيء فأنشدني
أنت ما يوافق صفتها وهي لك فأنشدته قول ربيعة بن مقروم الضبي ( دارٌ
لسُعْدِي إذ سُعاد كأنَّها ... رَشأٌ غريرُ الطّرفِ رخْص المِفْصَل ) ( شَمَّاءُ
واضحةُ العوارضِ طَفلةٌ ... كالبدر من خَلَل السحاب المنجِلي ) ( وكأنما
ريحُ القَرَنفُلِ نَشرُها ... أو حَنْوَةٌ خُلِطَتْ خزامى حَوْملِ ) ( وكأَنّ
فاها بعد ما طرَق الكرى ... كأسٌ تُصَفِّق بالرحيق السّلسل ) ( لو
أنها عرضت لأشْمَطَ راهبٍ ... في رأس مُشرفةِ الذُّرا متبتّل ) ( جآر
ساعات النيام لربه ... حتى تخدد لحمه مستعمل ) ( لصَبَا
لبهجتها وحُسنِ حَديِثها ... ولهمَّ من ناموسه بتَنَزُّل ) فقال
الوليد أصبت وصفها فاخترها أو ألف دينار فاخترت الألف الدينار فأمرها فدخلت إلى
حرمه وأخذت المال مختارات من شعره وهذه القصيدة من فاخر الشعر وجيده وحسنه فمن
مختارها ونادرها قوله صوت ( بل إنْ تَرَىْ شَمَطاً تفرَّغَ لِمّتي ... وحَنَا
قناتي وارتقى في مِسْحَلي ) ( ودَلَفْتُ
من كَبرٍ كأنِّيَ خَاتلٌ ... قَنَصاً ومن يدْبِبْ لصيدٍ يخْتِلِ ) ( فلقد
أُرَى حَسنَ القَناة قويَمها ... كالنَّصْل أخلصه جَلاءُ الصّيقَلِ ) ( أزمانَ
اذْ أنا والجديدُ إلى بلىً ... تُصبي الغواني مَيْعَتي وتنقُّليِ ) غنى
بذلك معبد ثقيلا أول ( ولقد
شهِدْتُ الخيل يوم طِرَادها ... بِسَليمِ أَوظفةِ القوائم هَيكَل ) ( متقَاذفٍ
شَنِجِ النَّسا عَبْلِ الشَّوى ... سبَّاقِ أَندية الجياد عَمَيْثل ) ( لولا
أكفكِفه لكان إذا جرى ... منه العزيم يدقُّ فأسَ المِسحل ) ( وإذا
جرى منه الحميمُ رأيتَه ... يهوِي بفارسِه هُوِيَّ الأجدلِ ) ( وإذا
تَعلَّلُ بالسّياط جيادُها ... أعطاك نائيه ولم يتعلّل ) ( ودعَوا
نزالِ فكنتُ أولَ نازلٍ ... وعلامَ أركبُه إذا لم أنزل ) ( ولقد
جمعتُ المالَ من جَمْع امرئ ... ورفعتُ نفسِي عن لَئِيمِ المأكلِ ) ( ودخلتُ
أبنية الملوك عليهمُ ... ولَشَرُّ قولِ المرءِ ما لم يُفعَل ) ( ولرُبّ
ذي حَنَقٍ عليَّ كأنما ... تَغلِي عداوةُ صَدْرِهِ كالمِرْجل ) ( أزْجَيْتُه
عنّي فأبصرَ قصدَه ... وكويتُه فوق النَّواظر من عَلِ ) ( وأخي
مُحافظةٍ عَصَى عُذّاله ... وأطاع لذّته مُعِمٍّ مُخوِل ) ( هشٍّ
يُرَاحُ إلى النّدى نبّهتُه ... والصبحُ ساطِعُ لونِه لم يَنْجل ) ( فأتيتُ
حانوتا به فصبَحْته ... من عاتقٍ بمزاجها لم تُقتلِ ) ( صهباءَ
إلْياسِيَّةٍ أَغلى بها ... يَسرٌ كريمُ الخِيم غيرُ مُبخَّل ) ( ومُعَرِّسٍ
عُرْضِ الرداء عَرَسْتُهُ ... من بعد آخرَ مثلِه في المنزلِ ) ( ولقد
أصبتُ من المعيشة لينَها ... وأصابني منه الزمانُ بكلكل ) ( فإذا
وذاك كأنه ما لم يكن ... إلا تذكُّره لمن لم يجهل ) ( ولقد
أتتْ مائةٌ عليَّ أعدُّها ... حَوْلاً فحولا لا بَلاها مُبتلِ ) ( فإذا
الشّباب كمبْذَلٍ أنضيتُه ... والدهرُ يُبلِي كلَّ جِدَّةِ مِبْذل ) ( هلاّ
سألتِ وخُبْرُ قوم عندهم ... وشفاءُ غَيِّكِ خابرا أن تسأليِ ) ( هل
نُكرم الأضْيافَ إنْ نزلوا بنا ... ونسودُ بالمعروف غير تنحل ) ( ونحل
بالثغر المخوف عدوه ... ونرد حالَ العارض المتهلِّل ) ( ونُعين
غارمَنا ونمنع جارَنا ... ونَزينُ مولى ذِكْرِنا في المحفِل ) ( وإذا
امرؤٌ منا حَبا فكأنَّه ... مما يُخافُ على مناكب يَذْبُل ) ( ومتى
تَقُمْ عند اجتماع عشيرةٍ ... خطباؤنا بين العشيرة يُفْصَل ) ( ويرى
العدوُّ لنا دروءاً صعبةً ... عند النجوم منيعةَ المتأوّل ) ( وإذا
الحَمالةُ أثقلت حُمَّالَها ... فعلى سوائمنا ثقيلُ المحمِلِ ) ( ونحُقُّ
في أموالنا لحليفنا ... حقّاً يبوء به وإن لم يَسْأَلِ ) وهذه
جملة جمعت فيها أغاني من أشعار اليهود إذ كانت نسبتهم وأخبارهم مختلطة فمن ذلك صوت
( أَنَّى تَذَكَّر زينبَ القلبُ ...
وطِلابُ وصلِ عزيزةٍ صَعْبُ ) ( ما
رَوْضَةٌ جاد الربيع لها ... موشيّةٌ ما حولها جدْبُ ) ( بألذّ
منها إذ تقول لنا ... سيراً قليلاً يَلْحقِ الركبُ ) الشعر
لأوس بن ذبي القرظي والغناء لابن سريج ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
وزعم عمرو أن فيه لحنا من الثقيل الأول بالوسطى لمالك وأن فيه صنعة لابن محرز ولم
يجنسها أخبار أوس ونسب اليهود النازلين بيثرب وأخبارهم أوس بن ذبي اليهودي رجل من
بني قريظة وبنو قريظة وبنو النضير يقال لهم الكاهنان وهم من ولد الكاهن بن هارون
بن عمران أخي موسى بن عمران على محمد وآله وعليهما وكانوا نزولا بنواحي يثرب بعد
وفاة موسى بن عمران عليه السلام وقبل تفرق الأزد عند انفجار سيل العرم ونزول الأوس
والخزرج بيثرب كان ساكنو المدينة يسمون العمالقة أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش
عن جعفر بن محمد العاصي أبي المنهال عيينة بن المنهال المهلبي عن أبي سليمان جعفر
بن سعد عن العماري قال كان ساكنو المدينة في أول الدهر قبل بني إسرائيل قوما من
الأمم الماضية يقال لهم العماليق وكانوا قد تفرقوا في البلاد وكانوا أهل عز وبغي
شديد فكان ساكني المدينة منهم بنو هف وبنو سعد وبنو الأزرق وبنو مطروق وكان ملك الحجاز
منهم رجل يقال له الأرقم ينزل ما بين تيماء إلى فدك وكانوا قد ملأوا المدينة ولهم
بها نخل كثير وزروع وكان موسى بن عمران عليه السلام قد بعث الجنود إلى الجبابرة من
أهل القرى يغزونهم فبعث موسى عليه السلام إلى العماليق جيشا من بني إسرائيل وأمرهم
أن يقتلوهم جميعا إذا ظهروا عليهم ولا يستبقوا منهم أحدا فقدم الجيش الحجاز
فأظهرهم الله عز و جل على العماليق فقتلوهم أجمعين إلا ابنا للأرقم فإنه كان وضيئا
جميلا فضنوا به على القتل وقالوا نذهب به إلى موسى بن عمران فيرى فيه رأيه فرجعوا
إلى الشام فوجدوا موسى عليه السلام قد توفي فقالت لهم بنو إسرائيل ما صنعتم فقالوا
أظهرنا الله جل وعز عليهم فقتلناهم ولم يبق منهم أحد غير غلام كان شابا جميلا
فنفسنا به عن القتل وقلنا نأتي به موسى عليه السلام فيرى فيه رأيه فقالوا لهم هذه
معصية قد أمرتم ألا تستبقوا منهم أحدا والله لا تدخلون علينا الشام أبدا المدينة
أول استيطان اليهود فلما منعوا ذلك قالوا ما كان خيرا لنا من منازل القوم الذين
قتلناهم بالحجاز نرجع إليهم فنقيم بها فرجعوا على حاميتهم حتى قدموا المدينة
فنزلوها وكان ذلك الجيش أول سكنى اليهود المدينة فانتشروا في نواحي المدينة كلها
إلى العالية فاتخذوا بها الآطام والأموال والمزارع ولبثوا بالمدينة زمانا طويلا ثم
ظهرت الروم على بني إسرائيل جميعا بالشام فوطئوهم وقتلوهم ونكحوا نساءهم فخرج بنو
النضير وبنو قريظة وبنو بهدل هاربين منهم إلى من بالحجاز من بني إسرائيل لما
غلبتهم الروم على الشام فلما فصلوا عنها بأهليهم بعث ملك الروم في طلبهم ليردهم
فأعجزوه وكان ما بين الشام والحجاز مفاوز فلما بلغ طلب الروم التمر انقطعت أعناقهم
عطشا فماتوا وسمي الموضع تمر الروم فهو اسمه إلى اليوم فلما قدم بنو النضير وبنو
قريظة وبهدل المدينة نزلوا الغابة فوجدوها وبية فكرهوها وبعثوا رائدا أمروه أن
يلتمس لهم منزلا سواها فخرج حتى أتى العالية وهي بطحان ومهزور واديان من حرة على
تلاع أرض عذبة بها مياه عذبة تنبت حر الشجر فرجع إليهم فقال قد وجدت لكم بلدا طيبا
نزها على حرة يصب فيها واديان على تلاع عذبة ومدرة طيبة في متأخر الحرة ومدافع
الشرج قال فتحول القوم إليها من منزلهم ذلك فنزل بنو النضير ومن معهم على بطحان وكانت
لهم إبل نواعم فاتخذوها أموالا ونزلت بنو قريظة وبهدل ومن معهم على مهزور فكانت
لهم تلاعه وما سقي من بعاث وسموات فكان ممن يسكن المدينة حين نزلها الأوس والخزرج
من قبائل بني إسرائيل بنو عكرمة وبنو ثعلبة وبنو محمر وبنو زغورا وبنو قينقاع وبنو
زيد وبنو النضير وبنو قريظة وبنو بهدل وبنو عوف وبنو الفصيص فكان يسكن يثرب جماعة
من أبناء اليهود فيهم الشرف والثروة والعز على سائر اليهود وكان بنو مرانة في موضع
بني حارثة ولهم كان الأطم الذي يقال له الخال كان مع بني إسرائيل بطون من العرب
وكان معهم من غير بني إسرائيل بطون من العرب منهم بنو الحرمان حي من اليمن وبنو
مرثد حي من بلي وبنو أنيف من بلي أيضا وبنو معاوية حي من بني سليم ثم من بني
الحارث بن بهثة وبنو الشظية حي من غسان وكان يقال لبني قريظة وبني النضير خاصة من
اليهود الكاهنان نسبوا بذلك إلى جدهم الذي يقال له الكاهن كما يقال العمران
والحسنان والقمران قال كعب بن سعد القرظي ( بالكاهِنيْن
قررتمْ في ديارِكُمُ ... جمًّا ثواكم ومن أجلاكم جَدُبا ) وقال
العباس بن مرداس السلمي يرد على خوات بن جبير لما هجاهم ( هجوتَ
صريحَ الكاهنَيْن وفيكمُ ... لهم نِعَمٌ كانت مدى الدهر تُرْتُبَا ) فلما
أرسل الله سيل العرم على أهل مأرب وهم الأزد قام رائدهم فقال من كان ذا جمل مفن
ووطب مدن وقربة وشن فلينقلب عن بقرات النعم فهذا اليوم يوم هم وليلحق بالثني من شن
قال وهو بالسراة فكان الذين نزلوه أزد شنوءة ثم قال لهم ومن كان ذا فاقة وفقر وصبر
على أزمات الدهر فليلحق ببطن مر فكان الذين سكنوه خزاعة ثم قال لهم من كان منكم
يريد الخمر والخمير والأمر والتأمير والديباج والحرير فليلحق ببصرى والحفير وهي من
أرض الشام فكان الذين سكنوه غسان ثم قال لهم ومن كان منكم ذا هم بعيد وجمل شديد
ومزاد جديد فليلحق بقصر عمان الجديد فكان الذين نزلوه أزد عمان ثم قال ومن كان يريد
الراسخات في الوحل المطعمات في المحل فليلحق بيثرب ذات النخل الأوس والخزرج أول من
نزلوا المدينة فكان الذين نزلوها الأوس والخزرج فلما توجهوا إلى المدينة ووردوها
نزلوا في صرار ثم تفرقوا وكان منهم من لجأ إلى عفاء من أرض لا ساكن فيه فنزلوا به
ومنهم من لجأ إلى قرية من قراها فكانوا مع أهلها فأقامت الأوس والخزرج في منازلهم
التي نزلوها بالمدينة في جهد وضيق في المعاش ليسوا بأصحاب إبل ولا شاة لأن المدينة
ليست بلاد نعم وليسوا بأصحاب نخل ولا زرع وليس للرجال منهم إلا الأعذاق اليسيرة
والمزرعة يستخرجها من أرض موات والأموال لليهود فلبثت الأوس والخزرج بذلك حينا أبو
جبيلة أمر أن يمكر باليهود حتى يقتل رؤوسهم ثم إن مالك بن العجلان وفد إلى جبيلة
الغساني وهو يومئذ ملك غسان فسأله عن قومه وعن منزلهم فأخبره بحالهم وضيق معاشهم
فقال له أبو جبيلة والله ما نزل قوم منا بلدا قط إلا غلبوا أهله عليه فما بالكم ثم
أمره بالمضي إلى قومه وقال له أعلمهم أني سائر إليهم فرجع مالك بن العجلان فأخبرهم
بأمر أبي جبيلة ثم قال لليهود إن الملك يريد زيارتكم فأعدوا نزلا فأعدوه وأقبل أبو
جبيلة سائرا من الشام في جمع كثيف حتى قدم المدينة فنزل بذي حرض ثم أرسل إلى الأوس
والخزرج فذكر لهم الذي قدم له وأجمع أن يمكر باليهود حتى يقتل رؤوسهم وأشرافهم
وخشي إن لم يمكر بهم أن يتحصنوا في آطامهم فيمنعوا منه حتى يطول حصاره إياهم فأمر ببنيان
حائر واسع فبني ثم أرسل إلى اليهود أن أبا جبيلة الملك قد أحب أن تأتوه فلم يبق
وجه من وجوه القوم إلا أتاه وجعل الرجل يأتي معه بخاصته وحشمه رجاء أن يحبوهم فلما
اجتمعوا ببابه أمر رجالا من جنده أن يدخلوا الحائر ويدخلوهم رجلا رجلا فلم يزل
الحجاب يأذنون لهم كذلك ويقتلهم الجند الذين في الحائر حتى أتوا على آخرهم فقالت
سارة القريظية ترثي من قتل منهم أبو جبيلة تقول ( بنفسِي
أمّةٌ لم تُغْنِ شيئاً ... بذي حُرُضٍ تُعفِّيها الرياحُ ) ( كُهولٌ
من قُريظة أتلفَتْها ... سيوفُ الخزرجيَّة والرّماحُ ) ( رُزِئنا
والرزيّة ذات ثِقْلٍ ... يَمُرُّ لأهلِها الماءُ القَراحُ ) ( ولو
أَرِبوُ بأمرهمُ لجالت ... هنالك دونهم جَأْوَا رَداحُ ) مدح
الرمق لأبي جبيلة وقال الرمق وهو عبيد بن سالم بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن
الخزرج يمدح أبا جبيلة الغساني ( لم
يُقْضَ ديْنُك في الحسان ... ِ وقد غَنِيتَ وقد غَنِينا ) ( الرّاشقاتِ
المرشقاتِ ... الجازياتِ بما جُزِينا ) ( أمثال
غزلانِ الصرائِم ... ِ يأتزِرن ويرتدينا ) ( الرَّيْطَ
والدِّيباجَ ... والزَّردَ المضاعف والبُرِينا ) ( وأبو
جُبيْلة خيرُ من ... يمشي وأوفاهم يَمينا ) ( وأَبَرُّه
بِرًّا وأعْلَمُه ... بعلم الصالحينا ) ( أبقت
لنا الأيامُ والحَربُ المهمَّةُ تعترينا ... ) ( كبشا
لنا ذَكَراً يفُلُّ حسامُه الذكرَ السَّنِينا ... ) ( ومعاقلا
شُمًّا وأسيافا يَقُمن وينحنينا ... ) ( ومحلّة
زوراء تُرجِف ... بالرجال المُصلِتينا ) فلما
أنشدوا أبا جبيلة ما قال الرمق أرسل إليه فجيء به وكان رجلا ضئيلا غير وضيء فلما
رآه قال عسل طيب ووعاء سوء فذهبت مثلا وقال للأوس والخزرج إن لم تغلبوا على هذه
البلاد بعد من قتلت من أشراف أهلها فلا خير فيكم ثم رحل إلى الشام شعر للصامت بن
أصرم يذكر فيه قتل أبي جبيلة وقال الصامت بن أصرم النوفلي يذكر قتل أبي جبيلة
اليهود ( سائل قُريظةَ مَن يُقَسِّم سبيها
... يوم العُرَيْض ومن أفاء المغنما ) ( جاءتهمُ
الملحاءُ يخفِق ظلُّها ... وكتيبةٌ خشناءُ تدعو أسلما ) ( عمِّي
الذي جلب الهمامَ لقومه ... حتى أحلّ على اليهود الصَّيْلَما ) يعني
بقوله من يقسم سبيها نسوة سباهن أبو جبيلة من بني قريظة وكان رآهن فأعجبنه وأعطى
مالك بن العجلان منهم امرأة قال أبو المنهال أحد بني المعلَّى إنهم أقاموا زمنا
بعد ما صنع ويهود تعترض عليهم وتناوئهم فقال مالك بن العجلان لقومه والله ما أثخنا
يهود غلبة كما نريد فهل لكم أن أصنع لكم طعاما ثم أرسل في مائة من أشراف من بقي من
اليهود فإذا جاؤوني فاقتلوهم جميعا فقالوا نفعل فلما جاءهم رسول مالك قالوا والله لا
نأتيهم أبدا وقد قتل أبو جبيلة منا من قتل فقال لهم مالك إن ذلك كان على غير هوى
منا وإنما أردنا أن نمحوه وتعلموا حالكم عندنا فأجابوه فجعل كلما دخل عليه رجل
منهم أمر به مالك فقتل حتى قتل منهم بضعة وثمانين رجلا ثم إن رجلا منهم أقبل حتى
قام على باب مالك فتسمع فلم يسمع صوتا فقال أرى أسرع ورد وأبعد صدر فرجع وحذر
أصحابه الذين بقوا فلم يأت منهم أحد فقال رجل من اليهود لمالك بن العجلان ( فسَفَّهْتَ
قَيْلَةَ أحلامَها ... ففيمَن بقيتَ وفيمن تَسودْ ) فقال
مالك ( فإنّي امرؤ من بني سالم بْنِ ...
عَوْفٍ وأنت امرءٌ من يهودْ ) قال
وصورت اليهود مالكا في بيعهم وكنائسهم فكانوا يلعنونه كلما دخلوها فقال مالك بن
العجلان في ذلك قوله ( تَحامِي
اليهودِ بتَلْعانها ... تحامِي الحميرِ بأبوالها ) ( فماذا
عليَّ بأن يلْعَنوا ... وتأتي المنايا بأذلالها ) قال
فلما قتل مالك من يهود من قتل ذلوا وقل امتناعهم وخافوا خوفا شديدا وجعلوا كلما
هاجمهم أحد من الأوس والخزرج بشيء يكرهونه لم يمش بعضهم إلى بعض كما كانوا يفعلون
قبل ذلك ولكن يذهب اليهودي إلى جيرانه الذين هو بين أظهرهم فيقول إنما نحن جيرانكم
ومواليكم فكان كل قوم من يهود قد لجأوا إلى بطن من الأوس والخزرج يتعززون بهم وذكر
أبو عمرو الشيباني أن أوس بن ذبي القرظي كانت له امرأة من بني قريظة أسلمت وفارقته
ثم نازعتها نفسها إليه فأتته وجعلت ترغبه في الإسلام فقال فيها ( دَعتْنِي
إلى الإسلام يومَ لَقِيتُها ... فقلت لها لا بل تعالَيْ تهَّودِي ) ( فنحن
على توراة موسى ودينهِ ... ونِعم لعمري الدينُ دِينُ محمد ) ( كلانا
يرى أن الرّسالةَ دينُهُ ... ومن يُهْدَ أبوابَ المراشد يَرْشُدِ ) ومن
الأغاني في أشعار اليهود صوت ( أعاذلتي ألاَ لا تَعذلِيني ... فكم من أمرِ عاذلةٍ
عَصَيْتُ ) ( دَعيِني وارشُدي إن كنتُ أَغْوَى
... ولا تغوَيْ زعمتِ كما غوَيتُ ) ( أعاذلَ
قد أطلتِ اللّومَ حتّى ... لوَانّي مُنْتَهٍ لقد انتهيتُ ) ( وحتى
لو يكونُ فتَى أُناسٍ ... بكى من عَذل عاذلةٍ بكيْتُ ) ( وصفراءَ
المعاصِم قد دعتني ... إلى وصلٍ فقلت لها أبيْتُ ) ( وزِقٍّ
قد جررتُ إلى النَّدامى ... وزِقٍّ قد شَرِبت وقد سَقيتُ ) الشعر
للسموأل بن عاديا فيما رواه السكري عن الطوسي ورواه أبو خليفة عن محمد بن سلام
والغناء لابن محرز خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق في الأول والثاني
والرابع والخامس من الأبيات وزعم ابن المكي أنه لمعبد وزعم عمرو بن بانة أنه لمالك
ولدحمان أيضا في الأول والثاني والخامس والسادس رمل بالوسطى وزعم ابن المكي أن هذا
الرمل لابن سريج وفي الأول والثاني والسادس رمل بالوسطى لأبي عبيد مولى فائد ثاني
ثقيل عن يحيى المكي وزعم الهشامي أن الرمل لعبد العزيز الدفاف أخبار السموأل ونسبه
هو السموأل بن عريض بن عاديا بن حباء ذكر ذلك أبو خليفة عن محمد بن سلام والسكري
عن الطوسي وابن حبيب وذكر أن الناس يدرجون عريضا في النسب وينسبونه إلى عاديا جده
وقال عمر بن شبة هو السموأل بن عاديا ولم يذكر عريضا وحكى عبد الله بن أبي سعد عن
دارم بن عقال وهو من ولد السموأل أن عاديا بن رفاعة بن ثعلبة بن كعب بن عمرو
مزيقيا بن عامر ماء السماء وهذا عندي محال لأن الأعشى أدرك شريح بن السموأل وأدرك
الإسلام وعمرو مزيقيا قديم لا يجوز أن يكون بينه وبين السموأل ثلاثة آباء ولا عشرة
بل أكثر والله أعلم يضرب به المثل في الوفاء وقد قيل إن أمه كانت من غسان وكلهم
قالوا إنه كان صاحب الحصن المعروف بالأبلق بتيماء المشهور بالوفاء وقيل بل هو من
ولد الكاهن بن هارون بن عمران وكان هذا الحصن لجده عاديا واحتفر فيه بئر روية عذبة
وقد ذكرته الشعراء في أشعارها قال السموأل ( فبِالأبلقِ
الفَردِ بيتيِ به ... وبيتُ النضير سوى الأبلق ) وقال
السموأل يذكر بناء جده الحصن ( بنى
لي عاديا حِصناً حصيناً ... وماءً كلما شئتُ استقيْتُ ) وكانت
العرب تنزل به فيضيفها وتمتار من حصنه وتقيم هناك سوقا وبه يضرب المثل في الوفاء
لإسلامه ابنه حتى قتل ولم يخن أمانته في أدراع أودعها خبر امرئ القيس مع السموأل
وكان السبب في ذلك فيما ذكر لنا محمد بن السائب الكلبي أن امرأ القيس بن حجر لما
سار إلى الشام يريد قيصر نزل على السموأل بن عاديا بحصنه الأبلق بعد إيقاعه ببني
كنانة على أنهم بنو أسد وكراهة أصحابه لفعله وتفرقهم عنه حتى بقي وحده واحتاج إلى
الهرب فطلبه المنذر بن ماء السماء ووجه في طلبه جيوشا من إياد وبهراء وتنوخ وجيشا
من الأساورة أمده بهم أنو شروان وخذلته حمير وتفرقوا عنه فلجأ إلى السموأل ومعه
أدراع كانت لأبيه خمسة الفضفاضة والضافية والمحصنة والخريق وأم الذيول وكانت الملوك
من بني آكل المرار يتوارثونها ملك عن ملك ومعه بنته هند وابن عمه يزيد بن الحارث
بن معاوية بن الحارث وسلاح ومال كان بقي معه ورجل من بني فزارة يقال له الربيع بن
ضبع شاعر فقال له الفزاري قل في السموأل شعرا تمدحه به فإن الشعر يعجبه وأنشده
الربيع شعرا مدحه به وهو يقول ( ولقد
أتيتُ بني المُصاصِ مُفاخراً ... وإلى السموأل زرتهُ بالأبلقِ ) ( فأتيتُ
أفضلَ مَن تحمَّل حاجةً ... إنْ جئتَه في غارمٍ أو مُرهَقِ ) ( عَرَفتْ
له الأقوامُ كلَّ فضيلةٍ ... وحوى المكارمَ سابقاً لم يُسْبَقِ ) قال
فقال امرؤ القيس فيه قصيدته ( طرقتْكَ
هندٌ بعد طول تجنُّبٍ ... وَهْناً ولم تك قبل ذلك تطرُقُ ) قال
وقال الفرازي إن السموأل يمنع منك حتى يرى ذات عينك وهو في حصن حصين ومال كثير
فقدم به على السموأل وعرفه إياه وأنشداه الشعر فعرف لهما حقهما وضرب على هند قبة
من أدم وأنزل القوم في مجلس له براح فكانت عنده ما شاء الله ثم إن امرأ القيس سأله
أن يكتب له إلى الحارث بن أبي شمر الغساني أن يوصله إلى قيصر ففعل واستصحب معه
رجلا يدله على الطريق وأودع بنيه وماله وأدراعه السموأل ورحل إلى الشام وخلف ابن
عمه يزيد بن الحارث مع ابنته هند قال ونزل الحارث بن ظالم في بعض غاراته بالأبلق
ويقال بل الحارث بن أبي شمر الغساني ويقال بل كان المنذر وجه بالحارث بن ظالم في
خيل وأمره بأخذ مال امرئ القيس من السموأل فلما نزل به تحصن منه وكان له ابن قد
يفع وخرج إلى قنص له فلما رجع أخذه الحارث بن ظالم ثم قال للسموأل أتعرف هذا قال
نعم هذا ابني قال أفتسلم ما قبلك أم أقتله قال شأنك به فلست أخفر ذمتي ولا أسلم
مال جاري فضرب الحارث وسط الغلام فقطعه قطعتين وانصرف عنه فقال السموأل في ذلك ( وفيْتُ
بأدرُع الكِنديّ إني ... إذا ما ذُمَّ أقوامٌ وفيْتُ ) ( وأوصَى
عادياً يوماً بألاَّ ... تُهدّم يا سموأل ما بنيتُ ) ( بنى
لي عادياً حِصناً حَصيِناً ... وماءً كلّما شئتُ استقيتُ ) شريح
بن السموأل يخطو خطى أبيه وقال الأعشى يمدح السموأل ويستجير بابنه شريح بن السموأل
من رجل كلبي كان الأعشى هجاه ثم ظفر به فأسره وهو لا يعرفه فنزل بشريح بن السموأل
وأحسن ضيافته ومر بالأسرى فناداه الأعشى ( شُريحُ
لا تُسْلِمنِّي اليومَ إذ علِقت ... حبالُك اليوم بعد القيد أظفاري ) ( قد
سرت ُما بين بلقاء إلى عدنٍ ... وطال في العُجم تَكراري وتَسياري ) ( فكان
أكرمَهم عهداً وأوثَقهم ... عَقْداً أبوك بعُرف غير إنكارِ ) ( كالغيث
ما استمطروه جاد وابله ... وفي الشدائد كالمستأسد الضاري ) ( كُنْ
كالسَّموأل إذ طاف الهمامُ به ... في جحفلٍ كسواد الليل جرّار ) ( إذ
سامه خُطَّتَيْ خسفٍ فقال له ... قل ما تشاء فإني سامعٌ حار ) ( فقال
غَدرٌ وثُكْلٌ أنت بينَهما ... فاختر وما فيهما حظٌّ لمختار ) ( فشكَّ
غيرَ طويلٍ ثم قال له ... اقتُل أسيرَك إنّي مانعٌ جاري ) ( وسوف
يُعقْبُنِيه إن ظفِرتَ به ... ربٌّ كريمٌ وبِيضٌ ذاتُ أطهار ) ( لا
سِرُّهُنّ لدينا ذاهبٌ هدّراً ... وحافظاتٌ إذا استُودِعْن أسرارِي ) ( فاختار
أَدْراعَه كَيْلا يُسبَّ بها ... ولم يكن وعْدُهُ فيها بختَّار ) فجاء
شريح إلى الكلبي فقال له هب لي هذا الأسير المضرور فقال هو لك فأطلقه وقال له أقم
عندي حتى أكرمك وأحبوك فقال له الأعشى إن تمام إحسانك إلي أن تعطيني ناقة ناجية
وتخليني الساعة فأعطاه ناقة ناجية فركبها ومضى من ساعته وبلغ الكلبي أن الذي وهب
لشريح هو الأعشى فأرسل إلى شريح ابعث إلي الأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه
فقال قد مضى فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه سعية بن عريض سعية بن عريض بن عاديا
أخو السموأل شاعر فمن شعره الذي يغنى فيه قوله صوت ( يا دارَ سُعْدَى بمَقْصَى
تلعةِ النَّعم ... حُيِّيتِ داراً على الإقواءوالقِدَم ) ( عُجْنا
فما كلَّمتنا الدارُ إذ سُئِلت ... وما بها عن جوابٍ خِلتُ من صمم ) ( وما
بجزعكِ إلا الوحش ساكنة ... وهامدٌ من رماد القدر والحُمَم ) الشعر
لسعية بن عريض والغناء لابن محرز ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه
خفيف ثقيل عن الهشامي وله فيه خفيف ثقيل عن الهشامي ويقال إنه لمالك وفيه لابن
جؤذرة رمل عن الهشامي وسعية بن عريض القائل وفيه غناء صوت ( لُبابُ
هلْ عندكِ من نائلِ ... لعاشقٍ ذي حاجةٍ سائلِ ) ( عَلّلته
منك بما لم يَنَلْ ... يا ربَّما عَلَّلتِ بالباطلِ ) الغناء
لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لابن الهربذ خفيف رمل
بالوسطى عن عمرو وفيه لمتيم رمل آخر من جامعها وفيه لحن ليونس غير مجنس وأول هذه
القصيدة ( لُبابُ يا أختَ بَنِي مالكٍ ... لا
تشتري العاجلَ بالآجلِ ) ( لُبابُ
داوِيني ولا تَقُتلي ... قد فُضِّل الشافي على القاتل ) ( إن
تسألي بي فاسألي خابراً ... والعِلْم قد يكفي لدى السائل ) ( يُنْبيكِ
من كان بنا عالماً ... عنَّا وما العالِمُ كالجاهلِ ) ( أَنَّا
إذا حارت دواعِي الهوى ... وأنصتَ السامع للقائل ) ( واعتلج
القومُ بألبابهم ... في المنطق الفاصل والنائل ) ( لا
نجعلُ الباطلَ حقَّاً ولا ... نَلُظُّ دون الحق بالباطل ) ( نخاف
أن تَسفَهَ أحلامُنا ... فنُخْملَ الدهرَ مع الخامل ) أخبرني
محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن الهيثم الفراسي قال حدثني العمري عن العتبي
قال كان معاوية يتمثل كثيرا إذا اجتمع الناس في مجلسه بهذا الشعر ( إنا
إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل ) ( لا
نجعل الباطلَ حقّاً ولا ... نَلُظُّ دون الحق بالباطل ) ( نخاف
أن تسفَهَ أحلامُنا ... فَنُخْملَ الدهرَ مع الخامل ) أخبرني
الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني عبد الملك بن عبد
العزيز قال أخبرني خالي يوسف بن الماجشون قال كان عبد الملك بن مروان إذا جلس
للقضاء بين الناس أقام وصيفا على رأسه ينشده ( إنا
إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السّامعُ للقائل ) ( واصْطرعَ
القومُ بألبابهم ... نقضي بحُكْمٍ عادل فاصل ) ( لا
نجعلُ الباطل حقّاً ولا ... نُلِظُّ دون الحق بالباطل ) ( نخاف
أن تسفَه أحلامُنا ... فَنُخْملَ الدّهرَ مع الخامل ) ثم
يجتهد عبد الملك في الحق بين الخصمين إخوانه ينقطعون عنه في افتقاره ويعودون عند
اغتنائه أخبرني وكيع والحسن بن علي قالا حدثنا أبو قلابة قال حدثنا الأصمعي عن أبي
الزناد عن أبيه عن رجال من الأنصار أن سعية بن عربض أخا السموأل بن عاديا كان
ينادم قوما من الأوس والخزرج ويأتونه فيقيمون عنده ويزورونه في أوقات قد ألف
زيارتهم فيها فأغار عليه بعض ملوك اليمن فانتسف من ماله حتى افتقر ولم يبق له مال
فانقطع عنه إخوانه وجفوه فلما أخصب وعادت حاله وتراجعت راجعوه فقال في ذلك ( أرى
الخُلاَّن لما قلّ مالي ... وأجحفَتِ النوائبُ وَدّعوني ) ( فلما
أن غَنِيتُ وعاد مالي ... أراهم لا أبالك راجعوني ) ( وكان
القوم خُلاّنا لمالي ... وإخواناً لما خُوَّلْتُ دوني ) ( فلما
مَرّ مالي باعدوني ... ولما عاد مالي عاودوني ) ومن
أشعار اليهود ويغنى به صوت ( هل تعرِف الدارَ خفَّ ساكنُها ... بالحِجْر
فالمُسْتَوىَ إلى ثمد ) ( دار
لبهنانةٍ خَدَلَجَّةٍ ... تضحك عن مثل جامد البرَد ) ( نِعمَ
ضجيجُ الفتى إذا برد الليلُ ... وغارت كواكبُ الأسدِ ) ( يا
من لقلبٍ متيَّم سَدِمٍ ... عانٍ رهينٍ أُحِيط بالعُقَد ) ( أزجرهُ
وهْو غيرُ مُزدجرٍ ... عنها وطرفي مقارِنُ السُّهُد ) ( تمشي
الهوينا إذا مشت فُضُلاً ... مشى النزيف المبهور في صَعَد ) ( تظل
من زَوْرِ بَيْتِ جارتها ... واضعة كفها على الكبِد ) الشعر
لأبي الزناد اليهودي العديمي والغناء لابن مسجح ثقيل أول بالوسطى في الثلاثة
الأبيات الأول عن الهشامي ويحيى المكي وفيها لمعبد خفيف ثقيل أول عن الهشامي وقال
أظنه من منحول يحيى بن المكي وقد نسب قوم هذا اللحن المنسوب إلى معبد إلى ابن مسجح
ولابن محرز في يا من لقلب وما بعده خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق وذكر
عمرو أن فيها لحنا لمعبد لم يذكر طريقته وذكر ذلك في - كتاب
عملة الواثق - قديما غير مجنس وهذا الشعر يقوله أبو الزناد في أهل تيماء يرثيهم
وذكر ذلك عمر بن شبة ومن الغناء في أشعار اليهود من قريظة والنضير صوت ( دورٌ
عفَتْ بِقُرَى الخابور غيَّرَهَا ... بعدَ الأنيسِ سَوَافِي الرِّيح والمطرُ ) ( إن
تُمسِ دارك ممَّنْ كان ساكنَها ... وحشاً فَذَلِكَ صَرفُ الدهر والغِيرُ ) ( وقد
تحلُ بها بِيض ترائبُها ... كأنها بين كُثْبَانِ النَّقَا البقرُ ) الشعر
للربيع بن أبي الحقيق روى ذلك السكري عن الطوسي وعن محمد بن حبيب والغناء لابن
محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وهو صوت مشهور ابتداؤه نشيد أخبار الربيع بن
أبي الحقيق كان الربيع من شعراء اليهود من بني قريظة وهم وبنو النضير جميعا من ولد
هارون بن عمران يقال لهما الكاهنان وكان الربيع أحد الرؤساء في يوم حرب بعاث وكان
حليفا للخزرج هو وقومه فكانت رياسة بني قريظة للربيع ورياسة الخزرج لعمرو بن
النعمان البياضي وكان رئيس بني النضير يومئذ سلام بن مشكم لقاؤه بالنابغة الذبياني
أخبرني عمي ومحمد بن حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني
محمد بن الحسن الأنصاري قال حدثني الحسن بن موسى مولى بني مازن بن النجار عن أبي
عبيدة قال أقبل النابغة الذبياني يريد سوق بني قينقاع فلحقه الربيع بن أبي الحقيق نازلا
من أطمة فلما أشرفا على السوق سمعا الضجة وكانت سوقا عظيمة فحاصت بالنابغة ناقته
فأنشأ يقول ( كادت
تُهَال من الأصوات راحلتي ... ) ثم
قال للربيع بن أبي الحقيق أجز يا ربيع فقال ( والنَّفْرُ
منها إذا ما أوجَسَتْ خُلُق ... ) فقال
النابغة ما رأيت كاليوم شعرا ثم قال ( لولاَ
أُنَهْنِهُها بالسّوط لاجْتَذَبتْ ... ) أجز
يا ربيع فقال ( منِّي
الزمامَ وإنِّي راكبٌ لَبِق ... ) فقال
النابغة ( قد ملَّتِ الحبْسَ في الآطام
واسْتعَفتْ ... ) أجز يا ربيع فقال ( إلى
مناهِلَها لو أَنَّهاَ طُلُق ... ) فقال
النابغة أنت يا ربيع أشعر الناس أبان بن عثمان يتمثل دائما بشعره حدثنا أحمد بن
عبد العزيز الجوهري ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني
الحزامي قال حدثني سعيد بن محمد الزبيري قال حدثنا ابن أبي الزناد عن أبيه قال قل
ما جلست إلى أبان بن عثمان إلا سمعته يتمثل بأبيات ابن أبي الحقيق ( سئِمْتُ
وأَمْسَيْتُ رهنَ الفِراشِ منْ جُرْمِ قومي ومن مَغْرمِ ) ( ومن
سَفَهِ الرّأيِ بعد النُّهى ... وغَيْبِ الرشادِ ولم يُفْهَم ) ( فلوْ
أَنَّ قومِي أطاعوا الحليمَ ... لم يتعَدَّوْا ولم نُظْلَم ) ( لكنَّ
قومي أطاعوا الغواة ... حتى تعكّص أهل الدم ) ( فأودى
السّفيهُ برأي الحليم ... وانْتَشَرَ الأمرُ لم يُبْرَم ) أخبرني
هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا معاذ عن أبي عبيدة قال قال الربيع بن أبي الحقيق
يعاتب قوما من الأنصار في شيء بينهم وبينه ( رأيتُ
بني العنقاء زَالوُا ومُلْكُهُمْ ... وآبُوا بأَنْفٍ في العشيرة مُرْغَم ) ( فإن
يُقْتَلوُا نَندمْ لذاك وإن بقُوا ... فلا بدَّ يوماً من عُقُوقٍ ومأتَم ) ( وإنّا
فُويقَ الرأس شؤبوبُ مُزْنَةٍ ... لها بَرَدٌ ما يغشَ مِ الأرضِ يَحْطِم ) صوت
( ولنا بئرٌ رَوَاءٌ جَمَّةٌ ... مَن يردْها بإناء يغتَرفْ ) ( تُدْلَجُ
الجونُ على أكنافها ... بدِلاءٍ ذاتِ أمراسٍ صُدُف ) ( كلّ
حاجاتيَ قَد قَضّيتها ... غيرُ حاجاتِيَ من بطن الجُرُف ) الشعر
لكعب بن الأشرف اليهودي والغناء لمالك ثقيل أول عن يحيى المكي قال وفيه لابن عائشة
خفيف ثقيل ولمعبد ثاني ثقيل قال يحيى في كتابه وقد خلط الرواة في ألحانهم ونسبوا
لحن كل واحد منهم إلى صاحبه وذكر الهشامي أن فيه لابن جامع خفيف رمل بالبنصر وفيه
لجعدب لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس أخبار كعب ونسبه ومقتله كعب بن الأشرف مختلف
في نسبه فزعم ابن حبيب أنه من طيىء وأمه من بني النضير وأن أباه توفي وهو صغير
فحملته أمه إلى أخواله فنشأ فيهم وساد وكبر أمره وقيل بل هو من بني النضير وكان
شاعرا فارسا وله مناقضات مع حسان بن ثابت وغيره في الحروب التي كانت بين الأوس
والخزرج تذكر في مواضعها إن شاء الله تعالى وهو شاعر من شعراء اليهود فحل فصيح
وكان عدوا للنبي يهجوه ويهجو أصحابه ويخذل منه العرب فبعث النبي نفرا من أصحابه
فقتلوه في داره ذكر خبره في ذلك كان كعب بن الأشرف يهجو النبي ويحرض عليه كفار
قريش في شعره وكان النبي قدم المدينة وهي أخلاط منهم المسلمون الذين تجمعهم دعوة النبي
ومنهم المشركون الذين يعبدون الأوثان ومنهم اليهود وهم أهل الحلقة والحصون وهم
حلفاء الحيين الأوس والخزرج فأراد النبي إذ قدم استصلاحهم كلهم وكان الرجل يكون
مسلما وأبوه مشرك ويكون مسلما وأخوه مشرك وكان المشركون واليهود حين قدم النبي
يؤذونه وأصحابه أشد الأذى فأمر الله نبيه والمسلمين بالصبر على ذلك والعفو عنهم وأنزل
في شأنهم ( ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) الآية وأنزل فيهم ( ود كثير
من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم ) إلى قوله ( واصفحوا
) فلما أبى كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذى النبي وأصحابه أمر النبي سعد بن معاذ أن
يبعث إليه رهطا فيقتلوه فبعث إليه محمد بن مسلمة وأبا عبس بن جبير والحارث بن أخي
سعد في خمسة رهط فأتوه عشية وهو في مجلس قومه بالعوالي فلما رآهم كعب أنكر شأنهم
وكان يذعر منهم فقال لهم ما جاء بكم فقالوا جئنا لنبيعك أدراعا نستنفق أثمانها
فقال والله لئن فعلتم ذلك لقد جهدتم مذ نزل بكم هذا الرجل ثم واعدهم أن يأتوه عشاء
حين تهدأ أعين الناس فجاؤوا فناداه رجل منهم فقام ليخرج فقالت امرأته ما طرقوك
ساعتهم هذه بشيء مما تحب فقال بلى إنهم قد حدثوني حديثهم وخرج إليهم فاعتنقه أبو
عبس وضربه محمد بن مسلمة بالسيف في خاصرته وانحنوا عليه حتى قتلوه فرعبت اليهود
ومن كان معهم من المشركين وغدوا على النبي فقالوا قد طرق صاحبنا الليلة وهو سيد من
سادتنا فقتل فذكر لهم ما كان يؤذى به في أشعاره ودعاهم إلى أن يكتب بينهم وبين المسلمين
كتابا فكتبت الصحيفة بذلك في دار الحارث وكانت بعد النبي عند علي بن أبي طالب رضي
الله عنه صوت ( هل بالديار التي بالقاع من أحدٍ ... باقٍ فيَسمَعَ صَوْت المُدْلج الساري ) ( تلك
المنازُل من صَفراء ليس بها ... نارٌ تضيء ولا أصوات سُمَّار ) ويروى
ليس بها حي يجيب الشعر لبيهس الجرمي والغناء لأحمد بن المكي ثقيل أول بالوسطى عن
الهشامي وقال عمرو بن بانة فيه ثاني ثقيل بالبنصر يقال إنه لابن محرز وقال الهشامي
فيه لحباب بن إبراهيم خفيف ثقيل وهو مأخوذ من لحن ابن صاحب الوضوء ( ارفع
ضعيفكَ لا يَحُرْ بك ضعفُهُ ... ) أخبار
بيهس ونسبه بيهس بن صهيب بن عامر بن عبد الله بن نائل بن مالك بن عبيد بن علقمة بن
سعيد بن كثير بن غالب بن عدي بن بيهس بن طرود بن قدامة بن جرم بن ربان بن حلوان بن
عمران بن الحاف بن قضاعة ويكنى أبا المقدام شاعر فارس شجاع من شعراء الدولة
الأموية وكان يبدو بنواحي الشام مع قبائل جرم وكلب وعذرة ويحضر إذا حضروا فيكون
بأجناد الشام وكان مع المهلب بن أبي صفرة في حروبه للأزارقة وكانت له مواقف مشهورة
وبلاء حسن وبعض أخباره في ذلك يذكر بعقب أخباره في هذا الشعر اختلاف الرواة في أمر
صفراء خليلته وقد اختلف الرواة في أمر صفراء التي ذكرها في شعره هذا فذكر القحذمي
أنها كانت زوجته وولدت له ابنا ثم طلقها فتزوجت رجلا من بني أسد وماتت عنده فرثاها
وذكر أبو عمرو الشيباني أنها كانت بنت عمه دنية وأنه كان يهواها فلم يزوجها وخطبها
الأسدي وكان موسرا فزوجها قال أبو عمرو وكان بيهس بن صهيب الجرمي يهوى امرأة من
قومه يقال لها صفراء بنت عبد الله بن عامر بن عبد الله بن نائل وهي بنت عمه دنية
وكان يتحدث إليها ويجلس في بيتها ويكتم وجده بها ولا يظهره لأحد ولا يخطبها لأبيها
لأنه كان صعلوكا لا مال له فكان ينتظر أن يثري وكان من أحسن الشباب وجها وشارة
وحديثا وشعرا فكان نساء الحي يتعرضن له ويجلسن إليه ويتحدثن معه فمرت به صفراء
فرأته جالسا مع فتاة منهن فهجرته زمانا لا تجيبه إذا دعاها ولا تخرج إليه إذا
زارها وعرض له سفر فخرج إليه ثم عاد وقد زوجها أبوها رجلا من بني أسد فأخرجها
وانتقل عن دارهم بها فقال بيهس بن صهيب ( سقَى
دمنةً صفراءُ كانت تَحُّلها ... بنَوءِ الثُّريّا طلُّها وذِهَابُها ) ( وصابَ
عليها كلُّ أسحمَ هاطلٍ ... ولا زال مخضراًّ مَرِيعاً جنابُها ) ( أَحَبُّ
ثَرَى أرضٍ إليَّ وإن نأت ... مَحلُّكِ منها نَبْتُها وترابُها ) ( على
أَنهَا غضبى عليّ وحَبّذا ... رِضاها إذا ما أُرضِيَتْ وعتابها ) ( وقد
هاج لي حينا فراقُك غُدوَةً ... وسعيُك في فيفاءَ تعْوي ذئابُها ) ( نظرتُ
وقد زال الحمُولُ ووازنوا ... برِكوةَ والوادي وخفَّتْ رِكابُها ) ( فقلتُ
لأصحابي أبِالقرب منهمُ ... جرى الطيرُ أم نادى ببينٍ غرابُها ) رثاؤه
صفراء قال أبو عمرو ثم ماتت صفراء قبل أن يدخل بها زوجها فقال بيهس يرثيها ( هل
بالديار التي بالقاعِ من أحدٍ ... باقٍ فيسمعَ صوتَ المُدلِجِ الساري ) ( تلك
المنازل من صفراءَ ليس بها ... نارٌ تضيء ولا أصواتُ سُمّار ) ( عَفَّتْ
معارفَها هُوجٌ مُغبَّرَةٌ ... تَسفي عليها ترابَ الأبْطَحِ الهاري ) ( حتى
تنكَّرتُ منها كلَّ مَعْرِفَةٍ ... إلا الرَّمادَ نخيلاً بين أحجار ) ( طال
الوقوفُ بها والعُين تسبِقُني ... فوقَ الرّداء بَوادي دَمْعِهَا الجاري ) ( إن
أُصْبحِ اليومَ لا أهلٌ ذوو لَطَفٍ ... أَلْهو لديهم ولا صفراءُ في الدار ) ( أرعَى
بعينِي نجومَ الليل مرتقباً ... يا طُولَ ذلك من هَمٍّ وإسهارِ ) ( فقد
يكونُ لِيَ الأهلُ الكِرامُ وقد ... ألْهُو بصفراءَ ذاتِ المنظر الواري ) ( من
المَواجدِ أَعْرَاقاً إذا نُسِبَتْ ... لا تَحْرِم المالَ عن ضَيفٍ وعن جارِ ) ( لم
تَلقَ بؤساً ولم يَضْرر بها عَوَزٌ ... ولم تُزخِّفْ مع الصّالي إلى النار ) ( كذلك
الدّهرُ إنّ الدّهر ذو غِيَرٍ ... على الأنام وذو نقضٍ وإِمْرار ) ( قد
كاد يعتادني من ذكرِها جَزَعٌ ... لولا الحياءُ ولولا رهبةُ العَارِ ) ( سقى
الإلهُ قبوراً في بني أسدٍ ... حول الربيعة غَيْثاً صوبَ مدرار ) ( مَنِ
الذي بعدكم أرضَى به بدلاً ... أو مَنْ أُحَدِّثُ حاجاتي وأَسْراري ) ينشد
على قبرها قال أبو عمرو واجتاز بيهس في بلاد بني أسد فمر بقبر صفراء وهو في موضع
يقال له الأحض ومعه ركب من قومه وكانوا قد انتجعوا بلاد بني أسد فأوسعوا لهم وكان
بينهم صهر وحلف فنزل بيهس على القبر فقال له أصحابه ألا ترحل فقال أما والله حتى
أظل نهاري كله عنده وأقضي وطرا فنزلوا معه عند قبرها فأنشأ يقول وهو يبكي ( ألِمَّا
على قَبرٍ لصفراءَ فاقرآ ... السّلام وقولاَ حَيِّنَا أيُّها القبرُ ) ( وما
كان شيئاً غير أن لست صابراً ... دعاءكَ قبراً دونه حِجَجٌ عَشْرُ ) ( برابيةٍ
فيها كِرامٌ أحبة ... على أنَّها إلا مضاجعَهم قَفرُ ) ( عشيَّةَ
قال الرَكب من غَرَضٍ بنا ... تروّحْ أبا المقدام قد جنَح العصرُ ) ( فقلتُ
لهمُ يومٌ قليلٌ وليلةٌ ... لصفراءَ قد طال التجنُّبُ والهَجرُ ) ( وبِتُّ
وبات الناسُ حَوليَ هُجّداً ... كأنَّ عليَّ اللّيلَ من طوله شهر ) ( إذا
قلتُ هذا حين أهجَع ساعة ... تطاول بي ليلٌ كواكبُه زُهر ) ( أقولُ
إذا ما الجنبُ مَلَّ مكانَه ... أشوكٌ يُجافِي الجَنْب أم تحته جمْرُ ) ( فلو
أنّ صَخْراً من عَمايةَ راسيا ... يقاسي الذي ألقى لقد مَلَّه الصخرُ ) قال
وأما القحذمي فإنه ذكر فيما أخبرني به هاشم بن محمد الخزاعي عن عيسى بن إسماعيل
تينة عنه أنه كان تزوجها ثم طلقها بعد أن ولدت منه ابنا فتزوجها رجل من بني أسد
فماتت عنده وذكر من شعره ومراثيه لها قريبا مما تقدم ذكره وذكر أن بيهس بن صهيب
كان من فرسان العرب وكان مع المهلب بن أبي صفرة في حروبه للأزارقة وكان يبدو
بنواحي الشام مع قبائل جرم وكلب ويحضر إذا حضروا فيكون من أجناد الشام قال أبو
عمرو ولما هدأت الفتنة بعد مرج راهط وسكن الناس مر غلام من قيس بطوائف من جرم
وعذرة وكلب وكانوا متجاورين على ماء لهم فيقال إن بعض أحداثهم نخس بيهس به ناقته
فألقته فاندقت عنقه فمات فاستعدى قومه عليهم عبد الملك فبعث إلى تلك البطون من
جاءه بوجوههم وذوي الأخطار منهم فحبسهم وهرب بيهس بن صهيب الجرمي وكان قد اتهم أنه
هو الذي نخس به فنزل على محمد بن مروان فعاذ به واستجاره فأجاره إلا من حد توجبه
عليه شهادة فرضي بذلك وقال وهو متوار عند محمد ( لقد
كانتْ حوادثُ معْضلاتٌ ... وأيامٌ أغصَّت بالشّراب ) ( وما
ذنبُ المعاشرِ في غلامٍ ... تقطّر بين أحواض الجِباب ) ( على
قَوْدَاء أفرطها جِلالٌ ... وغضّ فَهي باقيةُ الهباب ) ( ترامت
باليدين فأرهقته ... كما زلّ النَّطيح من القباب ) ( فإني
والعِقابَ وما أرجِّي ... لكالسَّاعي إلى وَضَحِ السّراب ) ( فلمّا
أن دنا فرجٌ بربِّي ... يكشِّف عن مُخفّقَةٍ يبابِ ) ( من
البُلدان ليس بها غَريبٌ ... تَخُبّ بأرضها زُلُّ الذّئاب ) ( فظِنّي
بالخليفة أنّ فيه ... أماناً للبريءِ وللمصاب ) ( وأنّ
محمداً سيعود يوماً ... ويرجعُ عن مُراجَعةِ العِتاب ) ( فيجبر
صِبْيَتي ويَحوط جاري ... ويُؤْمِن بعدها أبداً صِحَابي ) ( هو
الفرع الذي بُنِيَتْ عليه ... بُيُوتُ الأطيبين ذوي الحِجاب ) قال
فلم يزل محمد بن مروان قائما وقاعدا في أمرهم مع أخيه حتى أمن بيهس بن صهيب
وعشيرته واحتمل دية المقتول لقيس وأرضاهم صوت ( نزل المشيبُ فما له تحويلُ ...
ومضى الشّبابُ فما إليه سبيلُ ) ( ولقد
أُراني والشّبابُ يقودُني ... ورداؤه حسنٌ عليّ جميلُ ) الشعر
للكميت بن معروف الأسدي والغناء لمعبد خفيف ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول
بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق أخبار الكميت بن معروف ونسبه هو الكميت بن
معروف بن الكميت بن ثعلبة بن رباب بن الأشتر بن جحوان بن فقعس بن طري بن عمرو بن
قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر شاعر
من شعراء الإسلام بدوي أمه سعدة بنت فريد بن خيثمة بن نوفل بن نضلة هو سليل أسرة
من الشعراء والكميت أحد المعرقين في الشعر أبوه معروف شاعر وأمه سعدة شاعرة وأخوه
خيثمة أعشى بني أسد شاعر وابنه معروف الكميت شاعر فأما أبوه فهو القائل لعبد الله
بن المساور بن هند ( إنّ
مُناخي أمسِ يا بنَ مُساورٍ ... إليك لَمِنْ شُرْب النُّقَاخ المُّصَرَّدِ ) ( تباعدتَ
فوق الحق من آل فقعسٍ ... ولم ترجُ فيهم رِدَّةَ اليومِ أو غدِ ) ( وقلتَ
غِنًى لا فقَر في العَيْش بعدَه ... وكلُّ فَتًى للنائبات بمرْصَدِ ) ( كأنك
لم تعلم محلَّ بُيوتِكم ... مع الحيّ بين الغور والمُتَنَجَّد )
( فلولا رجال من جَذيمة قَصْرةً ...
عَدَدْت بلائي ثم قلت له عدُدِ ) وأمه
سعدة القائلة له وقد تزوج بنت أبي مهوش على مراغمة لها وكراهة لذلك فغضبت سعدة
وقالت فيه ( عليك بأنقاض العراق فقد عَلَتْ ...
عليك بتَخدين النّساء الكرائم ) ( لعمري
لقد راش ابن سُعدَة نَفسَه ... بريش الذُّنَابَى لا بريش القَوادمِ ) ( بنىَ
لك معروفٌ بناءً هدمتَهُ ... ولِلشَّرف العاديِّ بانٍ وهادمُ ) وهي
القائلة ترثي ابنها الكميت ( لأمِّ
البلادِ الويلُ ماذا تضمَّنَت ... بأَكْناف طورى من عَفافٍ ونائل ) ( ومن
وَقَعَاتٍ بالرجال كأنها ... إذا عنَّت الأحداثُ وقْعُ المناصل ) ( يُعزِّي
المُعزّى عن كُمَيْتٍ فتنتهي ... مقالتُه والصَّدر جمُّ البَلابلِ ) أخوه
يرثيه وأعشى بني أسد أخو الكميت واسمه خيثمة الذي يقول يرثي الكميت وغيره من أهل
بيته ( هوِّن عليك فإنّ الدهَر منجدبٌ ...
كلُّ امرئٍ عن أخيه سوف ينْشَعِب ) ( فلا
يغُرَّنْكَ من دهرٍ تقلُّبُه ... إنّ اللّياليَ بالفتيان تنقلِبُ ) ( نام
الخليُّ وبتُّ الليلَ مُرتفِقا ... كما تزاور يخشى دفّه النَّكبُ ) ( إذا
رجعتُ إلى نفسي أُحدِّثُها ... عمّن تضمَّن من أصحابيَ القُلُب ) ( من
إخوةٍ وبني عمٍّ رُزِئتْهُمُ ... والدَّهرُ فيه على مستعتِبٍ عَتَب ) ( عاودتُ
وجداً على وجدٍ أكابِدُه ... حتى تكاد بناتُ الصَّدْر تلتهب ) ( هل
بعدَ صخرٍ وهل بعد الكميتِ أخٌ ... أم هل يعودُ لنا دهرٌ فنصطحبُ ) ( لقد
علمتُ ولو مُلَّيت بعدَهُم ... أني سأنهل بالشِّرب الذي شربوا ) وابنه
يتغزل ومعروف بن الكميت القائل ( قد
كنت أحسبني جَلْداً فهيَّجني ... بالشيب منزِلةٌ من أمّ عمَّارِ ) ( كانت
منازلَ لا ورهاءَ جافيةٍ ... على الحدوج ولا عُطلاً بمقفار ) ( وما
تَجاوُرُنا إذ نخن نسكنها ... ولا تَفَرُّقُنا إلا بمقدار ) صوت
( أرقتُ لبرق دُونَه شَذَوانِ ... يمانٍ وأهوى البرَق كلَّ يماني ) ( فليت
القِلاصَ الأدْمَ قد وخدَت بنا ... بوادٍ يمانٍ ذي رُباً ومَجانِي ) الشعر
ليعلى الأحول الأزدي وجدت ذلك بخط أبي العباس محمد بن يزيد المبرد في شعر الأزد
وقال عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه هي ليعلى الأحول كما روى غيره قال ويقال
إنها لعمرو بن أبي عمارة الأزدي من بني خنيس ويقال إنها لجواس بن حيان من أزد عمان
وأول هذه القصيدة في رواية أبي عمرو أبيات فيها غناء أيضا وهي صوت ( أويْحكما
يا واشِيَيْ أمّ مَعْمَرٍ ... بمَن وإلى مَن جئْتما تَشيانِ ) ( بمن
لو أراه عانياَ لفدَيْتُهُ ... ومَن لو رآني عانياً لفَداني ) لعريب
في هذين البيتين ثقيل أول ولعمرو بن بانة فيهما هزج بالوسطى من كتابه وجامع صنعته
وقال ابن المكي لمحمد بن الحسن بن مصعب فيه هزج بالأصابع كلها =========================
ج42. كتاب:الأغاني لأبي الفرج
الأصفهاني أخبار يعلى ونسبه يعلى الأحول بن مسلم بن أبي قيس أحد بني يشكر بن عمرو
بن رالان ورالان هو يشكر ويشكر لقب لقب به بن عمران بن عمرو بن عدي بن حارثة بن
لوذان بن كهف الظلام هكذا وجدته بخط المبرد بن ثعلبة بن عمرو بن عامر كان خليعا
يجمع الصعاليك شاعر إسلامي لص من شعراء الدولة الأموية وقال هذه القصيدة وهو محبوس
بمكة عند نافع بن علقمة الكناني في خلافة عبد الملك بن مروان قال أبو عمرو وكان
يعلى الأحول الأزدي لصا فاتكا خاربا وكان خليعا يجمع صعاليك الأزد وخلعاءهم فيغير
بهم على أحياء العرب ويقطع الطريق على السابلة فشكي إلى نافع بن علقمة بن الحارث
بن محرث الكناني ثم الفقيمي وهو خال مروان بن الحكم وكان والي مكة فأخذ به عشيرته
الأزديين فلم ينفعه ذلك واجتمع إليه شيوخ الحي فعرفوه أنه خلع قد تبرؤوا منه ومن
جرائره إلى العرب وأنه لو أخذ به سائر الأزد ما وضع يده في أيديهم فلم يقبل ذلك
منهم وألزمهم إحضاره وضم إليهم شرطا يطلبونه إذا طرق الحي حتى يجيئوه به فلما اشتد
عليهم في أمره طلبوه حتى وجدوه فأتوا به فقيده وأودعه الحبس فقال في محبسه شعره في
سجنه ( أرِقتُ لبرقٍ دونه شَذَوانِ ... يَمانٍ وأهوى البرقَ كلَّ يمان ) ( فبِتُّ
لدى البيت الحرام أشِيمُهُ ... ومِطْوايَ من شوقٍ له أرِقان ) المطو
الصاحب ( إذا قلتُ شِيماه يقولان والهوى ...
يصادف منّا بعض ما تريان ) ( جرى
منه أطرافُ الشرى فمشيَّعٌ ... فأبيانُ فالحيَّان من دَمران ) ( فمرّانُ
فالأقْباصُ أقْباصُ أملَجٍ ... فماوانِ من واديهما شَطِنَان ) ( هنالك
لو طَوَّفْتما لوجدتما ... صديقاً من إخوانٍ بها وغوان ) ( وعزْفُ
الحمامِ الوُرْقِ في ظلِّ أيكةٍ ... وبالحي ذي الرَّوْدَين عزفُ قيان ) ( ألا
ليت حاجاتي اللواتي حَبَسْنَنِي ... لدى نافعٍ قُضِّينَ منذ زمان ) ( وما
بِيَ بُغضٌ للبلاد ولا قِلًى ... ولكنَّ شوقاً في سواه دعاني ) ( فليتَ
القِلاصَ الأُدم قد وخَدت بنا ... بوادٍ يمانٍ ذي رُباً ومجاني ) ( بوادِ
يمانٍ يُنبِت السّدرَ صدرُه ... وأسفله بالمرخ والشَّبَهان ) ( يدافعنا
من جانبيه كليهما ... عزيفان من طرفائه هَدِبان ) ( وليت
لنا بالجوز واللوز غيلة ... جناها لنا من بطن حلية جاني ) الغيلة
شجر الأراك إذا كانت رطبة ويروى في موضع من بطن حلية من حب جيحة ( وليتَ
لنا بالدِّيك مُكَّاءَ روضةٍ ... على فنَنٍ من بطن حليةَ داني ) ( وليت
لنا من ماء حزنة شربةً ... مبردةً باتت على طهمان ) ويروى
من ماء حمياء صوت ( إن السلامَ وحُسنَ كلِّ تحيّةٍ ... تغدو على ابن مجزِّزٍ
وتروحُ ) ( هلا فَدى ابنَ مجزِّز متفحشٌّ ...
شَنِجُ اليدين على العطاء شَحِيح ) الشعر
لجواس العذري والغناء لسائب بن خاثر خفيف ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي والهشامي من
رواية حماد عن أبيه في أخبار سائب خاثر وأغانيه نسب جواس وخبره في هذا الشعر هو
جواس بن قطبة العذري أحد بني الأحب رهط بثينة وجواس وأخوه عبد الله الذي كان يهاجي
جميلا ابنا عمها دنية وهما ابنا قطبة بن ثعلبة بن الهون بن عمرو بن الأحب بن حن بن
ربيعة بن حرام بن عتبة بن عبيد بن كثير بن عجرة احتكم هو وجميل إلى يهود تيماء
وكان جواس شريفا في قومه شاعرا فذكر أبو عمرو الشيباني أن جميل بن عبد الله بن
معمر لما هاجى جواسا تنافرا إلى يهود تيماء فقالوا لجميل يا جميل قل في نفسك ما
شئت فأنت والله الشاعر الجميل الوجه الشريف وقل أنت يا جواس في نفسك وفي أبيك ما
شئت ولا تذكرن أنت يا جميل أباك في فخر فإنه كان يسوق معنا الغنم بتيماء عليه شملة
لا تواري استه ونفروا عليه جواسا قال ونشب الشر بين جميل وجواس وكانت تحته أم
الجسير أخت بثينة التي يذكرها جميل في شعره إذ يقول ( يا
خَلِيلَّي إن أُمَّ جُسَيْرٍ ... حين يدنو الضَّجيع من عَلَلِهْ ) ( روضةٌ
ذاتُ حَنْوَةٍ وخُزَامَى ... جادَ فيها الربيعُ من سَبَلِهِ ) فغضب
لجميل نفر من قومه يقال لهم بنو سفيان فجاؤوا إلى جواس ليلا وهو في بيته فضربوه
وعروا امرأته أم الجسير في تلك الليلة فقال جميل ( ما
عَرَّ حوَّاسَ استُها إذ يسبُّهم ... بصَقْرَيْ بني سُفيانَ قَيْسٍ وعاصمِ ) ( هما
جرّدا أُمَّ الجُسَيْر وأوقعا ... أمرَّ وأدهى من وَقِيعةِ سالِم ) يعني
سالم بن دارة فقال جواس ( ما
ضُرِبَ الجَوَّاسُ إلا فُجَاءةً ... على غفلةٍ من عَيْنِه وهْو نائمُ ) ( فإلا
تُعجِّلْني المنيَّةُ يصْطبح ... بكأسك حِصْناكم حُصَيْن وعاصِمُ ) ( ويُعطِي
بنو سفيان ما شئتُ عَنْوةً ... كما كنت تُعطِيِنْي وأنفُك راغِمُ ) هو
وجميل يحدوان ركاب مروان وقال أبو عمرو الشيباني حج مروان بن الحكم فسار بين يديه
جميل بن عبد الله بن معمر وجواس بن قطبة وجواس بن القعطل الكلبي فقال لجميل انزل
فسق بنا فنزل جميل فقال ( يا
بُثْن حَيّي وَدّعينا أو صِلي ... وهوِنّي الأمر فزُورِي واعْجَلِي ) ( ثُمَّت
أيَّاً ما أردتِ فافْعَلي ... إني لآتي ما أتيت مُؤْتلي ) فقال
له مروان عد عن هذا فقال ( أنا
جميلٌ والحِجازُ وطني ... فيه سهَوَى نَفْسِي وفيه شَجَني ) ( هذا
إذا كان السّياق دَدَني ... ) فقال
لجواس بن قطبة انزل أنت يا جواس فسق بنا فنزل فقال وقد كان بلغه عن مروان أنه
توعده إن هاجى جميلا ( لستُ
بعبدٍ للمطايا أسوقها ... ولكنني أرمي بهنّ الفَيافِيا ) ( أتانيَ
عَن مرْوانَ بالغيب أنه ... مُبِيحٌ دمِي أو قاطِعٌ من لسانيا ) ( وفي
الأرض مَنجاة وفُسحَةُ مذهبٍ ... إذا نحن رققنا لهن المثانيا ) فقال
له مروان أما إن ذلك لا ينفعك إذا وجب عليك حق فاركب لا ركبت ثم قال لجواس بن
القعطل ويقال بل القصة كلها مع جواس بن قطبة انزل فارجز بنا فنزل فقال هذه الأبيات
( يقول أميري هل تسوقُ ركابَنا ...
فقلتُ اتّخذ حادٍ لهن سوائِيا ) ( تكرمتُ
عن سَوْقِ المَطيِّ ولم يكن ... سِياقُ المطايا هِمَّتي ورَجائِيا ) ( جعلتَ
أبي رِهْناً وعِرضِي سادراً ... إلى أهل بيتٍ لم يكونوا كِفائيا ) ( إلى
شرِّ بيت من قُضاعَة منصِباً ... وفي شرِّ قوم منهمُ قد بَدا ليا ) فقال
له اركب لا ركبت خبر ابن مجزز والأبيات التي فيها الغناء يرثي بها جواس بن قطبة
العذري علقمة بن مجزز قال أبو عمرو الشيباني وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث علقمة
بن مجزز الكناني ثم المدلجي في جيش إلى الحبشة وكانوا لا يشربون قطرة من ماء إلا
بإذن الملك وإلا قوتلوا عليه فنزل الجيش على ماء قد ألقت لهم فيه الحبشة سما
فوردوه مغترين فشربوا منه فماتوا عن آخرهم وكانوا قد أكلوا هناك تمرا فنبت ذلك
النوى الذي ألقوه نخلا في بلاد الحبشة وكان يقال له نخل ابن مجزز فأراد عمر أن
يجهز إليهم جيشا عظيما فشهد عنده أن رسول الله قال اتركوا الحبشة ما تركوكم وقال
وددت لو أن بيني وبينهم بحرا من نار فقال جواس العذري يرثي علقمة بن مجزز ( إنّ
السّلامَ وحُسْنَ كلِّ تحيةٍ ... تغدو على ابن مجزِّز وتَروحُ ) ( فإذا
تجرّد حافِراك وأصبحت ... في الفجر نائحةٌ عليك تنوحُ ) ( وتخيّروا
لك من جيادِ ثيابهم ... كفناً عليك من البَياض يلوح ) ( فهناك
لا تُغنِي مودّةُ ناصحٍ ... حذراً عليك إذا يُسَدُّ صريحُ ) ( هلا
فَدى ابنَ مجزز متفحّشٌ ... شَنِجُ اليدين على العطاء شحيحُ ) ( متمرِّعٌ
ورِعٌ وليس بماجدٍ ... متملّح وحديثُه مقبوحُ ) وفيمن
هلك مع ابن مجزز يقول جواس ( ألَهْفِي
لِفتيانٍ كأنّ وجوهَهم ... دنانيرُ وافت مهْلِكَ ابنِ مُجزِّز ) صوت
( أَحَبّتَنا بأَبِي أَنْتُمُ ... وسَقْياً لكم حيثما كُنتُمُ ) ( أطلتمْ
عَذابي بميعادكم ... وقلتُم نزورُ فما زرتُمُ ) ( فأمسك
قلبِي على لوعتي ... ونَمَّتْ دموعي بما أَكتُمُ ) ( ففيمَ
أسأتم وأخلفتُم ... وقِدْماً وفَيْتُمْ وأحسنْتُمُ ) الشعر
لإبراهيم بن المدبر والغناء لعريب خفيف ثقيل أخبار إبراهيم بن المدبر أبو إسحاق
إبراهيم بن المدبر شاعر كاتب متقدم من وجوه كتاب أهل العراق ومتقدميهم وذوي الجاه
والمتصرفين في كبار الأعمال ومذكور الولايات وكان المتوكل يقدمه ويؤثره ويفضله
وكانت بينه وبين عريب حال مشهورة كان يهواها وتهواه ولهما في ذلك أخبار كثيرة قد
ذكرت بعضها في أخبار عريب وأذكر باقيها ها هنا ينشد المتوكل في مرضه أخبرني أحمد
بن جعفر جحظة قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال مرض المتوكل مرضة خيف عليه منها ثم
عوفي وأذن للناس في الوصول إليه فدخلوا على طبقاتهم كافة ودخلت معهم فلما رآني
استدناني حتى قمت وراء الفتح ونظر إلي مستنطقا فأنشدته ( يومٌ
أتانا بالسرورِ ... فالحمد لله الكبيرِ ) ( أخلصتُ
فيه شُكرَه ... وَوَفْيتُ فيه بالنُّذورِ ) ( لما
اعتَللتَ تَصدَّعتْ ... شُعَبُ القلوب من الصدورِ ) ( من
بيِن ملتهب الفؤاد ... وبين مكتئبِ الضميرِ ) ( يا
عُدَّتِي للدِّينِ والدُّنيا ... وللخَطْب الخطيرِ ) ( كانت
جُفونِي ثَرَّةَ الآماق ... بالدَّمِع الغَزيرِ ) ( لو
لم أمت جزعاً لعمرُك ... َ إنني عينُ الصبور ) ( يومي
هنالك كالسّنينَ ... وساعتي مِثلُ الشُّهورِ ) ( يا
جعفرُ المتوكلُ العالي ... عَلَى البدر المُنِيرِ ) ( اليوم
عاد الدين غَضْضَ ... العود ذا وَرَقٍ نَضِيرِ ) ( واليومَ
أصبحت الخِلافة ... وهي أرسى من ثَبِير ) ( قد
حالَفَتْكَ وعاقَدَتْك ... عَلَى مطاوَلَةِ الدُّهُورِ ) ( يا
رحمةً للعالمينَ ... ويا ضياء المستَنيرِ ) ( يا
حجةَ اللهِ الَّتي ... ظَهَرَتْ له بهُدىً ونُورِ ) ( لله
أنتَ فما نشَاهِد ... ُ منكَ من كَرم وخيرِ ) ( حتى
نقول ومَنْ بِقُربِك ... َ من ولِيٍّ أو نَصير ) ( البدرُ
ينطِق بيننا ... أَمْ جعفرٌ فوقَ السريرِ ) ( فإِذا
تواتَرتِ العَظَائم ... ُ كُنتَ منقطعَ النَّظيرَ ) ( وإذا
تعذَّرت العَطَايَا ... كنت فيَّاضَ البُحورِ ) ( تُمضي
الصوابَ بلا وزير ... ٍ أو ظهيرٍ أو مُشير ) فقال
المتوكل للفتح أن إبراهيم لينطق عن نية خالصة وود محض وما قضينا حقه فتقدم بأن
يحمل إليه الساعة خمسون ألف درهم وتقدم إلى عبيد الله بن يحيى بأن يوليه عملا
سرياً ينتفع به المتوكل يودعه السجن فينشد وهو محبوس حدثني عمي قال حدثني محمد بن
داود بن الجراح قال كان أحمد بن المدبر ولي لعبيد الله بن يحيى بن خاقان عملا فلم
يحمد أثره فيه وعمل على أن ينكبه وبلغ أحمد ذلك فهرب وكان عبيد الله منحرفاً عن إبراهيم
شديد النفاسة عليه برأي المتوكل فيه فأغراه به وعرفه خبر أخيه وادعى عليه مالا
جليلا وذكر أنه عند إبراهيم أخيه وأوغر صدره عليه حتى أذن له في حبسه فقال وهو
محبوس ( تسليْ ليس طولُ الحبس عاراً ...
وفيه لنا من الله اختيارُ ) ( فلولا
الحبس ما بُلِي اصطبارٌ ... ولولا الليلُ ما عُرِفَ النهارُ ) ( وما
الأيام إلا معقبات ... ولا السلطان إلا مستعار ) ( وعن
قدرٍ حُبِسْتُ فَلاَ نَقِيضٌ ... وفيما قَدَّرَ اللهُ الخَيارُ ) ( سيُفْرَجُ
ما ترين إلى قليلٍ ... مقدره وإن طال الإسَارُ ) ولإبراهيم
في حبسه أشعار كثيرة حسان مختارة منها قوله في قصيدة أولها ( أَدموعُها
أم لؤلؤٌ متناثرُ ... يندى به وَردٌ جنِيٌّ ناضرُ ) يقول
فيها ( لا تؤيسَنَّكَ من كريم نَبوةٌ ...
فالسيفُ ينبو وهو عضبٌ باترُ ) ( هذا
الزمانُ تسومُني أيامُه ... خَسْفاً وهأنذا عليه صابرُ ) ( إن
طال ليلي في الإسارِ فَطالما ... أفنيتُ دهراً ليلةُ متقاصرُ ) ( والحبسُ
يحجبُني وفي أكنَافِه ... منِّي عَلَى الضرّاء ليثٌ خادرُ ) ( عجباً
له كيف التقت أبوابُه ... والجودُ فيه والغَمامُ الباكرُ ) ( هلا
تقطَّع أو تصدَّع أو وَهى ... فَعذَرْتُه لكنّه بي فاخرُ ) ومنها
قوله في قصيدة أولها ( ألا
طرقت سلمى لدى وقعة الساري ... فريدا وحيدا موثقا نازح الدار ) ( هو
الحبس ما فيه علي غضاضة ... وهل كان في حبس الخليفة من عار ) يقول
فيها ( ألستِ ترينَ الخمر يظهرُ حسنُها
... وبهجتُها بالحبس في الطين والقارِ ) ( وما
أنا إلا كَالجوادِ يصُونه ... مقوِّمه للسَّبْق في طَيِّ مضمارِ ) ( أو
الدُّرةِ الزهراء في قعر لُجَّةٍ ... فلا تُجتَلَى إلا بهوَلٍ وأخطارِ ) ( وهل
هو إلا منزِلٌ مثلُ منزلي ... وبيتٌ ودارٌ مثلُ بيتيَ أو دارِي ) ( فلا
تنكري طولَ المدَى وأذى العِدى ... فانَّ نهاياتِ الأمورِ لإقْصارِ ) ( لعلّ
وراءَ الغَيبِ أمراً يسرُّنا ... يقدِّرُه في علمِه الخالِقُ الباري ) ( وإني
لأرجو أن أصُولَ بجعفرٍ ... فأهضمَ أعدائي وأُدْرِكَ بالثَّارِ ) مدح
من خلصه من السجن فأخبرني عمي عن محمد بن داود أن حبسه طال فلم يكن لأحد في خلاصه
منه حيلة مع عضل عبيد الله وقصده إياه حتى تخلصه محمد بن عبد الله بن طاهر وجود
المسألة في أمره ولم يلتفت إلى عبيد الله وبذل أن يحتمل في ماله كل ما يطالب به
فأعفاه المتوكل من ذلك ووهبه له وكان إبراهيم استغاث به ومدحه فقال ( دعوتُك
من كَرْب فلبّيت دعوتي ... ولم تعترضْني إذ دعوتُ المعاذرُ ) ( إليك
وقد حُلّئتُ أوردْتُ هِمَّتي ... وقد أعجزتني عن همومي المَصادرُ ) ( نمى
بك عبدُ الله في العزِّ والعُلا ... وحاز لك المجدَ المؤثَّلَ طاهرُ ) ( فأنتم
بَنو الدنيا وأملاكُ جوِّها ... وساسَتُها والأعظَمون الأكابرُ ) ( مآثرُ
كانتْ للحُسَين ومُصعَبٍ ... وطلحةَ لا تحوي مَداها المفاخرُ ) ( إذا
بذلوا قيلَ الغيوثُ البواكرُ ... وإن غَضِبوا قيل الليوثُ الهواصرُ ) ( تطيعكُمُ
يَوْمَ اللقاء البواترُ ... وتزهو بكمْ يوم المقامِ المنابرُ ) ( وما
لكُمُ غيرَ الأسرَّة مجلسٌ ... ولا لكُمُ غيرَ السيوفِ مخاصرُ ) ( ولي
حاجة إن شئتَ أحرزتَ مجدها ... وسرَّكَ منها أولٌ ثم آخرُ ) ( كلام
أميرٍ المؤمنين وعطفُه ... فماليَ بعد الله غيرَكَ ناصرُ ) ( وإن
ساعدَ المقدورُ فالنُّجح واقع ... وإلا فإني مخلص الودِّ شَاكِرُ ) حدثني
جعفر بن قدامة قال كتبت عريب من سر من رأى إلى إبراهيم بن المدبر كتابا تتشوقه فيه
وتخبره باستيحاشها له واهتمامها بأمره وأنها قد سألت الخليفة في أمره فوعدها بما تحب
فأجابها عن كتابها وكتب في آخر الكتاب ( لعمرك
ما صوتٌ بديعٌ لمعبَدٍ ... بأحسنَ عندي من كتاب عَريب ) ( تأمّلتُ
في أثنائه خَطَّ كاتبٍ ... ورقَّةَ مشتاقٍ ولفظَ خَطيب ) ( وراجَعني
من وصلها ما استرقَّني ... وزهَّدني في وصل كلَّ حَبيب ) ( فصرتُ
لها عبداً مُقرًّا بِمَلكِهَا ... ومستمسِكاً من ودها بنصيب ) أحب
جارية أحبت سواه أخبرني جعفر بن قدامة قال كان علي بن يحيى المنجم وإبراهيم بن
المدبر مجتمعين في منزل بعض الوجوه بسر من رأى على حال أنس وكانت تغنيهم جارية
يقال لها نبت جارية البكرية المغنية من جواري القيان فأقبل عليها إبراهيم بن
المدبر بنظره ومزحه وتجميشه وهي مقبلة على فتى كان أمرد من أولاد الموالي يقال له
مظفر كانت تهواه وكان أحسن الناس وجها ولم يزل ذلك دأبهم إلى أن افترقوا فكتب إليه
علي بن يحيى يقول ( لقد
فتنَتْ نبت فتى الظَّرف والنَّدى ... بمقلةِ رِيمٍ فاترِ الطَّرفِ أحورِ ) ( وشدوٍ
يروقُ السامعين ويملأ ال ... قلوب سروراً مُونِقٍ متخيَّرِ ) ( فأصبحَ
في فخِّ الهوى متقنِّصا ... عزيزٌ على إخوانه ابنُ المدبِّرِ ) ( ولم
تدرِ ما يَلْقَى بها ولو أنَّها ... دَرَتْ روَّحتْ من حَرِّهِ المُتَسعِّرِ ) ( وذاكَ
بها صبٌّ ونَبتٌ خليَّة ... ومشغولةٌ عنه بوجه مُظَفَّرِ ) ( ولو
أنصفتْ نبتٌ لما عدلتْ به ... سواهُ وحازت حُسْنَ مرأَى ومَخْبَرِ ) فكتب
إليه إبراهيم بن المدبر ( طَربْتُ
إلى قطْرَبِّلٍ وبَلَشْكرِ ... وراجعتُ غَيًّا ليس عني بمُقصِرِ ) ( وذكَّرني
شعرٌ أتانِيَ مونِقٌ ... حبائبَ قَلبي في أَوائلِ أعصُري ) ( فنَهنَهتُ
نفسي عن تذكُّرِ ما مضى ... وقلتُ أفيقي لاتَ حينَ تذكُّرِ ) ( أبا
حَسَنٍ ما كنتَ تعْرَفُ بالخَنَا ... ولا بِعُلوٍّ في المكانِ المؤَخَّر ) ( وما
زِلْتَ محمود الشمائل مرتضى الخلائقِ معروفا بعُرْفٍ ومنكَرِ ) ( أترمي
بنَبْتٍ من جفاها تَخَيُّراً ... وباعدها عنه برأْيٍ موقَّرِ ) ( ودافعَها
عن سرِّها وهي تَشْتَكي ... إليه تباريحَ الهوى المتسعِّرِ ) ( ولو
كان تبَّاعاً دواعيَ نفسِه ... إذاً لقضَى أوطارَه ابنُ المدبّرِ ) ( على
أنه لو حصحَصَ الحقُّ باعَها ... ولو كان مشغوفاً بها بمُظَفَّرِ ) ( بلؤلؤةٍ
زهراءَ يشرقُ ضوءُها ... وغُرَّةٍ وجهٍ كالصباج المشهَّرِ ) ( إلى
اللهِ أشكو أنَّ هذا وهذِه ... غزالاَ كثيبٍ ذي أَقاحٍ مُنوِّر ) ( وأنتَ
فقد طالبتَها فوجدتَها ... لها خُلُقٌ لا يرعَوِي ذو توعُّرِ ) ( وحاولتَ
منهَا سلوة عن مُظَفَّرٍ ... فما لان منها العِطْفُ عند التَّخَيُّرِ ) ( نصحتُك
عن وُدٍّ ولم أكُ جاهداً ... فإن شئتَ فاقبل قولَ ذي النصح أو ذَرِ ) فكتب
إليه علي بن يحيى المنجم ( لعمري
لقد أحسنتَ يا بنَ المدبّر ... وما زلت في الإحسان عين المشهَّر ) ( ظَرُفْتَ
ومن يجمعْ من العلم مثلَ ما ... جمعت أبا إسحاق يَظْرُفْ ويُشْهَرِ ) ولإبراهيم
في نبت هذه أشعار كثيرة منها قوله ( نَبْتٌ
إذا سكتَت كان السكوتُ لها ... زينا وإن نطقت فالدرُّ يَنْتَشِرُ ) ( وإنما
أقصدتْ قلبي بمُقْلتِها ... ما كان سهمٌ ولا قوسٌ ولا وَتَرُ ) وقوله
( يا نبتُ يا نبتُ قد هام الفؤادُ
بكم ... وأنت واللهِ أحلى الخلقِ إنسانا ) ( أَلاَ
صِليني فإنِّي قد شُغِفْتُ بِكُمْ ... إن شئتِ سراًّ وإن أَحببتِ إعلانا ) خبر
خاتم عريب أخبرني جعفر بن قدامة قال كان في إصبع إبراهيم بن المدبر خاتمان وهبتهما
له عريب وكانا مشهورين لها فاجتمع مع أبي العبيس بن حمدون في اليوم التاسع
والعشرين من شعبان على شرب فلما سكرا اتفقا على أن يصير إبراهيم إلى أبي العبيس
ويقيم عنده من غد إن لم ير الهلال وأخذ الخاتمين منه رهنا ورئي الهلال في تلك
الليلة وأصبح الناس صياما فكتب إبراهيم إلى أبي العبيس يطالبه بالخاتمين فدافعه
وعبث به فكتب إليه من غد ( كيف
أصبحتَ يا جعلتُ فِدَاكا ... إنني أشتكي إليك جَفاكا ) ( قد
تَمادى بك الجفاءُ وما كنتَ ... حقيقا ولا حَرِيًّا بذاكا ) ( كُن
شبيهاً بمن مضى جعل اللهُ ... لكَ العُمرَ دَائماً وَرَعَاكا ) ( إنَّ
شهرَ الصيامِ شهرُ فكاكٍ ... أنتَ فيه ونحنُ نرجو الفَكاكا ) ( فارددِ
الخاتَمينِ ردًّا جَميِلا ... قد تنعَّمتَ فيهما ما كفاكا ) ( يا
أبا عبدِ اللهِ دعوةَ داعٍ ... يرتجي نُجحَ أمره إذْ دعَاكا ) يعني
أبا عبدالله بن حمدون والد أبي العبيس المخاطب بهذا الشعر ( خاتمايَ
اللذانِ عند أبي العبآس قد شارفَا لديه الهلاكا ) ( وهو
حُرٌّ وقد حكاك كما أنْنَك ... في المكرُماتِ تحكِي أباكا ) فبعث
بالخاتمين إليه أرسل يستريز أبا العبيس وأخبرني جعفر قال زارت عريب إبراهيم بن
المدبر وهو في داره على الشاطئ في المطيرة واقترحت عليه حضور أبي العبيس فكتب إليه
إبراهيم ( قل لابنِ حمدونَ ذاك الأريبِ ...
وذاك الظريفِ وذاك الحسيبِ ) ( كتابي
إليكَ بشكوى عَريبِ ... لوجدٍ شديدٍ وشوقٍ عجيبِ ) ( وَشوْقِي
إليكَ كشوق الغريبِ ... إلى أرضِهِ بعد طولِ المغيبِ ) ( ويوْمِيَ
إن أنتَ تَمّمتَه ... بقُربكَ ذُو كُلِّ حُسْنٍ وطِيبِ ) ( حَبَاني
الزمانُ كما أَشتَهِي ... بقرب الحبيب وبُعْدِ الرقيبِ ) ( فما
زلتُ أشربُ من كفِّه ... وأسقيه سقيَ اللطيف الأديبِ ) ( ويشكو
إليَّ وأشكو إليه ... بقولٍ عفيفٍ وقولٍ مريبِ ) ( إلى
أن بداليَ وجهُ الصباح ... كوجهك ذاك العجيبِ الغريبِ ) ( فلا
تُخْلِنا يا نظامَ السرور ... منك فأنت شفاءُ الكَئيبِ ) ( وغنَّ
لنا هَزَجاً مُمْسِكاً ... تَخِفّ له حركاتُ اللبيبِ ) ( فإنكَ
قد حُزتَ حسنَ الغناءِ ... وقد فُزتَ منه بأوفَى نصيب ) ( وكن
بأبي أنتَ رَجْعَ الجوابِ ... فِداؤك أنفُسُنا من مُجِيبِ ) أخبرني
جعفر قال غنى أبو العبيس بن حمدون يوما عند إبراهيم صوت ( إني سألتكَ بالذي ...
أدنى إِليكَ من الوريدِ ) ( إلاَّ
وصلتَ حبالَنا ... وكَفَيْتَنَا شرَّ الوعيدِ ) فزاد
فيه إبراهيم قوله ( الهجرُ
لا مستحسَنٌ ... بعد المواثقِ والعهودِ ) ( وأراكِ
مغراةٍ به ... أَفما غرِضت من الصدودِ ) ( إني
أجدِّدُ لَذَّتي ... ما لاح لي يومٌ جديدُ ) ( شُربي
معتّقة الكُروم ... ونُزهَتي وَرْدُ الخُدُودِ ) فغنى
هذه الأبيات أبو العبيس متصلة باللحن الأول في البيتين وصار الجميع صوتا واحدا إلى
الآن والأبيات الأخيرة لإبراهيم بن المدبر والأولان ليسا له نسبة هذا الصوت الغناء
في البيتين الأولين خفيف ثقيل مزموم لأبي العبيس وفيهما لحنان خفيف ثقيل آخر مطلق
وفيهما لعريب ثاني ثقيل بالوسطى قال جعفر وغنته يوما كراعة بسر من رأى ونحن حضور
عنده ( يا معشَر الناسِ أما مُسلمٌ ...
يشفعُ عند المذنِبِ العاتبِ ) ( ذاك
الذي يهرُب من وصلِنا ... تعلَّقوا بالله بالهاربِ ) فزاد
فيهما قوله ( ملَّكتُه
حَبْلي ولكنَّه ... ألقاهُ من زُهدٍ عَلَى غاربي ) ( وقال
إني في الهوى كاذبٌ ... فانتقمَ اللهُ من الكاذب ) يسترحم
أبا عبد الله بن حمدون في نكبته حدثني عمي قال حدثني محمد بن داود قال كتب إبراهيم
بن المدبر إلى أبي عبد الله بن حمدون في أيام نكبته يسأله اذكار المتوكل والفتح
بأمره ( كم تُرَى يبقَى على ذَا بدني ...
قد بَلِي من طول هَمٍّ وضَنِي ) ( أنا
في أسرِ وأسبابِ رَدًى ... وحديدٍ فادح يكْلِمُني ) ( بابن
حمدونَ فتى الجودِ الذي ... أنا منه في جَنى وردٍ جَنِي ) ( ما
الذي ترقُبُه أم ما ترى ... في أَخٍ مضطَهدٍ مرتَهَنِ ) ( وأبو
عمرانَ موسى حنقٌ ... حاقدٌ يطلُبني بالإحَنِ ) ( وعبيدُ
اللهِ أيضاً مثلُه ... ونجاحٌ بي مُجِدُّ مَا يَني ) ( ليس
يشفيه سوى سفكِ دمي ... أَو يراني مُدرَجاً في كَفَنيِ ) ( والأميرُ
الفتحُ إِن أَذكرتَه ... حُرْمَتي قام بأَمري وعُنِي ) ( فألُ
صدقٍ حين أدعو باسمِه ... وسرور حين يَعْرُو حَزَنيِ ) ( قل
له يا حُسْنَ ما أَوليتَني ... ما لِمَا أَوليتَني من ثَمنِ ) ( زاد
إحسانَكَ عندي عِظَماً ... أَنَّه بَادٍ لمن يعرفُنيِ ) ( لستُ
أدري كيفَ أجزيكَ به ... غير أني مُثقَلٌ بالمِنَن ) ( ما
رأى القومُ كذَنبي عندَهمْ ... عُظْمُ ذَنبي أَنَّني لم أخُنِ ) ( ذاكَ
فِعلي وتُراثي عن أبي ... واقتدائي بأخي في السُّنَنِ ) ( سنَّةٌ
صالحة معروفَة ... هي منَّا في قَديم الزمَنِ ) ( ظَفِر
الأعداءُ بي عن حيلةٍ ... ولعل الله أَن يُظفِرنِي ) ( ليتَ
أني وهُمُ في مجلسٍ ... يَظْهَرُ الحقُّ به للفطِن ) ( فترى
لي ولهُمْ ملحمَةً ... يَهلِكُ الخائنُ فيها والدَّنِي ) ( والذي
أسأَلُ أن يُنصِفَني ... حاكِمٌ يَقضي بما يلزمُنِي ) ( قُل
لحمدونَ خليلي وابنِه ... ولعيسى حرَّكوه يا بَنِي ) يعني
يا بني الزانية فلم يزالوا في أمره حتى خلصوه حدثني محمد بن يحيى الصولي قال كان
إبراهيم بن المدبر يحب جارية للمغنية المعروفة بالبكرية بسر من رأى فقال فيها ( غادرتِ
قلبي في إسار لديْك ... فويلتا منكِ وويلي عليكِ ) ( قد
يعلمُ اللهُ عَلَى عرشِه ... أَني أعاني الموتَ شوقاً إليك ) ( مُنِّي
بفكّ الأسر أو فاقتُلي ... أيهما أحببتِ من حُسْنَييَك ) ( قد
كنتُ لا أُعدي على ظالم ... فصرتُ لا أُعدِي على مُقلتيك ) ( الخمرُ
من فيكِ لمن ذاقَهُ ... والوردُ للناظِر منْ وجنتيْك ) ( يا
حسرتَا إن متُّ طوعَ الهوى ... ولم أنلْ ما أَرتجيه لديك ) وأنشدها
أبو عبد الله بن حمدون هذه الأبيات وغنت بها وجعل يكرر قوله ( الخمرُ
من فيكِ لمن ذاقه ... ) ويقول
هذا والله قول خبير مجرب فاستحيت من ذلك وسبت إبراهيم فبلغه ذلك فكتب إلى أبي عبد
الله يقول ( ألم يَشُقْكَ التماعُ البرقِ في
السحَرِ ... بَلى وهَيَّج من وَجْدٍ ومن ذكَرِ ) ( ما
زال دمعي غزيرَ القَطْر مُسجماً ... سَحّاً بأربعةٍ تَجري من الدُّررِ ) ( وقلتُ
للغيثِ لما جادَ وَابِلُه ... وما شجاني من الأحزان والسَّهَر ) ( يا
عارضا ماطراً أمطِرْ على كبدي ... فإنّها كَبِدٌ حَرَّى من الفِكَرِ ) ( لشدَّ
ما نالَ منِّي الدهرُ واعتلقَتْ ... يدُ الزمان وأوهتْ من قُوى مِرَري ) ( يا
واحدِي من عبادِ اللهِ كلِّهم ... ويا غناي ويا كَهْفي ويا وَزَرِي ) ( أحينَ
أنشدتَ شِعري في مُعَذِّبَتي ... أما رثَيْتَ لها من شدة الحَصَرِ ) ( وما
شفعتَ بها شِعري وقلت به ... في ريقها البارد السلسال ذي الْخَصَرِ ) ( لبئس
مستنصَحاً في مثل ذلك يا ... نفسي فِداؤكَ من مستنصح غَدِرِ ) ( واليوم
يومٌ كريم ليس يُكرَمُه ... الاّ كريمٌ من الفتيان ذُو خَطَرِ ) ( نشدتُكَ
اللهَ فاصْبَحْه بصُحبته ... مُباكراً فألذُّ الشُّرب في البُكَرِ ) ( وأجمَع
نداماكَ فيه واقترْح رَمَلاً ... صوتاً تغنِّيه ذاتُ الدَّل والخَفَرِ ) ( يرتاح
للدَّجْن قَلبي وهو مقتسَمٌ ... بين الهموم ارتياحَ الأرضِ للمطَرِ ) ( يا
غادراً يا أحبّ الناسِ كلّهمُ ... إليَّ واللهِ من أُنْثَى ومن ذَكَرِ ) ( ويا
رجائي ويا سُؤْلي ويا أملي ... ويا حياتي ويا سَمعي ويا بَصرِي ) ( ويا
مُنايَ ويا نوري ويا فَرَحِي ... ويا سروري ويا شَمسِي ويا قمرِي ) ( لا
تقبلي قولَ حسَّادي عليّ ولا ... والله ما صدقوا في القول والخَبَرِ ) ( أدالني
اللهُ من دهرٍ يُضَعضعُني ... فقد حُجِبتُ عن التسليم والنظَر ) ( إن
يحجُبُوا عنك في تقديرهم بصَري ... فكيف لم يحجُبُوا ذِكري ولا فِكَري ) ( يا
قوم قَلبِي ضعيفٌ من تذكُّرها ... وقلبُها فارغٌ أقسى من الحجَرِ ) ( الله
يعلم أنّي هائم دَنِفٌ ... بغادَةٍ ليتَها حَظِّي من البَشَرِ ) أخبرني
محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني عبد الله بن محمد المروزي قال حدثني الفضل بن
العباس بن المأمون قال زارتني عريب يوما ومعها عدة من جواريها فوافتنا ونحن على
شرابنا فتحدثت معنا ساعة وسألتها أن تقيم عندنا فأبت وقالت قد وعدت جماعة من أهل
الأدب والظرف أن أصير إليهم وهم في جزيرة المربد منهم إبراهيم بن المدبر وسعيد بن حميد
ويحيى بن عيسى بن منارة فحلفت عليها فأقامت ودعت بدواة وقرطاس وكتبت إليهم سطرا
واحدا ( بسم الله الرحمن الرحيم ) أردت ولولا ولعلي ووجهت الرقعة إليهم فلما وصلت
قرأوها وعيوا بجوابها فأخذها إبراهيم بن المدبر فكتب تحت أردت ليت وتحت لولا ماذا
وتحت لعلي أرجو ووجه بالرقعة إليها فلما قرأتها طربت ونعرت وقالت أنا أترك هؤلاء
وأقعد عنكم تركني الله إذا من يديه وقامت فمضت وقالت لكم فيمن أتخلفه عندكم من
جواري كفاية عريب تهيم به حبا أخبرني محمد بن خلف قال حدثني عبد الله بن المعتز
قال قرأت في مكاتبات لعريب فصلا من جواب أجابت به إبراهيم بن المدبر مكاتبة بديعة
بعيادة قد استبطأت عيادتك قدمت قبلك وعذرتك فما ذكرت عذرا ضعيفا لا ينبغي أن يفرح
به فأستديم الله نعمة عندك قال وكتبت إليه أيضا أستوهب الله حياتك قرأت رقعتك
المسكينة التي كلفتها مسألتك عن أحوالنا ونحن نرجو من الله أحسن عوائده عندنا
وندعوه ببقائك ونسأله الإجابة فلا تعود نفسك جعلني الله فداءها هذا الجفاء والثقة
مني بالاحتمال وسرعة الرجوع وكتبت إليه وقد بلغها صومه يوم عاشوراء قبل الله صومك
وتلقاه بتبليغك ما التمست كيف ترى نفسك نفسي فداؤك ولم كدرت جسمك في آب أخرجه الله
عنك في عافية فإنه فظ غليظ وأنت محرور وإطعام عشرة مساكين أعظم لأجرك ولو علمت
لصمت لصومك مساعدة لك وكان الثواب في حسناتك دوني لأن نيتي في الصوم كاذبة أخبرني
جعفر بن قدامة قال اتصلت لعريب أشغال دائمة في أيام تركوا رسى وخدمتها فيما هنالك فلم
يرها إبراهيم بن المدبر مدة فكتب إليها صوت ( إلى الله أشكو وحشتي وتفجُّعي ...
وبعدَ المدىَ بيني وبينَ عَريبِ ) ( مضى
دونها شَهْران لم أحلَ فيهما ... بعيشٍ ولا من قُربها بنصيبِ ) ( فكنت
غريباً بين أهلي وجيرتي ... ولست إذا أبصرتها بغريبِ ) ( وإنّ
حبيباً لم يرَ النَّاسُ مثلَه ... حقيق بأن يُفدْى بكلّ حبيب ) لعريب
في هذه الأبيات خفيف ثقيل من رواية ابن المعتز وهو من مشهور غنائها مكاتبات عريب
إليه وقال ابن المعتز في ذكره مكاتبات عريب إلى إبراهيم بن المدبر وقد كتب إليها
يشكو علته كيف أصبحت أنعم الله صباحك ومبيتك وأرجو أن يكون صالحا وإنما أردت إزعاج
قلبي فقط وكتبت إليه تدعو له في شهر رمضان أفديك بسمعي وبصري وأهل الله هذا الشهر
عليك باليمن والمغفرة وأعانك على المفترض فيه والمتنفل وبلغك مثله أعواما وفرج عنك
وعني فيه قال وكتبت إليه فداؤك السمع والبصر والأم والأب ومن عرفني وعرفته كيف ترى
نفسك وقيتها الأذى وأعمى الله شانئك ومقه الله عند هذه الدعوة وأرجو أن تكون قد
أجيبت إن شاء الله وكيف ترى الصوم عرفك الله بركته وأعانك على طاعته وأرجو أن تكون
سالما من كل مكروه بحول الله وقوته وواشوقي إليك وواحشتي لك ردك الله إلى أحسن ما
عودك ولا أشمت بي فيك عدوا ولا حاسدا وقد وافاني كتابك لا عدمته إلا بالغنى عنه بك
وذكرت حامله فوجهت رسولي إليه ليدخله فأسأله عن خبرك فوجدته منصرفا ولو رأيته
لفرشت خدي له وكان لذلك أهلا وكتبت إليه وقد عتبت عليه في شيء بلغها عنه وهب الله
لنا بقاءك ممتعا بالنعم ما زلت أمس في ذكرك فمرة بمدحك ومرة بشكرك ومرة بأكلك
وذكرك بما فيك لونا لونا اجحد ذنبك الآن وهات حجج الكتاب ونفاقهم فأما خبرنا أمس
فإما شربنا من فضلة نبيذك على تذكارك رطلا رطلا وقد رفعنا حسباننا إليك فأرفع
حسبانك إلينا وخبرنا من زارك أمس وألهاك وأي شيء كانت القصة على جهتها ولا تخطرف
فتحوجنا إلى كشفك والبحث عنك وعن حالك وقل الحق فمن صدق نجا وما أحوجك إلى تأديب
فإنك لا تحسن أن تؤدبه والحق أقول إنه يعتريك كزاز شديد يجوز حد البرد وكفاك بهذا
من قولي عقوبة وإن عدت سمعت أكثر من هذا والسلام حدثني عمي قال حدثني محمد بن داود
قال كان عيسى بن إبراهيم النصراني المكنى أبا الخير كاتب سعيد بن صالح يسعى على إبراهيم
بن المدبر في أيام نكبته فلما زالت ومات سعيد نكب عيسى بن إبراهيم وحبس ونهبت داره
فقال فيه إبراهيم بن المدبر ( قل
لأبي الشرِّ إنْ مررتَ به ... مقالةً عُرِيِّتْ من اللَّبَس ) ( ألبَسكَ
اللهُ من قوارعه ... آخذةً بالخُنَاق والنَّفَس ) ( لا
زلتَ يا بن البظراء مرتهنَا ... في شرِّ حال وضيقِ محتَبَس ) ( أقول
لما رأيتُ منزله ... منتَهباً خالياً من الأنَسِ ) ( يا
منزلاً قد عَفَا من الطَّفس ... وساحةً أُخليتْ من الدَّنس ) ( من
لاقترافِ الفحشاء بعد أبي الشررْ ... ْ ومن للقبيح والنجِسِ ) ولي
الثغور الجزرية بعد نكبته أخبرني جعفر بن قدامة قال ولي إبراهيم بن المدبر بعقب
نكبته وزوالها عنه الثغور الجزرية فكان أكثر مقامه بمنبج فخرج في بعض أيام ولايته
إلى نواحي دلوك ورعبان وخلف بمنبج جارية كان يتحظاها مغنية يقال لها غادر فحدثني
بعض كتابه انه كان معه بدلوك وهو على جبل من جبالها فيه دير يعرف بدير سليمان من
احسن بلاد الله وانزهها فنزل عليه ودعا بطعام خفيف فأكل وشرب ثم دعا بداوة وقرطاس
فكتب ( أبا ساقَيينا وسْطَ دَيْر سليمانِ
... أديرا الكُؤوس فانهلاني وعُلاَّني ) ( وخُصَّا
بصافيها أبا جعفر أخي ... وذا ثقتي بين الأنام وخُلصاني ) ( وميلاَ
بها نحو ابنِ سَلاَّمٍ الذي ... أودُّ وعُودَا بعد ذاك لنعمانِ ) ( وعُمَّا
بها الندمان والصحبَ إنني ... تَنَكَّرْت عيشي بعد صحبي وإخواني ) ( ولا
تتركا نفسي تمُتْ بسقامها ... لذِكْرَى حبيب قد شجاني وعنَّاني ) ( ترحّلتُ
عنه عن صدود وهِجرة ... وأقبل نحوي وهو باك فأبكاني ) ( وفارقته
واللهُ يجمع شملَنا ... بلَوعة محزون وغُلَّة حَرَّان ) ( وليلة
عين المَرْج زار خيالُه ... فهيَّج لي شوقا وجدَّد أشجاني ) ( فأشرفت
أعلى الدَّيْر أنظر طامحاً ... بألمح آماقٍ وأنظَرِ إنسان ) ( لعّلي
أرى أبياتَ منَبج رؤية ... تُسَكّنُ من وجدي وتكشفُ أحزاني ) ( فقصَّر
طرفي واستهلَّ بعَبرة ... وفدَّيتُ من لو كان يدري لفدُّاني ) ( ومثَّلَه
شوقي إليه مقابلي ... وناجاهُ قلبي بالضمير وناجاني ) قرأت
على ظهر دفتر فيه شعر إبراهيم بن المدبر أهداه مجموعا إلى أخيه احمد فلما وصل إليه
قرأه وكتب عليه بخطه ( أبا
إسحاق إن تكن الليالي ... عطفنَ عليكَ بالخطب الجسيم ) ( فلم
أرَ صرْف هذا الدهرِ يجري ... بمكروه على غير الكريم ) اخبرني
جعفر بن قدامة قال حدثني ميمون بن هارون قال اجتمعت مع عريب في مجلس انس بسر من
رأى عند أبي عيسى بن المتوكل وإبراهيم بن المدبر يومئذ ببغداد فمر لنا احسن يوم
وذكرته عريب فتشوقته و أحسنت الثناء عليه والذكر له فكتبت إليه بذلك من غد وشرحته له
فأجابني عن كتابي وكتب في آخره ( أتعلَمُ
يا ميمونُ ماذا تُهيجُه ... بذكركُ أحبابي وحِفظهُم العَهْدا ) ( ووصفِ
عريِب في كريم وفائها ... وإجمالها ذكري وإخلاصِها الوُدَّا ) ( عليها
سلامي إن تكن دارُها نأتْ ... فقد قرَّب الله الذي بيننا جدَّا ) ( سقى
الله داراً بعدنَا جمعتْكُمُ ... وَ سكَّن ربُّ العرش ساكنَها الخُلدا ) ( وخصَّ
أبا عيسى الأميرَ بنعمة ... وأسعد فيما أرتجيه له الجَدَّا ) ( فما
ثَمَّ من مجدٍ وَ طَوْلٍ و سُودَد ... ورأي أصيل بصدَع الحجَرَ الصَّلْدا ) خبر
صلحه مع عريب وشعره فيها حدثني جحظة قال حدثني عبد الله بن حمدون قال اجتمعت أنا
وإبراهيم بن المدبر وابن منارة والقاسم وابن زرزور في بستان بالمطيرة وفي يوم غيم
يهريق رذاذه ويقطر احسن قطر ونحن في أطيب عيش واحسن يوم فلم نشعر إلا بعريب قد
أقبلت من بعيد فوثب إبراهيم بن المدبر من بيننا فخرج حافيا حتى تلقاها واخذ
بركابها حتى نزلت وقبل الأرض بين يديها وكانت قد هجرته مدة لشيء أنكرته عليه فجاءت
وجلست و أقبلت عليه متبسمة وقالت إنما جئت إلى من هاهنا لا إليك فاعتذر وشيعنا
قوله وشفعنا له فرضيت و أقامت عندنا يومئذ وباتت واصطبحنا من غد واقامت عندنا فقال
إبراهيم صوت ( بأبي من حقَّقَ الظن به ... فأتانا زائراً مُبتدِيا ) ( كان
كالغيثِ تراخى مُدّةً ... وأتى بعد قُنوط مُرويا ) ( طاب
يومانِ لنا في قُربه ... بعد شهرين لهجرٍ مضَيا ) ( فأقرّ
اللهُ عَيني وشفَى ... سَقَماً كَان لجسمي مُبليا ) لعريب
في هذا الشعر لحنان رمل وهزج بالوسطى أنشدني الصولي رحمه الله لإبراهيم بن المدبر
في عريب ( زعموا أني أُحبُّ عَريبا ... صدقوا
واللهِ حُبَاً عجيباً ) ( حلَّ
من قلبي هواها مَحلاُّ ... لم تَدَعْ فيه لخَلْق نصيبا ) ( ليقلْ
من قَدْ رَأى الناس قدْما ... هل رأى مثلَ عَريب يا عَرِيبا ) ( هي
شمسُ والنساء نُجومُ ... فإذا لاحت أفلْن غُيوبا ) وأنشدني
الصولي أيضا له فيها ( إلا
يا عريبُ وُقيتِ الرُّدى ... وجنَّبك الله صَرْف الزمنْ ) ( فإنك
أصبحتِ زينَ النساء ... وواحدة الناس في كل فَنّ ) ( فقرُبكِ
يُدني لذيذَ الحياةِ ... وبعدُكَ ينفي لذيذَ الوَسَنْ ) ( فنعم
الجليسُ ونعم الأنيسُ ... ونعم السَّميرُ ونعم السَّكن ) و
أنشدني أيضا له ( أن
عريبا خُلقتْ وحدَها ... في كلِّ ما يحسُنُ من أمرها ) ( ونعمة
لِلَّهِ في خَلقِه ... يقصِّر العاَلم عن شكرها ) ( أشهدُ
في جاريتَيها على ... أنهما مُحْسِنَتَا دَهرِها ) ( فبدعةُ
تُبدعُ في شَدْوها ... وتُحْفَةُ تتحف في زمْرِها ) ( يا
ربَّ أمتعْها بما خوَّلَت ... وامدُد لنا يا ربَّ في عمرها ) شيعه
أهل البصرة بحزن اخبرنا أبو الفياض سوار بن أبي شراعة القيسي البصري قال كان
إبراهيم بن المدبر يتولى البصرة وكان محسنا إلى أهل البلد احسانا يعمهم ويشتمل على
جماعتهم نفعه ويخصنا من ذلك بأوفر حظ واجزل نصيب فلما صرف عن البصيرة شيعة أهلها
وتفجعوا لفراقه وساءهم صرفه فجعل يرد الناس من تشييعهم على قدر مراتبهم في الأنس
به حتى لم يبق معه إلا أبي فقال له يا أبا شراعة أن المشيع مودع لا محالة وقد بلغت
أقصى الغايات فبحقي عليك إلا انصرفت ثم قال يا غلام احمل إلى أبي شراعة ما امرتك
له به فأحظر ثيابا وطيبا ومالا فودعه أبي ثم قال ( يا
أبا إسحاق سرّ في دَعَة ... وامض مصحوباُ فما منك خلفْ ) ( ليت
شعري أيُّ ارض أجدبتْ ... فأُغيث بك من جهد العَجَف ) ( نزل
الرُّحْمُ من الله بِهِم ... وحُرِمَناكَ لذنب قد سلفْ ) ( إنما
أنت ربيعُ باكر ... حيثُمَا صرَّفه الله انصرفْ ) اخبرني
علي بن العباس بن طلحة الكاتب قال قرأت جوابا بخط إبراهيم بن المدبر في أضعاف رقعة
كتبتْها إليه عريب فوجدته قد كتب تحت فصل من الكتاب تسأله فيه عن خبره ( وساءلتموه
بعدكم كيف حالُه ... وذلك أمر بيّنُ ليس يُشكُل ) ( فلا
تسألوا عن قلبه فَهْو عندكم ... ولكن عن الجسم المخلف فاسألوا ) أخبرني
علي بن العباس قال حدثني أبي قال رسالة إلى عريب يشكو بعدها كنت عند إبراهيم بن
المدبر فزارته بدعة وتحفة وأخرجتا إليه رقعة من عريب فقرأناها فإذا فيها بنفسي أنت
وسمعي وبصري وقل ذاك لك أصبح يومنا هذا طيبا طيب الله عيشك قد احتجبت سماؤه ورق
هواؤه وتكامل صفاؤه فكأنه أنت في رقة شمائلك وطيب محضرك ومخبرك لافقدت ذلك أبدا
منك ولم يصادف حسنه وطيبه مني نشاطا ولا طربا لأمور صدتني عن ذلك اكره تنغيص ما
أشتهيه لك من السرور بنشرها وقد بعثت إليك ببدعة وتحفة ليؤنساك وتسربهما سرك الله
وسرني بك فكتب إليها يقول ( كيف
السرورُ وأنتِ نازحةُ ... عنّي وكيف يسوغُ لي الطربُ ) ( أن
غبتِ غاب العيشُ وانقطعتْ ... أسبابه وألحَّت الكُرَبُ ) وأنفذ
الجواب إليها فلم يلبث أن جاءت فبادر إليها وتلقاها حافيا حتى جاء بها على حمار
مصري كان تحتها إلى صدر مجلسه يطأ الحمار على بساطه وما عليه حتى اخذ بركابها
وأنزلها في صدر مجلسه وجلس بين يديها ثم قال ( ألا
رب يوم قصّر اللهُ طولَه ... بقرب عريبٍ حبّذا هو من قُربِ ) ( بها
تحسُن الدنيا وينعمَ عيشُها ... وتجتمع السَّراء للعين والقَلبْ ) حدثني
علي بن سليمان قال أنشدني أبي قال أنشدني إبراهيم بن المدبر وقد كتب إلى بدعة
وتحفة يستدعيهما فتأخرتا فكتب إليهما ( قل
يا رسول لهذه ... ولهذه بأبي هُمًَا ) ( قد
كان وصلكما لنَا ... حَسَناً ففيم قَطْعتُما ) ( أعريب
سيّدةُ النساءِ ... بهجرنا أمرتْكُمَا ) ( كلاّ
وبيت الله بل ... هذا جفاءُ منكما ) عريب
تغني صوتا من شعره و أنشدني علي بن العباس لإبراهيم بن المدبر وفيه لعريب هزج وقال
( إلا يا بأبي أنتمْ ... نأت دارُ
بنا عنكمْ ) ( فإن كنتُم تبدلتُمْ ... فما مِنْ
بَدَلً منكمْ ) ( وإن
كنتُم عَلَى العَهِد ... فأحسنْتُهم وأجملتمْ ) ( ويا
ليتَ المنى حَقَّت ... فنبديها ولا تَكتُمْ ) ( فكنتُم
حيثما كنا ... وكنَّا حيثما كنتم ) وحدثني
علي قال حدثني أبي قال دخلت ليلة على إبراهيم بن المدبر في أيام نكبته ببغداد في
ليلة غيم فلاح برق من قطب الشمال ونحن نتحدث فقطع الحديث وأمسك ساعة مفكرا ثم اقبل
علي فقال ( بارقُ شرَّد الكرى ... لاح من نحوِ
ما ترَى ) ( هاج للقلب شجوهَ ... فاعْترَى منه
ما اعترى ) ( أيها الشادنُ الذي ... صاد قلبي
وما درَى ) ( كن عليماٍ بشِقْوتي ... فيك من
بينِ ذا الوَرَى ) و
حدثني عن أبيه قال كنت عند إبراهيم بن المدبر فزارته بدعة وتحفة وأقامتا عنده
فأنشدنا يومئذ ( أيها
الزائران حيا كما الله ... ومن أنتما له بالسَّلامِ ) ( ما
رأينا في الدهر بدراً وشمساً ... طَرَقا ثم رجّعا بالكلامِ ) ( كيف
خلَّفتما عريباً سقاها الله ... ربُّ العبَاد صوبَ الغَمامِ ) ( هي
كالشمس والحسانُ نجوم ... ليس ضوءُ النهار مثلَ الظلامِ ) ( جمعتْ
كلّ ما تفرّق في الناس ... وصارت فريدةً في الأنامِ ) و
أنشدني عن أبيه لإبراهيم بن المدبر وهو محبوس ( و
أني لأستنشي الشّمال إذا جرتْ ... حنيناً إلى أُلاَّف قلبي وأحبابي ) ( وأهُدي
مع الريح الجنوب اليهمُ ... سلامي وَشكوَى طول حُزني وأوصابي ) ( فياليت
شعري هل عريب عليمةُ ... بذلك أو نام الأحبة عما بي ) حدثني
عمي عن محمد بن داود قال كان إبراهيم بن المدبر صديق أبي الصقر إسماعيل بن بلبل
فلم يرض فعله لما نكب ولا نيابته عنه فقال فيه ( لا
تطِل عذلي عناء ... إن في العذل بلاءَ ) ( لست
أبكي بطن مرِّ ... فكديَّا فكَداء ) ( إنما
أبكي خليلا ... خانَ في الود الصفاءَ ) ( يا
أبا الصقر سقاك الله ... تَهتانا رواءَ ) ( و
أدام الله نُعماَك ... ومَلاَّك البقاءَ ) ( لِمْ
تجاهَلتَ وِدادِي ... وتناسيتَ الإخاءَ ) ( كنت
بَرَّاً فعلى رأسي ... تعلَّمت الجفاءَ ) ( لا
تميلَّن مع الريح ... إذا هبَّتْ رُخاء ) ( ربَّما
هَبِّتْ عقيما ... تترك الدنيا هَبَاءَ ) اخبرني
علي بن العباس قال حدثني أبي قال كنت عند إبراهيم بن المدبر وزارته عريب فقال لها
رأيت البارحة في النوم أبا العبيس وقد غنى في هذا الشعر وأنت تراسلينه فيه ( يا
خليليِّ أرِقْنا حَزَنَا ... لسَنا بَرقٍ تبدَّى مَوْهنا ) وكأني
أجزته بهذا البيت وسألتكما أن تضيفاه إلى الأول ( وجلا
عن وجهِ دعدٍ مَوْهِنا ... عجباٍ منه سَناٍ أبدى سَناَ ) فقالت
ما أملح والله الابتداء و الإجازة فاجعل ذلك في اليقظة واكتب إلى أبي العبيس وسله
عني وعنك الحضور فكتب إليه إبراهيم ( يا
أبا العباسِ يا أفتى الورى ... زارنا طيفُك في سُكْر الكرىَ ) ( وتغنَّى
ليَ صوتاً حسناً ... في سنَا برقٍ على الأفق سرَى ) ( وعريبُ
عندنا حاصلةُ ... زينُ مَنْ يمشي على وجه الثَّرى ) ( نحن
أضيافُكَ في منزلنَا ... نتمناكَ فكن أنت القِرَى ) قال
فسار إليهما أبو العبيس وحدثه إبراهيم برؤياه فحفظا الشعر وغنيا فيه بقيمة يومهما صوت
( ألا حيِّ قبل البين من أنت عَاشقُهْ ... ومن أنت مشتاقُ إليه وشائقُهْ ) ( ومن
لا تواتي داره غيرَ فَينَةٍ ... ومن أنت تبكي كلَّ يوم تُفارقُه ) الشعر
لقيس بن جروة الطائي الأجئي قاله في غارة أغارها عمرو بن هند على ابل لطيئ فحرض
زرارة بن عدس عمرو بن هند على طيئ وقال له انهم يتوعدونك فغزاهم واتصلت الأحوال
إلى أن أوقع عمرو ببني تميم في يوم أوارة وخبر ذلك يذكر ها هنا لتعلق بعض أخباره
ببعض والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي ومن مجموع غناء إبراهيم
ذكر الخبر في هذه الغارات والحروب يوم أوارة نسخت ذلك من كتاب عمر بن محمد بن عبد
الملك الزيات بخطه وذكر أن احمد بن الهيثم بن فراس اخبره به عن العمري عن هشام بن
الكلبي عن أبيه وغيره من أشياخ طيئ قال وحدثني محمد بن أبي السري عن هشام بن
الكلبي قالوا كان من حديث يوم أوارة أن عمرو بن المنذر بن ماء السماء وهو عمرو بن
هند يعرف باسم أمه هند بنت الحارث الملك المنصور بن حجر آكل المرار الكندي وهو الذي
يقال له مضرط الحجارة انه كان عاقد هذا الحي من طيئ على ألا ينازعوا ولا يفاخروا
ولا يغزوا وان عمرو بن هند غزا اليمامة فرجع منفضا فمر بطيئ فقال له زرارة بن عدس
بن زيد بن عبد الله بن دارم الحنظلي أبيت اللعن أصب من هذا الحي شيئا قال له ويلك
أن لهم عقدا قال وان كان فلم يزل به حتى أصاب نسوة وأذوادا فقال في ذلك الطائي وهو
قيس بن جروة أحد الأجئيين قال ( إلا
حيِّ قبل البين من أنت عاشقُهْ ... ومن أنت مشتاقُ إليه وشائقهْ ) ( ومن
لا تُواتي دارَه غيرَ فَينةٍ ... ومن أنت تبكي كلِّ يوم تُفارقُهْ ) ( وتعدو
بصحراء الثويّةِ نَاقتي ... كعدو النَّحوص قَدْ أمخَّت نواهِقُهْ ) ( إلى
الملك الخيْر ابن هند تزوره ... وليس من الفوْت الذي هو سابقه ) ( وإنَّ
نساءً هُنَّ ما قال قائل ... غنيمةُ سَوء بينهنّ مَهارقه ) ( ولو
نيل في عهدٍ لنا لحمُ أرنب ... رَدَدْنا وهذا العهد أنت مُعالقه ) ( فهبك
ابنَ هند لم تعُقك أمانةُ ... وما المرء إلا عَقدة وَمَواثِقُه ) ( وكنا
أناساً خافضين بنعمةٍ ... يسيل بنا تلْع المَلا و أبارقه ) ( فأقسمتُ
لا أحتلُّ إلاّ بصهوةٍ ... حرامُ عليَّ رَملُه وشقائِقه ) ( وأقسم
جهداً بالمنازِل من مِنًى ... وما خبّ في بطحائِهنّ دَرادِقُه ) ( لئن
لم تغَّير بعضَ ما قد فعلتُم ... لأنتحينّ العظم ذو أنا عارقهْ ) فسمي
عارقا بهذا البيت فبلغ هذا الشعر عمرو بن هند فقال زرارة بن عدس ابيت اللعن انه
يتوعدك فقال عمرو بن هند لترملة بن شعاث الطائي وهو ابن عم عارق أيهجوني ابن عمك
ويتوعدني قال والله ما هجاك ولكنه قد قال ( والله
لو كان ابنُ جفنةَ جاركمْ ... لَكَسَا الوجوه غضاضة وهوانا ) ( وسلاسلاً
يبرقن في أعناقكم ... واذاً لقطع تكلم الأقرانا ) ( ولكان
عادتُه على جيرانه ... ذهباً ورَيطاً رادِعا وجِفانا ) قالوا
الرداع المصبوغ بالزعفران وانما أراد ترمله أن يذهب سخيمته فقال والله لأقتلنه
فبلغ ذلك عارقا فأنشأ يقول ( من
مبلغ عَمرو بنَ هندٍ رسالةً ... إذا استحقبتها العِيس تنضى على البعد ) ( أيوعدُني
والرمل بيني وبينه ... تبين رويداً ما أمامهُ من هند ) ( ومن
أجأٍ دوني رِعانُ كأنَّها ... قنابل خيل من كميت ومن وَرْدِ ) ( غدرتَ
بأمر أنت كنتَ اجتذبْتنا ... عليه وشُّر الشيمة الغدرُ بالعهد ) ( فقد
يترُك الغدرَ الفتى وطعامه ... إذا هو أمسَى حَلبةُ من دم الفصد ) فبلغ
عمرو بن هند شعره هذا فغزا طيئا فأسر أسرى من طيئ من بني عدي بن اخزم وهم رهط حاتم
بن عبد الله فيهم رجل من الأجئيين يقال له قيس بن جحدر وهو جد الطرماح بن حكيم وهو
ابن خالة حاتم فوفد حاتم فيهم إلى عمرو بن هند وكذلك كان يصنع فسأله إياهم فوهبهم
له إلا قيس بن جحدر لأنه كان من الاجئيين من رهط عارق فقال حاتم ( فككت
عديَّا كلَّها من إسارها ... فأنعِمْ وشفِّعني بقيس بنِ جَحْدَر ) ( أبوه
أبي و الأمهاتُ امهاتنا ... فأنعم فدتْكَ اليوم نفسي ومعْشري ) فأطلقه
خبر مالك بن المنذر عند زرارة بن عدس قال وبلغنا أن المنذر بن ماء السماء وضع ابنا
له صغيرا ويقال بل كان أخا له صغيرا يقال له مالك عند زرارة وانه خرج ذات يوم
يتصيد فأخفق ولم يصب شيئا فرجع فمر بإبل لرجل من بني عبد الله بن دارم يقال له
سويد بن ربيعة بن زيد بن عبد الله بن دارم وكان عند سويد ابنة زرارة بن عدس فولدت
له سبعة غلمة فأمر مالك بن المنذر بناقة سمينة منها فنحرها ثم اشتوى وسويد نائم
فلما انتبه شد على مالك بعصا فضربه بها فأمه ومات الغلام وخرج سويد هاربا حتى لحق
بمكة وعلم انه لا يأمن فحالف بني نوفل بن عبد مناة واختط بمكة فمن ولده أبو اهاب
بن عزيز بن قيس بن سويد وكانت طيئ تطلب عثرات زرارة وبني أبيه حتى بلغهم ما صنعوا
بأخي الملك فأنشأ عمرو بن ثعلبة بن ملقط الطائي يقول ( من
مبلغُ عمراً بأنَّ المرء ... لم يُخلقْ صُبارهْ ) ( وحوادث
الأيام لا ... تبقى لها إلا الحجارةْ ) ( أن
ابن عِجزةِ أمه ... بالسَّفح أسفَلَ من أوارهْ ) قال
هشام أول ولد المرأة يقال له زكمة والآخر عجزة ( تسِفي
الرياحُ خلاله سَحْياً وقَد سَلبُوا إزاراه ... ) ( فاقتل
زُرارةَ لا أرى ... في القوم أفضلَ من زُراره ) هرب
زرارة بعد مصرع مالك فلما بلغ هذا الشعر عمرو بن هند بكى حتى فاضت عيناه وبلغ
الخبر زرارة فهرب وركب عمرو بن هند في طلبه فلم يقدر عليه فأخذ امرأته وهي حُبلى
فقال أذكر في بطنك أم أنثى قالت لا علم لي بذلك قال ما فعل زرارة الغادر الفاجر
فقالت أن كان ما علمت لطيب العرق سمين المرق ويأكل ما وجد ولا يسأل عما فقد لا
ينام ليلة يخاف ولا يشبع ليلة يضاف فبقر بطنها فقال قوم زرارة لزرارة ولله ما قتلت
أخاه فأت الملك فاصدقه الخبر فأتاه زرارة فأخبره الخبر فقال جئني بسويد فقال قد
لحق بمكة قال فعلي ببنيه السبعة فأتي ببنيه وبأمهم بنت زرارة وهم غلمة بعضهم فوق بعض
فأمر بقتلهم فتناولوا أحدهم فضربوا عنقه وتعلق بزرارة الآخرون فتناولوهم فقال
زرارة يا بعضي دع بعضا فذهبت مثلا وقتلوا وآلى عمرو بن هند بألية ليحرقن من بني
حنظلة مائة رجل فخرج يريدهم وبعث على مقدمته الطائي عمرو بن ثعلبة بن عتاب بن ملقط
فوجدوا القوم قد نذروا فأخذوا منهم ثمانية وتسعين رجلا بأسفل أوارة من ناحية
البحرين فحبسهم ولحقه عمرو بن هند حتى انتهى إلى أوارة فضربت فيه قبته فأمر لهم
بأخدود فحفر لهم ثم اضرمه نارا فلما احتدمت وتلظت قذف بهم فيها فاحترقوا خبر أن
الشقي وافد البراجم و أقبل راكب من البراجم وهو بطن من بني حنظلة عند المساء ولا
يدري بشيء مما كان يوضع له بعيره فأناخ فقال له عمرو بن هند ما جاء بك قال حب
الطعام قد اقويت ثلاثا لم اذق طعاما فلما سطع الدخان ظننته دخان طعام فقال له عمرو
بن هند ممن أنت قال من البراجم قال عمرو أن الشقي واقد البراجم فذهب مثلا ورمى به
في النار فهجت العرب تميما بذلك فقال ابن الصعق العامري ( ألا
أبلغْ لديكَ بني تميم ... بآية ما يُحبُّون الطعاما ) و
أقام عمرو بن هند لا يرى أحدا فقيل له ابيت اللعن لو تحللت بامراة منهم فقد احرقت
تسعة وتسعين رجلا فدعا بامراة من بني حنظلة فقال لها من أنت قالت أنا الحمراء بنت
ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم فقال أني لأظنك اعجمية فقالت ما أنا بأعجمية
ولا ولدتني العجم ( إنَّي
لبنت ضَمرة بن جابر ... سادَ معداً كابراً عن كابر ) ( إني
لأخت ضَمرة بن ضَمره ... إذا البلاد لُفَّعَت بجمرهْ ) قال
عمرو أما والله لولا مخافة أن تلدي مثلك لصرفتك عن النار قالت أما والذي أساله أن
يضع وسادك ويخفض عمادك ويسلبك ملكك ما قتلت إلا نساء أعاليها ثدي وأسفلها دمي قال
اقذفوها في النار فالتفتت فقالت ألا فتى يكون مكان عجوز فلما أبطؤوا عليها قالت
صار الفتيان حمما فذهبت مثلا فأحرقت وكان زوجها يقال له هوذة بن جرول بن نهشل بن
دارم شعر للقيط يعير فيه بني مالك فقال لقيط بن زرارة يعير بني مالك بن حنظلة بأخذ
من أخذ منهم الملك وقتله اياهم ونزولهم معه ( لمن
دمنةُ أقفرتْ بالجنابِ ... إلى السفح بين المَلاَ فالهضاب ) ( بكيتَ
لعرفان آياتها ... وهاج لك الشوقَ نعبُ الغرابِ ) ( فأبلغ
لديك بني مالك ... مغلغلةً وسراةَ الرَّباب ) ( فإن
امرأً أنتمُ حولَه ... تحِفُّون قَّبتَه بالقِبابِ ) ( يُهينُ
سراتكمُ عامداً ... ويقتلكم مثلَ قتلِ الكلابِ ) ( فلو
كنتمُ إبلاً أملحَت ... لقد نَزَعَتْ للمياه العذابِ ) ( ولكنَّكمْ
غَنمُ تُصطفَى ... ويُترك سائرُها للذئابِ ) ( لعمر
أبيكَ أبي لخير ما ... أردتَ بقتلهمُ من صوابِ ) ( ولا
نعمةً إن خيرَ الملوك ... أفضلهم نعمةً في الرقابِ ) وفيها
يقول الطرماح بن حكيم ويذكر هذا ( واسأل
زُرارة و المأمور ما فعلت ... قَتْلَى أُوارةَ من رعلان واللَّدد ) ( ودارِماً
قد قذفنا منهمُ مائة ... في جاحِم النار إذ يُلقونَ بالخُدَد ) ( ينزون
بالمشتوِي منها ويوقدُها ... عمرُو ولولا شحوم القوم لم تَقِدِ ) قال
فحدثني الكلبي عن المفضل الضبي قال لما حضر زرارة الموت جمع بنيه وأهل بيته ثم قال
انه لم يبق لي عند أحد من العرب وتر إلا قد أدركته غير تحضيض الطائي بن ملقط الملك
علينا حتى صنع ما صنع فأيكم يضمن لي طلب ذلك من طيئ قال عمرو بن عمرو بن عدس بن
زيد أنا لك بذلك يا عم ومات زرارة فغزا عمرو بن عمرو جديلة ففاتوهم وأصاب ناسا من
بني طريف بن مالك وطريف بن عمرو بن ثمامة وقال في ذلك شعرا لقيط بن زرارة يخطب بنت
ذي الجدين وكان زرارة بن عدس بن زيد رجلا شريفا فنظرت ذات يوم إلى ابنه لقيط ورأى
منه خيلاء ونشاطا وجعل يضرب غلمانه وهو يومئذ شاب فقال له زرارة لقد أصبحت تصنع
صنيعا كأنما جئتني بمائة من هجان المنذر بن ماء السماء أو نكحت بنت ذي الجدين بن
قيس بن خالد قال لقيط لله علي إلا يمس رأسي غسل ولا آكل لحما ولا اشرب خمرا حتى
أجمعهما جميعا أو أموت فخرج لقيط ومعه ابن خال له يقال له القراد بن إهاب وكلاهما
كان شاعرا شريفا فسارا حتى أتيا بني شيبان فسلما على ناديهم ثم قال لقيط أفيكم قيس
بن خالد ذو الجدين وكان سيد ربيعة يومئذ قالوا نعم قال فأيكم هو قال قيس أنا قيس فما
حاجتك قال جئتك خاطبا ابنتك وكانت على قيس يمين ألا يخطب إليه أحد ابنته علانية
ألا أصابه بشر وسمع به فقال له قيس ومن أنت قال أنا لقيط بن زرارة بن عدس بن زيد
قال قيس عجبا منك ياذا القصة هلا كان هذا بيني وبينك قال ولم يا عم فو الله انك
لرغبة وما بي من نضاة أي ما بي عار ولئن ناجيتك لا أخدعك ولئن عالنتك لا أفضحك
فأعجب قيسا كلامه وقال كفء كريم إني زوجتك ومهرتك مائة ناقة ليس فيها مظائر ولا
ناب ولا كزوم ولا تبيت عندنا عزبا ولا محروما ثم أرسل إلى أم الجارية أني قد زوجت
لقيط بن زرارة ابنتي القدور فاصنعيها واضربي لها ذلك البلق فإن لقيط بن زرارة لا
يبيت فينا عزبا وجلس لقيط يتحدث معهم فذكروا الغزو فقال لقيط أما الغزو فأردها
للقاح وأهزلها للجمال وأما المقام فأسمنها للجمال وأحبها للنساء فأعجب ذلك قيسا و
أمر لقيطا فذهب إلى البلق فجلس فيه وبعثت إليه أم الجارية بمجمرة وبخور وقالت للجارية
اذهبي بها إليه فو الله لئن ردها ما فيه خير ولئن وضعها تحته ما فيه خير فلما
جاءته الجارية بالمجمرة بخر شعره ولحيته ثم ردها عليها فلما رجعت الجارية إليها
خبرتها بما صنع فقالت انه لخليق للخير فلما امسى لقيط أهديت الجارية إليه فمازحها
بكلام اشمأزت منه فنام وطرح عليه طرف خميصة وباتت إلى جنبه فلما استثقل انسلت
فرجعت إلى أمها فانتبه لقيط فلم يرها فخرج حتى أتى ابن خاله قراداً وهو في اسفل
الوادي فقال ارحل بعيرك واياك أن يسمع رغاؤها فتوجها إلى المنذر بن ماء السماء
واصبح قيس ففقد لقيطاً فسكت ولم يدر ما الذي ذهب به ومضى لقيط حتى أتى المنذر
فاخبره ما كان من قول أبيه وقوله فأعطاه مائة من هجائنه فبعث بها مع قراد إلى أبيه
زرارة ثم مضى إلى كسرى فكساه وأعطاه جواهر ثم انصرف لقيط من عند كسرى فأتى أباه
فاخبرة خبرة وأقام يسيراً ثم خرج هو وقراد حتى جاءا محلة بني شيبان فوجداهم قد
انتجعوا فخرجا في طلبهم حتى وقعا في الرمل فقال لقيط ( انظر
قراد وهاتا نضرة جزعا ... عرض الشقائق هل بينت أظعانا ) ( فيهن
اترجة نضح العبير بها ... تكسي ترائبها شذرا ومرجانا ) وصية
اب لابنته وهي ترحل للزواج فخرجا حتى اتيا قيس بن خالد فجهزها ابوها فلما ارادت
الرحيل قال لها يا بنية كوني لزوجك أمة يكن لك عبداً وليكن اكثر طيبك الماء فانك
إنما يذهب بك إلى الأعداء واراك أن ولدت فستلدين لنا غيظاً طويلاً واعلمي أن زوجك
فارس مضر وانه يوشك أن يقتل أو يموت فلا تخمشي عليه وجهاً ولا تحلقي شعراً قالت له
أما والله لقد ربيتني صغيرة واقصيتني كبيرة وزودتني عند الفراق شر زاد وارتحل بها
لقيط فجعلت لا تمر بحي من العرب إلا قالت يالقيط اهؤلاء قومك فيقول لا حتى طلعت
على محلة بني عبد الله بن دارم فرأت القباب والخيل العراب قالت يالقيط أهؤلاء قومك
قال نعم فأقام اياماً يطعم وينحر ثم بنى بها فأقامت عنده حتى قتل يوم جبلة فبعث إليها
أبوها أخا لها فحملت فلما ركبت بعيرها أقبلت حتى وقفت على نادي بني عبد الله بن
دارم فقالت يا بني دارم اوصيكم بالغرائب خيراً فوالله ما رأيت مثل لقيط لم تخمش
عليه امرأة وجهاً ولم تحلق عليه شعراً فلولا أني غربية لخمشت وحلقت فحبب الله بين
نساءكم وعادى بين رعائكم فاثنوا عليها خيراً ثم مضت حتى قدمت على ابيها فزوجها من
قومه فجعل زوجها يسمعها تذكر لقيطا وتحزن عليه فقال لها أي شيء رأيت من لقيط احسن
في عينك قالت خرج يوم دجن وقد تطيب وشرب فطرد البقر فصرع منها ثم أتاني وبه نضح
دماء فضمني ضمة وشمني شمة فليتني مت ثمة فلم أرى منظراً كان احسن من لقيط فمكث عنه
حتى إذا كان يوم دجن شرب وتطيب ثم ركب فطرد البقر ثم أتاها وبه نضح دم والطيب وريح
الشراب فضمها إليه وقبلها ثم قال لها كيف ترين اانا أم لقيط فقالت ماء ولا كصداء
ومرعى ولا كالسعدان فذهبت مثلا وصداء ركية ليس في الأرض ركية أطيب منها وقد ذكرها
التميمي في شعره ( أني
وتهيامي بزينب كالذي ... يخالس من احواض صداء مشربا ) ( يرى
دون برد الماء هولا وذادة ... إذا اشتد صاحوا قبل أن يتحببا ) يقول
قبل أن يروى يقال تحببت من الشراب أي رويت وبضعت منه ايضاً أي رويت منه والتحبب
الري صوت ( وكاتبه في الخد بالمسك جعفرا ...
بنفسي مخط المسك من حيث أثرا ) ( لئن
كتبت في الخد سطراً بكفها ... لقد أودعت قلبي من الحب اسطرا ) ( فيا
من لمملوك لملك يمينه ... مطيع لها فيما اسر واظهرا ) ( ويا
من هواها في السريرة جعفر ... سقى الله من سقيا ثناياك جعفرا ) الشعر لمحبوبة
شاعرة المتوكل والغناء لعريب خفيف رمل مطلق أخبار محبوبة كانت محبوبة مولدة من
مولدات البصرة شاعرة شريفة مطبوعة لا تكاد فضل الشاعرة اليمامية أن تتقدمها وكانت محبوبة
اجمل من فضل واعف وملكها المتوكل وهي بكر اهداها له عبد الله بن طاهر وبقيت بعده
فما طمع فيها أحد وكانت أيضا تغني غناء ليس بالفاخر البارع فاقت علي بن الجهم في
سرعة البديهة أخبرني بذلك جحظة عن احمد بن حمدون واخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني
علي بن يحيى المنجم كان علي بن الجهم يقرب من أنس المتوكل جدا ولا يكتمه شيئا من
سره مع حرمه و أحاديث خلواته فقال له يوما أني دخلت على قبيحة فوجدتها قد كتبت
اسمي على خدها بغالية فلا و الله ما رأيت شيئا احسن من سواد تلك الغالية على بياض
ذلك الخد فقل في هذا شيئا قال وكانت محبوبة حاضرة للكلام من وراء الستر وكان عبد
الله بن طاهر أهداها في جملة أربعمائة وصيفة الى المتوكل قال فدعا علي بن الجهم
بدواة فإلى أن أتوه بها وابتدأ يفكر قالت محبوبة على البديهة من غير فكر ولا روية ( وكاتبةٍ
بالمسك في الخدِّ جعفَرا ... بنفسي فخطُّ المسكِ من حيث أثَّرَا ) ( لئن
كتبتْ في الخد سطراً بكَفِّها ... لقد أودعتْ قلبي من الحبِّ أسطرَا ) ( فيا
مَنْ لمملوك لِملكِ يمينه ... مطيعٍ له فيما أسرَّ وأظهرَا ) ( ويا
من مناها في السريرةِ جعفرُ ... سقى الله من سُقيا ثَناياك جعفرَا ) قال
وبقي علي بن الجهم واجما لا ينطق بحرف وأمر المتوكل بالأبيات فبعث بها إلى عريب
أمر أن تغني فيها قال علي بن يحيى قال علي بن الجهم بعد ذلك تحيرت والله وتقلبت
خواطري فو الله ما قدرت على حرف واحد أقوله شعرها في تفاحة أخبرني جعفر بن قدامة
قال حدثني ابن خرداذبه قال حدثني علي بن الجهم قال كنت يوما عند المتوكل وهو يشرب
ونحن بين يديه فدفع إلى محبوبة تفاحة مغلفة فقلبتها وانصرفت عن حضرته إلى الموضع
الذي كانت تجلس فيه إذا شرب ثم خرجت جارية لها ومعها رقعة فدفعتها إلى المتوكل فقرأها
وضحك ضحكا شديدا ثم رمى بها إلينا فقرأناها وإذا فيها ( يا
طيب تُفاحة خلوتُ بها ... تُشعل نارَ الهوى على كَبِدي ) ( أبكي
ليها وأشتكي دَنَفِي ... وما ألاقي من شدَّة الكَمَدِ ) ( لو
أن تفاحةً بكت لبكت ... من رحمتي هذه التي بيدي ) ( أن
كنتِ لا ترحمين ما لقيتْ ... نفسي من الجهد فارحمي جسدي ) قال
فو الله ما بقي أحد إلا استظرفها واستملحها وأمر المتوكل فغني في هذا الشعر صوت
شرب عليه بقية يومه حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم أن جواري
المتوكل تفرقن بعد قتله فصار إلى وصيف عدة منهن وأخذ محبوبة فيمن أخذ فاصطبح يوما
وأمر بإحضار جواري المتوكل فأحضرن عليهن الثياب الملونة والمذهبة والحلي وقد تزين
وتعطرن إلا محبوبة فإنها جاءت مرهاء متسلبة عليها ثياب بياض غير فاخرة حزنا على
المتوكل فغنى الجواري جميعا وشربن وطرب وصيف وشرب ثم قال لها يا محبوبة غني فأخذت
العود وغنت وهي تبكي وتقول ( ايُّ
عيش يطيبُ لي ... لا أرى فيه جعفرَا ) ( ملكا
قد رأَته عَيْنِي ... قتيلاً معفَّرَا ) ( كلُّ
من كان ذا هُيامٍ ... وحزن فقد برَا ) ( غير
محبوبةَ التي ... لو ترى الموتَ يُشترَى ) ( لا
شترته بمِلكها ... كُلُّ هذا لتُقبرَا ) ( إن
مَوْتَ الكئيبِ أصْلَح ... ُ من أن يعمِّرَا ) فاشتد
ذلك على وصيف وهم بقتلها وكان بغا حاضرا فاستوهبها منه فوهبها له فأعتقها وأمر
بإخراجها وان تكون بحيث تختار من البلاد فخرجت من سر من رأى إلى بغداد وأخملت
ذكرها طول عمرها خصام وصلح مع المتوكل أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني ملاوي
الهيثمي قال قال لي علي بن الجهم كانت محبوبة أهديت إلى المتوكل أهداها إليه عبد
الله بن طاهر في جملة أربعمائة جارية وكانت بارعة الحسن والظرف والادب مغنية محسنة
فحظيت عند المتوكل حتى انه كان يجلسها خلف ستارة وراء ظهره إذا جلس للشرب فيدخل
رأسه إليها ويحدثها ويراها في كل ساعة فغاضبها يوما وهجرها ومنع جواريه جميعا من
كلامها ثم نازعته نفسه إليها و أراد ذلك ثم منعته العزة وامتنعت من ابتدائه إدلالا
عليه بمحلها منه قال علي بن الجهم فبكرت إليه يوما فقال لي أني رأيت البارحة
محبوبة في نومي كأني قد صالحتها فقلت أقر الله عينك يا أمير المؤمنين و أنامك على
خير وأيقظك على سرور وأرجوا أن يكون هذا الصلح في اليقظة فبينا هو يحدثني واجيبه
إذا بوصيفة قد جاءته فأسرت إليه شيئا فقال لي أتدري ما أسرت هذه إلي قلت لا قال
حدثتني أنها اجتازت بمحبوبة الساعة وهي في حجرتها تغني أفلا تعجب من هذا إني
مغاضبها وهي متهاونة بذلك لا تبدؤني بصلح ثم لا ترضى حتى تغني في حجرتها قم بنا يا
علي حتى نسمع ما تغني ثم قام وتبعته حتى انتهى إلى حجرتها فإذا هي تغني وتقول ( أدُور
في القصر لا أرى أحداً ... اشكو إليه ولا يكلِّمُني ) ( حتى
كأني ركبتُ معصيةً ... ليستْ لها توبةُ تُخلِّصني ) ( فهل
لنا شافعُ إلى مَلِكٍ ... قد زارني في الكَرى فصالحني ) ( حتى
إذا ما الصباحُ لاح لنا ... عاد إلى هجره فصارمني ) فطرب
المتوكل وأحست بمكانه فأمرت خدمها فخرجوا إليه وتنحينا وخرجت إليه فحدثته إنها
رأته في منامها وقد صالحها فانتبهت وقالت هذه الأبيات وغنت فيها فحدثها هو أيضا
برؤياه واصطلحا وبعث إلى كل واحد منا بجائزة وخلعة ولما قتل تسلى عنه جميع جواريه
غيرها فإنها لم تزل حزينة متسلبه هاجرة لكل لذة حتى ماتت ولها فيه مراث كثيرة صوت
( يا ذا الَّذي بعذابي ظلَّ مفتخرا ... هل أنت إلا مليكُ جارَ إذ قَدَرا ) ( لولا
الهوى لتجازينا على قَدَرٍ ... وإن أُفِقْ منه يوما ما فسوف تَرَى ) الشعر
يقال انه للواثق انه للواثق قال في خادم له غضب عليه ويقال أن أبا حفص الشطرنجي
قاله له والغناء لعبيدة الطنبورية رمل مطلق وفيه لحن للواثق آخر قد ذكر في أخبار
عبيدة الطنبورية كانت عبيدة من المحسنات المتقدمات في الصنعة و الآداب يشهد لها
بذلك إسحاق وحسبها بشهادته وكان أبو حشيشة يعظمها ويعترف لها بالرياسة والأستاذية
وكانت من احسن الناس وجها وأطيبهم صوتا ذكرها جحظة في كتاب الطنبوريين والطنبوريات
وقرأت عليه خبرها فيه فقال كانت من المحسنات وكانت لا تخلو من عشق ولم يعرف في
الدنيا امرأة اعظم منها في الطنبور وكانت لها صنعة عجيبة فمنها في الرمل ( كن
لي شفيعاً إليكا ... إن خفَّ ذاك عليكا ) ( وأعفني
من سؤالي ... سواك ما في يديكا ) ( يا
مَنْ أُعِزُّ و أهوَى ... مالي أهونُ عليكا ) غنت
في حضرة إسحاق الموصلي دون أن تعرفه أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا
حماد بن إسحاق قال قال لي علي بن الهيثم اليزيدي كان أبو محمد يعني أبي رحمه الله
إسحاق بن إبراهيم الموصلي يألفني ويدعوني ويعاشرني فجاء يوما إلى أبي الحسن إسحاق
بن إبراهيم فلم يصادفه فرجع ومر بي وأنا مشرف من جناح لي فوقف وسلم علي وأخبرني
بقصته وقال هل تنشط اليوم للميسر إلي فقلت له ما على الأرض شيء احب إلي من ذلك
ولكني أخبرك بقصتي ولا أكتمك فقال هاتها فقلت عندي اليوم محمد بن عمرو بن مسعدة
وهارون بن احمد بن هشام وقد دعونا عبيدة الطنبورية وهي حاضرة والساعة يجيء الرجلان
فامض في حفظ الله فإني أجلس معهم حتى تنتظم أمورهم و أروح إليك فقال لي فهلا عرضت
علي المقام عندك فقلت له لو علمت أن ذلك مما تنشط له و الله لرغبت إليك فيه فإن تفضلت
بذلك كان اعظم لمئتك فقال أفعل فإني قد كنت أشتهي أن أسمع عبيدة ولكن لي عليك
شريطة قلت هاتها قال إنها أن عرفتني وسألتموني أن اغني بحضرتها لم يخف عليها أمري
وانقطعت فلم تصنع شيئا فدعوها على جبلتها فقلت إفعل ما أمرت به فنزل ورد دابته
وعرفت صاحبي ما جرى فكتماها آمره وأكلنا ما حضر وقدم النبيذ فغنت لحنا لها تقول ( قريبُ
غيرُ مقتربِ ... ومؤتلِفُ كمجتنِبِ ) ( له
وُدَّي ولي منه ... داوعي الهم والكُرَب ) ( أواصلُه
على سَببٍ ... ويهجُرني بلا سبب ) ( وَيظلمُني
على ثقةٍ ... بإنّ إليهِ مُنْقَلَبي ) فطرب
إسحاق وشرب نصفا ثم غنت وشرب نصفا ولم يزل كذلك حتى والى بين عشرة أنصاف وشربناها
معه وقام ليصلي فقال لها هارون بن احمد بن هشام ويحك يا عبيدة ما تبالين والله متى
مت قالت ولم قال أتدرين من المستحسن غناءك والشارب عليه ما شرب قالت لا و الله قال
إسحاق بن إبراهيم الموصلي فلا تعرفيه انك قد عرفته فلما جاء إسحاق ابتدأت تغني
فلحقتها هيبة له واختلاط فنقصت نقصانا بينا فقال لنا أعرفتموها من أنا فقلنا له
نعم عرفها إياك هارون بن احمد فقال إسحاق نقوم إذا فننصرف فإنه لا خير في عشرتكم
الليلة ولا فائدة لي ولا لكم فقام فانصرف حدثني بهذا الخبر جحظة عن جماعة منهم
العباس بن أبي العبيس فذكر مثله وقال فيه أن الصوت الذي غنته ( يا
ذا الذي بِعذَابي ظلَّ مفتخراً ... ) قدمها
مسدود على نفسه حدثني جحظة قال حدثني محمد بن سعيد الحاجب قال حدثني ملاحظ غلام
أبي العباس بن الرشيد وكان في خدمة سعيد الحاجب قال اجتمع الطنبوريون عند أبي
العباس بن الرشيد يوما وفيهم المسدود وعبيدة فقالوا للمسدود غن فقال لا و الله لا
تقدمت عبيدة وهي الأستاذة فما غنى حتى غنت و حدثني جحظة قال حدثني شرائح الخزاعي
صاحب ساباط شرائح بسويقة نصر وساباط شرائح مشهور قال كانت عبيدة تعشقني فتزوجت
فمرت بي يوماً فسألتها الدخول الي فقالت يا كشخان كيف أدخل إليك وقد أقعدت في بيتك
صاحب مصلحة ولم تدخل وحدثني جحظة قال وهب لي جعفر بن المأمون طنبورها فإذا عليه
مكتوب بأبنوس ( كل
شيء سوى الخيانة ... في الحُبَّ يُحْتَمَلْ ) أخبار
عن فسقها وفجورها وحدثني جحظة وجعفر بن قدامة وخبر جعفر أتم إلا أني قرأته على
جحظة فعرفه وذكر لي انه سمعه قالا جميعا حدثنا احمد بن الطيب السرخسي قال كان علي
بن أحمد بن بسطام المروزي وهو ابن بنت شبيب بن واج وشبيب أحد النفر الذي سترهم
المنصور خلف قبته يوم قتل أبا مسلم وقال لهم إذا صفقت فاخرجوا فاضربوه بسيوفكم
ففعل وفعلوا فكان علي بن احمد هذا يتعشق عبيدة الطنبورية وهو شاب وانفق عليها مالا
جليلا فكتبت إليه أسأله عن خبرها ومن هي ومن أين خرجت فكتب الي كانت عبيدة بنت رجل
يقال له صباح مولى أبي السمراء الغساني نديم عبد الله بن طاهر وأبو السمراء أحد
العدة الذين وصلهم عبد الله بن طاهر في يوم واحد لكل رجل منهم مائة ألف دينار وكان
الزبيدي الطنبوري أخو نظم العمياء يختلف إلى أبي السمراء وكان صباح صاحب أبي
السمراء فكان الزبيدي إذا سار إلى أبي السمراء فلم يصادفه أقام عند صباح والد
عبيدة وبآت وشرب وغنى و انس وكان لعبيدة صوت حسن وطبع جيد فسمعت غناء الزبيدي فوقع
في قلبها واشتهته وسمع الزبيدي صوتها وعرف طبعها فعلمها وواظب عليها ومات أبوها
ورقت حالها وقد حذقت الغناء على الطنبور فخرجت تغني وتقنع باليسير وكانت مليحة
مقبولة خفيفة الروح فلم يزل أمرها يزيد حتى تقدمت وكبر حظها واشتهاها الناس وحلت تكتها
وسمحت ورغب فيها الفتيان فكان أول من تعشقها علي بن الفرج الرخجي أخو عمر وكان حسن
الوجه كثير المال فكنت أراها عنده وكنا نتعاشر على الفروسية ثم ولدت من علي بن
الفرج بنتا فحجبها لأجل ذلك فكانت تحتال في الأوقات بعلة الحمام وغيره فتلم بمن
كانت توده ويودها فكنت ممن تلم به وأنا حينئذ شاب ورثت عن أبي مالا عظيما وضياعا
جليلة ثم ماتت بنتها من علي بن الفرج وصادف ذلك نكبتهم واختلال حال علي بن الفرج
فطلقها فخرجت فكانت تخرج بدينارين للنهار ودينارين لليل واعترت بأبي السمراء ونزلت
في بعض دوره وتزوجت أمها بوكيل له فتعشقت غلاما من آل حمزة بن مالك يقال له شرائح
وهو صاحب ساباط شرائح ببغداد وكان يغني بالمعزفة غناء مليحا وكان حسن الوجه لا عيب
في جماله إلا انه كان متغير النكهة وكانت شديدة الغلمة لا تحرم أحدا ولا تكرهه من
حد الكهول إلى الطفل حتى تعلقت شابا يعرف بأبي كرب بن أبي الخطاب مشرط الوجه أفطس
قبيحا شديد الأدمة فقيل لها أي شيْ رأيت في أبي كرب فقالت قد تمتعت بكل جنس من
الرجال إلا السودان فان نفسي تبشعهم وهذا بين الأسود والابيض وبيته فارغ لما أريد
وهو صفعاني إذا أردت ووكيلي إذا أردت قال وكان لها غلام يضرب عليها يقال له علي
ويلقب ظئر عبيدة فكانت إذا خلت في البيت وشبقت اعتمدت عليه وقالت هو بمنزلة بغل الطحان
يصلح للحمل والطحن والركوب وكان عمروبن بانة إذا حصل عنده إخوان له يدعوها لهم
تغنيهم مع جواريه وإنما عرفها من داري لانه بعث يدعوني فدخل غلامه قرآها عندي
فوصفها له فكتب إلي يسألني أن أجيئه بها معي ففعلت وكان عنده محمد بن عمرو بن
مسعدة والحارث بن جمعة والحسن بن سليمان البرقي وهارون بن احمد بن هشام فعدلوا
كلهم إلى استماع غنائها والاقتراح له والإقبال عليه ومال إليها جواريه وما خرجت
إلا وقد عقدت بين الجماعة مودة وكان جواري عمرو بن بانة يشتقن إليها فيسألنه أن يدعوها
فيقول لهن ابعثن إلى علي حتى يبعث بها إليكن فإنه يميل إليها وهو صديقي و أخشى أن
يظن أني قد أفسدتها عليه ولم يكن به هذا إنما كان به الديناران اللذان يريد أن
يحدرها بهما وكان عمرو من أبخل الناس وكان صوت إسحاق بن إبراهيم عليها ( يا
ذا الذي بعذابي ظل مفتخرا ... ) وكان
صوت علويه ومخارق عليها ( قريب
غير مقترب ... ) وهذان الصوتان جميعا من صنعتها إسحاق
يرثيها وكان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب يشتهي أن يسمعها ويمنع نفسه ذلك لتيهه
ولبدمكته وتوقيه أن يبلغ المعتصم عنه شيء يعيبه وماتت عبيدة من نزف أصابها فأفرط
حتى أتلفها وفي عبيدة يقول بعض الشعراء ومن الناس من ينسبه إلى إسحاق ( أمست
عُبيدةُ في الاحسان واحدةً ... فاللهُ جارُ لها من كلَّ محذور ) ( من
احسَنِ الناس وجها حين تُبصرُها ... وأحذقِ الناس أن غنّت بطنبور ) أخبرني
جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال سمعت إسحاق يقول
الطنبور إذا تجاوز عبيدة هذيان صوت ( سَقِمتُ حتى ملَّني العائُد ... وذبتُ حتى
شَمِتَ الحاسدُ ) ( وكنتُ
خِلواً من رسيسِ الهوى ... حتى رماني طرفُك الصائدُ ) الشعر
فيما أخبرني به جحظة لخالد الكاتب ووجدته في شعر محمد بن أمية له والغناء لأحمد بن
صدقة الطنبوري رمل مطلق وقد مضت أخبار خالد الكاتب و محمد بن أمية ونذكر ها هنا
أخبار احمد بن صدقة أخبار أحمد بن صدقة هو احمد بن صدقة بن أبي صدقة وكان أبوه
حجازيا مغنيا قدم على الرشيد وغنى له وقد ذكرت أخباره في صدر هذا الكتاب وكان احمد
بن صدقة طنبوريا محسنا مقدما حاذقا حسن الغناء محكم الصنعة وله غناء كثير من
الأرمال و الأهزاج وما جرى مجراها من غناء الطنبوريين وكان ينزل الشام فوصف
للمتوكل فأمر بإحضاره فقدم عليه وغناه فاستحسن غناءه وأجزل صلته واشتهاه الناس
وكثر من يدعوه فكسب بذلك اكثر مما كسبه مع المتوكل أضعافا أخبرني بذلك جحظة و قال كانت
له صنعة ظريفة كثيرة ذكر منها الصوت المتقدم ذكره ووصفه وقرظه وذكر بعده هذا الصوت
( وشادنٍ ينطِق بالظَّرفِ ... حُسنُ
حبيبي منتهى الوصفِ ) ( هام
فؤادي وجرت عَبْرتي ... لا بَعُدَ الإلْفُ من الإلفِ ) قال
وهو رمل مطلق ولو حلفت أنهما ليسا عند أحد من مغني زماننا إلا عند واحد ما حنثت
يعني نفسه خبره مع خالد بن يزيد حدثني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني
احمد بن صدقة قال اجتزت بخالد بن يزيد الكاتب فقلت له أنشدني بيتين من شعرك حتى
اغني فيهما قال و أي حظ لي في ذلك تأخذ أنت الجائزة و أحصل أنا الإثم فحلفت له أني
أن أفدت بشعرك فائدة جعلت لك فيها حظا أو أذكرت به الخليفة وسألته فيك أما الحظ من
جهتك فأنت أنزل من ذلك ولكن عسى أن تفلح في مسألة الخليفة ثم أنشدني ( تقولُ
سلا فمن المدْنَفُ ... ومَنْ عينُه أبداً تَذْرِفُ ) ( ومَنْ
قلبُه قَلِق خافقُ ... عليك وأحشاؤُه ترجُف ) فلما
جلس المأمون للشرب دعاني وقد كان غضب على حظية له فحضرت مع المغنين فلما طابت نفسه
وجهت إليه بتفاحة من عنبر عليها مكتوب بالذهب يا سيدي سلوت وعلم الله أني ما عرفت
شيئا من الخبر و انتهى الدور الي فغنيت البيتين فاحمر وجه المأمون وانقلبت عيناه
وقال لي يا بن الفاعلة ألك علي وعلى حرمي صاحب خبر فوثبت و قلت يا سيدي ما السبب فقال
لي من أين عرفت قصتي مع جاريتي فغنيت في معنى ما بيننا فحلفت له أني لا أعرف شيئا
من ذلك و حدثته حديثي مع خالد فلما انتهيت إلى قوله أنت انزل من ذلك ضحك وقال صدق
وإن هذا الاتفاق ظريف ثم أمر لي بخمسة آلاف درهم ولخالد بمثلها دخل على المأمون
يوم السعانين أخبرني محمد قال حدثنا حماد قال حدثني أحمد بن صدقة قال دخلت على
المأمون في يوم السعانين وبين يديه عشرون وصيفة جلبا روميات مزنرات قد تزين
بالديباج الرومي وعلقن في أعناقهن صلبان الذهب وفي أيديهن الخوص و الزيتون فقال لي
المأمون ويلك يا أحمد قد قلت في هؤلاء أبياتا فغنني فيها ثم أنشدني قوله ( ظباءُ
كالدنانير ... مِلاحُ في المقاصيرِ ) ( جَلاهُنَّ
السعانينُ ... علينا في الزنانيرِ ) ( و
قد زَرَّفن أصدَاغاً ... كأذنابِ الزرازيرِ ) ( وأقبلنَ
بأوساطٍ ... كَأوساط الزنابير ) فحفظتها
وغنيته فيها فلم يزل يشرب و ترقص الوصائف بين يديه أنواع الرقص من الدستبند إلى
الإيلا حتى سكر فأمر لي بألفِ دينار و أمر بأن ينثر على الجواري ثلاثة آلاف دينار
فقبضت الألف ونثرت الثلاثة الألاف عليهن فانتهبتها معهن حدثني جحظة قال حدثني جعفر
بن المأمون قال اجتمعنا عند الفضل بن العباس بن المأمون ومعنا المسدود بن صدقة
وكان أحمد قد حلق في ذلك اليوم رأسه فاستعجلوا بسلافة كانت لهم فأخذ المسدود سكرجة
خردل فصبها على راس أحمد بن صدقة و قال كلوا هذه حتى تجيء تلك فحلف أحمد بالطلاق
إلا يقيم فانصرف ولما كان من غد جمعهما الفضل بن العباس فتقدم المسدود ودخل أحمد
وطنبور المسدود موضوع فجسه ثم قال من كان يسبح في هذا الماء فلما انتفعنا بالمسدود
سائر يومه على أن الفضل قد خلع عليهما وحملهما ولم يزل أحمد مقيما حتى بلغه موت
بنية له بالشأم فشخص نحو منزله وخرج عليه الأعراب فأخذوا ما معه وقتلوه قال جحظة وقال
بعض الشعراء يهجو احمد بن صدقة وكانت له صديقة فقطعته فعيره بذلك و نسبها إلى إنها
هربت منه لانه أبخر ( هربتْ
صديقة أحمدٍ ... هربتْ من الرِّيقِ الرّدِي ) ( هربت
فإن عادت إلى ... طُنبورِه فاقطعْ يدي ) صوت
( ألم تعلَموا أني تُخاف عَرامتي ... و أن قَناتي لا تلينُ على القَسْر ) ( و
إني و إياكم كمن نبَّه القَطا ... ولو لم تُنبَّه باتت الطيرُ لا تسْري ) ( أناةً
و حلماً و انتظاراً بكم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضَّرَع الغُمر ) ( أظُنُّ
صروفَ الدهر والجهل منكمُ ... ستحملكم منِّي على مَركَب وَعْر ) الشعر
للحارث بن وعلة الجرمي و الغناء لابن جامع ثقيل بالبنصر عن عمرو وفيه لسياط لحن
ذكره إبراهيم ولم يجنسه و قيل أن الشعر لوعلة نفسه أخبار الحارث بن وعلة اسمه و
نسبه الحارث بن وعلة بن عبد الله بن الحارث بن بلع بن سبيلة بن الهون بن أعجب بن
قدامة بن حرم بن زبان وهو علاف و إليه تنسب الرحال العلافية وهو أول من اتخذها بن
حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة وقد ذكرت متقدما الاختلاف في قضاعة ومن نسبه
معديا ومن نسبه حميريا و الرحال العلافية مشهورة عند الناس قد ذكرتها الشعراء في
أشعارها قال ذو الرمة ( وليلٍ
كجلباب العَروس ادرعتُه ... بأربعة و الشَّخصُ في العين واحدُ ) ( أحَمُّ
عِلافيِّ وأبيضُ صارمُ ... وأعيسُ مَهْريُّ وأروعُ ماجدُ ) وكان
وَعلة الجرمي وابنه الحارث من فرسان قضاعة و أنجادها و أعلامها وشعرائها وشهد وعلة
الكلاب الثاني فأفلت بعد أن أدركه قيس بن عاصم المنقري و طلبه فقاته ركضا و عدوا و
خبره يذكر بعد هذا في موضعه أن شاء الله تعالى فأخبرني عمي قال حدثني الكراني قال
حدثنا العمري عن العتبي قال كتب عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث إلى الحجاج متبدئا
أما بعد فإن مثلي و مثلك كما قال القائل ( سائلْ
مُجاورَ جَرمْ هل جنيتُ لها ... حَرْبا تفرقّ بين الجِيرة الخُلُطِ ) ( أم
هل دلفتُ بجرُّار له لَجبُ ... يَغشَى الأماعيزَ بين السَّهل و الفُرُط ) والشعر
لوعلة الجرمي هذا مثلي و مثلك فسأحملك على أصبعه وأريحك من مركبه فكتب الحجاج بذلك
إلى عبد الملك فكتب إليه جوابه أما بعد فإني قد أجبت عدو الرحمن بلا حول ولا قوة
إلا بالله و لعمر الله لقد صدق و خلع سلطان الله بيمينه و طاعته بشماله و خرج من
الدين عريانا كما ولدته أمه ثم لم يصبر عبد الملك على أن يدع جوابه بشعر فقال وعلى
أن مثلي و مثله ما قال الآخر ( أناة
وحِملاً وانتظاراً بكُم غدا ... فما أنا بالوانِي ولا الضرَعِ الغَمْر ) ( أظُنّ
صروفَ الدهر و الجهلَ منهمُ ... ستحمِلُهم منّي على مَركَب وعْرِ ) فليت
شعري أسما عدو الرحمن لدعائم دين الله يهدمها أم رام الخلافة أن ينالها وأوشك أن
يوهن الله شوكته فاستعن بالله واعلم أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون قال
مؤلف هذا الكتاب الشعر الذي تمثل به عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث لوعلة الجرمي
والشعر الذي تمثل به عبد الملك لابنه الحارث بن وعلة أخبرني محمد بن جعفر النحوي
قال حدثني طلحة بن عبد الله الطلحي عن احمد بن إبراهيم عن أبي عبيدة قال قتلت نهد
أخا وعلة الجرمي فاستعان بقومه فلم يعينوه فاستعان بحلفاء من بني نمير و كانوا له
حلفاء و إخوانا فأعوناه حتى أدرك بثأره فقال في ذلك ( سائل
مُجاورَ جَرم هل جنيتُ لها ... حربا تُزيِّل بين الجيرة الْخُلطُ ) ( أم
هل علوتُ بجرَّار له لُجبُ ... يغشى المخارمَ بين السهل والفُرُط ) ( حتى
تركتُ نساءَ الحي ضاحيةً ... في ساحة الدار يستوقدْن بالغُبُط ) فراره
من قيس بن عاصم أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال خرج رجل من بني
تميم انه قيس بن عاصم قال الرياشي و حقق أبو عبيدة انه قيس يوم الكلاب يلتمس أن
يصيب رجلا من ملوك اليمن له فداء فبينا هو في ذلك إذ أدرك وعلة الجرمي وعليه
مقطعات له فقال له على يمينك قال على يساري أقصد لي قال هيهات منك اليمن قال
العراق مني أبعد قال انك لن ترى أهلك العام قال ولا أهلك تراهم و جعل وعلة يركض
فرسه فإذا ظن إنها قد أعيت وثب عنها فعدا معها وصاح بها فتجري وهو يجاريها فإذا
أعيا وثب فركبها حتى نجا فسأل عنه قيس فعرف انه وعلة الجرمي فانصرف و تركه فقال
وعلة في ذلك ( فِدىً
لكما رحْليَّ أمّي و خالتي ... غداة الكُلاب إذ تُحَزُّ الدَّوابرُ ) ( نجوتُ
نجاء لم ير الناسُ مثلَه ... كأنّي عقابُ عند تَيْمن كاسِرُ ) ( ولما
رأيت الخيلَ تدعو مُقاعِساُ ... تنازعني من ثغرةِ النحر جائِز ) ( فإن
استطع لا تلتبسْ بي مُقاعِسُ ... ولا يرني ميدنهم و المحاضر ) ( ولا
تك لي جرَّارة مضريِّةُ ... إذا ما غدت قوت العيال تُبادر ) أما
قوله تحز الداوبر فان أهل اليمن لما انهزموا قال قيس بن عاصم لقومه لا تشتغلوا
بأسرهم فيفوتكم أكثرهم ولكن اتبعوا المنهزمين فجزوا أعصابهم من أعقابهم ودعوهم في
مواضعهم فإذا لم يبق أحد رجعتم إليهم فأخذتموهم ففعلوا ذلك أهل اليمن يومئذ ثمانية
آلاف عليهم أربعة املاك يقال لهم اليزيدون وهم يزيد بن عبد المدان ويزيد بن هوبر و
يزيد بن المأمور و يزيد بن مخزم هؤلاء الأربعة اليزيدون و الخامس عبد يغوث بن وقاص
فقتل اليزيدون أربعتهم في الوقعة و أسر عبد يغوث بن وقاص فقتلته الرباب برجل منها
وقد ذكر خبر مقتله متقدما في صوت يغني فيه وهو ( إلا
لا تلوماني كفى اللومَ مَابيا ... ) وأما
قوله ( ولما رأيتُ الخيلَ تدعو مُقاعِساً ... ) فإن
بني تميم لما التقت مع بني الحارث بن كعب في هذا اليوم تداعت تميم في المعمعة يا
آل كعب فتنادى أهل اليمن يا آل كعب فتنادوا يا آل الحارث فتنادى أهل اليمن يا آل
الحارث فتنادوا يا آل مقاعس وتميزوا بها من أهل اليمن صوت ( و
الله لا نظرتْ عيني إليكَ ولو ... سالتَ مَساربها شوقاً إليكَ دَمَا ) ( أن
كنت خنتُ ولم أضمر خيانتكمْ ... فالله يأخذ ممن خانَ أو ظَلمَا ) ( سماجة
لمُحبِّ خان صاحَبه ... ما خان قطُّ محبُّ يعرف الكرَمَا ) الشعر
لعلي بن عبد الله الجعفري و الغناء للقاسم بن زرزور و لحنه ثقيل أول مطلق ابتداؤه
نشيد و كان إبراهيم بن أبي العبيس يذكر انه لأبيه أخبار علي بن عبد الله بن جعفر و
نسبه هو علي بن عبد الله بن جعفر بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن جعفر
بن أبي طالب عليهم السلام و أمه ولادة بنت الحجل بن عنبسة بن سعيد بن العاصي بن
أمية شاعر ظريف حجازي كان عمر بن الفرج الرخجي حمله من الحجاز إلى سر من رأى مع من
حمل من الطالبيين فحبسه المتوكل معهم حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد
بن الحسن بن مسعود الزرقي قال حدثنا عمر بن عثمان الزهري المعروف بابن أبي قباحة
قال رفع عمر بن الفرج علي بن عبد الله بن جعفر الجعفري إلى المتوكل أيام حج المنتصر
فحبسه المتوكل لأنه كان شيخ القوم وكبيرهم وكان أغلظ لعمر بن الفرج كان متديثا في
شعره قال علي بن عبد الله مكثت في الحبس مدة فدخل علي رجل من الكتاب يوما فقال
أريد هذا الجعفري الذي تديث في شعره فقلت له إلي فأنا هو فعدل إلي وقال جعلت فذاك
أحب أن تنشدني بيتيك اللذين تديثت فيهما فأنشدته ( ولما
بدَا لي أنهما لا تودني ... و أن هواها ليس عني بمُنجَلِ ) ( تمنيّتُ
أن تهوى سواي لعلَّها ... تذوقُ حراراتِ الهوى فترقَّ لي ) قال
فكتبهما ثم قال لي اسمع جعلت فداك بيتين قلتهما في الغيرة فقلت هاتهما فأنشدني ( ربما
سرُّني صدودُك عنيِّ ... في طلابيكِ وامتناعكِ منِّي ) ( حذراً
أن أكونَ مِفتاح غيري ... فإذا ما خلوت كنت التَّمَنِّي ) انفته
و كبرياؤه حدثني اليزيدي قال حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود قال أخبرني العباس بن
عيسى العقيلي أن علي بن عبد الله الجعفري أنشده ( والله
والله ربِّي ... وتلكَ أقصى يَميني ) ( لو
شئتُ إلا أصلِّي ... لما وضعت جَبيني ) حدثنا
اليزيدي قال حدثنا محمد بن الحسن بن مسعود قال أخبرني العباس بن عيسى قال حدثني
علي بن عبد الله الجعفري قال مرت بي امرأة في الطواف و أنا جالس أنشد صديقا لي هذا
البيت ( أهوىَ هَوى الدين واللذاتُ تُعجبني
... فكيفَ لي بهوى اللذات والدين ) فالتفتت
المرأة إلي و قالت دع أيهما شئت وخذ الآخر حدثنا اليزيدي قال حدثنا محمد بن الحسن
الزرقي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال أنشدني علي بن عبد الله بن جعفر الجعفري
لنفسه ( و الله لا نظرتْ عيني إليكَ ولو
... سالت مساربُها شوقا إليكَ دما ) ( إلا
مفاجأة عند اللقاء ولا ... نازعتكِ الدهرَِ إلا ناسياً كَلما ) ( أن
كنت خُنت ولم أضمرْ خيانتكمْ ... فا لله يأخذ ممن خان أو ظلما ) ( سماجَةُ
لمحبِّ خان صاحبَه ... ما خان قطُّ محبُّ يَعرف الكَرَما ) قال
عبد الله بن شبيب علي بن عبد الله لنفسه صوت ( وقف الهوى بي حيثُ أنت فليس لي ...
متأخَّر عنه ولا مُتقدَّمُ ) ( أجد
الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حُبّاُ لذكركِ فلْيلٌمني اللُّوَّمُ ) ( وَ
أهَنِتِني فأهنت نفِسيَ جاهداً ... ما من يهون عليك ممن يُكرمُ ) ( أشبهتِ
أعدائي فَصِرتُ أحِبُّهم ... إذ صار حظي منكِ حظيَ منهمُ ) صوت
( أتعرفُ رسمَ الدار من أمِّ معبدِ
... نعم فرماكَ الشوقُ قبل التجلُّد ) ( فيالكَ
مِنْ شوقٍ ويا لكَ عبَرة ... سوابقُها مِثل الجُمانِ المبدَّد ) الشعر
لعتيبة بن مرداس المعروف بابن فسوة والغناء لجميلة خفيف ثقيل بالبنصر عن ابن المكي
وذكر الهشامي أن فيه لمعبد لحنا من الثقيل الأول وانه يظنه مكن منحول يحيى إليه أخبار
عتيبة ونسبه عتيبة بن مرداس أحد بني كعب بن عمرو بن تميم لم يقع إلي من نسبه غير
هذا وهو شاعر مقل غير معدود في الفحول مخضرم ممن أدرك الجاهلية والإسلام هجاء خبيث
اللسان بذي سبب تلقيبه بابن فسوة وابن فسوة لقب لزمه في نفسه و لم يكن أبوه يلقب
بفسوة إنما لقب هو بهذا وقد اختلف في سبب تلقيبه بذلك فذكر إسحاق الموصلي عن أبي عمرو
الشيباني نسخت ذلك من كتاب إسحاق بخطه أن عتيبة بن مرداس كان فاحشا كثير الشر قد
أدرك الجاهلية فأقبل ابن عم له من الحج وكان من أهل بيت منهم يقال لهم بنو فسوة
فقال لهم عتيبة كيف كنت يا بن فسوة فوثب مغضبا فركب راحلته و قال بئس لعمر الله ما
حييت به ابن عمك قدم عليك من سفر و نزل دارك فقام إليه عتيبة مستحييا وقال له لا
تغضب يا بن عم فإنما مازحتك فأبى أن ينزل فقال له انزل و أنا اشتري منك هذا الاسم فاتسمى
به وظن أن ذلك لا يضره قال لا أفعل أو تشتريه مني بمحضر من العشيرة قال نعم فجمعهم
وأعطاه بردا وجملا وكبشين وقال لهم عتيبة اشهدوا أني قد قبلت هذا النبز و أخذت
الثمن و أني ابن فسوة فزالت عن ابن عمه يومئذ وغلبت عليه وهجي بذلك فقال فيه بعض
الشعراء ( أوَدى ابنُ فسوة إلا نَعْتَه
الإِبلا ... ) و عمر عمرا طويلا و إنما قال ( أودى
ابنُ فسوة إلا نَعْتَه الأبلا ... ) لأنه
كان أوصف الناس لها وأغراهم بوصفها ليس له كبير شعر إلا وهو مضمن وصفها سبب آخر
للقبة و أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال إنما
سمي عتيبة بن مرداس ابن فسوة لأنه كان له جار من عبد القيس فكان يتحدث إلى ابنته
وكان لها حظ من جمال و كانت تعجبه ويهيم بها فكان أحداث بني تميم إذا ذكروا العبدي
قالوا قال ابن فسوة و فعل ابن فسوة فأكثروا عليه من ذلك حتى مل فعمل على التحول
عنهم و بلغ ذلك عتيبة فأتاه فطلب إليه أن يقيم و أن يحتمل اسمه و يشتريه منه ببعير
فلم يفعل قال العبدي فتحولت عنهم وشاع في الناس انه قد ابتاع مني و غلب عليه فأنشأ
عتيبة يقول من كلمة له ( وَحوَّلَ
مولانا علينا اسمَ أُمه ... إلا رُبَّ مولىَّ ناقص غير زُائدِ ) أخبرني
جعفر بن قدامة قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي
وابن دأب وابن حعدبة قالوا أتى عتيبة بن مرداس وهو ابن فسوة عبد الله بن العباس
عليهما السلام وهو عامل لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه على البصرة و تحته يومئذ
شميلة بنت جنادة ابن بنت أبي أزهر الزهرانية وكانت قبله تحت مجاشع بن مسعود السلمي
فأستأذن عليه فأذن له وكان لا يزال يأتي أمراء البصرة فيمدحهم فيعطونه و يخافون
لسانه فلما دخل على ابن عباس قال له ما جاء بك إلي يا بن فسوة فقال له وهل عنك
مقصر أو وراءك معدى جئتك لتعينني على مروءتي وتصل قرابتي فقال له ابن عباس وما
مروءة من يعصي الرحمن ويقول البهتان و يقطع ما أمر الله به أن يوصل و الله لئن
أعطيتك لاعيننك على الكفر و العصيان انطلق فأنا أقسم بالله لئن بلغني انك هجوت
أحدا من العرب لأقطعن لسانك فأراد الكلام فمنعه من حضر وحبسه يومه ذلك ثم أخرجه عن
البصرة مدح الحسن و ابن جعفر فوفد إلى المدينة بعد مقتل علي عليه السلام فلقي الحسن
بن علي عليهما السلام وعبد الله بن جعفر عليهما السلام فسألاه عن خبره مع ابن عباس
عليه السلام فأخبرهما فاشتريا عرضه بما أرضاه فقال عتيبة يمدح الحسن جعفر عليهما
السلام و يلوم ابن عباس رضي الله عنهما ( أتيتُ
ابنَ عباس فلم يقضِ حاجتي ... و لم يَرْجُ معروفي و لم يُخشَ منكَري ) ( حُبستُ
فلم أَنطق بعذر لحاجةٍ ... وسَدّ خَصاص البيت من كل منظرِ ) ( وجئت
و أصوات الخصوم وراءه ... كصوت الحمام في القَليب المغوَّرِ ) ( ومَا
أنا إذ زاحمتُ مصراعَ بابه ... بذي صَوَلة ضارٍ ولا بحزَوَّرِ ) فلو
كنتُ مِن زهرانَ لم ينس حاجتي ... و لكنني مولَى جميل بنِ مَعْمَرِ ) وكان
حليفا لجميل بن معمر القرشي ( وباتَتْ
لعبد الله مِن دونِ حاجتي ... شُمَيلةُ تلهو بالحديث المفتَّر ) ( ولم
يَقتربْ من ضوء نارٍ تحثُّها ... شُميلة إلا أن تَصلَّى بمِجْمرِ ) ( تُطالع
أهلَ السوق و البابُ دونَهَا ... بمستفلِكِ الذِّفرى أسيل المدثَّرِ ) ( إذا
هي هَمّتْ بالخروج يردُّها ... عن الباب مصراعا مُنيف مجَيَّر ) وجدت
بخط إسحاق الموصلي مجير محير و المحير المصهرج و الحيار الصهروج ( فليت
قَلوصي عُرِّبَتْ أو رحلتُها ... إلى حَسن في داره و ابنِ جعفرِ ) ( إلى
ابنِ رسول الله يأمرُ بالتقى ... وللدين يدعو و الكتابِ المطهَّرِ ) ( إلى
معشَر لا يخصِفون نعالهم ... ولا يلبسون السَّبتَ ما لم يُحَضَّر ) ( فلما
عرفتُ البأسَ منه وقد بدتْ ... أيادي سَبا الحاجاتِ للمتذكِّرِ ) ( تَسنِّمتُ
حرجوجاً كان بُغامَها ... أحيح ابن ماء في يراعٍ مُفَجَّرِ ) ( فما
زلتُ في التَّسيار حتى أنختُها ... إلى ابنِ رسول الأمَّةِ المتخَّيرِ ) ( فلا
تَدَعُنِّي إذْ رحلتُ إليكمُ ... بني هاشم أن تُصْدروني بِمَصدرِ ) وهي
قصيدة طويلة هذا ذكر في الخبر منها وأخبرني بهذا الخبر أحمد بن عبد العزيز الجوهري
و احمد بن عبيد الله بن عمار عن عمر بن شبة عن المدائني مثل ما مضى أو قريبا منه
ولم يتجاوز عمر بن شبة المدائني في إسناده كان خبيث اللسان مخوف المعرة أخبرني علي
بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال قال ابن الأعرابي كان
عتيبة بن مرداس السلمي شاعرا خبيث اللسان مخوف المعرة في جاهليته وإسلامه و كان
يقدم على أمراء العراق وأشراف الناس فيصيب منهم بشعره فقدم على ابن عامر بن كريز و
كان جوادا فلما استؤذن له عليه أرسل إليه انك و الله ما تسأل بحسب ولا دين ولا
منزلة وما أرى لرجل من قريش أن يعطيك شيئا و أمر به فلكز و أهين فقال ابن فسوة ( و
كائن تخطَّتْ ناقتي وزَميلُها ... إلى ابن كُريز مِنْ نُحوسٍ وأسْعُد ) ( وأغبرَ
مَسْحولِ الترابِ تَرى له ... حيا طردَتْه الريحُ من كل مَطْرَدِ ) ( لعمرك
إني عند باب ابنِ عامر ... لكالظَّبي عند الرَّمْيَةِ المتَردِّدِ ) ( فلم
أر يوماّ مثله إذ تكشفت ... ضبابتُه عنِّي ولمَّا أقَيِّدِ ) فبلغ
قوله ابن عامر فخاف لسانه وما يأتي به بعد هذا ورجع له وأحسن القوم رفدة و قالوا
هذا شاعر فارس و شيخ من شيوخ قومه واليسير يرضيه فقال ردوه فرد فقال له ايه يا
عتيبة اردد علي ما قلت فقال ما قلت إلا خيرا قال هاته فقال قلت ( أتعرفُ
رسم الدار من أم معبَدِ ... نعم فرماك الشوقُ قبلَ التجلُّدِ ) ( فيا
لكَ من شوقٍ ويا لك عَبرةً ... سوابقُها مِثل الجُمان المبدِّدِ ) ( وكائنْ
تخطتْ ناقتي وزميلُها ... إلى ابن كُريز من نحوس وأسعُدِ ) ( فتى
يشتري حُسنَ الثَّناء بماله ... ويعلم أنَّ المرء غيرُ مخلَّدِ ) ( إذا
ما ملمّاتُ الأمور اعتريْنَه ... تجلَّى الدُّجَى عن كوكب مُتوقِّد ) فتبسم
ابن عامر و قال لعمري ما هكذا قلت و لكنه قول مستأنف وأعطاه حتى رضي وانصرف ابن
الأعرابي يستجيد أبياتا له فينشدها قال وأنشدنا ابن الأعرابي له بعقب هذا الخبر و
كان يستحسن هذه الأبيات و يستجيدها ( منعّمةُ
لم يُغذها أهلُ بلدةٍ ... ولا أهلُ مصرٍ فْهَي هيفاءُ ناهِدُ ) ( فرِيعتْ
فلم تخبا و لكن تأوْدتْ ... كما انتصِّ مكحولُ المدامع فارِدُ ) ( وأهوت
لتنتاشَ الِّرواق فلم تَقُم ... إليه ولكن طأطأتْه الولائدُ ) ( قليلة
لحم الناظرَينِ يَزينها ... شبابُ ومحفوضُ من العيش بَارِدُ ) ( تناهى
إلى لهو الحديثِ كأنها ... أخو سَقَمٍ قد أسلمته العوائدُ ) ( ترى
القُرطَ منْها في قناة كأنها ... بمهلكة لولا البُرا والمَعاقِدُ ) وقال
أبو عمرو الشيباني أغار رجل من بني تغلب يقال له الهذيل بعقب مقتل عثمان على بني
تميم فأصاب نعما كثيرا فورد بها ماء لبني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم يقال له
سفار فإذا عليه الأسود و خالد ابنا نعيم بن قعنب بن الحارث بن عمرو بن همام بن رباح
في إبل لهما قد أورداها فأراد الهذيل أخذها فتفرقت فتفرق اصحابه في طلبها وهو قائم
على راس ركية من سفار فرماه أحدهما فقتله فوقع في الركية فكانت قبره ويقال بل رماه
عبد اسود لمالك بن عروة المازني فقال عتيبة بن مرداس الذي يقال له ابن فسوة في ذلك
( مًنْ مبلغُ فتيان تغلبَ أنه ...
خلا للهذيل من سفارِ قلِيبُ ) ( إذا
صوَّت الأصداء صوَّت وسطَها ... فتى تغلبيُّ في القلِيب غريبُ ) ( فأعددتُ
يربوعاً لِتَغلب إنهم ... أناس غذتهم فتنةُ وحروب ) ( حويتَ
لقاحَ ابني نُعيم بن قَعنب ... وإنك إن أحرزتها لكسوبُ ) وقال
أبو عمرو أيضا كان عبد الله بن عامر بن كريز قد تزوج أخت بشر بن كهف أحد بني خزاعة
بن مازن فكان أثيراً عنده واستعمله على الحمى فسأله ابن فسوة أن يرعيه فأبى ومنعه
وطرد ابله فقال في ذلك ( مَنْ
يكُ أرعاه الحمى أخواتُه ... فما ليَ من أُختٍ عَوانٍ ولا بِكرِ ) ( وماضرَّها
أن لم تكن رعت الحمى ... ولم تطلب الخير الممنع من بشر ) ( متى
يجيء يوما إلى المال وارثي ... يجد قبض كف غير ملأى ولا صفر ) ( يجد
مهرة مثل القناة طمرة ... وغضب إذا ماهز لم يرض بالهبر ) ( فإن
تمنعوا منها حماكم فإنه ... مباح لها ما بين إنبط فالكدر ) ( إذا
ما امرؤ أثنى بفضل ابن عمه ... فلعنه رب العالمين على بشر ) مدح
قومه وهجا بني سعد وقال أبو عمرو الشيباني ونسخته أيضاَ من خط إسحاق الموصلي وجمعت
الروايتين أن ابن فسوة نزل ببني سعد بن مالك من بني قيس بن ثعلبة وبات بهم ومعه
جارية له يقال لها جوزاء فسرقوا عيبة له فيها ثيابه و ثياب جاريته فرحل عنهم فلما
عاد إلى قومه أعلمهم ما فعله به بنو سعد بن مالك فركب معه فرسان منهم حتى اغاروا
على إبل لبني سعد فأخذوا منها صرمة واستاقوها فدفعوها إليه فقال يمدح قومه ويهجو
بني سعد بقوله ( جزى
اللهُ قومي من شفيعٍ وشَاهدٍ ... جزاء سليمانَ النِّبيِّ المكرَّم ) ( همُ
القومُ لا قومُ ابنِ دارةً سالم ... ولا ضابئُ إذ أُسْلِمَا شَرَّ مُسلم ) ( وما
عيبة الجوزاء إذ غدرتْ بها ... سَراةُ بني قيس بسرِّ مكتَّمِ ) ( إذا
ما لَقِيت الحيِّ سعدَ بنَ مالك ... على زّمٍّ فانزل خائفاً أو تقدّم ) ( أناسُ
أجارونا فكان جِوارُهمْ ... شَعاعاً كلحم الجازر المتقسَّمِ ) ( لقد
دنِستْ أعراض سعدِ بن مالك ... كما دَنِستْ رجلُ البغيِّ من الدَّم ) ( لهم
نِسوة طُلْس الثياب مَواجِنُ ... ينادين من يبتاعُ عوداً بدِرهمْ ) ( إذا
أيِّمُ قيسيّةُ مات بعلُها ... و كان لها جارُ فليستْ بأيِّم ) ( يُمشِّي
ابنُ بشر بينهنّ مقابلاً ... بأير كإير الارجحّي المخرَّمِ ) ( إذا
رَاح من أبياتِهنَّ كأَنَّما ... طليْتَ بتنَّوُّم قَفاه وخمخِم ) وفيه
رواية إسحاق ( تسوق
الجواري مَنْخَراه كأنّما ... دَلكنَ بتنٌّوم قفاه و خمخم ) صوت
( قد طال شوقي وعادني طربي ... من ذكر خَوْدٍ كريمةِ النسب ) ( غراء
مثل الهلال صورتها ... أو مثل تمثال صورة الذهب ) و
يروي بيعة الرهب الشعر لعبد الله بن العجلان النهدي و الغناء لمالك ولحنه من القدر
الأوسط من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وله فيه أيضا خفيف ثقيل
بالوسطى عن عمرو وذكر الهشامي انه لابن مسجح أخبار عبد الله بن العجلان هو عبد
الله بن العجلان بن عبد الاحب بن عامر بن كعب بن صباح بن نهد بن زيد بن ليث بن
اسود بن اسلم بن الحاف بن قضاعة شاعر جاهلي أحد المتيمين من الشعراء ومن قتله الحب
منهم و كانت له زوجة يقال لها هند فطلقها ثم ندم على ذلك فتزوجت زوجا غيره فمات أسفا
عليها قصته مع امرأته هند أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن
الهيثم بن عدي قال كان عبد الله بن العجلان النهدي سيدا في قومه و ابن سيد من
ساداتهم و كان أبوه أكثر بني نهد مالا و كانت هند امرأة عبد الله بن العجلان التي
يذكرها في شعره امرأة من قومه من بني نهد و كانت احب الناس إليه وأحظاهم عنده فمكثت
معه سنين سبعا أو ثمانيا لم تلد فقال له أبوه انه لا ولد لي غيرك ولا ولد لك وهذه
المرأة عاقر فطلقها و تزوج غيرها فأبى ذلك عليه فآلى إلا يكلمه أبدا حتى يطلقها
فأقام على أمره ثم عمد إليه يوما وقد شرب الخمر حتى سكر وهو جالس مع هند فأرسل
إليه أن صر إلي فقالت له هند لا تمض إليه فو الله ما يريدك لخير و إنما يريدك لأنه
بلغه انك سكران فطمع فيك أن يقسم عليك فتطلقني فنم مكانك ولا تمض إليه فأبى وعصاها
فتعلقت بثوبه فضربها بمسواك فأرسلته و كان في يدها زعفران فأثر في ثوبه مكان يدها
و مضى إلى أبيه فعادوه في أمرها وأنبه و ضعفه و جمع عليه مشيخة الحي وفتيانهم
فتناولوه بألسنتهم و عيروه بشغفه بها و ضعف حزمه و لم يزالوا به حتى طلقها فلما
اصبح خبر بذلك و قد علمت به هند فاحتجبت عنه و عادت إلى أبيها فأسف عليها أسفا شديدا
فلما رجعت إلى أبيها خطبها رجل من بني نمير فزوجها أبوها منه فبنى بها عندهم و أخرجها
إلى بلده فلم يزل عبد الله بن العجلان دنفا سقيما يقول فيها الشعر ويبكيها حتى مات
أسفا عليها و عرضوا عليه فتيات الحي جميعا فلم يقبل واحدة منهن و قال في طلاقه
إياها ( فارقتُ هنداً طائعاً ... فندمت
عندَ فراقِها ) ( فالعينُ
تذْرِي دمعةً ... كالدُّر من آماقها ) ( متحلَّياً
فوق الرداء ... يجول من رَقْرَاقها ) ( خَوْدُ
رَداحُ طَفْلَةٌ ... ما الفحش من أخلاقها ) و
لقد ألَذٌّ حديثَها ... و أُسَرُّ عند عناقها ) وفي
هذه القصيدة يقول ( إن
كنتِ ساقيةً ببُزْل ... الادْمِ أو بحِقاقها ) ( فاسقِي
بني نهدٍ إذا ... شربوا خيار زِقاقها ) ( فالخيل
تعلم كيف نُلْحِقها ... غداة لحاقها ) ( بأسنِّةٍ
زُرْق صبَحْنا ... القَوْمَ حدِّ رقاقها ) ( حتى
ترى قصد القنا ... والبِيضَ في أعناقها ) قال
أبو عمرو الشيباني لما طلق عبد الله بن العجلان هندا أنكحت في بني عامر و كانت
بينهم وبين نهد مغاورات فجمعت نهد لبني عامر جميعا فأغاروا على طوائف منهم فيهم
بنو العجلان وبنو الوحيد و بنو الحريش و بنو قشير و نذروا بهم فاقتتلوا قتالا شديدا
ثم انهزمت بنو عامر و غنمت نهد أموالهم و قتل في المعركة ابن لمعاوية بن قشير بن
كعب وسبعة بنين له و قرط وجدعان ابنا سلمة بن قشير و مرداس بن جزعة بن كعب و حسين
بن عمرو بن معاوية ومسحقة بن المجمع الجعفي فقال عبد الله بن العجلان في ذلك ( ألا
أبلغ بني العجلان عني ... فلا يُنْبيك بالَحدثان غيري ) ( بأنا
قد قتلنا الخير قُرْطاً ... وَ جُرنا في سَرَاةِ بني قشير ) ( وأفلتَنا
بنو شَكَلٍ رجالاً ... حُفاةً يربئون على سُمَيْر ) امرأة
قيسية ترثي قتلى قيس وقالت امرأة من بني قيس ترثي قتلاهم ( أصبتمْ
يا بني نهدِ بن زيد ... قُروماً عند قعقعة السلاح ) ( إذا
اشتد الزمان و كان محلاْ ... وَ حاذر فيه إخْوانُ السماح ) ( أهانوا
المال في اللَّزبات صبراً ... وَ جادوا بالمتالي و اللقاح ) ( فبكِّي
مالكاً وَابْكي بجيراً ... وَ شدّاداً لمشتجِر الرماح ) ( وَ
كعباً فاندبيه معاً وَ قُرطا ... أولئك معشري هدُّوا جناحي ) ( و
بكِّي إن بكَيْتِ على حُسُيْلٍ ... وَ مرداس قتيلْ بني صباح ) قال
و أسر عبد الله بن العجلان رجلا من بني الوحيد فمن عليه وأطلقه ووعده الوحيدي
الثواب فلم يف فقال عبد الله ( وَ
قالوا لن تنال الدهر فقراً ... إذا شكرتْك نعمتَك الوحيدُ ) ( فيا
ندما ندمت على رِزَام ... وَ مُخْلِفِه كما خُلِع العَتُودُ ) قال
أبو عمرو ثم أن بني عامر جمعوا لبني نهد فقالت هند امرأة عبد الله بن العجلان التي
كانت ناكحا فيهم لغلام منهم يتيم فقير من بني عامر لك خمس عشرة ناقة على أن تأتي
قومي فتنذرهم قبل أن يأتيهم بنو عامر فقال أفعل فحملته على ناقة لزوجها ناجية
وزودته تمرا ووطبا من لبن فركب فجد في السير و فني اللبن فأتاهم و الحي خلوف في
غزو و ميرة فنزل بهم و قد يبس لسانه فلما كلموه لم يقدر على أن يجيبهم وأومأ لهم
إلى لسانه فأمر خراش بن عبد الله بلبن وسمن فأسخن و سقاه إياه فابتل لسانه و تكلم
و قال لهم أتيتم أنا رسول هند إليكم تنذركم فاجتمعت بنو نهد و استعدت ووافتهم بنو
عامر فلحقوهم على الخيل فاقتتلوا قتالا شديدا فانهزمت بنو عامر فقال عبد الله بن
العجلان في ذلك ( عَاودَ
عيني نصبُها وَ غرورها ... أهَمُّ عَنَاها أم قَذَاها يعورُها ) ( أم
الدار أمستْ قد تعفَّت كأنها ... زبورُ يمانٍ رقشته سطورها ) ( ذكرت
بها هنداً وأترابَها الألَى ... بها يكذب الواشي وُيْعصى أميرُها ) ( فما
مَعْوِلٌ تبكي لفقد أليفها ... إذا ذكرته لا يكفُّ زفيرُها ) ( بأغزر
مني عبرة إذ رأيتها ... بحث بها قبل الصباح بَعيرها ) ( ألم
يأت هنداً كيفما صُنْعُ قومِها ... بني عامر إذ جاء يسعى نَذِيرُها ) ( فقالوا
لنا إنَّا نحبّ لقاءكم ... و إنا نحيِّي أرضكم و نزُورها ) ( فقلنا
إذا لا تَنْكُل الدهرِ عنكمُ ... بصُمِّ القنا اللائي الدماءَ تُميرها ) ( فلا
غرو أنَّ الخيل تَنْحِط في القنا ... تمطَّرُ من تحت العوالي ذكُورها ) ( تأوَّهُ
مما مَسَّها من كريهةٍ ... و تُصفي الخدود و الرماحُ تَصورها ) ( وأربابها
صرعى بِبُرْقَةِ أخربٍ ... تُجَرِّرُهُمْ ضُبعانها ونُسورها ) ( فأبلغ
أبا الحجاج عني رسالةً ... مغلغلة لا يَغْلَبِنْك بُسُورُها ) ( فأَنت
منعت السلم يومَ لقيتنا ... بكفَّيك تُسْدِي غيَّةً و تنيرَها ) ( فذوقوا
على ما كان من فرط إحْنَة ... حلائبنا إذْ غابَ عنا نصيرها ) كيف
انتهى حبه لهند قال أبو عمرو فلما اشتد ما بعبد الله بن العجلان من السقم خرج سرا
من أبيه مخاطرا بنفسه حتى أتى أرض بني عامر لا يرهب ما بينهم من الشر و الترات حتى
نزل ببني نمير و قصد خباء هند فلما قارب دارها رآها وهي جالسة على الحوض وزوجها
يسقي و يذود الإبل عن مائة فلما نظر إليها و نظرت إليه رمى بنفسه عن بعيره و أقبل
يشتد إليها وأقبلت تشتد إليه فاعتنق كل واحد منهما صاحبه و جعلا يبكيان و ينشجان و
يشهقان حتى سقطا على وجوههما و أقبل زوج هند ينظر ما حالهما فوجدهما ميتين قال أبو
عمرو و أخبرني بعض بني نهد أن عبد الله بن العجلان أراد المضي إلى بلادهم فمنعه
أبوه و خوفه الثارات و قال نجتمع معهم في الشهر الحرام بعكاظ أو بمكة و لم يزل
يدافعه بذلك حتى جاء الوقت فحج و حج أبوه معه فنظر إلى زوج هند وهو يطوف بالبيت
وأثر كفها في ثوبه بخلوق فرجع إلى أبيه في منزله و أخبره بما رأى ثم سقط على وجهه
فمات هذه رواية أبي عمرو وقد أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني عبد الله بن علي
بن الحسن قال حدثنا نصر بن علي عن الاصمعي عن عبد العزيز بن أبي سلمة عن أيوب عن
ابن سيرين قال خرج عبد الله بن العجلان في الجاهلية فقال ( ألا
إنَّ هنداً أصبحت منك محرماً ... و أصبحت من أدنى حُمُوَّتها حَمَا ) ( وأصبحتُ
كالمقمور جفْن سلاحه ... يقلّب بالكفين قوساً وأسهمَا ) ثم
مد بها صوته فمات قال ابن سيرين فما سمعت أحدا مات عشقا غير هذا وهذا الخبر عندي
خطأ لأن أكثر الرواة يروي هذين البيتين لمسافر بن أبي عمرو بن أمية قالهما لما خرج
إلى النعمان بن المنذر يستعينه في مهر هند بنت عتبة بن ربيعة فقدم أبو سفيان بن
حرب فسأله عن أخبار مكة و هل حدث بعده شيء فقال لا إلا أني تزوجت هندا بنت عتبة
فمات مسافرا أسفا عليها و يدل على صحة ذلك قوله ( وأصبحت
من أدنى حموَّتها حما ... ) لأنه
ابن عم أبي سفيان بن حرب لحا و ليس النميري المتزوج هندا النهدية ابن عم عبد الله
بن العجلان فيكون من أحمائها و القول الأول على هذا أصح مختارات من شعره في هند
ومن مختار ما قاله ابن العجلان في هند ( ألا
أبلغا هنداً سلامي فإن نأتْ ... فقلبيَ مذ شطَّتْ بها الدارُ مدنَفْ ) ( ولم
أر هنداً بعد موقف ساعة ... بأنْعَمَ في أهل الديار تطوَّف ) ( أتَتْ
بين أتراب تَمَايَسُ إذ مشتْ ... دبيب القطا أوهنَّ منهنّ أقطَفُ ) ( بباكرْنَ
مِرْآةً جليّاً و تارةً ... ذكيّاً وبالأيْدي مَدَاكُ ومِسْوَفُ ) ( أشارت
إلينا في خَفَاةٍ وراعَها ... سراةُ الضُّحى مني على الحيِّ موقفُ ) ( وقالت
تباعد يا بن عمي فإنني ... منيت بذي صول يغار ويعنف ) أخبرني
الحسن بن علي قال أنشدنا فضل اليزيدي عن إسحاق لعبد الله بن العجلان النهدي قال
إسحاق وفيه غناء ( خليليَّ
زورا قبل شحْط النوى هندا ... ولا تأمنا مِنْ دَارِ ذِي لَطَفٍ بُعْدا ) ( ولا
تعجلا لم يَدْر صاحبُ حاجةٍ ... أغيّاُ يلاقي في التعجُّلِ أم رُشْدا ) ( ومّرا
عليها بارك الله فيكما ... وإن لم تكن هندٌ لوجهيكما قَصْدَا ) ( و
قولا لها ليس الضلال أجازَنا ... و لكنَّنا جزْنا لنلقاكُمُ عَمْدِا ) صوت
( ألا يا ظبيةَ البلَدِ ... براني طولُ ذا الكمدِ ) ( فرِّدي
يا معذِّبتي ... فؤادي أو خُذي جسدِي ) ( بُليتُ
لِشقوتي بكُمُ ... غلاماً ظاهِرَ الْجلَدْ ) ( فشَيَّبَ
حَبُّكم رأْسي ... و بيَّض هَجرُكم كبِدي ) الشعر
للمؤمل بن أميل و الغناء لإبراهيم ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق أخبار
المؤمل و نسبه المؤمل بن أميل بن أسيد المحاربي من محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان
بن مضر شاعر كوفي من مخضرمي شعراء الدولتين الأموية و العباسية و كانت شهرته في
العباسبة أكثر لأنه كان من الجند المرتزقة معهم ومن يخصهم و يخدمهم من أوليائهم
وانقطع إلى المهدي في حياة أبيه و بعده وهو صالح المذهب في شعره ليس من المبرزين
الفحول ولا المرذولين وفي شعره لين وله طبع صالح و كان يهوى امرأة من أهل الحيرة
يقال لها هند و فيها يقول قصيدته المشهورة ( شف
المؤمِّل يوم الحيرة النظرُ ... ليت المؤملَ لم يُخلق له بَصَرُ ) يقال
إنه رأى في منامه رجلا أدخل أصبعيه في عينيه وقال هذا ما تمنيت فأصبح أعمى المنصور
يسترد ما اغدقه عليه المهدي أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي
سعد قال حدثنا عبد الله بن الحسن الحراني قال حدثني أبو قدامة قال حدثني المؤمل
قال قدمت على المهدي وهو بالري وهو إذ ذاك ولي عهد فامتدحته بأبيات فأمر لي بعشرين
ألف درهم فكتب بذلك صاحب البريد إلى أبي جعفر المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن
الأمير المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم فكتب إليه يعذله و يلومه و يقول له إنما
ينبغي أن تعطي لشاعر بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة آلاف درهم و كتب إلى كاتب المهدي
أن يوجه إليه بالشاعر فطلب ولم يقدر عليه وكتب إلى أبي جعفر انه قد يوجه إلى مدينة
السلام فأجلس قائدا من قوداه على جسر النهروان وأمره أن يتصفح الناس رجلا رجلا
فجعل لا يمر به قافلة إلا تصفح من فيها حتى مرت به القافلة التي فيها المؤمل
فتصفحهم فلما سأله من أنت قال أنا المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر أحد زوار الأمير
المهدي فقال إياك طلبت قال المؤمل فكاد قلبي ينصدع خوفا من أبي جعفر فقبض علي
وأسلمني إلى الربيع فأدخلني إلى أبي جعفر و قال له هذا الشاعر الذي أخذ من المهدي
عشرين آلفا قد ظفرنا به فقال أدخلوه الي فأدخلت إليه فسلمت تسليم فزع مروع فرد
السلام و قال ليس لك ها هنا إلا خير أنت المؤمل بن أميل قلت نعم اصلح الله أمير
المؤمنين أنا المؤمل بن أميل قال أتيت غلاما غرا كريما فخدعته فانخدع قلت نعم أصلح
الله الأمير أتيت غلاما غرا كريما فخدعته فانخدع قال فكأن ذلك أعجبه فقال أنشدني
ما قلت فيه فأنشدته قصيدته في المهدي هو المهديُّ إلا أن فيه ... مشابهةً من القمر
المنيرِ ) ( تشابه ذا و ذا فهما إذا ما ...
أنارا مُشكلانِ على البصيرِ ) ( فهذا
في الظلام سراجُ ليلٍ ... و هذا في النهار ضياءُ نُورٍ ) ( و
لكن فضَّل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابرِ و السَّريرِ ) ( وَبالمُلْك
العزيزِ فذا أميرُ ... و ماذا بالأمِير ولا الوزيرِ ) ( و
بعضَ الشهر ينقصُ ذا وهذا ... مُنير عند نقصانِ الشهور ) ( فيا
بن خليفة الله المصفَّى ... به تعلو مفاَخرةُ الفَخورِ ) ( لئن
فُتَّ الملوكَ و قد توافَوْا ... إليكَ مِن السهولة والوعور ) ( لقد
سبق الملوك أبوك حتى ... بقوا من بين كابِ أو حَسيرِ ) ( و
جئتَ مصلياً تجري حثِيثاً ... و ما بك حين تجري من فُتورِ ) ( فقال
الناس ما هذان إلا ... كما بينَ الخليق إلى الجديرِ ) ( لئن
سبق الكبيرُ لأهلُ سَبْقٍ ... له فضلُ الكبير على الصَّغيرِ ) ( وَ
إن بلغ الصغيرُ مَدَى كبيرٍ ... فقد خُلِق الصغيرُ من الكَبيرِ ) فقال
و الله لقد أحسنت و لكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم فأين المال قلت هو هذا قال يا
ربيع امض معه فأعطه أربعة آلاف درهم وخذ الباقي قال المؤمل فخرج معي الربيع وحط
ثقلي ووزن لي من المال أربعة آلاف درهم و أخذ الباقي فلما ولي المهدي الخلافة ولي
ابن ثوبان المظالم فكان يجلس للناس بالرصافة فأذا ملأ كساءه رقاعا رفعها إلى
المهدي فرفعت إليه رقعة فلما دخل بها ابن ثوبان جعل المهدي ينظر في الرقاع حتى إذا
وصل إلى رقعتي ضحك فقال له ابن ثوبان أصلح الله أمير المؤمنين ما رأيتك ضحكت من
شيء من هذه الرقاع إلا الرقعة فقال هذه رقعة أعرف سببها ردوا إليه عشرين ألف درهم
فردوها إلي و انصرفت مبايعته لموسى و هارون أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا
عبد الله بن سعد بن أبي سعد قال حدثني الحكم بن موسى السلولي قال حدثني سعد بن أخي
العوفي قال قدم على المهدي في بيعة ابن ابنيه موسى وهارون المؤمل بن أميل المحاربي
و الحسين بن يزيد بن أبي الحكم السلولي و قد أوفدهما هاشم بن سعد الحميري من الكوفة
فقدما على المهدي في عسكره فأنشده المؤمل ( هاَك
بِياعَنا يا خير و الٍ ... فقد جُدْنا به لكَ طائعينا ) ( فإن
تفعلْ فأنت لذاك أهلٌ ... ففضلك يا بنَ خير الناس فينا ) ( وعَدلك
يا بن وارث خَيرِ خَلْق ... نبيَّ الله خَيْر المرسلينا ) ( فإن
أبا أبيكَ وأنتَ منه ... هو العبَّاسُ وارثُه يقينا ) ( أبان
به الكتابُ وذاك حقٌ ... ولسنا للكتابِ مُكذِّبينا ) ( بكم
فُتِحتْ وأنتم غير شك ... لها بالعَدل أكرمُ خاتمينا ) ( فدونَكَها
فأنتَ لها محلٌ ... حَبَاك بها إلهُ العالمينا ) ( ولو
قِيدَتْ لغَيرِكُم اشمأَزَّت ... وأَعْيَتْ أن تُطيعَ القائدينا ) فأمر
لهما بثلاثين ألف درهم فجيء بالمال فألقي بينهما فأخذ كل واحد منهما بدرة وصدع
الأخرى بينهما فأخذ هذا نصفا وهذا نصفا أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن
إسحاق عن أبيه عن عبد الله بن أمين عن أبي محمد اليزيدي عن المؤمل بن أميل قال صرت
إلى المهدي بجرجان فمدحته بقولي ( تعزَّ
ودعْ عنك سَلمَى وسِرْ ... حثيثاً على سائراتِ البِغالِ ) ( وكل
جوادٍ له مَيْعَةٌ ... يَخُبُّ بسرحِكَ بعدَ الكلاَلِ ) ( إلى
الشمسِ شمس بني هاشمٍ ... وما الشمسُ كالبَدْر أو كالهلالِ ) ( و
يُضحكه أن يدومَ السؤالُ ... و يُتلف في ضحكه كلَّ مالِ ) فاستحسنها
المهدي وأمر لي بعشرة آلاف ردهم و شاع الشعر و كان في عسكره رجل يعرف بأبي الهوسات
يغني فغنى في الشعر لرفقائه و بلغ ذلك المهدي فبعث إليه سرا فدخل عليه فغناه فأمر
له بخمسة آلاف درهم و أمر لي بعشرة آلاف درهم أخرى و كتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور
ثم ذكر باقي الخبر على ما تقدم قبله و زاد فيه أن المنصور قال له جئت إلى غلام حدث
فخدعته حتى أعطاك من مال الله عشرين ألف درهم لشعر قلته فيه غير جيد و أعطاك من
رقيق المسلمين ما لا يملكه و أعطاك من الكراع و الأثاث ما أسرف فيه يا ربيع خذ منه
ثمانية عشر ألف درهم و أعطه ألفين و لاتعرض لشيء من الأثاث و الدواب و الرقيق ففي
ذلك غناؤه فأخذت مني بخواتهما ووضعت في الخزائن فلما ولي المهدي دخلت إليه في المتظلمين
فلما رآني ضحك و قال مظلمة أعرفها ولا احتاج إلى بينة عليها و جعل يضحك و أمر
بالمال فرد إلي بعينه وزاد فيه عشرة آلاف كان شيخا مصفرا أعمى أخبرني الحسن بن علي
الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني حذيفة بن محمد الطائي قال
حدثني أبي قال رأيت المؤمِّل شيخاً مُصفَرّاً نحيفاً أعمى فقلت له لقد صدقت في
قولك ( وقد زعموا لي أنها نذرت دَمي ... و
مالي بحَمدِ الله لحمُ وَ لا دمُ ) فقال
نعم فديتك و ما كنت أقول إلا حقا قال محمد بن القاسم و حدثني عبد الله بن طاهر أن
أول هذا الشعر ( حلمتُ
بكم في نَوْمتي فغضبتُمُ ... ولا ذنب لي أن كنتُ في النوم أحلُمُ ) ( سأطردُ
عني النومَ كيلا أراكمُ ... إذا ما أتاني النَّومُ و الناس نُوَّم ) ( تُصَارِمُنِي
و الله يعلم أنَّني ... أبرُّبها من والديْهَا وأرحَمُ ) صوت
( و قد زعموا لي إنها نذرت دمي ... وما لي بحمدِ الله لحمٌ ولا دمُ ) ( برى
حبُّها لحمي ولم يُبق لي دَما ... وإن زعموا أني صحيح مسلَّم ) ( فلم
أر مثلَ الحُب صحَّ سَقيمهُ ... ولا مثل من لا يعرف الحبَّ يسقُمُ ) ( ستقتُلُ
جِلداً بالياً فوقَ أعظُمٍ ... وليس يُبالي القتلَ جلدٌ وأعظُمُ ) في
هذه الأبيات التي أولها ( وقَد
زعموا لي إنها نذرت دمي ... ) لنبيه
لحم من خفيف الثقيل المطلق في مجرى الوسطى عن ابن المكي أخبرني الحسن بن علي قال
حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن احمد بن علي قال لما قال المؤمل ( شفَّ
المؤمّل يوم الحيرة النظرُ ... ليت المؤمَل لم يخلقْ له بَصَرُ ) عمي
وأري في منامه هذا ما تمنيت أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال
حدثني علي بن الحسن الشيباني قال را ى المؤمل في منامه قائلا يقول أنت المتألي على
الله إلا يعذب المحبين حيث تقول ( يَكفي
المحبِّينَ في الدنيا عذابُهمُ ... وَ الله لا عذَّبَتْهم بعدها سَقَرُ ) فقال
له نعم فقال كذبت يا عدو الله ثم ادخل إصبعيه في عينيه و قال له أنت القائل ( شف
المؤمِّل يوم الحيرة النظرُ ... ليت المؤمّل لم يُخلق له بصرُ ) هذا
ما تمنيت فانتبه فزعا فإذا هو قد عمي اخبرني الحسن بن علي قال حدثنا احمد بن زهير
قال حدثنا مصعب الزبيري قال انشد المهدي قول المؤمل ( قتلتِ
شاعرَ هذا الحيِّ من مضرٍ ... وَ اللهُ يعلم ما ترضى بذا مُضَرُ ) فضحك
و قال لو علمنا إنها فعلت ما رضينا ولغضبنا له وأنكرنا صوت ( بكيتُ
حذارَ البين علماً بما الذي ... إليه فؤادي عند ذلك صائرُ ) ( وَ
قال أُناس لو صبرتَ وإنني ... على كل مكروه سوى البين صابرُ ) الشعر
لأبي مالك الأعرج و الغناء لإبراهيم الموصلي خفيف ثقيل بالوسطى من جامع صنعته
ورواية الهشامي قال الهشامي وفيه ليزيد حوراء ثاني ثقيل ولسليم ثقيل أول أخبار أبي
مالك ونسبه أبو مالك النضر بن أبي النضر التميمي هذا اكثر ما وجدته من نسبه وكان
مولده ومنشؤه بالبادية ثم وفد إلى الرشيد و مدحه وخدمه فأحمد مذهبه ولحظته عناية
من الفضل بن يحيى فبلغ ما أحب وهو صالح الشعر متوسط المذهب ليس من طبقة شعراء عصره
المجيدين ولا من المرذولين رثاؤه لأبيه أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال
حدثنا احمد بن الهيثم بن فراس قال كان أبو مالك النضر بن أبي النضر التميمي مع
الرشيد وكان أبوه مقيما بالبادية فأصاب قوم من عشيرته الطريق وقطعوه عن بعض
القوافل فخرج عامل ديار مضر و كان يقال له جيال إلى ناحية كانت فيها طوائف من بني
تميم فقصدهم وهم غارون فأخذ منهم جماعة فيهم أبو النضر أبو أبي مالك الأعرج و كان
ذا مال فطلبه فيمن طلب من الجناة وطمع في ماله فضربه ضربا أتى فيه على نفسه و بلغ
ذلك أبا مالك فقال يرثيه ( فيمَ
يُلحَى على بكائي العذولَّ ... والذي نابني فَظيعٌ جليلُ ) ( عدّ
هذا الملام عني إلى غيري ... فقلبي بَبثِّه مشغولُ ) ( راعني
والدِي جَنتْ كَفُّ جيّالٍ ... عليه فراح وهو قتيلُ ) ( أيها
الفاجِعي برُكني وعزِّي ... هبلتني إن أرعُك الهُبولُ ) ( سُمْتَنِي
خُطَّةَ الصَّغار وأَظلمْتَ ... نَهاري عليَّ غالتْك غولْ ) ( ما
عداني الجفاءُ عنكَ ولكنْ ... لم يُدلني من الزمان مُديلُ ) ( زال
عنا السرورُ إذ زُلتَ عنا ... وازدهانا بكاؤنا والعويلُ ) ( ورأينا
القريبَ منا بعيداً ... وجفانا صديقُنا والخليلُ ) ( ورمانا
العدوُّ من كلِّ وجه ... وتجنَّى على العزيز الذليلُ ) ( يا
أبا النضر سوفَ أبكيك ما عشتُ ... سويّاً وذاك مني قليلُ ) ( حملت
نعشَك الملائكةُ الأبرار ... ُ إذ مالَنا إليك سبيلُ ) ( غير
أني كذبتُك الودَّ لم تقْطُر ... جفوني دما وأنت قَتيلُ ) ( رضِيتْ
مقلتي بإرسال دَمعي ... وعلى مثلك النفوسُ تَسِيلُ ) ( أسِواكَ
الذي أجودُ عليه ... بدمي إنني إذاً لبخيلُ ) ( عثر
الدهرُ فيك عثرةَ سَوْءِ ... لم يُقِل مثلَها المعينُ المقيلُ ) ( قل
إن ضنَّ بالحياة فإني ... بعده للحياة قَالِ مَلولُ ) ( إنّ
بالسفح من ضباعةَ قومي ... ليسَ منهم وهم أَدانِ وَصولُ ) ( لا
يزورون جارَهم من قريبِ ... وهمُ في التراب صَرعى حلولُ ) ( حفرة
حَشْوُها وفاءٌ وحِلمٌ ... وندى فاضل ولب أصيل ) ( وعفاف
عما يشين وحلم ... راجحُ الوزن بالرواسي يَميلُ ) ( ويمين
بنانُها غيرُ جَعد ... وجبينٌ صَلت وخدٌّ أَسيلُ ) ( وامرؤ
أِشرقتْ صُفَيحةُ خدَّيهِ ... عليه بشاشةٌ وقَبولُ ) صوت
( لئن مصرُ فاتتْني بما كنتُ أَرتجي ... وأَخلفني فيها الذي كنتُ آملُ ) ( فما
كل ما يخشى الفتى بمُصيبِه ... ولا كلُّ ما يرجو الفَتَى هو نائلُ ) الشعر
لأبي دهمان والغناء لابن جامع ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي انتهت أخبار مالك ونسبه
أخبار أبي دهمان أبو دهمان الغلابي شاعر من شعراء البصرة ممن أدرك دولتي بني أمية
وبني العباس ومدح المهدي وكان طيباً ظريفاً مليح النادرة وهو القائل لما ضرب
المهدي أبا العتاهية بسبب عشقه عتبة ( لولا
الذي أحدثَ الخليفةُ في العُشاق ... من ضربهم إذا عَشِقُوا ) ( لبُحْتُ
باسم الذي أُحِبُّ ولكنِّي ... امرؤ قد ثَنانيَ الفَرَقُ ) حدثني
بذلك الصولي عن محمد بن موسى عن محمد بن أبي العتاهية وأخبرني جحظة عن حماد بن
إسحاق عن أبيه قال قال رجل لأبي دهمان ألا أحدثك بظريفة قال بلى قال كنا عند فلان
فمد رجله هكذا فضرط ومد المحدث رجله يحكيه فضرط فقال له أبو دهمان يا هذا أنت أحذق
خلق الله بحكاية كان أميراً على نيسابور نسختُ من كتاب بخط ميمون بن هارون بلغني
أن أبا دهمان مر وهو أمير بنيسابور على رجل جالس ومعه صديق له يسايره فقام الناس
إليه ودعوا له إلا ذلك الرجل فقال أبو دهمان لصديقه وهو يسايره أما ترى ذلك الرجل
في النظارة وترى تيهه علي فقال له وكيف يتيه عليك وأنت الأمير قال لأنه قد ناكني
وأنا غلام وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال مرض أبو
دهمان مرضا أشفى منه على الموت فأوصى وأملى وصيته على كاتبه وأوصى فيها بعتق غلام
كان له واقفاً فلما فرغ غدا الغلام بالرقعة فأتربها ونظر إليه أبو دهمان فقال له
نعم أتربها يا بن الزانية عسى أن يكون أنجح للحاجة لا شفاني الله إن أنجحت وأمر به
فأخرج لوقته فبيع صوت ( يكُرُّكما كرّ الكُليبيّ مُهرَه ... وما كرَّ إلا خيفةً أن
يُعيَّرا ) ( فلا صُلح حتى تزحفَ الخيلُ والقنا
... بنا وبكم اوْ يَصْدُرَ الأمر مَصْدَرا ) الشعر
لأبي حزابة التميمي والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر وهذا الشعر يرثي به أبو
حزابة رجلاً من بني كليب بن يربوع يقال له ناشرة اليربوعي قتل بسجستان في فتنة ابن
الزبير وكان سيداً شجاعاً رثاؤه لناشرة اليربوعي أنشدنيه جعفر بن قدامة قال أنشدني
أبو هفان وأحمد بن أبي طاهر قالا أنشدنا عبد الله بن احمد العدوي لأبي حزابة يرثي
ناشرة اليربوعي وقتل بسجستان في فتنة ابن الزبير قال ( لعَمري
لقد هدَّتْ قريش عروشَنا ... بأبيضَ نفَّاح العَشِيَّات أزهرا ) ( وكان
حَصاداً للمنايا زَرعْنَهُ ... فهلاَّ تركنَ النَّبتَ ما كان أَخضرا ) ( لحا
اللُّه قوماً أسلموكَ وجرّدوا ... عناجِيج أعطتْها يمينُك ضُمَّرا ) ( أما
كان فيهمْ ماجدٌ ذو حفيظةٍ ... يرى الموت في بعض المواطنِ أَفخرا ) ( يكرّ
كما كَرَّ الكُليبيّ مُهره ... وما كرَّ إلا خشية أن يُعَيَّرا ) يريد
ما كان في هؤلاء القوم من يكر كما كر ناشرة الكليبي مهره أخبار أبي حزابة ونسبه
أبو حزابة اسمه الوليد بن حنيفة أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ين
تميم شاعر من شعراء الدولة الأموية بدوي حضر وسكن البصرة ثم اكتتب في الديوان و
ضرب عليه البعث إلى سجستان فكان بها مدة وعاد إلى البصرة وخرج مع ابن الأشعث لما
خرج على عبد الملك و أظنه قتل معه وكان شاعرا راجزا فصيحا خبيث اللسان هجاء أبطىء
عليه بالجائزة فأنشد فأخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك
الزيات قال حدثنا محمد الهيثم الشامي قال حدثني عمي أبو فراس عن العذري قال دخل
أبو حزابة على طلحة الطلحات الخزاعي وقد استعمله يزيد بن معاوية على سجستان و كان
أبو حزابة قد مدحه فأبطأت عليه الجائزة من جهته ورأى ما يعطى غيره من الجوائز
فأنشده ( وأدليتُ دَلوِي في دِلاء كثيرةٍ
... فجئن مِلاءً غير دَلوي كما هِيا ) ( وأهلكني
ألا تزالَ رَغيبةٌ ... تُقصَّر دوني أو تحُلُّ وَرائيا ) ( أرَاني
إذا استمطرتُ منكَ سحابةً ... لِتمُطِرني عادتْ عَجاجاً وسافيا ) قال
فرماه طلحة بحق فيه درة فأصاب صدره ووقعت في حجره و يقال بل أعطاه أربعة أحجار و
قال له لا تخدع عنها فباعها بأربعين آلفا ومات طلحة بسجستان ثم ولي من بعده رجل من
بني عبد شمس يقال له عبد الله بن علي بن عدي و كان شحيحا فقال له أبو حزابة ( يا
بنَ عليٍّ بَرَحَ الخفاءُ ... قد علِم الجيرانُ والاكفاءُ ) ( انك
أنت النزلُ واللّفاء ... أنت لِعَيْنِ طَلْحَةَ الفِداءُ ) ( بنو
عَديٍ كلهم سواءُ ... كأنهم زينيّةٌ جِراء ) قصيدة
يرثي فيها طلحة ويذم عبد الله بن علي قال ثم وليها بعد عبد الله بن علي عبد العزيز
بن عبد الله بن عامر بن كريز أيام الفتنة فاستأذنه أبو حزابة أن يأتي البصرة فأذن
له فقدمها وكان الناس يحضرون المربد ويتناشدون الاشعار ويتحادثون ساعة من النهار
فشهدهم أبو حزابة وأنشدهم مرثية له في طلحة الطلحات يضمنها ذما لعبد الله بن علي
وهي قوله ( هيهاتَ هيهاتَ الجنابُ الأخضر ...
والنائلُ الغمرُ الذي لا يُنْزَرْ ) ( وَارَاهُ
عنا الجَدثُ المغوَّرُ ... قد علم غداة استعبَرُوا ) ( والقَبْرُ
بين الطلحاتِ يُحّفر ... أنْ لَنْ يروا مثلكَ حتى يُنشروا ) ( أنا
أتانا جرزٌ محمّرُ ... أنَكَرة سَرِيرُنا و المِنْبَرُ ) ( و
المسْجد المُحْتَضر المُطَهَّر ... وخلفٌ يا طلح منك أعوَرْ ) ( بليَّة
يا ربَّنا لا نَسخَر ... أقلُّ من شبرين حِينَ يُشبَر ) ( مثل
أبي القعواء لا بل أقْصر ... ) يهجو
عون بن سلامة قال وأبو القعواء حاجب لطلحة كان قصيرا فقال عون بن عبد الرحمن بن
سلامة وسلامة أمه وهو رجل من بني تميم بن مرة قيس بئسما قلت أتشاهر الناس بشتم
قريش فقال له إني لم اعم إنما سميت رجلا واحدا فأغلظ له عون حتى انصرف عن ذلك
الموضع ثم أمر عون ابن أخ له فدعا أبا حزابة فأطعمه وسقاه و خلط في شرابه شبرما
فسلحه فخرج أبو حزابة وقد أخذه بطنه فسلح على بابهم وفي طريقه حتى بلغ أهله ومرض
أشهرا ثم عوفي فركب فرسا له ثم أتى المربد فإذا عون بن سلامة واقف فصاح به فوقف
ولو لم يقف كان أخف لهجائه فقال له أبو حزابة ( يا
عون قفْ واستمع الملامَهْ ... لا سلَّم اللهُ على سلامهْ ) ( زنجية
تحسبُها نَعامهْ ... شكّاء شان جسمَها دَمامه ) ( ذاتِ
حِرٍ كريشتَي حمامهْ ... بينهما بَظْرٌ كرأس الهامهْ ) ( أعلمتُها
وعالِمِ العَلاَمهْ ... لو أن تحت بَظرها صِمامهْ ) ( لدفعتْ
قُدُماً بها أمامه ... ) فكان
الناس يصيحون به ( أعلمتها
وعالم العلامة ... ) أخبرني
عمي قال حدثنا احمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني عمي أبو فراس عن الهيثم بن عدي
قال كان عبد الله بن خلف أبو طلحة الطلحات مع عائشة يوم الجمل و قتل معها يومئذ وعلى
بني خلف نزلت عائشة بالبصرة في القصر المعروف بقصر بني خلف وكان هوى طلحة الطلحات
أمويا وكانت بنو أمية مكرمين له فأنشد أبو حزابة يوما طلحة ( يا
طلحَ بأبي مجدُك الأخلافا ... والبخلَ لا يُعترفُ اعترافا ) ( إن
لنا أحمرةُ عِجَافا ... يأكُلْن كلَّ ليلة إكافا ) رفض
الوقوف بباب يزيد بن معاوية فأمر له طلحة بإبل ودراهم و قال له هذه مكان أحمرتك أخبرني
عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري عن لقيط قال قيل لأبي حزابة لو أتيت يزيد
بن معاوية لفرض لك وشرفك وألحقك بعلية أصحابه فلست دونهم وكان أبو حزابة يومئذ
غلاما حدثا وكان معاوية حيا ويزيد أميرا يومئذ فلما أكثر قومه عليه في ذلك وفي
قولهم إنك ستشرف بمصيرك إليه قال ( يُشرّفني
سيفي وقلبٌ مُجانبٌ ... لكل لئيم باخلٍ ومعلهَج ) ( وَكرَي
على الأبطال طِرءفاً كأنه ... ظليمٌ وضربي فوق رأسِ المدَجَّج ) ( وقَولِي
إذا ما النفسُ جاشتْ وأجهشت ... مخافة يومٍ شَرُّه متأجِّجِ ) ( عليكِ
غمارَ الموت يا نفسُ إنني ... جريء على درء الشجاع المُهَجْهَج ) فلما
أكثر عليه قومه وعنفوه في تأخره أتى يزيد بن معاوية فأقام ببابه شهرا لا يصل إليه
فرجع و قال والله لا يراني ما حملت عيناي الماء إلا أسيرا أو قتيلا وأنشأ يقول ( فو
الله لا آتي يزيدَ ولو حوتْ ... أناملُه ما بين شرقٍ إلى غربِ ) ( لأنَّ
يزيداً غيَّر الله ما بِه ... جَنوحٌ إلى السُّوءى مصر على الذنب ) ( فقل
لبني حرب تقوا الله وحده ... ولا تسعدوه في البطالة واللعبِ ) ( ولا
تأمنوا التغييرَ أن دام فعلُه ... ولم ينهَه عن ذاك شيخُ بَني حربِ ) ( أيشربُها
صِرفاً إذا الليل جنَّه ... معّتقةً كالمسكِ تختالُ في العُلبِ ) ( و
يَلْحَى عليها شاربيها وقلبُه ... يهيمُ بها أن غاب يوماً عن الشِّربِ ) خبر
رهن سرجه أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة عن المدائني قال لما
خرج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج وكان معه أبو حزابة فمروا بدستبى
وبها مستراد الصناجة وكانت لا يبيت بها أحد إلا بمائة درهم فبات بها أبو حزابة
ورهن عندها سرجه فلما أصبح وقف لعبد الرحمن فلما أقبل صاح به وقال ( أمرُ
عضال نابني في العَجِّ ... كأنني مطالَبٌ بخَرجِ ) ( ومسترادٌ
ذهبتْ بالسَّرْج ... في فتنة الناسِ وهذا الهرْجِ ) فعرف
ابن الأشعث القصة وضحك وأمر بان يفتك له سرجه ويعطى معه ألف درهم وبلغت القصة
الحجاج فقال أيجاهر في عسكره بالفجور فيضحك ولا ينكر ظفرت به أن شاء الله هجوه عبد
الله بن علي أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن العتبي قال مدح أبو حزابة
عبد الله بن علي العبشمي وهو على سجستان فلم يثبه فقال يهجوه ( هَبَّتْ
تُعاتبني أُما ... مةٌ في السماحة والفِضَال ) ( وأبيتُ
عند عِتابها ... إلا خلائقَ ذي النَّوال ) ( أُعطِي
أخي وأَحُوطُه ... جُهدي وأبذُل جُلَّ مالي ) ( وأَقِيه
عند تشاجر الأبطال ... بالأسَلِ النِّهال ) ( حِفْظاً
له ورعايةً ... للخالياتِ من الليالي ) ( إذ
نحنُ نشربُ قَهوة ... دِرياقة كدِم الغَزالِ ) ( حمراءَ
يُذهِبُ رِيحُها ... ما في الرؤوس من الخَبال ) ( وإذا
تشعشع في الإناءِ ... رمتْ أخاها باغتيالِ ) ( وعلا
الحَبابُ فخلته ... عَقْداً يُنظَّم من لآلي ) ( تشفِي
السقيمَ بريحها ... وَ تُميتُه قبل الإجال ) ( تلك
التي تركتْ فؤاد ... أبي حُزابةَ في ضَلالِ ) ( لا
يستفيق ولا يُفيق ... نزِيفها في كَلّ حال ) ( وإذا
الكماةُ تنازلوا ... ومشى الرجالُ إلى الرجالِ ) ( وبدت
كتائبُ تمَترِي ... مُهجَ الكَتائبِ بالعوالي ) ( فأبو
حُزابةَ عند ذاك ... أخو الكريهة والنِّزالِ ) ( يمشي
الهوينى مُعلِماً ... بالسيف مشياً غير آلِ ) ( كالليث
يترك قِرنَه ... مُتجدِّلاً بين الرِّمالِ ) ( إني
نذيرُ بني تميم ... من أخي قيلِ وقال ) ( من
لا يجود ولا يسود ... ولا يُجير من الهُزال ) ( وتراه
حين يجيئُه السؤَّال ... يُولَع بالسُّعالِ ) ( متشاغلاً
متنحنِحاً ... كالكلب جَمجم للعِظال ) ( فارفضْ
قريشاً كُلَّها ... من أجل ذي الداء العُضَال ) يعني
عبد الله بن علي العبشمي أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد
الملك قال حدثني محمد بن الهيثم الشامي قال حدثني عمي أبو فراس عن العذري قال دخل
أبو حزابة على عمارة بن تميم و محمد بن الحجاج وقد قدما سجستان لحرب عبد الرحمن بن
محمد بن الأشعث وكان عبد الرحمن لما قدماها هرب ولم يبق بسجستان من أصحابه إلا
سبعمائة رجل من بني تميم كانوا مقيمين بها فقال لهما أبو حزابة إن الرجل قد هرب
منكما ولم يبق من أصحابه أحد وإنما بسجستان من كان بها من بني تميم قبل قدومه
فقالا له ما لهم عندنا أمان لأنهم قد كانوا مع ابن الأشعث وخلعوا الطاعة فقال ما خلعوها
ولكنه ورد عليهم في جمع عظيم لم يكن لهم بدفعه طاقة فلم يجيباه إلى ما أراد وعاد
إلى قومه وحاصرهم أهل الشام فاستقتلت بنو تميم فكانوا يخرجون في كل يوم إليهم
فيواقعونهم ويكسبونهم بالليل وينهبون أطرافهم حتى ضجروا بذلك فلما رأى عمارة فعلهم
صالحهم وخرجوا إليه فلما رأى قلتهم قال أما كنتم إلا ما أرى قالوا نعم فان شئت أن
نقيلك الصلح أقلناك وعدنا للحرب فقال أنا غني عن ذلك وآمنهم فقال أبو حزابة في ذلك
مدحه لبني تميم ( لله عينَا من رأى من فوارس ... أكرَّ على المكروه منهم وأصبرا ) ( وَأكرمَ
لو لاقَوْا سواداً مُقاربا ... ولكن لقُوا طَمّاً من البحر أخضرا ) ( فما
برحوا حتى أعضُّوا سيوفَهم ... ذُرَى الهام منهم والحديدَ المُسمَّرا ) ( وحتى
حسبناهم فوارسَ كهْمَسٍ ... حيوا بعد ما ماتوا من الدّهر أعصرا ) صوت
( إذا اللهُ لم يسق إلا الكرامَ ... فَسقَّى وُجوه بَني حَنبل ) ( وسقَّى
ديارَهُم باكراً ... من الغيث في الزمن المُمْحِل ) ( تُكفكفه
بالعَشِيّ الجنوبُ ... وتُفْرِغُهُ هزة الشَّمألِ ) كأن
الرَّبابَ دويْنَ السحابِ ... نَعامٌ تعلَّقُ بالأرجل ) الشعر
لزهير السكب التميمي المازني والغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي وحبش نسب
زهير السكب وأخباره هو زهير بن عروة بن جلهمة بن حجر بن خزاعي شاعر جاهلي وإنما
لقب السكب ببيت قاله وقال فيه ( بَرقٌ
يُضيء خلالَ البيتِ أُسْكوب ... ) شعره
في الرغبة بالعودة إلى عشيرته أخبرني يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال حدثنا أبو
هفان عن سعيد بن هريم عن أبيه قال كان زهير بن عروة المازني الملقب بالسكب جاهليا
وكان من أشراف بني مازن وأشدائهم وفرسانهم وشعرائهم فغاضب قومه في شيء ذمه منهم
وفارقهم إلى غيرهم من بني تميم فلحقه فيهم ضيم و أراد الرجوع إلى عشيرته فأبت نفسه
ذلك عليه فقال يتشوق ناسا منهم كانوا بني عمه دينه يقال لهم بنو حنبل ( إذا
لله لم يَسْقِ إلا الكرامَ ... فسقَّى وجوهَ بني حَنْبلِ ) ( مُلِثّاً
أحمَّ دواني السّحاب ... هَزيم الصلاصل والأزملِ ) ( تكركره
خضخضاتُ الجنوب ... وتفرغه هِزة الشَّمأل ) ( كأن
الربابَ دُوينَ السحابِ ... نَعام تعلَّق بالأرجُلِ ) ( فنعم
بَنو العم والأقربون ... لدى حُطمَةِ الزمن المُمْحلِ ) ( ونعم
المواسونَ في النائبات ... للجار والمعتفي المُرْمِلِ ) ( ونعم
الحماةُ الكفاةُ العظيمَ ... إذا غائِظُ الأمر لم يُحلَلِ ) ( ميامينُ
صُبْرٌ لدىَ المعضلاتِ ... على مُوجع الحدّثِ المعضِلِ ) ( مباذيلُ
عفواً جزيلَ العطاء ... إذا فَضلةُ الزاد لم تُبذَل ) ( هم
سبقوا يوم جَرْي الكرامِ ... ذَوي السبق في الزمن الاوّل ) ( وسامَوْا
إلى المجد أهلَ الفَعال ... فطالوا بفعلهم الأطوَل ) أخبرنا
هاشم بنُ محمد الخزاعي قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال سأل رجل
أبا عمرو بن العلاء عن الرباب فقال أما تراه معلقاً بالسحاب كالذيل له أما سمعت
قول صاحبنا السكب ( كأن
الرَّبابَ دُوَيْنَ السحاب ... نَعامٌ تعلَّق بالأرجل ) صوت
( سلا عن تذكُّره تُكِتَما ... وكان رَهِينا بها مُغرَما ) ( وأقصرَ
عنها وآثارُها ... تُذكِّره داءها الأقدما ) الشعر
للنمر بن تولب والغناء لخزرج خفيف ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي أخبار النمر بن
تولب ونسبه هو النمر بن تولب بن أقيش بن عبد كعب بن عوف بن الحارث بن عوف بن وائل
بن قيس بن عكل واسم عكل عوف بن عبد مناف بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار شاعر
مقل مخضرم أدرك الجاهلية وأسلم فحسن إسلامه ووفد إلى النبي وكتب له كتاباً فكان في
أيدي أهله وروى عنه حديثاً سأذكره في موضعه وكان النمرُ أحد أجواد العرب المذكورين
وفرسانهم سمي بالكيس لجودة شعره حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرنا محمد بن حبيب
قال قال الأصمعي كان أبو عمرو بن العلاء يسمي النمر بن تولب الكيس لجودة شعره
وحسنه أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن محمد قال أخبرنا محمد
بن سلام الجمحي وأخبرنا به أبو خليفة في كتابه إلي عن محمد بن سلام قال كان النمر
بن تولب جواداً لا يليق شيئاً وكان شاعرا فصيحا جريئاً على المنطق وكان أبو عمرو
بن العلاء يسميه الكيس لحسن شعره أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال أخبرنا
الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا قرة بن خالد عن يزيد بن عبد الله بن الشخير
أخي مطرف وأخبرني أبو خليفة في كتابه إلي قال حدثنا محمد بن سلام قال وفد النمر بن
تولب على النبي وكتب له كتاباً أخبرناه قرة بن خالد السدوسي وسعيد بن إياس الجريري
عن أبي العلاء يزيد بن عبد الله بن الشخير أخي مطرف حظي بكتاب من رسول الله ) وأخبرني
عمي عن القاسم عن محمد الأنباري عن أحمد بن عبيد عن الأصمعي عن قرة بن خالد عن
يزيد بن عبد الله أخي مطرف واللفظ قريب بعضه من بعض قال بينما نحن بهذا المربد
جلوس يعني مربد البصرة إذ أتى علينا أعرابي أشعث الرأس فوقف علينا فقلنا والله
لكأن هذا الرجل ليس من أهل هذا البلد قال أجل وإذا معه قطعة من جراب أو أديم فقال
هذا كتاب كتبه لي رسول الله فقرأناه فإذا فيه مكتوب بسم الله الرحمن الرحيم هذا
كتاب من محمد رسول الله لبني زهير هكذا قال أحمد بن عبيد وقال الباقون لبني زهير
بن أقيش حي من عكل إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وأقمتم الصلاة
وآتيتم الزكاة وفارقتم المشركين وأعطيتم الخمس من الغنائم وسهم النبي والصفي فأنتم
آمنون بأمان الله وأمان رسوله وقال أحمد بن عبيد الله في خبرة خاصه لكم ما
للمسلمين وعليكم ما عليهم وقالوا جميعاً في الخبر فقال له القوم حدثنا رحمك الله
ما سمعت من رسول الله فقال سمعت رسول الله يقول ( صوم شهر الصبر وصوم ثلاثة أيام
من كل شهر يذهبن كثيراً من وحر الصدر ) فقال
له القوم أأنت سمعت هذا من رسول الله فقال أراكم تخافون أن أكذب على رسول الله لا
حدثتكم حديثاً ثم أهوى إلى الصحيفة وانصاع مدبرا قال يزيد بن عبد الله فقيل لي بعد
ما مضى هذا النمر بن تولب العكلي الشاعر كان مثالاً للكرم أخبرني محمد بن خلف قال
حدثنا عبد الله بن محمد بن خلف قال اخبرنا محمد بن سلام قال خرج النمر بن تولب
بعدما كبر في إبله فسأله سائل فأعطاه فحل إبله فلما رجعت الإبل إذا فحلها ليس فيها
فهتفت به امرأته وعذلته وقالت فهلا غير فحل إبلك فقال له ( دَعِيني
وأمري سأكفيِكهِ ... وكُوني قعيدةَ بيت ضُباعا ) ( فإنك
لن تَرْشُدي غاويا ... ولن تدركي لك حظَّاً مُضاعا ) وقال
أيضا في عذلها إياه ( بَكَرتْ
باللّوم تَلحانَا ... في بعير ضلَّ أو حَانَا ) ( عَلِقَتْ
لوّاً تُكرّرها ... إنّ لوا ذاكَ أعيانَا ) قال
وأدرك الإسلام فأسلم شعره بعد أن خدعته زوجه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد
بن زهير قال حدثنا محمد بن سلام قال كان للنمر بن تولب أخ يقال له الحارث بن تولب
وكان سيدا معظما فأغار الحارث على بني أسد فسبى امرأة منهم يقال لها جمرة بنت نوفل
فوهبها لأخيه النمر بن تولب ففركته فحبسها حتى استقرت وولدت له أولادا ثم قالت له
في بعض أيامها أزرني أهلي فإني قد اشتقت إليهم فقال لها أني أخاف أن صرت إلى اهلك
أن تغلبيني على نفسك فواثقته لترجعن إليه فخرج بها في الشهر الحرام حتى أقدمها
بلاد بني أسد فلما أطل على الحي تركته واقفا وانصرفت إلى منزل بعلها الأول فمكثت
طويلا فلم ترجع إليه فعرف ما صنعت وأنها اختدعته فانصرف و قال ( جزى
الله عنا جَمرةَ ابنة نوفَلٍ ... جزاء مُغِلٍّ بالأمانة كاذبِ ) ( لهان
عليها أمسِ موقف راكب ... إلى جانب السَّرْحات أخيبِ خَائبِ ) ( وقد
سألتْ عني الوشاة ليَكذبوا ... عليَّ وقد أبليتها في النوائب ) ( وصدَّت
كأنَّ الشمسَ تحتَ قِناعها ... بدا حاجبٌ منها وضنَّتْ بحاجب ) و
قال فيها أيضا ( كل
خليل عليه الرعاث ... ُ والحُبَلاتُ كَذوب مَلِقْ ) الحبلات
واحداتها حبلة وهي جنس من الحلي قدر ثمر الطلح ( وقامتْ
إليَّ فأحلفتُها ... بهدَيٍ قلائده تختفق ) ( بأَن
لا أخونَكَ فيما علمت ... فإن الخيانَةَ شرُّ الخُلقْ ) و
قال فيها أشعارا كثيرة يطول ذكرها أخبرني اليزيدي عن محمد بن حبيب قال كان أبو
عمرو يشبه شعر النمر بشعر حاتم الطائي صالح بن حسان يعتبره أفتى الشعراء أخبرني
الحسين بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال بلغني
أن صالح بن حسان قال يوما لجلسائه أي الشعراء أفتى قالوا عمر بن أبي ربيعة وقالوا
جميل وأكثروا القول فقال أفتاهم النمر بن تولب حين يقول ( أهيمُ
بدَعد ما حييتُ وإن أمُتْ ... فواحزنَا مَنْ ذا يَهيمُ بها بَعدي ) أخبرني
الحسن قال حدثنا أحمد بن زهير عن محمد بن سلام قال حج النمر بن تولب بعد هرب جمرة
منه فنزل بمنى ونزلت جمرة مع زوجها قريبا منه فعرفته فبعثت إليه بالسلام وسألته عن
خبره ووصته خيرا بولده منها فقال ( فحُيِّيتِ
عن شَحطٍ بخيرِ حَديثنا ... ولا يأمنُ الأيامَ إلا المُضَلَّلُ ) ( يودُّ
الفتى طولَ السلامة والغنِى ... فكيف يرى طولَ السَّلامة يفعلُ ) أخبرني
ابن المرزبان قال حدثنا أبو محمد اليزيدي عن الأصمعي وأخبرنا اليزيدي عن ابن حبيب
عن الأصمعي قال لما وفد النمر بن تولب على النبي أنشده ( يا
قوم إني رجل عندي خَبرْ ... لله من آياته هذا القَمَرْ ) ( والشمسُ
والشعرى آياتٌ أُخَرْ ... من يتسامَ بالهدى فالخبثُ شَرّ ) ( إنا
أتيناك وقد طال السفَرْ ... نَقودُ خَيلا رُجُعا فيها ضَرَرْ ) ( نُطعْمُها
اللحمَ إذا عزَّ الشَّجَر ... ) قال
اليزيدي عن ابن حبيب خاصة قال الأصمعي أطعمها اللحم أسقيها اللبن والعرب تقول
اللبن أحد اللحمين و قال ابن حبيب قال ابن الأعرابي كانت العرب إذا لم تجد العلف
دقت اللحم اليابس فأطعمته الخيل نسي امرأته بحب جديد أخبرني عمي قال حدثنا الكراني
قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش وأخبرنا ابن المرزبان قال أخبرني
عيسى بن يونس قال حدثني محمد بن الفضل قال حدثنا الهيثم بن عدي عن ابن عباس قال لما
فارق النمر بن تولب امرأته الأسدية جزع عليها حتى خيف على عقله ومكث أياما لا يطعم
ولا ينام فلما رأت عشيرته منه ذلك أقبلوا عليه يلومونه ويعيرونه و قالوا أن في
نساء العرب مندوحة و متسعا وذكروا له امرأة من فخذه الأدنين يقال لها دعد ووصفوها
له بالجمال و الصلاح فتزوجها ووقعت من قلبه وشغلته عن ذكر جمرة وفيها يقول ( أهيمُ
بدعد ما حيِيتُ فإِن أمُتْ ... أُوَكِّلْ بدَعْدٍ من يَهيمُ بها بَعدِي ) والناس
يروون هذا البيت لنصيب وهو خطأ أخبرني اليزيدي عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن
عمه وأخبرني إبراهيم بن محمد الصائغ عن ابن قتيبة عن عبد الرحمن عن عمه عن حماد بن
ربيعة انه قال أظرف الناس النمر بن تولب حيث يقول ( أهيمُ
بدعد ما حييتُ فإِن أمت ... أوكِّلْ بدعد مَنْ يهيم بها بعدي ) رثاؤه
لزوجه جمرة أخبرني ابن المرزبان قال أخبرني عبد الله بن محمد قال أخبرني محمد بن
سلام قال لما بلغ النمر بن تولب أن امرأته جمرة توفيت نعاها له رجل من قومه يقال
له حزام أو حرام فقال ( ألم
تر أنَّ جمرةَ جاء مِنها ... بيانُ الحقِّ إنْ صدقَ الكلامُ ) ( نعاها
بالنديِّ لنا حزامٌ ... حَديث ما تحدثُ يا حَرامُ ) ( فلا
تبعَد وقد بعِدَتْ وأجرى ... على جَدثٍ تضمَّنَها الغَمامُ ) قال
الأصمعي يقال بعد وأبعد أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي عن
أبي عمرو وأخبرني به هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي
عبيدة عن أبي عمرو و قال أدرك النمر بن تولب النبي فأسلم وحسن إسلامه وعمر فطال
عمره وكان جوادا واسع القرى كثير الأضياف وهابا لماله فلما كبر خرف وأهتر فكان
هجيراه اصبحوا الراكب اغبقوا الراكب اقروا انحروا للضيف أعطوا السائل تحملوا لهذا في
حمالته كذا و كذا لعادته بذلك فلم يزل يهذي بهذا وشبهه مدة خرفه حتى مات قال وخرفت
امرأة من حي كرام عظيم خطرهم وخطرها فيهم فكان هجيراها زوجوني قولوا لزوجي يدخل
مهدوا لي إلى جانب زوجي فقال عمر بن الخطاب وقد بلغه خبرها ما لهج به أخو عكل
النمر بن تولب في خرفه أفخر وأسرى وأجمل مما لهجت به صاحبتكم ثم ترحم عليه رثى
اخاه الحارث أخبرني ابن المرزبان قال حدثني أبو بكر العامري قال حدثني علي بن
المغيرة الأثرم عن أبي عبيدة قال مات الحارث بن تولب فرثاه النمر فقال ( لا
زال صوبٌ مِنْ ربيع وصيِّف ... يجودُ على حسن الغميم فيثرِب ) ( فو
الله ما أسقي البلادَ لحبِّها ... و لكنما أسقيكَ حار بن تولَب ) ( تضمنْتَ
أدوّاء العشيرة بينَها ... و أنت على أعواد نَعش مقُلَّب ) ( كأن
امرأً في الناس كنتَ ابنَ أُمه ... على فَلَج من بطن دجلة مطنب ) قال
حماد الراوية كان النمر بن تولب كثير البيت السائر و البيت المتمثل به فمن ذلك
قوله ( لا تغضبنَّ على امرئ في ماله ... و
على كرائم صُلب مالكَ فاغضَبِ ) ( و
إذا تصبك خصاصة فارجُ الغِنَى ... و إلى الذي يعطي الرغائبَ فارغبِ ) وقوله
( تلبَّسْ لدهركَ أثوابَه ... فلن
يبتني النّاسُ ما هُدِّما ) ( وأحبب
حبيبك حبّاً رويدا ... فليس يعولُك أن تصْرِما ) ( وَ
أبِغض بغيضَك بُغضاً روَيداً ... إذا أنت حاولتَ أَن تحكما ) وقوله
( أعَاذلُ إن يصبحْ صداي بقَفَرةِ
... بعيدٍ فأنَّى ناصري وقريبي ) ( تَرَىْ
أن ما أبقيتُ لم أكُ ربَّه ... وأن الذي أفنيت كان نَصيبي ) يتحمل
دية عن صديقه نسخت من كتاب بخط السكري أبي سعيد قال محمد بن حبيب كان للنمر بن
تولب صديق فأتاه النمر في ناس من قومه يسألونه في دية احتملوها فلما رآهم وسألوه
تبسم فقال النمر ( تبسم
ضاحكاً لما رآني ... وأصحابي لديَّ عن التمام ) فقال
له الرجل إن لي نفسا تأمرني أن أعطيكم ونفسا تأمرني ألا أفعل فقال النمر ( أما
خليلي فإني غيرٌ معجِلهِ ... حتى يؤامرَ نفسيْه كما زَعما ) ( نفسٌ
له من نفوسِ الناس صالحةٌ ... تعطي الجزيلَ و نفس ترضع الغَنَما ) ثم
قال النمر لأصحابه لا تسألوا أحدا فالدية كلها علي خبر السيف الذي علاه الصدأ
أخبرني احمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال حدثنا أبي
قال حدثنا الحسن بن محمد بن عبد الله بن حسن بن علي قال جاء أعرابي إلى أبي وهو
مستتر بسويقة قبل مخرجه ومعه سيف قد علاه الصدأ فقال يا بن رسول الله إني كنت ببطن
قديد أرعى إبلي و فيها فحل قطم قد كنت ضربته فحقد علي و أنا لا ادري فخلا بي فشد
علي يريدني و أنا أحضر و دنا مني حتى أن لعابه ليسقط على رأسي لقربه مني فأنا اشتد
وأنا أنظر إلى الأرض لعلي أرى شيئا أذبه عني به إذ وقعت عيني على هذا السيف قد فحص
عنه السيل فظننته عودا باليا فضربت بيدي إليه فأخذته فإذا سيف فذببت به البعير عني
ذبا و الله ما أردت به الذي بلغت منه فأصبت خيشومه فرميت بفقمه فعلمت انه سيف جيد
وظننته من سيوف القوم الذين كانوا قتلوا في وقعة قديد و ها هوذا قد أهديته لك يا
بن رسول الله قال فأخذه مني أبي وسر به و جلس الأعرابي يحادثه فبينا هو كذلك إذا
أقبلت غنم لأبي ثلاثمائة شاة فيها رعاؤها فقال له أبي يا أعرابي هذه الغنم و
الرعاة لك مكافأة لك عن هذا السيف قال ثم أرسل به إلى المدينة أو أرسل إلى قين فأتي
به من المدينة فأمر به فحلي فخرج أكرم سيوف الناس فأمر ما تخذ له جفن ودفعه إلى
أختي فاطمة بنت محمد فلما كان اليوم الذي قتل فيه قاتل بغير ذلك السيف قال وبقي
ذلك السيف عند أختي فاطمة بنت محمد فزرتها يوما وهي بينبع في جماعة من أهل بيتي و
كانت عند ابن عمها الحسن بن إبراهيم بن عبد الله بن الحسن عليهم أجمعين السلام
فخرجت إلينا وكانت برزة تجلس لاهلها كما يجلس الرجال و تحدثهم فجلست تحدثنا و أمرت
مولى لها فنحر لنا جزورا ليهيئ لنا طعاما فنظرت إليها و الجزور في النخل باركة و
قد بردت وهي تسلخ فقالت أني لا أرى في هذه الجزور مضربا حسنا ثم دعت بالسيف و قالت
يا حسن فدتك أختك هذا سيف أبيك فخذه واجمع يديك في قائمة ثم اضرب به أثناءها من
خلفها تريد عراقيبها وقد أثبتها للبروك وهي أربعة أعظم قال فأخذت السيف ثم مضيت
نحوها فضربت عراقيبها فقطعتها و الله أربعتها و سبقني السيف فدخل في الأرض فأشفقت
عليه أن ينكسر أن اجتذبته فحفرت عنه حتى استخرجته قال فذكرت حينئذ قول النمر بن تولب
( أبقى الحوادثُ و الأيامُ من نَمِرٍ
... أسبَاد سيفٍ كريم أثره بادي ) ( تظلّ
تحفر عنه الأرضَ مُندفعاً ... بعد الذراعين و القَيدين و الهادِي ) و
يروى ( تظلُّ تحفر عنه إن ظفرتَ به ... ) مختارات
من شعره أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرني أحمد بن
معاوية الباهلي عن أبي عبيدة قال قيل للنمر بن تولب كيف أصبحت يا أبا ربيعة فأنشأ
يقول ( أصبحت لا يَحملُ بعضي بعضا ...
أشكو العروقً الآبضات أبضا ) ( كما
تَشكّى الأرحَبيُّ الغَرْضا ... كأنما كان شبابي قرضا ) أخبرني
هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال أنشدني حماد بن
الأخطل بن النمر بن تولب لجده ( أعِذْني
ربّ من حَصَرٍ وعِيٍّ ... ومن نفَسٍ أعالجها علاجا ) ( ومن
حاجات نفسٍ فاعصِمني ... فإن لمضْمرات النفسِ حَاجَا ) ( فأنت
ولُّيها وبرئتُ مِنها ... إليك فما قضيتُ فلا خِلاجَا ) ثم
قال كان النمر أفتى خلق الله فقلت وما كانت فتوته قال أو ليس فتى من يقول ( أهيمُ
بدعد ما حييتُ فإن أمتْ ... فواحَزنا من ذَا يهيم بها بَعْدي ) صوت
( أيا صاحبيْ رحلي دنا الموتُ فانزٍلا ... برابيةٍ إني مقيمٌ لياليا ) ( وخُطّا
بأطراف الأسنَّةِ مضجَعي ... ورُدّا عَلَى عَيْنَّي فضلَ رِدائيا ) ( ولا
تحسداني باركَ اللهُ فيكما ... من الأرض ذات العَرض أن توسعا ليا ) ( لعمري
لئن غالتْ خراسانَ هامتي ... لقد كنتُ عن بابيْ خُراسانَ نائيا ) ( فياليتَ
شِعري هل أبيتَنَّ ليلةً ... بجنبِ الغضا أُزجي القِلاصَ النواجيا ) الشعر
لمالك بن الريب و الغناء لمعبد مما لا يشك فيه من غنائه خفيف ثقيل أول بالوسطى في
مجراها عن إسحاق و يونس و عمرو و دنانير وفيه خفيف ثقيل آخر لابن عائشة من رواية
علي بن يحيى وفيه لابن سريج هزج بالخصر في مجرى البنصر عن ابن المكي وفيه لإبراهيم
رمل بالوسطى عن عبد الله بن موسى في الأول و الثالث من الأبيات ولإبراهيم ثقيل أول
في الخامس ثم الرابع عن الهشامي و قيل أن الرمل المنسوب إليه لنبيه أخبار مالك بن
الريب و نسبه هو مالك بن الريب بن حوط بن قرط بن حسل بن ربيعة بن كابية بن حرقوص
بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم كان من الشعراء اللصوص ) وكان
شاعرا فاتكا لصا و منشؤه في بادية بني تميم بالبصرة من شعراء الإسلام في أول أيام
بني أمية أخبرني بخبره علي بن سليمان الاخفش قال أخبرنا أبو سعيد السكري عن محمد
بن حبيب عن ابن الأعرابي وعن هشام بن الكلبي وعن الفضل بن محمد وإسحاق بن الجصاص و
حماد الرواية و كلهم قد حكى من خبره نحوا مما حكاه الآخرون قالوا استعمل معاوية بن
أبي سفيان سعيد بن عثمان بن عفان على خراسان فمضى سعيد بجنده في طريق فارس فلقيه
بها مالك بن الريب المازني و كان من أجمل الناس وجها و أحسنهم ثيابا فلما رآه سعيد
أعجبه و قال له مالك و يحك تفسد نفسك بقطع الطريق وما يدعوك إلى ما يبلغني عنك من
العبث و الفساد وفيك هذا الفضل قال يدعوني إليه العجز عن المعالي ومساواة ذوي
المروءات و مكافأة الإخوان قال فإن أنا أغنيتك واستصحبتك أتكف عما كنت تفعل قال أي
و الله أيها الأمير أكف كفا لم يكف أحد أحسن منه قال فاستصحبه وأجرى له خمسمائة
درهم في كل شهر قالوا وكان السبب الذي من أجله وقع مالك بن الريب إلى ناحية فارس
أنه كان يقطع الطريق هو وأصحاب له منهم شظاظ وهو مولى لبني تميم و كان أخبثهم وأبو
حردبة أحد بني أثالة بن مازن و غويث أحد بني كعب بن مالك بن حنظلة و فيهم يقول الراجز
( اللّهُ نجاكَ من القصيم ... وَبطنِ
فَلْج وبني تميم ) ( ومن
بني حردبة الأثيم ... ومالكٍ وسيفه المسمومِ ) ( وَمن
شِظاظ الأحمرٍ الزَّنيم ... وَمن غويث فاتح العُكوم ) فساموا
الناس شرا و طلبهم مروان بن الحكم وهو عامل على المدينة فهربوا فكتب إلى الحارث بن
حاطب الجمحي وهو عامله على بني عمرو بن حنظلة يطلبهم فهربوا منه توعد الحارث بن
حاطب وبلغ مالك بن الريب أن الحارث بن حاطب يتوعده فقال ( تألّى
حِلفةً في غير جُرْمٍ ... أميري حارث شِبهُ الصّرار ) عليّ
لأجْلِدَنْ في غير جُرم ... ولا أُدنى فينفعني اعتذاري ) ( وقلتُ
وقد ضممتُ إليَّ جأشِي ... تحلَّلْ لا تألَّ عليَّ حارِ ) ( فإني
سوف يكفينيكَ عَزمي ... ونصُّ العيسَ بالبلد القفارِ ) ( وعنسٌ
ذات معجمة أمونٌ ... علنداة موثَّقَة الفَقارِ ) ( تَزيف
إذا تواهقتِ المطايا ... كما زاف المشرِّف للخِطار ) ( وإن
ضربتْ بلَحييها و عامت ... تفصَّم عنهما حلقُ السِّفارِ ) ( مِراحاً
غير ما ضغْنٍ ولكنْ ... لَجاجاً حين تشتُبه الصحاري ) ( إذا
ما استقبلتْ جَوْناً بَهيما ... تفرَّج عن مخيَّسة حِضَار ) ( إذا
ما حال روض رُباب دوني ... وَتَثَليثٍ فشأنُك بالبكارِي ) ( وأنيابٌ
سيُخلفُهنّ سَيفي ... وشدَّاتُ الكميِّ عَلَى التِّجار ) ( فإن
أسطَعْ أرٍحْ منه أُناسي ... بضربة فاتك غيرِ اعتذارِ ) ( وإن
يُفلتْ فإِني سوفَ أبغي ... بنيهِ بالمدينة أو صِرارِ ) ( ألا
من مبلغٌ مروانَ عني ... فإني ليسَ دهري بالفِرارِ ) ( ولا
جزِع من الحدَثانِ يوماً ... ولكني أرود لكم و بارِ ) و
بار أرض لم يطأ أحد ثراها ( بهزمار
ترادُ العِيس فيهَا ... إذا أشفقنَ من قَلق الصِّفارِ ) ( وهنَّ
يحشْن بالأعناق حوْشا ... كأن عظامهنَِّ قِداحُ بارِ ) ( كأنّ
الرحْل أَسأَرَ من قَراها ... هلالَ عشية بعد السِّرار ) ( رأيتُ
وقد أَتى بُحْرانُ دُوني ... لليلى بالغُميِّم ضوء نارِ ) ( إذا
ما قلتُ قد خمدَتْ زَهاها ... عُصيُّ الرند والعصْف السواري ) ( يُشَبُّ
وقودها ويلوحُ وَهْناً ... كما لاح الشَّبوب من الصَّوار ) ( كأَن
النَّار اذْ شُبتْ لليلى ... أَضاءَتْ جيدَ مُغزلة نَوارِ ) ( و
تصطادُ القلوبَ على مطاها ... بلا جَعْد القرون ولا قِصارِ ) ( وتبسم
عن نقيّ اللون عَذْبٍ ... كما شِيفَ الأقاحي بالقطارِ ) ( أتجزعُ
أَن عرفتَ ببطن قَوٍّ ... و صحراء الأدَيهم رسمَ دارِ ) ( وإن
حلَّ الخليطُ و لستُ فيهم ... مرابع بين دحْلَ إلى سَرارِ ) ( إذا
حلُّوا بعائجةٍ خلاء ... يُقطِّفُ نوْرَ حَنْوِتها العذارِي ) فبعث
إليه الحارث رجلا من الأنصار فأخذه وأخذ أبا جردبة فبعث بأبي حردبة وتخلف الأنصاري
مع القوم الذين كان مالك فيهم وأمر غلاما له فجعل يسوق مالكا فتغفل مالك غلام
الأنصاري وعليه السيف فانتزعه منه وقتله به وشد على الأنصاري فضربه بالسيف حتى
قتله وجعل يقتل من كان معه يمينا وشمالا ثم لحق بأبي حردبة فتخلصه وركبا إبل
الأنصاري و خرجا فرارا من ذلك هاربين حتى أتيا البحرين واجتمع إليهما أصحابهما ثم
قطعوا إلى فارس فرارا من ذلك الحدث الذي أحدثه مالك فلم يزل بفارس حتى قدم عليه
سعيد بن عثمان فاستصحبه شعره في مهربه فقال مالك في مهربه ذلك ( أحقّاً
على السلطان أمّا الذي لَهُ ... فيُعطِي وأما ما يرادُ فيمنعُ ) ( إذا
ما جعلتُ الرملَ بيني وبينَه ... وأعرضَ سهبٌ بين يبرين بلقَعُ ) ( من
الأُدَمى لا يستجمُّ بها القَطَا ... تكلُّ الرياحُ دونَه فتقطَّعُ ) ( فشأنكم
يا آل مَروانَ فاطلبُوا ... سِقاطي فما فيه لباغيه مَطمعُ ) ( وَما
أنا كالغَير المقيم لأَهلِه ... على القَيْد في بُحبوحة الضَّيم يَرتعُ ) ( ولولا
رسولُ اللهِ أن كان منكمُ ... تبيَّن من بالنَّصف يَرضى ويقنعُ ) وقال
أيضا ( لو كنتمُ تُنكرونَ العُذر قلت لكم
... يا آل مروانَ جاري منكم الحكمُ ) ( وَأتَّقكم
يمينُ الله ضاحيةً ... عند الشهود وَقد توفي به الذممُ ) ( لا
كنتُ أحدث سوْءاً في إمارتكم ... وَلا الذي فات مني قبل ينتقمُ ) ( نحنُ
الذين إذا خفتُم مجلِّلةً ... قلتم لنا إنّنا منكم لتَعتصِمُوا ) ( حتى
إذا انفرجَتْ عنكم دجُنَّتُها ... صرتم كجَرمٍ فلا إلٌّ وَلا رَحِم ) قوله
في محاولة إغتياله وقال مالك حين قتل غلام الأنصاري الذي كان يقوده ( غلامٌ
يقول السيف يُثقل عاتِقي ... إذا قادني وَسْطَ الرجال المُجَحْدِل ) ( فلولا
ذُبابُ السيفِ ظلَّ يقودُني ... بِنسعته شَثْنُ البنان حزنْبل ) قالوا
وبينما مالك بن الريب ذات ليلة في بعض هناته وهو نائم وكان لا ينام إلا متوشحاً
بالسيف إذ هو بشيء قد جثم عليه لا يدري ما هو فانتفض به مالك فسقط عنه ثم انتحى له
بالسيف فقده نصفين ثم نظر إليه فإذا هو رجل أسود كان يقطع الطريق في تلك الناحية
فقال مالك في ذلك ( أدلجتُ
في مهمهٍ ما إن أرّى أحداُ ... حتى إذا حان تعريسٌ لمن نَزلا ) ( وضعتُ
جنبي وقلتُ الله يكلؤني ... مهما تنم عنكَ من عينٍ فما غفَلا ) ( والسيفُ
بيني وبين الثوب مُشعرَه ... أخشى الحوادث إني لم أكن وَكِلا ) ( ما
نمتُ إلا قليلاً نمتُه شئِزاً ... حتى وجدتُ على جُثمانيَ الثِّقلا ) ( داهية
من دواهي الليلِ بيّتني ... مُجاهداً يبتغي نفسي وما ختَلا ) ( أهويتُ
نفحاً له والليل ساترُه ... إلا توخيتُه والجرس فانخزَلا ) ( لما
ثنى اللهُ عني شرَّ عَدْوته ... رقدت لا مُثبَتاً ذُعراً ولا بَعِلا ) ( أما
ترى الدار قَفراً لا أَنيسَ بها ... إلا الوحوشَ وأَمسى أهلُها احتمَلا ) ( بين
المُنيفةِ حيث استنَّ مَدفعُها ... وبين فردةَ من وحشيِّها قَبلا ) ( وقد
تقولُ وما تخفي لجارتها ... إني أرى مالكَ بنَ الريب قد نَحَلا ) ( من
يشهد الحربَ يصلاها ويسعِرُها ... تراه مما كسته شاحباً وجِلاَ ) ( خذها
فإني لضرَّاب إذا اختلفت ... أيدي الرجال بضرب يختِلُ البطَلا ) وقال
مالك في ذلك أيضا ( يا
عاملاً تحتَ الظلام مطيّةً ... متخايلا لا بلْ وغير مخاتلِ ) ( أنَّي
أُنِخْتُ لشابكٍ أنيابَه ... مستأنس بدُجى الظلام مُنازلِ ) ( لا
يستريع عظيمةً يُرَمى بهاِ ... حصباً يحفز عن عظام الكاهلِ ) ( حرِباً
تنصّبه بنبت هواجر ... عاري الأشاجع كالحسام الناصِل ) ( لم
يدر ما غرفُ القُصور وفيؤها ... طاوٍ بنخل سوادها المتمايل ) ( يقظ
الفؤادِ إذا القلوب تآنست ... جزعاً ونُبِّهَ كلُّ أروع باسلِ ) ( حيث
الدُّجى متطلِّعاً لغفوله ... كالذئب في غلَس الظلام الخاتِلِ ) ( فوجدته
ثَبْتَ الجنان مُشيَّعاً ... ركَّابَ مَنسج كلِّ أمر هائلِ ) ( فقراك
أبيض كالعقيقة صارماً ... ذا رَونق يعني الضريبة فاصلِ ) ( فركبتَ
ردعك بين ثَنْي فائزٍ ... يعلو به أثر الدماء وشائلِ ) عرض
عليه أن يكون سائس إبل فرفض قال وانطلق مالك بن الريب مع سعيد بن عثمان إلى خراسان
حتى إذا كانوا في بعض مسيرهم احتاجوا إلى لبن فطلبوا صاحب إبلهم فلم يجدوه فقال مالكُ
لغلام من غلمان سعيد أدن مني فلانة لناقة كانت لسعيد عزيزة فأدناها منه فمسحها
وأبس بها حتى درت ثم حلبها فإذا أحسن حلب حلبه الناس وأغزره درة فانطلق الغلام إلى
سعيد فأخبره فقال سعيد لمالك هل لك أن تقوم بأمر إبلي فتكون فيها وأجزل لك الرزق
إلى ما أرزقك وأضع عنك الغزو فقال مالك في ذلك ( أني
لأستحيي الفوارسَ أن أُرى ... بأرض العدا بوَّ المخاضِ الروائم ) ( وإني
لأستحيي إذّا الحربُ شمَّرَتْ ... أن ارْخِيَ دون الحرب ثوبَ المُسالم ) ( وما
أنا بالنائي الحفيظة في الوغى ... ولا المتقي في السلم جَرّ الجرائمِ ) ( ولا
المتأبي في العواقب للذي ... أهمُّ به من فاتكاتِ العزائمِ ) ( ولكنني
مستوحدُ العزم مِقدَمٌ ... على غمرات الحادث المتفاقم ) ( قليلُ
اختلاف الرأْي في الحر باسلٌ ... جميعُ الفؤاد عند حلِّ العظائمِ ) فلما
سمع ذلك منه سعيد بن عثمان علم أنه ليس بصاحب إبل وأنه صاحب حرب فانطلق به معه قالوا
وبينما مالك بن الريب ليلة نائم في بعض مفازاته إذ بيته ذئب فزجره فلم يزدجر فأعاد
فلم يبرح فوثب إليه بالسيف فضربه فقتله وقال مالك في ذلك ( أذئبَ
الغضا قد صرتَ للناس ضُحكة ... تُغادي بك الركبانُ شرقا إلى غرب ) ( فأنت
وإن كنتَ الجريءَ جنانُه ... مُنيتَ بَضرغام من الأُسُد الغُلْبِ ) ( بمن
لا ينامُ الليلَ إلا وسيفُه ... رهينةُ أقوام سِراعٍ إلى الشَّغْب ) ( ألم
ترني يا ذئبُ إذ جئتَ طارقاً ... تخاتِلُني أني أمرؤ وافرُ اللُّبِّ ) ( زجرتكَ
مراتٍ فلما غلبتَنِي ... ولم تنزجر نهنهتُ غربَك بالضربِ ) ( فصرت
لقىً لمّا علاكَ ابنُ حرَّة ... بأبيض قطَّاع يُنَجّي من الكَرْبِ ) ( ألا
ربَّ يومٍ ريبَ لو كنت شاهداً ... لهالك ذِكْرِي عند مَعمعمة الحربِ ) ( ولستَ
تَرى إلا كَمِيّاً مجدَّلاً ... يداه جميعاً تثبتانِ من التُّربِ ) ( وآخر
يهوِي طائرَ القلبِ هارباً ... وكنتُ أمرأً في الهيْج مجتمعَ القلبِ ) ( أصولُ
بذي الزرِّين أمشي عَرضْنةً ... إلى الموت والأقرانُ كالإبلِ الجُرب ) ( أرى
الموت لا أنحاشُ عنه تكرّما ... ولو شئتُ لم أركَب على المركَب الصعب ) ( ولكن
أبتْ نفسي وكانت أبيَّةً ... تَقاعَسُ أو ينصاعَ قومُ من الرعبِ ) شعره
حين فارق ابنته قال أبو عبيدة لما خرج مالك بن الريب مع سعيد بن عثمان تعلقت ابنته
بثوبه وبكت وقالت له أخشى أن يطول سفرك أو يحول الموت بيننا فلا نلتقي فبكى وأنشأ
يقول ( ولقد قلتُ لابنتي وهي تبكي ...
بدخيلِ الهُموم قلباً كئيبا ) وهي
تُذري من الدموع على الخدّين ... من لوعة الفراقِ غُرُوبا ) ( عَبَرات
يكدن يجرحْن ما جُزْن ... به أو يدعْنَ فيه نُدوبا ) ( حذرَ
الحتفِ أن يصيب أباها ... ويلاقي في غير أهلٍ شَعوبا ) ( اسكُتي
قد حززتِ بالدمع قلبي ... طالما حزَّ دمعكُنَّ القلوباَ ) ( فعسى
اللهُ أن يدْفعَ عنِّي ... ريبَ ما تحذرين حتى أؤوبا ) ( ليس
شيءٌ يشاؤه ذُو المعالي ... بعزيزٍ عليه فادْعِي المُجيبا ) ( ودَعي
أَن تُقَطِّعي الأن قَلبي ... أَو تُريني في رحلتي تَعذيبا ) ( أنا
في قبضةِ الإِله إذا كُنْ ... تُ بعيداً أو كنتُ منكِ قريباً ) ( كم
رأينا امرأً أتى من بعيدٍ ... ومقيماً على الفراشِ أُصيبا ) ( فدعيني
من انتحابِكِ إني ... لا أبالي إذا اعتزمتُ النَّحيبا ) ( حسبيَ
الله ثم قرّبتُ لِلسَّيْر ... ِ علاةً أنَجِبْ بها مَركُوباً ) أخبرني
هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال كان سبب خروج مالك بن الريب
إلى خراسان واكتتابه مع سعيد بن عثمان هرباً من ضرطة فسألته كيف كان ذلك قال مر
مالك بليلى الاخيلية فجلس إليها يحادثها طويلاً وأنشدها فأقبلت عليه وأعجبت به حتى
طمع في وصلها ثم إذا هو بفتىً قد جاء إليها كأنه نصل سيف فجلس إليها فأعرضت عن
مالك وتهاونت به حتى كأنه عندها عصفور وأقبلت على صاحبها ملياً من نهارها فغاظه
ذلك من فعلها وأقبل على الرجل فقال من أنت فقال توبة بن الحمير فقال هل لك في
المصارعة قال وما دعاك إلى ذلك وأنت ضيفنا وجارنا قال لا بد منه فظن أن ذلك لخوفه
منه فازداد لجاجاً فقام توبة فصارعه فلما سقط مالك إلى الأرض ضرط ضرطة هائلة فضحكت
ليلى منه واستحيا مالك فاكتتب بخراسان وقال لا أقيم في بلد العرب أبداً وقد تحدثت عني
بهذا الحديث فلم يزل بخراسان حتى مات فقبره هناك معروف يتذاكر واصحابه ماضيهم في
السرقة وقال المدائني وحدثني أبو الهيثم قال اجتمع مالك بن الريب وأبو حردبة وشظاظ
يوماً فقالوا تعالوا نتحدث بأعجب ما عملناه في سرقتنا فقال أبو حردبة أعجب ما صنعت
وأعجب ما سرقت أني صحبت رفقة فيها رجل على رحل فأعجبني فقلت لصاحبي والله لأسرقن
رحله ثم لا رضيت أو آخذ عليه جعالة فرمقته حتى رأيته قد خفق برأسه فأخذت بخطام
جمله فقدته وعدلت به عن الطريق حتى إذا صيرته في مكان لا يغاث فيه إن استغاث أنخت البعير
وصرعته فأوثقت يده ورجله وقدت الجمل فغيبته ثم رجعت إلى الرفقة وقد فقدوا صاحبهم
فهم يسترجعون فقلت ما لكم فقالوا صاحب لنا فقدناه فقلت أنا أعلم الناس بأثره
فجعلوا لي جعالة فخرجت بهم أتبع الأثر حتى وقفوا عليه فقالوا مالك قال لا أدري
نعست فانتبهت لخمسين فارسا قد أخذوني فقاتلتهم فغلبوني قال أبو حردبة فجعلت أضحك
من كذبه وأعطوني جعالتي وذهبوا بصاحبهم وأعجب ما سرقت انه مر بي رجل معه ناقة و
جمل وهو على الناقة فقلت لأخذنهما جميعا فجعلت أعارضه وقد رأيته قد خفق برأسه فدرت
فأخذت الجمل فحللته وسقته فغيبته في القصيم وهو الموضع الذي كانوا يسرقون فيه ثم
انتبه فالتفت فلم ير جمله فنزل وعقل راحلته ومضى في طلب الجمل ودرت فحللت عقال
ناقته و سقتها فقالوا لأبي حردبة و يحك فحتام تكون هكذا قال اسكتوا فكأنكم بي وقد
تبت واشتريت فرسا وخرجت مجاهدا فبينا أنا واقف إذ جاءني سهم كأنه قطعة رشاء فوقع
في نحري فمت شهيدا قال فكان كذلك تاب وقدم البصرة فاشترى فرسا وغزا الروم فأصابه
سهم في نحره فاستشهد ثم قالوا لشظاظ أخبرنا أنت أعجب ما أخذت في لصوصيتك ورأيت
فيها فقال نعم كان فلان رجل من أهل البصرة له بنت عم ذات مال كثير وهو وليها و
كانت له نسوة فأبت أن تتزوجه فحلف ألا يزوجها من أحد ضرارا لها و كان يخطبها رجل غني
من أهل البصرة فحرصت عليه وأبى الآخر أن يزوجها منه ثم إن ولي الأمر حج حتى إذا
كان بالدو على مرحلة من البصرة حذاءها قريب منه جبل يقال له سنام وهو منزل الرفاق
إذا صدرت أو وردت مات الولي فدفن برابية وشيد على قبره فتزوجت الرجل الذي كان
يخطبها قال شظاظ و خرجت رفقة من البصرة معهم بز و متاع فتبصرتهم وما معهم وأتبعتهم
حتى نزلوا فلما ناموا بيتهم وأخذت من متاعهم ثم إن القوم أخذوني وضربوني ضربا شديدا
وجردوني قال وذلك في ليلة قرة و سلبوني كل قليل وكثير فتركوني عريانا وتماوت لهم
وارتحل القوم فقلت كيف أصنع ثم ذكرت قبر الرجل فأتيته فنزعت لوحه ثم احتفرت فيه
سربا فدخلت فيه ثم سددت علي باللوح و قلت لعلي الآن أدفأ فأتبعهم قال ومر الرجل
الذي تزوج بالمرأة في الرفقة فمر بالقبر الذي أنا فيه فوقف عليه و قال لرفيقه و
الله لأنزلن إلى قبر فلان حتى أنظر هل يحمي الآن بضع فلانة قال شظاظ فعرفت صوته
فقلعت اللوح ثم خرجت عليه بالسيف من القبر بلى ورب الكعبة لأحمينها فوقع والله على
وجهه مغشيا عليه لا يتحرك و لا يعقل فسقط من يده خطام الراحلة فأخذت وعهد الله
بخطامها فجلست عليها و عليها كل أداة وثياب ونقد كان معه ثم وجهتها قصد مطلع الشمس
هاربا من الناس فنجوت بها فكنت بعد ذلك أسمعه يحدث الناس بالبصرة ويحلف لهم أن
الميت الذي كان منعه من تزويج المرأة خرج عليه من قبره بسلبه و كفنه فبقي يومه ثم
هرب منه والناس يعجبون منه فعاقلهم يكذبه و الأحمق منهم يصدقه وأنا اعرف القصة
فأضحك منهم كالمتعجب قالوا فزدنا قال فأنا أزيدكم أعجب من هذا وأحمق من هذا إني
لأمشي في الطريق أبتغي شيئا أسرقه قال فلا و الله ما وجدت شيئا قال و كان هناك
شجرة ينام من تحتها الركبان بمكان ليس فيه ظل غيرها وإذا أنا برجل يسير على حمار
له فقلت أتسمع قال نعم قلت أن المقيل الذي تريد أن تقيله يخسف بالدواب فيه فاحذره
فلم يلتفت إلى قولي قال ورمقته حتى إذا نام أقبلت على حماره فاستقته حتى إذا برزت
به قطعت طرف ذنبه وأذنيه وأخذت الحمار فخبأته وأبصرته حين استيقظ من نومه فقام
يطلب الحمار ويقفو أثره فبينا هو كذلك إذ نظر إلى طرف ذنبه و أذنيه فقال لعمري لقد
حذرت لو نفعني الحذر واستمر هاربا خوف أن يخسف به فأخذت جميع ما بقي من رحله
فحملته على الحمار واستمر فألحق بأهلي قال أبو الهيثم ثم صلب الحجاج رجلا من
الشراة بالبصرة وراح عشيا لينظر إليه فإذا برجل بإزائه مقبل بوجهه عليه فدنا منه
فسمعه يقول للمصلوب طال ما ركبت فأعقب فقال الحجاج من هذا قالوا هذا شظاظ اللص قال
لا جرم والله ليعقبنك ثم وقف أمر بالمصلوب فأنزل وصلب شظاظ مكانه موته قال ابن
الأعرابي مرض مالك بن الريب عند قفول سعيد بن عثمان من خراسان في طريقه فلما أشرف
على الموت تخلف معه مرة الكاتب و رجل آخر من قومه من بني تميم وهما اللذان يقول
فيهما ( أيا صاحبيْ رَحْلي دنا الموتُ
فانزلا ... برابية إني مقيمٌ لياليا ) ومات
في منزله ذلك فدفناه وقبره هناك معروف إلى الآن و قال قبل موته قصيدته هذه يرثي بها
نفسه قال أبو عبيدة الذي قاله ثلاثة عشر بيتا و الباقي منحول ولده الناس عليه صوت
( فما بيضةٌ بات الظليمٌ يَحفُّها ... ويرفعُ عنها حُؤجُؤاً مُتجافيا ) ( بأحسنَ
منها يوم قالتْ أظاعنٌ ... مع الرَّكل أم ثاو ولدينا لياليا ) ( وهبَّتْ
شمالٌ آخر الليل قَرّةٌ ... ولا ثوب إلاَّ بُرْدُها وردائيا ) ( وما
زال بُردى طيِّباً من ثيابِهَا ... إلى الحولِ حتى أنهَجَ الثوبُ باليا ) الشعر
لعبد بني الحسحاس و الغناء لابن سريج في الأول و الثاني من الأبيات ثاني ثقيل
بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفي الثالث و الرابع لمخارق خفيف ثقيل عمله على
صنعة إسحاق في ( أماويَّ
إن المال غادٍ ورائحُ ... ) وكاده
بذلك ليقال أن لحنه أخذه منه وألقاه على عجوز عمير فألقته على الناس حتى بلغ
الرشيد خبره ثم كشفه فعلم حقيقته ومن لا يعلم ينسبه إلى غيره وقد ذكر حبش انه
لإبراهيم وذكر غيره أنه لابن المكي وقد شرحت هذا الخبر في أخبار إسحاق أخبار عبد
بني الحسحاس اسمه سحيم وكان عبدا أسود نوبيا أعجيما مطبوعا في الشعر فاشتراه بنو
الحسحاس وهم بطن من بني أسد قال أبو عبيدة الحسحاس بن نفاثة بن سعيد بن عمرو بن
مالك بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة قال أبو عبيدة فيما أخبرنا هاشم بن محمد
الخزاعي عن أبي حاتم عنه كان عبد بني الحسحاس عبدا أسود أعجميا فكان إذا أنشد
الشعر استحسنه أم استحسنه غيره منه يقول أهشنت والله يريد أحسنت والله وأدرك النبي
ويقال إنه تمثل بكلمات من شعره غير موزونة تمثل الرسول ببيت له أخبرني محمد بن خلف
بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن منصور قال حدثنا الحسن بن موسى قال حدثنا حماد بن
سلمة عن علي بن زيد عن الحسن أن النبي تمثل ( كفى
بالإسلام والشيبِ ناهيا ... ) فقال
أبو بكر يا رسول الله ( كفى
الشيبُ و الإسلام للمرء ناهيا ... ) فجعل
لا يطيقه فقال أبو بكر أشهد انك رسول الله ( وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) قال
محمد بن خلف وحدثني احمد بن شداد عن أبي سلمة التبوذكي عن حماد بن سلمة عن رجل عن
الحسن مثله وروى عن أبي بكر الهذلي أن اسم عبد بني الحسحاس حية وأخبرنا أبو خليفة
عن محمد بن سلام قال كان عبد بني الحسحاس حلو الشعر رقيق الحواشي وفي سواده يقول ( وما
ضرَّ أثوابي سوادِي وإنَّني ... لكالمسك لا يسلو عن المسكِ ذائقهُ ) ( كُسيتُ
قَميصاً ذا سواد وتحتَه ... قميصٌ من القُوهيّ بيض بنائقهُ ) ويروى
وتحته قميص من الإحسان أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال
أنشدني مصعب بن عبد الله الزبيري لعبد بني الحسحاس و كان يستحسن هذا الشعر ويعجب
به قال ( أشعارُ عبد بني الحسحاس قُمْنَ له
... عند الفخارِ مَقام الأصلِ والوَرِق ) ( إن
كنتُ عبداً فنفسِي حرّةٌ كَرَماً ... أو أسودَ اللونِ إني أبيضُ الخُلُقِ ) وقال
الأثرم حدثني السري بن صالح بن أبي مسهر قال أخبرني بعض الأعراب أن أول ما تكلم به
عبد بني الحسحاس من الشعر أنهم أرسلوه رائدا فجاء وهو يقول ( أنعتُ
غيثاً حسناً نباتُه ... كالحبَشيِّ حولَه بناتُه ) فقالوا
شاعر و الله ثم انطلق بالشعر بعد ذلك عمر بن الخطاب يستجيد بيتا له أخبرنا أبو خليفة
عن محمد بن سلام قال أنشد سحيم عمر بن الخطاب قوله ( عُميرة
ودّع إن تجهَّزتَ غاديا ... كفى الشيبُ والإسلامُ للمرء ناهيا ) فقال
عمر لو قلت شعرك كله مثل هذا لأعطيتك عليه عثمان بن عفان يقول لا حاجة لي إليه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الملك بن عبد
العزيز قال حدثني خالي يوسف بن الماجشون قال كان عبد الله بن أبي ربيعة عاملا
لعثمان بن عفان على الجند فكتب إلى عثمان إني قد اشريت غلاما حبشيا يقول الشعر
فكتب إليه عثمان لا حاجة لي إليه فاردده فإنما حظ أهل العبد الشاعر منه إن شبع أن
يتشبب بنسائهم وإن جاع أن يهجوهم فرده فاشتراه أحد بني الحسحاس وروى إبراهيم بن
المنذر الحزامي هذا الخبر عن ابن الماجشون قال كان عبد الله بن أبي ربيعة مثل ما
رواه الزبير إلا أنه قال فيه إن جاع هر و إن شبع فر أخبرني محمد بن خلف بن
المرزبان حدثني أبو بكر العامري عن الأثرم عن أبي عبيدة وأخبرنا به أبو خليفة عن
محمد بن سلام قال أنشد عبد بني الحسحاس عمر قوله ( تُوسِّدُني
كفّاً وتَثني بمِعْصَمٍ ... عليَّ وتحوِي رِجلهَا من ورائيا ) فقال
عمر ويلك إنك مقتول أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني قال حدثني أحمد بن القاسم قال
حدثني إسحاق بن محمد النخعي عن ابن أبي عائشة قال أنشد عبد بني الحسحاس عمر قوله (
كفى الشيبُ و الإسلامُ للمرء ناهياً ... ) فقال
له عمر لو قدمت الإسلام على الشيب لأجزتك أخبرني أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر
قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا معاذ بن معاذ وأبو عاصم عن ابن عون عن محمد بن
سيف أن عبد بني الحسحاس أنشد عمر هذا وذكر الحديث مثل الذي قبله أخبرني محمد بن
خلف قال حدثنا إسحاق بن محمد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال كان
عبد بني الحسحاس قبيح الوجه وفي قبحه يقول ( أتيتُ
نساء الحارثيِّين غُدوةً ... بوجهٍ يَرَاه اللهُ غيرَ جَميلِ ) ( فشبَّهْنَني
كلباً ولستُ بِفوقِه ... ولا دونه إن كان غيرَ قليلِ ) شبب
بنساء مواليه أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال أتي عثمان بن عفان بعبد بني
الحسحاس ليشتريه فأعجب به فقالوا انه شاعر وأرادوا أن يرغبوه فيه فقال لا حاجة لي
به إذ الشاعر لا حريم له إن شبع تشبب بنساء أهله وان جاع هجاهم فاشتراه غيره فلما
رحل قال في طريقه ( اشوقاً
ولَمّا تمضِ لي غيرُ ليلة ... فكيف إذا سار المطيُّ بنا شَهْرا ) ( وما
كنت أخشى مالكاً أن يبيعَني ... بشيء ولو أحستْ أنامله صِفرا ) ( أخوكم
و مولىَ مالِكم وحليفُكم ... ومن قد ثَوى فيكم وعاشركُم دَهْرا ) فلما
بلغهم شعره هذا رثوا له فاستردوه فكان يشبب بنسائهم حتى قال ( ولقد
تحدَّرَِ من كريمةِ بعضِكم ... عرَقٌ على متن الفِراش و طيبُ ) قال
فقتلوه أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الملك
بن عبد العزيز عن خاله يوسف بن الماجشون بمثل هذه الرواية وزاد فيها فلما استردوه
نشب يقول الشعر في نسائهم فأخبرني من رآه واضعا إحدى رجليه على الأخرى يقرض الشعر
ويشبب بأخت مولاه وكانت عليلة يقول ( ماذا
يريدُ السقامُ من قمرٍ ... كلُّ جَمال لوجهه تَبَعُ ) ( ما
يَرْتجي خاب من محاسِنها ... آما لَهُ في القِباح مُتّسَعُ ) ( غيرَّ
من لونها و صفرها ... فزيدَ فيه الجمال والبِدَعُ ) ( لو
كان يبغي الفداءِ قلتُ له ... ها أنا دونَ الحبيبِ يا وجعُ ) مجلس
له مع نسوة من بني صبير بن يربوع أ خبرني محمد بن خلف قال حدثنا أبو بكر العامري
عن علي بن المغيرة الأثرم قال قال أبو عبيدة الذي تناهى إلينا من حديث سحيم عبد
بني الحسحاس انه جالس نسوة من بني صبير بن يربوع و كان من شأنهم إذا جلسوا للتغزل
أن يتعابثوا بشق الثياب وشدة المغالبة على ابداء المحاسن فقال سحيم ( كأن
الصُّبيريِّات يوم لقينَنا ... ظباءٌ حنَتْ أعناقَها في المكانِس ) ( فكم
قد شقَقنا من رداء منَيَّر ... ومن برقع عن طَفلة غيرِ ناعسِ ) ( إذا
شُقَّ بردٌ شُقَّ بالبرد بُرقُعٌ ... على ذاك حتى كلُّنا غيرُ لابسِ ) فيقال
إنه لما قال هذا الشعر اتهمه مولاه فجلس له في مكان كان إذا رعى نام فيه فلما
اضطجع تنفس الصعداء ثم قال ( يا
ذِكرةً مالكَ في الحاضرِ ... تذكُرُها وأنتَ في الصادر ) ( من
كل بيضاءَ لها كَفَل ... مثلُ سنامٍ البكرة المائِر ) قال
فظهر سيده من الموضع الذي كان فيه كامنا و قال له مالك فلجلج في منطقه فاستراب به
فأجمع على قتله فلما ورد الماء خرجت إليه صاحبته فحادثته وأخبرته بما يراد به فقام
ينفض ثوبه ويعفي أثره و يلقط رضا من مسكها كان كسرها في لعبه معها وأنشأ يقول صوت
( أتُكتَم حييتُم على النأي تُكْتَما ... تحيةَ من أمسى بحبِّكِ مُغرَما ) ( وما
تُكتَمين إن أتيتِ دَنِيَّةَ ... ولا إن ركبنا يا بنةَ القوم مَحْرما ) ( ومثلِكِ
قد أبرزتُ من خِدرِ أمها ... إلى مجلسٍ تجرُّ برداً مسهَّما ) الغناء
للغريض ثقيل أول بالوسطى وفيه ليحيى المكي ثاني ثقيل قال ( وماشيةٍ
مَشْيَ القطاة أتَّبعتُها ... من السترِ تخشى أهلَها أن تَكلَّما ) ( فقالت
صه يا ويحَ غيرك إنني ... سمعت حديثاَ بينهم يَقطُر الدَّما ) ( فنفضتُ
ثوبيها ونَظّرت حولها ... ولم أخش هذا الليلَ أن يتصرَّما ) ( أعفَّي
بآثار الثيابِ مبيتَها ... وألقط رضّاً من وقوف تحطَّما ) أحرق
في أخدود قال وغدوا به ليقتلوه فلما رأته امرأة كانت بينها وبينه مودة ثم فسدت
ضحكت به شماتة فنظر إليها و قال ( فإن
تضحكي مني فيا رُبَّ ليلةٍ ... تركتُك فيها كالبقاء المفرَّج ) فلما
قدم ليقتل قال ( شُدُّوا
وثاق العبد لا يُفْلتكُم ... إن الحياة من الممات قريبُ ) ( فلقد
تحَّدر من جبين فتاتكم ... عرقٌ على متْن الفراش وَ طِيبُ ) قال
وقدم فقتل و ذكر ابن دأب أنه حفر له أخدود وألقي فيه وألقي عليه الحطب فأحرق أخبرني
محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني عن أبي
بكر الهذلي قال كان عبد بني الحسحاس يسمى حية وكان لسيده بنت بكر فأعجبها فأمرته
أن يتمارض ففعل وعصب رأسه فقالت للشيخ أسرح أيها الرجل إبلك ولا تكلها إلى العبد
فكان فيها أياما ثم قال له كيف تجدك قال صالحا قال فرح في إبلك العشية فراح فيها
فقالت الجارية لأبيها ما أحسبك إلا قد ضيعت إبلك العشية أن وكلتها إلى حية فخرج في
آثار إبله فوجده مستلقيا في ظل شجرة وهو يقول ( يارُبَّ
شجوٍ لك في الحاضر ... تذْكُرها وأنتَ في الصادر ) ( من
كل حمراءَ جُمَاليَّةٍ ... طَيّبةِ القادم و الآخر ) فقال
الشيخ أن لهذا لشأنا وانصرف ولم يره وجهه وأتى أهل الماء و قال لهم تعلموا و الله
أن هذا العبد قد فضحنا وأخبرهم الخبر وأنشدهم ما قال فقالوا اقتله فنحن طوعك فلما
جاءهم وثبوا عليه فقالوا له قلت و فعلت فقال دعوني إلى غد حتى أعذرها عند أهل
الماء فقالوا إن هذا صواب فتركوه فلما كان الغد اجتمعوا فنادى يا أهل الماء ما
فيكم امرأة إلا قد أصبتها إلا فلانة فإني على موعد منها فأخذوه فقتلوه ومما يغنى
فيه من قصيدة سحيم عبد بني الحسحاس و قال أن من الناس من يرويها لغيره ( تجمَّعْنَ
من شتَّى ثلاثاً وأربعاً ... وواحدةً حتى كَمَلْنَ ثَمانيا ) ( وأقبلن
من أقصى الخيام يَعلْنَنيِ ... بقبَّة ما أبقينَ نَصلاً يمانيا ) ( يُعْدن
مريضاً هنَّ قد هِجن داءهُ ... ألا إنما بعضُ العوائدِ دائيا ) فيه
لحنان كلاهما من الثقيل الأول و الذي ابتداؤه تجمعن من شتى ثلاث لبنان و الذي أوله
وأقبلن من أقصى الخيام ذكر الهشامي أنه لإسحاق وليس يشبه صنعته ولا أدري لمن هو مخارق
يكيد لإسحاق أخبرني جحظة عن ابن حمدون أن مخارقا عمل لحنا في هذا الشعر ( وَهَبَّتْ
شمالاً آخرَ الليل قَرَّةً ... ولا ثوبَ إلا بردُها ورِدائيا ) على
عمل صنعة إسحاق في ( أماويَّ أن المال غاد ورائح ... ) ليكيد
به إسحاق وألقاه على عجوز عمير الباذ عيسى و قال لها إذا سئلت عنه فقولي أخذته من
عجوز مدنية ودار الصوت حتى غني به الخليفة فقال لإسحاق ويلك أخذت لحن هذا الصوت
تغنيه كله فحلف له بكل يمين يرضاه أنه لم يفعل وتضمن له كشف القصة ثم أقبل على من
غناهم الصوت فقال عمن أخذته فقال عن فلان فلقيه فسأله عمن أخذه فعرفه ولم يزل يكشف
عن القصة حتى انتهت من كل وجه إلى عجوز عمير فسئلت عن ذلك فقالت أخذته عن عجوز
مدنيه فدخل إسحاق على عمير فحلف له بالطلاق و العتاق وكل محرج من الأيمان ألا
يكلمه أبدا و لا يدخل داره ولا يترك كيده وعداوته أو يصدقه عن حال هذا الصوت وقصته
فصدقه عمير عن القصة فحدث بها الواثق بحضرة عمير ومخارق فلم يمكن مخارقا دفع ذلك و
خجل خجلا بان فيه وبطل ما أراده بإسحاق صوت ( ثلاثةُ أبيات فبيتٌ أحبُّه ...
وبيتان ليسا من هوايَ ولا شَكلي ) ( ألا
أيها البيتُ الذي حيلَ دونَه ... بنا أنتَ من بيتٍ وأهلُكَ من أهلِ ) الشعر
لجميل و الغناء لإسحاق ماخوري بالبنصر من جامع أغانيه وفيه رمل مجهول ذكره حبش
لعلويه ولم أجد طريقته متمم العبدي و الجويرية اعجب بفصاحة لسان الجويرية ورقة
ألفاظها أخبرني الحسين بن يحيى المرادي عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني متمم
العبدي قال خرجت من مكة زائرا لقبر النبي فإني لبسوق الجحفة إذا جويرية تسوق بعيرا
وتترنم بصوت مليح طيب حلو في هذا الشعر ( ألا
أيها البيتُ الذي حِيل دونه ... بنا أنت من بيتٍ وأهلُك من أهل ) ( بنا
أنت من بيت وحولك لَذةٌ ... وظِلُّكَ لو يُسْطاع بالبارد السهل ) ( ثلاثة
أبيات فبيتٌ أحِبُّه ... وبيتان ليسَا من هواي ولا شكلي ) فقلت
لمن هذا الشعر يا جويرية قالت أما ترى تلك الكوة الموقاة بالكلة الحمراء قلت أراها
قالت من هناك نهض هذا الشعر قلت أو قائله في الأحياء قالت هيهات لو أن لميت أن
يرجع لطول غيبته لكان ذلك فأعجبني فصاحة لسانها ورقة ألفاظها فقلت لها ألك أبوان
فقالت فقدت خيرهما وأجلهما ولي أم قلت وأين أمك قالت منك بمرأى ومسمع قال فإذا
امرأة تبيع الخرز على ظهر الطريق بالجحفة فأتيتها فقلت يا أمتاه استمعي مني فقالت
لها يا أمه فاستمعي من عمي ما يلقيه إليك فقالت حياك الله هيه هل من جائية خبر قلت
أهذه ابنتك قالت كذا كان يقول أبوها قلت أفتزوجينها قالت ألعلة رغبت فيها فما هي و
الله من عندها جمال ولا لها مال قلت لحلاوة لسانها و حسن عقلها فقالت أينا أملك
بها أنا أم هي بنفسها قلت بل هي بنفسها قالت فإياها فخاطب فقلت لعلها أن تستحي من
الجواب في مثل هذا فقالت ما ذاك عندها أنا أخبر بها فقلت يا جارية أما تستمعين ما
تقول أمك قال قد سمعت قلت فما عندك قالت أو ليس حسبك أن قلت إني أستحي من الجواب
في مثل هذا فإن كنت أستحي في شيء فلم أفعله أتريد أن تكون الأعلى وأكون بساطك لا
والله لا يشد علي رجل حواءه وأنا أجد مذقة لبن أو بقلة ألين بها معاي قال فورد
والله علي أعجب كلام على وجه الأرض فقلت أو أتزوجك و الإذن فيه إليك وأعطي الله
عهدا أني لا أقربك أبدا إلا عن إرادتك قالت إذا و الله لا تكون لي في هذا إرادة
أبدا ولا بعد الأبد إن كان بعده بعد فقلت فقد رضيت بذلك فتزوجتها وحملتها وأمها
معي إلى العراق وأقامت معي نحوا من ثلاثين سنة ما ضممت عليها حواي قط و كانت قد
علقت من أغاني المدينة أصواتا كثيرة فكانت ربما ترنمت بها فأشتهيها فقلت دعيني من
أغانيك هذه فإنها تبعثني على الدنو منك قال فما سمعتها رافعة صوتها بغناء بعد ذلك
حتى فارقت الدنيا وإن أمها عندي حتى الساعة فقلت ما ادري متى دار في سمعي حديث امرأة
أعجب من حديث هذه صوت ( أيها الناسُ إن رأيي يُريني ... وهو الرأيُ طوفَةً في
البلاد ) ( بالعوالي وبالقنابل تَرْدي ...
بالبطاريق مِشيةَ العُوَّاد ) ( وبجيش
عرمرَمٍ عربيِّ ... جَحْفل يستجيبُ صوتَ المنادي ) ( من
تميم وخندِفٍ وإياد ... و البهالِيلِ حِمْيرٍ ومراد ) ( فإذا
سرتُ سارت الناسُ خَلفي ... ومَعي كالجبالِ في كلِّ واد ) ( سَقِّني
ثم سقِّ حميرَ قومي ... كأسَ خمرٍ أُولي النّهى و العِماد ) الشعر
لحسان بن تبع و الغناء لأحمد النصيبي خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن
إسحاق وفيه ليونس لحن من كتابه أخبار حسان بن تبع كان ينشد وجوه قومه ( أخبرني
بخبر حسان الذي من أجله قال هذا الشعر علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن ابن حبيب
عن ابن الأعرابي وعن أبي عبيدة و أبي عمرو وابن الكلبي وغيرهم قال كان حسان بن تبع
أحول أعسر بعيد الهمة شديد البطش فدخل إليه يوما وجوه قومه وهم الأقيال من حمير
فلما أخذوا مواضعهم ابتدأهم فأنشدهم ( أيها
الناسُ إن رأيي يُريني ... وهوَ الرأي طوفةً في البلاد ) ( بالعوالي
وبالقنابل تَرْدي ... بالبطاريقِ مِشيةَ العُوّاد ) وذكر
الأبيات التي مضت آنفا ثم قال لهم استعدوا لذلك فلم يراجعه أحد لهيبته فلما كان
بعد ثلاثة خرج وتبعه وطئ أرض العجم و قال لأبلغن من البلاد حيث لم يبلغ أحد من
التبابعة فجال بهم في ارض خراسان ثم مضى إلى المغرب حتى بلغ رومية وخلف عليها ابن
عم له وأقبل إلى أرض العراق حتى إذا صار على شاطئ الفرات قالت وجوه حمير ما لنا
نفني أعمارنا مع هذا نطوف في الأرض كلها ونفرق بيننا وبين بلدنا وأولادنا و عيالنا
وأموالنا فلا ندري من نخلف عليهم بعدنا فكلموا أخاه عمرا و قالوا له كلم أخاك في
الرجوع إلى بلده وملكه قال هو أعسر من ذلك وأنكر فقالوا فاقتله ونملكك علينا فأنت
أحق بالملك من أخيك وأنت أعقل وأحسن نظرا لقومك فقال أخاف ألا تفعلوا وأكون قد
قتلت أخي وخرج الملك عن يدي فواثقوه حتى ثلج إلى قولهم وأجمع الرؤساء على قتل أخيه
كلهم إلا ذا رعين فإنه خالفهم وقال ليس هذا برأي يذهب الملك من حمير فشجعه الباقون
على قتل أخيه فقال ذو رعين أن قتلته باد ملكك فلما رأى ذو رعين ما أجمع عليه القوم
أتاه بصحيفة مختومة فقال يا عمرو إني مستودعك هذا الكتاب فضعه عندك في مكان حريز
وكتب فيه ( ألا مَنْ يشتري سهراً بنومٍ ...
سعيد مَنْ يبيت قريرَ عَينِ ) ( فإن
تكُ حَميرٌ غَدَرتْ وخانتْ ... فمعذرةُ الإله لذي رُعيْن ) قتله
أخوه وهو نائم فامتنع منه النوم ثم إن عمرا أتى حسان أخاه وهو نائم على فراشه
فقتله واستولى على ملكه فلم يبارك فيه وسلط الله عليه السهر وامتنع منه النوم فسأل
الأطباء و الكهان و العياف فقال له كاهن منهم إنه ما قتل أخاه رجل قط إلا منع نومه
فقال عمرو هؤلاء رؤساء حمير حملوني على قتله ليرجعوا إلى بلادهم ولم ينظروا إلي
ولا لأخي فجعل يقتل من أشار عليه منهم بقتله فقتلهم رجلا رجلا حتى خلص إلي ذي رعين
وأيقن بالشر فقال له ذو رعين ألم تعلم أني أعلمتك ما في قتله ونهيتك وبينت هذا قال
وفيم هو قال في الكتاب الذي استودعتك فدعا بالكتاب فلم يجده فقال ذو رعين ذهب دمي
على أخذي بالحزم فصرت كمن أشار بالخطأ ثم سأل الملك أن ينعم في طلبه ففعل فأتى به
فقرأه فإذا فيه البيتان فلما قرأهما قال لقد أخذت بالحزم قال إني خشيت ما رأيتك
صنعت بأصحابي قال وتشتت أمر حمير حين قتل أشرافها واختلفت عليه حتى وثب على عمرو
لخيعة ينوف ولم يكن من أهل بيت المملكة فقتله واستولى على ملكه وكان يقال له ذو شناتر
الحميري وكان فاسقا يعمل عمل قوم لوط وكان يبعث إلى أولاد الملوك فيلوط بهم و كانت
حمير إذا ليط بالغلام لم تملكه ولم ترتفع به و كانت له مشربة يكون فيها يشرف على
حرسه فإذا أتي بالغلام أخرج رأسه إليهم وفي فيه السواك فيقطعون مشافر ناقة المنكوح
وذنبها فإذا خرج صيح به أرطب أم يباس فمكث بذلك زمانا حتى نشأ زرعة ذو نواس و كانت
له ذؤابة وبها سمي ذا نواس وهو الذي تهود وتسمى يوسف وهو صاحب الأخدود بنجران و
كانوا نصارى فخوفهم وحرق الإنجيل وهدم الكنائس ومن أجله غزت الحبشة اليمن لانهم
نصارى فلما غلبوا على اليمن اعترض البحر واقتحمه على فرس فغرق فلما نشأ ذو نواس
قيل له كأنك وقد فعل بك كذا وكذا فأخذ سكينا لطيفا خفيفا وسمه وجعل له غلافا فلما
دعا به لخيعة جعله بين أخمصه ونعله وأتاه على ناقة له يقال لها سراب فأناخها وصعد
إليه فلما قام يجامعه كما كان يفعل انحنى زرعة فأخذ السكين فوجأ بها بطنه فقتله
واحتز رأسه فجعل السواك في فيه وأطلعه من الكوة فرفع الحرس رؤوسهم فرأوه ونزل زرعة
فصاحوا زرعة يا ذا نواس أرطب أم يباس فقال ستعلم الأحراس است ذي نواس رطب أم يباس
وجاء إلى ناقته فركبها فلما رأى الحرس اطلاع الرأس صعدوا إليه فإذا هو قد قتل
فأتوا زرعة فقالوا ما ينبغي أن يملكنا غيرك بعد أن أرحتنا من هذا الفاسق واجتمعت
حمير إليه ثم كان من قصته ما ذكرناه آنفا صوت ( يا ربةَ البيتِ قومي غيرَ صاغرةٍ
... ضُمِّي إليكِ رحالَ القوم و القُرُبا ) ( في
ليلة مِنْ جُمادى ذاتِ أنديةٍ ... لا يُبصر الكلبُ من ظلمائهَا الطُّنُبا ) ( لا
ينبحُ الكلبُ فيها غَير واحدةٍ ... حتى يَلُفَّ على خيشومه الذَّنبا ) الشعر
لمرة بن محكان السعدي والغناء لابن سريج رمل بالوسطى وله فيه أيضا خفيف ثقيل
بالوسطى كلاهما عن عمرو وذكر حبش أن فيه لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى و الله أعلم أخبار
مرة بن محكان هو مرة بن محكان ولم يقع إلينا باقي نسبه أحد بني سعد بن زيد مناة بن
تميم شاعر مقل إسلامي من شعراء الدولة الأموية وكان في عصر جرير والفرزدق فأحملا
ذكره لنباهتهما في الشعر كان شريفا جوادا شديد السخاء وكان مرة شريفا جوادا وهو
أحد من حبس في المناحرة والإطعام أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث
الخراز عن المدائني قال كان مرة بن محكان سخيا وكان أبو البكراء يوائمه في الشرف
وهما جميعا من بني الربيع فأنهب مرة بن محكان ماله الناس فحبسه عبيد الله بن زياد
فقال في ذلك الأبيرد الرياحي ( حبستَ
كريماً أن يجودَ بماله ... سعى في ثأى من قومه متفاقِم ) ( كأنّ
دماءَ القوم إذ عَلقوا به ... على مكفَهِرٍّ من ثنَايا المخارم ) ( فإن
أنتَ عاقبت ابن مَحكان في الندى ... فعاقب هداك اللُه أعظُمَ حَاتِم ) قال
فأطلقه عبيد الله بن زياد فذبح أبو البكراء مائة شاة فنحر مرة بن محكان مائة بعير
فقال بعض شعراء بني تميم يمدح مرة ( شرى
مائةً فأنهبها جواداً ... وأنت تناهب الحدَف القِهادَا ) الحدف
صغار الغنم والقهاد البيض أخبرني أحمد بن محمد الأسدي أبو الحسن قال حدثنا الرياشي
قال سئل أبو عبيدة عن معنى قول مرة بن محكان ( ضمِّني
إليك رحالَ القوم والقُرُبا ... ) ما
الفائدة في هذا فقال كان الضيف إذا نزل بالعرب في الجاهلية ضموا إليهم رحله وبقي
سلاحه معه لا يؤخذ خوفا من البيات فقال مرة بن محكان يخاطب امرأته ضمي إليك رحال
هؤلاء الضيفان و سلاحهم فإنهم عندي في عز وأمن من الغارات و البيات فليسوا ممن
يحتاج أن يبيت لا بسا سلاحه قتله مصعب بن الزبير أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال
حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن يونس قال كان الحارث بن أبي ربيعة على البصرة أيام
ابن الزبير فخاصم إليه رجل من بني تميم يقال له مرة بن محكان رجلا فلما أراد إمضاء
الحكم عليه نشأ مرة بن محكان يقول ( أحارِ
تثّبتْ في القَضاء فإنه ... إذا ما إمامٌ جار في الحكم أقصَدا ) ( وإنكَ
موقوف على الحكم فاحتفظْ ... ومهما تصبْه اليومَ تُدرِكْ به غداً ) ( فإنيَ
مِمَّا أدرِكُ الأمرَ بالأنى ... وأقطع في رأس الأمير المُهَّندا ) فلما
ولي مصعب بن الزبير دعاه فأنشده الأبيات فقال أما و الله لأقطعن السيف في رأسك قبل
أن تقطعه في رأسي و أمر به فحبس ثم دس إليه من قتله أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد
عن أبيه عن ابن جامع عن يونس قال جاء رجل من قريش إلى الغريض فقال له بأبي أنت و
أمي إني جئتك قاصدا من الطائف أسألك عن صوت تغنيني إياه قال وما هو قال لحنك في
هذا الشعر ( نشرَّبَ لونَ الرازقيّ بيَاضه ...
أو الزعفرانَ خالط المسكَ رادعُه ) فقال
لا سبيل إلى ذلك هذا الصوت قد نهتني الجن عنه ولكني أغنيك في شعر لمرة بن محكان
وقد طرقه ضيف في ليلة شاتية فأنزلهم ونحر لهم ناقته ثم غناه قوله ( يا
ربة البيت قومي غيرَ صاغرةٍ ... ضُمِّي إليك رحالَ القَوْمِ والقُرُبا ) فأطربه
ثم قال له الغريض هذا لعن أخذته من عبيد بن سريج وسأغنيك لحنا عملته في شعر على
وزن هذا الشعر ورويه للحطيئة ثم غناه ( ما
نَقَموا من بغيضٍ لا أبالهُم ... في بائس جاء يحدو أينُقاً شُزُبَا ) ( جاءت
به من بلاد الطُّور تحملهُ ... حصَّاء لم تتركْ دون العصَا شَذبا ) فقام
القرشي فقبل رأسه فقال له فدتك نفسي وأهلي لو لم أقدم مكة لعمرة ولا لبر وتقوى ثم
قدمت إليها لأراك وأسمع منك لكان ذلك قليلا ثم انصرف وحدثني بعض مشايخ الكتاب أنه
دخل على أبي العبيس بن حمدون يوما فسأله أن يقيم عند فأقام وأتاهم أبو العبيس
بالطعام فأكلوا ثم قدم الشراب فشربوا وغناهم أبو العبيس يومئذ هذا الصوت ( ألا
مُتَّ أعطيتَ صبراً وعزمةً ... غداة رأيتَ الحيَّ للبين غاديا ) ( ولم
تعتصرْ عينيك فَكهةُ مازحٍ ... كأنك قد أبدعتَ إذ ظلْت باكيا ) فأحسن
ما شاء ثم ضرب ستارته و قال ( يا
ربةَ البيتِ غَني غير صاغرة ... ) فاندفعت
عرفان فغنت ( يا
ربةَ البيت قومي غيرَ صاغرة ... ضُمَّي إليك رِحال القوم والقُرُبا ) قال
فما سمعت غناء قط أحسن مما سمعته من غنائهما يومئذ نسبة هذا الصوت صوت ( ألا متَّ
لا أعطِيتَ صبراً وعزمة ... غداة رأيتَ الحيّ للبين غاديا ) ( ولم
تعتصر عينيك فَكهةُ مازح ... كأنك قد أبدعت إذ ظلتَ باكيا ) ( فصيّرت
دمعاً أن بكيتَ تَلَدُّداً ... به لفراقِ الإلف كفؤاً مُوازيا ) ( لقد
جلَّ قدر الدمع عندكَ أنْ ترى ... بكاءك للبين المُشِتِّ مُساويا ) الشعر
لأعرابي أنشدناه الحرمي بن أبي العلاء عن الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري عن
إسحاق الموصلي لأعرابي قال الديناري وكان إسحاق كثيرا ما ينشد الشعر للأعراب وهو
قائله وأظن هذا الشعر له و الغناء لعمرو بن بانة ثقيل أول بالبنصر من كتابه صوت فإن
تكُ من شيبانَ أميّ فإنني ... لأبيضُ من عجل عريض المَفارقِ ) ( وكيف
بذكري أمَّ هارون بعد ما ... خبطنَ بأيديهنّ رملَ الشقائقِ ) ( كأنّ
نَقاً من عالج أُزرَتْ به ... إذا الزّل ألهاهنّ شَدُّ المناطقِِ ) ( وإنا
لتَغلِي في الشَّتاءُ قدورُنا ... ونصبر تحت اللاَّمعات الخوافِقِ ) عروضه
من الطويل الشعر للعديل بن الفرخ العجلي و الغناء لمعبد خفيف ثقيل من أصوات قليلة
الأشباه عن يونس وإسحاق وفيه لهشام بن المرية لحن من كتاب إبراهيم وفيه لسنان
الكاتب ثقيل أول عن الهشامي وحبش و قال حبش خاصة فيه للهذلي أيضا ثاني ثقيل
بالوسطى أخبار العديل ونسبه العديل بن الفرخ بن معن بن الأسود بن عمرو بن عوف بن ربيعة
بن جابر بن ثعلبة بن سمي بن الحارث وهو العكابة بن ربيعة بن عجل بن لجيم بن صعب بن
علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن
نزار و قال أبو عبيدة كان العكابة اسم كلب للحارث بن ربيعة بن عجل فلقب باسم كلبه
وغلب عليه قال وكان عجل من محمقي العرب قيل له أن لكل فرس جواد اسما وان فرسك هذا
سابق جواد فسمه ففقأ إحدى عينيه وقال قد سميته الأعور وفيه يقول الشاعر ( رمتْني
بَنو عجل بداء أبيهمُ ... وهل أحدٌ في الناس أحمق من عجل ) ( ألَيس
أبوهمْ عارَ عينَ جواده ... فصارتْ بن الأمثالُ تضرب بالجهل ) عرفت
أسرته بالشعر و الفروسية والعديل شاعر مقل من شعراء الدولة الأموية وكان له ثمانية
إخوة وأمهم جميعا امرأة من بني شيبان ومنهم من كان شاعرا فارسا أسود وسوادة وشملة
وقيل سلمة والحارث وكان يقال لأمهم درماء وكان للعديل وإخوته ابن عم يسمى عمرا
فتزوج بنت عم لهم بغير أمرهم فغضبوا ورصدوه ليضربوه وخرج عمرو ومعه عبد له يسمى
دابغا فوثب العديل وإخوته فأخذوا سيوفهم فقالت أمهم إني أعوذ بالله من شركم فقال
لها ابنها الأسود وأي شيء تخافين علينا فو الله لو حملنا بأسيافنا على هذا الحنو
حنو قراقر لما قاموا لنا فانطلقوا حتى لقوا عمرا فلما رآهم ذعر منهم وناشدهم فأبوا
فحمل عليه سوادة فضرب عمرا ضربة بالسيف وضربه عمرو فقطع رجله فقال سوادة ( ألا
من يشترِي رِجلاً برجْل ... تأبَّى للقيام فلا تقوم ) وقال
عمرو ولدابغ اضرب وأنت حر فحمل دابغ فقتل منهم رجلا وحمل عمرو فقتل آخر وتداولاهم
فقتلا منهم أربعة وضرب العديل على رأسه ثم تفرقوا وهرب دابغ حتى أتى الشأم فداوى
ربضة بن النعمان الشيباني للعديل ضربته ومكث مدة ثم خرج العديل بعد ذلك حاجا فقيل
له إن دابغا قد جاء حاجا وهو يرتحل فيأخذ طريق الشأم وقد اكترى فجعل العديل عليه
الرصد حتى إذا خرج دابغ ركب العديل راحلته وهو متلثم وانطلق يتبعه حتى لقيه خلف
الركاب يحدو بشعر العديل ويقول ( يا
دارَ سلمى أقفرتْ من ذي قارْ ... وهل بإقفارِ الديارِ من عارْ ) ( وقد
كسينَ عرَقاً مثل القارْ ... يخرجْن من تحتِ خلالِ الأوبار ) فلحقه
العديل فحبس عليه بعيره وهو لا يعرفه ويسير رويدا ودابغ يمشي رويداً وتقدمت إبله
فذهبت وإنما يريد أن يباعده عنها بوادي حنين ثم قال له العديل والله لقد استرخى
حقب رحلي أنزل فأغير الرحل وتعينني فنزل فغير الرحل وجعل دابغ يعينه حتى إذا شد
الرحل أخرج العديل السيف فضربه حتى برد ثم ركب راحلته فنجا وأنشأ يقول ( ألم
ترني جلّلتُ بالسيف دَابغاً ... وإن كان ثأراً لم يُصبه غليلي ) ( بوادي
حنينٍ ليلةَ البدر رعتُه ... بأبيض من ماء الحَديد صَقِيلِ ) ( وقلت
لهم هذا الطريقُ أمامكم ... وَلم أك إذ صاروا لَهم بدّليل ) وقال
أبو اليقطان كان العديل هجا جرثومة العنزي الجلاني فقال فيه ( أُهاجي
بني جِلاَّن إذ لم يكنْ لها ... حديثٌ ولا في الأولين قديم ) فأجابه
جرثومة فقال ( وإنّ
امرأ يهجو الكرام ولم ينَل ... من الثأر إلا دابغاً للئيمُ ) ( أتطلُب
في جِلاّن وتراً ترومُه ... وفاتك بالأوتار شَرُّ غريمِ ) قالوا
واستعدى مولى دابغ على العديل الحجاج بن يوسف وطالبه بالقود فيه فهرب العديل من
الحجاج إلى بلد الروم فلما صار إلى بلد الروم لجأ إلى قيصر فأمنه فقال في الحجاج ( أُخَوَّفُ
بالحجاج حتّى كأنما ... يُحرَّك عظم في الفؤاد مَهيضُ ) ( ودون
يد الحجاج من أن تنالَني ... بِساط لأيدي الناعجات عَريض ) ( مهامه
أشباه كأن سَرابَها ... مُلاَءٌ بأَيدي الراحضات رَحيض ) فبلغ
شعره الحجاج فكتب إلى قيصر لتبعثن به أو لأغزينك جيشاً يكون أوله عندك وآخره عندي
فبعث به قيصر إلى الحجاج فقال له الحجاج لما أدخل عليه أأنت القائل ودون يد الحجاج
من أن تنالني فكيف رأيت الله أمكن منك قال بل أنا القائل أيها الأمير ( فلو
كنتُ في سلمى أجاً وشعابِها ... لكان لحجَّاجٍ عليّ سبيلُ ) ( خليلُ
أميرِ المؤمنين وسيفُه ... لكلِّ إمام مُصطَفى وخليلُ ) ( بَنَى
قُبَّةَ الإِسلام حتى كأنَّما ... هَدَى الناسَ من بعد الضلالِ رسولُ ) فخلى
سبيله وتحمل دية دابغ في ماله الحجاج يعفو عن العديل بعد ان هجاه ثم عاد فمدحه
أخبرني عمي وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد
بن منصور بن عطية الغنوي قال أخبرني جعفر بن عبيد الله بن جعفر عن أبي عثمان
البقطري قال خرج العديل بن الفرخ يريد الحجاج فلما صار ببابه حجبه الحاجب فوثب
عليه العديل وقال إنه لن يدخل على الأمير بعد رجالات قريش أكبر مني ولا أولى بهذا
الباب فنازعه الحاجب الكلام فأحفظه وانصرف العديل عن باب الحجاج إلى يزيد بن
المهلب فلما دخل إليه أنشأ يقول ( لئن
أرتج الحجاجُ بالبخل بابَه ... فباب الفتى الأزديّ بالعُرف يُفتحُ ) ( فتىً
لا يبالي الدهرَ ما قلَّ مالُه ... إذا جعلتْ أيدي المكارم تسنَح ) ( يداه
يدٌ بالعرف تُنهبُ ما حوتْ ... وأخرى على الأعداء تَسطو وتجرحُ ) ( إذا
ما أتاه المرمِلون تيقَّنوا ... بأّن الغِنَى فيهم وَشيكاً سَيسرَحُ ) ( أقام
على العافين حُرَّاسَ بابِه ... يُنادونهم وَالحُرُّ بالحرّ يَفرحُ ) ( هلموا
إلى سَيْبِ الأمير وَعُرفِه ... فإنّ عطاياه على الناس تَنْفَحُ ) ( وليس
كعِلجٍ من ثمودّ بكَفِّه ... من الجودِ وَالمعروف حَزم مطوَّح ) فقال
له يزيد عرضت بنا وخاطرت بدمك وبالله لا يصل إليك وأنت في حيزي فأمر له بخمسين ألف
درهم وحمله على أفراس وقال له الحق بعلياء نجد واحذر أن تعلقك حبائل الحجاج أو
تحتجنك محاجنه وابعث إلي في كل عام ذلك علي مثل هذا فارتحل وبلغ الحجاج خبره
فأحفظه ذلك على يزيد وطلب العديل ففاته وقال لما نجا ( ودونَ
يد الحجاج من أن تنالَني ... بساطٌ لأيدي الناعجاتِ عريضُ ) قال
ثم ظفر به الحجاج بعد ذلك فقال إيه أنشدني قولك ( ودون
يد الحجاج من أن تنالني ... ) فقال
لم أقل هذا أيها الأمير ولكني قلت ( إذا
ذُكر الحجاجُ أضمرتُ خِيفة ... لها بين أَحناء الضلوع نَقيضُ ) فتبسم
الحجاج وقال أولى لك وعفا عنه وفرض له شفع له سادات بكر عند الحجاج وقال أبو عمرو
الشيباني لما لجَّ الحجاج في طلب العديل لفظته الأرض ونبا به كل مكان هرب إليه
فأتى بكر بن وائل وهم يومئذ بادون جميع منهم بنو شيبان وبنو عجل وبنو يشكر فشكا
إليهم أمره وقال لهم أنا مقتول أفتسلمونني هكذا وأنتم أعز العرب قالوا لا والله
ولكن الحجاج لا يراغم ونحن نستوهبك منه فإن أجابنا فقد كفيت وأن حادنا في أمرك
منعناك وسألنا أمير المؤمنين أن يهبك لنا فأقام فيهم واجتمعت وجوه بكر بن وائل إلى
الحجاج فقالوا له أيها الأمير إنا قد جنينا جميعاً عليك جناية لا يغفر مثلها وها
نحن قد استسلمنا وألقيتنا بأيدينا إليك فإما وهبت فأهل ذلك أنت وإما عاقبت فكنت
المسلط الملك العادل فتبسم وقال قد عفوت عن كل جرم إلا جرم الفاسق العديل فقاموا
على أرجلهم فقالوا مثلك أيها الأمير لا يستثني على أهل طاعته وأوليائه في شيء فإن
رأيت ألا تكدر مننك باستثناء وأن تهب لنا العديل في أول من تهب قال قد فعلت فهاتوه
قبحه الله فأتوه به فلما مثل بين يديه أنشأ يقول ماذا قال في حضرة الحجاج ( فلو
كنتُ في سلمى أجاً وشعابِها ... لكان لحجَّاجٍ عليَّ دليلُ ) ( بنى
قُبة الإِسلامِ حتى كأَنَّما ... هَدى الناسَ من بعد الضلال رسولُ ) ( إذا
جار حُكْم النَّاس ألجأ حكمَه ... إلى الله قاض بالكتاب عقولُ ) ( خليلُ
أمير المؤمنين وسيفُه ... لكل إمام صاحبٌ وخليل ) ( به
نصرَ اللهُ الخليفةَ منهمُ ... وثبَّتَ مُلكاً كادَ عنه يَزولُ ) ويروى
به نصر الله الإمام عليهم ( فأَنت
كسيفِ اللهِ في الأرضِ خالدٍ ... تصولُ بعونِ الله حين تصولُ ) ( وجازيْتَ
أصحابَ البلاء بلاءهم ... فَما منهمُ عمَّا تُحِبُّ نُكولُ ) ( وصُلتَ
بمرَّان العراقِ فأصبحتْ ... منَاكِبُها للوطء وهي ذَلولُ ) أقام
الواحد مقام الجمع في قوله ذلول ( أذقت
الحِمَامَ ابني عُبَادٍ فأصبحوا ... بمنزل موهونِ الجَناح ثكولِ ) ( ومن
قَطريٍّ نلتَ ذاك وحوله ... كتائبُ من رجَّالة وخُيولُ ) ( إذا
ما أتت بابَ ابنِ يوسُف ناقتي ... أتتْ خيرَ منزول به ونَزيلِ ) ( وما
خفتُ شيئاً غيرَ ربِّيَ وحدَه ... إذا ما انتحيتُ النفسَ كيفَ أقولُ ) ( ترى
الثقلينِ الجنّ والإنسَ أصبحا ... على طاعة الحجَّاج حينَ يقولُ ) فقال
له الحجاج أولى لك فقد نجوت وفرض له وأعطاه عطاءه فقال يمدح سائر قبائل وائل ويذكر
دفعها عنه ويفتخر بها ( صَرمَ
الغواني واستراح عواذِلي ... وصحوتُ بعد صَبابة وتمايُلِ ) ( وذكرت
يوم لوى عتيقٍ نسوةً ... يخْطِرْن بين أكِلَّةً ومراحلِ ) ( لعب
النعيمُ بهنّ في أظلاله ... حتى لبِسنَ زمانَ عيش غافلٍ ) صوت
( يأخذنْ زينتهُنّ أحسنَ ما ترى ... وإذا عَطِلن فهنَّ غيرُ عواطِل ) ( وإذا
خبأن خدودَهن أريْننَا ... حدَقَ المها وأجَدْنَ سهم القاتلِ ) ( ورمينَني
لاّ يستترن بجُنّة ... إلا الصِّبا وعَلمْن أين مَقاتلي ) ( يلبسَن
أرديةَ الشباب لأهلِهَا ... ويجرُّ باطلُهنَّ حبلَ الباطلِ ) الغناء
في هذه الأبيات الأربعة لابن سريج ثاني ثقيل بالوسطى من رواية يحيى المكي وذكر
الهشامي أنه من منحول يحيى المكي إلى ابن سريج ( بيضُ
الأُنوق كأنّهنّ ومن يُرِدْ ... بَيْضَ الأنوق فوكرُها بمعاقلِ ) ( زعم
الغواني أن جهلك قد صحَا ... وسوادَ رأسك فضلُ شَيْب شاملِ ) ( ورآك
أهلُكَ منهمُ ورأيتَهم ... ولقد تكونُ مع الشباب الخاذل ) ( وإذا
تطاولتِ الجبالُ رأَيتَنا ... ولقد تكونُ مع الشباب الخاذل ) ( وإذا
سألت ابنَيْ نزارٍ بيَّنا ... مَجْدي ومنزلتي من ابنَيْ وائلِ ) ( حدِبَتْ
بنو بكر عليَّ وفيهمُ ... كلُّ المكارِم والعديدِ الكَاملِ ) ( خطَروا
ورائي بالقنا وتجمَّعتْ ... منهم قبائلُ أُردِفوا بقبائلِ ) ( إن
الفوارسَ من لُجَيمٍ لم تزَل ... فيهم مهابةُ كلِّ أبيضَ ناعلِ ) ( متعمَّمٍ
بالتاج يسجدُ حولَه ... مِنَ آل هَوذة للمكارم حاملِ ) ( أو
رهط حنظلة الذين رماحُهمْ ... سُمُّ الفوارس حتْف موتٍ عاجلِ ) ( قوم
إذا شَهَرُوا السيوف رأَوْا لها ... حقاًّ وَلم يك سَلُّها للباطلِ ) ( ولئن
فخرْتُ بهم لمثلِ قَديمهم ... بسَطَ المُفاخر للَّسان القائلِ ) ( أولاد
ثعلبة الذين لِمثلِهم ... حِلْم الحليم وردُّ جهلِ الجاهلِ ) ( ولَمَجْدُ
يشكرَ سَوْرةٌ عاديَّةٌ ... وأَب إذا ذكروه ليس بخاملِ ) ( وَبنو
القدارِ إذا عددْتَ صنيعَهم ... وضَح القديمُ لهم بكل مَحافلِ ) ( وإذا
فخرْتَ بتغلبَ ابنةِ وائل ... فاذكر مكارمَ من ندىً وشمائل ) ( ولتغلبَ
الغلباء عزٌّ بيِّنٌ ... عاديَّة ويزيد فوقَ الكَاهلِ ) ( تسطو
على النُّعمان وابنِ محرِّق ... وابني قَطامِ بعِزَّة وتناوُلِ ) ( بالمقربات
يبِتْنَ حول رحالِهم ... كالقِدِّ بعد أَجلّة وصواهل ) ( أولاد
أعوجَ والصريح كأنَّها ... عِقبانُ يوم دُجُنَّةٍ ومخَايل ) ( يلقِطنَ
بعد أزومِهنَّ على الشَّبا ... عَلَق الشيكمُ بألسُن وجحافل ) ( قوم
هم قتلوا ابن هندٍ عَنْوة ... وقنا الرماح تذودُ وِرْدَ الناهلِ ) ( منهم
أَبو حَنَشٍ وكان بكفِّه ... رِيُّ السِّنان وريُّ صدرِ العاملِ ) ( ومُهلهِل
الشعراء إن فخَروا به ... ونَدى كُلَيْبٍ عند فضلِ النائلُ ) ( حَجَب
المنيَّةَ دون واحد أمِّه ... من أن تبيتَ وصدرُها ببلابلِ ) ( كفى
مجالسة السِّبابِ فلم يكنْ ... يُستبُّ مجلُسُه وحقِّ النازلِ ) ( حتى
أجارَ على الملوك فلم يدعْ ... حَرِباً ولا صَعِراً لرأس مائلِ ) ( في
كل حيّ للهذيل ورهطِه ... نَعَم وأخذُ كريمةٍ بتناولِ ) ( بيضٌ
كرائمُ ردَّهن لَعنوة ... أسلُ القَنا وأُخذنَ غيرَ أراملِ ) ( أبناؤهنَّ
من الهُذيل ورهطه ... مثلُ الملوك وعشنَ غيرَ عواملِ ) وقال
أبو عمرو أيضاً قال العديل لرجل من موالي الحجاج كان وجهه في جيش إلى بني عجل يطلب
العديل حين هرب منه فلم يقدر عليه فاستاق إبله وأحرق بيته وسلب امرأته وبناته وأخذ
حليهن فدخل العديل يوماً على الحجاج ومولاه هذا بين يديه واقف فتعلق بثوبه وأقبل
عليه وأنشأ يقول صوت ( سلبتَ
بناتي حَلْيَهنّ فلم تدعْ ... سِواراً ولاَ طوْقاً على النَّحر مُذهبا ) هكذا
في الشعر سلبت بناتي والغناء فيه سلبت الجواري حليهن ( وما
عزَّ في الآذان حتى كأنما ... تُعطِّل بالبيض الأوَانسَ رَبربا ) ( عواطلُ
إلا أن ترى بخدودها ... قسامةَ عِتق أوَ بناناً مُخضَّبا ) ( فككتَ
البُرينَ عن خِدال ... كأَنها بَراديُّ غِيلٍ ماؤه قد تنضّبا ) ( من
الدُّر والياقوتِ عن كل حُرَّةٍ ... ترى سِمطَهَا بين الجُمانِ مُثقَّبا ) ( دَعَوْن
أَميرَ المؤمنين فلم يُجب ... دعاءً ولم يُسمعنَ أُماًّ وَلا أباَ ) غنى
في الأول والرابع من هذه الأبيات أحمد النصيبي الهمذاني ثان ثقيل بالسبابة في مجرى
الوسطى عن إسحاق وفيهما ثقيل أول بالسبابة والوسطى نسبه ابن المكي إلى عبد الرحيم
الدفاف ونسبه الهشامي إلى عبد الله بن العباس شماتته بعدو له أصيب في أنفه وقال
أبو عمرو الشيباني أصاب رجل من رهط العُديل من بني العكابة أنف رجل من بني عجل
يقال له جبار فقال العديل في ذلك وكان عدواً له ( ألم
تر جبَّاراً ومارِنَ أنفه ... له ثُلَمٌ يهويْن أن يتنخَّعا ) ( ونحنُ
جَدَعْنا أنفَه فكأنما ... يَرَى الناسَ أعداء إذا هو أَطلَعا ) ( كُلُوا
أنفَ جَبّار بِكاراً فإنما ... تركناه عن فَرطٍ من الشّرِّ أجدعا ) ( معاقد
من أيديهمُ وأنوفهمْ ... بكاراً ونيباً تركبُ الحَزْن ظُلَّعا ) قال
وكان رجل من رهط العديل أيضا ضرب يد وكيع أحد بني الطاغية وهما يشربان فقطعها
وافترقا ثم هرب العديل وأبوه إلى بني قيس بن سعد لما قال الشعر الأول يفخر بقطع
أنف جبار ويد وكيع لأنهم حلفوا أن يقطعوا أنفه ويده دون من فعل ذلك بهم فلجأ إلى
عفير بن جبير بن هلال بن مرة بن عبد الله بن معاوية بن عبد بن سعد بن جشم بن قيس
بن عجل فقال العديل في ذلك ( تركتُ
وكيعاً بعد ما شاب رأسُه ... أشلَّ اليمين مستقيمَ الأخادِع ) ( فَشَرِّب
بها وُرْقَ الإِفال وكُل بها ... طعامَ الذليل وانجَحِر في المخَادِع ) فقالت
بنو قيس بن سعد للفرخ أبي العديل يا فرخ أنصف قومك وأعطهم حقهم فركب إليهم الفرخ
ومعه حسان بن وقاف ودينار رجلان من بني الحارث فأسرته بنو الطاغية وانتزعوه من
الرجلين وتوجهوا به نحو البصرة فرجع حسان ودينار إلى قومهما مستنفرين لهم فركب
النفير في طلب بني الطاغية فأدركوا منهم رجلاً فأسروه بدل الفرخ ثم إن عفيراً لحق
بهم فاشترى منهم الجراحة بسبعين بعيراً وأخذ الفرخ منهم فأطلقه فقال العديل في ذلك
( ما زال في قيسِ بن سعد لجارهمْ ...
على عهدِ ذي القرنين مُعْطٍ ومانعُ ) ( هم
استنقذوا حسَّانَ قسراً وأنتُمُ ... لِئام المقام والرماحُ شوارعُ ) ( غدرتم
بدينارِ وحسَّان غَدرةً ... وبالفَرخ لما جاءكم وهو طائعُ ) ( فلولا
بنو قيسِ بن سعد لأصبحَتْ ... عليَّ شداداً قَبضُهنَّ الأصابعُ ) ( ألا
تسأَلون ابن المشَتَّم عنهُم ... جُعامةَ والجيرانُ وافٍ وظالع ) أخبرني
جعفر بن قدامة قال حدثنا الريّاشي عن الأصمعيّ قال قال أبو النجم للعديل بن الفرخ
أرأيت قولك ( فإن
تك من شيبانَ أُمِّي فإنّني ... لأَبيضُ عجليٌّ عريضُ المَفارقِ ) أكنت
شاكا في نسبك حين قلت هذا فقال له العديل أفشككت في نفسك أو شعرك حين قلت ( أنا
أبو النجم وشعري شعري ... لِلَّهِ دَرِّي ما يُجِنُّ صدري ) فأمسك
أبو النجم واستحيا العديل ومالك بن مسمع أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال
حدثنا الرياشي عن العتبي قال حمل زياد إلى معاوية مالاً من البصرة ففزعت تميم
والأزد وربيعة إلى مالك بن مسمع وكانت ربيعة مجتمعة عليه كاجتماعها على كليب في
حياته واستغاثوا به وقالوا يحمل المال ونبقى بلا عطاء فركب مالك في ربيعة واجتمع
الناس إليه فلحق بالمال فرده وضرب فسطاطاً بالمربد وأنفق المال في الناس حتى وفاهم
عطاءهم ثم قال إن شتم الآن أن تحملوا فاحملوا فما راجعه زياد في ذلك بحرف لما ولي
حمزة بن عبد الله بن الزبير البصرة جمع مالاً ليحمله إلى أبيه فاجتمع الناس إلى
مالك واستغاثوا به ففعل مثل فعله بزياد فقال العديل بن الفرخ في ذلك ( إذا
ما خَشينا من أميرٍ ظُلامة ... دعونا أبا غسَّانَ يوماً فعسكرا ) ( ترى
الناسَ أَفواجاً إلى باب دارِه ... إذا شاء جاؤوا دَارِعِينَ وحُسَّرَا ) وأول
هذه القصيدة ( أمن
منزلٍ من أم سَكْن عشيَّةً ... ظلِلْتُ به أبكي حزيناً مُفكِّرا ) معي
كلّ مُسترخي الإِزار كأّنه ... إذا ما مشى من جنِّ غِيل وعَبقَرا ) ( يُزجِّي
المَطَايا لا يبالي كليُهما ... مُقلصًّة خُوصاً من الأيْن ضُمَّرا ) الفرزدق
يقول العديل شاعر بكر بن وائل أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن
أبي سعد قال حدثني علي بن الحسن الشيباني قال حدثني عبدة بن عصمة بن معبد القيسي
قال حدثني جدي أبو أمي فراس بن خندف عن أبيه عن جده علي بن شفيع قال لقيت الفرزدق
منصرفه عن بكر بن وائل فقلت له يا أبا فراس من شاعر بكر بن وائل ممن خلفته خلفك
قال أميم بني عجل يعني العديل بن الفرخ على أنه ضائع الشعر سروق للبيوت أخبرني
جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي عن إسحاق عن الهيثم بن
عدي عن حماد الراوية قال لما قدم الحجاج العراق قال العديل بن الفرخ ( دعوا
الجُبنَ يا أهل العراق فإنَّما ... يُهان ويُسبَى كلُّ من لا يقاتلُ ) ( لقد
جرَّد الحجاجُ لِلحقَّ سيفَه ... ألا فاستقيموا لا يميلنَّ مائلُ ) ( وخافوه
حتى القومُ بينَ ضُلوعهم ... كَنَزْوِ القطا ضُمَّتْ عليه الحبائلُ ) ( وأصبح
كالبازي يقلِّبُ طرفَه ... على مرقب والطيرُ منه دواحلُ ) قال
فقال الحجاج وقد بلغته لأصحابه ما تقولون قالوا نقول إنه مدحك فقال كلا ولكنه حرض
علي أهل العراق وأمر بطلبه فهرب وقال ( أُخوَّفُ
بالحجاج حتى كأنما ... يُحرَّكُ عَظْم في الفؤاد مَهيضُ ) ( ودون
يَدِ الحَجَّاج من أن تنالَني ... بِساطٌ لأيدي الناعجات عَرِيضُ ) ( مهامه
أشباه كأنَّ سَرابَها ... مُلاّءٌ بأّيدي الغاسلات رَحيضُ ) فجد
الحجاج في طلبه حتى ضاقت عليه الأرض فأتى واسطاً وتنكر وأخذ رقعة بيده ودخل إلى
الحجاج في أصحاب المظالم فلما وقف بين يديه أنشأ يقول ( هأَنذا
ضاقتْ بيَ الأرض كلُّها ... إِليكَ وقد جوَّلْتُ كلَّ مكان ) ( فلو
كنتُ في ثَهلان أو شُعبتَيْ أجاً ... لخلتُكَ إلا أن تُصَدَّ تَراني ) فقال
له الحجاج العديل أنت قال نعم أيها الأمير فلوى قضيب خيزران كان في يده في عنقه
وجعل يقوله إيه ( بساط
لأيدي الناعجات عريض ... ) فقال
لا بساط إلا عفوك قال اذهب حيث شئت أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد
بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال كان حوشب بن
يزيد بن الحويرث بن رويم الشيباني وعكرمة بن ربعي البكري يتنازعان الشرف ويتباريان
في إطعام الطعام ونحر الجزر في عسكر مصعب وكاد حوشب يغلب عكرمة لسعة يده قال وقدم
عبد العزيز بن يسار مولى بجير قال وهو زوج أم شعبة الفقيه بسفائن دقيق فأتاه عكرمة
فقال له الله الله في قد كاد حوشب أن يستعليني ويغلبني بماله فبعني هذا الدقيق
بتأخير ولك فيه مثل ثمنه ربحاً فقال خذه وأعطاه إياه فدفعه إلى قومه وفرقه بينهم
وأمرهم بعجنه كله فعجنوه كله ثم جاء بالعجين كله فجمعه في هوة عظيمة وأمر به فغطي
بالحشيش وجاء برمكة فقربوها إلى فرس حوشب حتى طلبها وأفلت ثم ركضوها بين يديه وهو يتبعها
حتى ألقوها في ذلك العجين وتبعها الفرس حتى تورطا في العجين وبقيا فيه جميعاً وخرج
قوم عكرمة يصيحون في العسكر يا معشر المسلمين أدركوا فرس حوشب فقد غرق في خميرة
عكرمة فخرج الناس تعجباً من ذلك أن تكون خميرة يغرق فيها فرس فلم يبق في العسكر
أحد إلا ركب ينظر وجاؤوا إلى الفرس وهو غريق في العجين ما يبين منه إلا رأسه وعنقه
فما أخرج إلا بالعمد والحبال وغلب عليه عكرمة وافتضح حوشب فقال العديل بن الفرخ
يمدحهما ويفخر بهما ( وعكرِمةُ
الفيّاض فينا وَحوشَبٌ ... هما فتيا الناسِ اللَّذا لم يغمَّرا ) ( هما
فتيا الناسِ اللذا لم ينَلْهما ... رئيسٌ ولا الأقيالُ من آل حِمْيَرا ) قال
وفي حوشب يقول الشاعر ( وأجوَدُ
بالمال من حاتم ... وأنحرُ للجزْر من حَوشَبِ ) غزله
بين السهل والفحل أخبرني محمد بن يونس الكاتب قال حدثنا أحمد بن عبيد عن الأصمعي
قال دخلت على الرشيد يوماً وهو محموم فقال أنشدني يا أصمعي شعراً مليحاً فقلت أرصينا
فحلاً تريده يا أمير المؤمنين أم شجياً سهلاً فقال بل غزلاً بين الفحل والسهل
فأنشدته للعديل بن الفرخ العجلي ( صحا
عن طِلاب البِيض قبل مَشيبه ... وراجع غَضَّ الطرف فهو خَفيضُ ) ( كأنِّي
لم أرعَ الصَّبا ويروقُني ... من الحيّ أحْوى المقلتين غَضيضُ ) ( دَعاني
له يوماً هوًى فأجابَه ... فُؤادٌ إذا يلقى المِراضَ مريضُ ) ( لمُستأنساتِ
بالحديثِ كأنَّه ... تهلُّلُ غُرٍّ بَرْقُهنَّ وَميضُ ) فقال
لي أعدها فما زلت أكررها عليه حتى حفظها مات فرثاه الفرزدق أخبرني أبو الحسن
الأسدي قال حدثني الرياشي عن محمد بن سلام قال قدم العديل بن الفرخ البصرة ومدح
مالك بن مسمع الجحدري فوصله فأقام بالبصرة واستطابها وكان مقيماً عند مالك فلم يزل
بها إلى أن مات وكان ينادم الفرزدق ويصطحبان فقال الفرزدق يرثيه ( وما
ولَدَتْ مثلَ العُدَيلِ حليلةٌ ... قديماً ولا مستحدثَاتُ الحلائل ) ( وما
زال مذ شَدَّتْ يداه إزاره ... به تَفتَح الأبوابَ بكرُ بن وائلِ ) صوت
( إني بدَهماء عزَّ ما أجدُ ... عاودني من حِبابها زُؤدُ ) ( عاودني
حبُّها وقد شَحَطَتْ ... صرفُ نواها فإنني كَمِدُ ) قوله
عز ما أجد أي شد ما أجد وحبابها حبها وهو واحد ليس بجمع والزؤد الفزع والذعر وصرف
نواها الوجه الذي تصرف إليه قصدها إذا نأت والكمد شدة الحزن الشعر لصخر الغي
الهذلي هكذا ذكر الأصمعي وأبو عمرو الشيباني وذكر إسحاق عن أبي عبيدة أنه رأى
جماعة من شعراء هذيل يختلفون في هذه القصيدة فيرويها بعضهم لصخر الغي ويرويها
بعضهم لعمرو ذي الكلب وأن الهيثم بن عدي حدثه عن حماد الراوية أنها لعمرو ذي الكلب
أخبار صخر الغي ونسبه هو صخر بن عبد الله الخيثمي أحد بني خيثم بن عمرو بن الحارث
بن تميم بن سعد بن هذيل هذا أكثر ما وجدته من نسبه ولقب بصخر الغي لخلاعته وشدة
بأسه وكثرة شره مناسبة قصيدة له فمن روى هذه القصيدة له ذكر أن السبب فيها أن
جاراً لبني خناعة بن سعد بن هذيل من بني الرمداء كان جاورهم رجل من بني مزينة وقيل
إنه كان جاراً لأبي المثلم الشاعر وهو أخوهم فقتله صخر الغي فمشى أبو المثلم إلى
قومه وبعثهم على مطالبته بدم جارهم المزني والإدراك بثأره فبلغ ذلك صخراً فقال هذه
القصيدة يذكر أبا المثلم وما فعله فأولها البيتان اللذان فيهما الغناء وفيها يقول ( وَلستُ
عبداً للموعِدينَ ولا ... أَقبلُ ضَيماً أتىَ به أحدُ ) ( جاءت
كبيرٌ كيما أخفِّرَها ... والقوم صِيدٌ كأَنهم رَمِدوا ) ( في
المزنيّ الذي حششتُ به ... مالَ ضَريك تِلادُه نَكِدُ ) ( إن
أمتسِكْه فبالفِداء وإن ... أُقتل بسيفي فإنه قَوَدُ ) ولصخر
وأبي المثلم في هذا مناقضات وقصائد قالاها وأجاب كل واحد منهما صاحبه يطول ذكرها
وليس من جنس هذا الكتاب كان أخوه الاعلم أحد صعاليك هذيل وحكى الاثرم عن أبي عبيدة
أنه حدث عن عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال كان الأعلم أخو صخر الغي أحد صعاليك
هذيل وكان يعدو على رجليه عدواً لا يلحق واسمه حبيب بن عبد الله فخرج هو وأخواه
صخر وصخير حتى أصبحوا تحت جبل يقال له السطاع في يوم من أيام الصيف شديد الحر وهو
متأبط قربة لهم فيها ماء فأيبستها السموم وعطشوا حتى لم يكادوا أن يبصروا من العطش
فقال الأعلم لصاحبيه أشرب من القربة لعلي أن أرد الماء فأروى منه وانتظراني
مكانكما وكانت بنو عدي بن الديل على ذلك الماء وهو ماء الأطواء يتفيؤون بنخل متأخر
عن الماء قدر رمية سهم فأقبل يمشي متلثماً وقد وضع سيفه وقوسه ونبله فيما بينه
وبين صاحبه فلما برز للقوم مشى رويداً مشتملاً فقال بعض القوم من ترون الرجل
فقالوا نراه بعض بني مدلج بن مرة ثم قالوا لبعضهم الق الفتى فاعرفه فقال لهم ما
تريدون بذلك الرجل هو آتيكم إذا شرب فدعوه فليس بمفيتنا فأقبل يمشي حتى رمى بأرسه
في الحوض مدبراً عنهم بوجهه فلما روي أفرغ على رأٍسه من الماء ثم أعاد نقابه ورجع
في طريقه رويداً فصاح القوم بعبد لهم كان على الماء هل عرفت الرجل الذي صدر قال لا
فقالوا فهل رأيت وجهه قال نعم هو مشقوق الشفة فقالوا هذا الأعلم وقد صار بينه وبين
الماء مقدار رمية سهم آخر فعدوا في أثره وفيهم رجل يقال له جذيمة ليس في القوم
مثله عدواً فأغروه به وطردوه فأعجزهم ومر على سيفه وقوسه ونبله فأخذه ثم مر
بصاحبيه فصاح بهما فضبرا معه فأعجزوهم فقال الأعلم في ذلك ( لما
رأيت القومَ بالعَلْياء ... دون قِدى المناصبْ ) ( وفَرِيتُ
من فزعٍ فلا ... أَرْمى ولا ودَّعتُ صاحبْ ) ( يُغرون
صاحبهم بِنا ... جَهداً وأُغري غيرَ كاذبْ ) ( أُغري
أخي صخرا ليُعْجِزهم ... ومَدُّوا بالحلائبْ ) ( وخشيتُ
وقعَ ضريبةٍ ... قد جُرِّبتْ كلَّ التجاربْ ) ( فأَكونُ
صيدَهُم بها ... وأَصير للضُّبع السَّواغبْ ) ( جَزَراً
وللطير المُربَّة ... والذئابِ وللثَّعالبْ ) وهي
قصيدة طويلة صوت صخر يرثي أخاه وقالوا جميعاً خرج صخر الغي وأخوه أبو عمرو في غزاة
لهما فباتا في أرض رملة فنهشت أخاه أبا عمرو حية فمات فقال يرثيه ( لعمرُ
أبي عمرو لقد ساقه المنَا ... إلى جَدَثٍ يُوزَى لهُ بالأهاضِبِ ) ( لحيّةِ
جُحرٍ في وجار مقيمةٍ ... تنمَّى بها سوقُ المنَا والجوالبِ ) ( أخي
لا أخَا لي بعْده سبقتْ به ... منيَّتُه جمعَ الرُّقى والطبائبِ ) ( وذلك
مما يُحدث الدهرُ إنه ... له كل مطلوبٍ حثيثٍ وطالبِ ) يوزى
له يمنى له والإزاء مهراق الدلو والأهاضب الجبال وقال الأثرم عن أبي عبيدة خرج صخر
الغي في طائفة من قومه يقدمها خوفاً من أبي المثلم فأغار على بني المصطلق من خزاعة
فانتظر بقية أصحابه ونذرت به بنو المصطلق فأحاطوا به فقال ( لو
أن أصحابي بَنُو معاويه ... أهلُ جُنوب النخلة الشَّاميه ) ( ورهطُ
دُهمانٍ ورَهطُ عاديه ... ما تركوني للذئاب العاويهْ ) وجعل
يرميهم ويرتجز ويقول ( لو
أن أصحابي بنُو خُناعَهْ ... أهلُ النَّدى والمجدِ والبرَاعهْ ) ( تحتَ
جلود البَقر القرَّاعه ... لمنعوا من هذه اليراعه ) شعره
وهو يقاتل حتى قتل وقال أيضا وهو يقاتلهم ( لو
أني حولي من قُريمٍ رَجْلاً ... بيضَ الوجوه يحمِلونَ النَّبلا ) ( لمنعوني
نَجدة وَرِسْلا ... سفع الوجوه لم يكونوا عُزْلا ) يقول
منعوني بنجدة وشدة وعلى رسلهم بأهون سعي قال فلم يزل يقاتلهم حتى قتلوه وبلغ ذلك
أبا المثلم فقال يرثيه ( لو
كان للدهر مالٌ عند مُتلده ... لكَان للدَّهر صخرٌ مالَ قُنْيَانِ ) ( آبي
الهضيمة آت بالعظيمة مِتْلاف ... الكريمة لا سقط ولا واني ) ( حامي
الحقيقة نسّالُ الوديقة مِعتاقُ ... الوسيقة جَلْدٌ غير ثِنْيانِ ) ( رَقّاء
مرقَبة منَّاعُ مَغلبةٍ ... ركَّابُ سُلهبة قطاعُ أقَرانِ ) ( هباطُ
أوديةٍ شهَّادُ أنديةٍ ... حمَّالُ ألوية سِرحانُ فِتيانِ ) السرحان
الأسد في لغة هذيل وفي كلام غيرهم الذئب ( يحمي
الصحابَ إذا جدَّ الضِّرابُ ويكْفي ... القائلينَ إذا ما كُبِّلَ العَاني ) ( فيترك
القِرنَ مصفَرًّا أناملُه ... كأنَّ في رَيْطتَيه نضخَ إرقانِ ) الإرقان
اليرقان يعني صفرته ( يعطيكَ
ما لا تكاد النفسُ تسلِمُه ... من التلادِ وهوبٌ غيرُ مَنَّانِ ) نسب
عمرو ذي الكلب وأخباره هو عمرو بن العجلان بن عامر بن برد بن منبه أحد بني كاهل بن
لحيان بن هذيل قال السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي إنما سمي ذا الكلب لأنه
كان له كلب لا يفارقه وعن الأثرم عن أبي عبيدة أنه قال لم يكن له كلب لا يفارقه
إنما خرج غازياً ومعه كلب يصطاد به فقال له أصحابه يا ذا الكلب فثبتت عليه قال ومن
الناس من يقول له عمرو الكلب ولا يقول فيه ذو قال وكان يغزو بني فهم غزواً متصلاً
فنام ليلة في بعض غزواته فوثب عليه نمران فأكلاه فادعت فهم قتله هكذا في هذه
الرواية خبره مع أم جليحة وقد أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري
عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة عن ابن الأعرابي عن المفضل وغيرهم من
الرواة قالوا كان من حديث عمرو ذي الكلب الهذلي وكان من رجالهم أنه كان قد علق
امرأة من فهم يقال لها أم جليحة فأحبها وأحبته وكان أهلها قد وجدوا عليها وعليه وطلبوا
دمه إلى أن جاءها عاماً من ذلك فنذروا به فخرجوا في أثره وخرج هارباً منهم فتبعوه
يومهم ذلك وهم على أثره حتى أمسى وهاجت عليه ريح شديدة في ليلة ظلماء فبينا هو
يسير على ظهر الطريق إذ رأى ناراً عن يمينه فقال أخطأت والله الطريق وإن النار
لعلى الطريق فحار وشك وقصد للنار حتى أتاها وقد كان يصيح فإذا رجل قد أوقد ناراً
ليس معه أحد فقال له عمرو ذو الكلب من أنت قال أنا رجل من عدوان قال فما اسم هذا
المكان قال السد فعلم أنه قد هلك وأخطأ والسد شيء لا يجاوز قال ويلك فلم أوقدت
فوالله ما تشتوي ولا تصطلي وما أوقدت إلا لمنية عمرو الشقي هل عندك شيء تطعمني قال
نعم فأخرج له ثمرات قد نقاها في يده فلما رآها قال ثمرات تتبعها عبرات من نساء
خفرات ثم قال اسقني قال ماذا ألبناً قال لا ولكن اسقني ماء قراحاً فإني مقتول صباحاً
ثم انطلق فأسند في السد ورأى القوم الذين جاؤوا في طلبه أثره حيث أخطأ فاتبعوه حتى
وجدوه فدخل غاراً في السد فلما ظهروا للسد علموا أنه في الغار فنادوه فقالوا يا
عمرو قال ما تشاؤون قالوا اخرج قال فلم دخلت إذن قالوا بلى فاخرج قال لا أخرج
قالوا فأنشدنا قولك ( وَمقعدِ
كُربةٍ قد كنتُ مِنها ... مكان الإِصبعين من القِبال ) قال
ها هي ذه أنا فيها قال وعن له رجل من القوم فرماه عمرو فقتله فقالوا أقتلته يا عدو
الله فقال أجل ولقد بقيت معي أربعة أسهم كأنها أنياب أم جليحة لا تصلون إلي أو
أقتل بكل سهم منها رجلاً منكم فقالوا لعبدهم يا أبا نجاد ادخل عليه وأنت حر فتهيأ
للدخول أبو نجاد عليه فقال له عمرو ويلك يا أبا نجاد ما ينفعك أن تكون حراً إذا
قتلتك فنكص عنه فلما رأوا ذلك صعدوا فنقبوا عليه ثم رموه حتى قتلوه وأخذوا سلبه
فرجعوا به إلى أم جليحة وهي تتشوف فلما رأوها قالوا لها يا أم جليحة ما رأيك في
عمرو قالت رأيي والله أنكم طلبتموه سريعاً ووجدتموه منيعاً ووضعتموه صريعاً فقالوا
والله لقد قتلناه فقالت والله ما أراكم فعلتم ولئن كنتم فعلتم لرب ثدي منكم قد
افترشه وضب قد احترشه فطرحوا إليها ثيابه فأخذتها فشمتها فقالت ريح عطر وثوب عمرو أما
والله ما وجدتموه ذا حجزة جافية ولا عانة وافية ولا ضالة كافية اخته ريطة ترثيه
وقالت ريطة أخت عمرو ذي الكلب ترثيه ( كل
امرئٍ لمحال الدهر مكروبُ ... وكلّ من غالبَ الايامَ مغلوبُ ) ( وكلُّ
حيٍّ وإن غزوا وإن سِلِموا ... يومَا طريقُهمُ في الشَّرِّ دعبوبُ ) ( أبلغْ
هذيلاً وأبلغ مَنْ يُبلِّغُها ... عنّي رِسولاً وبعضُ القول تكذيبُ ) ( بأنّ
ذا الكلبِ عَمْراً خيرهم نسباً ... ببطن شِريان يعوي حولَه الذيبُ ) ( الطاعنُ
الطعنةّ النجلاءَ يتبَعُها ... مُثْعنجِرٌ من نَجيع الجوفِ أُسكوبُ ) ( والتاركُ
القِرنَ مصفرّاً أناملُه ... كأنة من نقيع الْوَرْس مخضوبُ ) ( تَمشي
النسورُ إليه وهي لاهيةٌ ... مَشْيَ العذارى عليهِنَّ اَلجلابيبُ ) ( والمخرجُ
العاتقَ العذْراء مُذعنةً ... في السَّبي ينفحُ من أرْدانها الطيبُ ) صوت
( يا دارَ عمرةَ مِن مُحْتلِّها الجَرَعا ... هاجتْ لِي الهمَّ والأحزانَ والوجَعا ) ( أرى
بعيني إذا مالت حَمولِتُهمْ ... بطن السلَوْطِح لا ينظُرون من تبعا ) ( طوراً
أراهم وطوراً لا أبِينُهُمُ ... إذا تَرَفّع حِدْجٌ ساعة لمعا ) الشعر
للقيط الأياديّ ينذر قومه قصد كسرى لهم والغناء لكردم بن معبد هزج بالبنصر من
روايتي حبش والهشامي خبر لقيط ونسبه والسبب في قوله الشعر هو لقيط بن يعمر شاعر
جاهلي قديم مقل ليس يعرف له شعر غير هذه القصيدة وقطع من الشعر لطاف متفرقة سبب
غزو كسرى لإياد أخبرني بخبر هذا الشعر عمي قال حدثني القاسم بن محمد الأنباري قال
حدثني أحمد بن عبيد قال حدثني الكلبي عن الشرقي بن القطامي قال كان سبب غزو كسرى
إياداً أن بلادهم أجدبت فارتحلوا حتى نزلوا بسنداد ونواحيها فأقاموا بها دهراً حتى
أخصبوا وكثروا وكانوا يعبدون صنماً يقال له ذو الكعبين وعبدته بكر بن وائل من
بعدهم فانتشروا ما بين سنداد إلى كاظمة والى بارق والخورنق واستطالوا على الفرات
حتى خالطوا أرض الجزيرة ولم يزالوا يغيرون على ما يليهم من أرض السواد ويغزون ملوك
آل نصر حتى أصابوا امرأة من أشراف العجم كانت عروساً قد هديت إلى زوجها فولي ذلك
منها سفهاؤهم وأحداثهم فسار إليهم من كان يليهم من الأعاجم فانحازت إياد إلى
العراق وجعلوا يعبرون إبلهم في القراقير ويقطعون بها الفرات وجعل راجزهم يقول ( بئس
مناخُ الحلَقات الدُّهْم ... في ساحة القُرقور وسط اليَمِّ ) وعبروا
الفرات وتبعهم الأعاجم فقالت كاهنة من إياد تسجع لهم ( إن
يقتلوا منكم غلاماً سِلْما ... أو يأخذوا ذاك شَيخاً هِمَّا ) ( تُخضِّبوا
نحورَهم دَمَّا ... وتُرووا منهم سُيوفاً ظُمّا ) فخرج
غلام منهم يقال له ثواب بن محجن بإبل لأبيه فلقيته الأعاجم فقتلوه وأخذوا الإبل
ولقيتهم إياد في آخر النهار فهزمت الأعاجم قال وحدثني بعض أهل العلم أن إيادا بيتت
ذلك الجمع حين عبروا شط الفرات الغربي فلم يفلت منهم إلا القليل وجمعوا به جماجمهم
وأجسادهم فكانت كالتل العظيم و كان إلى جانبهم دير فسمي دير الجماجم و بلغ كسرى
الخبر فبعث مالك بن حارثة أحد بني كعب بن زهير بن جشم في آثارهم ووجه معه أربعة
آلاف من الأساورة فكتب إليهم لقيط ( يا
دارَ عمرةَ من مُحتلّها الجَزَعا ... هاجتْ لي الهَّم والأحزانَ والوجعا ) وفيها
يقول قال الشرقي بن القطامي أنشدنيها أبو حمزة الثمالي ( يا
قام لا تأمنوا أن كنتُم غُيُراً ... على نسائكم كِسرى وما جَمَعا ) ( هو
الجلاءُ الذي تبقى مذلَّتُه ... إن طار طائركم يوماً وإن وقَعا ) ( هو
الفَناء الذي يجتثُّ أَصلكُم ... فمن رأَى ذا رأياً ومَنْ سَمِعا ) ( فقلِّدوا
أمركم لله دّرُّكُم ... رَحْبَ الذراع بأمر الحَرْب مُضْطَلِعا ) ( لا
مترَفاً إن رخاءُ العيش ساعده ... ولا إذا حلَّ مكروه به خَشَعا ) ( لا
يَطعَم النومَ إلا ريثَ يبعثُه ... همٌّ يكادُ حَشاه يقطَع الضَّلَعا ) ( مسهَّدُ
النوم تَعنِيه ثُغوركُمُ ... يرومُ منها إلى الأعداء مُطَّلَعا ) ( ما
انفكَّ يحلُبُ هذا الدهرَ أشطرَه ... يكون متَّبِعاً طوراً ومتَّبعا ) ( فليس
يشغله مالٌ يُثَمِّره ... عنكمْ ولا ولد يَبغي له الرَّفعَا ) ( حتى
استمرَّتْ على شزْرٍ مريرتُه ... مستحكِمَ السنّ لا قحْماً ولا ضَرَعا ) ( كمالِكِ
بن قِنان أو كصاحبه ... زيدِ القنا حين لاقى الحارِثيْنِ مَعَا ) ( إذ
عابه عائبٌ يوماً فقال له ... دمِّث لجنبكَ قبلَ الليل مُضطَجَعا ) ( فساوَرُوه
فأَلفَوْْه أخا عَلَلٍ ... في الحرب يَخْتتِلُ الرئبال وَالسَّبُعا ) ( عبلَ
الذراع أبِياًّ ذَا مُزابَنةٍ ... في الحرب لا عاجزاً نكْساً ولا وَرَعا ) ( مستنجداً
يتحدّى الناسَ كلَّهمُ ... لو صارعوه جميعاً في الوَرى صَرَعا ) ( هذا
كتابي إليكُمْ و النذير لكمْ ... لمن رأى الرأي بالإِبرام قد نَصَعا ) ( وقد
بذلت لكم نُصْحي بلا دَخَلِ ... فاسيقظوا إنّ خيرَ العلم ما نَفَعا ) وجعل
عنوان الكتاب ( سلام
في الصَّحِيفة من لَقيطِ ... إلى مَن بالجزيرة من إيادِ ) ( بأن
الليثَ كسرى قد أتَاكمْ ... فلا يحبسكُمُ سوقُ النِّقادِ ) وقعة
مرج الاكم قال وسار مالك بن حارثة التغلبي بالأعاجم حتى لقي إيادا وهم غارون لم
يتلفتوا إلى قول لقيط وتحذيره إياهم ثقة بإن كسرى لا يقدم عليهم فلقيهم بالجزيرة
في موضع يقال له مرج الأكم فاقتتلوا قتالا شديدا فظفر بهم وهزمهم وأنفذ ما كانوا
أصابوا من الأعاجم يوم الفرات ولحقت إياد بأطراف الشأم ولم تتوسطها خوفا من غسان
يوم الحارثين ولاجتماع قضاعة وغسان في بلد خوفا من أن يصيروا يدا واحدة عليهم
فأقاموا حتى أمنوا ثم إنهم تطرفوهم إلى أن لحقوا بقومهم ببلد الروم بناحية أنقرة
ففي ذلك يقول الشاعر ( حلُّوا
بأنقرةٍ يسيل عليهمُ ... ماءُ الفُرات يجيءُ من أطواد ) صوت
( اللبينِ يا ليلى جِمالُكِ تُرحَلُ ... ليقْطَعَ منا البينُ ما كان يوصَلُ ) ( تُعلّلُنا
بالوعد ثُمَّت تلتوي ... بموعودها حتى يموتَ المعلَّلُ ) ( ألم
ترَ أنَّ الحّبْلَ أصبحَ واهناً ... وأخلف من ليلّى الذي كنت آمُلُ ) ( فلا
الحبلُ من ليلى يؤُاتيك وصلهُ ... ولا أنت تنْهَى القلب عناه فيَذهلُ ) عروضه
من الطويل الشعر لنصيب الأصغر مولى المهدي و الغناء ليحيى المكي خفيف رمل بالبنصر
وكذا نسبته تدل عليه وذكر عمرو بن بانة في نسخته أن خفيف الرمل لمالك وأنه بالوسطى
والصحيح أنه لابن المكي بسم الله الرحمن الرحيم أخبار نصيب الأصغر نصيب مولى
المهدي عبد نشأ باليمامة واشتُري للمهدي في حياة المنصور فلما سمع شعره قال والله
ما هو بدون نصيب مولى بني مروان فأعتقه وزوجة أمة له يقال لها جعفرة وكناه أبا
الحجناء وأقطعه ضيعة بالسواد وعُمِّر بعده مدحه هارون الرشيد وهذه القصيدة يمدح
بها هارون الرشيد وهي من جيد شعره وفيها يقول ( خليليَّ
إني ما يزالُ يشوقُني ... قَطينُ الحِمىَ والظاعنُ المتحمِّلُ ) ( فأقسمت
لا أنسى لياليَ مَنعِجٍ ... ولا مأسَلٍ إِذ منزلُ الحي مأسَلُ ) ( أمن
أجل آياتٍ ورسم كأنه ... بَقيةَ وحْيٍ أو رداءٌ مُسَلسَلُ ) ( جرى
الدمعُ من عينيكَ حتى كأَنه ... تحدُّر دُرٍّ أو جُمانٌ مُفصَّلُ ) ( فيا
أيها الزنجيُّ مالكَ والصِّبا ... أَفق عن طِلابِ البِيض إِن كنت تعقِلُ ) ( فمثلك
من أُحبوشة الزَّنج قُطِّعت ... وسائلُ أَسبابٍ بها يُتوسَّلُ ) ( قصدنا
أميرَ المؤمنين ودونَه ... مهامِهُ مَوماةٍ من الأرض مَجْهَلُ ) ( على
أرحبيَّاتٍ طوى السيرُ فانطوتْ ... شمائلُها مما تُحَلُّ وتُرحَلُ ) ( إلى
ملكٍ صَلْت الجَبين كأَّنه ... صَفيحَةُ مَسنون جلا عنه صَيْقَلُ ) ( إِذا
أنبلَج البَابانِ والسترُ دونَه ... بَداَ مثل ما يبدو الأََغرُّ المحجَّلُ ) ( شريكانِ
فينا منهُ عينٌ بَصيرة ... كَلوءٌ وقلبٌ حافظ ليسَ يغفُلُ ) ( فما
فاتَ عينْيه وعاهُ بقلبه ... فآخِرُ ما يرعى سواءٌ وأوَّلُ ) ( وما
نازعت فينا أمورَك هفوةٌ ... ولا خَطلة في الرأي والرأْي يَخطَلُ ) ( إذا
اشتبهتْ أَعناقُه بيَّنت له ... معارفُ في أَعجازه وهْو مُقبلُ ) ( لئن
نالَ عبدُ الله قبلُ خِلافةً ... لأنتَ من العهد الذي نِلتَ أَفضلُ ) ( وما
زادكَ العهدُ الذي نلتَ بسطةً ... ولكن بتقوى الله أَنتَ مُسربَلُ ) ( ورثتَ
رسولَ الله عُضْواً ومَفصِلاً ... وذا من رسول اللهِ عُضٌو ومَفصِلُ ) ( إِذا
ما دهتْنا من زمانٍ مُلمَّةٌ ... فليس لنا إلا عليكَ المعوَّلُ ) ( على
ثقةٍ منا تَحِنُّ قلوبُنا ... إِليكَ كما كُنَّا أَباكََ نُؤمِّلُ ) وهي
قصيدة طويلة هذا مختار من جميعها انفق مال المهدي فأوثقه بالحديد أخبرني الحسن بن
علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني
محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني أبي قال وجه المهدي نصيبا الشاعر مولاه إلى
اليمين في شراء إبل مهرية ووجه معه رجلا من الشيعة وكتب معه إلى عامله على اليمن بعشرين
ألف دينار قال فمد أبو الحجناء يده في الدنانير ينفقها في الأكل والشرب وشراء
الجواري والتزويج فكتب الشيعي بخبره إلى المهدي فكتب المهدي في حمله موثقا في
الحديد فلما دخل على المهدي أنشده شعره وقال ( تأوَّبني
ثِقلٌ من الهم مُوجٍعُ ... فأرَّق عَيْني والخَلِيُّون هُجَّعُ ) ( هُموم
تَوالتْ لو أطافَ يَسيرُها ... بِسَلْمَى لظلَّتْ شُمُّها تتصدَّعُ ) ( ولكنَّها
نيطتْ فَناءَ بحملها ... جَهيرُ المنايا حائنُ النفس مجزعُ ) ( وعادتْ
بلادُ الله ظلماءَ حِندِساً ... فخِلتُ دُجى ظلمائها لا تقَشَّعُ ) وهي
قصيدة طويلة يقول فيها ( إليكَ
أميرَ المؤمين ولم أجدْ ... سواك مُجيراً منكَ يُدني ويَمنعُ ) ( تلمّستُ
هل من شافع لي فلم أجدْ ... سوى رحمةٍ أعطاكها اللهُ تَشفعُ ) ( لئن
جلّت الأجرامُ مني وأفظعتْ ... لَعفوُكَ عن جُرمي أجلُّ وأوسعُ ) ( لئن
لم تسعْني يابنَ عمِّ محمد ... لما عجزْت عني وسائلُ أربعُ ) ( طُبِعت
عليها صبغةً ثم لم تَزَلْ ... على صالح الأخلاق والدين تُطبَعُ ) ( تغابيك
عن ذي الذنبِ ترجو صلاحه ... وأنت ترى ما كان يأتي ويصْنَعُ ) ( وعفوكَ
عمَّن لو تكونُ جريمةٌ ... لطارتْ به في الجوّ نكباءُ زَعزَعُ ) ( وأنّك
لا تنفكُّ تُنعِش عاثراً ... ولم تعترضْه حين يكبوا ويخْمَعُ ) ( وحلمكَ
عن ذي الجهل من بعدما جرى ... به عَنَقٌ من طائش الجهلِ أشنع ) ( ففيهنَّ
لي إمّا شَفَعْن منافعٌ ... وفي الأربع الأولى إليهنَّ أَفزَعُ ) ( مناصحتي
بالفعل إن كنت نائياً ... إذا كان دانٍ منك بالقولِِ يَخدَعُ ) ( وثانيةٌ
ظنِّي بك الخيرَ غائباً ... وإن قلتَ عبدٌ ظاهر الغَشِّ مُسبَعُ ) ( وثالثةٌ
أني على ما هَوِيتَه ... وإن كثَّر الأعداءُ فيَّ وشنَّعوا ) ( ورابعةٌ
إليكَ يسوقُني ... ولائي فمولاكَ الذي لا يُضيَّعُ ) ( وإني
لمولاكَ الذي إن جفوتَه ... أتى مستكيناً راهباً يَتَضرَّعُ ) ( وإني
لمولاكَ الضعِيفُ فأَعفِني ... فإني لعفوٍ منكَ أهلٌ وموضعُ ) المهدي
يقبل شفاعته ويزوجه فقطع المهدي عليه الإنشاد ثم قال له ومن أعتقك يابن السوداء
فأومأ بيده إلى الهادي وقال ألأمير موسى يا أمير المؤمنين فقال المهدي لموسى
أعتقته يا بني قال نعم يا أمير المؤمنين فأمضى المهدي ذلك وأمر بحديده ففك عنه
وخلع عليه عدة من الخلع الوشي والخز والسواد والبياض ووصله بألفي دينار وأمر له
بجارية يقال لها جعفرة جميلة فائقة من روقة الرقيق فقال له سالم قيم الرقيق لا
أدفعها إليك أو تعطيني ألف درهم فقال قصيدته ( أَاذنَ
الحيُّ فانصاعوا بترحالِ ... فهاج بينهمُ شوقي وبلبالي ) وقام
بها بين يدي المهدي فلما قال ( ما
زلتَ تبذل لي الأموالَ مجتهداً ... حتى لأصبحتُ ذا أهلٍ وذَا مالِ ) ( زَوَّجْتَنِي
يابنَ خير الناس جاريةً ... ما كان أمثالُها يُهدَى لأمثالِي ) ( زوَّجتَني
بضَّةً بيضاءَ ناعمةً ... كأنَّها درَّة في كفِّ لآلِ ) ( حتى
توهَّمتُ أن اللهَ عجَّلَها ... يابنَ الخلائفِ لي من خيرِ أعمالِي ) ( فسَالَنِي
سالِمٌ ألفاً فقلتُ له ... أني ليَ الألفُ يا قُبِّحتَ مِن سالِ ) أراد
من سائل كما قالوا شاكي السلاح وشائك ( هيهات
أَلفُك إلاّ أن أجيء بها ... من فضل مولًى لطيفِ المَنِّ مِفْضالِ ) فأمر
له المهدي بألف دينار ولسالم بألف درهم رأته ابنته مقيدا فبكت فأنشد قال ابن أبي
سعد وحدثني غير محمد بن عبد الله أنه حبس باليمن مدة طويلة ثم أشخص إلى المهدي
فقال وهو في الحبس ودخلت إليه ابنته حجناء فلما رأت قيوده بكت فقال ( لقد
أصبحتْ حَجناءُ تبكي لوالدٍ ... بِدَرَّة عَين قلَّ عنه غناؤها ) ( أحجناءُ
صبراً كلُّ نفس رهينةٌ ... بموتٍ ومكتوبٌ عليها بَلاؤها ) ( أحجناءُ
أسبابُ المنايا بمرصدٍ ... فإلاَّ يعاجلْ غَدْوُها فمسَاؤها ) ( أحجناءُ
إن أُفلتْ من السجن تَلْقَنِي ... حُتوفُ منايا لا يُرَدُّ قَضاؤها ) ( أحجناءُ
إن أضحى أبوكِ ودلوه ... تعرّت عُراً منها ورثُّ رِشاؤها ) ( لقد
كان يُدْلي في رجالٍ كثيرة ... فيمتَح مَلأى وهي صفرٌ دِلاؤها ) ( أحجناء
إن يصبحْ أبوكِ ونفسُه ... قليلٌ تَمنِّيها قصيرٌ عَزاؤها ) ( لقد
كان في دنيا تفيَّأَ ظِلُّها ... عليه ومجلوبٌ إليه بَهاؤها ) قال
ابن أبي سعد ولما دخل نصيب على المهدي مقيدا رفده ثمامة بن الوليد العبسي عنده
واستعطفه له وسوغ عذره عنده ولم يزل يرفق به حتى أمر بإطلاقه وكان نصيب في متقدم
الأيام منقطعا إلى أخيه شيبة فقال فيه شعره في مدح ثمامة العبسي ( أُثمامُ إنك قد
فككت ثُماما ... حَلَقا بريْن من النُّصيب عظاما ) ( حَلَقا
توسَّطها العمودُ فلزَّها ... لولا ثمامةُ والإلهُ لداما ) ( اللهُ
أنقذني به من هُوَّةٍ ... تيهاءَ مُهلكةٍ تكونُ رِجاما ) ( فلأشكرنَّك
يا ثمامةُ ما جرتْ ... فِرقُ السحاب كَنَهْوراً ورُكاما ) ( ولاشكرنَّك
يا ثمامةُ ما دعتْ ... وُرقُ الحمام على الغُصون حَماما ) ( وخلفْتَ
شيبةَ في المقام ولا أرى ... كمقام شيبةَ في الرجال مَقاما ) ( أغنَى
إذا التمس الرجالُ غنَاءه ... في كلِّ نازلةٍ تكون غَراما ) ( وأعمُّ
منفعةً وأكرمُ حائطا ... تهدِي إليه تحيَّة وسلاما ) ( لا
يبعدَنَّ ابنُ الوليد فإِنه ... قد نال من كل الأمورِ جِساما ) ( لو
مِن سوى رَهط النبيِّ خليفةٌ ... يُدعَى لكان خليفةً وإِماما ) قال
ابن أبي سعد ودخل نصيب على ثمامة بعد وفاة أخيه شيبة وهو يفرق خيله على الناس فأمر
له بفرس منها فأبى أن يقبله وبكى ثم قال ( يا
شيبَة الخيرِ إِما كنتَ لي شَجَناً ... آليتُ بعدك لا أبكي على شَجنِ ) ( أضحتْ
جيادُ أبي القعقاع مُقْسَمةً ... في الأقربين بلا مَنٍّ ولا ثَمنِ )
( ورَّثْتهم فتعزَّوا عنك إذ وَرِثوا ... وما
ورِثْتُك غَيْرَ الهم والحَزَن ) فجعل
ثمامة ومن عنده حاضر من أهله وإخوانه يبكون وشيبة بن الوليد هذا وأخوه من وجوه
قواد المهدي وفي شيبة يقول أبو محمد اليزيدي يهجوه وكان عارضه في شيء من النحو
بحضرة المهدي ( عِشْ
بِجَدَّ فلن يضرَّك نَوْكٌ ... إِنما عيشَ من ترى بالجُدودِ ) ( عِشْ
بجَدَّ وكن هبنَّقَةَ القيسيَّ ... جهلاً أو شَيبةَ بنَ الوليد ) أخبرنا
بذلك محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عن أبيه أخبرني عمي قال حدثنا القاسم بن محمد
الأنباري قال حدثنا عبد الله بن بشر البجلي عن النضر بن طاهر قال أتى نصيب مولى
المهدي عبد الله بن محمد بن الأشعث وهو يتقلد صنعاء للمهدي فمدحه فلم يثبه
واستكساه بردا فلم يكسه فقال يهجوه ( سأكسوكَ
من صنعاءَ ما قد كسوتَنِي ... مقطَعةً تَبقى على قِدم الدهرِ ) ( إذا
طُويْت كانتْ فُضوحُك طَيَّها ... وإن نُشرتْ زادتْك خِزياً على النَّشرِ ) ( أغرّك
أن بيَّضتَ بيتَ حمامةٍ ... وقلت أنا شبعانُ منتفجُ الخَصْر ) ( لقد
كنتَ في سَلْحٍ سَلَحْتَ مخافة ... الحرُورِيّة الشَّارين داعٍ إلى الضرِّ ) ( ولكنهُ
يأبى بك البُهر كُلَّمَا ... جريتَ مع الجاري وضيقٌ من الصدرِ ) تساجل
هو والربيع بن عبد الله حول فرس قال النضر وكان النصيب ملعونا هجاء فأهدى للربيع
بن عبد الله بن الربيع الحارثي فرسا فقبله ثم ندم خوفا من ثقل الثواب فجعل يعيب
الفرس ويذكر بطأه وعجزه فبلع ذلك النصيب فقال ( عبتَ
جوادنا ورغبتَ عنه ... وما فيه لعمرُكَ من مَعابِ ) ( وما
بجوادنا عجزٌ ولكن ... أظنُّك قد عجزتَ عن الثوابِ ) فأجابه
الربيع فقال ( رُوَيدك
لا تكن عَجِلاً إلينا ... أتاك بما يسوءك من جوابِ ) ( وجدتُ
جوادَكم فَدْماً بَطيئاً ... فمالَكُمُ لَدينا من ثَوابِ ) فلما
كان بعد أيام رأى النصيب الفرس تحت الربيع فقال له ( أخذتَ
مُشَهَّراً في كل أرض ... فعجِّل يا ربيعُ مشهَّراتي ) ( يمانيَةً
تخيَّرها يَمانٍ ... منمنَمةَ البيوت مُقطعاتِ ) ( وجارِيَةً
أضلَّت والدَيْهَا ... مولْدةً وبِيضاً وافياتِ ) ( فعجِّلْها
وأَنفِذْها إِلينا ... ودعْنا من بَنَاتِ التُّرَّهات ) فأجابه
الربيع فقال ( بعثْتَ
بمقرِفٍ حَطِم إلينا ... بطيء الحُضْر ثم تقولُ هاتِ ) فقال
النصيب ==التالي بمشيئة الله ج43وج44وج45.ثم الاخر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق