Translate

الجمعة، 22 نوفمبر 2024

ج7و8و9.كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

 

ج7و8و9.كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني 

  ( ما تطلُع الشمسُ ولا تغيبُ ... إلاّ لأَمرٍ شأنُه عجيبُ ) ( لكلّ شيء مَعْدِنٌ وجَوْهَرُ ... وأوسطٌ وأصغرٌ وأكبرُ ) ( مَنْ لك بالمَحْضِ وكلُّ مُم تزِجْ ... وساوسَ في الصَّدر منه تَعتلجْ ) ( وكلُّ شيء لاحقٌ بجوهرهْ ... أصغرُه مُتّصِلٌ بأكبرهْ ) ( ما زالتِ الدنيا لنا دارَ أذَى ... ممزوجةَ الصَّفو بألوان القَذَى ) ( الخَيرُ والشرُّ بها أزواجُ ... لِذا نِتاجٌ ولِذا نِتاجُ ) ( مَنْ لك بالمَحْض وليس مَحْضُ ... يَخبُث بعضٌ ويَطيب بعضُ ) ( لكلّ إنسانٍ طبيعتانِ ... خيرٌ وشرٌّ وهما ضِدّانِ ) ( إنّك لو تَستنشق الشَّحِيحَا ... وجدتَه أنتنَ شيءٍ ريحاَ ) ( والخيرُ والشرُّ إذا ما عُدّا ... بينهما بَوْنٌ بعيدٌ جِدَّا ) ( عجبتُ حتى غمّني السكوتُ ... صِرْتُ كأنّي حائرٌ مبهوتُ ) ( كذا قضى اللَّهُ فكيف أصنَعُ ... الصمتُ إن ضاق الكلامُ أوسعُ ) وهي طويلة جدا وإنما ذكرت هذا القدر منها حسب ما استاق الكلام من صفتها أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن روح بن الفرج قال شاور رجل أبا العتاهية فيما ينقشه على خاتمه فقال انقش عليه لعنة الله على الناس وأنشد ( بَرِمتُ بالناس وأخلاقهم ... فصِرْتُ أستأنِس بالوُحدَةْ ) ( ما أكثرَ الناسَ لَعَمْري وما ... أقلَّهم في حاصل العِدّهْ ) حدثنا الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن الضحاك أن عمر بن العلاء مولى عمرو بن حريث صاحب المهدي كان ممدحا فمدحه أبو العتاهية فأمر له بسبعين ألف درهم فأنكر ذلك بعض الشعراء وقال كيف فعل هذا بهذا الكوفي وأي شيء مقدار شعره فبلغه ذلك فأحضر الرجل وقال له والله إن الواحد منكم ليدور على المعنى فلا يصيبه ويتعاطاه فلا يحسنه حتى يشبب بخمسين بيتا ثم يمدحنا ببعضها وهذا كأن المعاني تجمع له مدحني فقصر التشبيب وقال ( إنّي أمِنْتُ من الزمان ورَيبهِ ... لَمّا عَلِقتُ من الأميرِ حِبالاَ ) ( لو يستطيع الناسُ من إجلاله ... لحَذَوْا له حُرَّ الوُجوهِ نِعالاَ ) صوت ( إنّ المطايا تَشتكيك لأنّها ... قطَعتْ إليك سَباسِباً ورِمالاَ ) ( فإذا وَرَدْنَ بنا ورَدن مُخِفَّةً ... وإذا رجَعْنَ بنا رجعن ثِقَالاَ ) أخذ هذا المعنى من قول نصيب ( فعاجُوا فأَثْنَوْا بالذي أنت أهلُه ... ولو سكتوا أثنتْ عليك الحقائبُ ) العتابي يقول عنه أنه أشعر الناس حدثنا الصولي قال حدثنا محمد بن عون قال حدثني محمد بن النضر كاتب غسان بن عبد الله قال أخرجت رسولا إلى عبد الله بن طاهر وهو يريد مصر فنزلت على العتابي وكان لي صديقا فقال أنشدني لشاعر العراق يعني أبا نواس وكان قد مات فأنشدته ما كنت أحفظ من ملحه وقلت له ظننتك تقول هذا لأبي العتاهية فقال لو أردت أبا العتاهية لقلت لك أنشدني لأشعر الناس ولم أقتصر على العراق أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني هارون بن سعدان عن شيخ من أهل بغداد قال قال أبو العتاهية أكثر الناس يتكلمون بالشعر وهم لا يعلمون ولو أحسنوا تأليفه كانوا شعراء كلهم قال فبينما نحن كذلك إذ قال رجل لآخر عليه مسح يا صاحب المسح تبيع المسح فقال لنا أبو العتاهية هذا من ذلك ألم تسمعوه يقول ( يا صاحبَ المِسح تَبيع المِسحا ... ) قد قال شعرا وهو لا يعلم ثم قال الرجل تعال إن كنت تريد الربح فقال أبو العتاهية وقد أجاز المصراع بمصراع آخر وهو لا يعلم قال له ( تعالَ إن كنتَ تُريد الرّبحا ... ) حدثنا الصولي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا أحمد بن بشير أبو طاهر الحلبي قال حدثنا مزيد الهاشمي عن السدري قال سمعت الأصمعي يقول شعر أبي العتاهية كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا الزبير بن بكار قال لما حبس المهدي أبا العتاهية تكلم فيه يزيد بن منصور الحميري حتى أطلقه فقال فيه أبو العتاهية ( ما قلتُ في فَضلِه شيئاً لأَمدحَه ... إلاّ وفضلُ يَزيدٍ فوقَ ما قلتُ ) ( ما زِلتُ من رَيْبِ دهري خائفاً وَجِلاً ... فقد كفانِيَ بعدَ اللَّه ما خِفْتُ ) ارتجاله الشعر أخبرني يحيى بن علي إجازة قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثني عبد الله بن الحسن قال جاءني أبو العتاهية وأنا في الديوان فجلس إلي فقلت يا أبا إسحاق أما يصعب عليك شيء من الألفاظ فتحتاج فيه إلى استعمال الغريب كما يحتاج إليه سائر من يقول الشعر أو إلى ألفاظ مستكرهة قال لا فقلت له إني لأحسب ذلك من كثرة ركوبك القوافي السهلة قال فاعرض علي ما شئت من القوافي الصعبة فقلت قل أبياتا على مثل البلاغ فقال من ساعته ( أيُّ عيشٍ يكون أبلَغ من عيشِ ... كَفافٍ قُوتٍ بقَدْر البلاغِ ) ( صاحبُ البَغْي ليس يسلَمُ منه ... وعلى نَفْسه بَغَى كلُّ باغِي ) ( رُبَّ ذي نِعمة تَعرَّضَ منها ... حائلٌ بينه وبين المَساغِ ) ( أَبْلَغ الدهرُ في مَوَاعظِهِ بل ... زاد فيهنّ لي على الإِبلاغِ ) ( غَبَنَتْني الأيَامُ عقلي ومالي ... وشَبابي وصِحّتي وفرَاغي ) مسلم بن الوليد يكبره بعد أن سمع غزله أخبرنا يحيى إجازة قال حدثنا علي بن مهدي قال حدثني أبو علي اليقطيني قال حدثني أبو خارجة بن مسلم قال قال مسلم بن الوليد كنت مستخفا بشعر أبي العتاهية فلقيني يوما فسألني أن أصير إليه فصرت إليه فجاءني بلون واحد فأكلناه وأحضرني تمرا فأكلناه وجلسنا نتحدث وأنشدته أشعارا لي في الغزل وسألته أن ينشدني فأنشدني قوله ( بالله يا قُرّةَ العينَيْنِ زُورِيني ... قبل المماتِ وإلاّ فاسْتَزيريني ) ( إنِّي لأَعْجَبُ من حُبٍّ يُقرّبني ... ممن يُباعدني منه ويُقْصِيني ) ( أمّا الكثير فما أرجوه منكِ ولو ... أطمعتنِي في قليلٍ كان يَكفيني ) ثم أنشدني أيضا ( رأَيتُ الهوى جمرَ الغَضَى غيرَ أنّه ... على حَرِّه في صدر صاحبه حُلْوُ ) ي صوت ( أَخِلاّيَ بي شَجْوٌ وليس بكم شجوُ ... وكلُّ امرىءٍ عن شَجوَ صاحبه خِلْوُ ) ( وما من مُحِبٍّ نال ممن يُحبّه ... هوىً صادقاً إلاّ سيدخلُه زَهْوُ ) ( بُلِيتُ وكان المَزْحُ بَدْءَ بَلِيّتي ... فأحببتُ حقّاً والبلاء له بَدْوُ ) ( وعُلِّقتُ مَنْ يزهو عليّ تَجبُّراً ... وإنّي في كلّ الخِصال له كُفْوُ ) ( رأيتُ الهوى جمرَ الغَضَى غير أنّه ... على كل حالٍ عند صاحبه حُلْوُ ) الغناء لإبراهيم ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق وله فيه أيضا خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو ولعمرو بن بانة رمل بالوسطى من كتابه ولعريب فيه خفيف ثقيل من كتاب ابن المعتز قال مسلم ثم أنشدني أبو العتاهية صوت ( خليلِيَّ مالي لا تَزال مَضَرّتي ... تكون على الأقْدار حَتْماً منَ الحَتْمِ ) ( يُصاب فؤادي حين أرْمي ورَمْيتي ... تعودُ إلى نَحري ويَسْلَمُ من أرْمِي ) ( صَبَرتُ ولا والله ما بي جَلاَدةٌ ... على الصبر لكنّي صبَرتُ على رَغْمي ) ( ألاَ في سبيلِ الله جسمي وقُوّتي ... ألاَ مُسْعِدٌ حتى أنوح على جسمي ) ( تُعَدّ عظامي واحداً بعد واحدٍ ... بمَنْحىً منَ العُذّال عَظْماً على عَظم ) ( كفاكَ بحقّ الله ما قد ظلمتَني ... فهذا مَقام المستجير من الظُّلْمِ ) الغناء لسياط في هذه الأبيات وإيقاعه من خفيف الثقيل الأول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق قال مسلم فقلت له لا والله يا أبا إسحاق ما يبالي من أحسن أن يقول مثل هذا الشعر ما فاته من الدنيا فقال يابن أخي لا تقولن مثل هذا فإن الشعر أيضا من بعض مصايد الدنيا أخبرنا يحيى إجازة قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني عبد الرحمن بن الفضل قال حدثني ابن الأعرابي قال اجتمعت الشعراء على باب الرشيد فأذن لهم فدخلوا وأنشدوا فأنشد أبو العتاهية ( يا مَنْ تَبغَّى زمناً صالحاً ... صَلاحُ هارونَ صلاحَ الزمن ) ( كلُّ لسانٍ هو في مُلكه ... بالشكر في إحسانه مُرْتَهَنْ ) قال فاهتز له الرشيد وقال له أحسنت والله وما خرج في ذلك اليوم أحد من الشعراء بصلة غيره أخبرني يحيى بن علي إجازة قال حدثنا علي بن مهدي قال حدثنا عامر بن عمران الضبي قال حدثني ابن الأعرابي قال أجرى هارون الرشيد الخيل فجاءه فرس يقال له المشمر سابقا وكان الرشيد معجبا بذلك الفرس فأمر الشعراء أن يقولوا فيه فبدرهم أبو العتاهية فقال ( جاء المشمّرٌ والأفراسُ يَقْدُمُها ... هَوْناً على رِسْله منها وما انْبهَرا ) ( وخَلَّف الريحَ حَسْرَى وهي جاهدةٌ ... ومَرّ يختطف الأبصارَ والنظرَا ) فأجزل صلته وما جسر أحد بعد أبي العتاهية أن يقول فيه شيئا رثى صديقه ابن ثابت أخبرني يحيى إجازة قال حدثني الفضل بن عباس بن عقبة بن جعفر قال كان علي بن ثابت صديقا لأبي العتاهية وبينهما مجاوبات كثيرة في الزهد والحكمة فتوفي علي بن ثابت قبله فقال يرثيه ( مُؤْنِسٌ كان لي هَلَكْ ... والسبيلُ التي سَلَكْ ) ( يا عليّ بن ثابتٍ ... غَفَر الله لي ولَكْ ) ( كلُّ حيٍّ مُمَلَّكٍ ... سوف يَفْنَى وما مَلَكْ ) قال الفضل وحضر أبو العتاهية علي بن ثابت وهو يجود بنفسه فلم يزل ملتزمه حتى فاض فلما شد لحياه بكى طويلا ثم أنشد يقول ( يا شَرِيكي في الخير قَرّبك اللهُ ... فنعم الشّريكُ في الخير كُنتَا ) ( قد لَعَمْري حكيْتَ لي غُصَصَ الموتِ ... فحرَّكْتَنِي لها وسَكَنْتَا ) قال ولما دفن وقف على قبره يبكي طويلا أحر بكاء ويردد هذه الأبيات ( ألاَ مَنْ لي بأُنْسِك يا أُخَيّا ... ومَنْ لي أن أَبُثَّك ما لديَّا ) ( طَوتْكَ خُطوبُ دهرك بعد نَشْرٍ ... كذاك خُطوبُه نَشْراً وطيَّا ) ( فلو نَشرتْ قُواك ليَ المنايا ... شكوتُ إليك ما صنعتْ إليَّا ) ( بكيتُك يا عليٌّ بدمع عَيني ... فما أغنَى البكاءُ عليك شَيَّا ) ( وكانت في حياتك لي عِظاتٌ ... وأنت اليومَ أوعظُ منك حياَّ ) قال علي بن الحسين مؤلف هذا الكتاب هذه المعاني أخذها كلها أبو العتاهية من كلام الفلاسفة لما حضروا تابوت الإسكندر وقد أخرج الإسكندر ليدفن قال بعضهم كان الملك أمس أهيب منه اليوم وهو اليوم أوعظ منه أمس وقال آخر سكنت حركة الملك في لذاته وقد حركنا اليوم في سكونه جزعا لفقده وهذان المعنيان هما اللذان ذكرهما أبو العتاهية في هذه الأشعار أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني جعفر ابن الحسين المهلبي قال لقينا أبو العتاهية فقلنا له يا أبا إسحاق من أشعر الناس قال الذي يقول ( اللهُ أنجحُ ما طلبتَ به ... والبِرُّ خيرُ حقيبة الرَّحْلِ ) فقلت أنشدني شيئا من شعرك فأنشدني ( يا صاحبَ الرُّوح ذي الأنفاسِ في البدن ... بين النهار وبين الليل مُرْتَهَنِ ) ( لقلّما يتخطّاك اختلافُهما ... حتى يُفرِّق بين الرُّوح والبدنِ ) ( لَتجْذِبَنِّي يدُ الدُّنيا بقوّتها ... إلى المنايا وإِن نازعتُها رَسَني ) ( للهِ دُنيَا أُناس دائِبين لها ... قَدِ ارتعَوْا في رياض الغَيّ والفِتنِ ) ( كسائماتٍ رِتاعٍ تَبتغي سِمَناً ... وحَتْفُها لو دَرَتْ في ذلك السِّمَنِ ) قال فكتبتها ثم قلت له أنشدني شيئا من شعرك في الغزل فقال يابن أخي إن الغزل يسرع إلى مثلك فقلت له أرجو عصمة الله جل وعز فأنشدني ( كأنّها من حُسنها دُرّةٌ ... أخرجها اليمُّ إلى الساحلِ ) ( كأنّ في فيها وفي طرفها ... سواحراً أقبلنَ من بابل ) ( لم يُبْقِ مِنّي حبُّها ما خلا ... حُشَاشَةً في بَدَنٍ ناحلَ ) ( يا مَنْ رأى قبلي قتيلاً بكى ... من شدّة الوَجْد على القاتل ) فقلت له يا أبا إسحاق هذا قول صاحبنا جميل ( خليليَّ فيما عِشتُما هل رأيتما ... قتيلاً بكى من حبّ قاتله قبلي ) فقال هو ذاك يا بن أخي وتبسم شعره في رحيل الشباب أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثني أبو عكرمة عن شيخ له من أهل الكوفة قال دخلت مسجد المدينة ببغداد بعد أن بويع الأمين محمد بسنة فإذا شيخ عليه جماعة وهو ينشد ( لَهِفْي على وَرْقِ الشبّابِ ... وغُصونِه الخُضْرِ الرِّطابِ ) ( ذهب الشباب وبان عنّي ... غيرَ مُنتَظَرِ الإِياب ) ( فلأَبْكينَّ على الشَّبابِ ... وطيبِ أيّام التَّصابي ) ( ولأَبْكينَّ من البِلَى ... ولأَبكينَّ من الخِضاب ) ( إنّي لآمُلُ أن أخَلَّد ... والمنيَّةُ في طِلاَبي ) قال فجعل ينشدها وإن دموعه لتسيل على خديه فلما رأيت ذلك لم أصبر أن ملت فكتبتها وسألت عن الشيخ فقيل لي هو أبو العتاهية أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أبو العباس محمد بن أحمد قال كان ابن الأعرابي يعيب أبا العتاهية ويثلبه فأنشدته ( كم من سفيهٍ غاظَني سَفَهاً ... فشَفَيْتُ نفسي منه بالحِلْم ) ( وكَفَيْتُ نفسي ظلمَ عاديتي ... ومنحتُ صفوَ مودّتي سِلْمي ) ( ولقد رُزِقتُ لظالمي غِلظاً ... ورَحِمتُه إذ لجّ في ظُلْمي ) أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن أحمد الأزدي قال قال لي أبو العتاهية لم أقل شيئا قط أحب إلي من هذين البيتين في معناهما ( ليت شعري فإِنَّني لستُ أدري ... أيُّ يومٍ يكون آخِرَ عُمْري ) ( وبأيّ البلاد يُقبض رُوحي ... وبأيّ البِقاع يُحْفَرُ قبري ) خبره مع فتيان يتذاكرون الشعر أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني محمد بن الفضل قال حدثنا محمد بن عبد الجبار الفزاري قال اجتاز أبو العتاهية في أول أمره وعلى ظهره قفص فيه فخار يدور به في الكوفة ويبيع منه فمر بفتيان جلوس يتذاكرون الشعر ويتناشدونه فسلم ووضع القفص عن ظهره ثم قال يا فتيان أراكم تذاكرون الشعر فأقول شيئا منه فتجيزونه فإن فعلتم فلكم عشرة دراهم وإن لم تفعلوا فعليكم عشرة دراهم فهزئوا منه وسخروا به وقالوا نعم قال لا بد أن يشترى بأحد القمارين رطب يؤكل فإنه قمار حاصل وجعل رهنه تحت يد أحدهم ففعلوا فقال أجيزوا ( ساكِني الأجداثِ أنتُمْ ... ) وجعل بينه وبينهم وقتا في ذلك الموضع إذا بلغته الشمس ولم يجيزوا البيت غرموا الحطر وجعل يهزأ بهم وتممه ( . . . . . . . . . . . . . . . ... . مثلَنا بالأمس كُنتمْ ) ( ليت شعري ما صنعتم ... أربحتم أم خَسِرتمْ ) وهي قصيدة طويلة في شعره أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله عن أبي خيثم العنزي قال لما حبس الرشيد أبا العتاهية وحلف ألا يطلقه أو يقول شعرا قال لي أبو حبش أسمعت بأعجب من هذا الأمر تقول الشعراء الشعر الجيد النادر فلا يسمع منهم ويقول هذا المخنث المفكك تلك الأشعار بالشفاعة ثم أنشدني ( أبا إسحاق راجعت الجماعَهْ ... وعُدْتَ إلى القوافي والصنِّاعهْ ) ( وكنت كجامحٍ في الغَيّ عاصٍ ... وأنت اليومَ ذو سمعٍ وطاعَهْ ) ( فجُرَّ الخَزّ مما كنتَ تُكْسَى ... وَدَع عنك التَّقَشُّفَ والبَشاعَهْ ) ( وشَبِّبْ بالتي تهوَى وخَبِّرْ ... بأنّك ميّتٌ في كلّ ساعَهْ ) ( كَسدنا ما نراد وإنْ أجدنا ... وأنت تقول شعرَك بالشّفاعَهْ ) أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا العنزي قال حدثنا محمد بن عبد الله قال حدثني أبو خيثم العنزي وكان صديقا لأبي العتاهية قال حدثني أبو العتاهية قال أخرجني المهدي معه إلى الصيد فوقعنا منه على شيء كثير فتفرق أصحابه في طلبه وأخذ هو في طريق غير طريقهم فلم يلتقوا وعرض لنا واد جرار وتغيمت السماء وبدأت تمطر فتحيرنا وأشرفنا على الوادي فإذا فيه ملاح يعبر الناس فلجأنا إليه فسألناه عن الطريق فجعل يضعف رأينا ويعجزنا في بذلنا أنفسنا في ذلك الغيم للصيد حتى أبعدنا ثم أدخلنا كوخا له وكاد المهدي يموت بردا فقال له أغطيك بجبتي هذه الصوف فقال نعم فغطاه بها فتماسك قليلا ونام فافتقده غلمانه وتبعوا أثره حتى جاؤونا فلما رأى الملاح كثرتهم علم أنه الخليفة فهرب وتبادر الغلمان فنحوا الجبة عنه وألقوا عليه الخز والوشي فلما انتبه قال لي ويحك ما فعل الملاح فقد والله وجب حقه علينا فقلت هرب والله خوفا من قبح ما خاطبنا به قال إنا لله والله لقد أردت أن أغنيه وبأي شيء خاطبنا نحن والله مستحقون لأقبح مما خاطبنا به بحياتي عليك إلا ما هجوتني فقلت يا أمير المؤمنين كيف تطيب نفسي بأن أهجوك قال والله لتفعلن فإني ضعيف الرأي مغرم بالصيد فقلت ( يا لابسَ الوَشْي على ثوبه ... ما أقبحَ الأشْيَب في الراحِ ) فقال زدني بحياتي فقلت ( لو شئتَ أيضاً جُلْتَ في خامةٍ ... وفي وِشاحَيْنِ وأَوْضاحِ ) فقال ويلك هذا معنى سوء يرويه عنك الناس وأنا استأهل زدني شيئا آخر فقلت أخاف أن تغضب قال لا والله فقلت ( كم من عظيم القَدرِ في نفسه ... قد نام في جُبّة مَلاّحِ ) فقال معنى سوء عليك لعنة الله وقمنا وركبنا وانصرفنا أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثنا جماعة من كتاب الحسن بن سهل قالوا وقعت رقعة فيها بيتا شعر في عسكر المأمون فجيء بها إلى مجاشع بن مسعدة فقال هذا كلام أبي العتاهية وهو صديقي وليست المخاطبة لي ولكنها للأمير الفضل بن سهل فذهبوا بها فقرأها وقال ما أعرف هذه العلامة فبلغ المأمون خبرها فقال هذه إلي وأنا أعرف العلامة والبيتان صوت ( ما على ذا كنّا افترقْنا بِسَنْدانَ ... وما هكذا عهدْنا الإِخاءَ ) ( تَضْرِبُ الناسَ بالمُهَنَّدة البِيضِ ... على غَدْرِهم وتَنْسَى الوفاءَ ) قال فبعث إليه المأمون بمال في هذين البيتين لأبي عيسى بن المتوكل رمل من رواية ابن المعتز أبو العتاهية يستعجل بر ابن يقطين قال وكان علي بن يقيطن صديقا لأبي العتاهية وكان يبره في كل سنة ببر واسع فأبطأ عليه بالبر في سنة من السنن وكان إذا لقيه أبو العتاهية أو دخل عليه يسر به ويرفع مجلسه ولا يزيده على ذلك فلقيه ذات يوم وهو يريد دار الخليفة فاستوقفه فوقف له فأنشده ( حتّى متى ليت شعري يابنَ يَقْطينِ ... أُثني عليك بما لا منك تُوليني ) ( إنّ السّلامَ وإنّ البِشْرَ من رجلٍ ... في مثل ما أنت فيه ليس يَكْفِيني ) ( هذا زمانٌ ألحّ الناسُ فيه على ... تيه الملوك وأخلاقِ المساكينِ ) ( أمَا علمتَ جزاك الله صالحةً ... وزادك اللهُ فضلاً يابنَ يَقْطين ) ( أنِّي أُريدك للدُّنيا وعاجلها ... ولا أُريدك يومَ الدِّين للدين ) فقال علي بن يقطين لست والله أبرح ولا تبرح من موضعنا هذا إلا راضيا وأمر له بما كان يبعث به إليه في كل سنة فحمل من وقته وعلي واقف إلى أن تسلمه وأخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثنا محمد بن يزيد قال بلغني من غير وجه أن الرشيد لما ضرب أبا العتاهية وحبسه وكل به صاحب خبر يكتب إليه بكل ما يسمعه فكتب إليه أنه سمعه ينشد ( أمَا والله إنّ الظلمَ لُومُ ... وما زال المُسيء هو الظَّلومُ ) ( إلى دَيَّانِ يومِ الدين نَمْضي ... وعند الله تجتمع الخصومُ ) قال فبكى الرشيد وأمر بإحضار أبي العتاهية وإطلاقه وأمر له بألفي دينار شنع عليه منصور بن عمار بالزندقة أخبرني محمد بن جعفر قال حدثني محمد بن موسى عن أحمد بن حرب عن محمد بن أبي العتاهية قال لما قال أبي في عتبة ( كأنّ عتابَة من حسنها ... دُمْيَةُ قسَّ فتنَتْ قَسَّهَا ) ( يا رَبِّ لو أَنْسَيْتَنيِها بما ... في جَنَّة الفِرْدوس لم أَنْسَها ) شنع عليه منصور بن عمار بالزندقة وقال يتهاون بالجنة ويبتذل ذكرها في شعره بمثل هذا التهاون وشنع عليه أيضا بقوله ( إنّ المليك رآكِ أحسنَ ... خَلْقه ورأى جمالَكْ ) ( فحذا بقُدْرةِ نفسه ... حُورَ الجِنان على مثالِكْ ) وقال أيصور الحور على مثال امرأة آدمية والله لا يحتاج إلى مثال وأوقع له هذا على ألسنة العامة فلقي منهم بلاء حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا خليل بن أسد قال حدثني أبو سلمة الباذغيسي قال قلت لأبي العتاهية في أي شعر أنت أشعر قال قولي ( الناسُ في غَفَلاتهمْ ... ورَحَا المنيّةِ تَطْحَنُ ) أنشد المأمون أحسن ما قاله في الموت أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني يحيى بن عبد الله القرشي قال حدثني المعلى بن أيوب قال دخلت على المأمون يوما وهو مقبل على شيخ حسن اللحية خضيب شديد بياض الثياب على رأسه لاطئة فقلت للحسن بن أبي سعيد قال وهو ابن خالة المعلى بن أيوب وكان الحسن كاتب المأمون على العامة من هذا فقال أما تعرفه فقلت لو عرفته ما سألتك عنه فقال هذا أبو العتاهية فسمعت المأمون يقول له أنشدني أحسن ما قلت في الموت فأنشده ( أَنساكَ مَحْياكَ المماتَا ... فطَلبْتَ في الدنيا الثَّباتَا ) ( أَوَثِقْتَ بالدنيا وأنت ... ترى جَماعَتها شَتاتَا ) ( وعَزمتَ منك على الحياةِ ... وطُولِها عَزْماً بتَاتا ) ( يا مَنْ رأى أبَوَيْه فيمَنْ ... قد رأى كانا فماتا ) ( هل فيهما لك عِبْرةٌ ... أم خِلْتَ أنّ لك انفِلاتا ) ( ومَن الذي طَلَب التَّفَلُّتَ ... من مَنيّتِه ففاتا ) ( كلٌّ تُصَبِّحه المنيَّةُ ... أو تُبَيِّتُه بَياتا ) قال فلما نهض تبعته فقبضت عليه في الصحن أو في الدهليز فكتبتها عنه نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني الجاحظ عن ثمامة قال دخل أبو العتاهية على المأمون فأنشده ( ما أحسنَ الدنيا وإِقبالَها ... إذا أطاع الله مَنْ نالَها ) ( مَنْ لم يُواسِ الناسَ من فضلها ... عَرَّض للإِدبار إقبالَها ) فقال له المأمون ما أجود البيت الأول فأما الثاني فما صنعت فيه شيئا الدنيا تدبر عمن واسى أو ضن بها وإنما يوجب السماحة بها الأجر والضن بها الوزر فقال صدقت يا أمير المؤمنين أهل الفضل أولى بالفضل وأهل النقص أولى بالنقص فقال المأمون ادفع إليه عشرة آلاف درهم لاعترافه بالحق فلما كان بعد أيام عاد فأنشده ( كم غافلٍ أوْدَى به الموتُ ... لم يأخُذِ الأُهبةَ للفَوْتِ ) ( مَنْ لم تزُلْ نعمتُه قبلَه ... زال عن النعمة بالموتِ ) فقال له أحسنت الآن طَيَّبْتَ المعنى وأمر له بعشرين ألف درهم أخبرني أحمد بن العباس العسكري قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني ابن سنان العجلي عن الحسن بن عائذ قال كان أبو العتاهية يحج في كل سنة فإذا قدم أهدى إلى المأمون بردا ومطرفا ونعلا سوداء ومساويك أراك فيبعث إليه بعشرين ألف درهم وكان يوصل الهدية من جهته منجاب مولى المأمون ويجيئه بالمال فأهدى مرة له كما كان يهدي كل سنة إذا قدم فلم يثبه ولا بعث إليه بالوظيفة فكتب إليه أبو العتاهية ( خَبَّروني أنّ من ضرْب السّنة ... جُدُداً بِيضاً وصُفْراً حَسَنَهْ ) ( أُحْدِثتْ لكنّني لم أرها ... مِثْل ما كنتُ أرى كلَّ سَنَهْ ) فأمر المأمون بحمل العشرين ألف درهم وقال أغفلناه حتى ذكرنا حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني عروة بن يوسف الثقفي قال لما ولي الهادي الخلافة كان واجدا على أبي العتاهية لملازمته أخاه هارون وانقطاعه إليه وتركه موسى وكان أيضا قد أمر أن يخرج معه إلى الري فأبى ذلك فخافه وقال يستعطفه ( ألاَ شافِعٌ عند الخليفةِ يَشْفَعُ ... فيدفَع عنّا شرَّ ما يُتَوقَّعُ ) ( وإِنِّي على عُظْمِ الرجاء لخائفٌ ... كأنّ على رأسي الأسِنَّة تُشْرَعُ ) ( يُرَوِّعني موسى على غير عَثْرةٍ ... ومالي أرى موسى من العفوِ أوْسَعُ ) ( وما آمِنٌ يُمسِي ويُصبح عائذاً ... بعفو أمير المؤمنين يُروَّع ) مدح الهادي فأجازه حدثني الصولي قال حدثني علي بن الصباح قال حدثني محمد بن أبي العتاهية قال دخل أبي على الهادي فأنشده ( يا أمينَ اللهِ مالي ... لستُ أدري اليومَ مالِي ) ( لم أَنَلْ منك الذي قد ... نال غيرِي من نَوالِ ) ( تَبْذُلُ الحقَّ وتُعْطي ... عن يمينٍ وشِمال ) ( وأنا البائسُ لا تَنظُر ... في رِقّةِ حالي ) قال فأمر المعلى الخازن أن يعطيه عشرة آلاف درهم قال أبو العتاهية فأتيته فأبى أن يعطيها ذلك أن الهادي امتحنني في شيء من الشعر وكان مهيبا فكنت أخافه فلم يطعني طبعي فأمر لي بهذا المال فخرجت فلما منعنيه المعلى صرت إلى أبي الوليد أحمد بن عقال وكان يجالس الهادي فقلت له ( أَبْلِغْ سَلِمتَ أبا الوليدِ سَلامي ... عنِّي أمير المؤمنين إمامِي ) ( وإذا فرغَت من السّلامِ فقل له ... قد كان ما شاهدت من إفحامي ) ( وإذا حصِرتُ فليس ذاك بمُبْطلٍ ... ما قد مَضَى من حُرْمتي وذمامي ) ( ولطالما وفَدتْ إليك مدائحي ... مخطوطةً فلْيأتِ كلُّ ملامِ ) ( أيّامَ لي لَسَنٌ ورقّةُ جِدّةٍ ... والمرءُ قد يَبْلَى مع الأيّام ) قال فاستخرج لي الدراهم وأنفذها إلي حدثني الصولي ومحمد بن عمران الصيرفي قالا حدثنا العنزي قال حدثنا محمد بن أحمد بن سليمان قال ولد للهادي ولد في أول يوم ولي الخلافة فدخل أبو العتاهية فأنشده ( أكثرَ موسى غيظَ حُسّادِه ... وزَيَّن الأرضَ بأولادِه ) ( وجاءنا من صُلْبه سَيّدٌ ... أَصْيَدُ في تقطيع أجداده ) ( فاكتستِ الأرضُ به بَهْجةً ... واستبشر الملكُ بميلادهِ ) ( وابتسم المِنْبرُ عن فَرْحةٍ ... عَلَتْ بها ذَرْوةُ أعواده ) ( كأنَّني بعد قليلٍ به ... بين مَواليه وقُوّادِه ) ( في مَحفِلٍ تَخْفِق راياتُه ... قد طَبَّق الأرض بأجنادهِ ) قال فأمر له موسى بألف دينار وطيب كثير وكان ساخطا عليه فرضي عنه أخبرني يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني علي بن يزيد الخزرجي الشاعر عن يحيى بن الربيع قال دخل أبو عبيد الله على المهدي وكان قد وجد عليه في أمر بلغه عنه وأبو العتاهية حاضر المجلس فجعل المهدي يشتم أبا عبيد الله ويتغيظ عليه ثم أمر به فجر برجله ثم وحبس ثم أطرق المهدي طويلا فلما سكن أنشده أبو العتاهية ( أرى الدُّنيا لمن هي في يَدَيْه ... عذاباً كلّما كثُرَتْ لدَيْهِ ) ( تُهِين المُكْرمين لها بصُغْرٍ ... وتُكْرِم كلَّ من هانتْ عليهِ ) ( إذا استَغْنَيتَ عن شيءٍ فدَعْهُ ... وخُذْ ما أنت محتاجٌ إليهِ ) فتبسم المهدي وقال لأبي العتاهية أحسنت فقام أبو العتاهية ثم قال والله يا أمير المؤمنين ما رأيت أحدا أشد إكراما للدنيا ولا أصون لها ولا أشح عليها من هذا الذي جر برجله الساعة ولقد دخلت إلى أمير المؤمنين ودخل هو وهو أعز الناس فما برحت حتى رأيته أذل الناس ولو رضي من الدنيا بما يكفيه لاستوت أحواله ولم تتفاوت فتبسم المهدي ودعا بأبي عبيد الله فرضي عنه فكان أبو عبيد الله يشكر ذلك لأبي العتاهية أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن الحسن قال حدثني إسحاق بن حفص قال أنشدني هارون بن مخلد الرازي لأبي العتاهية ( ما إن يَطيبُ لذي الرعاية للأيّام ... لا لَعِب ولا لَهْوُ ) ( إذ كان يطْرب في مَسَرّته ... فيموت من أجزائه جُزو ) فقلت ما أحسنهما فقال أهكذا تقول والله لهما روحانيان يطيران بين السماء والأرض ابن مناذر يقول أبو العتاهية أشعر المحدثين أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي عن ابن عكرمة عن مسعود بن بشر المازني قال لقيت ابن مناذر بمكة فقلت له من أشعر أهل الإسلام فقال أترى من إذا شئت هزل وإذا شئت جد قلت من قال مثل جرير حين يقول في النسيب ( إنّ الذين غَدوْا بلُبّك غادروا ... وَشَلاً بعينك ما يزال مَعِينا ) ( غَيّضْنَ من عَبَراتِهنّ وقُلْن لي ... ماذا لَقِيتَ من الهوى ولَقِينا ) ثم قال حين جد ( إنّ الّذي حَرَم المَكارِم تَغلِباً ... جعل النُّبوّةَ والخلافةَ فينا ) ( مُضَرٌ أبي وأبو الملوك فهل لكم ... يا آل تَغلِبَ من أبٍ كأبِينا ) ( هذا ابنُ عمّي في دِمَشْق خليفةٌ ... لو شئتُ ساقكُم إليّ قطِينا ) ومن المحدثين هذا الخبيث الذي يتناول شعره من كمه فقلت من قال أبو العتاهية قلت في ماذا قال قوله ( اللّهُ بيني وبين مَوْلاتي ... أَبْدَتْ ليَ الصَّدّ والمَلاَلاتِ ) ( لا تَغْفِرُ الذنبَ إن أسأتُ ولا ... تقبَل عُذْري ولا مُواتاتي ) ( منحتُها مُهجتي وخَالِصَتي ... فكان هجْرانُها مُكافاتِي ) ( أقلقني حُبُّها وصَيَّرني ... أُحدوثةً في جميع جاراتي ) ثم قال حين جد ( ومَهْمه قد قطعتُ طَامِسَه ... قَفْرٍ على الهَوْل والمُحاماةِ ) ( بحُرّةٍ جَسْرةٍ عُذافِرةٍ ... خَوصاءَ عَيْرانَةٍ عَلَنْداةِ ) ( تُبادر الشمسَ كلّما طلعتْ ... بالسيَّر تبْغي بذاك مَرْضاتي ) ( يا ناقُ خُبّي بنا ولا تَعدي ... نَفْسَك مما تَرَيْنَ راحاتِ ) ( حتّى تُنَاخَيْ بنا إلى مَلكٍ ... تَوَّجه اللهُ بالمَهَاباتِ ) ( عليه تاجانِ فوق مَفْرقِه ... تاجُ جلالٍ وتاجُ إخْبات ) ( يقول للريِّح كلّما عصفَتْ ... هل لكِ يا ريحُ في مُباراتي ) ( مَنْ مثلُ مَنْ عمُّه الرسولُ ومَنْ ... أخوالُه أكرمُ الخُؤولاتِ ) أخبرني وكيع قال قال الزبير بن بكار حدثني أبو غزية وكان قاضيا على المدينة قال كان إسحاق بن عزيز يتعشق عبادة جارية المهلبية وكانت المهلبية منقطعة إلى الخيزران فركب إسحاق يوما ومعه عبد الله بن مصعب يريدان المهدي فلقيا عبادة فقال إسحاق يا أبا بكر هذه عبادة وحرك دابته حتى سبقها فنظر إليها فجعل عبد الله بن مصعب يتعجب من فعله ومضيا فدخلا على المهدي فحدثه عبد الله بن مصعب بحديث إسحاق وما فعل فقال أنا أشتريها لك يا إسحاق ودخل على الخيزران فدعا بالمهلبية فحضرت فأعطاها بعبادة خمسين ألف درهم فقالت له يا أمير المؤمنين إن كنت تريدها لنفسك فبها فداك الله وهي لك فقال إنما أريدها لإسحاق بن عزيز فبكت وقالت أتؤثر علي إسحاق بن عزيز وهي يدي ورجلي ولساني في جميع حوائجي فقالت لها الخيزران عند ذلك ما يبكيك والله لا وصل إليها ابن عزيز أبدا صار يتعشق جواري الناس فخرج المهدي فأخبر ابن عزيز بما جرى وقال له الخمسون ألف درهم لك مكانها وأمر له بها فأخذها عن عبادة فقال أبو العتاهية يعيره بذلك ( مَنْ صَدَقَ الحبَّ لأحبابِه ... فإِنّ حُبّ ابن عُزَيْزٍ غُرورْ ) ( أنساه عبّادةَ ذاتَ الهوى ... وأَذهَبَ الحبَّ الذي في الضميرْ ) ( خمسون ألفاً كلُّها راجحٌ ... حُسْناً لها في كل كِيسٍ صَرِيرْ ) وقال أبو العتاهية في ذلك أيضا ( حُبُّك للمال لا كحبك عبَّادةَ ... يا فاضحَ المُحبّينا ) ( لو كنتَ أصفيتَها الوِدَاد كما ... قُلْتَ لمَا بِعْتَها بخمسينا ) حدثني الصولي قال حدثي جبلة بن محمد قال حدثني أبي قال رأيت أبا العتاهية بعدهما تخلص من حبس المهدي وهو يلزم طبيبا على بابنا ليكحل عينه فقيل له قد طال وجع عينك فأنشأ يقول صوت ( أيا وَيْح نفسي وَيْحَها ثم وَيْحَها ... أمَا من خَلاصٍ من شِباك الحبائلِ ) ( أيا ويحَ عيني قد أضرّ بها البُكا ... فلم يُغنِ عنها طِبُّ ما في المكاحل ) في هذين البيتين لإبراهيم الموصلي لحن من الثقيل الأول مدح الهادي فأجزل صلته أخبرني عيسى بن الحسين قال حدثنا عمر بن شبة قال كان الهادي واجدا على أبي العتاهية لملازمته أخاه هارون في خلافة المهدي فلما ولي موسى الخلافة قال أبو العتاهية يمدحه صوت ( يضطرب الخوفُ والرجاء إذا ... حَرّك موسى القَضيب أو فَكَّرْ ) ( ما أَبْيَنَ الفضلَ في مُغيَّبِ ما ... أَوْردَ من رأيه وما أَصْدَرْ ) في هذين البيتين لأبي عيسى بن المتوكل لحن من الثقيل الأول في نهاية الجودة وما بان به فضله في الصناعة ( فكم تَرَى عَزَّ عند ذلك مِنْ ... مَعْشَر قومٍ وذَلَّ مِنْ مَعْشَرْ ) ( يُثمر مِنْ مَسِّه القضيبُ ولو ... يَمَسُّه غيرُه لَمَا أَثْمَرْ ) ( مَنْ مثلُ موسى ومثلُ والده المهديّ ... أو جَدِّه أبي جَعفرْ ) قال فرضي عنه فلما دخل عليه أنشده ( لَهْفي على الزمن القصير ... بين الخَوَرنقِ والسَّدِيرِ ) ( إذ نحن في غَرف الجنانِ ... نُعومُ في بحرّ السُّرورِ ) ( في فتية ملكوا عنانَ ... الدهر أمثالَ الصُّقور ) ( ما منهمُ إلاّ الجَسورُ ... على الهوى غيرُ الحَصُورِ ) ( يَتَعاوَرُون مُدامَةً ... صهباءَ من حَلب العَصيِرِ ) ( عَذراءَ ربّاها شُعاعُ ... الشمسِ في حَرِّ الهَجِيرِ ) ( لم تُدْنَ من نارٍ ولم ... يَعْلقْ بها وَضَرُ القُدورِ ) ( ومُقَرْطَقٍ يمشي أمَامَ ... القومِ كالرَّشأ الغَريرِ ) ( بزُجاجةٍ تَستخرج السرَّ ... الدّفينَ من الضمير ) ( زهراءَ مثلِ الكوكب الدُّرِّيّ ... في كَفّ المُديرِ ) تَدعُ الكريمَ وليس يَدرِي ... ما قَبِيلٌ من دَبير ) ( ومُخَصَّراتٍ زُرْنَنا ... بعد الهُدوّ من الخُدور ) ( رَيّا رَوَادِفُهنّ يَلْبَسْنَ ... الخواتمَ في الخُصور ) ( غُرِّ الوُجوه محجَّباتٍ ... قاصراتِ الطّرف حُور ) ( مُتَنَعِّماتٍ في النَّعيمِ ... مُضَمَّخاتٍ بالعَبير ) ( يَرفُلْنَ في حُلَلِ المَحاسِنِ ... والمَجاسِدِ والحرير ) ( ما إن يَريْن الشمسَ ... إلاّ الفَرْط من خَلَل الستُّور ) ( وإلى أمينِ اللهِ مَهرَبنا ... من الدّهر العَثُورِ ) ( وإليه أتعبْنا المطايا ... يا بالرّواح وبالبُكور ) ( صُعْرَ الخُدود كأنّما ... جُنِّحْنَ أجنحةَ النُّسورِ ) ( مُتَسَرْبِلاتٍ بالظَّلامِ ... على السُّهولة والوُعور ) ( حتّى وَصَلْنَ بنا إلى ... رَبّ المدائن والقُصور ) ( ما زال قبل فِطِامِه ... في سنّ مُكتْهِلٍ كبير ) قال قيل له لو كان جزل اللفظ لكان أشعر الناس فأجزل صلته وعاد إلى أفضل ما كان له عليه أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثني الكراني عن أبي حاتم قال قدم علينا أبو العتاهية في خلافة المأمون فصار إليه أصحابنا فاستنشدوه فكان أول ما أنشدهم ( ألم تَرَ رَيْبَ الدّهر في كلّ ساعةٍ ... له عارضٌ فيه المنيّة تلمَع ) ( أيا باني الدُّنيا لغيرك تَبتني ... ويا جامعَ الدنيا لغيرك تَجْمَعُ ) ( أرى المرءَ وثَّاباً على كل فُرْصةٍ ... وللمرء يوماً لا مَحالةَ مَصْرعُ ) ( تباركَ مَنْ لا يملِكَ المُلكِ غيره ... متى تنقضي حاجاتُ من ليس يَشبَعُ ) ( وأيُّ امرئٍ في غايةٍ ليس نفسُه ... إلى غايةٍ أُخرى سواها تطّلعُ ) قال وكان أصحابنا يقولون لو أن طبع أبي العتاهية بجزالة لفظ لكان أشعر الناس أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني سليمان بن جعفر الجزري قال حدثني أحمد بن عبد الله قال كانت مرتبة أبي العتاهية مع الفضل بن الربيع في موضع واحد في دار المأمون فقال الفضل لأبي العتاهية يا أبا إسحاق ما أحسن بيتين لك وأصدقهما قال وما هما قال قولك ( ما النَّاسُ إلا لِلكثيرِ المالِ أو ... لمُسَلَّطٍ ما دام في سُلْطانِه ) ( فإذا الزمانُ رماهما بِبَليَّةٍ ... كان الثِّقاتُ هناك من أعوانِه ) يعني من أعوان الزمان قال وإنما تمثل الفضل بن الربيع بهذين البيتين لانحطاط مرتبته في دار المأمون وتقدم غيره وكان المأمون أمر بذلك لتحريره مع أخيه حبسه الرشيد بعد أن تنسك ثم أطلقه أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال قال لي محمد بن أبي العتاهية كان أبي لا يفارق الرشيد في سفر ولا حضر إلا في طريق الحج وكان يجري عليه في كل سنة خمسين ألف درهم سوى الجوائز والمعاون فلما قدم الرشيد الرقة لبس أبي الصوف وتزهد وترك حضور المنادمة والقول في الغزل وأمر الرشيد بحبسه فحبس فكتب إليه من وقته صوت ( أنا اليَومَ لي والحمدُ لله أَشْهُرُ ... يَرُوح عليّ الهَمُّ منكم ويَبْكُرُ ) ( تَذَكَّرْ أمينَ الله حَقِّي وحُرْمتي ... وما كنتَ تُوليني لعلك تَذْكُرُ ) ( لياليَ تُدْني منك بالقُرْبِ مجلسي ... ووجهُك من ماء البشابة يَقْطُرُ ) ( فمَنْ ليَ بالعين التي كنتَ مرّةً ... إليّ بها في سالفِ الدهرِ تنظُرُ ) قال فلما قرأ الرشيد الأبيات قال قولوا له لا بأس عليك فكتب إليه صوت ( أَرِقت وطار عن عَيْني النُّعاسُ ... ونام السامرون ولم يُوَاسُوا ) ( أمينّ الله أَمْنُك خيرُ أمنٍ ... عليك من التُّقَى فيه لِباسُ ) ( تُساس من السماء بكلّ بِرٍّ ... وأنت به تَسُوس كما تُساسُ ) ( كأنّ الخَلْقَ رُكِّبَ فيه رُوحٌ ... له جَسَدٌ وأنت عليه رَاسُ ) ( أمِينَ الله إنّ الحَبْسَ بأْسٌ ... وقد أرْسلتَ ليس عليك باسُ ) غنى في هذه الأبيات إبراهيم ولحنه ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى وفيه أيضا ثقيل أول عن الهشامي قال وكتب إليه أيضا في الحبس ( وكَلَّفتَني ما حَلْتَ بيني وبينه ... وقلتَ سأبقي ما تُريد وما تهوى ) ( فلو كان لي قلبان كَلّفتُ واحداً ... هواك وكلفت الخَليّ لما يَهْوَى ) قال فأمر بإطلاقه حدثني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني ثابت بن الزبير بن حبيب قال حدثني ابن أخت أبي خالد الحربي قال قال لي الرشيد احبس أبا العتاهية وضيق عليه حتى يقول الشعر الرقيق في الغزل كما كان يقول فحبسته في بيت خمسة أشبار في مثلها فصاح الموت أخرجوني فأنا أقول كل ما شئتم فقلت قل فقال حتى أتنفس فأخرجته وأعطيته دواة وقرطاسا فقال أبياته التي أولها صوت ( مَنْ لعبدٍ أذلّه مولاهُ ... ما له شافعٌ إليه سِواهُ ) ( يَشْتكي ما به إليه ويخشاهُ ... ويرجوه مثل ما يخشاهُ ) قال فدفعتها إلى مسرور الخادم فأوصلها وتقدم الرشيد إلى إبراهيم الموصلي فغنى فيها وأمر بإحضار أبي العتاهية فأحضر فلما أحضر قال له أنشدني قولك صوت ( يا عُتْبَ سيّدتي أمَا لكَ ديِنُ ... حتَّى متى قلبي لديكِ رَهينُ ) ( وأنا الذَّلولُ لكلِّ ما حمّلتنِي ... وأنا الشقيُّ البائسُ المسكينُ ) ( وأنا الغداةَ لكلّ باكٍ مُسعِدٌ ... ولكلّ صَبٍّ صاحبٌ وخَدِينُ ) ( لا بأسَ إنّ لذاك عندي راحةً ... لِلصَّبِّ أن يَلْقَى الحزينَ حزينُ ) ( يا عُتْبَ أين أفِرُّ منك أميرتي ... وعليَّ حَصْنٌ من هَواكِ حصينُ ) لإبراهيم في هذه الأبيات هزج عن الهشامي فأمر له الرشيد بخمسين ألف درهم ولأبي العتاهية في الرشيد لما حبسه أشعار كثيرة منها قوله ( يا رشيدَ الأمرِ أَرشِدني إلى ... وجهِ نُجْحِي لا عَدِمتَ الرَّشَدا ) ( لا أراك اللهُ سُوءاً أبداً ... ما رأتْ مثلَك عينٌ أحدَا ) ( أعِنِ الخائفَ وارحَمْ صوتَه ... رافعاً نحوَك يدعوك يَدَا ) ( وابلائي من دَعاوَى أملٍ ... كلّما قلُت تَدانَى بَعُدَا ) ( كم أُمَنِّي بِغَدٍ بعد غدٍ ... يَنْفذُ العمرُ ولم ألقَ غَدَا ) نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثني علي بن مهدي قال حدثني الحسين بن أبي السري قال مر القاسم بن الرشيد في موكب عظيم وكان من أتيه الناس وأبو العتاهية جالس مع قوم على ظهر الطريق فقام أبو العتاهية حين رآه إعظاما له فلم يزل قائما حتى جاز فأجازه ولم يلتفت إليه فقال أبو العتاهية ( يَتِيهُ ابنُ آدم من جهلِهِ ... كأنَّ رَحَا الموت لا تَطْحَنُهْ ) فسمع بعض من في موكبه ذلك فأخبر به القاسم فبعث إلى أبي العتاهية وضربه مائة مقرعة وقال له يابن الفاعلة أتعرض بي في مثل ذلك الموضع وحبسه في داره فدس أبو العتاهية إلى زبيدة بنت جعفر وكانت توجب له حقه هذه الأبيات ( حتّى متى ذُو التّيه في تيهِه ... أصلحه اللهُ وعافاهُ ) ( يَتيه أهلُ التيه من جهلهم ... وهم يموتون وإن تاهُوا ) ( مَنْ طلب العِزّ لِيبقَى به ... فإنَّ عِزّ المرء تَقْواهُ ) ( لم يعتصم بالله من خلْقِهِ ... مَنْ ليس يَرْجُوه ويَخْشاهُ ) وكتب إليها بحاله وضيق حبسه وكانت مائلة إليه فرثت له وأخبرت الرشيد بأمره وكلمته فيه فأحضره وكساه ووصله ولم يرض عن القاسم حتى بر أبا العتاهية وأدناه واعتذر إليه مدحه الرشيد والفضل بن الربيع ونسخت من كتاب هارون بن علي قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني محمد بن سهل عن خالد بن أبي الأزهر قال بعث الرشيد بالحرشي إلى ناحية الموصل فجبى له منها مالا عظيما من بقايا الخراج فوافى به باب الرشيد فأمر بصرف المال أجمع إلى بعض جواريه فاستعظم الناس ذلك وتحدثوا به فرأيت أبا العتاهية وقد أخذه شبه الجنون فقلت له مالك ويحك فقال لي سبحان الله أيدفع هذا المال الجليل إلى امرأة ولا تتعلق كفي بشيء منه ثم دخل إلى الرشيد بعد أيام فأنشده ( اللهُ هوّن عندك الدّنيا ... وبَغَّضَها إليكَا ) ( فأبَيْتَ إلاّ أن تُصَغِّر ... كلَّ شيء في يَدَيْكَا ) ( ما هانتِ الدُّنيا على ... أحدٍ كما هانت علَيْكا ) فقال له الفضل بن الربيع يا أمير المؤمنين ما مدحت الخلفاء بأصدق من هذا المدح فقال يا فضل أعطه عشرين ألف درهم فغدا أبو العتاهية على الفضل فأنشده ( إذا ما كنتَ مُتّخذاً خليلاَ ... فمثلُ الفضلِ فاتَّخِذِ الخليلاَ ) ( يرى الشُّكْرَ القليلَ له عظيماً ... ويُعطى من مَواهبه الجزِيلاَ ) ( أراني حيثُما يَمَّمتُ طرْفي ... وجدتُ على مَكارمه دليلاَ ) فقال له الفضل والله لولا أن أساوي أمير المؤمنين لأعطيتك مثلها ولكن سأوصلها إليك في دفعات ثم أعطاه ما أمر له به الرشيد وزاد له خمسة آلاف درهم من عنده أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا المبرد قال حدثني عبد الصمد بن المعذل قال سمعت الأمير علي بن عيسى بن جعفر يقول كنت صبيا في دار الرشيد فرأيت شيخا ينشد والناس حوله ( ليس للإِنسان إلاّ ما رُزقْ ... أستعينُ الله بالله أَثِقْ ) ( عَلِقَ الهمُّ بقلبي كلِّه ... وإذا ما علِق الهمّ عَلِقْ ) ( بأبي مَنْ كان لي من قلبه ... مَرَّةً وُدٌّ قليلٌ فسرِقْ ) ( يا بني الإِسلام فيكم مَلِكٌ ... جامعُ الإِسلام عنه يَفْترِقْ ) ( لَنَدى هارونَ فيكم ولَهُ ... فيكمُ صَوْبٌ هَطُولٌ ووَرِقْ ) ( لم يَزَلْ هارونُ خيراً كلّه ... قُتِل الشَّرُّ به يومَ خُلِقْ ) فقلت لبعض الهاشميين أما ترى إعجاب الناس بشعر هذا الرجل فقال يا بني إن الأعناق لتقطع دون هذا الطبع قال ثم كان الشيخ أبا العتاهية والذي سأله إبراهيم بن المهدي حدثني الصولي قال حدثنا أحمد بن محمد بن إسحاق قال حدثني عبد القوي بن محمد بن أبي العتاهية عن أبيه قال لبس أبو العتاهية كساء صوف ودراعة صوف وآلى على نفسه ألا يقول شعرا في الغزل وأمر الرشيد بحبسه والتضييق عليه فقال صوت ( يابنَ عمِّ النبي سمعاً وطاعه ... قد خلعنا الكساء والدُّرّاعهْ ) ( ورجَعْنا إلى الصِّناعة لمّا ... كان سُخْطُ الإِمام تَرْكَ الصنِّاعهْ ) وقال أيضا ( أمَا رَحِمْتني يومَ وَلَّتْ فَأَسْرعتْ ... وقد تركَتْني واقفاً أتَلفَّتُ ) ( أُقَلّبُ طَرْفي كي أراها فلا أَرى ... وأحلِبُ عيني دَرَّها وأُصَوِّت ) فلم يزل الرشيد متوانيا في إخراجه إلى أن قال ( أمَا واللَّه إنّ الظلم لُومُ ... وما زال المُسِيء هو الظَّلومُ ) ( إلى دَيَّانِ يومِ الدِّين نَمْضِي ... وعند اللَّه تَجتمع الخصومُ ) ( لأمرٍ مَا تَصَرَّفتِ الليالي ... وأمرٍ مّا تُوُلِّيتِ النُّجومُ ) ( تموت غداً وأنت قَرِيرُ عينٍ ... من الغَفَلات في لُجَجٍ تَعومُ ) ( تنامُ ولم تَنَمْ عنك المنايا ... تَنبّهْ للمنيّة يا نَؤُومُ ) ( سَلِ الأيّام عن أُمَمٍ تَقَضَّتْ ... ستُخبرك المعَالمُ والرُّسُومُ ) ( تَروم الخُلْدَ في دار المنايا ... وكم قد رام غيرُك ما ترومُ ) ( ألاَ يأيّها الملك المُرَجَّى ... عليه نَواهِضُ الدنيا تَحومُ ) ( أَقِلْني زَلَّةً لم أَجْرِ منها ... إلى لَومٍ وما مثلي مَلومُ ) ( وخَلِّصْني تُخَلَّصْ يومَ بَعْثٍ ... إذا للناس بُرِّزت الجَحِيمُ ) فرق وأمر بإطلاقه نسخت من كتاب هارون بن علي قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني ابن أبي الأبيض قال أتيت أبا العتاهية فقلت له إني رجل أقول الشعر في الزهد ولي فيه أشعار كثيرة وهو مذهب أستحسنه لأني أرجو ألا آثم فيه وسمعت شعرك في هذا المعنى فأحببت أن أستزيد منه فأحب أن تنشدني من جيد ما قلت فقال أعلم أن ما قلته رديء قلت وكيف قال لأن الشعر ينبغي أن يكون مثل أشعار الفحول المتقدمين أو مثل شعر بشار وابن هرمة فإن لم يكن كذلك فالصواب لقائله أن تكون ألفاظه مما لا تخفى على جمهور الناس مثل شعري ولا سيما الأشعار التي في الزهد فإن الزهد ليس من مذاهب الملوك ولا من مذاهب رواة الشعر ولا طلاب الغريب وهو مذهب أشغف الناس به الزهاد وأصحاب الحديث والفقهاء وأصحاب الرياء والعامة وأعجب الأشياء إليهم ما فهموه فقلت صدقت ثم أنشدني قصيدته ( لِدُوا للموت وابْنُوا للخراب ... فكلّكُم يَصير إلى تَبابِ ) ( ألاَ يا موتُ لم أر منك بُدّاً ... أتيتَ وما تَحِيفُ وما تُحابي ) ( كأنّك قد هَجَمْتَ على مَشِيبي ... كما هجم المشيبُ على شبَابي ) قال فصرت إلى أبي نواس فأعلمته ما دار بيننا فقال والله ما أحسب في شعره مثل ما أنشدك بيتا آخر فصرت إليه فأخبرته بقول أبي نواس فأنشدني قصيدته التي يقول فيها ( طُولُ التَّعاشُرِ بين النَّاس مَمْلولُ ... ما لابنِ آدمَ إن فَتَّشْتَ معقولُ ) ( يا راعيَ الشّاءِ لا تُغْفِلْ رِعايتها ... فأنت عن كلّ ما استُرْعِيتَ مسؤول ) ( إنّي لَفِي مَنزلٍ ما زِلتُ أعمرُه ... على يَقينٍ بأنّي عنه منقولُ ) ( وليس من مَوْضِعٍ يأتيه ذو نَفَسٍ ... إلاّ وللموتِ سَيفٌ فيه مَسْلولُ ) ( لم يُشْغَل الموتُ عنّا مذ أُعِدّ لنا ... وكلّنا عنه باللذّات مَشغولُ ) ( ومَنْ يَمُتْ فهو مَقْطوعٌ ومُجْتَنَبٌ ... والحيُّ ما عاش مَغْشِيٌّ ومَوْصولُ ) ( كُلْ ما بدا لك فالآكَالُ فانِيةٌ ... وكُلُّ ذي أُكُلٍ لا بُدَّ مَأْكولُ ) قال ثم أنشدني عدة قصائد ما هي بدون هذه فصرت إلى أبي نواس فأخبرته فتغير لونه وقال لم خبرته بما قلت قد والله أجاد ولم يقل فيه سوءا أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن عبد الله بن سعد قال حدثني هارون بن سعدان مولى البجليين قال كنت مع أبي نواس قريبا من دور بني نيبخت بنهر طابق وعنده جماعة فجعل يمر به القواد والكتاب وبنو هاشم فيسلمون عليه وهو متكئ ممدود الرجل لا يتحرك لأحد منهم حتى نظرنا إليه قد قبض رجليه ووثب وقام إلى شيخ قد أقبل على حمار له فاعتنق أبا نواس ووقف أبو نواس يحادثه فلم يزل واقفا معه يراوح بين رجليه يرفع رجلا ويضع أخرى ثم مضى الشيخ ورجع إلينا أبو نواس وهو يتأوه فقال له بعض من حضر والله لأنت أشعر منه فقال والله ما رأيته قط إلا ظننت أنه سماء وأنا أرض رأي بشار فيه قال محمد بن القاسم حدثني علي بن محمد بن عبد الله الكوفي قال حدثني السري بن الصباح مولى ثوبان بن علي قال كنت عند بشار فقلت له من أشعر أهل زماننا فقال مخنث أهل بغداد يعني أبا العتاهية أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم إجازة قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني الخزرجي الشاعر قال حدثني عبد الله بن أيوب الأنصاري قال حدثني أبو العتاهية قال ماتت بنت المهدي فحزن عليها حزنا شديدا حتى امتنع من الطعام والشراب فقلت أبياتا أعزيه بها فوافيته وقد سلا وضحك وأكل وهو يقول لا بد من الصبر على ما لا بد منه ولئن سلونا عمن فقدنا ليسلون عنا من يفقدنا وما يأتي الليل والنهار على شيء إلا أبلياه فلما سمعت هذا منه قلت يا أمير المؤمنين أتأذن لي أن أنشدك قال هات فأنشدته ( ما للجدِيدَيْن لا يَبْلى اختلافُهما ... وكلُّ غَضٍّ جديدٍ فيهما بالِي ) ( يا مَنْ سلا عن حبيبٍ بعد مِيتته ... كم بعد موتِك أيضاً عنك مِنْ سالي ) ( كأَنّ كلَّ نعيمٍ أنت ذائقُه ... من لذّة العيش يحكي لُمْعةَ الآلِ ) ( لا تَلَعَبَنَّ بك الدنيا وأنت ترى ... ما شئتَ من عِبَرٍ فيها وأَمْثال ) ( ما حِيلةُ الموت إلاّ كُلّ صالحةٍ ... أولاَ فما حِيلةٌ فيه لمُحتالِ ) فقال لي أحسنت ويحك وأصبت ما في نفسي ووعظت وأوجزت ثم أمر لي لكل بيت بألف درهم هو يشعر وإبراهيم الموصلي يغني والرشيد يطلق سراحهما أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني أحمد بن خلاد قال حدثني أبي قال لما مات موسى الهادي قال الرشيد لأبي العتاهية قل شعرا في الغزل فقال لا أقول شعرا بعد موسى أبدا فحبسه وأمر إبراهيم الموصلي أن يغني فقال لا أغني بعد موسى أبدا وكان محسنا إليهما فحبسه فلما شخص إلى الرقة حفر لهما حفيرة واسعة وقطع بينهما بحائط وقال كونا بهذا المكان لا تخرجا منه حتى تشعر أنت ويغني هذا فصبرا على ذلك برهة وكان الرشيد يشرب ذات يوم وجعفر بن يحيى معه فغنت جارية صوتا فاستحسناه وطربا عليه طربا شديدا وكان بيتا واحدا فقال الرشيد ما كان أحوجه إلى بيت ثان ليطول الغناء فيه فنستمتع مدة طويلة به فقال له جعفر قد أصبته قال من أين قال تبعث إلى أبي العتاهية فيلحقة به لقدرته على الشعر وسرعته قال هو أنكد من ذلك لا يجيبنا وهو محبوس ونحن في نعيم وطرب قال بلى فاكتب إليه حتى تعلم صحة ما قلت لك فكتب إليه بالقصة وقال ألحق لنا بالبيت بيتا ثانيا فكتب إليه أبو العتاهية ( شُغِل المسكينُ عن تلك المِحَنْ ... فارقَ الرُّوحَ وأَخلَى من بدن ) ( ولقد كُلِّفتُ أمراً عَجباً ... أَسْأَلُ التَّفريحَ من بيت الحَزَنْ ) فلما وصلت قال الرشيد قد عرفتك أنه لا يفعل قال فتخرجه حتى يفعل قال لا حتى يشعر فقد حلفت فأقام أياما لا يفعل قال ثم قال أبو العتاهية لإبراهيم إلى كم هذا نلاج الخلفاء هلم أقل شعرا وتغن فيه فقال أبو العتاهية ( بأبي مَنْ كان في قلبي له ... مرّةً حُبٌّ قليلٌ فسُرِقْ ) ( يا بني العبّاس فيكم مَلِكٌ ... شُعَبُ الإِحسان منه تفترقْ ) ( إنّما هارونُ خيرٌ كلُّه ... مات كلّ الشرّمُذْ يوم خُلِقْ ) وغنى فيه إبراهيم فدعا بهما الرشيد فأنشده أبو العتاهية وغناه إبراهيم فأعطى كل واحد منهما مائة ألف درهم ومائة ثوب حدثني الصولي بهذا الحديث عن الحسين بن يحيى عن عبد الله بن العباس ابن الفضل بن الربيع فقال فيه غضب الرشيد على جارية له فحلف ألا يدخل إليها أياما ثم ندم فقال ( صَدَّ عنّي إذ رآني مُفْتَتَنْ ... وأطال الصَّدَّ لمّا أن فَطَنْ ) ( كان مَملوكي فأضحى مالكي ... إنّ هذا من أعاجيب الزَّمنْ ) وقال لجعفر بن يحيى أطلب لي من يزيد على هذين البيتين فقال له ليس غير أبي العتاهية فبعث إليه فأجاب بالجواب المذكور فأمر بإطلاقه وصلته فقال الآن طاب القول ثم قال ( عِزَّةُ الحِبّ أرتْه ذِلّتي ... في هواه وله وجهٌ حَسَنْ ) ( ولهذا صِرتُ مملوكاً له ... ولهذا شَاعَ ما بي وعَلَنْ ) فقال أحسنت والله وأصبت ما في نفس وأضعف صلته نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى قال حدثني علي بن مهدي قال حدثني الهيثم بن عثمان قال حدثني شبيب بن منصور قال كنت في الموقف واقفا على باب الرشيد فإذا رجل بشع الهيئة على بغل قد جاء فوقف وجعل الناس يسلمون عليه ويسائلونه ويضاحكونه ثم وقف في الموقف فأقبل الناس يشكون أحوالهم فواحد يقول كنت منقطعا إلى فلان فلم يصنع بي خيرا ويقول آخر أملت فلانا فخاب أملي وفعل بي ويشكو آخر من حاله فقال الرجل ( فَتَّشْتُ ذي الدنيا فليس بها ... أَحدٌ أراه لآخَرٍ حامِدْ ) ( حتّى كأنّ الناسَ كلَّهُم ... قد أُفرغوا في قالَب واحدْ ) فسألت عنه فقيل هو أبو العتاهية اتهم سلما الخاسر بالبخل حدثني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن خلاد عن أبيه عن عبد الله بن الحسن قال أنشد المأمون بيت أبي العتاهية يخاطب سلما الخاسر ( تَعالى اللَّه يا سَلْم بنَ عمروٍ ... أذلَّ الحِرصُ أعناقَ الرجالِ ) فقال المأمون إن الحرص لمفسد للدين والمروءة والله ما عرفت من رجل قط حرصا ولا شرها فرأيت فيه مصطنعا فبلغ ذلك سلما فقال ويلي على المخنث الجرار الزنديق جمع الأموال وكنزها وعبأ البدور في بيته ثم تزهد مراءاة ونفاقا فأخذ يهتف بي إذا تصديت للطلب أخبرني أحمد بن العباس العسكري المؤدب ومحمد بن عمران الصيرفي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن أحمد بن سليمان العتكي قال حدثني العباس بن عبيد الله بن سنان بن عبد الملك بن مسمع قال كنا عند قثم بن جعفر بن سليمان وعنده أبو العتاهية ينشد في الزهد فقال قثم يا عباس أطلب الساعة الجماز حيث كان ولك عندي سبق فطلبته فوجدته عند ركن دار جعفر بن سليمان فقلت أجب الأمير فقام معي حتى أتى قثم فجلس في ناحية مجلسه وأبو العتاهية ينشده فأنشأ الجماز يقول ( ما أقبحَ التَّزهِيدَ من واعظٍ ... يُزَهِّد الناسَ ولا يَزْهَدُ ) ( لو كان في تزهيده صادقاً ... أَضحى وأمسى بيتُه المسجدُ ) ( يخاف أن تنفَد أرزاقُه ... والرزق عند اللَّه لا ينفَدُ ) ( والرزق مقسومٌ على مَنْ تَرى ... ينالُه الأبيضُ والأسودُ ) قال فالتفت أبو العتاهية إليه فقال من هذا قالوا هذا الجماز وهو ابن أخت سلم الخاسر اقتص لخاله منك فأقبل عليه وقال يابن أخي إني لم أذهب حيث ظننت ولا ظن خالك ولا أردت أن أهتف به وإما خاطبته كما يخاطب الرجل صديقه فالله يغفر لكما ثم قام مخارق يغني بشعره أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني محمد بن أحمد بن خلف الشمري عن أبيه قال كنت عند مخارق فجاء أبو العتاهية في يوم جمعة فقال لي حاجة وأريد الصلاة فقال مخارق لا أبرح حتى تعود قال فرجع وطرح ثيابه وهي صوف وغسل وجهه ثم قال له غنني صوت ( قال لي أحمدٌ ولم يدرِ ما بي ... أتُحِبّ الغداةَ عُتْبةَ حقَّا ) ( فتنَّفستُ ثم قلتُ نعمْ حُبّاً ... جرى في العُروق عِرْقاً فعرقَا ) فجذب مخارق دواة كانت بين يديه فأوقع عليها ثم غناه فاستعاده ثلاث مرات فأعاده عليه ثم قام وهو يقول لا يسمع والله هذا الغناء أحد فيفلح وهذا الخبر رواية محمد بن القاسم بن مهرويه عنه وحدثنا به أيضا في كتاب هارون بن علي بن يحيى عن ابن مهرويه عن ابن عمار قال حدثني أحمد بن يعقوب عن محمد بن حسان الضبي قال حدثنا مخارق قال لقيني أبو العتاهية فقال بلغني أنك خرجت قولي ( قال لي أحمدٌ ولم يَدْرِ ما بي ... أتُحِبُّ الغداةَ عُتْبةَ حَقَّا ) فقلت نعم فقال غنه فملت معه إلى خراب فيه قوم فقراء سكان فغنيته إياه فقال أحسنت والله منذ ابتدأت حتى سكت ثم قال لي أما ترى ما فعل الملك بأهل هذا الخراب أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال قال مخارق لقيت أبا العتاهية على الجسر فقلت له يا أبا إسحاق أتنشدني قولك في تبخيلك الناس كلهم فضحك وقال لي ها هنا قلت نعم فأنشدني ( إن كنتَ مُتّخِذاً خليلاً ... فَتَنَقَّ وانتقِدِ الخليلاَ ) ( مَنْ لم يكن لك مُنصِفاً ... في الوِدّ فابْغِ به بديلاَ ) ( ولربَما سُئِل البخيلُ ... الشيءَ لا يَسْوَى فَتِيلا ) ( فيقول لا أجد السَّبيلَ ... إليه يَكْرَهُ أن يُنِيلا ) ( فلذاك لا جعَل الإِلهُ ... له إلى خيرٍ سبيلاَ ) ( فاضْرِبْ بطَرْفك حيث شئتَ ... فلن ترى إلاّ بخيلاَ ) فقلت له أفرطت يا أبا إسحاق فقال فديتك فأكذبني بجواد واحد فأحببت موافقته فالتفت يمينا وشمالا ثم قلت ما أجد فقبل بين عيني وقال فديتك يا بني لقد رفقت حتى كدت تسرف أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن مخارق قال كان أبو العتاهية لما نسك يقول لي يا بني حدثني فإن ألفاظك تطرب كما يطرب غناؤك عتابه لأحمد بن يوسف أخبرني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري قال حدثني أبو هفان قال حدثني موسى بن عبد الملك قال كان أحمد بن يوسف صديقا لأبي العتاهية فلما خدم المأمون وخص به رأى منه أبو العتاهية جفوة فكتب إليه ( أبا جعفرٍ إن الشريفَ يَشينه ... تَتَايُهُه على الأَخِلاّء بالوَفْرِ ) ( ألم تر أنّ الفقر يُرجَى له الغنَى ... وأنّ الغَنى يُخشَى عليه من الفقر ) ( فإن نِلتَ تِيهاً بالذي نِلْتَ من غنىً ... فإنّ غنايَ في التجمّل والصبر ) قال فبعث إليه بألفي درهم وكتب إليه يعتذر مما أنكره أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن أحمد بن إبراهيم الكوفي قال حدثني أبو جعفر المعبدي قال قلت لأبي العتاهية أجز لي قول الشاعر ( وكان المالُ يأتينا فكنْا ... نُبَذّره وليس لنا عقولُ ) ( فلمّا أن تولَّى المالُ عنّا ... عَقَلْنا حين ليس لنا فُضُولُ ) قال فقال أبو العتاهية على المكان ( فقصِّر ما ترى بالصّبر حقًّا ... فكلٌّ إن صبرتَ له مُزِيلُ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني الحسن بن الفضل الزعفراني قال حدثني من سمع أبا العتاهية يقول لابنه وقد غضب عليه اذهب فإنك ثقيل الظل جامد الهواء خبر النعل الذي كتب على شراكها شعرا أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني يحيى بن خليفة الرازي قال حدثنا حبيب بن الجهم النميري قال حضرت الفضل بن الربيع متجزا جائزتي وفرضي فلم يدخل عليه أحد قبلي فإذا عون حاجبه قد جاء فقال هذا أبو العتاهية يسلم عليك وقد قدم من مكة فقال أعفني منه الساعة يشغلني عن ركوبي فخرج إليه عون فقال إنه على الركوب إلى أمير المؤمنين فأخرج من كمه نعلا عليها شراك فقال قل له إن أبا العتاهية أهداها إليك جعلت فداءك قال فدخل بها فقال ما هذه فقال نعل وعلى شراكها مكتوب كتاب فقال يا حبيب اقرأ ما عليها فقرأته فإذا هو ( نَعلٌ بعثتُ بها ليلبسَها ... قَرْمٌ بها يمشي إلى المجدِ ) ( لو كان يَصلُح أن أُشَرّكها ... خدّي جعلتُ شِراكَها خدّي ) فقال لحاجبه عون احملها معنا فحملها فلما دخل على الأمين قال له يا عباسي ما هذه النعل فقال أهداها إلي أبو العتاهية وكتب عليها بيتين وكان أمير المؤمنين أولى بلبسها لما وصف به لابسها فقال وما هما فقرأهما فقال أجاد والله وما سبقه إلى هذا المعنى أحد هبوا له عشرة آلاف درهم فأخرجت والله في بدرة وهو راكب على حماره فقبضها وانصرف سذاجته وقلة معرفته أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكوفي قال حدثنا عمرو صاحب الطعام وكان جار أبي العتاهية قال كان أبو العتاهية من أقل الناس معرفة سمعت بشرا المريسي يقول له يا أبا إسحاق لا تصل خلف فلان جارك وإما مسجدكم فإنه مشبه قال كلا إنه قرأ بنا البارحة في الصلاة ( قل هو الله أحد ) وإذا هو يظن أن المشبه لا يقرأ ( قل هو الله أحد ) أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن يعقوب الهاشمي قال حدثني أبو شيخ منصور بن سليمان عن أبيه قال كتب بكر بن المعتمر إلى أبي العتاهية يشكو إليه ضيق القيد وغم الحبس فكتب إليه أبو العتاهية ( هيَ الأيّام والعِبَرُ ... وأمرُ الله يُنْتَظَرُ ) ( أَتَيْأس أن ترى فرجاً ... فأين اللهُ والقَدَرُ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال كنت أمشي مع أبي العتاهية يده في يدي وهو متكئ علي ينظر إلى الناس يذهبون ويجيئون فقال أما تراهم هذا يتيه فلا يتكلم وهذا يتكلم بصلف ثم قال لي مر بعض أولاد المهلب بمالك بن دينار وهو يخطر فقال يا بني لو خفضت بعض هذه الخيلاء ألم يكن أحسن بك من هذه الشهرة التي قد شهرت بها نفسك فقال له الفتى أو ما تعرف من أنا فقال له بلى والله أعرفك معرفة جيدة أولك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت بين ذينك حامل عذرة قال فأرخى الفتى أذنيه وكف عما كان يفعل وطأطأ رأسه ومشى مسترسلا ثم أنشدني أبو العتاهية ( أيا واهاً لذِكر اللَّهِ ... يا واهاً له واهَا ) ( لقد طَيَّب ذِكروُ اللَّه ... بالتسبيح أَفواها ) ( فيا أنتنَ من حُشٍّ ... على حشٍّ إذا تاها ) ( أرى قوماً يتيهون ... حُشوشا رُزقوا جاهَا ) حدثني اليزيدي عن عمه إسماعيل بن محمد بن أبي محمد قال قلت لأبي العتاهية وقد جاءنا يا أبا إسحاق شعرك كله حسن عجيب ولقد مرت بي منذ أيام أبيات لك استحسنتها جدا وذلك أنها مقلوبة أيضا فأواخرها كأنها رأسها لو كتبها الإنسان إلى صديق له كتابا والله لقد كان حسنا أرفع ما يكون شعرا قال وما هي قلت ( المرءُ في تأخير مُدّته ... كالثوب يَخْلُق بعد جِدّتِه ) ( وحياتُهُ نَفَسٌ يُعَدّ له ... ووفاتُه استكمالُ عِدّتِه ) ( ومصيرُه من بعد مُدّته ... لِبِلًى وذا من بعد وُحْدته ) ( مَنْ مات مَالَ ذوو مودّته ... عنه وحالوا عن مودّتِه ) ( أزِفَ الرحيلُ ونحن في لَعِبٍ ... ما نستعِدّ له بِعُدّته ) ( ولقلّما تُبْقي الخطوبُ على ... أشَرِ الشّبابِ وحَرِّ وَقْدته ) ( عَجَباً لمنتبِهٍ يُضَيّع ما ... يحتاج فيه ليوم رَقْدته ) قال اليزيدي قال عمي وحدثني الحسين بن الضحاك قال كنت مع أبي نواس فأنشدني أبياته التي يقول فيها ( يا بني النقصِ والغِيَرْ ... وبني الضعف والخَوَرْ ) فلما فرغ منها قال لي يا أبا علي والله لكأنها من كلام صاحبك يعني أبا العتاهية أخبرني الحسن بن علي قال حدثني حذيفة بن محمد الطائي قال حدثني أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي قال حججت فرأيت أبا العتاهية واقفا على أعرابي في ظل ميل وعليه شملة إذا غطى بها رأسه بدت رجلاه وإذا غطى رجليه بدا رأسه فقال له أبو العتاهية كيف اخترت هذا البلد القفر على البلدان المخصبة فقال له يا هذا لولا أن الله أقنع بعض العباد بشر البلاد ما وسع خير البلاد جميع العباد فقال له فمن أين معاشكم فقال منكم معشر الحاج تمرون بنا فننال من فضولكم وتنصرفون فيكون ذلك فقال له إنما نمر وننصرف في وقت من السنة فمن أين معاشكم فأطرق الأعرابي ثم قال لا والله لا أدري ما أقول إلا أنا نرزق من حيث لا نحتسب أكثر مما نرزق من حيث نحتسب فولى أبو العتاهية وهو يقول ( ألاَ يا طالبَ الدُّنيا ... دَعِ الدنيا لشانِيكَا ) ( وما تصنَعُ بالدنيا ... وظِلُّ المِيل يَكْفِيكَا ) سلم الخاسر يشتمه بعد أن سمع هجوه أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال لما قال أبو العتاهية ( تعالى اللهُ يا سَلْمُ بنَ عَمْرٍ ... أذلّ الحرصُ أعناقَ الرجالِ ) قال سلم ويلي على ابن الفاعلة كنز البدور ويزعم أني حريص وأنا في ثوبي هذين أخبرني محمد بن مزيد والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمرو بن أدعج قال قلت لعبد الله بن عبد العزيز العمري وسمعته يتمثل كثيرا من شعر أبي العتاهية أشهد أني سمعته ينشد لنفسه ( مَرّتِ اليومَ شاطرهْ ... بَضَّة الجسم ساخرهْ ) ( إنّ دُنيا هي التي ... مرّت اليومَ سافرهْ ) ( سَرَقوا نصفَ اسمها ... فَهْيَ دنيا وآخِرهْ ) فقال عبد الله بن عبد العزيز وكله الله إلى آخرتها قال وما سمع بعد ذلك يتمثل ببيت من شعره قال علي بن الحسين مؤلف هذا الكتاب هذه الأبيات لأبي عيينة المهلبي وكان يشبب بدنيا في شعره فإما أن يكون الخبر غلطا وإما أن يكون الرجل أنشدها العمري لأبي العتاهية وهو لا يعلم أنها ليست له الموازنة بينه وبين أبي نواس أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل قال قال لي الحرمازي شهدت أبا العتاهية وأبا نواس في مجلس وكان أبو العتاهية أسرع الرجلين جوابا عند البديهة وكان أبو نواس أسرعهما في قول الشعر فإذا تعاطيا جميعا السرعة فضله أبو العتاهية وإذا توقفا وتمهلا فضله أبو نواس أخبرني أحمد بن العباس عن ابن عليل العنزي قال حدثنا أبو أنس كثير بن محمد الحزامي قال حدثني الزبير بن بكار عن معروف العاملي قال قال أبو العتاهية كنت منقطعا إلى صالح المسكين وهو ابن أبي جعفر المنصور فأصبت في ناحيته مائة ألف درهم وكان لي ودودا وصديقا فجئته يوما وكان لي في مجلسه مرتبة لا يجلس فيها غيري فنظرت إليه قد قصر بي عنها وعاودته ثانية فكانت حاله تلك ورأيت نظره إلي ثقيلا فنهضت وقلت ( أراني صالحٌ بُغْضا ... فأظهرتُ له بُغضَا ) ( ولا واللهِ لا ينقُض ... إلا زدتُه نَقْضا ) ( وإلاّ زِدتُه مقتا ... وإلا زدته رفْضَا ) ( أَلاَ يا مُفْسِد الودّ ... وقد كان له محضا ) ( تغضبت مِنَ الريح ... فما أَطلُب أن تَرْضَى ) ( لئن كان لك المالُ ... المُصفى إنّ لي عِرْضَا ) قال أبو العتاهية فنمي الكلام إلى صالح فنادى بالعداوة فقلت فيه ( مَدَدْتُ لمُعْرِضٍ حَبْلاً طويلاً ... كأطول ما يكون من الحِبَالِ ) ( حبالٍ بالصَّريمة ليس تَفْنى ... مُوصَّلةٍ على عَدد الرمال ) ( فلا تنظُرْ إليّ ولا تُرِدْني ... ولا تُقْرِبْ حبالَك من حبالي ) ( فليت الرَّدْمَ من يأجوجَ بيني ... وبينَك مثبتاً أُخرَى الليالي ) ( فكَرشْ إن أردتَ لنا كلاماً ... ونقطع قِحْفَ رأسِه بالقَذَال ) حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا علي بن سليمان النوفلي قال قال مساور السباق وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير عن مساور السباق قال شهدت جنازة في أيام الحاج وقت خروج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن المقتول بفخ فرأيت رجلا قد حضر الجنازة معنا وقد قال لآخر هذا الرجل الذي صفته كذا وكذا أبو العتاهية فالتفت إليه فقلت له أنت أبو العتاهية فقال لا أنا أبو إسحاق فقلت له أنشدني شيئا من شعرك فقال لي ما أحمقك نحن على سفر وعلى شفير قبر وفي أيام العشر وببلدكم هذا تستنشدني الشعر ثم أدبر عني ثم عاد إلي فقال وأخرى أزيدكها لا والله ما رأيت في بني آدم قط أسمج منك وجها قال النوفلي في خبره وصدق أبو العتاهية كان مساور هذا مقبحا طويل الوجه كأنه ينظر في سيف أخبرني عمي الحسن بن محمد وجحظة قالا حدثنا ميمون بن هارون قال قدم أبو العتاهية يوما منزل يحيى بن خاقان فلما قام بادر له الحاجب فانصرف وأتاه يوما آخر فصادفه حين نزل فسلم عليه ودخل إلى منزله ولم يأذن له فأخذ قرطاسا وكتب إليه ( أَراكَ تُراعُ حين تَرى خَيالي ... فما هذا يَرُوعك من خيالي ) ( لعلّك خائفٌ منّي سؤالي ... ألاَ فلَكَ الأمانُ مِنَ السؤالِ ) ( كَفَيتُك إنّ حالَك لم تَمِلْ بي ... لأطلُبَ مثلَها بَدَلاً بحالي ) ( وإنّ اليُسْرَ مثلُ العُسْر عندي ... بأيّهما مُنِيتُ فلا أُبَالي ) فلما قرأ الرقعة أمر الحاجب بإدخاله إليه فطلبه فأبى أن يرجع معه ولم يلتقيا بعد ذلك أخبرني عبد الله بن محمد الرازي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني قال اجتمع أبو نواس وأبو الشمقمق في بيت ابن أذين وكان بين أبي العتاهية وبين أبي الشمقمق شر فخبأوه من أبي العتاهية في بيت ودخل أبو العتاهية فنظر إلى غلام عندهم فيه تأنيث فظن أنه جارية فقال لابن أذين متى استطرفت هذه الجارية فقال قريبا يا أبا إسحاق فقال قل فيها ما حضر فمد أبو العتاهية يده إليه وقال ( مددتُ كَفّي نحوَكم سائلاً ... ماذا تَرُدُّون على السائِلِ ) فلم يلبث أبو الشمقمق حتى ناداه من البيت ( نَرُدّ في كفِّك ذا فَيْشَةٍ ... يَشْفِي جوىً في اسْتِك من داخلِ ) فقال أبو العتاهية شمقمق والله وقام مغضبا أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال حدثني سليمان بن عباد قال حدثنا سليمان بن مناذر قال كنا عند جعفر بن يحيى وأبو العتاهية حاضر في وسط المجلس فقال أبو العتاهية لجعفر جعلني الله فداك معكم شاعر يعرف بابن أبي أمية أحب أن اسمعه ينشد فقال له جعفر هو أقرب الناس منك فأقبل أبو العتاهية على محمد وكان إلى جانبه وسأله أن ينشده فكأنه حصر ثم أنشده صوت ( رُبّ وعدٍ منك لا أَنساه لي ... أَوْجَبَ الشكرَ وإن لم تَفعلِ ) ( أَقطَعُ الدهرَ بوعدٍ حَسَنٍ ... وأُجَلِّي غَمْرةً ما تَنْجَلي ) ( كلّما أمّلتُ وعداً صالحاً ... عَرَض المكروهُ دونَ الأَمل ) ( وأَرى الأيّام لاَ تُدْنِي الذي ... أَرْتَجِي منك وتُدْني أَجلي ) في هذه الأبيات لأبي حبشة رمل قال فأقبل أبو العتاهية يردد البيت الأخير ويقبل رأس ابن أبي أمية ويبكي وقال وددت والله أنه لي بكثير من شعري أسماء أبنائه أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة قال كانت لأبي العتاهية بنتان اسم إحداهما لله والأخرى بالله فخطب منصور بن المهدي لله فلم يزوجه وقال إنما طلبها لأنها بنت أبي العتاهية وكأني بها قد ملها فلم يكن لي إلى الانتصاف منه سبيل وما كنت لأزوجها إلا بائع خزف وجرار ولكني أختاره لها موسرا وكان لأبي العتاهية ابن يقال له محمد وكان شاعرا وهو القائل ( قد أَفْلَح السَّالمُِ الصَّمُوتُ ... كَلاَمُ راعِي الكلامِ قُوتُ ) ( ما كلُّ نُطْقٍ له جوابٌ ... جوابُ ما يُكْرَهُ السُّكوتُ ) ( يا عَجباً لامرىءٍ ظَلُومٍ ... مُسْتَيقِنٍ أنّه يموت ) نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثنا زكريا بن الحسين عن عبد الله بن الحسن بن سهل الكاتب قال قلت لأبي العتاهية أنشدني من شعرك ما تستحسن فأنشدني ( ما أَسرعَ الأيّامَ في الشّهرِ ... وأسرَع الأَشْهُرَ في العُمْرِ ) صوت ( ليس لمن ليستْ له حيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ من الصَّبْرِ ) ( فاخْطُ مع الدهر إذا ما خطا ... واجْرِ مع الدهر كما يَجْرِي ) ( مَنْ سَابَقَ الدهرَ كبا كَبْوةً ... لم يَسْتَقِلْها آخِرَ الدهر ) لإبراهيم في هذه الأبيات خفيف ثقيل وثقيل أول قال عبد الله بن الحسن وسمعت أبا العتاهية يحدث قال ما زال الفضل ابن الربيع من أميل الناس إلي فلما رجع من خراسان بعد موت الرشيد دخلت إليه فاستنشدني فأنشدته ( أَفنيتَ عمرَك إِدباراً وإِقبالاً ... تَبْغي البنين وتَبْغي الأهُلَ والمالاَ ) ( الموتُ هَوْلٌ فكُنْ ما شِئتَ مُلْتمِساً ... من هَوْلِه حِيلةً إن كنتَ مُحتالا ) ( ألم تَرَ المَلِكَ الأَمْسِيَّ حين مضى ... هل نال حيٌّ من الدنيا كما نَالاَ ) ( أفناه مَنْ لم يَزَلْ يُفْنِي القُرونَ فَقَدْ ... أضحى وأصبح عنه الملكُ قد زالا ) ( كم من ملوكٍ مضى رَيْبُ الزمان بهم ... فأصبحوا عِيَراً فينا وأَمثالاَ ) فاستحسنها وقال أنت تعرف شغلي فعد إلي في وقت فراغي اقعد معك وآنس بك فلم أزل أراقب أيامه حتى كان يوم فراغه فصرت إليه فبينما هو مقبل علي يستنشدني ويسألني فأحدثه إذ أنشدته ( ولّى الشبابُ فماله من حِيلةٍ ... وكَسَا ذُؤَابَتِيَ المشيبُ خمارَا ) ( أين البرامكةُ الذين عَهِدْتُهمْ ... بالأمسِ أعظمَ أهْلِها أَخطارا ) فلما سمع ذكرى البرامكة تغير لونه ورأيت الكراهية في وجهه فما رأيت منه خيرا بعد ذلك قال وكان أبو العتاهية يحدث هذا الحديث ابن الحسن بن سهل فقال له لئن كان ذلك ضرك عند الفضل بن الربيع لقد نفعك عندنا فأمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة أثواب وأجرى له كل شهر ثلاثة آلاف درهم فلم يزل يقبلها دارة إلي أن مات قال عبد الله بن الحسن بن سهل وسمعت عمرو بن مسعدة يقول قال لي أخي مجاشع بينما أنا في بيتي إذ جاءتني رقعة من أبي العتاهية فيها ( خليلٌ لي أُكَاتُمه ... أَراني لا أُلائِمُهُ ) ( خليلٌ لا تَهُبَ الرِّيحُ ... إلاّ هبّ لائِمهُ ) ( كذا منْ نال سلطاناً ... ومن كَثْرتْ دراهمهُ ) قال فبعثت إليه فأتاني فقلت له أما رعيت حقا ولا ذماما ولا مودة فقال لي ما قلت سوءا قلت فما حملك على هذا قال أغيب عنك عشرة أيام فلا تسأل عني ولا تبعث إلي رسولا فقلت يا أبا إسحاق أنسيت قولك ( يَأْبَى المُعَلَّق بالمُنَى ... إلاّ رَواحاً وادّلاجَا ) ( أرْفُقْ فعمرُك عُودُ ذي ... أَوَدٍ رأيتُ به اعوجاجَا ) ( مَنْ عَاج من شيءٍ إلى ... شيءٍ أصاب له مَعَاجا ) فقال حسبك حسبك أوسعتني عذرا عاب شعر ابن مناذر أخبرني محمد بن عمران الصيرفي الزارع قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عمران بن عبد الصمد الزارع قال حدثنا ابن عائشة قال قال أبو العتاهية لابن مناذر شعرك مهجن لا يلحق بالفحول وأنت خارج عن طبقة المحدثين فإن كنت تشبهت بالعجاج ورؤبة فما لحقتهما ولا أنت في طريقهما وإن كنت تذهب مذهب المحدثين فما صنعت شيئا أخبرني عن قولك ( ومَنْ عاداك لاقَى المَرْمرِيسا ... ) أخبرني عن المرمريس ما هو قال فخجل ابن مناذر وما راجعه حرفا قال وكان بينهما تناغر نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى قال حدثني الحسين بن إسماعيل المهدي قال حدثني رجاء بن سلمة قال وجد المأمون علي في شيء فاستأذنته في الحج فأذن لي فقدمت البصرة وعبيد الله بن إسحاق بن الفضل الهاشمي عليها وإليه أمر الحج فزاملته إلى مكة فبينا نحن في الطواف رأيت أبا العتاهية فقلت لعبيد الله جعلت فداك أتحب أن ترى أبا العتاهية فقال والله إني لأحب أن أراه وأعاشره قلت فافرغ من طوافك واخرج ففعل فأخذت بيد أبي العتاهية فقلت له يا أبا إسحاق هل لك في رجل من أهل البصرة شاعر أديب ظريف قال وكيف لي بذلك فأخذت بيده فجئت به إلى عبيد الله وكان لا يعرفه فتحدثا ساعة ثم قال له أبو العتاهية هل لك في بيتين تجيزهما فقال له عبيد الله إنه لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج فقال له لا نرفث ولا نفسق ولا نجادل فقال هات إذا فقال أبو العتاهية ( إنّ المنونَ غُدُوَّها ورَواحَها ... في الناس دائبة تُجِيل قِداحَها ) ( يا ساكنَ الدنيا لقد أُّوطنتَها ... ولَتَنْزَحَنّ وإن كرِهت نَزَاحَها ) فأطرق عبيد الله ينظر إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه فقال ( خُذْ لا أبالك للمنيّة عُدَّةً ... واحْتَلْ لنفسك إن أَردتَ صلاحَها ) ( لا تَغْتَرِرْ فكأنَّني بُعُقاب رَيب ... الموت قد نَشَرتْ عليك جَنَاحَهَا ) قال ثم سمعت الناس ينحلون أبا العتاهية هذه الأربعة الأبيات كلها وليس له إلا البيتان الأولان خبره في السجن مع داعية عيسى بن زيد أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا ميمون بن هارون قال حدثني إبراهيم بن رباح قال أخبرني إبراهيم بن عبد الله وأخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا هارون بن مخارق قال حدثني إبراهيم بن دسكرة وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال قال أبو العتاهية حبسني الرشيد لما تركت قول الشعر فأدخلت السجن وأغلق الباب علي فدهشت كما يدهش مثلي لتلك الحال وإذا أنا برجل جالس في جانب الحبس مقيد فجعلت أنظر إليه ساعة ثم تمثل صوت ( تَعوّدَتُ مُرَّ الصبر حتى أَلِفْتُهُ ... وأسلمني حسنُ العَزاء إلى الصبرِ ) ( وصيّرني يأسى من النَّاس راجياً ... لحُسْن صنيعِ الله من حيثُ لا أدري ) فقلت له أعد يرحمك الله هذين البيتين فقال لي ويلك أبا العتاهية ما أسوأ أدبك وأقل عقلك دخلت علي الحبس فما سلمت تسليم المسلم على المسلم ولا سألت مسألة الحر للحر ولا توجعت توجع المبتلى للمبتلى حتى إذا سمعت بيتين من الشعر الذي لا فضل فيك غيره لم تصبر عن استعادتهما ولم تقدم قبل مسألتك عنهما عذرا لنفسك في طلبهما فقلت يا أخي إني دهشت لهذه الحال فلا تعذلني واعذرني متفضلا بذلك فقال أنا والله أولى بالدهش والحيرة منك لأنك حبست في أن تقول شعرا به ارتفعت وبلغت فإذا قلت أمنت وأنا مأخوذ بأن أدل على ابن رسول الله ليقتل أو أقتل دونه ووالله لا أدل عليه أبدا والساعة يدعى بي فأقتل فأينا أحق بالدهش فقلت له أنا والله أولى سلمك الله وكفاك ولو علمت أن هذه حالك ما سألتك قال فلا نبخل عليك إذا ثم أعاد البيتين حتى حفظتهما قال فسألته من هو فقال أنا خاص داعية عيسى بن زيد وابنه أحمد ولم نلبث أن سمعنا صوت الأقفال فقام فسكب عليه ماء كان عنده في جرة ولبس ثوبا نظيفا كان عنده ودخل الحرس والجند معهم الشمع فأخرجونا جميعا وقدم قبلي إلى الرشيد فسأله عن أحمد بن عيسى فقال لا تسألني عنه واصنع ما أنت صانع فلو أنه تحت ثوبي هذا ما كشفته عنه وأمر بضرب عنقه فضرب ثم قال لي أظنك قد ارتعت يا إسماعيل فقلت دون ما رأيته تسيل منه النفوس فقال ردوه إلى محبسه فرددت وانتحلت هذين البيتين وزدت فيهما ( إذا أنا لم أقْبَلْ من الدّهر كلَّ ما ... تكَرَّهتُ منه طال عَتْبي على الدهر ) لزرزور غلام المارقي في هذه البيتين المذكورين خفيف رمل وفيهما لعريب خفيف ثقيل نسخت من كتاب هارون بن علي بن يحيى حدثني علي بن مهدي قال حدثني ناجية بن عبد الواحد قال قال لي أبو العباس الخزيمي كان أبو العتاهية خلفا في الشعر بينما هو يقول في موسى الهادي ( لَهْفِي على الزمنِ القصيرِ ... بين الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرِ ) إذ قال ( أيا ذَوِي الوَخامهْ ... أكثرتُمُ المَلامة ) ( فليس لي على ذا ... صبْرٌ ولا قُلامهْ ) ( نعْم عَشِقتُ مُوقاً ... هل قامتِ القيامةْ ) ( لأَرْكَبنّ فيمن ... هَوِيتُه الصَّرامهْ ) ونسخت من كتابه حدثني علي بن مهدي قال حدثني أحمد بن عيسى قال حدثني الجماز قال قال سلم الخاسر صار إلي أبو العتاهية فقال جئتك زائرا فقلت مقبول منك ومشكور أنت عليه فأقم فقال إن هذا مما يشتد علي قلت ولم يشتد عليك ما يسهل على أهل الأدب فقال لمعرفتي بضيق صدرك فقلت له وأنا أضحك وأعجب من مكابرته رمتني بدائها وانسلت فقال دعني من هذا واسمع مني أبياتا فقلت هات فأنشدني ( نغَّص الموتُ كلَّ لذّة عيشٍ ... يا لَقومِي لِلْمَوت ما أَوْحَاه ) ( عجباً أنّه إذا مات مَيْتٌ ... صَدّ عنه حبيبُه وجَفاهُ ) ( حيثما وُجِّه امرؤٌ ليفوتَ الموت ... فالموتُ واقفٌ بِحِذَاهُ ) ( إنّما الشَّيْبُ لابن أدمَ ناعٍ ... قام في عارِضَيْهِ ثم نَعَاهُ ) ( منْ تَمَنَّى المُنَى فأَغْرق فيها ... مات من قبلِ أن ينالَ مُناهُ ) ( ما أَذَلَ المُقِلَّ في أَعْيُنِ النّاس ... لإِقلاله وما أَقْمَاهُ ) ( إنما تنظر العيونُ من الناسِ ... إلى من تَرْجوه أو تخْشاهُ ) ثم قال لي كيف رأيتها فقلت له لقد جودتها لو لم تكن ألفاظها سوقية فقال والله ما يرغبني فيها إلا الذي زهدك فيها شعره في التكبر ونسخت من كتابة عن علي بن مهدي قال حدثني عبد الله بن عطية عن محمد بن عيسى الحربي قال كنت جالسا مع أبي العتاهية إذ مر بنا حميد الطوسي في موكبه وبين يديه الفرسان والرجالة وكان بقرب أبي العتاهية سوادي على أتان فضربوا وجه الأتان ونحوه عن الطريق وحميد واضع طرفه على معرفة فرسه والناس ينظرون إليه يعجبون منه وهو لا يلتفت تيها فقال أبو العتاهية ( لِلموت أبناءٌ بهمْ ... ما شِئْتَ من صَلَفٍ وتيهِ ) ( وكأنّني بالموت قد ... دَارَتْ رَحَاه على بنِيه ) قال فلما جاز حميد مع صاحب الأتان قال أبو العتاهية ( ما أذلَّ المُقِلَّ في أعين الناس ... لإِقلاله وما أَقْماهُ ) ( إنما تنظر العيونُ من الناس ... إلى من تَرْجوه أو تَخْشاهُ ) قال علي بن مهدي وحدثني الحسين بن أبي السري قال قيل لأبي العتاهية مالك تبخل بما رزقك الله قال والله ما بخلت بما رزقني الله قط قيل له وكيف ذاك وفي بيتك من المال ما لا يحصى قال ليس ذلك رزقي ولو كان رزقي لأنفقته قال علي بن مهدي وحدثني محمد بن جعفر الشهرزوري قال حدثني رجاء مولى صالح الشهرزوري قال كان أبو العتاهية صديقا لصالح الشهرزوري وآنس الناس به فسأله أن يكلم الفضل بن يحيى في حاجة له فقال له صالح لست أكلمه في أشباه هذا ولكن حملني ما شئت في مالي فانصرف عنه أبو العتاهية وأقام أياما لا يأتيه فكتب إليه أبو العتاهية ( أَقْلِلْ زيارتَك الصديقَ ولا تُطِلْ ... إِتيانَه فتَلِجَّ في هِجْرانِه ) ( إنّ الصديقَ يَلِجّ في غِشْيانِه ... لصديقه فيُمَلُّ من غِشْيانه ) ( حتّى تراه بعد طول مَسّرةٍ ... بمكانه مُتَبرِّماً بمكانِه ) ( وأقَلُّ ما يُلْفَى الفتى ثِقَلاً علىَ ... إخوانه ما كفّ عن إخوانه ) ( وإذا توانَى عن صِيانة نفسه ... رجلٌ تُنُقص واستُخِفّ بشانه ) فلما قرأ الأبيات قال سبحان الله أتهجرني لمنعي إياك شيئا تعلم إني ما ابتذلت نفسي له قط وتنسى مودتي وأخوتي ومن دون ما بيني وبينك ما أوجب عليك أن تعذرني فكتب إليه ( أهلَ التّخَلُّقِ لو يَدوم تَخَلُّقُ ... لسكنتُ ظِلّ جَناح مَنْ يَتَخَلَّقُ ) ( ما الناس في الإِمساك إلا واحدٌ ... فبأيّهم إنْ حُصِّلوا أَتعلّقُ ) ( هذا زمانٌ قد تعود أهلُه ... تيهَ الملوك وفَعلَ مَنْ يَتصدّق ) فلما أصبح صالح غدا بالأبيات على الفضل بن يحيى وحدثه بالحديث فقال له لا والله ما على الأرض أبغض إلي من إسداء عارفة إلى أبي العتاهية لأنه ممن ليس يظهر عليه أثر صنيعة وقد قضيت حاجته لك فرجع وأرسلني بقضاء حاجته فقال أبو العتاهية ( جَزَى اللهُ عنِّي صالحاً بوفائه ... وأَضْعَفَ أضعافاً له في جَزائِه ) ( بَلَوْتُ رجالاً بعدّه في إخائهمْ ... فما ازددتُ إلاّ رغبةً في إخائه ) ( صديقٌ إذا ما جئتُ أَبغيه حاجةً ... رجعتُ بما أبغِي ووجهي بمائه ) أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني أحمد بن حرب قال أنشدني محمد بن أبي العتاهية لأبيه يعاتب صالحا هذا في تأخيره قضاء حاجته صوت ( أَعَيْنَيَّ جُودَا وابكيا وُدَّ صالِح ... وهِيجَا عليه مُعْولاتِ النَّوائِح ) ( فما زالَ سلطاناً أخٌ لي أوَدُّه ... فَيْقْطَعُني جُرْماً قطيعةَ صالح ) الغناء في هذين البيتين لإبراهيم ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر أخبرني محمد بن أبي الأزهر قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده قال كان الرشيد معجبا بشعر أبي العتاهية فخرج إلينا يوما وفي يده رقعتان على نسخة واحدة فبعث بإحداهما إلى مؤدب لولده وقال ليروهم ما فيها ودفع الأخرى إلي وقال غن في هذه الأبيات ففتحتها فإذا فيها صوت ( قُلْ لِمَنْ ضّنَّ بوُدِّهْ ... وكَوى القلبَ بَصدِّهْ ) ( ما ابتلىَ اللهُ فؤادي ... بكَ إلاّ شُؤْمَ جَدِّهْ ) ( أيُّها السارقُ عَقْلِي ... لا تَضَنّنَّ بِرَدِّهْ ) ( ما أرى حُبَّكَ إلاّ ... بالغاً بي فوقَ حَدِّهْ ) أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني عبد الله بن الأموي العتبي قال قال لي محمد بن عبد الملك الزيات لما أحس المعتصم بالموت قال لابنه الواثق ذهب والله أبوك يا هارون لله در أبي العتاهية حيث يقول ( الموتُ بين الخَلْقِ مُشْتَرَكُ ... لا سُوقةٌ يَبْقَى ولا مَلِكُ ) ( ما ضَرَّ أصحابَ القليل وما ... أَغْنَى عَنِ الأملاكِ ما مَلَكُوا ) أبو تمام يقول لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شركه فيها أحد أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي الحسن والكوكبي قالوا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال قال لي أبو تماح الطائي لأبي العتاهية خمسة أبيات ما شركه فيها أحد ولا قدر على مثلها متقدم ولا متأخر وهو قوله ( الناسُ في غَفَلاتِهِمْ ... ورَحَى المَنِيَّةِ تَطْحَنُ ) وقوله لأحمد بن يوسف ( ألم تَرَ أنّ الفَقْرَ يُرْجَى لي الغِنَى ... وأنّ الغِنَى يُخْشى عليه مِنَ الفَقْرِ ) وقوله في موسى الهادي ( ولمّا اسْتَقَلُّوا بأَثقالِهمْ ... وقد أَزْمَعُوا للذَي أَزمعوا ) ( قرنتُ التفاتي بآثارِهم ... وأَتْبَعْتُهمْ مُقْلةً تَدْمَعُ ) وقوله ( هَبِ الدنيا تصير إليك عَفْواً ... أليس مصيرُ ذاكَ إلى زَوَالِ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن سعيد المهدي عن يحيى بن سعيد الأنصاري قال مات شيخ لنا ببغداد فلما دفناه أقبل الناس على أخيه يعزونه فجاء أبو العتاهية إليه وبه جزع شديد فعزاه ثم أنشد ( لا تَأمن الدَّهْرَ والْبَسْ ... لكلِّ حينٍ لِبَاسَا ) ( لَيَدْفِنَّنَا أُنَاسٌ ... كما دَفَنَّا أُنَاسَا ) قال فانصرف الناس وما حفظوا غير قول أبي العتاهية نسخت من كتاب هارون بن علي حدثني علي بن مهدي قال حدثني حبيب ابن عبد الرحمن عن بعض أصحابه قال كنت في مجلس خزيمة فجرى حديث ما يسفك من الدماء فقال والله ما لنا عند الله عذر ولا حجة إلا رجاء عفوه ومغفرته ولولا عز السلطان وكراهة الذلة وأن أصير بعد الرياسة سوقة وتابعا بعد ما كنت متبوعا ما كان في الأرض أزهد ولا أعبد مني فإذا هو بالحاجب قد دخل عليه برقعة من أبي العتاهية فيها مكتوب ( أراكَ امرأً ترجو من الله عَفْوَهُ ... وأنت على مالا يُحِبُّ مُقِيمُ ) ( تَدُلُّ على التقوى وأنت مُقَصِّرٌ ... أيا مَنْ يُدَاوِي الناسَ وهو سَقِيمُ ) ( وإنَّ امرأً لم يُلْهِهِ اليومُ عن غَدٍ ... تَخَوُّفَ ما يأتي به لحكيمُ ) ( وإنّ امرأً لم يَجعلِ البِرَّ كنزَه ... وإنْ كانتِ الدنيا له لعديمُ ) فغضب خزيمة وقال والله ما المعروف عند هذا المعتوه الملحف من كنوز البر فيرغب فيه حر فقيل له وكيف ذاك فقال لأنه من الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ونسخت من كتابه عن علي بن مهدي قال حدثني الحسين بن أبي السري قال قال لي الفضل بن العباس قال لي أبو العتاهية دخلت على يزيد بن مزيد فأنشدته قصيدتي التي أقول فيها ( وما ذاك إلاَّ أَنَّني وَاثِقٌ بما ... لديك وأَنِّي عالمٌ بوفائِكا ) ( كأنّك في صدري إذا جئتُ زائراً ... تُقَدِّر فيه حاجتي بابتدائكا ) ( وإنّ أميرَ المؤمنين وغيرَه ... ليَعلَمُ في الهيجاء فضل غَنائِكا ) ( كأنّك عند الكَرِّفي الحرب إنّما ... تَفِرُّ من السِّلْم الذي من وَرائِكا ) ( فما آفةُ الأملاكِ غيرُك في الوَغَى ... ولا آفةُ الأموال غيرُ حِبائكا ) قال فأعطاني عشرة آلاف درهم ودابة بسرجها ولجامها وأخبرني عيسى بن الحسين الوراق وعمي الحسن بن محمد وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال مر عابد براهب في صومعة فقال له عظني فقال أعظك وعليكم نزل القرآن ونبيكم محمد قريب العهد بكم قلت نعم قال فاتعظ ببيت من شعر شاعركم أبي العتاهية حين يقول ( تَجَرَّدْ مِنَ الدنيا فإِنَّك إِنَّما ... وقعتَ إلى الدنيا وأنت مُجَرَّدُ ) العتابي يفضله على أبي نواس أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني الفضل بن محمد الزارع قال حدثني جعفر بن جميل قال قدم العتابي الشاعر على المأمون فأنزله على إسحاق بن إبراهيم فأنزله على كاتبه ثوابة بن يونس وكنا نختلف إليه نكتب عنه فجرى ذات يوم ذكر الشعراء فقال لكم يأهل العراق شاعر منوه الكنية ما فعل فذكر القوم أبا نواس فانتهرهم ونفض يده وقال ليس ذلك حتى طال الكلام فقلت لعلك تريد أبا العتاهية فقال نعم ذاك أشعر الأولين والآخرين في وقته أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني محمد بن إسحاق عن علي بن عبد الله الكندي قال جلس أبو العتاهية يوما يعذل أبا نواس ويلومه في استماع الغناء ومجالسته لأصحابه فقال له أبو نواس ( أَتُرَانِي يا عَتَاهِي ... تاركاً تلك المَلاَهِي ) ( أتُراني مفْسِداً بالنُّسْكِ ... عند القوم جاهي ) قال فوثب أبو العتاهية وقال لا بارك الله عليك وجعل أبو نواس يضحك إبراهيم بن المهدي يتهمه بالزندقة أخبرني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال بلغ أبا العتاهية أن أبي رماه في مجلسه بالزندقة وذكره بها فبعث إليه يعاتبه على لسان إسحاق الموصلي فأدى إليه إسحاق الرسالة فكتب إليه أبي ( إنّ المنيَّة أَمهلتْك عَتَاهِي ... والموتُ لا يسهو وقلبُك ساهِي ) ( يا ويحَ ذي السنّ الضعيف أمَالُه ... عن غَيِّه قبل الممات تَنَاهِي ) ( وُكِّلْتَ بالدنيا تُبَكِّيها وتَنْدُبها ... وأنت عَنِ القيامة لاهي ) ( والعيشُ حُلْوٌ والمَنُونُ مَريرةٌ ... والدَّارُ دارُ تَفَاخُرٍ وتَبَاهي ) ( فاخْتَرْ لنفسك دونها سُبُلاً ولا ... تَتَحامَقَنَّ لها فإِنَّك لاهِي ) ( لا يُعْجِبَنَّكَ أنْ يقال مُفَوَّهٌ ... حَسَنُ البَلاغة أو غَرِيضُ الجاه ) ( أَصْلِحْ جَهُولاً من سَرِيرتك الّتي ... تخلو بها وارهَبْ مَقَامَ اللهِ ) ( إنِّي رأيتُك مُظْهِراً لِزَهَادةٍ ... تحتاجُ منك لها إلى أشباه ) عبد الله بن العباس يشغف بغناء شعره أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى الصولي قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال رآني الرشيد مشغوفا بالغناء في شعر أبي العتاهية صوت ( أحمدٌ قال لي ولم يَدْر ما بي ... أَتُحِبُّ الغداةَ عُتْبةَ حَقَّا ) ( فتَنَفَّسْتُ ثم قلتُ نَعَمْ حُبّاً ... جَرَى في العُروق عِرْقاً فعِرقَا ) ( لو تَجُسِّينَ يا عُتَيبةُ قلبي ... لَوَجَدْتِ الفؤادَ قَرْحاً تَفَقَّا ) ( قد لَعَمْري مَلَّ الطبيبُ ومَلَّ الأهلُ ... منِّي مما أُقاسِي وألْقَى ) ( ليتَني مِتُّ فاسترحتُ فإِنِّي ... أبداً ما حَيِيتُ منها مُلَقَّى ) ولا سيما من مخارق وكان يغني فيه رملا لإبراهيم أخذه عنه وفيه لحن لفريدة رمل هكذا قال الصولي فريدة بالياء وغيره يقول فرندة بالنون حدثني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا محمد بن صالح العدوي قال أخبرني أبو العتاهية قال كان الرشيد مما يعجبه غناء الملاحين في الزلالات إذا ركبها وكان يتأذى بفساد كلامهم ولحنهم فقال قولوا لمن معنا من الشعراء يعملوا لهؤلاء شعرا يغنون فيه فقيل له ليس أحد أقدر على هذا من أبي العتاهية وهو في الحبس قال فوجه إلي الرشيد قل شعرا حتى أسمعه منهم ولم يأمر بإطلاقي فغاظني ذلك فقلت والله لأقولن شعرا يحزنه ولا يسر به فعملت شعرا ودفعته إلى من حفظه الملاحين فلما ركب الحراقة سمعه وهو ( خانَك الطَّرْفُ الطَّمُوحُ ... أيُّها القَلبُ الجَمُوحُ ) ( لِدَوَاعِي الخَيْرِ والشّرِّ ... دُنُوٌّ ونُزُوحُ ) ( هلْ لمطلوبٍ بِذَنْبٍ ... توبةٌ منه نصُوحُ ) ( كيف إصلاحُ قُلُوبٍ ... إنّما هُنَّ قُروحُ ) ( أَحْسَنَ اللهُ بنا أَنَّ ... الخَطَايَا لا تَفُوحُ ) ( فإذَا المستورُ مِنَّا ... بينَ ثَوْبَيْهِ نَضُوحُ ) ( كَمْ رأينا مِنْ عَزِيزٍ ... طُوِيتْ عنه الكشُوحُ ) ( صاحَ منه بِرَحِيلٍ ... صائحُ الدَّهْرِ الصَّدُوحُ ) ( موتُ بعضِ الناسِ في الأرْضِ ... على قومٍ فُتُوحُ ) ( سيصير المرءُ يوماً ... جَسَداً ... ما فيه رُوحُ ) ( بين عَيْنَيْ كُلَّ حَيِّ ... عَلَمُ الموتِ يلوحُ ) ( كُلُّنا في غَفْلةٍ والْمَوْتُ ... يغدو ويروح ) ( لِبَنِي الدُّنيا مِنَ الدُّنْيَا ... غَبُوقٌ وصَبُوحُ ) ( رُحْنَ في الوَشْي وأصْبَحْنَ ... عليِنَّ المُسُوحُ ) ( كلَّ نَطَّاحٍ مِنَ الدَّهْرِ له يومٌ نَطُوحُ ) ( نُحْ على نٌفْسِك يا مِسْكينُ ... إنْ كنتَ تنوح ) ( لتَمْوتَنَّ وإنْ عُمِّرْتَ ... ما عُمِّر نُوحُ ) قال فلما سمع ذلك الرشيد جعل يبكي وينتحب وكان الرشيد من أغزر الناس دموعا في وقت الموعظة وأشدهم عسفا في وقت الغضب والغلظة فلما رأى الفضل بن الربيع كثرة بكائه أومأ إلى الملاحين أن يسكتوا حدثني الصولي قال حدثني الحسن بن جابر كاتب الحسن بن رجاء قال لما حبس الرشيد أبا العتاهية دفعه إلى منجاب فكان يعنف به فقال أبو العتاهية ( مِنْجَابُ مات بِدائه ... فاعْجَلْ له بِدَوائِه ) ( إنَّ الإِمامَ أَعلَّه ... ظُلْماً بحَدّ شَقائه ) ( لا تُعْنِفنّ سِيَاقَهُ ... ما كُلُّ ذاك بِرَائِهِ ) ( ما شِمْتُ هذا في مَخَايِلِ ... بَارِقاتِ سَمَائِه ) مدح الرشيد وأبناءه الثلاثة أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني أحمد بن معاوية القرشي قال لما عقد الرشيد ولاية العهد لبنيه الثلاثة الأمين والمأمون والمؤتمن قال أبو العتاهية ( رَحَلْتُ عَنِ الرَّبْعِ المُحِيل قَعُودِي ... إلى ذي زُحُوفٍ جَمَّةٍ وجُنُودِ ) ( وَراعٍ يُراعي اللَّيل في حِفْظِ أُمَّةٍ ... يُدافِع عنها الشرَّ غيرِ رَقُودِ ) ( بِأَلْوِيَة جبريلُ يَقْدُم أهلَها ... ورَايات نَصْرٍ حولَه وبُنودِ ) ( تَجَافَى عَنِ الدُّنْيا وأَيْقَن أَنَّها ... مُفَارِقَةٌ ليستْ بدَارِ خُلودِ ) ( وشَدَّ عُرَا الإِسلامِ منه بِفِتْيةٍ ... ثَلاثةِ أملاكٍ وُلاَةِ عُهُودِ ) ( هُمْ خيرُ أولادٍ لَهْمْ خيرُ وَالدٍ ... لَهُ خيرُ آباءٍ مَضَتْ وجُدود ) ( بنو المصطفَى هارونَ حولَ سَرِيرِه ... فَخَيْرُ قِيَامٍ حولَه وقُعودِ ) ( تُقَلِّبُ ألحاظَ المَهَابةِ بينهم ... عيونُ ظِبَاءٍ في قَلوبِ أُسُودِ ) ( جُدُودُهمُ شمسٌ أتتْ في أَهِلَّةٍ ... تَنَدَّتْ لِرَاءٍ في نُجومٍ سُعُودِ ) قال فوصله الرشيد بصلة ما وصل بمثلها شاعرا قط أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي إجازة قال حدثني الرياشي قال قدم رسول لملك الروم إلى الرشيد فسأل عن أبي العتاهية وأنشده شيئا من شعره وكان يحسن العربية فمضى إلى ملك الروم وذكره له فكتب ملك الروم إليه ورد رسوله يسأل الرشيد أن يوجه بأبي العتاهية ويأخذ فيه رهائن من أراد وألح في ذلك فكلم الرشيد أبا العتاهية في ذلك فاستعفى منه وأباه واتصل بالرشيد أن ملك الروم أمر أن يكتب بيتان من شعر أبي العتاهية على أبواب مجالسه وباب مدينته وهما صوت ( ما اختلفَ اللَّيْلُ والنَّهارُ ولا ... دارتْ نجومُ السماء في الفَلَكِ ) ( إلاّ لِنَقْلِ السُّلطانِ عن مَلِكٍ ... قَدِ انْقَضَى مُلْكُه إلى مَلِكِ ) أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا الربيع بن محمد الختلي الوراق قال أخبرني ابن أبي العتاهية أن الرشيد لما أطلق أباه من الحبس لزم بيته وقطع الناس فذكره الرشيد فعرف خبره فقال قولوا له صرت زير نساء وحلس بيت فكتب إليه أبو العتاهية ( بَرِمْتُ بِالنَّاسِ وأَخلاقِهِم ... فصِرْتُ أَسْتَأْنِسُ بِالوُحْدَهْ ) ( ما أكثَرَ النَّاسَ لَعَمْرِي وما ... أَقَلَّهم في مُنْتَهى العِدَّهْ ) ثم قال لا ينبغي أن يمض شعر إلى أمير المؤمنين ليس فيه مدح له فقرن هذين البيتين بأربعة أبيات مدحه فيها وهي صوت ( عادَ لي من ذِكْرِها نَصَبُ ... فدموعُ العَين تَنْسكِبُ ) ( وكذاكَ الحُبُّ صَاحِبُه ... يَعْتَرِيهِ الهَمُّ والوَصَبُ ) ( خيرُ مَنْ يُرْجَى ومَنْ يَهَب ... مَلِكٌ دانتْ له العَرَبُ ) ( وحقيقٌ أنْ يُدَانَ له ... مَنْ أبوه لِلنَّبِيّ أَبُ ) قال شعرا فأبكى الرشيد حدثنا الصولي قال حدثنا عون بن محمد قال حدثنا محمد بن أبي العتاهية قال قال الرشيد لأبي عظني فقال له أخافك فقال له أنت آمن فأنشده ( لا تَأُمَنِ الموتَ في طَرْفٍ ولا نَفَسٍ ... إذَا تَسَتَّرْتَ بِالأبواب والحَرَسِ ) ( واعْلَمْ بأنّ سِهامَ الموت قاصدةٌ ... لكلِّ مُدَّرعٍ منّا ومُتَّرِسِ ) ( ترجو النجاةَ ولم تَسْلُكْ طَرِيقَتها ... إنّ السفينةَ لا تَجْرِي على اليَبسِ ) قال فبكى الرشيد حتى بل كمه حدثني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال قال لي أحمد بن أبي فنن تناظرت أنا والفتح بن خاقان في منزله أيما الرجلين أشعر أبو نواس أم أبو العتاهية فقال الفتح أبو نواس وقلت أبو العتاهية ثم قلت لو وضعت أشعار العرب كلها بإزاء شعر أبي العتاهية لفضلها وليس بيننا خلاف في أن له في كل قصيدة جيدا ووسطا وضعيفا فإذا جمع جيده كان أكثر من جيد كل مجود ثم قلت له بمن ترضى قال بالحسين بن الضحاك فما انقطع كلامنا حتى دخل الحسين بن الضحاك فقلت ما تقول في رجلين تشاجرا فضل أحدهما أبو نواس وفضل الآخر أبا العتاهية فقال الحسين أُمُّ من فضل أبا نواس على أبي العتاهية زانية فخجل الفتح حتى تبين ذلك فيه ثم لم يعاودني في شيء من ذكرهما حتى افترقنا وقد حدثني الحسن بن محمد بهذا الخبر على خلاف ما ذكره إبراهيم بن المهدي فيما تقدم فقال حدثني هارون بن مخارق قال حدثني أبي قال جاءني أبو العتاهية فقال قد عزمت على أن أتزود منك يوما تهبه لي فمتى تنشط فقلت متى شئت فقال أخاف أن تقطع بي فقلت والله لا فعلت وإن طلبني الخليفة فقال يكون ذلك في غد فقلت أفعل فلما كان من غد باكرني رسوله فجئته فأدخلني بيتا له نظيفا فيه فرش نظيف ثم دعا بمائدة عليها خبز سميذ وخل وبقل وملح وجدي مشوي فأكلنا منه ثم دعا بسمك مشوي فأصبنا منه حتى اكتفينا ثم دعا بحلواء فأصبنا منها وغسلنا أيدينا وجاؤونا بفاكهة وريحان وألوان من الأنبذة فقال اختر ما يصلح لك منها فاخترت وشربت وصب قدحا ثم قال غنني في قولي ( أحمدٌ قال لي ولم يَدْرِ ما بي ... أَتُحِبُّ الغَداةَ عُتْبَةَ حَقَّا ) فغنيته فشرب قدحا وهو يبكي أحر بكاء ثم قال غنني في قولي ( ليس لِمَنْ ليستْ له حِيلةٌ ... موجودةٌ خيرٌ مِنَ الصَّبرِ ) فغنيته وهو يبكي وينشج ثم شرب قدحا آخر ثم قال غنني فديتك في قولي ( خَلِيليَّ مالي لا تزالُ مَضَرَّتِي ... تكونُ مع الأَقدارِ حَتْماً من الحَتْمِ ) فغنيته إياه وما زال يقترح علي كل صوت غني به في شعره فأغنيه ويشرب ويبكي حتى صار العتمة فقال أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع فجلست فأمر ابنه وغلامه فكسرا كل ما بين أيدنا من النبيذ وآلته والملاهي ثم أمر بإخراج كل ما في بيته من النبيذ وآلته فأخرج جميعه فما زال يكسره ويصب النبيذ وهو يبكي حتى لم يبق من ذلك شيء ثم نزع ثيابه واغتسل ثم لبس ثيابا بيضا من صوف ثم عانقني وبكى ثم قال السلام عليك يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم سلام الفراق الذي لا لقاء بعده وجعل يبكي وقال هذا آخر عهدي بك في حال تعاشر أهل الدنيا فظننت أنها بعض حماقاته فانصرفت وما لقيته زمانا ثم تشوقته فأتيته فاستأذنت عليه فأذن لي فدخلت فإذا هو قد أخذ قوصرتين وثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها وأقامها مقام القميص وثقب الأخرى وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السراويل فلما رأيته نسيت كل ما كان عندي من الغم عليه والوحشة لعشرته وضحكت والله ضحكا ما ضحكت مثله قط فقال من أي شيء تضحك فقلت أسخن الله عينك هذا أي شيء هو من بلغك عنه أنه فعل مثل هذا من الأنبياء والزهاد والصحابة والمجانين إنزع عنك هذا يا سخين العين فكأنه استحيا مني ثم بلغني أنه جلس حجاما فجهدت أن أراه بتلك الحال فلم أره ثم مرض فبلغني أنه اشتهى أن أغنيه فأتيته عائدا فخرج إلي رسوله يقول إن دخلت إلي جددت لي حزنا وتاقت نفسي من سماعك إلى ما قد غلبتها عليه وأن أستودعك الله وأعتذر إليك من ترك الإلتقاء ثم كان آخر عهدي به حدثني جحظة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قيل لأبي العتاهية عند الموت ما تشتهي فقال أشتهي أن يجيء مخارق فيضع فمه على أذني ثم يغنيني ( سَيُعْرَضُ عن ذِكْرِي وتُنْسَى مَوَدّتي ... ويَحْدِثُ بعدي للخليلِ خليلُ ) ( إذَا ما انقضتْ عنِّي مِنَ الدَّهْرِ مُدَّتِي ... فإنَّ غَنَاءَ الباكياتِ قَليلُ ) وأخبرني به أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال قال بشر بن الوليد لأبي العتاهية عند الموت ما تشتهي فذكر مثل الأول وأخبرني به ابن عمار أبو العباس عن ابن أبي سعد عن محمد بن صالح أن بشرا قال ذلك لأبي العتاهية عند الموت فأجابه بهذا الجواب آخر شعر قاله قبل موته نسخت من كتاب هارون بن علي حدثني علي بن مهدي قال حدثني عبد الله بن عطية قال حدثني محمد بن أبي العتاهية قال آخر شعر قاله أبي في مرضه الذي مات فيه ( إلهي لا تُعَذَّبْنِي فإِنِّي ... مُقِرٌّ بالَّذي قد كان مِنِّي ) ( فما لي حيلةٌ إلاّ رجائي ... لِعَفْوِك إنْ عَفَوْتَ وحُسْنُ ظَنِّي ) ( وكَم مِنْ زَلَةٍ لي في الخَطَايا ... وأنتَ عليَّ ذو فَضْلٍ ومَنِّ ) ( إذَا فَكَّرتُ في نَدَمي عليها ... عَضِضْتُ أَنامِلي وقَرَعْتُ سِنِّي ) ( أجنُّ بِزَهْرةِ الدُّنْيا جُنونا ... وأَقْطَعُ طولَ عُمْري بالتَّمنِّي ) ( ولَوْ أَنِّي صَدَقْتُ الزُّهْدَ عنها ... قلبتُ لأهلِها ظَهْرَ المِجَنِّ ) ( يَظُنّ الناسُ بي خيراً وإِنِّي ... لَشَرُّ الخَلْقِ إنْ لم تَعْفُ عنِّي ) أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل قال حدثني أحمد بن حمزة الضبعي قال أخبرني أبو محمد المؤدب قال قال أبو العتاهية لابنته رقية في علته التي مات فيها قومي يا بنية فاندبي أباك بهذه الأبيات فقامت فندبته بقوله ( لَعِبَ البِلَى بمَعَالِمي ورُسُومي ... وقُبِرْتُ حَيًّا تحت رَدْمِ هُمومي ) ( لَزِمَ البِلَى جِسْمِي فَاَوْهَنَ قُوَّتي ... إنّ البِلَى لَمُوَكَّلٌ بِلُزومي ) أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن داود بن الجراح قال حدثني عل بن محمد قال حدثني مخارق المغني قال توفي أبو العتاهية وإبراهيم الموصلي وأبو عمرو الشيباني عبد السلام في يوم واحد في خلافة المأمون وذلك في سنة ثلاث عشرة ومائتين أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن أحمد بن يوسف عن أحمد بن الخليل عن إسماعيل بن أبي قتسة قال مات أبو العتاهية وراشد الخناق وهشيمة الخمارة في يوم واحد سنة تسع ومائتين وذكر الحارث بن أبي أسامة عن محمد بن سعد كاتب الواقدي أن أبا العتاهية مات في يوم الاثنين لثمان خلون من جمادى الأولى سنة إحدى عشرة ومائتين ودفن حيال قنطرة الزياتين في الجانب الغربي ببغداد أخبرني الصولي عن محمد بن موسى عن أبي محمد الشيباني عن محمد بن أبي العتاهية أن أباه توفي سنة عشر ومائتين الشعر الذي كتب على قبره أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى عن محمد بن القاسم عن إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد عن إسحاق بن عبد الله بن شعيب قال أمر أبو العتاهية أن يكتب على قبره ( أُذْنَ حَيُّ تَسَمَّعِي ... إسْمَعِي ثُمّ عِي وعِي ) ( أنا رَهْنٌ بِمَضْجَعِي ... فَاحذَرِي مِثْلَ مَصْرَعِي ) ( عِشْتُ تسعينَ حِجَّةً ... أَسْلِمَتْني لمَضْجَعي ) ( كَمْ ترى الحيَّ ثابتاً ... في دِيَارِ التزَعْزُعِ ) ( ليس زادٌ سوى التُّقى ... فخُذِي منه أوْ دَعِي ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال لما مات أبو العتاهية رثاه ابنه محمد بن أبي العتاهية فقال ( يا أبي ضَمَّكَ الثَّرَى ... وطَوَى الموتُ أَجْمَعَكْ ) ( ليتَني يومَ مُتَّ صِرْتُ ... إلى حُفْرةٍ مَعَكْ ) ( رحِمَ اللهُ مَصْرَعَكْ ... بَرَّدَ اللهُ مَضْجَعَك ) أخبرني الحسن قال حدثني أحمد بن زهير قال قال محمد بن أبي العتاهية لقيني محمد بن أبي محمد اليزيدي فقال أنشدني الأبيات التي أوصى أبوك أن تكتب على قبره فأنشأت أقول له ( كَذَبْتَ علَى أخٍ لك في مَمَاتهْ ... وكَمْ كَذِبٍ فَشَا لك في حَيَاتهْ ) ( وأَكْذَبُ ما تكونُ على صَدِيقٍ ... كَذَبْتَ عليه حَيًّا في مَمَاتهْ ) فخجل وانصرف قال والناس يقولون إنه أوصى أن يكتب على قبره شعر له وكان ابنه ينكر ذلك وذكر هارون بن علي بن مهدي عن عبد الرحمن بن الفضل أنه قرأ الأبيات العينية التي أولها ( أُذْنَ حَيٍّ تَسمَّعي ... ) على حجر عند قبر أبي العتاهية ولم أذكر هاهنا مع أخبار أبي العتاهية أخباره مع عتبة وهي من أعظم أخباره لأنها طويلة وفيها أغان كثيرة وقد طالت أخباره هاهنا فأفردتها أخبار فريدة قال مؤلف هذا الكتاب هما اثنتان محسنتان لهما صنعة تسميان بفريدة فأما إحداهما وهي الكبرى فكانت مولدة نشأت بالحجاز ثم وقعت إلى آل الربيع فعلمت الغناء في دورهم ثم صارت إلى البرامكة فلما قتل جعفر بن يحيى ونكبوا هربت وطلبها الرشيد فلم يجدها ثم صارت إلى الأمين فلما قتل خرجت فتزوجها الهيثم بن مسلم فولدت له ابنه عبد الله ثم مات عنها فتزوجها السندي بن الحرشي وماتت عنده ولها صنعة جيدة منها في شعر الوليد بن يزيد صوت ( وَيْحَ سَلْمَى لو تَرَانِي ... لَعَنَاها ما عَنَانِي ) ( واقفاً في الدَّار أبكِي ... عاشقاً حُورَ الغَوانِي ) ولحنها فيه خفيف رمل ومن صنعتها صوت ( ألا أَيّها الرَّكْبُ النِّيامُ ألاَ هُبُّوا ... نُسَائلُكُمْ هل يقتُل الرَّجُل الحُبُّ ) ( ألاَ رُبَّ رَكْبٍ قد وقفتُ مَطِيَّهُمْ ... عليكِ ولولا أنتِ لم يَقفِ الرَّكْبُ ) لحنها فيه ثاني ثقيل وفيه لابن جامع خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى فحدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثني العمري قال حدثني الهيثم بن عدي قال قال صالح بن حسان يوما ما نصف بيت كأنه أعرابي في شملة والنصف الآخر كأنه مخنث مفكك قلت لا أدري فقال قد أجلتك حولا فقلت لو أجلتني عشرة أحوال ما عرفته فقال أوه أف لك قد كنت أحسبك أجود ذهنا مما أرى فقلت فما هو الآن قال قول جميل ( أَلاَ أيّها الرَّكْبُ النِّيامُ ألاَ هُبُّوا ... ) هذا كلام أعرابي ثم قال ( أُسائلكم هل يقتل الرَّجلَ الحبُّ ... ) كأنه والله من مخنثي العقيق وأما فريدة الأخرى فهي التي أرى بل لا أشك في أن اللحن المختار لها لأن إسحاق اختار هذه المائة الصوت للواثق فاختار فيها لمتيم لحنا ولأبي دلف لحنا ولسليم بن سلام لحنا ولرياض جارية أبي حماد لحنا وكانت فريدة أثيرا عند الواثق وحظية لديه جدا فاختار لها هذا الصوت لمكانها من الواثق ولأنها ليست دون من اختار له من نظرائها أخبرني الصولي قال حدثنا الحسين بن يحيى عن ريق أنها اجتمعت هي وخشف الواضحية يوما فتذاكرتا أحسن ما سمعتاه من المغنيات فقالت ريق شارية أحسنهن غناء ومتيم وقالت خشف عريب وفريدة ثم اجتمعتا على تساويهن وتقديم متيم في الصنعة وعريب في الغزارة والكثرة وشارية وفريدة في الطيب وأحكام الغناء حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي قال كانت فريدة جارية الواثق لعمرو بن بانة وهو أهداها إلى الواثق وكانت من الموصوفات المحسنات وربيت عند عمرو بن بانة مع صاحبة لها اسمها خل وكانت حسنة الوجه حسنة الغناء حادة الفطنة والفهم قال الهشامي فحدثني عمرو بن بانة قال غنيت الواثق ( قلتُ حِلاًّ فاقبَلِي مَعْذِرَتي ... ما كذا يَجْزِي مُحِبٌّ مَنْ أحَبّ ) فقال لي تقدم إلى الستارة فألقه على فريدة فألقيته عليها فقالت هو حل أو خل كيف هو فعلمت أنها سألتني عن صاحبتها في خفاء من الواثق ولما تزوجها المتوكل أرادها على الغناء فأبت أن تغني وفاء للواثق فأقام على رأسها خادما وأمره أن يضرب رأسها أبدا أو تغني فاندفعت وغنت ( فَلا تَبْعَدْ فكُلُّ فتىً سيأتي ... عليه الموتُ يَطْرُقُ أو يُغَادي ) خبر لها مع الواثق أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال حدثني محمد ابن الحارث بن بسخنر قال كانت لي نوبة في خدمة الواثق في كل جمعة إذا حضرت ركبت إلى الدار فإن نشط إلى الشرب أقمت عنده وإن لم ينشط انصرفت وكان رسمنا ألا يحضر أحد منا إلا في يوم نوبته فإني لفي منزلي في غير يوم نوبتي إذا رسل الخليفة قد هجموا علي وقالوا لي احضر فقلت ألخير قالوا خير فقلت إن هذا يوم لم يحضرني فيه أمير المؤمنين قط ولعلكم غلطتم قالوا الله المستعان لا تطل وبادر فقد أمرنا ألا ندعك تستقر على الأرض فداحلني فزع شديد وخفت أن يكون ساع قد سعى بي أو بلية قد حدثت في رأي الخليفة علي فتقدمت بما أردت وركبت حتى وافيت الدار فذهبت لأدخل على رسمي من حيث كنت أدخل فمنعت وأخذ بيدي الخدم فأدخلوني وعدلوا بي إلى ممرات لا أعرفها فزاد ذلك في جزعي وغمي ثم لم يزل الخدم يسلمونني من خدم إلى خدم حتى أفضيت إلى دار مفروشة الصحن ملبسة الحيطان بالوشي المنسوج بالذهب ثم أفضيت إلى رواق أرضه وحيطانه ملبسة بمثل ذلك وإذا الواثق في صدره على سرير مرصع بالجوهر وعليه ثياب منسوجة بالذهب وإلى جانبه فريدة جاريته عليها مثل ثيابه وفي حجرها عود فلما رآني قال جودت والله يا محمد إلينا فقبلت الأرض ثم قلت يا أمير المؤمنين خيرا قال خيرا أما ترانا طلبت والله ثالثا يؤنسنا فلم أر أحق بذلك منك فبحياتي بادر فكل شيئا وبادر إلينا فقلت قد والله يا سيدي أكلت وشربت أيضا قال فاجلس فجلست وقال هاتوا لمحمد رطلا في قدح فأحضرت ذلك واندفعت فريدة تغني ( أَهابُكِ إجلالاً وما بك قدرةٌ ... عليَّ ولكِنْ مِلءُ عينٍ حَبِيبُها ) ( وما هَجَرتْكِ النَّفْسُ يا لَيْلُ أَنَّها ... قَلتْكِ ولا أنْ قَلَّ منكِ نَصِيبُها ) فجاءت والله بالسحر وجعل الواثق يجاذبها وفي خلال ذلك تغني الصوت بعد الصوت وأغني أنا في خلال غنائها فمر لنا أحسن ما مر لأحد فإنا لكذلك إذ رفع رجله فضرب بها صدر فريدة ضربة تدحرجت منها من أعلى السرير إلى الأرض وتفتت عودها ومرت تعدو وتصيح وبقيت أنا كالمنزوع الروح ولم أشك في أن عينه وقعت علي وقد نظرت إليها ونظرت إلي فأطرق ساعة إلى الأرض متحيرا وأطرقت أتوقع ضرب العنق فإني لكذلك إذ قال لي يا محمد فوثبت فقال ويحك أرأيت أغرب مما تهيأ علينا فقلت يا سيدي الساعة والله تخرج روحي فعلى من أصابنا بالعين لعنة الله فما كان السبب ألذنب قال لا والله ولكن فكرت أن جعفرا بقعد هذا المقعد ويقعد معها كما هي قاعدة معي فلم أطق الصبر وخامرني ما أخرجني إلى ما رأيت فسري عني وقلت بل يقتل الله جعفرا ويحيا أمير المؤمنين أبدا وقبلت الأرض وقلت يا سيدي الله الله ارحمها ومر بردها فقال لبعض الخدم الوقوف ما يجيء بها فلم يكن بأسرع من أن خرجت وفي يدها عودها وعليها غير الثياب التي كانت عليها فلما رآها جذبها وعانقها فبكت وجعل هو يبكي واندفعت أنا في البكاء فقالت ما ذنبي يا مولاي ويا سيدي وبأي شيء استوجبت هذا فأعاد عليها ما قاله لي وهو يبكي وهي تبكي فقالت سألتك بالله يا أمير المؤمنين إلا ضربت عنقي الساعة وأرحتني من الفكر في هذا وأرحت قلبك من الهم بي وجعلت تبكي ويبكي ثم مسحا أعينهما ورجعت إلى مكانها وأومأ إلى خدم وقوف بشيء لا أعرفه فمضوا وأحضروا أكياسا فيها عين وورق ورزما فيه ثياب كثيرة وجاء خادم بدرج ففتحه وأخرج منه عقدا ما رأيت قط مثل جوهر كان فيه فألبسها إياه وأحضرت بدرة فيها عشرة آلاف درهم فجعلت بين يدي وخمسة تخوت فيها ثياب وعدنا إلى أمرنا وإلى أحسن مما كنا فلم نزل كذلك إلى الليل ثم تفرقنا قصتها مع المتوكل وضرب الدهر ضربة وتقلد المتوكل فوالله إني لفي منزلي بعد يوم نوبتي إذ هجم علي رسل الخليفة فما أمهلوني حتى ركبت وصرت إلى الدار فأدخلت والله الحجرة بعينها وإذا المتوكل في الموضع الذي كان فيه الواثق على السرير بعينه وإلى جانبه فريدة فلما رآني قال ويحك أما ترى ما أنا فيه من هذه أنا منذ غدوة أطالبها بأن تغنيني فتأبى ذلك فقلت لها يا سبحان الله أتخالفين سيدك وسيدنا وسيد البشر بحياته غني فعرفت والله ثم اندفعت تغني ( مُقِيمٌ بالمَجَازةِ من قَنَوْنَى ... وأهلُكِ بالأُجَيْفِرِ فالثِّمادِ ) ( فلا تَبْعَدْ فكلُّ فتًى سيأتي ... عليه الموتُ يَطْرُقُ أو يُغادي ) ثم ضربت بالعود الأرض ثم رمت بنفسها عن السرير ومرت تعدو وهي تصيح واسيداه فقال لي ويحك ما هذا فقلت لا أدري والله يا سيدي فقال فما ترى فقلت أرى أن أنصرف أنا وتحضر هذه ومعها غيرها فإن الأمر يؤول إلى ما يريد أمير المؤمنين قال فانصرف في حفظ الله فانصرفت ولم أدر ما كانت القصة أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الملك قال سمعت فريدة تغني ( أخِلاَّيَ بي شَجوٌ وليس بكم شَجْوُ ... وكلُّ امرئٍ مما بِصاحبه خِلْوُ ) ( أذابَ الهوى لَحْمِي وجسمي ومَفْصلِي ... فلم يَبقَ إلاّ الرُّوحُ والجَسَدُ النِّضْوُ ) فما سمعت قبله ولا بعده غناء أحسن منه الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي وله أيضا فيه خفيف ثقيل بالسبابة والبنصر عن ابن المكي وفيه لعمرو بن بانة رمل بالوسطى من مجموع أغانيه وفيه لعريب خفيف ثقيل آخر صحيح في غنائها من جمع ابن المعتز وعلي بن يحيى وتمام هذه الأبيات ( وما مِنْ مُحِبٍّ نال ممن يُحِبُّهُ ... هوًى صادقاً إلاّ سَيَدْخُلُه زَهْوُ ) وفيها كلها غناء مفترق الألحان في أبياته ( بُلِيتُ وكان المَزْحُ بدءَ بَلِيّتي ... فأَحببتُ جهلاً والبلايا لها بَدْوُ ) ( وعُلِّقْتُ مَنْ يَزْهُو عليّ تَجَبُّراً ... وإِنِّيَ في كلِّ الخِصال له كُفْوُ ) صوت من المائة المختارة من رواية جحظة عن أصحابه ( باتتْ هُمُومِي تَسْرِي طوارقها ... أكُفُّ عيني والدمعُ سابِقُها ) ( لِمَا أتاها مِنَ اليقين ولم ... تَكُنْ تراه يُلِمُّ طارقُها ) الشعر لأميه بن أبي الصلت والغناء للهذلي خفيف ثقيل أول بالوسطى وفيه لابن محرز لحنان هزج وثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وحبش وذكر يونس أن فيه لابن محرز لحنا واحدا مجنسا ذكر أمية بن أبي الصلت ونسبه وخبره واسم أبي الصلت عبد الله ين أبي ربيعة بن عوف بن عقدة بن عنزة بن قسي وهو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن هكذا يقول من نسبهم إلى قيس وقد شرح ذلك في خبر طريح وأم أمية بن أبي الصلت رقية بنت عبد شمس بن عبد مناف وكان أبو الصلت شاعرا وهو الذي يقول في مدح سيف بن ذي يزن ( لِيَطْلُبِ الثأْرَ أمثالُ ابنِ ذي يَزَنٍ ... إذ صارَ في البَحْرِ للأَعداء أحْوَالا ) وقد كتب خبر ذلك في موضعه وكان له أربعة بنين عمرو وربيعة ووهب والقاسم وكان القاسم شاعرا وهو الذي يقول أنشدنيه الأخفش وغيره عن ثعلب وذكر الزبير أنها لأمية صوت ( قومٌ إذا نَزَلَ الغريبُ بدارِهِمْ ... رَدُّوه ربَّ صَواهِلٍ وقِيَانِ ) ( لا يَنْكُتون الأرضَ عند سُؤالهمْ ... لِتَلِمُّسِ العِلاَّتِ بالعِيدانِ ) يمدح عبد الله بن جدعان بها وأولها ( قومي ثَقِيفٌ إنْ سألتَ وأسْرتي ... وبهم أُدافِع ركْنَ مَنْ عاداني ) غناه الغريض ولحنه ثقيل أول بالبنصر ولابن محرز فيه خفيف ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي جميعا وكان ربيعة ابنه شاعرا وهو الذي يقول ( وإنْ يَكُ حَيًّا من إِيَادٍ فإِنَّنا ... وقَيْساً سَوَاءٌ ما بَقِينَا وما بَقُوا ) ( ونحن خيارُ النَّاسِ طُرًّا بِطانةً ... لِقَيْسٍ وهُمْ خيرٌ لنا إنْ هُمُ بَقُوا ) أتى في شعره بكلمات غريبة أخبرني إبراهيم بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم قال كان أمية بن أبي الصلت قد قرأ كتاب الله عز و جل الأول فكان يأتي في شعره بأشياء لا تعرفها العرب فمنها قوله ( قَمَرٌ وسَاهُورٌ يُسَلُّ ويُغْمَدُ ... ) وكان يسمى الله عز و جل في شعره السلطيط فقال ( والسِّلْطِيطُ فوق الأرض مُقْتَدِرُ ... ) وسماه في موضع آخر التغرور فقال وأيده التغرور وقال ابن قتيبة وعلماؤنا لا يحتجون بشيء من شعره لهذه العلة أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة إتفقت العرب على أن أشعر أهل المدن أهل يثرب ثم عبد القيس ثم ثقيف وأن أشعر ثقيف أمية بن أبي الصلت أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال قال يحيى بن محمد قال الكميت أمية أشعر الناس قال كما قلنا ولم نقل كما قال طمعه في النبوة قال الزبير وحدثني عمي مصعب عن مصعب بن عثمان قال كان أمية بن أبي الصلت قد نظر في الكتب وقرأها ولبس المسوح تعبدا وكان ممن ذكر إبراهيم وإسماعيل والحنيفية وحرم الخمر وشك في الأوثان وكان محققا والتمس الدين وطمع في النبوة لأنه قرأ في الكتب أن نبيا يبعث من العرب فكان يرجو أن يكونه قال فلما بعث النبي قيل له هذا الذي كنت تستريث وتقول فيه فحسده عدو الله وقال إنما كنت أرجو أن أكونه فأنزل الله فيه عز و جل ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها ) قال وهو الذي يقول ( كلُّ دِينٍ يومَ القيامةِ عند اللهِ ... إلاّ دِينَ الحَنِيفةِ زُورُ ) قال الزبير وحدثني يحيى بن محمد قال كان أمية يحرض قريشا بعد وقعة بدر وكان يرثي من قتل من قريش في وقعة بدر فمن ذلك قوله ( ماذا بِبَدْرٍ والعَقَنْقَلِ ... مِنْ مَرَازِبةٍ جَحَاجحْ ) وقال وهي قصيدة نهى رسول الله عن رواياتها ويقال إن أمية قدم على أهل مكة باسمك اللهم فجعلوها في أول كتبهم مكان بسم الله الرحمن الرحيم قال الزبير وحدثني علي بن محمد المدائني قال قال الحجاج على المنبر ذهب قوم يعرفون شعر أمية وكذلك اندراس الكلام تكدر بعد أن أخبر ببعثة النبي أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمر بن أبي بكر المؤملي وغيره قال كان أمية بن أبي الصلت يلتمس الدين ويطمع في النبوة فخرج إلى الشام فمر بكنيسة وكان معه جماعة من العرب وقريش فقال أمية إن لي حاجة في هذه الكنيسة فانتظروني فدخل الكنيسة وأبطأ ثم خرج إليهم كاسفا متغير اللون فرمى بنفسه وأقاموا حتى سري عنه ثم مضوا فقضوا حوائجهم ثم رجعوا فلما صاروا إلى الكنيسة قال لهم انتظروني ودخل إلى الكنيسة فأبطأ ثم خرج إليهم أسوأ من حاله الأولى فقال أبو سفيان بن حرب قد شققت على رفقائك فقال خلوني فإني أرتاد على نفسي لمعادي إن هاهنا راهبا عالما أخبرني أنه تكون بعد عيسى عليه السلام ست رجعات وقد مضت منها خمس وبقيت واحدة وأنا أطمع في النبوة وأخاف أن تخطئني فأصابني ما رأيت فلما رجعت ثانية أتيته فقال قد كانت الرجعة وقد بعث نبي من العرب فيئست من النبوة فأصابني ما رأيت إذ فاتني ما كنت أطمع فيه قال وقال الزهري خرج أمية في سفر فنزلوا منزلا فأم أمية وجها وصعد في كثيب فرفعت له كنيسة فانتهى إليها فإذا شيخ جالس فقال لأمية حين رآه إنك لمتبوع فمن أين يأتيك رئيك قال من شقي الأيسر قال فأي الثياب أحب إليك أن يلقاك فيها قال السواد قال كدت تكون نبي العرب ولست به هذا خاطر من الجن وليس بملك وإن نبي العرب صاحب هذا الأمر يأتيه من شقه الأيمن وأحب الثياب إليه أن يلقاه فيها البياض قال الزهري وأتى أمية أبا بكر فقال يا أبا بكر عمي الخبر فهل أحسست شيئا قال لا والله قال قد وجدته يخرج العام سؤاله عن عتبة بن ربيعة أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال سمعت خالد بن يزيد يقول إن أمية وأبا سفيان اصطحبا في تجارة إلى الشأم ثم ذكر نحوه وزاد فيه فخرج من عند الراهب وهو ثقيل فقال له أبو سفيان إن بك لشرا فما قصتك قال خير أخبرني عن عتبة بن ربيعة كم سنه فذكر سنا وقال أخبرني عن ماله فذكر مالا فقال له وضعته فقال أبو سفيان بل رفعته فقال له إن صاحب هذا الأمر ليس بشيخ ولا ذي مال قال وكان الراهب أشيب وأخبره أن الأمر لرجل من قريش أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثت عن عبد الرحمن بن أبي حماد المنقري قال كان أمية جالسا معه قوم فمرت بهم غنم فثغت منها شاة فقال للقوم هل تدرون ما قالت الشاة قالوا لا قال إنها قالت لسخلتها مري لا يجيء الذئب فيأكلك كما أكل أختك عام أول في هذا الموضع فقام بعض القوم إلى الراعي فقال له أخبرني عن هذه الشاة التي ثغت ألها سخلة فقال نعم هذه سخلتها قال أكانت لها عام أول سخلة قال نعم وأكلها الذئب في هذا الموضع ذهب في شعره بعامة ذكر الآخرة قال الزبير وحدثني يحيى بن محمد عن الأصمعي قال ذهب أمية في شعره بعامة ذكر الآخرة وذهب عنترة بعامة ذكر الحرب وذهب عمر بن أبي ربيعة بعامة ذكر الشباب قال الزبير حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي قال حدثني رجل من أهل الكوفة قال كان أمية نائما فجاء طائران فوقع أحدهما على باب البيت ودخل الآخر فشق عن قلبه ثم رده الطائر فقال له الطائر الآخر أوعى قال نعم قال زكا قال أبى أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن الحارث عن ابن الأعرابي عن ابن دأب قال خرج ركب من ثقيف إلى الشأم وفيهم أمية بن أبي الصلت فلما قفلوا راجعين نزلوا منزلا ليتعشوا بعشاء إذ أقبلت عظاية حتى دنت منهم فحصبها بعضهم بشيء في وجهها فرجعت وكفتوا سفرتهم ثم قاموا يرحلون ممسين فطلعت عليهم عجوز من رواء كثيب مقابل لهم تتوكأ على عصا فقالت ما منعكم أن تطعموا رجيمة الجارية اليتيمة التي جاءتكم عشية قالوا ومن أنت قالت أنا أم العوام إمت منذ أعوام أما ورب العباد لتفترقن في البلاد وضربت بعصاها الأرض ثم قالت بطئي إيابهم ونفري ركابهم فوثبت الإبل كأن على ذروة كل بعير منها شيطانا ما يملك منها شيء حتى افترقت في الوادي فجمعناها في آخر النهار من الغد ولم نكد فلما أنخناها لنرحلها طلعت علينا العجوز فضربت الأرض بعصاها ثم قالت كقولها الأول ففعلت الإبل كفعلها بالأمس فلم نجمعها إلا الغد عشية فلما أنخناها لنرحلها أقبلت العجوز ففعلت كفعلها في اليومين ونفرت الإبل فقلنا لأمية أين ما كنت تخبرنا به عن نفسك فقال اذهبوا أنتم في طلب الإبل ودعوني فتوجه إلى ذلك الكثيب الذي كانت العجوز تأتي منه حتى علاه وهبط منه إلى واد فإذا فيه كنيسة وقناديل وإذا رجل مضطجع معترض على بابها وإذا رجل أبيض الرأس واللحية فلما رأى أمية قال إنك لمتبوع فمن أين يأتيك صاحبك قال من أذني اليسرى قال فبأي الثياب يأمرك قال بالسواد قال هذا خطيب الجن كدت والله أن تكونه ولم تفعل إن صاحب النبوة يأتيه صاحبه من قبل أذنه اليمنى ويأمره بلباس البياض فما حاجتك فحدثه حديث العجوز فقال صدقت وليست بصادقة هي امرأة يهودية من الجن هلك زوجها منذ أعوام وإنها لن تزال تصنع ذلك بكم حتى تهلككم إن استطاعت فقال أمية وما الحيلة فقال جمعوا ظهركم فإذا جاءتكم ففعلت كما كانت تفعل فقولوا لها سبع من فوق وسبع من أسفل باسمك اللهم فلن تضركم فرجع أمية إليهم وقد جمعوا الظهر فلما أقبلت قال لها ما أمره به الشيخ فلم تضرهم فلما رأت الإبل لم تتحرك قالت قد عرفت صاحبكم وليبيضن أعلاه وليسودن أسفله فأصبح أمية وقد برص في عذاريه وأسود أسفله فلما قدموا مكة ذكروا لهم هذا الحديث فكان ذلك أول ما كتب أهل مكة باسمك اللهم في كتبهم خبر الطائرين اللذين حاورهما أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى قال حدثنا عبد العزيز بن عمران عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عامر بن مسعود عن الزهري قال دخل يوما أمية بن أبي الصلت على أخته وهي تهيء أدما لها فأدركه النوم فنام على سرير في ناحية البيت قال فانشق جانب من السقف في البيت وإذا بطائرين قد وقع أحدهما على صدره ووقف الآخر مكانه فشق الواقع صدره فأخرج قلبه فشقه فقال الطائر الواقف للطائر الذي على صدره أوعى قال وعى قال أقبل قال أبى قال فرد قلبه في موضعه فنهض فأتبعهما أمية طرفه فقال ( لَبَّيْكُما لبيكما ... هأنذا لَدَيْكُما ) لا بريء فاعتذر ولا ذو عشيرة فأنتصر فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه ثم أخرج قلبه فشقه فقال الطائر الأعلى أوعى قال وعى قال أقبل قال أبى ونهض فأتبعهما بصره وقال ( لَبَّيْكُما لبيكما ... هأنذا لديكُما ) لا مال يغنيني ولا عشيرة تحميني فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه ثم أخرج قلبه فشقه فقال الطائر الأعلى أوعى قال وعى قال أقبل أبى ونهض فأتبعهما بصره وقال ( لبَّيكما لبيكما ... هأنذا لديكما ) محفوف بالنعم محوط من الريب قال فرجع الطائر فوقع على صدره فشقه وأخرج قلبه فشقه فقال الأعلى أوعى فقال وعى قال أقبل قال أبى قال ونهض فأتبعهما بصره وقال ( لَبَّيْكُما لبيكما ... هأنذا ليدكما ) ( إنْ تَغْفِر اللهمَّ تُغْفِرْ جمّا ... وأيُّ عبدٍ لك لا ألَمَّا ) قالت أخته ثم انطبق السقف وجلس أمية يمسح صدره فقلت يا أخي هل تجد شيئا قال لا ولكني أجد حرا في صدري ثم أنشأ يقول ( ليتني كنتُ قبل ما قد بدا لي ... في قِنَانِ الجبالِ أَرْعَى الوُعولاَ ) ( إجْعَلِ الموتَ نُصْبَ عينِك واحذَر ... غَوْلَةَ الدَّهْرِ إنّ للدّهر غُولاَ ) النبي شعره حدثني محمد بن جرير الطبري قال حدثنا ابن حميد قال حدثني سلمة عن ابن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صدق أمية في قوله ( رَجُلٌ وثورٌ تحت رِجْلِ يَمِينه ... والنَّسْرُ للأُخرى وليثٌ مُرْصَدُ ) فقال رسول الله ( صدق ) أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني حماد بن عبد الرحمن بن الفضل الحراني قال حدثنا أبو يوسف وليس بالقاضي عن الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي بمثل هذا قول النبي إن كاد أمية ليسلم أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثنا جعفر بن الحسين المهلبي قال حدثني إبراهيم بن إبراهيم بن أحمد عن عكرمة قال أنشد النبي قول أمية ( الحمدُ للهِ مُمْسانا ومُصْبَحَنا ... بالخير صَبَّحَنا ربِّي ومَسَّانا ) ( رَبُّ الحنيفةِ لم تَنْفدْ خزائنُها ... مملوءةً طَبَّق الآفاقَ سُلْطَانا ) ( ألاَ نبيَّ لنا مِنّا فيُخبِرَنا ... ما بعدَ غايتنا من رأس مَحْيانا ) ( بينَا يُربِّيننا آباؤنا هَلَكُوا ... وبينما نَقْتَني الأولادَ أفنانا ) ( وقد عَلِمْنا لَو أنّ العلمَ ينفعنا ... أنْ سوف يَلْحقُ أُخْرانا بأولانا ) فقال النبي ( إن كاد أمية ليسلم ) أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية قال حدثنا عبد الله بن أبي بكر وحدثنا خالد بن عمارة أن أمية عتب على ابن له فأنشأ يقول ( غَذَوْتُك مولوداً ومُنْتُك يافعاً ... تعلُّ بما أجْني عليك وتَنْهلُ ) ( إذا ليلةٌ نابَتْك بالشَّكْوِ لم أبِتْ ... لِشَكْواكَ إلاّ ساهراً أتَمَلْمَل ) ( كأنِّي أنا المطروقُ دونَك بالَّذي ... طُرِقتَ به دُوني فعَيْنِي تَهْمُلُ ) ( تخافُ الرَّدَى نفسي عليك وإِنَّني ... لأعلمُ أنّ الموتَ حَتْمٌ مُؤجَّلُ ) ( فلمّا بلغتَ السِّنَّ والغايةَ التي ... إليها مَدى ما كنتُ فيك أُؤمِّلُ ) ( جعلتَ جزائي غِلْظةً وفظاظةً ... كأنّك أنت المُنْعِمُ المُتَفضِّلُ ) قال الزبير قال أبو عمرو الشيباني قال أبو بكر الهذلي قال قلت لعكرمة ما رأيت من يبلغنا عن النبي أنه قال لأمية ( آمَنَ شِعْرُه وكَفَر قلبُه ) فقال هو حق وما الذي أنكرتم من ذلك فقلت له أنكرنا قوله ( والشمسُ تطلعُ كلَّ آخرِ ليَلةٍ ... حمراءَ مَطْلعُ لوْنِها مُتَورِّدُ ) ( تأبَى فلا تبدو لنا في رِسْلها ... إلاّ مُعَذَّبةً وإلاَّ تُجلَدُ ) فما شأن الشمس تجلد قال والذي نفسي بيده ما طلعت قط حتى ينخسها سبعون ألف ملك يقولن لها اطلعي فتقول أأطلع على قوم يعبدونني من دون الله قال فيأتيها شيطان حين تستقبل الضياء يريد أن يصدها عن الطلوع فتطلع على قرنيه فيحرقه الله تحتها وما غربت قط إلا خرت لله ساجدة فيأتيها شيطان يريد أن يصدها عن السجود فتغرب على قرنيه فيحرقه الله تحتها وذلك قول النبي ( تطلع بين قرني شيطان وتغرب بين قرني شيطان ) حدثني أحمد بن محمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن عباد قال حدثنا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد أنه سمع ابن حاضر يقول اختلف ابن عباس وعمرو بن العاصي عند معاوية فقال ابن عباس ألا أغنيك قال بلى فأنشده ( والشمسُ تغربُ كلَّ آخرِ ليلةٍ ... في عين ذِي خُلُبٍ وتَأْطٍ حَرْمدِ ) أخباره في مرض موته أخبرني الحرمي قال حدثنا عمي عن مصعب بن عثمان عن ثابت بن الزبير قال لما مرض أمية مرضه الذي مات فيه جعل يقول قد دنا أجلي وهذه المرضة منيتي وأنا أعلم أن الحنيفية حق ولكن الشك يداخلني في محمد قال ولما دنت وفاته أغمي عليه قليلا ثم أفاق وهو يقول ( لَبَّيْكُما لبيكما ... هأنذا لديكما ) لا مال يفديني ولا عشيرة تنجيني ثم أغمي عليه أيضا بعد ساعة حتى ظن من حضره من أهله أنه قد قضى ثم أفاق وهو يقول ( لَبَّيْكٌما لبيكما ... هأنذا لديكما ) لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر ثم إنه بقي يحدث من حضره ساعة ثم أغمي عليه مثل المرتين الأوليين حتى يئسوا من حياته وأفاق وهو يقول ( لبّيكما لبيكما ... هأنذا لديكما ) محفوف بالنعم ( إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تغفرْ جَمّا ... وأيُّ عبدٍ لك لا ألمَّا ) ثم أقبل على القوم فقال قد جاء وقتي فكونوا في أهبتي وحدثهم قليلا حتى يئس القوم من مرضه وأنشأ يقول ( كلُّ عيشٍ وإنْ تطاوَل دَهْراً ... مُنْتَهى أمرِه إلى أن يَزُولاَ ) ( ليتَني كنتُ قبل ما قد بدَا لي ... في رُؤوس الجبال أَرْعَى الوُعولاَ ) ( اجْعَلِ الموتَ نُصْبَ عينيك واحذَر ... غَولَةَ الدّهر إنّ للدّهر غُولا ) ثم قضى نحبه ولم يؤمن بالنبي وقد قيل في وفاة أمية غير هذا أخبرني عبد العزيز بن أحمد عم أبي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال سمعت في خبر أمية بن أبي الصلت حين بعث النبي أنه أخذ بنتيه وهرب بهما إلى أقصى اليمن ثم عاد إلى الطائف فبينما هو يشرب مع إخوان له في قصر غيلان بالطائف وقد أودع ابنتيه اليمن ورجع إلى بلاد الطائف إذ سقط غراب على شرفة في القصر فنعب نعبة فقال أمية بفيك الكثكث وهو التراب فقال أصحابه ما يقول قال يقول إنك إذا شربت الكأس التي بيدك مت فقلت بفيك الكثكث ثم نعب نعبة أخرى فقال أمية نحو ذلك فقال أصحابه ما يقول قال زعم أنه يقع على هذه المزبلة أسفل القصر فيستثير عظما فيبتلعه فيشجى به فيموت فقلت نحو ذلك فوقع الغراب على المزبلة فأثار العظم فشجي به فمات فانكسر أمية ووضع الكأس من يده وتغير لونه فقال له أصحابه ما أكثر ما سمعنا بمثل هذا وكان باطلا فألحوا عليه حتى شرب الكأس فمال في شق وأغمي عليه ثم أفاق ثم قال لا بريء فأعتذر ولا قوي فأنتصر ثم خرجت نفسه صوت من المائة المختارة ( تَبَلتْ فؤادكَ في المنامِ خَرِيدةٌ ... تَشْفِي الضَّجِيعَ بباردٍ بَسّامِ ) ( كالمِسْكِ تَخْلِطُه بماءِ سَحابةٍ ... أو عاتقٍ كدَمِ الذَّبيحِ مُدَامِ ) عروضه من - الكامل - الشعر لحسان بن ثابت والغناء لموسى بن خارجة الكوفي ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وذكر حماد عن أبيه أن فيه لحنا لعزة الميلاء وليس موسى بكثير الصنعة ولا مشهور ولا ممن خدم الخلفاء أخبار حسان بن ثابت ونسبه هو حسان بن ثابت بن المنذر بن حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار واسمه تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج بن حارثة بن ثعلبة وهو العنقاء بن عمرو وإنما سمي العنقاء لطول عنقه وعمرو هو مزيقياء بن عامر بن ماء السماء بن حارثة الغطريف بن امرئ القيس البطريق ابن ثعلبة البهلول بن مازن بن الأزد وهو ذرى وقيل ذراء ممدود بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان قال مصعب الزبيري فيما أخبرنا به الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عمه قال بنو عدي بن عمرو بن مالك بن النجار يسمون بني معالة ومعالة أمه وهي امرأة من القين وإليها كانوا ينسبون وأم حسان بن ثابت بن المنذر الفريعة بنت خالد بن قيس بن لوذان بن عبدود بن زيد بن ثعلبة بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج وقيل إن اسم النجار تيم اللات وفي ذلك يقول حسان بن ثابت ( وأُمُّ ضِرَارٍ تَنْشُدُ النّاسَ وَالِهاً ... أمَا لابنَ تيْمِ اللهِ ماذا أَضَلَّتِ ) يعني ضرار بن عبد المطلب وكان ضل فنشدته أمه وإنما سماه رسول الله تيم الله لأن الأنصار كانت تنسب إليه فكره أن يكون في أنسابها ذكر اللات ويكنى حسان بن ثابت أبا الوليد وهو فحل من فحول الشعراء وقد قيل إنه أشعر أهل المدر وكان أحد المعمرين من المخضرمين عمر مائة وعشرين سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام سنوات عمره الطويلة أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قال عاش ثابت ابن المنذر مائة وخمسين سنة وعاش حسان مائة وعشرين سنة ومما يحقق ذلك ما أخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن حسين عن إبراهيم بن محمد عن صالح بن إبراهيم عن يحيى بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة عن حسان بن ثابت قال إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان إذا بيهودي بيثرب يصرخ ذات غداة يا معشر يهود فلما اجتمعوا إليه قالوا ويلك مالك قال طلع نجم أحمد الذي يولد به في هذه الليلة قال ثم أدركه اليهودي ولم يؤمن به فهذا يدل على مدة عمره في الجاهلية لأنه ذكر أنه أدرك ليلة ولد النبي وله يومئذ ثمان سنين والنبي بعث وله أربعون سنة وأقام بمكة ثلاث عشرة سنة فقدم المدينة ولحسان يومئذ على ما ذكره ستون سنة أو إحدى وستون سنة وحينئذ أسلم أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار عن عبد الرحمن بن عبد الله قال حدثني ابن أبي الزناد قال عمر حسان بن ثابت عشرين ومائة سنة ستين في الجاهلية وستين في الإسلام قال أخبرني الحسن بن علي قال أخبرني أحمد بن زهير قال حدث سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار قال رأيت حسان بن ثابت وله ناصية قد سدلها بين عينيه أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال كان حسان بن ثابت يخضب شاربه وعنفقته بالحناء ولا يخضب سائر لحيته فقال له ابنه عبد الرحمن يا أبت لم تفعل هذا قال لأكون كأني أسد والغ في دم بماذا أفضل الشعراء أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال فضل حسان الشعراء بثلاث كان شاعر الأنصار في الجاهلية وشاعر النبي في النبوة وشاعر اليمن كلها في الإسلام قال أبو عبيدة وأجمعت العرب على أن حسان أشعر أهل المدر أخبرنا بذلك أيضا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة قال اتفقت العرب على أن أشعر أهل المدر أهل يثرب ثم عبد القيس ثم ثقيف وعلى أن أشعر أهل يثرب حسان بن ثابت أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عفان قال حدثنا عبد الواحد بن زياد قال حدثنا معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال جاء حسان إلى نفر فيهم أبو هريرة فقال أنشدك الله أسمعت رسول الله يقول أجب عني ثم قال اللهم أيده بروح القدس قال أبو هريرة اللهم نعم عارض شعراء قريش أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا وهب بن جرير قال حدثنا أبي قال سمعت محمد بن سيرين قال أبو زيد وحدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا عوف عن محمد بن سيرين قال كان يهجو رسول الله ثلاثة رهط من قريش عبد الله بن الزبعري وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعمرو بن العاصي فقال قائل لعلي بن أبي طالب رضوان الله عليهم أهج عنا القوم الذين قد هجونا فقال علي رضي الله عنه إن أذن لي رسول الله فعلت فقال رجل يا رسول الله ائذن لعلي كي يهجو عنا هؤلاء القوم الذين قد هجونا قال ليس هناك أو ليس عنده ذلك ثم قال للأنصار ما منع القوم الذين نصروا رسول الله بسلاحهم أن ينصروه بألسنتهم فقال حسان بن ثابت أنا لها وأخذ بطرف لسانه وقال والله ما يسرني به مقول بين بصرى وصنعاء فقال كيف تهجوهم وأنا منهم فقال إني أسلك منهم كما تسل الشعرة من العجين قال فكان يهجوهم ثلاثة من الأنصار حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة فكان حسان وكعب يعارضانهم بمثل قولهم بالوقائع والأيام والمآثر ويعيرانهم بالمثالب وكان عبد الله بن رواحة يعيرهم بالكفر قال فكان في ذلك الزمان أشد القول عليهم قول حسان وكعب وأهون القول عليهم قول ابن رواحة فلما أسلموا وفقهوا الإسلام كان أشد القول عليهم قول ابن رواحة أخبرنا أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي قال حدثنا أبو يونس القشيري وهو حاتم بن أبي صغيرة قال حدثنا سماك بن حرب قال قال حسان أبو الحسام فقال يا رسول الله ائذن لي فيه وأخرج لسانا له أسود فقال يا رسول الله لو شئت لفريت به المزاد ائذن لي فيه فقال اذهب إلى أبي بكر فليحدثك حديث القوم وأيامهم وأحسابهم ثم اهجهم وجبريل معك قال أبو زيد قال ابن وهب وحدثنا بهذا الحديث حاتم عن السدي عن البراء بن عازب وعن سماك بن حرب فأنا أشك أهو عن أحدهما أم عنهما جميعا قال أبو زيد وحدثنا علي بن عاصم قال حدثنا حاتم بن أبي صغيرة عن سماك بن حرب بنحوه وزاد فيه فأخرج لسانه أسود فوضعه على طرف أرنبته وقال يا رسول الله لو شئت لفريت به المزاد فقال يا حسان وكيف وهو مني وأنا منه قال والله لأسلنه منك كما يسل الشعر من العجين قال يا حسان فأت أبا بكر فإنه أعلم بأنساب القوم منك فأتى أبا بكر فأعلمه ما قال رسول الله فقال كف عن فلانة واذكر فلانة فقال ( هَجَوْت محمداً فأجَبْتُ عنه ... وعندَ اللهِ في ذاك الجَزَاءُ ) ( فإِنّ أَبي ووالدَه وعِرْضي ... لِعرِض محمد منكم وِقَاءُ ) أتهجوه و لستَ له بكُفْءٍ ... فشَرُّكُما لخيْرِكُما الفِدَاء ) قريش تتهم أبا بكر في شعر حسان أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أحمد بن سليمان عن الأصمعي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال لما أنشدت قريش شعر حسان قالت إن هذا الشتم ما غاب عن ابن أبي قحافة قال الزبير وحدثني محمد بن يحيى عن يعقوب بن إسحاق بن مجمع عن رجل من بني العجلان قال لما بلغ أهل مكة شعر حسان ولم يكونوا علموا أنه قوله جعلوا يقولون لقد قال أبو بكر الشعر بعدنا قال الزبير وحدثني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن فضالة عن أبيه عن خالد بن محمد بن فضالة عن أبيه عن خالد بن محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال نهى عمر بن الخطاب الناس أن ينشدوا شيئا من مناقضة الأنصار ومشركي قريش وقال في ذلك شتم الحي بالميت وتجديد الضغائن وقد هدم الله أمر الجاهلية بما جاء من الإسلام فقدم المدينة عبد الله بن الزبعري السهمي وضرار ابن الخطاب الفهري ثم المحاربي فنزلا على أبي أحمد بن جحش وقالا له نحب أن ترسل إلى حسان بن ثابت حتى يأتيك فننشده وينشدنا مما قلنا له وقال لنا فأرسل إليه فجاءه فقال له يا أبا الوليد هذان أخواك ابن الزبعري وضرار قد جاءا أن يسمعاك وتسمعهما ما قالا لك وقلت لهما فقال ابن الزبعري وضرار نعم يا أبا الوليد إن شعرك كان يحتمل في الإسلام ولا يحتمل شعرنا وقد أحببنا أن نسمعك وتسمعنا فقال حسان أفتبدآن أم أبدأ قالا نبدأ نحن قال ابتدئا فأنشداه حتى فار فصار كالمرجل غضبا ثم استويا على راحلتيهما يريدان مكة فخرج حسان حتى دخل على عمر بن الخطاب فقص عليه قصتهما وقصته فقال له عمر لن يذهبا عنك بشيء إن شاء الله وأرسل من يردهما وقال له عمر لو لم تدركهما إلا بمكة فارددهما علي وخرجا فلما كانا بالروحاء رجع ضرار إلى صاحبه بكرة فقال له يا بن الزبعري أنا أعرف عمر وذبه عن الإسلام وأهله وأعرف حسان وقلة صبره على ما فعلنا به وكأني به قد جاء وشكا إليه ما فعلنا فأرسل في آثارنا وقال لرسوله إن لم تلحقهما إلا بمكة فارددهما علي فاربح بنا ترك العناء وأقم بنا مكاننا فإن كان الذي ظننت فالرجوع من الروحاء أسهل منه من أبعد منها وإن أخطأ ظني فذلك الذي نحب ونحن من وراء المضي فقال ابن الزبعري نعم ما رأيت قال فأقاما بالروحاء فما كان إلا كمر الطائر حتى وافاهما رسول عمر فردهما إليه فدعا لهما بحسان وعمر في جماعة من أصحاب رسول الله فقال لحسان أنشدهما مما قلت لهما فأنشدهما حتى فرغ مما قال لهما فوقف فقال له عمر أفرغت قال نعم فقال له أنشداك في الخلاء وأنشدتهما في الملا وقال لهما عمر إن شئتما فأقيما وإن شئتما فانصرفا وقال لمن حضره إني قد كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئا دفعا للتضاغن عنكم وبث القبيح فيما بينكم فأما إذا أبوا فاكتبوه واحتفظوا به فدونوا ذلك عندهم قال خلاد بن محمد فأدركته والله وإن الأنصار لتجدده عندها إذا خافت بلاه هجاؤه لأبي سفيان بن الحارث أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عفان بن مسلم قال حدثنا عمران بن زيد قال سمعت أبا إسحاق قال في قصة حسان وأبي سفيان بن الحارث نحو ما ذكره مما قدمنا ذكره وزاد فيه فقال حسان فيه ( وإنّ سَنَامَ المَجْدِ من آلِ هاشمٍ ... بنو بِنْتِ مَخْزومٍ ووالدُك العَبْدُ ) ( ومَنْ ولدتْ أبناء زُهْرةَ منكُم ... كرامٌُ ولم يَلْحَقْ عجائزَك المَجْدُ ) ( وإنّ امْرَأً كانتْ سُمَيّةُ أُمَّهُ ... وسَمْراءُ مغلوبٌ إذا بَلَغ الجَهْدُ ) ( وأنت هَجِينٌ نِيطَ في آل هاشمٍ ... كما نِيطَ خَلْفَ الرَّاكب القَدَحُ الفَرْدُ ) فقال العباس ومالي وما لحسان يعني في ذكره نتيلة فقال فيها ( ولَسْتَ كَعبَّاسٍ ولا كابن أُمِّهِ ... ولكن هَجِينٌ ليس يُورَى له زَنْدُ ) أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا القعنبي قال حدثنا مروان بن معاوية قال حدثنا إياس السلمي عن ابن بريدة قال أعان جبريل عليه السلام حسان بن ثابت في مديح النبي بسبعين بيتا النبي يمدح حسان وكعبا وابن رواحة أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا محمد بن منصور قال حدثنا سعيد بن عامر قال حدثني جويرية بن أسماء قال بلغني أن رسول الله قال أمرت عبد الله بن رواحة فقال وأحسن وأمرت كعب بن مالك فقال وأحسن وأمرت حسان بن ثابت فشفى واشتفى أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا أحمد بن عيسى قال حدثنا ابن وهب قال أخبرنا عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن مروان بن عثمان ويعلى ابن شداد بن أوس عن عائشة قالت سمعت رسول الله يقول لحسان بن ثابت الشاعر إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما كافحت عن الله عز و جل وعن رسول الله أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا هوذة بن خليفة قال حدثنا عوف بن محمد قال قال النبي ليلة وهو في سفر أين حسان بن ثابت فقال حسان لبيك يا رسول الله وسعديك قال احْدُ فجعل ينشد ويصغي إليه النبي ويستمع فما زال يستمع إليه وهو سائق راحلته حتى كان رأس الراحلة يمس الورك حتى فرغ من نشيده فقال النبي ( لهذا أشد عليهم من وقع النبل ) رده على عمر عندما انتهره لانشاده في المسجد أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا أبو عاصم النبيل قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرنا زياد بن أبي سهل قال حدثني سعيد بن المسيب أن عمر مر بحسان بن ثابت وهو ينشد في مسجد رسول الله فانتهره عمر فقال حسان قد أنشدت فيه من هو خير منك فانطلق عمر أخبرنا أحمد قال حدثنا أبو داود الطيالسي قال حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن عمر مر على حسان وهو ينشد في مسجد رسول الله فذكر مثله وزاد فيه وعلمت أنه يريد النبي أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا شجاع بن الوليد عن الإفريقي عن مسلم بن يسار أن عمر مر بحسان وهو ينشد الشعر في مسجد رسول الله فأخذ بأذنه وقال أرغاء كرغاء البعير فقال حسان دعنا عنك يا عمر فوالله لتعلم أني كنت أنشد في هذا المسجد من هو خير منك فلا يغير علي فصدقه عمر مدح الزبير بن العوام حدثنا محمد بن جرير الطبري والحرمي بن أبي العلاء وعبد العزيز بن أحمد عم أبي وجماعة غيرهم قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أبو غزية محمد بن موسى قال حدثني عبد الله بن مصعب عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن جدتها أسماء بنت أبي بكر قالت مر الزبير بن العوام بمجلس من أصحاب رسول الله وحسان بن ثابت ينشدهم من شعره وهم غير نشاط لما يسمعون منه فجلس معهم الزبير فقال مالي أراكم غير آذنين لما تسمعون من شعر ابن الفريعة فلقد كان يعرض لرسول الله فيحسن استماعه ويجزل عليه ثوابه ولا يشتغل عنه بشيء فقال حسان ( أقامَ على عهد النبيّ وهَدْيِهِ ... حَوَاريُّه والقَوْلُ بالفِعْل يُعْدَلُ ) ( أقامَ على مِنْهاجِه وطَرِيقِهِ ... يَوالِي وَلِيَّ الحقِّ والحَقُّ أعدل ) ( هو الفارسُ المشهورُ والبَطَلُ الذي ... يَصُولُ إذا ما كان يومٌ مُحَجَّلِ ) ( إذا كَشَفتْ عن ساقها الحربُ حَشَّها ... بأبيض سَباقٍ إلى الموتِ يُرْقِل ) ( وإنَّ امرأً كانتْ صَفِيةُ أُمَّةُ ... ومِنْ أَسَدٍ في بيتها لمَرَفَّلُ ) ( له من رسول الله قُربَى قريبةٌ ... ومِنْ نُصْرة الإِسلامِ نصرٌ مُؤَثَّلُ ) ( فكَمْ كُرْبةٍ ذَبَّ الزُّبَيْرُ بسيفه ... عَنِ المصطفى واللهٌ يُعْطِي فيُجْزِلُ ) ( فما مثلُه فيهم ولا كان قبلَه ... وليس يكون الدَّهْرَ ما دام يَذْبُلُ ) ( ثناؤك خيرٌ من فِعال مَعَاشِرٍ ... وفِعْلُك يابنَ الهاشميّة أفضلُ ) النبي يختاره لحماية أعراض المسلمين أخبرني أحمد بن عيسى العجلي قال حدثنا واصل بن عبد الأعلى قال حدثنا ابن فضيل عن مجالد عن الشعبي قال لما كان عام الأحزاب وردهم الله بغيظهم لم ينالوا خيرا قال النبي ( من يحمي أعراض المسلمين ) فقال كعب أنا يا رسول الله وقال عبد الله ابن رواحة أنا رسول الله وقال حسان بن ثابت أنا يا رسول الله فقال نعم أهجهم أنت فإنه سيعينك عليهم روح القدس أخبرني أحمد بن عبد الرحمن قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو داود قال حدثنا حديج بن معاوية عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير قال كنا عند ابن عباس فجاء حسان فقالوا قد جاء اللعين فقال ابن عباس ما هو بلعين لقد نصر رسول الله بلسانه ويده حدثنيه أحمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن بكار قال حدثنا حديج بن معاوية قال حدثنا أبو إسحاق عن سعيد بن جبير قال جاء رجل إلى ابن عباس فقال قد جاء اللعين حسان من الشام فقال ابن عباس ما هو بلعين لقد جاهد مع رسول الله بلسانه ونفسه حسان يجيب شاعر وفد تميم أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا عبد الله بن عمرو وشريح بن النعمان قالا حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت لما قدم وفد بني تميم وضع النبي لحسان منبرا وأجلسه عليه وقال إن الله ليؤيد حسان بروح القدس ما كافح عن نبيه هكذا روى أبو زيد هذا الخبر مختصرا وأتينا به على تمامه هاهنا لأن ذلك حسن فيه أخبرنا به الحسن ابن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن الضحاك عن أبيه قال قدم على النبي وفد بني تميم وهم سبعون أو ثمانون رجلا فيهم الأقرع بن حابس والزبرقان بن بدر وعطارد بن حاجب وقيس بن عاصم وعمرو بن الأهتم وانطلق معهم عيينة بن حصن فقدموا المدينة فدخلوا المسجد فوقفوا عند الحجرات فنادو بصوت عال جاف أخرج إلينا يا محمد فقد جئنا لنفاخرك وقد جئنا بشاعرنا وخطيبنا فخرج إليهم رسول الله فجلس فقام الأقرع بن حابس فقال والله إن مدحي لزين وإن ذمي لشين فقال النبي ذلك الله فقالوا إنا أكرم العرب فقال رسول الله أكرم منكم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام فقالوا ايذن لشاعرنا وخطيبنا فقام رسول الله فجلس وجلس معه الناس فقام عطارد بن حاجب فقال الحمد لله الذي له الفضل علينا وهو أهله الذي جعلنا ملوكا وجعلنا أعز أهل المشرق وأتانا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف ليس في الناس مثلنا ألسنا برؤوس الناس وذوي فضلهم فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا ولو نشاء لأكثرنا ولكنا نستحي من الإكثار فيما خولنا الله وأعطانا أقول هذا فأتوا بقول أفضل من قولنا أو أمر أبين من أمرنا ثم جلس فقام ثابت بن قيس بن شماس فقال الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه قضى فيهن أمره ووسع كرسيه علمه ولم يقض شيئا إلا من فضله وقدرته فكان من قدرته أن اصطفى من خلقه لنا رسولا أكرمهم حسبا وأصدقهم حديثا وأحسنهم رأيا فأنزل عليه كتابا وأتمنه على خلقه وكان خيرة الله من العالمين ثم دعا رسول الله إلى الإيمان فأجابه من قومه وذوي رحمه المهاجرين أكرم الناس أنسابا وأصبح الناس وجوها وأفضل الناس فعالا ثم كان أول من اتبع رسول الله من العرب واستجاب له نحن معشر الأنصار فنحن أنصار الله ووزراء رسوله نقاتل الناس حتى يؤمنوا ويقولوا لا إله إلا الله فمن آمن بالله ورسوله منع منا ماله ودمه ومن كفر بالله ورسوله جاهدناه في الله وكان جهاده علينا يسيرا أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات فقام الزبرقان فقال ( نحنُ الملوكُ فلا حيٌّ يُقَارِبُنا ... مِنّا الملوكُ وفينا يُؤْخَذُ الرُّبًعُ ) ( تلك المكارمُ حُزْنَاها مُقَارَعةً ... إذا الكرامُ على أمثالها اقترعوا ) ( كَمْ قد نَشَدْنا مِنَ الأحياءِ كُلِّهمُ ... عند النِّهاب وفضلُ العِزِّ يُتَّبَعُ ) ( ونَنْحَرُ الكُومَ عُبْطاً في مَنازلنا ... للنازلين إِذا ما اسْتَطْعَموا شَبِعوا ) ( ونحن نُطْعِم عند المَحْلِ ما أكلوا ... من العَبِيطِ إذا لم يَظْهَرِ القَزَعُ ) ( وننصر الناسَ تأتينا سَرَاتُهُمُ ... مِنْ كُلِّ أوْبٍ فتَمْضِي ثم تُتَّبَعُ ) فأرسل رسول الله إلى حسان بن ثابت فجاء فأمره أن يجيبه فقال حسان ( إنّ الذوائبَ مِنْ فِهْرٍ وإخْوَتِهمْ ... قد بَيَّنُوا سُنَّةً للنّاسِ تُتَّبَعُ ) ( يَرْضَى بها كلُّ مَنْ كانت سريرتُه ... تَقْوَى الإِلهِ وبالأمرِ الذي شَرَعُوا ) ( قومٌ إذا حاربوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أو حاولوا النَّفْع في أَشياعهم نَفَعُوا ) ( سجِيَّةٌ تلك منهم غيرُ مُحْدَثَةٍ ... إنّ الخلائقَ فاعلَمْ شَرُّها البِدَع ) ( لا يَرْقَعُ النّاسُ ما أوهتْ أكُفُّهُمُ ... عند الدِّفاع ولا يُوهُون ما رَقَعوا ) ( إنْ كان في الناسِ سَبَّاقون بعدَهُمُ ... فكُلُّ سَبْقٍ لأدْنَى سَبْقِهِمْ تَبَعُ ) ( أعفَّةٌ ذُكِرَتْ في الوَحْي عِفَّتُهمْ ... لا يَطْمَعون ولا يُزْري بهم طَمَعُ ) ( ولا يَضِنُّونَ عن جارٍ بِفَضْلِهِمُ ... ولا يَمَسُّهُمُ مِنْ مَطْمَعٍ طَبَعُ ) ( يَسْمُون للحرب تبدو وهي كالحةٌ ... إذا الزَّعَانِفُ من أظفارِها خَشَعُوا ) ( لا يَفْرَحون إذا نالوا عَدُوَّهُمُ ... وإنُ أصيبوا فلا خُورٌ ولا جُزُعُ ) ( كأنَّهم في الوَغَى والموتُ مُكتَنِعٌ ... أُسُودُ بِيشَةَ في أرساغها فَدَعُ ) ( خُذْ منهمُ ما أتى عَفْواً وإنْ مَنَعُوا ... فلا يَكُنْ هَمُّكَ الأمرَ الذي مَنَعُوا ) ( فإِنّ في حَرْبِهم فاتْرُكْ عداوتَهم ... سُماًّ يُخَاض عليه الصَّابُ والسَّلَعُ ) ( أَكْرِمْ بَقْومٍ رسولُ الله قائدُهُمْ ... إذا تَفَرّقَتِ الأهواءُ والشِّيَعُ ) ( أَهْدَى لهم مِدَحِي قلبٌ يؤازِرُهُ ... فيما أراد لسانٌ حائِكٌ صَنَعُ ) ( فإِنّهم أفضلُ الأحياء كلِّهِمُ ... إنْ جَدّ بالناس جِدُّ القولِ أو شَمَعُوا ) فقام عطارد بن حاجب فقال ( أتيناك كيما يعلمَ الناسُ فضلنَا ... إذا اجتمعوا وقتَ احتضارِ المَوَاسِم ) ( بأنّا فُروعُ الناسِ في كلِّ موطنٍ ... وأنْ ليس في أرض الحجاز كَدَارِمِ ) فقام حسان بن ثابت فقال ( مَنَعْنا رسولَ الله من غَضَبٍ له ... على أَنْفِ راضٍ من مَعَدٍّ وراغمِ ) ( هَلِ المجدُ إلاّ السُّؤْدُدُ العَوْدُ والنَّدَى ... وجاهُ الملوكِ واحتمالُ العظائِم ) قال فقال الأقرع بن حابس والله إن هذا الرجل لمؤتى له والله لشاعره أشعر من شاعرنا ولخطيبه أخطب من خطيبنا ولأصواتهم أرفع من أصواتنا أعطني يا محمد فأعطاه فقال زدني فزاده فقال اللهم إنه سيد العرب فنزلت فيهم ( إِنَّ الَّذينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الحُجُرَاتِ أكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) ثم إن القوم أسلموا وأقاموا عند النبي يتعلمون القرآن ويتفقهون في الدين ثم أرادوا الخروج إلى قومهم فأعطاهم رسول الله وكساهم وقال ( أما بقي منكم أحد ) وكان عمرو بن الأهتم في ركابهم فقال قيس بن عاصم وهو من رهطه وكان مشاحنا له لم يبق أحد إلا غلام حديث السن في ركابنا فأعطاه رسول الله مثل ما أعطاهم فبلغ عمرا ما قال قيس فقال عمرو بن الأهتم لقيس ( ظَلِلْتَ مُفْتَرِشَ الهَلْباء تَشْتُمني ... عند الرسول فلم تَصْدُقْ ولم تُصِبِ ) ( إنْ تُبْغِضونا فإِنَّ الرُّومَ أصلُكُمُ ... والرومُ لا تملِك البغضاء للعَرَبِ ) ( فإِنَّ سُؤْدُدَنا عَوْدٌ وسُؤْددكم ... مُؤَخَّرٌ عند أصل العَجْبِ والذَّنَبِ ) فقال له قيس ( لولاَ دفاعي كنتمُ أَعْبُدَّاً ... دَارُكُم الحِيرةُ والسَّيْلَحُونْ ) شعره الذي يقرر به إيمانه بالرسل أخبرنا أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عمر بن علي بن مقدم عن يحيى بن سعيد عن أبي حيان التيمي عن حبيب ابن أبي ثابت قال أبو زيد وحدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير قال حدثنا مسعر عن سعد بن إبراهيم قالوا قال حسان بن ثابت للنبي صوت ( شَهِدتُ بإِذن الله أن محمداً ... رسولُ الذي فوق السّمواتِ من عَلُ ) ( وأنَّ أخا الأحقاف إِذ يَعْذُلونه ... يقومُ بدِين الله فيهم فيَعدِلُ ) ( وأنَّ أبا يحيى ويحيى كِلاهما ... له عَمَلٌ في دينِه مُتَقَبَّلُ ) ( وأنّ الذي عادَى اليهودَ ابَن مَرْيَمٍ ... رسولٌ أتَى من عند ذي العرش مُرْسَلُ ) ( وأنَّ الذي بالجِزْعِ من بطن نَخْلةٍ ... ومَنْ دونَها فِلٌّ من الخير مَعْزِلُ ) غنى في هذه الأبيات معبد خفيف ثقيل أول بالبنصر من رواية يونس وغيره فقال النبي ( أنا أشهد معك ) أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا زهير بن حرب قال حدثني جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق وأخبرني بها أحمد بن عيسى العجلي قال حدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا جرير عن الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق قال دخلت على عائشة وعندها حسان وهو يرثي بنتا له وهو يقول ( رَزَانٌ حَصَانٌ ما تُزَنُّ بِرِيبَةٍ ... وتُصْبحُ غَرْثَى من لُحوم الغَوَافِل ) فقالت عائشة لكن أنت لست كذلك فقلت لها أيدخل عليك هذا وقد قال الله عز و جل ( وَالَّذي تَوَلَّى كِبْرَهُ منْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) فقالت أما تراه في عذاب عظيم قد ذهب بصره تنبأ بوقعة صفين قبل وقوعها أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي قال حدثنا ابن أبي أويس قال حدثني أبي ومالك بن الربيع بن مالك حدثاني جميعا عن الربيع بن مالك بن أبي عامر عن أبيه أنه قال بينا نحن جلوس عند حسان بن ثابت وحسان مضطجع مسند رجليه إلى فارع قد رفعهما عليه إذ قال مه أما رأيتم ما مر بكم الساعة قال مالك قلنا لا والله وما هو فقال حسان فاختة مرت الساعة بيني وبين فارع فصدمتني أو قال فزحمتني قال قلنا وما هي قال ( ستأتيكمُ غَدْواً أحاديثُ جَمَّةٌ ... فأَصغُوا لها آذانَكم وتَسَمَّعُوا ) قال مالك بن أبي عامر فصبحنا من الغد حديث صفين أخبرنا وكيع قال حدثنا الليث بن محمد عن الحنظلي عن أبي عبدة عن العلاء بن جزء العنبري قال بينا حسان بن ثابت بالخيف وهو مكفوف إذ زفر زفرة ثم قال ( وكأنَّ حافَرها بكلِّ خَمِيلةٍ ... صاعٌ يَكِيلُ به شحيحٌ مُعْدمُ ) ( عارِي الأَشَاجِعِ من ثَقِيفٍ أصلُه ... عبدٌ ويزعمُ أنَّه مِنْ يَقْدُم ) قال والمغيرة بن شعبة جالس قريبا منه يسمع ما يقول فبعث إليه بخمسة آلاف درهم فقال من بعث بهذا قال المغيرة بن شعبة سمع ما قلت قال واسوءتاه وقبلها أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني الأصمعي قال جاء الحارث بن عوف بن أبي حارثة إلى النبي فقال أجرني من شعر حسان فلو مزج البحر بشعره لمزجه قال وكان السبب في ذلك فيما أخبرني به أحمد ابن عبد العزيز عن عمر بن شبة عن الأصمعي وأخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب أن الحارث بن عوف أتى رسول الله فقال ابعث معي من يدعو إلى دينك وأنا له جار فأرسل معه رجلا من الأنصار فغدرت بالحارث عشيرته فقتلوا الأنصاري فقدم الحارث على رسول الله وكان لا يؤنب أحدا في وجهه فقال ( ادعوا لي حسان ) فدعي له فلما رأى الحارث أنشده ( يا حَارِ مَنْ يَغْدِرْ بذِمّة جارِه ... منكُمْ فإِنّ محمداً لم يَغْدِرِ ) ( إنْ تَغْدِرُوا فالغَدْرُ منكم شِيمةٌ ... والغدرُ ينبتُ في أُصول السَّخْبَر ) فقال الحارث اكففه عني يا محمد وأؤدي إليك دية الخفارة فأدى إلى النبي سبعين عشراء وكذلك دية الخفارة وقال يا محمد أنا عائذ بك من شره فلو مزج البحر بشعره مزجه النبي يعوضه بعد أن ضربه ابن المعطل أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إبراهيم بن المنذر قال حدثنا عبد الله بن وهب قال أخبرنا العطاف بن خالد قال كان حسان بن ثابت يجلس إلى أطمه فارع ويجلس معه أصحاب له ويضع لهم بساطا يجلسون عليه فقال يوما وهو يرى كثرة من يأتي إلى النبي من العرب فيسلمون ( أرَى الجَلاَبيبَ قد عَزُّوا وقد كَثُروا ... وابنُ الفُرَيْعَةِ أمسَى بَيْضَة البَلَد ) فبلغ ذلك رسول الله فقال ( من لي بأصحاب البساط بفارع ) فقال صفوان بن المعطل أنا لك يا رسول الله منهم فخرج إليهم فاخترط سيفه فلما رأوه عرفوا الشر في وجهه ففروا وتبددوا وأدرك حسان داخلا بيته فضربه وفلق أليته قال فبلغنا أن النبي عوضه وأعطاه حائطا فباعه من معاوية بعد ذلك بمال كثير فبناه معاوية قصرا وهو الذي يقال له قصر الدارين وقد قيل إن صفوان بن المعطل إنما ضرب حسان لما قاله فيه وفي عائشة زوج النبي من الإفك لأن صفوان هو الذي رمى أهل الإفك عائشة به وأخبرنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة قال اعترض صفوان بن المعطل حسان بن ثابت بالسيف لما قذفه به من الإفك حين بلغه ما قاله وقد كان حسان قال شعرا يعرض بابن المعطل وبمن أسلم من العرب من مضر فقال ( أمَسى الجَلاَبِيبُ قد عَزُّوا وقد كَثُروا ... وابنُ الفُرَيْعةِ أمَسى بَيْضَةَ البَلَدِ ) ( قد ثَكِلَتْ أُمُّه مَنْ كنتُ صاحبهَ ... أو كان مُنْتَشِباً في بُرْثُنِ الأسَدِ ) ( ما للقتيل الذي أعدُوا فآخُذُه ... من دِيةٍ فيه أُعْطِيها ولا قَوَدِ ) ( ما البحرُ حين تَهُبُّ الرِّيحُ شَامِيةً ... فَيَغْطئلُّ ويَرْمي العِبْرَ بالزَّبَدِ ) ( يوماً بأغلبَ منِّي حين تُبْصِرُني ... بالسيف أفْرِي كفَرْي العَارِضِ البَرِدِ ) فاعترضه صفوان بن المعطل بالسيف فضربه وقال ( تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عنِّي فإِنّني ... غلامٌ إذا هُوجِيتُ لستُ بشاعر ) وحدثنا محمد بن جرير وقال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي أن ثابت بن قيس بن الشماس أخا بلحارث بن الخزرج وثب على صفوان ابن المعطل في ضربه حسان فجمع يديه على عنقه فانطلق به إلى دار بني الحارث ابن الخزرج فلقيه عبد الله بن رواحة فقال ما هذا فقال ألا أعجبك ضرب حسان بالسيف والله ما أراه إلا قد قتله فقال له عبد الله بن رواحة هل علم رسول الله بشيء من هذا قال لا والله قال لقد اجترأت أطلق الرجل فأطلقه ثم أتوا رسول الله فذكر ذلك له فدعا حسان وصفوان بن المعطل فقال ابن المعطل يا رسول الله آذاني وهجاني فضربته فقال رسول الله لحسان ( يا حسان أتعيب على قومي أن هداهم الله عز و جل للإسلام ) ثم قال ( أحسن يا حسان في الذي أصابك ) قال هي لك يا رسول الله أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني المدائني قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا محمد بن إسحاق عن أبيه إسحاق بن يسار عن بعض رجال بني النجار بمثل ذلك وزاد في الشعر الذي قاله حسان زيادة ووافقه عليها مصعب الزبيري فيما أخبرنا به الحسن بن علي قال قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب في القصة فذكر أن فتية من المهاجرين والأنصار تنازعوا على الماء وهم يسقون خيولهم فغضب من ذلك حسان فقال هذا الشعر وذكر الزهري فيما أخبرنا أحمد بن يحيى بن الجعد قال حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب الزهري أن هذا الخبر كان بعد غزوة النبي المصطلق قال وكان في أصحاب رسول الله رجل يقال له سنان ورجل من بني غفار يقال له جهجاه فخرج جهجاه بفرس لرسول الله وفرس له يومئذ يسقيهما فأوردهما الماء فوجد على الماء فتية من الأنصار فتنازعوا فاقتتلوا فقال عبد الله ابن أبي ابن سلول هذا ما جزونا به آويناهم ثم هم يقاتلوننا وبلغ حسان بن ثابت الذي بين جهجاه وبين الفتية الأنصار فقال وهو يريد المهاجرين من القبائل قدموا على رسول الله في الإسلام وهذا الشعر من رواية مصعب دون الزهري ( أمسى الجلابيبُ قد عَزُّوا وقد كَثُروا ... وابنُ الفُرَيعةِ أمسى بيضةَ البَلَدِ ) ( يمشون بالقول سِرّاً في مُهَادَنةٍ ... تَهَدُّداً لي كأنَّي لستُ مْن أحَدِ ) ( قد ثَكِلْت أُمُّه مَنْ كنتُ صاحَبه ... أو كان مُنْتِشباً في بُرْثُن الأسَدِ ) ( ما للقتيل الذي أسموا فأقتُلُه ... من دِيَةٍ فيه أُعْطِيها ولا قَوَدِ ) ( ما البحرُ حين تَهُبُّ الريحُ شاميةً ... فَيْغْطَئلُّ ويَرْمى العِبْرَ بالزَّبّدِ ) ( يوماً بأغلَب منِّي حين تُبْصِرُني ... أفْرِي من الغَيْظِ فَرْيَ العَارِضِ البَرِدِ ) ( أمّا قريشٌ فإِنِّي لستُ تاركَهم ... حتى يُنِيبُوا مِنَ الغَيَّاتِ بالرَّشَدِ ) ( ويتركوا اللاَّتَ والعُزَّى بمَعْزِلَةٍ ... ويَسْجُدوا كلَّهم للواحد الصَّمّدِ ) ( ويَشْهَدوا أنَّ ما قال الرسولُ لهم ... حقٌّ ويُوفُوا بعهد الله في سَدَدِ ) ( أبْلِغْ بَنيّ بأنِّي قد تركتُ لهم ... من خير ما تَرَك الآباء للوَلَدِّ ) ( الدّارُ واسطةٌ والنخلُ شارعةٌ ... والبِيضُ يَرْفُلْنَ في القَسّيّ كالبَرَد ) قال فقال رسول الله ( يا حسان نفست علي إسلام قومي وأغضبه كلامه فغدا صفوان بن المعطل السلمي على حسان فضربه بالسيف وقال صفوان ( تَلَقَّ ذُبَابَ السَّيْفِ عنِّي فإِنني ... غلامٌ إذا هُوجِيتُ لستُ بشاعرِ ) فوثب قومه على صفوان فحبسوه ثم جاؤوا سعد بن عبادة بن دليم بن حارثة بن أبي حزيمة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن ساعدة بن كعب بن الخزرج بن حارثة ابن ثعلبة بن عمرو بن عامر وهو مقبل على ناضحه بين القربتين فذكروا له ما فعل حسان وما فعلوا فقال أشاورتم في ذلك رسول الله قالوا لا فقعد إلى الأرض وقال وانقطاع ظهراه أتأخذون بأيديكم ورسول الله بين ظهرانيكم ودعا بصفوان فأتي به فكساه وخلاه فجاء إلى النبي فقال له رسول الله ( من كساك كساه الله ) وقال حسان لأصحابه احملوني إلى رسول الله أترضاه ففعلوا فأعرض عنه رسول الله فردوه ثم سألهم فحملوه إليه الثانية فأعرض عنه رسول الله فانصرفوا به ثم قال لهم عودوا بي إلى رسول الله فقالوا له قد جئنا بك مرتين كل ذلك يعرض فلا نبرمه بك فقال احملوني إليه هذه المرة وحدها ففعلوا فقال يا رسول الله بأبي أنت وأمي احفظ قولي ( هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه ... وعند اللهِ في ذاك الجزاءُ ) ( فإِنّ أبي ووالدَه وعِرْضِي ... لِعرِض محمد منكم وقاءُ ) فرضي عنه رسول الله ووهب له سيرين أخت مارية أم ولد رسول الله إبراهيم هذه رواية مصعب وأما الزهري فإنه ذكر أن رسول الله لما بلغه ضرب السلمي حسان قال لهم ( خذوه فإن هلك حسان فاقتلوه ) فأخذوه فأسروه وأوثقوه فبلغ ذلك سعد بن عبادة فخرج في قومه إليهم فقال أرسلوا الرجل فأبوا عليه فقال أعمدتم إلى قوم رسول الله تؤذونهم وتشتمونهم وقد زعمتم أنكم نصرتموهم أرسلوا الرجل فأبوا عليه حتى كاد يكون قتال ثم أرسلوه فخرج به سعد إلى أهله فكساه حلة ثم أرسله سعد إلى أهله فبلغنا أن النبي دخل المسجد ليصلي فيه فقال ( من كساك كساه الله من ثياب الجنة ) فقال كساني سعد بن عبادة وذكر باقي الخبر نحوه الاعتذار عما رمى عائشة به وحدثني محمد بن جرير الطبري قال حدثني ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق عن محمد بن إبراهيم بن الحارث أن رسول الله أعطاه عوضا منها بيرحاء وهي قصر بني جديلة اليوم بالمدينة كانت مالا لأبي طلحة بن سهل تصدق بها إلى رسول الله فأعطاه حسان في ضربته وأعطاه سيرين أمة قبطية فولدت له عبد الرحمن بن حسان قال وكانت عائشة تقول لقد سئل عن صفوان بن المعطل فإذا هو حصور لا يأتي النساء قتل بعد ذلك شهيدا قال ابن إسحاق في روايته عن يعقوب بن عتبة فقال حسان يعتذر من الذي قال في عائشة ( حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنُّ برِيبَةٍ ... وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحومِ الغَوَافِل ) ( فإِنْ كنتُ قد قلتُ الذي قد زعمتُمُ ... فلا رفعتُ سَوْطِي إليَّ أنَامِلِي ) ( وكيف ووُدِّي من قديمٍ ونُصْرَتي ... لآِلِ رسولِ الله زَيْنِ المَحَافل ) ( فإِنّ الَّذي قد قِيل ليس بِلائَطٍ ... ولكنّه قولُ امرىءٍ بيَ مَاحِلِ ) قال الزبير وحدثني محمد بن الضحاك أن رجلا هجا حسان بن ثابت بما فعل به ابن المعطل فقال ( وإنّ ابَن المُعَطَّلِ من سُلَيْمٍ ... أَذَلَّ قِيادَ رَأْسِك بالخِطَامِ ) دفاع عائشة عنه أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرنا أبو عاصم قال أخبرنا ابن جريج قال أخبرني محمد بن السائب عن أمه أنها طافت مع عائشة ومعها أم حكيم وعاتكة امرأتان من بني مخزوم قالت فابتدرنا حسان نشتمه وهو يطوف فقالت ابن الفريعة تسببن قلن قد قال فيك فبراك الله قالت فأين قوله ( هجوتَ محمداً فأجبتُ عنه ... وعند الله في ذاك الجَزاءُ ) ( فإِنّ أبي ووالدَه وعِرْضِي ... لِعِرْضْ محمدٍ منكم وِقَاءُ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا إبراهيم بن المنذر عن سفيان بن عيينة عن محمد بن السائب بن بركة عن أمه نحو ذلك وزاد فيه إني لأرجو أن يدخله الله الجنة بقوله أخبرني الحسن قال حدثنا الزبير عن عبد العزيز بن عمران عن سفيان بن عيينة وسلم بن خالد عن يوسف بن ماهك عن أمه قالت كنت أطوف مع عائشة بالبيت فذكرت حسان فسببته فقالت بئس ما قلت أتسبينه وهو الذي يقول ( فإِنّ أبي ووالده وعِرْضِي ... لِعِرْضِ محمدٍ منكم وِقَاءُ ) فقلت أليس ممن لعن الله في الدنيا والآخرة بما قال فيك قالت لم يقل شيئا ولكنه الذي يقول ( حَصَانٌ رَزَانٌ ما تُزَنّ بريبةٍ ... وتُصْبِحُ غَرْثَى من لُحومِ الغَوَافِلِ ) فإِنْ كان ما قد جاء عَنِّي قلتُه ... فلا رفعتْ سَوْطِي إليَّ أناملي ) أخبرني الحسن قال حدثنا الزبير قال حدثني مصعب عمي قال حدثني بعض أصحابنا عن هشام بن عروة عن أبيه قال كنت قاعدا عند عائشة فمر بجنازة حسان بن ثابت فنلت منه فقالت مهلا فقلت أليس الذي يقول قالت فكيف بقوله ( فإِنّ أبي ووالدَه وعِرْضي ... لِعِرْض محمدٍ منكم وِقاءُ ) أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد قال حدثني أحمد بن سلمان عن سلمان بن حرب قال حدثنا حماد بن زيد عن أيوب عن محمد بن سيرين أن حسان أخذ يوما بطرف لسانه وقال يا رسول الله ما يسرني أن لي به مقولا بين صنعاء وبصرى ثم قال ( لِساني مِغْوَلٌ لا عيبَ فيه ... وبَحْرِي ما تُكَدِّرُه الدِّلاَءُ ) أخبرنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال كانت صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت يعني يوم الخندق قالت وكان حسان معنا فيه والنساء والصبيان قالت فمر بنا رجل من يهود فجعل يطيف بالحصن وقد حاربت بنو قريظة وقطعت ما بينها وبين رسول الله ليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ورسول الله والمسلمون في نحور عدوهم لا يستطيعون أن ينصرفوا إلينا عنهم إذ أتانا آت قالت فقلت يا حسان إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن وإني والله ما آمنه أن يدل على عوراتنا من وراءنا من يهود وقد شغل عنا رسول الله وأصحابه فانزل إليه فاقتله فقال يغفر الله لك يابنة عبد المطلب لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا قالت فلما قال ذلك ولم أر عنده شيئا احتجزت ثم أخذت عمودا ثم نزلت إليه من الحصن فضربته بالعمود حتى قتلته فلما فرغت منه رجعت إلى الحصن فقلت يا حسان انزل إليه فاسلبه فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل قال مالي بسلبه من حاجة يا بنت عبد المطلب رواية عن جبنه وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير قال حدثنا علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب عن أبيه قال كان ابن الزبير يحدث أنه كان في فارع أطم حسان بن ثابت مع النساء يوم الخندق ومعهم عمر بن أبي سلمة قال ابن الزبير ومعنا حسان بن ثابت ضاربا وتدا في آخر الأطم فإذا حمل أصحاب رسول الله على المشركين حمل على الوتد فضربه بالسيف وإذا أقبل المشركون انحاز عن الوتد حتى كأنه يقاتل قرنا يتشبه بهم كأنه يري أنه مجاهد حين جبن وإني لأظلم ابن أبي سلمة وهو أكبر مني بسنيتن فأقول له تحملني على عنقك حتى أنظر فإني أحملك إذا نزلت قال فإذا حملني ثم سألني أن يركب قلت له هذه المرة أيضا قال وإني لأنظر إلى أبي معلما بصفرة فأخبرتها أبي بعد فقال أين كنت حينئذ فقلت على عنق ابن أبي سلمة يحملني فقال أما والذي نفسي بيده إن رسول الله ليجمع إلى أبويه قال ابن الزبير وجاء يهودي يرتقي إلى الحصن فقالت صفية له أعطني السيف فأعطاها فلما ارتقى اليهودي ضربته حتى قتلته ثم احتزت رأسه فأعطته حسان وقالت طوح به فإن الرجل أقوى وأشد رمية من المرأة تريد أن ترعب به أصحابه قال الزبير وحدثني عمي عن الواقدي قال كان أكحل حسان قد قطع فلم يكن يضرب بيده تغنى بشجاعة النبي قال الزبير وحدثني علي بن صالح عن جدي أنه سمع أن حسان بن ثابت أنشد رسول الله ( لقد غدوتُ أمامَ القوم مُنْتطِقاً ... بِصَارِمٍ مِثْلِ لوْنِ المِلْحِ قَطَّاعِ ) ( يَحْفِزُ عنِّي نجادَ السيفِ سابغةٌ ... فَضْفَاضةٌ مثل لَوْنِ النِّهْي بالقَاعِ ) قال فضحك رسول الله فظن حسان أنه ضحك من صفته نفسه مع جبنه قال الزبير وحدثني محمد بن الحسن قال قال حسان بن ثابت جئت نابغة بني ذبيان فوجدت الخنساء بنت عمرو حين قامت من عنده فأنشدته فقال إنك لشاعر وإن أخت بني سليم لبكاءة الحطيئة يجيبه بما لم يرضه قال الزبير وحدثني يحيى بن طلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال أخبرني غير واحد من مشايخي أن الحطيئة وقف على حسان بن ثابت وحسان ينشد من شعره فقال له حسان وهو لا يعرفه كيف تسمع هذا الشعر يا أعرابي قال الحطيئة لا أرى به بأسا فغضب حسان قولا اسمعوا إلى كلام هذا الأعرابي ما كنيتك قال أبو مليكة قال ما كنت قط أهون علي منك حين كنيت بامرأة فما اسمك قال الحطيئة فقال حسان امض بسلام أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني محمد بن الحسن بن مسعود الزرقي قال حدثنا عبد لله بن شبيب قال حدثني الزبير وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني الزبير قال حدثني بعض القرشيين قال دخل حسان بن ثابت في الجاهلية بيت خمار بالشام ومعه أعشى بكر بن وائل فاشتريا خمرا وشربا فنام حسان ثم انتبه فسمع الأعشى يقول للخمار كره الشيخ الغرم فتركه حسان حتى نام ثم اشترى خمرا الخمار كلها ثم سكبها في البيت حتى سالت تحت الأعشى فعلم أنه سمع كلامه فاعتذر إليه فقال حسان ( وَلَسْنَا بِشَرْبٍ فَوْقَهُمْ ظِلُّ بُرْدةٍ ... يُعِدُّون لِلْخَمّارِ تَيْساً ومِفْصَدَا ) ( ولكِنَّنا شَرْبٌ كِرَامٌ إذا انتشَوْا ... أهانوا الصَّرِيحَ والسَّدِيفَ المُسَرْهَدَا ) ( كأنَّهُمُ ماتُوا زمانَ حَلِيمةً ... فإنْ تَأْتِهمْ تَحْمَدْ نِدَامَتَهم غَدَا ) ( وإن جئتَهم أَلْفيْتَ حولَ بُوتِهم ... من المِسْكِ والجادِي فَتِيتاً مُبَدَّدَا ) ( تَرَى حولَ أثناءِ الزَّرَابِيِّ ساقطاً ... نِعَالاً وقَسُّوباً ورَيْطاً مُنَضَّدَا ) ( وذَا نُمْرُقِ يَسْعَى ومُلْصَقَ خَدِّهِ ... بديباجةٍ تَكْفَافُها قد تَقَدَّدَا ) وهذه القصيدة يقولها حسان بن ثابت في وقعة بدر يفخر بها ويعير الحارث ابن هشام بفراره عن أخيه أبي جهل بن هشام وفيها يقول صوت ( إنْ كُنْتِ كاذِبَةَ الذي حَدّثْتِني ... فنَجَوْتِ مَنْجَى الحارثِ بن هشامِ ) ( تَرَكَ الأَحِبَّة أنْ يُقَاتِلَ دونَهم ... ونجَا برأس طِمرَّةٍ ولجَامِ ) غناه يحيى المكي خفيف ثقيل أول بالوسطى ولعزة الميلاء فيه خفيف رمل بالبنصر وفيه خفيف ثقيل بالبنصر لموسى بن خارجة الكوفي فأجاب الحارث بن هشام وهو مشرك يومئذ فقال صوت ( اللهُ يعلَم ما تركتُ قِتالَهم ... حتَّى رَمَوْا فَرَسِي بأَشْقَرَ مُزْبِدِ ) ( وعلمتُ أنِّي إنْ أقَاتِلْ واحداً ... أُقْتَلْ ولا يَضْرُرْ عَدُوِّيَ مَشْهَدي ) فَفَرَرْتُ منهمْ والأَحِبَّةُ فيهمُ ... طَمَعاً لهم بِعقَاب يوم مُرْصَدِ ) غنى فيه إبراهيم الموصلي خفيف ثقيل أول بالبنصر وقيل بل هو لفليح أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني سليمان بن أيوب قال حدثنا محمد بن سلام عن يونس قال لما صار ابن الأشعث إلى رتبيل تمثل رتبيل بقول حسان بن ثابت في الحارث بن هشام ( تَرَكَ الأَحِبَّة أنْ يُقَاتِلَ دونَهُمْ ... ونجا برأس طِمِرّةٍ ولجامِ ) فقال له ابن الأشعث أو ما سمعت ما رد عليه الحارث بن هشام قال وما هو فقال قال ( اللهُ يعلَم ما تركتُ قتالَهم ... حتى رَمَوْا فرسي بأَشْقَرَ مُزْبِدِ ) ( وعلمْتُ أنِّي إنْ أُقاتِلْ واحداً ... أَقْتَلْ ولا يَضْرُرْ عَدُوّيَ مَشْهَدي ) ( فصددتُ عنهمْ والأحِبّةُ فيهمُ ... طمعاً لهم بعقاب يوم مُرْصَدِ ) فقال رتبيل يا معشر العرب حسنتم كل شيء حتى حسنتم الفرار ذكر الخبر عن غزاة بدر أخبار غزاة بدر حدثني بخبرها محمد بن جرير الطبري في المغازي قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثني محمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن مسلم الزهري وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن غزوة بدر وغيرهم من علمائنا عن عبد الله بن عباس كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سمعت من حديث بدر قالوا لما سمع رسول الله بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين إليهم وقال ( هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها فلعل الله أن ينفلكموها ) فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله يلقى حربا وكان أبو سفيان استقدم حين دنا من الحجاز وجعل يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أموال الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا استنفر أصحابه لك ولعيرك فجد عند ذلك فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة رؤيا تفزع عاتكة بنت عبد المطلب قال ابن إسحاق وحدثني من لا أتهم عن عكرمة مولى ابن عباس ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر أو مصيبة فاكتم عني ما أحدثك قال لها وما رأيت قالت رأيت راكبا أقبل علي بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته أن انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث وأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بأعلى صوته انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا دخلتها منها فلقه قال العباس إن هذه لرؤيا وأنت فاكتميها ولا تذكريها لأحد ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان له صديقا فذكرها له واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث بمكة حتى تحدثت به قريش قال العباس فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام ورهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة فلما رآني أبو جهل قال يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا فلما فرغت أقبلت إليه حتى جلست معهم فقال لي أبو جهل يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية قال قلت وما ذاك قال الرؤيا التي رأت عاتكة قلت وما رأت قال يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم قد زعمت عاتكة في رؤياها أنها قالت انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يكن ما قالت حقا فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب كتابا عليكم أنكم أكذب أهل بيت في العرب قال العباس فوالله ما كان إليه مني كبير إلا جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا قال ثم تفرقنا فلما أمسينا لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ويتناول النساء وأنت تسمع ولم يكن عندك غير لشيء مما سمعت قلت قد والله فعلت ما كان مني إليه من كبير وايم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفينكنه قال فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه قال فدخلت المسجد فرأيته فوالله إني لأمشي نحوه العرضنة ليعود لبعض ما كان فأوقع به وكان رجلا خفيفا حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر إذ خرج نحو باب المسجد يشتد قال قلت في نفسي ماله لعنه الله أكل هذا فرقا أن أشاتمه فإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان بن حرب قد عرض لها محمد في أصحابه لا أرى أن تدركوها الغوث الغوث قال فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر قال فتجهز الناس سراعا وقالوا لا يظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد إلا أبو لهب بن عبد المطلب تخلف فبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة وكان لط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه فأفلس بها فاستأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه فخرج عنه وتخلف أبو لهب هكذا في الحديث فذكر أبو عبيدة وابن الكلبي إن أبا لهب قامر العاصي بن هشام في مائة من الإبل فقمره أبو لهب ثم عاد فقمره أيضا ثم عاد فقمره أيضا الثالثة فذهب بكل ما كان يملكه فقال له العاصي أرى القداح قد حالفتك يابن عبد المطلب هلم نجعلها على أينا يكون عبدا على لصاحبه قال ذلك لك فدحاها فقمره أبو لهب فأسلمه قينا وكان يأخذ منه ضريبة فلما كان يوم بدر وأخذت قريش كل من لم يخرج بإخراج رجل مكانه أخرجه أبو لهب عنه وشرط له العتق فخرج فقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه رجع الحديث إلى وقعة بدر قال محمد بن إسحاق وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان قد أجمع القعود وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا فجاءه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال يا أبي علي استجمر فإنما أنت من النساء قال قبحك الله وقبح ما جئت به ثم تجهز وخرج مع الناس فلما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب فقالوا إنا نخشى أن يأتوا من خلفنا قال محمد بن إسحاق فحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير قال لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي بينها وبين بني بكر بن عبد مناة فكاد ذلك أن يثبطهم فتبدى لهم إبليس في صورة سراقة بن جعشم المدلجي وكان من أشراف بني كنانة فقال إني جار لكم من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا جيش النبي وخرج رسول الله فيما بلغني عن غير ابن إسحاق لثلاث ليال خلون من شهر رمضان المعظم في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا من أصحابه فاختلف في مبلغ الزيادة على العشرة فقال بعضهم كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وكان المهاجرون يوم بدر سبعة وسبعين رجلا وكان الأنصار مائتين وستة وثلاثين رجلا وكان صاحب راية رسول الله علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكان صاحب راية الأنصار سعد بن عبادة حدثنا محمد قال حدثنا هارون بن إسحاق قال حدثنا مصعب بن المقدام قال أبو جعفر وحدثني محمد بن إسحاق الأهوازي قال حدثنا أبو أحمد الزبيري قال حدثنا إسرائيل قال حدثنا أبو إسحاق عن البراء قال كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر ولم يجز معه إلا مؤمن ثلاثمائة وبضعة عشر تأييد الأنصار للنبي قال ابن إسحاق في حديثه عمن روى عنه وخرج رسول الله في أصحابه وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار في ليال مضت من رمضان فسار حتى إذا كان قريبا من الصفراء بعث بسبس بن عمرو الجهني حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزغباء حليف بني النجار إلى بدر يتجسسان له الخبر عن أبي سفيان بن حرب وغيره ثم ارتحل رسول الله وقدمهما فلما استقبل الصفراء وهي قرية بين جبلين سأل عن جبليها ما اسماهما فقيل يقال لأحدهما هذا مسلح وللآخر هذا مخرىء وسأل عن أهلها فقالوا بنو النار وبنو حراق بطنان من غفار فكرههما رسول الله والمرور بينهما وتفاءل باسميهما وأسماء أهاليهما فتركهما والصفراء يسارا وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران فخرج منه حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار النبي الناس وأخبرهم عن قريش فقام أبو بكر فقال فأحسن ثم قام عمر فقال فأحسن ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون معلمون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد يغني مدينة الحبشة لجالدنا معك حتى تبلغه فقام رسول الله خيرا ودعا له بخير حدثنا محمد قال حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم أبو يحيى قال حدثنا المخارق عن طارق عن عبد الله بن مسعود قال شهدت من المقداد مشهدا لأن أكون صاحبه أحب إلي مما في الأرض من كل شيء كان رجلا فارسا وكان رسول الله إذا غضب احمارت وجنتاه فأتاه المقداد على تلك الحال فقال أبشر يا رسول الله فوالله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون لكن والذي بعثك بالحق لنكونن بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وشمالك أو يفتح الله تبارك وتعالى رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق ثم قال رسول الله ( أشيروا علي أيها الناس ) وإنما يريد الأنصار وذلك أنهم كانوا عدد الناس وأنهم حين بايعوا بالعقبة قالوا يا رسول الله إنا براء من ذمامك حتى تصير إلى دارنا فإذا وصلت فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا وأبناءنا ونساءنا فكان رسول الله يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو في غير بلادهم فلما قال ذلك رسول الله قال له سعد بن معاذ والله لكأنك تريدنا يا رسول الله قال ( أجل ) قال فقد آمنا بك يا رسول الله وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض بنا يا رسول الله لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر وخضته لخضناه معك ما يتخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدوا غدا إنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء لعل الله تعالى أن يريك منا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله فسر رسول الله بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال ( سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم ) ثم ارتحل رسول الله من ذفران وسلك على ثنايا يقال لها الأصافر ثم انحط على بلد يقال لها الدبة ثم ترك الحنان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل ثم نزل قريبا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه قال الطبري قال محمد بن إسحاق حدثني محمد بن يحيى بن حبان حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما فقال له رسول الله ( إذا أخبرتنا أخبرناك ) فقال أوذاك بذاك فقال ( نعم ) قال الشيخ فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان صدقني الذي أخبرني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به رسول الله وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي حدثني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي به قريش فلما فرغ من خبره قال ممن أنتما فقال رسول الله ( نحن من ماء ) ثم انصرف الشيخ عنه قال يقول الشيخ ما من ماء أمن ماء العراق ثم رجع رسول الله إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب رضي الله عنه والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى بدر يلتمسون له الخبر عليه قال محمد بن إسحاق حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج وعريض أبو يسار غلام بني العاصي بن سعيد فأتوا بهما رسول الله وهو يصلي فسألوهما فقالا نحن سقاة لقريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلما أذلقوهما قالا نحن لأبي سفيان فتركوهما وركع رسول الله وسجد سجدتين ثم سلم ثم قال ( إذا صدقاكم ضربتموهما فإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش أخبراني أين قريش ) قالا هم وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى والكثيب العقنقل فقال لهما رسول الله ( كم القوم ) قالا لا ندري قال ( كم ينحرون كل يوم ) قالا يوما تسعا ويوما عشرا فقال رسول الله ( القوم ما بين التسعمائة والألف ) ثم قال لهما رسول الله ( فمن فيهم من أشراف قريش ) قالا عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر بن نوفل وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابن الحجاج وسهيل بن عمرو وعمرو بن ود فأقبل رسول الله على الناس فقال ( هذه مكة قد رمت إليكم أفلاذ كبدها ) قال ابن إسحاق وقد كان بسبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء مضيا حتى نزلا بدرا فأناخا إلى تل قريب من الماء ثم أخذا شنا يستسقيان فيه ومجدي بن عمرو الجهني على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر وهما تتلازمان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم ثم أقضيك الذي لك قال مجدي صدقت ثم خلص بينهما وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله فأخبراه بما سمعا وأقبل أبو سفيان قد تقدم العير حذرا حتى ورد الماء فقال لمجدي بن عمرو هل أحسست أحدا قال ما رأيت أحدا أنكره إلا أني رأيت راكبين أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا فأتى أبو سفيان مناخهما فأخذا من أبعار بعيريهما ففته فإذا فيه النوى فقال هذه والله علائف يثرب فرجع إلى أصحابه سريعا فصرف وجه عيره عن الطريق فساحل بها وترك بدرا يسارا ثم انطلق حتى أسرع وأقبلت قريش فلما نزلوا الجحفة رأى جهيم بن أبي الصلت بن مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف رؤيا فقال إني رأيت فيما يرى النائم وإني لبين النائم واليقظان إذ نظرت إلى رجل أقبل على فرس ومعه بعير له ثم قال قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف وفلان وفلان فعدد رجالا ممن قتل يومئذ من أشراف قريش ورأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه قال فبلغت أبا جهل فقال وهذا أيضا نبي آخر من بني عبد المطلب سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا ولما رأى أبو سفيان قد أحرز عيره أرسل إلى قريش إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورحالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا فقال أبو جهل والله لا نرجع حتى نرد بدرا وكان بدر موسما من مواسم العرب تجتمع به لهم بها سوق كل عام فنقيم عليه ثلاثا وننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب بمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبدا فأمضوا فقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي وكان حليفا لبني زهرة وهم بالجحفة يا بني زهرة قد نجى الله لكم عيركم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فاجعلوا بي جبنها وارجعوا فإنه لا حاجة بكم في أن تخرجوا في غير ضيعة لما يقول هذا يعني أبا جهل فلم يشهدها زهري وكان فيهم مطاعا ولم يكن بقي من قريش بطن إلا نفر منهم ناس إلا بني عدي بن كعب لم يخرج منهم رجل واحد فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد ومضى القوم وقد كان بين طالب بن أبي طالب وكان في القوم وبين بعض قريش محاورة فقالوا والله لقد عرفنا يا بني هاشم وإن خرجتم معنا أن هواكم لمع محمد فرجع طالب إلى مكة فيمن رجع وأما ابن الكلبي فإنه قال فيما حدثت عنه شخص طالب بن أبي طالب إلى بدر مع المشركين أخرج كرها فلم يوجد في الأسرى ولا في القتلى ولم يرجع إلى أهله وكان شاعرا وهو الذي يقول ( يا رَبِّ إِمَّا يَغْزُوَنْ طالِبْ ... في مِقْنَبٍ من هذه المَقَانِبْ ) ( فَلْيكُنِ المسلوبَ غيرَ السالِبْ ... وليكنِ المغلوبَ غيرَ الغالبْ ) رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق قال ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل وبطن الوادي وهو يليل بين بدر وبين العقنقل الكثيب الذي خلفه قريش والقليب ببدر من العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة وبعث الله عز و جل السماء وكان الوادي دهسا فأصاب النبي وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم المسير وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه فخرج رسول الله يبادرهم إلى الماء حتى حاذى ماء من مياه بدر فنزل به قال ابن إسحاق فحدثني عشرة رجال من بني سلمة ذكروا أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة قال ( بل هو الرأي والحرب والمكيدة ) فقال يا رسول الله إن هذا ليس لك بمنزل فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من مياه القوم فتنزله ثم تعور ما سواه من القلب ثم تبنى عليه حوضا فتملأه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربوا فقال رسول الله ( لقد أشرت بالرأي ) فنهض رسول الله ومن معه من الناس حتى أتى أدنى ماء من القوم فنزل عليه ثم أمر بالقلب فعورت وبنوا حوضا على القليب الذي نزل عليه فملىء ماء ثم قذفوا فيه الآنية النبي يراقب من عريش بني له قال محمد بن إسحاق فحدثني محمد بن أبي بكر أن سعد بن معاذ قال يا رسول الله نبني لك عريشا من جريد فتكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقى عدونا فإن نحن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا كان ذلك ما أحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا من قومنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد حبا لك منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك فأثنى عليه رسول الله خيرا ودعا له بخير ثم بني لرسول الله عريش فكان فيه وقد ارتحلت قريش حين أصبحت وأقبلت فلما رآها رسول الله تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي منه جاؤوا إلى الوادي قال ( اللهم هذي قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم فأحنهم الغداة وقد قال رسول الله ورأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر ( إن يكن عند أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا ) وقد كان خفاف بن إيماء بن رحضة الغفاري أو أبوه أيما بن رحضة بعث إلى قريش حين مروا به ابنا له بجزائر أهداها لهم وقال لهم إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم فقد قضيت الذي عليك فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا ضعف عنهم ولئن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فما لأحد بالله من طاقة فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا الحوض حوض رسول الله فقال رسول الله ( دعوهم ) فما شرب منهم رجل إلى قتل يومئذ إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل نجا على فرس له يقال له الوجيه وأسلم بعد ذلك فحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال والذي نجاني من يوم بدر قال محمد بن إسحاق وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم عن أشياخ من الأنصار قالوا لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا احزر لنا أصحاب محمد فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصونه ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد قال فضرب في الوادي حتى أمعن فلم ير شيئا فرجع فقال لم أر شيئا ولكن قد رأيت يا معشر قريش الولايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك فروا رأيكم فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة وقال يا أبا الوليد إنك كبير قريش الليلة وسيدها والمطاع فيها هل لك إلى أمر لا تزال تذكر منه بخير إلى آخر الدهر قال وما ذاك يا حكيم قال ترجع بالناس وتحمل دم حليفك عمرو بن الحضرمي قال قد فعلت أنت على ذلك شهيد إنما هو حليفي فعلي عقله وما أصيب من ماله فأت ابن الحنظلية فإني لا أخشى أن يسحر الناس غيره يعني أبا جهل بن هشام حدثنا محمد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا غمامة بن عمرو السهمي قال حدثنا مسور بن عبد الملك اليربوعي عن أبيه عن سعيد بن المسيب قال بينا نحن عند مروان بن الحكم إذ دخل عليه حاجبه فقال هذا أبو خالد حكيم بن حزام قال إيذن له فلما دخل حكيم بن حزام قال مرحبا بك يا أبا خالد أدن فحال له مروان عن صدر المجلس ختى كان بينه وبين الوسادة ثم استقبله مروان فقال حدثنا حديث بدر قال خرجنا حتى إذا نزلنا الجحفة رجعت قبيلة من قبائل قريش بأسرها فلم يشهد أحد من مشركيهم بدرا ثم خرجنا حتى نزلنا العدوة التي قال الله عز و جل فجئت عتبة بن ربيعة فقلت يا أبا الوليد هل لك أن تذهب بشرف هذا اليوم ما بقيت قال أفعل ماذا قال قلت إنكم لا تطلبون من محمد إلا دم واحد ابن الحضرمي وهو حليفك فتحمل ديته فيرجع الناس قال أنت وذاك وأنا أتحمل ديته فاذهب إلى ابن الحنظلية يعني أبا جهل فقل له هل لك أن ترجع اليوم بمن معك عن ابن عمك فجئته فإذا هو في جماعة من بين يديه ومن ورائه فإذا ابن الحضرمي واقف على رأسه وهو يقول قد فسخت عقدي من بني عبد شمس وعقدي إلى بني مخزوم فقلت له يقول لك عتبة بن ربيعة هل لك أن ترجع اليوم عن ابن عمك بمن معك قال أما وجد رسولا غيرك قلت لا ولم أكن لأكون رسولا لغيره قال حكيم فخرج مبادرا إلى عتبة وخرجت معه لئلا يفوتني من الخبر شيء وعتبة يتكىء على إيماء بن رحضة الغفاري وقد أهدى إلى المشركين عشر جزائر فطلع أبو جهل والشر في وجهه فقال لعتبة انتفخ سحرك فقال عتبة فستعلم فسل أبو جهل سيفه فضرب به متن فرسه فقال إيماء بن رحضة بئس المقام هذا فعند ذلك قامت الحرب رجع الحديث إلى ابن إسحاق ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا فقال يا معشر قريش والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل منكم ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب فإن أصابوه فذلك الذي أردتم وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعدموا منه ما تريدون قال حكيم فانطلقت حتى جئت أبا جهل فوجدته قد نثل درعا له من جرابها وهو يهيئها فقلت له يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا الذي قال فقال انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه كلا والله لا مرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وأصحابه وما بعتبة ما قال ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه قد تخوفكم عليه ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي فقال له هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك فقم فانشد خفرتك ومقتل أخيك فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ واعمراه واعمراه فحميت الحرب وحقب أمر الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة بن ربيعة ولما بلغ عتبة قول أبي جهل انتفخ سحره قال سيعلم مصفر الإست من انتفخ سحره أنا أم هو ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فلم يجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي وكان رجلا شرسا سيىء الخلق فقال أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه فلما خرج وخرج له حمزة بن عبد المطلب فلما التقيا ضربه حمزة فأبان قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد أن يبر يمينه مقتل بعض أعداء النبي وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة حتى إذا نصل من الصف دعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة نفر وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء ورجل آخر يقال هو عبد الله بن رواحة فقالوا من أنتم قالوا رهط من الأنصار قالوا ما لنا بكم حاجة ثم نادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا فقال رسول الله ( قم يا حمزة بن عبد المطلب قم يا عبيدة بن الحارث قم يا علي بن أبي طالب ) فلما قاموا ودنوا منهم قالوا من أنتم فقال عبيدة عبيدة وقال حمزة حمزة وقال علي علي قالوا نعم أكفاء كرام فبارز عبيدة بن الحارث وكان أسن القوم عتبة بن ربيعة وبارز حمزة شيبة بن ربيعة وبارز علي الوليد بن عتبة فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله وأما علي فلم يمهل الوليد بن عتبة أن قتله واختلف عبيدة وعتبة بينهما بضربتين كلاهما أثبت صاحبه فكر حمزة وعلي على عتبة بأسيافهما فذففا عليه فقتلاه واحتملا صاحبهما عبيدة فجاءا به إلى أصحابه وقد قطعت رجله ومخه يسيل فلما أتوا بعبيدة إلى رسول الله قال ألست شهيدا يا رسول الله قال ( بلى ) فقال عبيدة لو كان أبو طالب حيا لعلم أني بما قال أحق منه حيث يقول ( ونُسْلِمُه حتَّى نُصَرَّعَ حولَه ... ونَذْهَلَ عن أبنائنا والحَلائِلِ ) قال محمد بن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار حين انتسبوا له أكفاء كرام إنما نريد قومنا ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض وقد أمر رسول الله أصحابه ألا يحملوا حتى يأمرهم وقال ( إن اكتنفكم القوم فانضحوهم بالنبل ) ورسول الله في العريش معه أبو بكر وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان قال ابن إسحاق كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين قال محمد بن جرير وحدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال قال لي محمد بن إسحاق حدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه أن رسول الله عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار وهو مستنتل من الصف فطعن رسول الله في بطنه بالقدح ثم قال ( استو يا سواد بن غزية ) فقال يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق فأقدني قال فكشف رسول الله عن بطنه وقال ( استقد ) فاعتنقه وقبل بطنه فقال ( ما حملك على هذا يا سواد ) فقال يا رسول الله حضر ما ترى فلم آمن الموت فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله بخير وقال له خيرا ثم عدل رسول الله الصفوف ورجع إلى العريش ودخله ومعه أبو بكر وليس معه غيره ورسول الله يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول ( اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم يعني المسلمين لا تعبد بعد اليوم ) وأبو بكر يقول يا نبي الله خل بعض مناشدتك ربك فإن الله منجز لك ما وعدك حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال حدثنا عبد الله بن المبارك عن عكرمة بن عمار قال حدثني سماك الحنفي قال سمعت ابن عباس يقول حدثني عمر بن الخطاب قال لما كان يوم بدر ونظر رسول الله إلى المشركين وعدتهم وإلى أصحابه وهم نيف على ثلاثمائة استقبل الكعبة وجعل يدعو ويقول ( اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تبعد في الأرض ) فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه فأخذ أبو بكر فوضع رداءه عليه ثم التزمه من روائه فقال كفاك يا نبي الله بأبي أنت وأمي مناشدتك لربك سينجز لك ما وعدك فأنزل الله تعالى ( إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) حدثنا محمد قال حدثنا ابن وكيع قال حدثنا الثقفي يعني عبد الوهاب عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي قال وهو في قبته يوم بدر ( اللهم أسألك عهدك ووعدك اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم ) قال فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك يا نبي الله فقد ألححت على ربك وهو في الدرع فخرج وهو يقول ( سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر ) رجع الحديث إلى حديث ابن إسحاق النبي يبشر بالنصر قال وقد خفق رسول الله خفقه وهو في العريش ثم انتبه فقال ( يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده وعلى ثناياه النقع ) قال وقد رمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل فكان أول قتيل من المسلمين ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فقتل ثم خرج رسول الله إلى الناس فحرضهم ونفل كل امرئ ما أصاب وقال ( والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة ) فقال عمير بن الحمام أخو بني سلمة وفي يده تمرات يأكلها بخ بخ أما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء قال ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل وهو يقول ( ركْضاً إلى اللهِ بغير زَادِ ... إلاّ التُّقَى وعَمَلَ المَعَادِ ) ( والصَّبْرَ في اللهِ على الجِهَادِ ... وكلُّ زَادٍ عُرْضةُ النَّفادِ ) ( غيرَ التُّقَى والبِرِّ والرَّشادِ ... ) حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة أن عوف بن الحارث وهو ابن عفراء قال يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده قال غمسه يده في العدو حاسرا فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل هزيمة المشركين حدثنا محمد قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق قال وحدثني محمد بن مسلم الزهري عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري حليف بني زهرة قال لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعض قال أبو جهل اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة فكان هو المستفتح على نفسه ثم إن رسول الله أخذ حفنة من الحصباء واستقبل بها قريشا ثم قال ( شاهت الوجوه ) ثم نفحهم بها وقال لأصحابه ( شدوا ) فكانت الهزيمة فقتل الله من قتل من صناديد قريش وأسر من أسر منهم فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله في العريش وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله متوشحا بالسيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله يخافون عليه كرة العدو رأي رسول الله فيما ذكر لي في وجه سعد بن معاذ الكراهة فيما يصنع الناس فقال له ( كأنك كرهت ما يصنع الناس ) قال أجل يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله عز و جل بأهل الشرك فكان الإثخان في القتل أعجب إلي من استبقاء الرجال حدثنا محمد قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد بن إسحاق قال وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن ابن عباس أن رسول الله قال لأصحابه يومئذ ( إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث فلا يقتله ومن لقي العباس بن عبد المطلب عم رسول الله فلا يقتله فإنما خرج مستكرها ) قال فقال أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة أيقتل آباؤنا وأبناؤنا وإخواننا وعشيرتنا ونترك العباس والله لئن لقيته لألحمنه السيف فبلغت رسول الله فجعل يقول لعمر بن الخطاب ( يا أبا حفص أما تسمع إلى قول أبي حذيفة يقول أضرب وجه عم رسول الله بالسيف ) فقال عمر يا رسول الله دعني فلأضربن عنقه بالسيف فوالله لقد نافق قال عمر والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله بأبي حفص النبي ينهي عن قتل أبي البختري قال فكان أبو حذيفة يقول ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ولا أزال منها خائفا إلا أن تكفرها عني الشهادة فقتل يوم اليمامة شهيدا قال وإنما نهى رسول الله عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله وهو بمكة كان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه بمكة شيء يكرهه وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب فلقيه المجذر بن ذياد البلوي حليف الأنصار من بني عدي فقال المجذر بن ذياد لأبي البختري إن رسول الله قد نهى عن قتلك ومع أبي البختري زميل له خرج معه من مكة وهو جنادة بن مليحة بن زهير بن الحارث بن أسد وجنادة رجل من بني ليث واسم أبي البختري العاصي بن هشام بن الحارث بن أسد قال وزميلي فقال المجذر لا والله ما نحن بتاركي زميلك ما أمرنا رسول الله إلا بك وحدك قال والله إذا لأموتن أنا وهو جميعا لا تتحدث عني نساء قريش بين أهل مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة فقال أبو البختري حين نازله المجذر وأبى إلا القتال وهو يرتجز ( لن يُسْلِمَ ابنُ حُرَّةٍ أكِيلَه ... حتّى يموتَ أو يرى سبيلَه ) فاقتتلا فقتله المجذر بن ذياد ثم أتى المجذر بن ذياد رسول الله فقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به فأبى إلا القتال فقاتلته فقتلته قال محمد بن إسحاق وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال وحدثنيه أيضا عبد الله بن أبي بكر وغيرهما عن عبد الرحمن بن عوف قال كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة قال وكان اسمي عبد عمرو فسميت حين أسلمت عبد الرحمن ونحن بمكة قال وكان يلقاني بمكة فيقول يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماك به أبواك فأقول نعم فيقول فإني لا أعرف الرحمن فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف قال فكان إذا دعاني يا عبد عمرو لم أجبه فقلت اجعل بيني وبينك يا أبا علي ما شئت قال فأنت عبد الإله فقلت نعم قال فكنت إذا مررت به قال يا عبد الإله فأجيبه فأتحدث معه حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف مع علي ابنه آخذا بيده ومعي أدراع قد سلبتها وأنا أحملها فلما رآني قال يا عبد عمرو فلم أجبه فقال يا عبد الإله قلت نعم قال هل لك في فأنا خير لك من هذه الأدراع قلت نعم هلم إذا فطرحت الأدراع من يدي وأخذت بيده وبيد ابنه علي وهو يقول ما رأيت كاليوم قط أما لكم حاجة في اللبن ثم خرجت أمشي بينهما قال ابن إسحاق وحدثني عبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف قال قال لي أمية بن خلف وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما يا عبد الإله من الرجل المعلم منكم بريش نعامة في صدره قال قلت ذلك حمزة بن عبد المطلب قال ذلك الذي فعل بنا الأفاعيل قال عبد الرحمن فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على أن يترك الإسلام فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول لا تزال هكذا حتى تفارق دين محمد فيقول بلال أحد أحد فقال بلال حين رآه رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجوا قال قلت أي بلال أبأسيري قال لا نجوت إن نجوا قلت أي بلال أبأسيري تسمع يابن السوداء قال لا نجوت إن نجوا ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف لا نجوت إن نجوا قال فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه قال فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت بمثلها قط قال قلت انج بنفسك ولا نجاء فوالله ما أغني عنك شيئا قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما قال فكان عبد الرحمن يقول رحم الله بلالا ذهب بأدراعي وفجعني بأسيري الملائكة يؤازرون النبي في بدر قال ابن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن ابن عباس قال حدثني رجل من بني غفار قال أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة فننهب مع من ينهب فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل وسمعت قائلا يقول أقدم حيزوم قال فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت قال محمد بن إسحاق حدثني أبي إسحاق بن يسار عن رجال من بني مازن بن النجار عن أبي داود المازني وكان شهد بدرا قال إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي فعلمت أنه قد قتله غيري حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم المصري قال حدثنا يحيى بن بكير قال حدثني محمد بن إسحاق عن العلاء بن كثير عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال قال لي أبي يا بني لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا ليشير إلى المشرك بسيفه فيقع رأسه عن جسده قبل أن يصل إليه السيف حدثنا محمد قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد قال وحدثني الحسن بن عمارة قال أخبرنا سلمة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن عباس قال كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها على ظهورهم ويوم حنين عمائم حمرا ولم نقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام مددا وعددا ولا يضربون حدثنا محمد قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة قال قال محمد وحدثني ثور بن زيد مولى بني الديل عن عكرمة مولى ابن عباس عن ابن عباس قال وحدثني عبد الله بن أبي بكر قالا كان معاذ بن عمرو بن الجموح أخو بني سلمة يقول لما فرغ رسول الله من غزوة بدر أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى وقال ( اللهم لا يعجزنك ) وكان أول من لقي أبا جهل معاذ بن عمرو بن الجموح قال سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه فلما سمعتها جعلتها من شأني فعمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا كالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها قال وضربني ابنه عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي وأجهضني القتال عنها فلقد قاتلت عامة يومي وإني لأسحبها خلفي فلما أذتني جعلت عليها رجلي ثم تمطيت بها حتى طرحتها قال ثم عاش معاذ بعد ذلك حتى كان في زمن عثمان بن عفان قال ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته فتركه وبه رمق وقاتل معوذ حتى قتل فمر عبد الله ابن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله أن يلتمس في القتلى وقال لهم رسول الله فيما بلغني ( انظروا إن خفي عليكم في القتلى إلى أثر جرح بركبته فإني ازدحمت أنا وهو يوما على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشب أو أشف منه بيسير فدفعته فوقع على ركبتيه فخدش في إحداهما خدشا لم يزل أثره فيها بعد ) فقال عبد الله بن مسعود فوجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه قال وقد كان ضبث بي مرة بمكة فآذاني ولكزني ثم قلت هل أخزاك الله يا عدو الله قال وبماذا أخزاني أعمد من رجل قتلتموه لمن الدبرة اليوم قال قلت لله ولرسوله حدثنا محمد بن جرير قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن محمد قال زعم رجال من بني مخزوم أن ابن مسعود كان يقول قال لي أبو جهل لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقى صعبا ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله فقلت يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل فقال رسول الله ( الله الذي لا إله غيره ) وكانت يمين رسول الله قلت نعم والله الذي لا إله غيره ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله قال فحمد الله النبي يكلم أصحاب القليب بعد موتهم قال محمد بن إسحاق وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت لما أمر رسول الله بالقتلى أن يطرحوا في القليب طرحوا فيها إلا ما كان من أمية بن خلف فإنه انتفخ في درعه فملأها فذهبوا به ليخرجوه فتزايل فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة فلما ألقوهم في القليب وقف رسول الله فقال ( يأهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني وجدت ما وعدني ربي حقا ) فقال له أصحابه يا رسول الله أتكلم قوما موتى قال ( لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حق ) قالت عائشة والناس يقولون لقد سمعوا ما قلت لهم وإنما قال رسول الله ( لقد علموا ) قال ابن إسحاق وحدثني حميد الطويل عن أنس بن مالك قال لما سمع أصحاب رسول الله وهو يقول من جوف الليل ( يأهل القليب يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة ويا أبا جهل بن هشام فعدد من كان منهم في القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ) قال المسلمون يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا فقال ( ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني ) قال محمد بن إسحاق وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله يوم قال هذه المقالة قال ( يأهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم كذبتموني وصدقني الناس وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني ونصرني الناس ) ثم قال ( هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ) للمقالة التي قالها ولما أمر بهم رسول الله أن يلقوا في القليب أخذ عتبة فسحب إلى القليب فنظر رسول الله فيما بلغني إلى وجه أبي حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغير فقال رسول الله ( يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شئ ) أو كما قال قال فقال لا والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وفضلا وحلما فكنت أرجو أن يهديه الله إلى الإسلام فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك قال فدعا رسول الله بخير وقال له خيرا اختلاف المسلمين على الفيء ثم إن رسول الله أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع واختلف المسلمون فيه فقال من جمعه هو لنا وقد كان رسول الله نفل كل امرئ ما أصاب فقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونهم لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا القوم عنكم حتى أصبتم ما أصبتم وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله مخافة أن يخالف إليه العدو والله ما أنتم بأحق منا ولقد رأينا أن نقتل العدو إذ ولانا الله ومنحنا أكتافهم ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ولكن خفنا على رسول الله كرة العدو فقمنا دونه فما أنتم بأحق به منا قال ابن إسحاق وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان أن رسول الله جمع الأسارى من المشركين وكانوا أربعة وأربعين أسيرا وكان من القتلى مثل ذلك وفي الأسارى عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بن كلدة حتى إذا كان رسول الله بالصفراء قتل النضر بن الحارث بن كلدة قتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال محمد بن إسحاق حدثني عبد الله بن أبي بكر عن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة قال قدم بالأسارى حين قدم بهم وسودة بنت زمعة زوج النبي عند آل عفراء في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب قال تقول سودة والله لعبدهم إني لعندهم إذ أتينا فقيل هؤلاء الأسارى قد أتي بهم فرحت إلى بيتي ورسول الله فيه وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل قالت فوالله ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت يا أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراما فوالله ما أنبهني إلا قول رسول الله من البيت ( يا سودة أعلى الله وعلى رسوله ) قالت فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه بحبل أن قلت ما قلت قال محمد بن إسحاق وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله بن إياس بن ضبيعة بن رومان بن كعب بن عمرو الخزاعي قالوا ما وراءك قال قتل عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف وزمعة بن الأسود وأبو البختري بن هشام ونبيه ومنبه ابنا الحجاج قال فلما جعل يعدد أشراف قريش قال صفوان بن أمية وهو قاعد في الحجر والله إن يعقل هذا فسلوه عني قالوا ما فعل صفوان بن أمية قال هو ذلك جالس في الحجر وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا موت أبي لهب قال محمد بن إسحاق حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن عكرمة مولى ابن عباس قال قال أبو رافع مولى رسول الله كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة وكذلك صنعوا لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا فلما جاء الخبر عن مصاب أهل بدر من قريش كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا وكنت رجلا ضعيفا وكنت أعمل القداح انحتها في حجرة زمزم فوالله إني لجالس فيها أنحت القداح وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه يسير حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري فبينا هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم فقال أبو لهب هلم إلي يابن أخي فعندك لعمري الخبر فجلس إليه والناس قيام عليه فقال يابن أخي أخبرني كيف كان أمر الناس قال لا شيء والله إن كان إلا أن لقيناهم فأبحناهم أكتافنا يقتلون ويأسرون كيف شاؤوا وايم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت تلك والله الملائكة فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة قال فساورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني وكنت رجلا ضعيفا فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فشجت في رأسه شجة منكرة وقالت أتستضعفه أن غاب عنه سيده فقام ذليلا فوالله ما عاش فيها إلا سبع ليال حتى رماه الله جل جلاله بالعدسة فقتلته فلقد تركه ابناه ليلتين أو ثلاثا لا يدفنانه حتى أنتن في بيته وكانت قريش تتقي العدسة كما يتقى الطاعون حتى قال لهما رجل من قريش ويحكما لا تستحييان أن أباكما قد أنتن في بيته لا تغيبانه فقالا نخشى هذه القرحة قال فانطلقا فأنا معكما فما غسلوه إلا قذفا بالماء عليه من بعيد ما يمسونه فاحتملوه فدفنوه بأعلى مكة على جدار وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه النبي يتألم لأسر العباس قال محمد بن إسحاق وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد عن بعض أهله عن الحكم بن عتيبة عن ابن عباس قال لما أمسى القوم من يوم بدر والأسارى محبوسون في الوثاق بات رسول الله ساهرا أول ليلته فقال له أصحابه يا رسول الله ما لك لا تنام فقال ( سمعت تضور العباس في وثاقه ) فقاموا إلى العباس فأطلقوه فنام رسول الله قال ابن إسحاق وحدثني الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن ابن عباس قال كان الذي أسر العباس أبو اليسر كعب بن عمرو أخو بني سلمة وكان رجلا مجموعا وكان العباس رجلا جسيما فقال رسول الله لأبي اليسر ( كيف أسرت العباس يا أبا اليسر ) فقال يا رسول الله أعانني عليه رجل ما رأيته قبل ذلك ولا بعده هيئته كذا وكذا فقال رسول الله ( لقد أعانك عليه ملك كريم ) قال ابن إسحاق عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رسول الله قال للعباس بن عبد المطلب حين انتهي به إلى المدينة ( يا عباس افد نفسك وابن أخيك عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث وحليفك عتبة بن عمرو بن جحدم أخا بني الحارث بن فهر فإنك ذو مال ) فقال يا رسول الله إني كنت مسلما ولكن القوم استكرهوني فقال ( الله أعلم بإسلامك إن يكن ما تذكر حقا فالله يجزيك به فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك ) وكان رسول الله قد أخذ منه عشرين أوقية من ذهب فقال العباس يا رسول الله احسبها لي في فدائي قال ( لا ذلك شيء أعطاناه الله منك ) قال فإنه ليس لي مال قال قال ( فأين المال الذي وضعته بمكة حين خرجت من عند أم الفضل بنت الحارث ليس معكما أحد ثم قلت لها إن أصبت في سفرتي هذه فللفضل كذا ولعبد الله كذا ولقثم كذا ولعبيد الله كذا ) قال والذي بعثك بالحق ما علم هذا أحد غيري وغيرها وإني لأعلم أنك رسول الله ففدى العباس نفسه وابن أخيه وحليفه قال ابن إسحاق وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن عائشة قالت لما بعث أهل مكة في فداء أسراهم بعثت زينب بنت رسول الله في فداء أبي العاصي بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاصي حين بنى عليها فلما رآها رسول الله رق لها رقة شديدة وقال ( إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها فافعلوا ) فقالوا نعم يا رسول الله فأطلقوه وردوا عليها الذي لها قال ابن إسحاق حدثني يحيى بن عباد عن أبيه قال ناحت قريش على قتلاها ثم قالت لا تفعلوا فيبلع ذلك محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ولا تبعثوا في فداء أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يتأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء قال وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده زمعة وعقيل والحارث بنو الأسود وكان يحب أن يبكي على بنيه فبينا هو كذلك إذ سمع نائحة في الليل فقال لغلامه وقد ذهب بصره أنظر هل أحل النحيب وهل بكت قريش على قتلاها لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإن جوفي قد احترق فلما رجع إليه الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته فذلك حين يقول الأسود ( أتبكي أنْ أُضِلَّ لها بعيرٌ ... ويَمْنَعُها البكاءُ من الهُجودِ ) ( ولا تَبْكِي على بَكْرٍ ولَكِنْ ... على بَدْرٍ تَقَاصَرتِ الجُدُودُ ) ( على بَدْرٍ سَرَاةَ بني هُصَيْصْ ... ومَخْزومٍ ورَهْط أبي الوَلِيدِ ) ( وبَكِّي إنْ بَكَيْتِ على عَقِيلٍ ... وبَكِّي حارثاً أسَدَ الأُسودِ ) ( وبَكِّيهم ولا تُسْمِي جميعاً ... فما لأبي حَكِيمةَ من نَدِيدِ ) ( ألاَ قد سادَ بَعْدَهُمُ رجالٌ ... ولولاَ يومُ بَدْرً لم يَسْودُوا ) ومما قيل في بدر من الشعر وغني به قول هند بنت عتبة ترثي أباها صوت ( مَنْ حَسَّ لي الأخَوَيْنِ كَالْغُصْنَيْنِ ... أو مَنْ رَاهُمَا ) ( قَرْمَانِ لا يَتَظالَمَانِ ... ولا يُرامُ حِمَاهُما ) ( وَيْلِي على أبَوَيَّ والْقَبْرِ ... الذي وَارَاهُمَا ) ( لا مِثْلَ كَهْلِي في الكُهُولِ ... ولا فَتًى كَفَتَاهُما ) ذكر الهشامي أن الغناء لابن سريج رمل وفي الكتاب الكبير المنسوب إلى إسحاق أنه للغريض وتمام هذه الأبيات ( أسَدَانِ لا يَتَذَلَّلانِ ... ولا يُرامُ حِماهما ) ( رُمْحَيْنِ خَطِّيَّيْن في ... كَبِدِ السماءِ تراهما ) ( ما خَلَّفَا إذ وَدَّعا ... في سُودَدٍ شَرْوَاهما ) ( سادَا بغيرِ تَكَلُّفٍ ... عَفْواً يَفيِضُ نَدَاهُما ) هند بنت عتبة تعاظم الخنساء بعكاظ أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا محمد ابن سعد عن الواقدي وأخبرني ابن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الواقدي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال لما كانت وقعة بدر قتل فيها عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة فأقبلت هند بنت عتبة ترثيهم وبلغها تسويم الخنساء هودجها في الموسم ومعاظمتها العرب بمصيبتها بأبيها عمرو بن الشريد وأخويها صخر ومعاوية وأنها جعلت تشهد الموسم وتبكيهم وقد سومت هودجها براية وأنها تقول أنا أعظم العرب مصيبة وأن العرب قد عرفت لها بعض ذلك فلما أصيبت هند بما أصيبت به وبلغها ذلك قالت أنا أعظم من الخنساء مصيبة وأمرت بهودجها فسوم براية وشهدت الموسم بعكاظ وكانت سوقا يجتمع فيها العرب فقالت إقرنوا جملي بجمل الخنساء ففعلوا فلما أن دنت منها قالت لها الخنساء من أنت يا أخية قالت أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك فبم تعاظمينهم فقالت الخنساء بعمرو بن الشريد وصخر ومعاوية ابني عمرو وبم تعاظمينهم أنت قالت بأبي عتبة بن ربيعة وعمي شيبة بن ربيعة وأخي الوليد قالت الخنساء أو سواء هم عندك ثم أنشدت تقول ( أُبَكِّي أبي عَمْراً بعينٍ غَزِيرةٍ ... قليلٌ إذا نام الخَلِيُّ هُجودُها ) وصَنْوَيَّ لا أَنْسَى مُعَاويةَ الذي ... له من سَرَاةِ الحَرَّتَيْن وفُودُها ) ( وصخراً ومَنْ ذا مثلُ صخرٍ إذا غَدَا ... بساهمة الآطالِ قُبًّا يَقُودُها ) ( فذلِك يا هندُ الرَّزِيَّةُ فاعْلَمِي ... ونِيرانُ حَرْبٍ حين شَبَّ وَقُودُها ) فقالت هند تجيبها ( أبَكِّي عَمِيدَ الأَبْطَحَيْنِ كِلَيْهِما ... وحامِيهما من كل باغٍ يُريدها ) ( أَبِي عُتبةُ الخَيْراتِ وَيْحَكِ فاعْلَمِي ... وشَيْبةُ والحامي الذِّمارِ وليدُها ) ( أولئك آلُ المَجْد من آلِ غالبٍ ... وفي العِزِّ منها حين يَنْمِي عَدِيدُها ) وقالت لها أيضا يومئذ ( مَنْ حَسَّ لِي الأَخَوَيْنِ كَالْغُصْنَيْنِ ... أو مَنْ رَاهُما ) أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني بعض القرشيين قال قدم عبد الله بن جعفر على معاوية وافدا فدخل عليه إنسان ثم ذهب إلى معاوية فقال هذا ابن جعفر يشرب النبيذ ويسمع الغناء ويحرك رأسه عليه فجاء معاوية متغيرا حتى دخل على ابن جعفر وعزة الميلاء بين يديه كالشمس الطالعة في كواء البيت يضيء بها البيت تغنيه على عودها ( تَبَلَتْ فُؤادَك في الظلامِ خَرِيدةٌ ... تِشْفِي الضَّجيعَ بباردٍ بَسّامِ ) وبين يديه عس فقال ما هذا يا أبا جعفر قال أقسمت عليك يا أمير المؤمنين لتشربن منه فإذا عسل مجدوح بمسك وكافور فقال هذا طيب فما هذا الغناء قال هذا شعر حسان بن ثابت في الحارث بن هشام قال فهل تغني بغير هذا قال نعم بالشعر الذي يأتيك به الأعرابي الجافي الأذفر القبيح المنظر فيشافهك به فتعطيه عليه وآخذه أنا فأختار محاسنه ورقيق كلامه فأعطيه هذه الحسنة الوجه اللينة اللمس الطيبة الريح فترتله بهذا الصوت الحسن قال فما تحريكك رأسك قال أريحية أجدها إذا سمعت الغناء لو سئلت عندها لأعطيت ولو لقيت لأبليت فقال معاوية قبح الله قوما عرضوني لك ثم خرج وبعث إليه بصلة صوت من المائة المختارة قصيدة عمر بن أبي ربيعة في نعم ( أَيُّها القلبُ لا أراكَ تُفِيقُ ... طَالَما قَدْ تَعَلَّقَتْكَ العَلُوقُ ) ( مَنْ يَكُنْ مِنْ هَوَى حبيبٍ قريباً ... فأنا النازحُ البعيدُ السَّحِيقُ ) ( قُضِيَ الحُبُّ بيننا فالتقينا ... وكلاَنَا إلى اللِّقاء مَشُوقُ ) الشعر في البيت الأول والثالث لعمر بن أبي ربيعة والبيت الثاني ليس له ولكن هكذا غني وليس هو أيضا مشاكلا لحكاية ما في البيت الثالث والغناء لبابويه الكوفي خفيف ثقيل أول وهذا الشعر يقوله عمر بن أبي ربيعة في امرأة من قريش يقال لها نعم كان كثير الذكر لها في شعره أخبرني بذلك محمد بن خلف بن المرزبان عن أبي عبد الله التميمي عن القحذمي والمدائني قال وهي التي يقول فيها ( أَمِنْ آلِ نُعْمٍ أنتَ غادٍ فمُبْكِرُ ... ) قال وكانت تكنى أم بكر وهي من بني جمح وتمام هذه الأبيات على ما حكاه ابن المرزبان عمن ذكرت ( فالْتَقَيْنا ولم نَخَفْ ما لَقِينَا ... ليلةَ الخَيْفِ والمُنَى قد تَشُوقُ ) ( وجرى بيننا فجددَ وصلا ... قُلَّبٌ حُوَّلٌ أرِيبٌ رفيقُ ) ( لا تَظُنِّي أنّ التَّرَاسُلَ والبَدْلَ ... لكلِّ النساءِ عندي يَلِيق ) ( هل لكَ اليومَ إنْ نأتْ أُمُّ بَكْرٍ ... وَتَوَلَّتْ إلى عَزَاءٍ طريقُ ) أخبرني محمد بن خلف بن المزربان قال حدثت عن محمد بن حميد عن عبد الله بن سوار القاضي عن بشر بن المفضل قال بلغ عمر بن أبي ربيعة أن نعما اغتسلت في غدير فأتاه فأقام عليه وما زال يشرب منه حتى جف أخبرني محمد بن خلف قال قال محمد بن حبيب الراوية بلغني أن نعما استقبلت عمر بن أبي ربيعة في المسجد الحرام وفي يدها خلوق من خلوق المسجد فمسحت به ثوبه ومضت وهي تضحك فقال عمر ( أدخل اللهُ ربُّ موسى وعيسى ... جَنَّةَ الخُلْدِ مَنْ مَلاَنِي خَلُوقَا ) ( مسحتْه من كَفِّها في قميصي ... حين طافتْ بالبيت مَسْحاً رَفِيقَا ) ( غَضِبَتْ أَنْ نَظرتُ نحوَ نساءٍ ... ليس يَعْرِفْنَنِي سَلَكْنَ طريقَا ) ( وأرى بينهما وبين نساء ... كنتُ أَهْذِي بهِنّ بَوْناً سَحِيقَا ) وهذا البيت الأول مما عيب على عمر ومما غني فيه من تشبيب عمر بنعم هذه صوت ( دِينَ هذا القلبُ مِنْ نُعْمِ ... بَسقَامٍ ليس كالسُّقْمِ ) ( إنّ نُعْماً أَقصدتْ رجلاً ... آمناً بالخَيْفِ إذ تَرْمي ) ( بِشَتِيتٍ نَبْتُه رَتِلٍ ... طَيِّبِ الأنيابِ والطَّعْمِ ) ( وبِوَحْفٍ مائلٍ رَجِلٍ ... كعناقِيدَ مِن الكَرْمِ ) ومنها صوت ( خِلِيلَيَّ ارْبَعَا وسَلاَ ... بمَغْنَى الحيِّ قد مثلا ) ( بأعلَى الوادِ عند البِئْرِ ... هَيَّجَ عَبْرةً سبَلاَ ) ( وقد تَغْنَى به نُعْمٌ ... وكنت بوَصْلِها جَذِلاَ ) ( ليالي لا نحب لنا ... بعيش قد مضى بدلا ) ( وتَهْوَانَا ونهْوَاها ... ونَعْصِي قَوْلَ مَنْ عَذَلاَ ) ( وتُرْسِلُ في مُلاَطَفةٍ ... ونُعْمِلُ نحوَها الرُّسُلاَ ) غناه الهذلي ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لابن سريج لحنان رمل بالبنصر في مجراها عن إسحاق وخفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو وفيها عن إسحاق ثاني ثقيل ولسليم خفيف رمل جميعا عن الهشامي قال ويقال إن اللحن المنسوب إلى سليم لحكم الوادي ومنها من قصيدة أولها ( لقد أرسلتْ نُعْمٌ إلينا أَن ائْتِنَا ... فأَحبِبْ بها من مُرْسِلٍ مُتَغَضِّبِ ) يغني منها في قوله صوت ( فقلتُ لِجَنَّادٍ خُذِ السيفَ واشْتَمِلْ ... عليه بِرفْقٍ وارْقُبِ الشمس تَغْرُبِ ) ( وأَسْرِجْ لِيَ الدَّهْماءَ واعْجَلْ بِممْطَرِي ... ولا تُعْلِمَنْ حَيّاً مِنَ النّاسِ مَذْهَبِي ) ( فلمّا التقينا سَلّمتْ وتَبسَّمتْ ... وقالتْ مقالَ المُعْرِض المُتَجَنَّبِ ) ( أَمِنْ أجلِ واشٍ كاشحٍ بنميمةٍ ... مَشَى بيننا صَدَّقْتَه لم تُكَذِّبِ ) ( وقَطَّعْتَ حبلَ الوصلِ منّا ومَنْ يُطِعْ ... بذِي ودِّه قولَ المُؤَرِّشِ يُعْتَبِ ) صوت ( ما بالُ أهْلك يا رَبابُ ... خُزْراً كأنَّهُمُ غِضَابُ ) ( إنْ زُرْتُ أهلَكِ أَوْعَدُوا ... وتَهِرّ دونَهُم الكلابُ ) عروضه من الكامل الشعر لعلس ذي جدن الحميري أخبرنا بذلك محمد ابن الحسن بن دريد عن عمه عن العباس بن هشام عن أبيه والغناء لطويس ولحنه المختار خفيف رمل بالبنصر نسب علس ذي جدن وأخباره هو علس بن زيد بن الحارث بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد الجمهور بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أعز بن الهم بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان وهو ملك من ملوك حمير ولقب ذا جدن لحسن صوته والجدن الصوت بلغتهم ويقال إنه أول من تغنى باليمن أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي وأبي مسكين قالا إنما سمي ذا جدن لحسن صوته أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي عن إسماعيل بن إبراهيم بن ذي الشعار الهمداني عن حيان بن هانئ الأرحبي عن أبيه قال ماذا كتب على قبره أخبرني رجل من أهل صنعاء أنهم حفروا حفيرا في زمن مروان فوقفوا على أزج له باب فإذا هو برجل على سرير كأعظم ما يكون من الرجال عليه خاتم من ذهب وعصابة من ذهب وعند رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه أنا علس ذو جدن القيل لخليلي مني النيل ولعدوي مني الويل طلبت فأدركت وأنا ابن مائة سنة من عمري وكانت الوحش تأذن لصوتي وهذا سيفي ذو الكف عندي ودرعي ذات الفروج ورمحي الهزبري وقوسي الفجواء وقرني ذات الشر فيها ثلاثمائة حشر من صنعة ذي نمر أعددت ذلك لدفع الموت عني فخانني قال فنظرنا فإذا جميع ذلك عنده ووجدت هذا الخبر عن ابن الكلبي في بعض الكتب من غير رواية ابن عمار فوجدت فيه فإذا طول السيف اثنا عشر شبرا وعليه مكتوب تحت شاربه بالمسند باست امرئ كنت في يده فلم ينتصر انقضت أخباره أخبار طويس ونسبه طويس لقب واسمه طاوس مولى بني مخزوم وهو أول من غنى الغناء المتقن من المخنثين وهو أول من صنع الهزج والرمل في الإسلام وكان يقال أحسن الناس غناء في الثقيل ابن محرز وفي الرمل ابن سريج وفي الهزج طويس وكان الناس يضربون به المثل فيقال أهزج من طويس أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد ابن إسحاق عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه وأبي مسكين قال إسحاق وحدثني المدائني والهيثم بن عدي عن صالح بن كيسان تغنى بشعر ذي جدن أن أبان بن عثمان وفد على عبد الملك بن مروان فأمره على الحجاز فأقبل حتى إذا دنا من المدينة تلقاه أهلها وخرج إليه أشرافها فخرج معهم طويس فلما رآه سلم عليه ثم قال له أيها الأمير إني كنت أعطيت الله عهدا لئن رأيتك أميرا لأخضبن يدي إلى المرفقين ثم أزدو بالدف بين يديك ثم أبدى عن دفه وتغنى بشعر ذي جدن الحميري ( ما بالُ أهلِكِ يا ربابُ ... خُزْراً كأنّهمُ غِضابُ ) قال فطرب أبان حتى كاد أن يطير ثم جعل يقول له حسبك يا طاوس ولا يقول له يا طويس لنبله في عينه ثم قال له اجلس فجلس فقال له أبان قد زعموا أنك كافر فقال جعلت فداءك والله إني لأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأصلي الخمس وأصوم شهر رمضان وأحج البيت فقال أفأنت أكبر أم عمرو بن عثمان وكان عمرو أخا أبان لأبيه وأمه فقال له طويس أنا والله جعلت فداءك مع جلائل نساء قومي أمسك بذيولهن يوم زفت أمك المباركة إلى أبيك الطيب قال فاستحيا أبان ورمى بطرفه إلى الأرض وأخبرني بهذه القصة إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا العتبي عن أبيه بمثل هذه القصة عن أبان وطويس وزاد فيها أن طويسا قال له نذري أيها الأمير قال وما نذرك قال نذرت إن رأيتك أميرا في هذه الدار أن أغني لك وأزدو بدفي بين يديك فقال له أوف بنذرك فإن الله عز و جل يقول ( يوفون بالنذر ) قال فأخرج يديه مخضوبتين وأخرج دفه وتغنى ( ما بالُ أهلِكِ يا ربابُ ... ) وزاد فيه فقال له أبان يقولون إنك مشؤوم قال وفوق ذلك قال وما بلغ من شؤمك قال ولدت ليلة قبض النبي وفطمت ليلة مات أبو بكر رضي الله عنه واحتلمت ليلة قتل عمر رضوان الله عليه وزفت إلي أهلي ليلة قتل عثمان رضي الله عنه قال فاخرج عني عليك الدبار يحيى بن الحكم يهدر دمه مع المخنثين أخبرني إسماعيل قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن الوليد قال حدثني مصعب بن عثمان عن نوفل بن عمارة قال خرج يحيى بن الحكم وهو أمير على المدينة فبصر بشخص بالسبخة مما يلي مسجد الأحزاب فلما نظر إلى يحيى بن الحكم جلس فاستراب به فوجه أعوانه في طلبه فأتي به كأنه امرأة في ثياب مصبغة مصقولة وهو ممتشط مختضب فقال له أعوانه هذا ابن نغاش المخنث فقال له ما أحسبك تقرأ من كتاب الله عز و جل شيئا إقرأ أم القرآن فقال يا أبانا لو عرفت أمهن عرفت البنات فقال له أتتهزأ بالقرآن لا أم لك وأمر به فضربت عنقه وصاح في المخنثين من جاء بواحد منهم فله ثلاثمائة درهم قال زرجون المخنث فخرجت بعد ذلك أريد العالية فإذا بصوت دف أعجبني فدنوت من الباب حتى فهمت نغمات قوم آنس بهم ففتحته ودخلت فإذا بطويس قائم في يده الدف يتغنى فلما رآني قال لي إيه يا زرجون قتل يحيى بن الحكم ابن نغاش قلت نعم قال وجعل في المخنثين ثلاثمائة درهم قلت نعم فادفع يغني ( ما بالُ أهلكِ يا رباب ... خُزْراً كأنّهمُ غِضابُ ) ( إن زرتُ أهلكِ أوعدوا ... وتَهِرّ دونهمُ كِلابُ ) ثم قال ويحك أفما جعل في زيادة ولا فضلني عليهم في الجعل بفضلي شيئا أخبرني محمد بن عمرو العتابي قال حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان ولم أسمعه أنا من محمد بن خلف قال حدثني إسحاق بن محمد بن أبان الكوفي قال حدثني حسين بن دحمان الأشقر قال كنت بالمدينة فخلا لي الطريق وسط النهار فجعلت أتغنى ( ما بالُ أهلكِ يا رَبابُ ... خُزْراً كأنّهم غِضابُ ) قال فإذا خوخة قد فتحت وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء فقال يا فاسق أسأت التأدية ومنعت القائلة وأذعت الفاحشة ثم اندفع يغنيه فظننت أن طويسا قد نشر بعينه فقلت له أصلحك الله من أين لك هذا الغناء فقال نشأت وأنا غلام حدث أتبع المغنين وآخذ عنهم فقالت لي أمي يا بني إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يلتفت إلى غنائه فدع الغناء واطلب الفقه فإنه لا يضر معه قبح الوجه فتركت المغنين واتبعت الفقهاء فبلغ الله بي عز و جل ما ترى فقلت له فأعد جعلت فداءك قال لا ولا كرامة أتريد أن تقول أخذته عن مالك بن أنس وإذا هو مالك بن أنس ولم أعلم صوت من المائة المختارة ( لِمَنْ رَبْعٌ بذات الجَيْشِ ... أمْسَى دارساً خَلَقَا ) ( وقفتُ به أُسائلهُ ... ومَرّتْ عِيسُهمْ حِزَقَا ) ( عَلَوْا بك ظاهرَ البَيْداءِ ... والمخزونُ قد قَلِقَا ) ذات الجيش موضع ذكر النبي أن جيشا يغزو الكعبة فيخسف بهم إلا رجلا واحدا يقلب وجهه إلى قفاه فيرجع إلى قومه كذلك فيخبرهم الخبر حدثني بهذا الحديث أحمد بن محمد الجعدي قال حدثنا محمد بن بكار قال حدثنا إسماعيل بن زكريا عن محمد بن سوقة قال سمعت نافع بن جبير بن مطعم يقول حدثتني عائشة قالت حديث النبي عن انخساف الأرض قال رسول الله ( يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم ) قالت عائشة فقلت يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم سواهم ومن ليس منهم قال ( يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على قدر نياتهم ) الشعر للأحوص والغناء في هذا اللحن المختار للدلال المخنث وهو أحد من خصاه ابن حزم بأمر الوليد بن عبد الملك مع المخنثين والخبر في ذلك يذكر بعد ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر في الأول والثالث ولإسحاق فيه ثقيل أول آخر وفيه لمالك لحن من خفيف الرمل عن يونس والهشامي وغيرهما وفيه رمل ينسب إلى ابن سريج وهو مما يشك في نسبته إليه وقيل إن خفيف الرمل لابن سريج والرمل لمالك وذكر حبش أن فيه للدلال خفيف ثقيل بالبنصر أيضا ذكر الأحوص وأخباره ونسبه هو الأحوص وقيل إن اسمه عبد الله وإنه لقب الأحوص لحوص كان في عيينه وهو ابن محمد بن عبد الله بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح واسم أبي الأقلح قيس بن عصيمة بن النعمان بن أمية بن ضبيعة بن زيد بن مالك ابن عوف بن عمر بن عوف بن مالك بن الأوس وكان يقال لبني ضبيعة بن زيد في الجاهلية بنو كسر الذهب وقال الأحوص حين نفي إلى اليمن ( بَدّل الدّهْرُ من ضُبَيْعةَ عَكًّا ... جِيرةً وهو يُعْقِبُ الأبْدالاَ ) خبر جده عاصم حمي الدبر وكان جده عاصم يقال له حمي الدبر وكان رسول الله بعثه بعثا فقتله المشركون وأرادوا أن يصلبوه فحمته الدبر وهي النحل فلم يقدروا عليه حتى بعث الله عز و جل الوادي في الليل فاحتمله فذهب به وفي ذلك يقول الأحوص مفتخرا ( وأنا ابنُ الذي حَمَتْ لحمَه الدّبْرُ ... قتِيلِ اللَّحيْانِ يومَ الرّجيعِ ) حدثنا بالخبر في ذلك محمد بن جرير الطبري قال حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل قال حدثنا محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة قال قدم على رسول الله بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا يا رسول الله إن فينا إسلاما وخيرا فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهونا في الدين ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام فبعث رسول الله معهم نفرا من ستة من أصحابه مرثد بن أبي مرثد الغنوي حليف حمزة بن عبد المطلب وخالد بن البكير حليف بني عدي بن كعب وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح أخا بني عمرو ابن عوف وخبيب بن عدي أخا بني جحجبى بن كلفة بن عمرو بن عوف وزيد ابن الدثنة أخا بني بياضة بن عامر وعبد الله بن طارق حليفا لبني ظفر من بلي وأمر رسول الله عليهم مرثد بن أبي مرثد فخرجوا مع القوم حتى إذا كانوا على الرجيع ماء لهذيل بناحية من الحجاز من صدر الهدأة غدروا بهم واستصرخوا عليهم هذيلا فلم يرع القوم وهم في رحالهم إلا بالرجال في أيديهم السيوف قد غشوهم فأخذوا أسيافهم ليقاتلوا القوم فقالوا إنا والله ما نريد قتلكم ولكنا نريد أن نصيب بكم شيئا من أهل مكة ولكم عهد الله وميثاقه ألا نقتلكم فأما مرثد ابن أبي مرثد وخالد بن البكير وعاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فقالوا إنا والله لا نقبل من مشرك عهدا ولا عقدا أبدا فقاتلوهم حتى قتلوهم جميعا وأما زيد بن الدثنة وخبيب بن عدي وعبد الله بن طارق فلانوا ورقوا ورغبوا في الحياة وأعطوا بأيديهم فأسروهم ثم خرجوا بهم إلى مكة ليبيعوهم بها حتى إذا كانوا بالظهران انتزع عبد الله بن طارق يده من القرآن ثم أخذ سيفه واستأخر عن القوم فرموه بالحجارة حتى قتلوه فقبره بالظهران وأما خبيب بن عدي وزيد ابن الدثنة فقدموا بهما مكة فباعوهما فابتاع خبيبا حجير بن أبي إهاب التميمي حليف بني نوفل لعقبة بن الحارث بن عامر بن نوفل وكان حجير أخا الحارث بن عامر بن نوفل لأمه ليقتله بأبيه وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأمية بن خلف أبيه وقد كانت هذيل حين قتل عاصم بن ثابت قد أرادوا رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد وكانت قد نذرت حين قتل عاصم ابنها يوم أحد لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر فمنعته الدبر فلما حالت بينهم وبينه قالوا دعوه حتى يمسي فتذهب عنه فنأخذه فبعث الله عز و جل الوادي فاحتمل عاصما فذهب به وكان عاصم قد أعطى الله عز و جل عهدا لا يمسه مشرك أبدا ولا يمس مشركا أبدا تنجسا منه فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه أن الدبر منعته عجبا لحفظ الله عز و جل العبد المؤمن كان عاصم نذر ألا يمسه مشرك ولا يمس مشركا أبدا في حياته فمنعه الله بعد مماته كما امتنع منه في حياته قال محمد بن جرير وأما غير ابن إسحاق فإنه قص من خبر هذه السرية غير الذي قصه غيره من ذلك ما حدثنا أبو كريب قال حدثنا جعفر بن عون العمري قال حدثنا إبراهيم بن إسماعيل عن عمر أو عمرو بن أسيد عن أبي هريرة أن رسول الله بعث عشرة رهط وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح فخرجوا حتى إذا كانوا بالهدأة ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو ج8. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني لحيان فبعثوا إليهم مائة رجل راميا فوجدوا مأكلهم حيث أكلوا التمر فقالوا نوى يثرب ثم اتبعوا آثارهم حتى إذا أحس بهم عاصم وأصحابه التجأوا إلى الجبل وأحاط بهم الآخرون فاستنزلوهم وأعطوهم العهد فقال عاصم والله لا أنزل على عهد كافر اللهم أخبر نبيك عنا ونزل إليهم ابن الدثنة البياضي وخبيب ورجل آخر فأطلق القوم أوتار قسيهم ثم أوثقوهم فجرحوا رجلا من الثلاثة فقال هذا والله أول الغدر والله لا أتبعكم فضربوه وقتلوه وانطلقوا بخبيب وابن الدثنة إلى مكة فدفعوا خبيبا إلى بني الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف وكان خبيب هو الذي قتل الحارث بأحد فبينما خبيب عند بنات الحارث استعار من إحدى بنات الحارث موسى ليستحد بها للقتل فما راع المرأة ولها صبي يدرج إلا خبيب قد أجلس الصبي على فخذه والموسى بيده فصاحت المرأة فقال خبيب أتحسبين أني أقتله إن الغدر ليس من شأننا قال فقالت المرأة بعد ما رأيت أسيرا قط خيرا من خبيب لقد أريته وما بمكة من ثمرة وإن في يده لقطفا من عنب يأكله إن كان إلا رزقا رزقه الله خبيبا وبعث حي من قيس إلى عاصم ليؤتوا من لحمه بشيء وقد كان عاصم فيهم آثار بأحد فبعث الله عليه دبرا فحمت لحمه فلم يستطيعوا أن يأخذوا من لحمه شيئا فلما خرجوا بخبيب من الحرم ليقتلوه قال ذروني أصل ركعتين فتركوه فصلى ركعتين فجرت سنة لمن قتل صبرا يصلي ركعتين ثم قال لولا أن يقال جزع لزدت وما أبالي ( عَلَى أيِّ شِقِّ كان لله مَصْرَعي ... ) ثم قال ( وذلك في ذاتِ الإِلهِ وإنْ يَشِأْ ... يُبَارِكْ على أوصالِ شِلْوٍ مُمزَّعِ ) اللهم أحصهم عددا وخذهم بددا ثم خرج به أبو سروعة بن الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف فضربه فقتله حدثنا محمد قال حدثنا أبو كريب قال حدثنا جعفر بن عون عن إبراهيم بن إسماعيل قال وأخبرني جعفر بن عمرو بن أمية عن أبيه عن جده أن رسول الله بعثه وحده عينا إلى قريش قال فجئت إلى خشبة خبيب وأنا أتخوف العيون فرقيت فيها فحللت خبيبا فوقع إلى الأرض فانتبذت غير بعيد ثم التفت فلم أر لخبيب أثرا فكأنما الأرض ابتلعته فلم تظهر لخبيب رمة حتى الساعة قال محمد بن جرير وأما زيد بن الدثنة فإن صفوان بن أمية بعث به فيما حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة عن ابن إسحاق مع مولى له يقال له نسطاس إلى التنعيم فأخرجه من الحرم ليقتله واجتمع إليه رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل أنشدك الله يا زيد أتحب أن محمدا عندنا الآن مكانك فتضرب عنقه وأنك في أهلك فقال والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصبيه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي قال يقول أبو سفيان ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا ثم قتله نسطاس أخبرني أحمد بن الجعد قال حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثنا محمد بن فليح عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب قال نزل عبد الله وأبو أحمد ابنا جحش حين قدما مهاجرين على عاصم بن ثابت وكنيته أبو سليمان وقال عاصم ( أبو سليمان ورِيشُ المُقْعَدِ ... وهجْناٌ من جلد ثورٍ أَجْرَدِ ) وذكر لنا الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير أن عاصما فيما قيل كان يكنى أبا سفيان قال وقال في يوم الرجيع ( أنا أبو سُفْيانَ مِثْلِي رَامَا ... أَضْرِبُ كَبْشُ العارِض القَدَّامَا ) بعض صفات الأحوص أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا إسماعيل بن عبد الله عن إسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن عمه قال كنية الأحوص أبو محمد وأمه أثيلة بنت عمير بن مخشي وكان أحمر أحوص العينين ماذا قال الفرزدق في شعر الأحوص قال الزبير فحدثني محمد بن يحيى قال قدم الفرزدق المدينة ثم خرج منها فسئل عن شعرائها فقال رأيت بها شاعرين وعجبت لهما أحدهما أخضر يسكن خارجا من بطحان يريد ابن هرمة والآخر أحمر كأنه وحرة على برودة في شعره يريد الأحوص والوحرة يعسوب أحمر ينزل الأنبار وقال الأحوص يهجو نفسه ويذكر حوصه ( أَقْبِحْ به من وَلَدٍ وأَشْقِحِ ... مِثْلِ جُرَيِّ الكلب لم يُفَقِّحِ ) ( إنْ يَرَ سُوءاً لم يَقُمْ فَيَنْبَحِ ... بالبابِ عند حاجةِ المُسْتَفْتِحِ ) قال الزبير ولم يبق للأحوص من ولده غير رجلين رأي أبي الفرج فيه قال الزبير وجعل محمد بن سلام الأحوص وابن قيس الرقيات ونصيبا وجميل بن معمر طبقة سادسة من شعراء الإسلام وجعله بعد ابن قيس وبعد نصيب قال أبو الفرج والأحوص لولا ما وضع به نفسه من دنيء الأخلاق والأفعال أشد تقدما منهم عند جماعة أهل الحجاز وأكثر الرواة وهو أسمح طبعا وأسهل كلاما وأصح معنى منهم ولشعره رونق وديباجة صافية وحلاوة وعذوبة ألفاظ ليست لواحد منهم وكان قليل المروءة والدين هجاء للناس مأبونا فيما يروى عنه أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني أبو عبيدة أن جماعة من أهل المدينة أخبروه أن السبب في جلد سليمان بن عبد الملك أو الوليد بن عبد الملك إياه ونفيه له أن شهودا شهدوا عليه عنده أنه قال إذا أخذت جريري لم أبال أي الثلاثة لقيت ناكحا أو منكوحا أو زانيا قالوا وانضاف إلى ذلك أن سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما فخرت يوما برسول الله ففاخرها بقصيدته التي يقول فيها ( ليس جهلٌ أَتَيْتِهِ ببَديعِ ... ) فزاده ذلك حنقا عليه وغيظا حتى نفاه مفاخرته لسكينة بنت الحسين أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة أن الأحوص كان يوما عند سكينة فأذن المؤذن فلما قال أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله فخرت سكينة بما سمعت فقال الأحوص ( فخَرتِ وانتمتْ فقلتُ ذَرِيني ... ليس جهلٌ أَتيتِه بِبَديعِ ) ( فأنا ابنُ الذي حَمَتْ لَحْمَه الدَّبْرُ ... قتيل اللحيان يومَ الرَّجِيعِ ) ( غَسَّلتْ خاليَ الملائكةُ الأبْرارُ ... مَيْتاً طُوبَى له مِن صَرِيعِ ) قال أبو زيد وقد لعمري فخر بفخر لو على غير سكينة فخر به وبأبي سكينة حمت أباه الدبر وغسلت خاله الملائكة أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد ابن يحيى عن أيوب بن عمر عن أبيه قال لما جاء ابن حزم عمله من قبل سليمان بن عبد الملك على المدينة والحج جاءه ابن أبي جهم بن حذيفة وحميد بن عبد الرحمن بن عوف وسراقة فدخلوا عليه فقالوا له إيه يا بن حزم ما الذي جاء بك قال استعملني والله أمير المؤمنين على المدينة على رغم أنف من رغم أنفه فقال له ابن أبي جهم يا بن حزم فإني أول من يرغم من ذلك أنفه قال فقال ابن حزم صادق والله يحب الصادقين فقال الأحوص ( سليمانُ إذْ وَلاَّكَ رَبُّك حُكْمنَا ... وسُلْطانَنا فاحْكُمْ إذا قلتَ واعْدِلِ ) ( يَؤُمُّ حَجيجَ المسلمين ابنُ فَرْتَنَى ... فهَبْ ذاكَ حَجاً ليس بالمُتَقَبَّلِ ) فقال ابن أبي عتيق للأحوص الحمد لله يا أحوص إذ لم أحج ذلك العام بنعمة ربي وشكره قال الحمد لله الذي صرف ذلك عنك يا بن أبي بكر الصديق فلم يضلل دينك ولم تعن نفسك وترما يغيظك ويغيظ المسلمين معك تعرضه للخبازين وجلده من قبل عامل المدينة أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله عن عمه موسى بن عبد العزيز قال وفد الأحوص على الوليد بن عبد الملك وامتدحه فأنزله منزلا وأمر بمطبخه أن يمال عليه ونزل على الوليد بن عبد الملك شعيب بن عبد الله بن عمرو بن العاصي فكان الأحوص يراود وصفاء للوليد خبازين عن أنفسهم ويريدهم أن يفعلوا به وكان شعيب قد غضب على مولى له ونحاه فلما خاف الأحوص أن يفتضح بمراودته الغلمان اندس لمولى شعيب ذلك فقال ادخل على أمير المؤمنين فاذكر له أن شعيبا أرادك عن نفسك ففعل المولى فالتفت الوليد إلى شعيب فقال ما يقول هذا فقال لكلامه غورا يا أمير المؤمنين فاشدد به يدك يصدقك فشدد عليه فقال أمرني بذلك الأحوص فقال قيم الخبازين أصلحك الله إن الأحوص يراود الخبازين عن أنفسهم فأرسل به الوليد إلى ابن حزم بالمدينة وأمره أن يجلده مائة ويصب على رأسه زيتا ويقيمه على البلس ففعل ذلك به فقال وهو على البلس أبياته التي يقول فيها ( ما مِنْ مُصِيبةِ نَكْبَةٍ أمْنَى بها ... إلاّ تُشَرِّفُني وتَرْفَعُ شاني ) أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أيوب بن عمر قال أخبرني عبد الله بن عمران بن أبي فروة قال رأيت الأحوص حين وقفه ابن حزم على البلس في سوق المدينة وإنه ليصيح ويقول ( ما مِنْ مُصِيبةِ نَكْبَةٍ أمْنَى بها ... إلاّ تُعَظِّمُني وترفَع شانِي ) ( وتَزولُ حين تزولُ عن مُتَخَمِّطٍ ... تُخْشَى بَوَادِرُه على الأقْرانِ ) ( إنِّي إذا خَفِيَ الِّلئامُ رأيتَني ... كالشمس لا تَخْفَى بكلِّ مكان ) هجاؤه لابن حزم قال وهجا الأحوص ابن حزم بشعر كثير منه ( أقولُ وأبصرت ابنَ حَزْمٍ بنِ فَرْتَنَى ... وُقُوفاً له بالمَأزِمَيْنِ القبائلُ ) ( تُرَى فَرْتَنَى كانتْ بما بلغَ ابنُها ... مُصَدِّقةً لو قال ذلك قائلُ ) أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير عن أبي عبيدة قال كل أمة يقال لها فرتنى وأخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال فرتنى الأمة بنت الأمة قال الزبير فقال ابن حزم حين سمع قول الأحوص فيه ابن فرتنى لرجل من قومه له علم أنحن من ولد فرتنى أو تعرفها فقال لا والله قال ولا أنا أعلم والله ذلك ولقد عضهني به ولو كانت ولدتني لم أجهل ذلك قال الزبير وحدثني عمي مصعب عن عبد الله بن محمد بن عمارة قال فرتنى أم لهم في الجاهلية من بلقين كانوا يسبون بها لا أدري ما أمرها قد طرحوها من كتاب النسب وهي أم خالد بنت خالد بن سنان بن وهب ابن لوذان الساعدية أم بني حزم أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون أن الأحوص قال لابن حزم ( لَعَمْري لقد أجرى ابنُ حَزْمِ بنِ فَرْتَنَى ... إلى غايةٍ فيها السِّمَامُ المُثَمَّلُ ) ( وقد قلتُ مهلاً آلَ حَزْمِ بنِ فَرْتَنَى ... ففي ظُلْمِنا صابٌ مُمِرٌّ وحَنْظَلُ ) وهي طويلة وقال أيضا ( أَهْوى أُميَّةَ إنْ شَطَّتْ وإنْ قَرُبتْ ... يوماً وأَهْدِي لها نُصْحٍي وأَشْعارِي ) ( ولو وردتُ عليها الفَيْضَ ما حَفَلتْ ... ولا شَفَتْ عَطَشي من مائه الجاري ) ( لا تَأَوِينَ لِحَزْمِيٍّ رأيتَ به ... ضُراً ولو طُرِح الحَزْمِيُّ في الناّرِ ) ( الناخِسين بمَرْوانٍ بِذي خُشب ... والمُقحِمِين على عثمانَ في الدَّارِ ) أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني جماعة من مشايخ الأنصار إن ابن حزم لما جلد الأحوص ووقفه على البلس يضربه جاءه بنو زريق فدفعوا عنه واحتملوه من أعلى البلس فقال في ذلك قال ابن الزبير أنشدنيه عبد الملك بن الماجشون عن يوسف بن أبي سلمة الماجشون ( إمّا تُصِبني المَنَايَا وهْيَ لاحقةٌ ... وكلُّ جَنْبٍ له قد حُمَّ مُضْطَجَعُ ) ( فقد جَزَيتُ بني حَزْمٍ بظُلْمِهمُ ... وقد جزيتُ زُرَيْقاً بالّذي صنعوا ) ( قومٌ أبىَ طَبَعَ الأخلاق أوّلهمْ ... فهُمْ على ذاك من أخلاقهم طُبِعوا ) ( وإنْ أُنَاسٌ وَنَوْا عن كلِّ مَكْرُمَةٍ ... وضاق باعُهُمُ عن وُسْعِهمْ وَسِعوا ) ( إنِّي رأيتُ غداةَ السُّوق مَحْضَرَهُمْ ... إذْ نحنُ ننظر ما يُتْلَى ونَسْتَمِعُ ) شعره بعد أن نفي إلى دهلك أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي قال حدثني غير واحد من أهل العلم أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم جلد الأحوص في الخنث وطاف به وغربه إلى دهلك في محمل عريانا فقال الأحوص وهو يطاف به ( ما مِنُ مُصيبةِ نَكْبةٍ أبْلَى بها ... ) 237 - الأبيات وزاد فيها ( إنِّي على ما قد تَرَوْن محسَّد ... أَنْمى على البَغضاءِ والشَّنآنِ ) ( أصبحتُ للأنصارِ فيما نابَهم ... خَلَفاً وللشُّعرَاء من حَسّانِ ) قال الزبير ومما ضرب فيه أيضا قوله ( شَرُّ الحِزَامِيِّينَ ذو السِّينّ منهمُ ... وخيرُ الحِزَامِيِّن يَعْدِلُه الكَلْبُ ) ( فإِنْ جئتَ شيخاً من حِزَامٍ وجدتَه ... من النَّوْكِ والتقصير ليس له قلبُ ) ( فلَوْ سَبَّني عَوْنٌ إذاً لَسَبَبْتُه ... بِشعْرِي أو بعضُ الأُلى جَدُّهُمْ كَعْبُ ) عون يعني عون بن محمد بن علي بن أبي طالب عليه رضوان الله وكعب يعني كعب بن لؤي ( أولئك أكفاءٌ لبيتي بيُوتُهُمْ ... ولا تستوي الأَعْلاثُ والأقْدُحُ القُضْب ) أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن ثابت الأنصاري عن محمد بن فضالة قال كان الأحوص بن محمد الأنصاري قد أوسع قومه هجاء فملاهم شرا فلم يبق له فيهم صديق إلا فتى من بين جحجبى فلما أراد الأحوص الخروج إلى يزيد بن عبد الملك نهض الفتى في جهازه وقام بحوائجه وشيعه فلما كان بسقاية سليمان وركب الأحوص محمله أقبل على الفتى فقال لا أخلف الله عليك بخير فقال مه غفر الله لك قال الأحوص لا والله أو أعلقها حربا يعني قباء وبني عمرو بن عوف هجوه بعض خصومه أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى قال قال غسان بن عبد الحميد أقبل الأحوص حتى وقف على معن بن حميد الأنصاري أحد بني عمرو ابن عوف بن جحجبى فقال ( رأيتُك مَزْهُوّاً كأنّ أباكُمُ ... صُهَيْبَةَ أَمْسَى خيرَ عَوْفٍ مُرَكَبا ) ( تُقِرُّبكم كُوثَى إذا ما نُسِبْتُمُ ... وتُنكركم عَمْرُ بن عَوْفِ بن جَحْجَبَى ) ( عليكَ بأدنى الخطْبِ إنْ أنت نِلْتَهُ ... وأَقْصِرْ فلا يَذْهَبْ بك التِّيهُ مَذْهَبَا ) فقام إليه بنوه ومواليه فقال دعوا الكلب خلوا عنه لا يمسه أحد منكم فانصرف حتى إذا كان عند أحجار المراء بقباء لقيه ابن أبي جرير أحد بني العجلان وكان شديدا ضابطا فقال له الأحوص ( إنّ بقومٍ سَوَّدُوكَ لَحاجةً ... إلى سّيِّد لو يَظْفَرون بسَيَّد ) فألقى ثيابه وأخذ بحلق الأحوص ومع الأحوص راويته وجاء الناس ليخلصوه فحلف لئن خلصه أحد من يديه ليأخذنه وليدعن الأحوص فخنقه حتى استرخى وتركه حتى أفاق ثم قال له كل مملوك لي حر لئن سمع أو سمعت هذا البيت من أحد من الناس لأضربنك ضربة بسيفي أريد بها نفسك ولو كنت تحت أستار الكعبة فأقبل الأحوص على راويته فقال إن هذا مجنون ولم يسمع هذا البيت غيرك فإياك أن يسمعه منك خلق أخبرني الحرمي والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني بعض أصحابنا أن الأحوص مر بعباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير ومحمد بن مصعب بن الزبير بخيمتي أم معبد وهما يريدان الحج مرجعه من عند يزيد بن عبد الملك وهو على نجيب له فاره ورحل فاخر وبزة مرتفعة فحدثهما أنه قدم على يزيد بن عبد الملك فأجازه وكساه وأخدمه فلم يرهما يهشان لذلك فجعل يقول خيمتي أم معبد عباد ومحمد كأنه يروض القوافي للشعر يريد قوله فقال له محمد بن مصعب إني أراك في تهيئة شعر وقواف وأراك تريد أن تهجونا وكل مملوك لي حر لئن هجوتنا بشيء إن لم أضربك بالسيف مجتهدا على نفسك فقال الأحوص جعلني الله فداك إني أخاف أن تسمع هذا في عدوا فيقول شعرا يهجوكما به فينحلنيه وأنا أبرئكما الساعة كل مملوك لي حر إن هجوتكما ببيت شعر أبدا أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب قال حدثنا الزبير ابن خبيب عن أبيه خبيب بن ثابت قال خرجنا مع محمد بن عباد بن عبد الله بن الزبير إلى العمرة فإنا لبقرب قديد إذ لحقنا الأحوص الشاعر على جمل برحل فقال الحمد لله الذي وفقكم لي ما أحب أنكم غيركم وما زلت أحرك في آثاركم مذ رفعتم لي فقد ازددت بكم غبطة فأقبل عليه محمد وكان صاحب جد يكره الباطل وأهله فقال لكنا والله ما اغتبطنا بك ولا نحب مسايرتك فتقدم عنا أو تأخر فقال والله ما رأيت كاليوم جوابا قال هو ذاك قال وكان محمد صاحب جد يكره الباطل وأهله فأشفقنا مما صنع ومعه عدة من آل الزبير فلم يقدر أحد منهم أن يرد عليه قال وتقدم الأحوص ولم يكن لي شأن غير أن أعتذر إليه فلما هبطنا من المشلل على خيمتي أم معبد سمعت الأحوص يهمهم بشيء فتفهمته فإذا هو يقول خيمتي أم معبد محمد كأنه يهيء القوافي فأمسكت راحلتي حتى جاءني محمد فقلت إني سمعت هذا يهيء لك القوافي فإما أذنت لنا أن نعتذر إليه ونرضيه وإما خليت بيننا وبينه فنضربه فإنا لا نصادفه في أخلى من هذا المكان قال كلا إن سعد بن مصعب قد أخذ عليه ألا يهجو زبيريا أبدا فإن فعل رجوت أن يخزيه الله دعه قال الزبير وأما خبره مع سعد بن مصعب فحدثني به عمي مصعب قال أخبرني يحيى بن الزبير بن عباد أو مصعب بن عثمان شك أيهما حدثه قال كانت أمة الملك بنت حمزة بن عبد الله بن الزبير تحت سعد بن مصعب ابن الزبير وكان فيهم مأتم فاتهمته بامرأة فغارت عليه وفضحته فقال الأحوص يمازحه ( وليس بسَعْدِ النّارِ مَنْ تزعُمونه ... ولكنّ سَعْدَ النارِ سعدُ بن مُصْعَبِ ) ( ألم تَرَ أنّ القومَ ليلَةَ نَوْحِهِمْ ... بَغَوْهُ فألفَوْهُ على شَرِّ مَرْكَبِ ) ( فما يَبتغي بالغَيِّ لا دَرَّ درُّه ... وفي بيتِه مثلُ الغَزَالِ المُرَبَّبِ ) قال وسعد النار رجل يقال له سعد حضنة وهو الذي جدد لزياد بن عبيد الله الحارثي الكتاب الذي في جدار المسجد وهو آيات من القرآن أحسب أن منها ( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) فلما فرغ منه قال لزياد أعطني أجري فقال له زياد انتظر فإذا رأيتنا نعمل بما كتبت فخذ أجرك قال فعمل سعد بن مصعب سفرة وقال للأحوص اذهب بنا إلى سد عبيد الله بن عمر نتغد عليه ونشرب من مائه ونستنقع فيه فذهب معه فلما صارا إلى الماء أمر غلمانه أن يربطوه وأراد ضربه وقال ما جزعت من هجائك إياي ولكن ما ذكرك زوجتي فقال له يا سعد إنك لتعلم أنك إن ضربتني لم أكفف عن الهجاء ولكن خير لك من ذلك أحلف لك بما يرضيك ألا أهجوك ولا أحدا من آل الزبير أبدا فأحلفه وتركه أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني مصعب عمي عن مصعب بن عثمان قال قال الأحوص لمجمع بن يزيد بن جارية ( وجُمِّعْتَ من أشياءَ شَتَّى خبيثةٍ ... فسُمِّيتَ لمّا جئتَ منها مُجَمِّعَا ) فقال له مجمع إني لا أحسن الشعر ثم أخذ كرنافة فغمسها في ماء فغاصت ثم رفع يده عنها فطفت فقال هكذا والله كانت تصنع خالاتك السواحر أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال كانت امرأة يقال لها أم ليث امرأة صدق فكانت قد فتحت بينها وببن جارة لها من الأنصار خوخة وكانت الأنصارية من أجمل أنصارية خلقت فكلم الأحوص أم ليث أن تدخله في بيتها يكلم الأنصارية من الخوخة التي فتحت بينها وبينها فأبت فقال أما لأكافئنك ثم قال ( هيهاتَ منكَ بنو عَمْرِ ومَسْكَنُهمْ ... إذا تَشَتَّيْتَ قِنَّسرِينَ أو حَلَبا ) ( قامتْ تراءى وقد جَدّ الرحيلُ بنا ... بين السَّقِيفةِ والبابِ الذي نُقبَا ) ( إني لمَانٍحُها ودِّي ومُتَّخِذٌ ... بأُمّ لَيْثٍ إلى معروفِها سَبَبَا ) فلما بلغت الأبيات زوج المرأة سد الخوخة فاعتذرت إليه أم ليث فأبى أن يقبل ويصدقها فكانت أم ليث تدعو على الأحوص أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني أبي قال ركب الأحوص إلى الوليد بن عبد الملك قبل ضرب ابن حزم إياه فلقيه رجل من بني مخزوم يقال له محمد بن عتبة فوعده أن يعينه فلما دخل على الوليد قال ويحك ما هذا الذي رميت به يا أحوص قال والله يا أمير المؤمنين لو كان الذي رماني به ابن حزم من أمر الدين لاجتنبته فكيف وهو من أكبر معاصي الله فقال ابن عتبة يا أمير المؤمنين إن من فضل ابن حزم وعدله كذا وكذا وأثنى عليه فقال الأحوص هذا والله كما قال الشاعر ( وكنتَ كذئب السَّوْءِ لما رأى دَماً ... بصاحبه يوماً أحالَ على الدّمِ ) رفض عمر بن عبد العزيز أن يأذن له بالقدوم فأما خبره في بقية أيام سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز فأخبرني به أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال حدثنا عون بن محمد بن سلام قال حدثني أبي عمن حدثه عن الزهري وأخبرني به الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب عن مصعب بن عثمان قال كان الأحوص ينسب بنساء ذوات أخطار من أهل المدينة ويتغنى في شعره معبد ومالك ويشيع ذلك في الناس فنهي فلم ينته فشكي إلى عامل سليمان بن عبد الملك على المدينة وسألوه الكتاب فيه إليه ففعل ذلك وكتب سليمان إلى عامله يأمره أن يضربه مائة سوط ويقيمه على البلس للناس ثم يصيره إلى دهلك ففعل ذلك به فثوى هناك سلطان سليمان بن عبد الملك ثم ولي عمر بن عبد العزيز فكتب إليه يستأذنه في القدوم ويمدحه فأبى أن يأذن له وكتب فيما كتب إليه به ( أيا راكباً إمّا عَرَضْتَ فَبلِّغَنْ ... هُدِيتَ أميرَ المؤمنين رسائلي ) ( وقُلْ لأبي حَفِصٍ إذا ما لَقيتَهُ ... لقد كنت نَفّاعاً قليلَ الغوائل ) ( وكيف ترى للعيش طِيباً ولذّةً ... وخالُك أمسَى مُوثَقاً في الحبائل ) هذه الأبيات من رواية الزبير وحده ولم يذكرها ابن سلام قال فأتى رجال من الأنصار عمر بن عبد العزيز فكلموه فيه وسألوه أن يقدمه وقالوا له قد عرفت نسبه وموضعه وقديمه وقد أخرج إلى أرض الشرك فنطلب إليك أن ترده إلى حرم رسول الله ودار قومه فقال لهم عمر فمن الذي يقول ( فما هُوَ إلاّ أن أرَاها فُجَاءةً ... فأُبْهَت حتَّى ما أكادُ أُجِيبُ ) قالوا الأحوص قال فمن الذي يقول ( أَدُورُ ولولا أنْ أرى أُمَّ جَعْفَرٍ ... بأبياتكم ما دُرْتُ حيث أدورُ ) ( وما كنتُ زَوَّاراً ولكِنِّ ذا الهوى ... إذا لم يزرْ لا بُدَّ أنْ سَيَزُورُ ) قالوا الأحوص قال فمن الذي يقول ( كأنّ لُبْنَى صَبِير غاديةٍ ... أو دُمْيةٌ زُيِّنَتْ بها البيعُ ) ( اللهُ بيني وبين قَيِّمها ... يَفْرُّ منِّي بها وأَتِّبعُ ) قالوا الأحوص قال بل الله بين قيمها وبينه قال فمن الذي يقول ( ستَبْقى لها في مُضْمَرِ القلبِ والحَشَا ... سريرةُ حُبٍّ يومَ تُبْلَى السَّرَائر ) قالوا الأحوص قال إن الفاسق عنها يومئذ لمشغول والله لا أرده ما كان لي سلطان قال فمكث هناك بقية ولاية عمر وصدرا من ولاية يزيد بن عبد الملك حبابة تنشد شعره ليزيد بن عبد الملك قال فبينا يزيد وجاريته حبابة ذات ليلة على سطح تغنيه بشعر الأحوص قال لها من يقول هذا الشعر قالت لا وعينيك ما أدري قال وقد كان ذهب من الليل شطره فقال ابعثوا إلى ابن شهاب الزهري فعسى أن يكون عنده علم من ذلك فأتي الزهري فقرع عليه بابه فخرج مروعا إلى يزيد فلما صعد إليه قال له يزيد لا ترع لم ندعك إلا لخير إجلس من يقول هذا الشعر قال الأحوص بن محمد يا أمير المؤمنين قال ما فعل قال قد طال حبسه بدهلك قال قد عجبت لعمر كيف أغفله ثم أمر بتخلية سبيله ووهب له أربعمائة دينار فأقبل الزهري من ليلته إلى قومه من الأنصار فبشرهم بذلك أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن إسماعيل ومحمد بن زيد الأنصاري قالا لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة أدنى زيد بن أسلم وجفا الأحوص فقال له الأحوص ( ألستَ أبا حفْصٍ هُدِيتَ مُخَبِّريّ ... أفِي الحَقِّ أنْ أُقْصَى ويُدْنَى ابنُ أَسْلَمَا ) فقال عمر ذلك هو الحق قال الزبير وأنشدنيها عبد الملك بن الماجشون عن يوسف بن الماجشون ( ألاَ صِلَةُ الأرحامِ أدنَى إلى التُّقَى ... وأظهرُ في أكقائه لو تَكَرَّمَا ) ( فما تركَ الصُّنْعُ الذي قد صنعتَه ... ولا الغيظُ منِّي ليس جِلْداً وأَعْظُما ) ( وكنّا ذَوِي قُرْبَى لديك فأَصبحتْ ... قرابتُنا ثَدْياً أَجَدَّ مُصَرَّمَا ) ( وكنتَ وما أمّلْتُ منك كَبارِقٍ ... لَوى قَطْرَه من بعَد ما كان غَيَّما ) ( وقد كنتَ أرْجَى الناسِ عندي مَودّةً ... لياليَ كان الظنُّ غَيْباً مُرَجَّما ) ( أَعُدُّك حِرْزاً إن جَنيتُ ظُلامة ... ومالاً ثَرِيّاً حين أحمِلُ مَغْرَمَا ) ( تَدَارَكْ بعُتْبَى عاتباً ذا قَرابَةٍ ... طَوَى الغيظَ لم يَفْتَحْ بسُخْط له فَما ) شعره الذي غنته حبابة أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال كتب إلي إسحاق بن إبراهيم أن أبا عبيدة حدثه أن الأحوص لم يزل مقيما بدهلك حتى مات عمر بن عبد العزيز فدس إلى حبابة فغنت يزيد بأبيات له قال أبو عبيدة أظنها قوله صوت ( أيُّهذا المُخَبِّري عن يزيدٍ ... بصَلاَحٍ فِدَاكَ أهلي ومالي ) ( ما أُبالي إذا يزيدُ بقَي لي ... مَنْ تَولَّتْ به صُروفُ الليالي ) لم يجنسه كذا جاء في الخبر أنها غنته به ولم يذكر طريقته قال أبو عبيدة أراه عرض بعمر بن عبد العزيز ولم يقدر أن يصرح مع بني مروان فقال من يقول هذا قالت الأحوص وهونت أمره وكلمته في أمانه فأمنه فلما أصبح حضر فاستأذنت له ثم أعطاه مائة ألف درهم أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن صالح ابن حسان أن الأحوص دس إلى حبابة فغنت يزيد قوله ( كريمُ قُرَيْشٍ حين يُنْسَبُ والذي ... أقرَّتْ له بالمُلْكِ كُهْلاً وأَمْردَا ) ( وليس وإِن أعطاك في اليوم مانِعاً ... إذا عُدْتَ من أضعاف أضعافِه غَدَا ) ( أهان تِلادَ المالِ في الحمد إِنَّه ... إمامُ هُدىً يجرِي على ما تَعَوَّدا ) ( تَشرَّف مجداً من أبيه وجَدّه ... وقد وَرِثا بُنْيَان مجدٍ تَشَيّدا ) فقال يزيد ويلك يا حبابة من هذا من قريش قالت ومن يكون أنت هو يا أمير المؤمنين فقال ومن قال هذا الشعر قالت الأحوص يمدح به أمير المؤمنين فأمر به أمير المؤمنين أن يقدم عليه من دهلك وأمر له بمال وكسوة إعجاب يزيد بن عبد الملك بشعره أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني بعض أهل العلم قال دخل الأحوص على يزيد بن عبد الملك وهو خليفة فقال له يزيد والله لو لم تمت إلينا بحرمة ولا توسلت بدالة ولا جددت لنا مدحا غير أنك مقتصر على البيتين اللذين قلتهما فينا لكنت مستوجبا لجزيل الصلة مني حيث تقول ( وإِنِّي لأَستحيِيكُمُ أنْ يقودَني ... إلى غيركم من سائر الناس مُطْمَعُ ) ( وأنْ أَجْتدِي للنفع غيرَك منهمُ ... وأنت إمامُ للرعيّة مَقْنَعُ ) قال وهذه قصيدة مدح بها عمر بن عبد العزيز إكرام يزيد له أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري قال حدثني عمر بن موسى بن عبد العزيز قال لما ولي يزيد بن عبد الملك بعث إلى الأحوص فأقدم عليه فأكرمه وأجازه بثلاثين ألف درهم فلا قدم قباء صب المال على نطع ودعا جماعة من قومه وقال إني قد عملت لكم طعاما فلما دخلوا عليه كشف لهم عن ذلك المال وقال ( أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون ) قال الزبير وقال في يزيد بن عبد الملك يمدحه حينئذ بهذه القصيدة ( صَرَمتْ حَبْلَك الغداةَ نَوَارُ ... إنّ صَرْماً لكلِّ حبلٍ قُصَارُ ) وهي طويلة يقول فيها ( مَنْ يَكُنْ سائلاً فإِنّ يزيداً ... مَلِكٌ مِنْ عطَائه الإِكثارُ ) ( عمَّ معروفُه فعَزَّ به الدِّينُ ... وذَلَّتْ لمُلْكِه الكُفَّارُ ) ( وأقامَ الصِّراطَ فابتهَج الحَقُّ ... منيراً كما أنار النَّهارُ ) ومن هذه القصيدة بيتان يغني فيهما وهما صوت ( بَشَرٌ لو يَدِبُّ ذَرٌّ عليه ... كان فيه من مَشْيِه آثارُ ) ( إنّ أرْوَى إذا تذكَّر أرْوَى ... قَلْبُه كاد قلبُه يُسْتَطارُ ) غنت فيه عريب لحنا من الثقيل الأول بالبنصر وذكر ابن المكي أنه لجده يحيى أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي مصعب عن مصعب بن عثمان قال حج يزيد بن عبد الملك فتزوج بنت عون بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأصدقها مالا كثيرا فكتب الوليد بن عبد الملك إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أنه بلغ أمير المؤمنين أن يزيد بن عبد الملك قد تزوج بنت عون بن محمد بن علي بن أبي طالب وأصدقها مالا كثيرا ولا أراه فعل ذلك إلا وهو يراها خيرا منه قبح الله رأيه فإذا جاءك كتابي هذا فأدع عونا فاقبض المال منه فإن لم يدفعه إليك فأضربه بالسياط حتى تستوفيه منه ثم افسخ نكاحه فأرسل أبو بكر بن محمد بن عمرو إلى عون بن محمد وطالبه بالمال فقال له ليس عندي شيء وقد فرقته فقال له أبو بكر إن أمير المؤمنين أمرني إن لم تدفعه إلي كله أن أضربك بالسياط ثم لا أرفعها عنك حتى أستوفيه منك فصاح به يزيد تعال إلي فجاءه فقال له فيما بينه وبينه كأنك خشيت أن أسلمك إليه إدفع إليه المال ولا تعرض له نفسك فإنه إن دفعه إلي رددته عليك وإن لم يرده علي أخلفته عليك ففعل فلما ولي يزيد بن عبد الملك كتب في أبي بكر بن محمد بن حزم وفي الأحوص فحملا إليه لما بين أبي بكر والأحوص من العداوة وكان أبو بكر قد ضرب الأحوص وغربه إلى دهلك وأبو بكر مع عمر بن عبد العزيز وعمر إذ ذاك على المدينة فلما صارا بباب يزيد أذن للأحوص فرفع أبو بكر يديه يدعو فلم يخفضهما حتى خرج الغلمان بالأحوص ملببا مكسور الأنف وإذا هو لما دخل على يزيد قال له أصلحك الله هذا ابن حزم الذي سفه رأيك ورد نكاحك فقال يزيد كذبت عليك لعنة الله وعلى من يقول ذلك اكسروا أنفه وأمر به فأخرج ملببا خبره مع عبد الحكم بن عمرو الجمحي أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن عمرو الجمحي قال كان عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي قد اتخذ بيتا فجعل فيه شطرنجات ونردات وقرقات ودفاتر فيها من كل علم وجعل في الجدار أوتادا فمن جاء علق ثيابه على وتد منها ثم جر دفترا فقرأه أو بعض ما يلعب به فلعب به مع بعضهم قال فإن عبد الحكم يوما لفي المسجد الحرام إذا فتى داخل من باب الحناطين باب بني جمح عليه ثوبان معصفران مدلوكان وعلى أذنه ضعث ريحان وعليه ردع الخلوق فأقبل يشق الناس حتى جلس إلى عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله فجعل من رآه يقول ماذا صب عليه من هذا ألم يجد أحدا يجلس إليه غيره ويقول بعضهم فأي شيء يقوله له عبد الحكم وهو أكرم من أن يجبه من يقعد إليه فتحدث إليه ساعة ثم أهوى فشبك يده في يد عبد الحكم وقام يشق المسجد حتى خرج من باب الحناطين قال عبد الحكم فقلت في نفسي ماذا سلط الله علي منك رآني نصف الناس في المسجد ونصفهم في الحناطين حتى دخل مع عبد الحكم بيته فعلق على وتد وحل أزراره واجتز الشطرنج وقال من يلعب فبينا هو كذلك إذ دخل الأبجر المغني فقال له أي زنديق ما جاء بك إلى هاهنا وجعل يشتمه ويمازحه فقال له عبد الحكم أتشتم رجلا في منزلي فقال أتعرفه هذا الأحوص فاعتنقه عبد الحكم وحياه وقال له أما إذا كنت الأحوص فقد هان علي ما فعلت عبد الملك بن مروان يتمثل بشعره أخبرني الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني حميد بن عبد العزيز عن أبيه قال لما قدم عبد الملك بن مروان حاجا سنة خمس وسبعين وذلك بعدما اجتمع الناس عليه بعامين جلس على المنبر فشتم أهل المدينة ووبخهم ثم قال إني والله يا أهل المدينة قد بلوتكم فوجدتكم تنفسون القليل وتحسدون على الكثير وما وجدت لكم مثلا إلا ما قال مخنثكم وأخوكم الأحوص ( وكَمْ نزلتْ بي من خُطُوبٍ مُهِمّةٍ ... خَذَلْتُمْ عليها ثم لم أتَخَشَّع ) ( فأَدْبَر عنِّي شَرّها لم أُبَلْ بها ... ولم أَدْعُكُمْ في كَرْبِها المُتَطلِّعِ ) فقام إليه نوفل بن مساحق فقال يا أمير المؤمنين أقررنا بالذنب وطلبنا المعذرة فعد بحلمك فذلك ما يشبهنا منك ويشبهك منا فقد قال من ذكرت من بعد بيتيه الأولين ( وإنِّي لَمُسْتأنٍ ومُنْتَظِرٌ بكم ... وإنْ لم تقولوا في المُلمَّاتِ دَعْ دعِ ) ( أُؤمِّلُ منكم أنْ تَرَوْا غيرَ رأيكم ... وشيكاً وكيما تَنْزِعُوا خيرَ مَنْزَعِ ) أخبرني الحرمي والطوسي قالا حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن الضحاك عن المنذر بن عبد الله الحزامي أن عراك بن مالك كان من أشد أصحاب عمر بن عبد العزيز على بني مروان في انتزاع ما حازوا من الفيء والمظالم من أيديهم فلما ولي يزيد بن عبد الملك ولي عبد الواحد بن عبد الله النصري المدينة فقرب عراك بن مالك وقال صاحب الرجل الصالح وكان لا يقطع أمرا دونه وكان يجلس معه على سريره فبينا هو معه إذ أتاه كتاب يزيد بن عبد الملك أن ابعث مع عراك بن مالك حرسيا حتى ينزله أرض دهلك وخذ من عراك حمولته فقال لحرسي بين يديه وعراك معه على السرير خذ بيد عراك فابتع من ماله راحلة ثم توجه به نحو دهلك حتى تقر فيها ففعل ذلك الحرسي قال وأقدم الأحوص فمدحه الأحوص فأكرمه وأعطاه قال فأهل دهلك يأثرون الشعر عن الأحوص والفقه عن عراك بن مالك أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب عن محمد بن سلام عن أبي الغراف عمن يثق به قال بعث يزيد بن عبد الملك حين قتل يزيد بن المهلب في الشعراء فأمر بهجاء يزيد بن المهلب منهم الفرزدق وكثير والأحوص فقال الفرزدق لقد امتدحت بني المهلب بمدائح ما امتدحت بمثلها أحدا وإنه لقبيح بمثلي أن يكذب نفسه على كبر السن فليعفني أمير المؤمنين قال فأعفاه وقال كثير إني أكره أن أعرض نفسي لشعراء أهل العراق إن هجوت بني المهلب وأما الأحوص فإنه هجاهم ثم بعث به يزيد بن عبد الملك إلى الجراح بن عبد الله الحكمي وهو بأذربيجان وقد كان بلغ الجراح هجاء الأحوص بني المهلب فبعث إليه بزق من خمر فأدخل منزل الأحوص ثم بعث إليه خيلا فدخلت منزله فصبوا الخمر على رأسه ثم أخرجوه على رؤوس الناس فأتوا به الجراح فأمر بحلق رأسه ولحيته وضربه الحد بين أوجه الرجال وهو يقول ليس هكذا تضرب الحدود فجعل الجراح يقول أجل ولكن لما تعلم ثم كتب إلى يزيد بن عبد الملك يعتذر فأغضى له عليها رأي أبي الفرج فيه قال أبو الفرج الأصبهاني وليس ما جرى من ذكر الأحوص إرادة للغض منه في شعره ولكنا ذكرنا من كل ما يؤثر عنه ما تعرف به حاله من تقدم وتأخر وفضيلة ونقص فأما تفضيله وتقدمه في الشعر فمتعالم مشهور وشعره ينبئ عن نفسه ويدل على فضله فيه وتقدمه وحسن رونقه وتهدبه وصفائه أخبرني الحرمي بن أبي العلاء والطوسي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز قال حدثني عبد الله بن مسلم بن جندب الهذلي قال حدثنا شيخ لنا من هذيل كان خالا للفرزدق من بعض أطرافه قال سمعت بالفرزدق وجرير على باب الحجاج فقلت لو تعرضت ابن أختنا فامتطيت إليه بعيرا حتى وجدتهما قبل أن يخلصا ولكل واحد منهما شيعة فكنت في شيعة الفرزدق فقام الآذان يوما فقال أين جرير فقال جرير هذا أبو فراس فأظهرت شيعته لومه وأسرته فقال الآذن أين الفرزدق فقام فدخل فقالوا لجرير أتناوئه وتهاجيه وتشاخصه ثم تبدى عليه فتأبى وتبديه قضيت له على نفسك فقال لهم إنه نزر القول ولم ينشب أن ينفد ما عنده وما قال فيه فيفاخره ويرفع نفسه عليه فما جئت به بعد حمدت عليه واستحسن فقال قائلهم لقد نظرت نظرا بعيدا قال فما نشبوا أن خرج الآذن فصاح أين جرير فقام جرير فدخل قال فدخلت فإذا ما مدحه به الفرزدق قد نفد وإذا هو يقول ( أينَ الذين بِهِمْ تُسَامِي دَارماً ... أَمْ مَنْ إلى سَلفي طُهَيَّةَ تجعلُ ) قال وعمامته على رأسه مثل المنسف فصحت من روائه ( هذا ابنُ يُوسُفَ فاعْلَمُوا وتَفَهَّمُوا ... بَرِحَ الخَفاءُ فليس حين تَنَاجِي ) ( مَنْ سَدّ مُطَّلَع النِّفاقِ عليكُمُ ... أَمْ مَنْ يَصُولُ كصَوْلة الحَجَّاجِ ) ( أم مَنْ يَغارُ على النِّساء حفيظةً ... إذ لا يَثِقْنَ بغَيْرَةِ الأزواج ) ( قُلْ لِلْجَبانِ إذا تأخَّر سَرْجُهُ ... هل أنتَ من شَرَكِ المَنِيَّةِ ناجي ) قال وما تشبيبها وطرب فقال جرير ( لَجَّ الهَوَى بفُؤادِكَ المِلْجَاجِ ... فاحْبِسْ بتُوضِحَ باكِرَ الأحْدَاجِ ) وأمرها أو قال أمضاها فقال أعطوه كذا وكذا فاستقللت ذلك فقال الهذلي وكان جرير عربيا قرويا فقال للحجاج قد أمر لي الأمير بما لم يفهم عنه فلو دعا كاتبا وكتب بما أمر به الأمير فدعا كاتبا واحتاط فيه بأكثر من ضعفه وأعطى الفرزدق أيضا قال الهذلي فجئت الفرزدق فأمر لي بستين دينارا وعبد ودخلت على رواته فوجدتهم يعدلون ما انحرف من شعره فأخذت من شعره ما أردت ثم قلت له يا أبا فراس من أشعر الناس قال أشعر الناس بعدي ابن المراغة قلت فمن أنسب الناس قال الذي يقول ( لي ليلتانِ فليلةٌ مَعْسُولةٌ ... أَلْقَى الحبيبَ بها بِنَجْمِ الأَسْعُدِ ) ( ومُرِيحةٌ هَمِّي عليَّ كأنَّني ... حتَّى الصَّباحِ مُعَلَّقٌ بالفَرْقَدِ ) قلت ذاك الأحوص قال ذاك هو قال الهذلي ثم أتيت جريرا فجعلت أستقل عنده ما أعطاني صاحبي أستخرج به منه فقال كم أعطاك ابن أختك فأخبرته فقال ولك مثله فأعطاني ستين دينارا وعبدا قال وجئت رواته وهم يقومون ما انحرف من شعره وما فيه من السناد فأخذت منه ما أردت ثم قلت يا أبا حزرة من أنسب الناس قال الذي يقول ( يا ليتَ شِعْري عَمَّنْ كَلِفْتُ به ... من خَثْعمٍ إذ نَأَيْتُ ما صَنَعُوا ) ( قومٌ يَحُلُّون بالسَّديرِ وبالْحِيرَةِ ... منهمُ مَرْأًى ومُسْتَمَعُ ) ( أنْ شَطَّتِ الدارُ عن دِيارِهِمُ ... أأمسكوا بالوِصال أم قَطَعُوا ) ( بل هُمْ على خَيْرِ ما عَهِدْتُ وما ... ذلِكَ إلاّ التأميلُ والطَّمَعُ ) قلت ومن هو قال الأحوص فاجتمعا على أن الأحوص أنسب الناس نسبة ما في هذا الخبر من الغناء منها الأبيات التي يقول فيها الأحوص ( لي ليلتان فليلةٌ معسولةٌ ... ) وأول ما يغنى به فيها صوت ( يا للرَّجالِ لِوَجْدِكَ المُتَجَدِّدِ ... ولِمَا تُؤَمِّلُ من عَقِيلةَ في غَدِ ) ( ترجو مَوَاعِدَ بَعْثُ آدمَ دونها ... كانتْ خَبَالاً للفؤاد المُقْصَدِ ) ( هل تذكُرين عَقِيلَ أو أنْساكِهِ ... بَعْدِي تَقَلُّبُ ذا الزَّمانِ المُفْسِدِ ) ( يومي ويَوْمَكِ بالعَقِيق إذِ الهَوَى ... منَّا جَمِيعُ الشَّمْلِ لم يَتَبَدَّدِ ) ( لي ليلتانِ فليلةٌ معسولةٌ ... ألقَى الحبيبَ بها بنَجْمِ الأَسْعُدِ ) ( ومُرِيحةٌ هَمِّي عليّ كأنَّني ... حتَّى الصباحِ مُعّلَّقٌ بالفَرْقَدِ ) عروضه من الكامل يقال يا للرجال ويا للرجال بالكسر والفتح وفي الحديث أن عمر رضي الله عنه صاح لما طعن يا لله يا للمسلمين وقوله في غد يريد فيما بعد وفي باقي الدهر قال الله سبحانه ( سيعلمون غدا من الكذاب الأشر ) والخبل والخبال النقصان من الشيء والمخبل أصله مأخوذ من النقص لأنه ناقص العقل والمعسولة الجلوة المشتهاة الشعر للأحوص والغناء في البيت الأول والثاني لمالك خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي وحبش وفي الثالث والرابع لسليمان أخي بابويه ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيهما وفي الخامس والسادس لحن لابن سريج ذكره يونس ولم يجنسه وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أن لمعبد في الأبيات كلها لحنا وأنه من صحيح غنائه ولم يجنسه أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية قال بلغني أن ابنا للأحوص بن محمد الشاعر دخل على امرأة شريفة وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني إبراهيم بن زيد عن عنبسة بن سعيد بن العاصي قال أخبرني أشعب بن جبير قال امرأة تستفسر ابنه عن شعر له حضرت امرأة شريفة ودخل عليها ابن الأحوص بن محمد الشاعر فقالت له أتروي قول أبيك ( لي ليلتانِ فليلةٌ معسولةٌ ... ألقَى الحبيبَ بها بنجم الأسْعُدِ ) ( ومُرِيحةٌ هَمِّي عليّ كأنَّني ... حتَّى الصباحِ معلَّق بالفَرْقَدِ ) قال نعم قالت أتدري أي الليلتين التي يبيت فيها معلقا بالفرقد قال لا والله قالت هي ليلة أمك التي يبيت معها فيها قال إبراهيم في خبره فقلت لأشعب يا أبا العلاء فأي ليلتيه المعسولة فقال ( سَتُبْدِي لك الأيّامُ ما كنتَ جاهلاً ... ويأتِيكَ بالأخبار مَنْ لم تُزَوِّدِ ) هي ليلة الإسراف ولا تسأل عما بعدها أخبرني عبد العزيز ابن بنت الماجشون قال أنشد ابن جندب قول الأحوص ( لي ليلتانِ فليلةٌ معسولةٌ ... ألقَى الحبيبَ بها بنجم الأَسْعُدِ ) ( ومُرِيحةٌ هَمِّي عليّ كأنِّني ... حتّى الصباحِ معلَّق بالفَرْقَدِ ) فقال أما إن الله يعلم أن الليلة المريحة همي لألذ الليلتين عندي قال الحرمي ابن أبي العلاء وذلك لكلفه بالغزل والشوق والحنين وتمني اللقاء من هي عقيلة التي شغف بها الأحوص وللأحوص مع عقيلة هذه أخبار قد ذكرت في مواضع أخر وعقيلة امرأة من ولد عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه وقد ذكر الزبير عن ابن بنت الماجشون عن خاله أن عقيلة هذه هي سكينة بنت الحسين عليهما السلام كنى عنها بعقيلة أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي أن إنسانا أنشد عند إبراهيم بن هشام وهو والي المدينة قول الأحوص ( إذْ أنتِ فينا لِمَنْ يَنْهَاكِ عاصيةٌ ... وإِذْ أجُرُّ إليكم سادراً رسَني ) فوثب أبو عبيدة بن عمار بن ياسر قائما ثم أرخى رداءه ومضى يمشي على تلك الحال ويجره حتى بلغ العرض ثم رجع فقال له إبراهيم بن هشام حين جلس ما شأنك فقال أيها الأمير إني سمعت هذا البيت مرة فأعجبني فحلفت لا أسمعه إلا جررت رسني نسبة هذا البيت وما غني فيه من الشعر صوت ( سَقْياً لِرَبْعكِ من رَبْع بذِي سَلَمٍ ... ولِلزَّمانِ به إذ ذاكَ من زَمَنِ ) ( إذْ أنتِ فينا لمن يَنْهاكِ عاصيةٌ ... وإِذا أجُرُّ إليكم سادِراً رَسَنِي ) عروضه من - البسيط - غنى ابن سريج في هذين البيتين لحنا من الثقيل الأول بالوسطى عن عمرو وذكر إسحاق فيه لحنا من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى ولم ينسبه إلى أحد وذكر حبش أنه للغريض حماد الراوية فضله على الشعراء في النسيب أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام عن سالم بن أبي السحماء وكان صاحب حماد الراوية أن حمادا كان يقدم الأحوص في النسيب أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عمر بن أبي سليمان عن يوسف ابن أبي سليمان بن عنيزة قال هجا الأحوص رجلا من الأنصار من بني حرام يقال له ابن بشير وكان كثير المال فغضب من ذلك فخرج حتى قدم على الفرزدق بالبصرة وأهدى إليه وألطفه فقبل منه ثم جلسا يتحدثان فقال الفرزدق ممن أنت قال من الأنصار قال ما أقدمك قال جئت مستجيرا بالله عز و جل ثم وبك من رجل هجاني قال قد أجارك الله منه وكفاك مؤنته فأين أنت عن الأحوص قال هو الذي هجاني فأطرق ساعة ثم قال أليس هو الذي يقول ( ألاَ قِفْ بِرَسْم الدَّارِ فاسْتَنْطِقِ الرّسْمَا ... فقَدْ هاج أحزاني وذَكَّرَني نُعْمَا ) قال بلى قال فلا والله لا أهجو رجلا هذا شعره فخرج ابن بشير فاشترى أفضل من الشراء الأول من الهدايا فقدم بها على جرير فأخذها وقال له ما أقدمك قال جشت مستجيرا بالله بولك من رجل هجاني فقال قد أجارك الله عز و جل منه وكفاك أين أنت عن ابن عمك الأحوص بن محمد قال هو الذي هجاني قال فأطرق ساعة ثم قال أليس هو الذي يقول ( تَمَشَّى بشَتْمِي في أَكَارِيسِ مالكٍ ... تُشِيدُ به كالكَلْبِ إذ يَنْبَحُ النَّجْمَا ) ( فما أنا بالمخْسُوسِ في جِذْمِ مالكٍ ... ولا بالمُسَمَّى ثم يَلْتَزِمُ الإِسْمَا ) ( ولكنّ بيتِي إنْ سألتَ وجدتَه ... تَوَسَّطَ منها العِزَّ والحَسَبَ الضَّخْمَا ) قال بلى والله قال فلا والله لا أهجو شاعرا هذا شعره قال فاشترى أفضل من تلك الهدايا وقدم على الأحوص فأهداها إليه وصالحه نسبة ما في هذا الخبر من الغناء صوت ( ألاَ قِفْ بِرَسْمِ الدَّارِ فاسْتَنْطِقِ الرّسْمَا ... فقد هاجَ أحزاني وذكَّرني نُعْمَا ) ( فبِتُّ كأنِّي شاربٌ من مُدَامةٍ ... إذا أذهبتْ هَمّاً أتاحتْ له هَمَّا ) غناه إبراهيم الموصلي خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وذكر عبد الله ابن العباس الربيعي أنه له أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز قال قال لي أبو السائب المخزومي أنشدني للأحوص فأنشدته قوله ( قالتْ وقلتُ تَحَرَّجِي وصِلي ... حَبْلَ امْرِئٍ بوصالكم صَبِّ ) ( وَاصِلْ إذاً بَعْلِي فقُلْتُ لها ... الغَدْرُ شيءٌ ليس من ضَرْبي ) صوت ( ثِنْتَانِ لا أدنو لِوَصْلِهما ... عِرْسُ الخليل وجارةُ الجَنْبِ ) ( أمّا الخليلُ فلستُ فاجعَه ... والجارُ أوصاني به رَبِّي ) ( عُوجُوا كذا تَذْكُرْ لغانِيةٍ ... بعضَ الحديثِ مَطِيَّكم صَحْبي ) ( ونَقُلْ لها فِيمَ الصُّدودُ ولَمْ ... نُذْنِبْ بَلَ انتِ بَدَأْتِ بالذَّنْبِ ) ( إنْ تُقْبِلي نُقْبِلْ ونُنْزِلكم ... مِنّا بدار السَّهْلِ والرُّحبِ ) ( أو تُدْبِرِي تكدُرْ مَعِيشَتُنا ... وتُصَدِّعِي مُتَلائمَ الشَّعْبِ ) غنى في ثنتان لا أدنو والذي بعده ابن جامع ثقيلا أول بالوسطى وغنى في عوجوا كذا نذكر لغانية والأبيات التي بعده ابن محرز لحنا من القدر الأوسط من الثقيل الأول مطلقا في مجرى البنصر قال فأقبل علي أبو السائب فقال يابن أخي هذا والله المحب عينا لا الذي يقول ( وكنتُ إذا خليلٌ رامَ صُرْمِي ... وجدتُ ورَايَ مُنْفَسَحاً عَرِيضاً ) إذهب فلا صحبك الله ولا وسع عليك يعني قائل هذا البيت المهدي يسأل عن أنسب بيت قالته العرب أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثنا خالد بن وضاح قال حدثني عبد الأعلى بن عبد الله بن محمد بن صفوان الجمحي قال حملت دينا بعسكر المهدي فركب المهدي بين أبي عبيد الله وعمر بن بزيع وأنا وراءه في موكبه على برذون قطوف فقال ما أنسب بيت قالته العرب فقال له أبو عبيد الله قول أمرئ القيس ( وما ذَرَفَتْ عَيْنَاكِ إلا لِتَضْرِبي ... بسَهْمَيْكِ في أعشارِ قَلبٍ مُقَتَّلِ ) فقال هذا أعرابي قح فقال عمر بن بزيع قول كثير يا أمير المؤمنين ( أُرِيدُ لأنْسَى ذِكْرَها فكأنَّما ... تَمَثَّلُ لي لَيْلَى بكلِّ سَبيلِ ) فقال ما هذا بشيء وماله يريد أن ينسى ذكرها حتى تمثل له فقلت عندي حاجتك يا أمير المؤمنين جعلني الله فداك قال الحق بي قلت لا لحاق بي ليس ذلك في دابتي قال احملوه على دابة قلت هذا أول الفتح فحملت على دابة فلحقت فقال ما عندك فقلت قول الأحوص ( إذا قلتُ إنِّي مُشْتَفٍ بِلِقائها ... فحُتم التلاقِي بيننا زادنِي سُقْمَا ) فقال أحسن والله اقضوا عنه دينه فقضي عني ديني نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني منها الشعر الذي هو ( أريدَ لأَنْسَى ذِكْرَهَا فكأنَّما ... تَمَثَّلُ لي لَيلى بكِّل سبيلِ ) صوت ( ألا حَيِّيَا ليلَى أجَدّ رَحِيلي ... وآذَنَ أصحابي غَداً بِقُفُولِ ) ( ولم أرَ من لَيْلَى نَوَالاً أَعُدُّهُ ... ألاَ رُبَّما طالبتُ غيرَ مُنِيلِ ) ( أُريد لأنْسَى ذِكْرَها فكأنَّما ... تَمَثَّلُ لي لَيْلَى بكلِّ سبيلِ ) ( وليس خَلِيلي بالمَلُولِ ولا الذي ... إذا غِبْتُ عنه باعَنِي بخليلِ ) ( ولكنْ خَليلِي مَنْ يَدُومُ وِصَالُهُ ... ويَحْفَظُ سِرِّي عند كلِّ دَخِيلِ ) عروضه من - الطويل - الشعر لكثير والغناء في ثلاثة الأبيات الأول لإبراهيم ولحنه من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر ولابنه إسحاق في ( وليس خليلي بالمَلُول ولا الّذي ... ) ثقيل آخر بالوسطى حديث البعض عن كثير وجميل أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام وأخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير عن محمد بن سلام قال كان لكثير في النسيب حظ وافر وجميل مقدم عليه وعلى أصحاب النسيب جميعا ولكثير من فنون الشعر ما ليس لجميل وكان كثير راوية جميل وكان جميل صادق الصبابة والعشق ولم يكن كثير بعاشق وكان يتقول قال وكان الناس يستحسنون بيت كثير في النسيب ( أُريد لأنْسَى ذَكْرَها فكأنّما ... تَمَثَّلُ لي ليلَى بكلِّ سبيل ) قال وقد رأيت من يفضل عليه بيت جميل ( خليلَيّ فيما عِشْتُما هل رأيتُما ... قَتِيلاً بَكَى من حُبِّ قاتِلِه قَبلِي ) قرأت في كتاب منسوب إلى أحمد بن يحيى البلاذري وذكر إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن عبد الله بن معصب الزبيري كان يوما يذكر شعر كثير ويصف تفضيل أهل الحجاز إياه إلي أن انتهى إلى هذا البيت قال إسحاق فقلت له إن الناس يعيبون عليه هذا المعنى ويقولون ما له يريد أن ينساها فتبسم ابن مصعب ثم قال إنكم يأهل العراق لتقولون ذلك أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو يحيى الزهري قال حدثني الهزبري قال قيل لكثير ما أنسب بيت قلته قال الناس يقولون ( أريد لأنْسَى ذِكْرَها فكانّما ... تَمَثَّلُ لي ليلَى بكلِّ سبيل ) وأنسب عندي منه قولي ( وقُلْ أُمُّ عَمْرٍ داؤه وشفاؤه ... لديها ورَيَّاها الشِّفاءُ مِنَ الخبْل ) وقد قيل إن بعض هذه الأبيات للمتوكل الليثي أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عثمان قال الحرمي أحسبه ابن عبد الرحمن المخزومي قال حدثنا إبراهيم بن أبي عبد الله قال قيل لمحرز بن جعفر أنت صاحب شعر ونراك تلزم الأنصار وليس هناك منه شي قال بلى والله إن هناك لشعر عين الشعر وكيف لا يكون للشعر هناك وصاحبهم الأحوص الذي يقول ( يقولون لو ماتت لقد غاض حُبُّهُ ... وذلك حِينُ الفاجِعاتِ وحِيني ) ( لَعَمْرُك إنِّي إنْ تُحَمَّ وفاتُها ... بصُحْبِة مَنْ يَبْقَى لَغَيْرُ ضَنِينِ ) وهو الذي يقول ( وإنِّي لِمِكْرَامٌ لسادات مالكٍ ... وإنِّي لِنَوْكَى مالكٍ لَسَبُوبُ ) ( وإنِّي على الحِلِمْ الذي من سَجِيَّتي ... لحَمَّالُ أضْغانٍ لَهُنّ طَلُوبُ ) شعره في مرض موته أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني عمي مصعب قال حدثني يحيى بن الزبير بن عباد بن حمزة بن عبد الله بن الزبير قال الزبير وحدثني علي بن صالح عن عامر بن صالح أن الأحوص قال في مرضه الذي مات فيه وقال عامر بن صالح حين هرب من عبد الواحد النصري إلى البصرة ( يا بِشْرُ يا رُبَّ مَحْزونٍ بمَصرَعنا ... وشَامِتٍ جَذِلٍ ما مَسَّهُ الحَزَنُ ) ( وما شَمَاتُ امْرئٍ إن ماتَ صاحبهُ ... وقد يَرَى أنَّه بالموت مُرْتَهَنُ ) ( يا بشْرُ هُبِّي فإنّ النَّوْمَ أرّقَهُ ... نأْي مُشِتٌّ وأرضٌ غيرُها الوَطَنُ ) ذكر الدلال وقصته حين خصي ومن خصي معه والسبب في ذلك وسائر أخباره الدلال اسمه ناقد وكنيته أبو زيد وهو مدني مولى بني فهم وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال قال إسحاق لم يكن في المخنثين أحسن وجها ولا أنظف ثوبا ولا أظرف من الدلال قال وهو أحد من خصاه ابن حزم فلما فعل ذلك به قال الآن تم الخنث وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبد الله مصعب الزبيري قال الدلال مولى عائشة بنت سعيد بن العاص بعض صفاته وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبد الله مصعب الزبيري قال كان الدلال من أهل المدينة ولم يكن أهلها يعدون في الظرفاء وأصحاب النوادر من المخنثين بها إلا ثلاثة طويس والدلال وهنب فكان هنب أقدمهم والدلال أصغرهم ولم يكن بعد طويس أظرف من الدلال ولا أكثر ملحا قال إسحاق وحدثني هشام بن المرية عن جرير وكانا نديمين مدنيين قال ما ذكرت الدلال قط إلا ضحكت لكثرة نوادره قال وكان نزر الحديث فإذا تكلم أضحك الثكلي وكان ضاحك السن وصنعته نزرة جيده ولم يكن يغني إلا غناء مضعفا يعني كثير العمل قال إسحاق وحدثني أيوب بن عباية قال شهدت أهل المدينة إذا ذكروا الدلال وأحاديثه طولوا رقابهم وفخروا به فعلمت أن ذلك لفضيلة كانت فيه قال وحدثني ابن جامع عن يونس قال كان الدلال مبتلى بالنساء والكون معهن وكان يطلب فلا يقدر عليه وكان بديع الغناء صحيحه حسن الجرم كيف كان يتوسط بين الرجال والنساء قال إسحاق وحدثني الزبيري قال إنما لقب بالدلال لشكله وحسن دله وظرفه وحلاوة منطقة وحسن وجهه وإشارته وكان مشغوفا بمخالطة النساء ووصفهن للرجال وكان من أراد خطبة امرأة سأله عنها وعن غيرها فلا يزال يصف له النساء واحدة فواحدة حتى ينتهي إلى وصف ما يعجبه ثم يتوسط بينه وبين من يعجبه منهن حتى يتزوجها فكان يشاغل كل من جالسه عن الغناء بتلك الأحاديث كراهة منه للغناء السبب الذي من أجله خصي قال إسحاق وحدثني مصعب الزبيري قال أنا أعلم خلق الله بالسبب الذي من أجله خصي الدلال وذلك أنه كان القادم يقدم المدينة فيسأل عن المرأة يتزوجها فيدل على الدلال فإذا جاءه قال له صف لي من تعرف من النساء للتزويج فلا يزال يصف له واحدة بعد واحدة حتى ينتهي إلى ما يوافق هواه فيقول كيف لي بهذه فيقول مهرها كذا وكذا فإذا رضي بذلك أتاها الدلال فقال لها إني قد أصبت لك رجلا من حاله وقصته وهيئته ويساره ولا عهد له بالنساء وإنما قدم بلدنا آنفا فلا يزال بذلك يشوقها ويحركها حتى تطيعه فيأتي الرجل فيعلمه أنه قد أحكم له ما أراد فإذا سوي الأمر وتزوجته المرأة قال لها قد آن لهذا الرجل أن يدخل بك والليلة موعده وأنتم مغتلمة شبقة جامة فساعة يدخل عليك قد دفقت عليه مثل سيل العرم فيقذرك ولا يعاودك وتكونين من أشأم النساء على نفسك وغيرك فتقول فكيف أصنع فيقول أنت أعلم بدواء حرك ودائه وما يسكن غلمتك فتقول أنت أعرف فيقول ما أجدله شيئا أشفى من النيك فيقول لها إن لم تخافي الفضيحة فابعثي إلى بعض الزنوج حتى يقضي بعض وطرك ويكف عادية حرك فتقول له ويلك ولا كل هذا فلا تزال المحاورة بينهما حتى يقول لها فكما جاء علي أقوم فأخففك وأنا والله إلى التخفيف أحوج فتفرح المرأة فتقول هذا أمر مستور فينيكها حتى إذا قضى لذته منها قال لها أما أنت فقد استرحت وأمنت العيب وبقيت أنا ثم يجيء إلى الزوج فيقول له قد واعدتها أن تدخل عليك الليلة وأنت رجل عزب ونساء المدينة خاصة يردن المطاولة في الجماع وكأني بك كما تدخله عليها تفرغ وتقوم فتبغضك وتمقتك ولا تعاودك بعدها ولو أعطيتها الدنيا ولا تنظر في وجهك بعدها فلا يزال في مثل هذا القول حتى يعلم أنه قد هاجت شهوته فيقول له كيف أعمل قال تطلب زنجية فتنيكها مرتين أو ثلاثا حتى تسكن غلمتك فإذا دخلت الليلة إلى أهلك لم تجد أمرك إلا جميلا فيقول له ذاك أعوذ بالله من هذه الحال أزنا وزنجية لا والله لا أفعل فإذا أكثر محاورته قال له فكما جاء علي قم فنكني أنا حتى تسكن غلمتك وشبقك فيفرح فينيكه مرة أو مرتين فيقول له قد استوى أمرك الآن وطابت نفسك وتدخل على زوجتك فتنيكها نيكا يملؤها سرورا ولذة فينيك المرأة قبل زوجها وينيكه الرجل قبل امرأته فكان ذلك دأبه إلى أن بلغ خبره سليمان بن عبد الملك وكان غيورا شديد الغيرة فكتب بأن يخصى هو وسائر المخنثين بالمدينة ومكة وقال إن هؤلاء يدخلون على نساء قريش ويفسدونهن فورد الكتاب على ابن حزم فخصاهم هذه رواية إسحاق عن الزبيري والسبب في هذا أيضا مختلف فيه وليس كل الرواة يروون ذلك كما رواه مصعب رواية أخرى عن سبب خصيه فمما روي من أمرهم ما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري وهذا الخبر أصح ما روي في ذلك إسنادا قال أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة عن معن بن عيسى هكذا رواه الجوهري وأخبرنا به إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر ابن شبة قال حدثني أبو غسان قال قال ابن جناح حدثني معن بن عيسى عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه وعن محمد بن معن الغفاري قالا كان سبب ما خصي له المخنثون بالمدينة أن سليمان بن عبد الملك كان في نادية له يسمر ليلة على ظهر سطح فتفرق عنه جلساؤه فدعا بوضوء فجاءت به جارية له فبينا هي تصب عليه إذا أومأ بيده وأشار بها مرتين أو ثلاثا فلم تصب عليه فأنكر ذلك فرفع رأسه فإذا هي مصغية بسمعها إلى ناحية العسكر وإذا وصوت رجل يغني فأنصت له حتى سمع جميع ما تغني به فلما أصبح أذن للناس ثم أجرى ذكر الغناء فلين فيه حتى ظن القوم أنه يشتهيه ويريده فأفاضوا فيه بالتسهيل وذكر من كان يسمعه فقال سليمان فهل بقي أحد يسمع منه الغناء فقال رجل من القوم عندي يا أمير المؤمنين رجلان من أهل أيلة مجيدان محكمان قال وأين منزلك فأومأ إلى الناحية التي كان الغناء منها قال فابعث إليهما ففعل فوجد الرسول أحدهما فأدخله على سليمان فقال ما اسمك قال سمير فسأله عن الغناء فاعترف به فقال متى عهدك به قال الليلة الماضية قال وأين كنت فأشار إلى الناحية التي سمع سليمان منها الغناء قال فما غنيت به فأخبره الشعر الذي سمعه سليمان فأقبل على القوم فقال هدر الجمل فضبعت الناقة ونب التيس فشكرت الشاة وهدر الحمام فزافت الحمامة وغنى الرجل فطربت المرأة ثم أمر به فخصي وسأل عن الغناء أين أصله فقيل بالمدينة في المخنثين وهم أئمته والحذاق فيه فكتب إلى أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري وكان عامله عليها أن اخص من قبلك من المخنثين المغنين فزعم موسى بن جعفر بن أبي كثير قال أخبرني بعض الكتاب قال قرأت كتاب سليمان في الديوان فرأيت على الخاء نقطة كتمرة العجوة قال ومن لا يعلم يقول إنه صحف القارئ وكانت أحص قال فتتبعهم ابن حزم فخصى منهم تسعة فمنهم الدلال وطريف وحبيب نومة الضحى وقال بعضهم حين خصي سلم الخاتن والمختون وهذا كلام يقوله الصبي إذا ختن قال فزعم ابن أبي ثابت الأعرج قال أخبرني حماد بن نشيط الحسني قال أقبلنا من مكة ومعنا بدراقس وهو الذي ختنهم وكان غلامه قد أعانه على خصائهم فنزلنا على حبيب نومة الضحى فاحتفل لنا وأكرمنا فقال له ثابت من أنت قال يابن أخي أتجهلني وأنت وليت ختاني أو قال وأنت ختنتني قال واسوءتاه وأيهم أنت قال أنا حبيب قال ثابت فاجتنبت طعامه وخفت أن يسمني قال وجعلت لحية الدلال بعد سنة أو سنتين تتناثر وأما ابن الكلبي فإنه ذكر عن أبي مسكين ولقيط أن أيمن كتب بإحصاء من في المدينة من المخنثين ليعرفهم فيوفد عليه من يختاره للوفادة فظن الوالي أنه يريد الخصاء فخاصهم أخبرني وكيع قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني محمد بن سلام قال حدثني ابن جعدبة ونسخت أنا من كتاب أحمد بن الحارث الخراز عن المديني عن ابن جعدبة واللفظ له أن الذي هاج سليمان بن عبد الملك على ما صنعه بمن كان بالمدينة من المخنثين أنه كان مستلقيا على فراشه في الليل وجارية له إلى جنبه وعليها غلالة ورداء معصفران وعليها وشاحان من ذهب وفي عنقها فصلان من لؤلؤ وزبرجد وياقوت وكان سليمان بها مشغوفا وفي عسكره رجل يقال له سمير الأيلي يغني فلم يفكر سليمان في غنائه شغلا بها وإقبالا عليها وهي لاهية عنه لا تجيبه مصغية إلى الرجل حتى طال ذلك عليه فحول وجهه عنها مغضبا ثم عاد إلى ما كان مشغولا عن فهمه بها فسمع سميرا يغني بأحسن صوت وأطيب نغمة صوت ( محجوبة سَمِعتْ صوتي فأَرّقَها ... من آخر اللَّيل حتّى شَفَّها السَّهَرُ ) ( تُدْنِي على جِيدِها ثِنْيَيْ مُعَصْفَرةٍ ... والحَلْيُ منها على لَبَّاتها خَصِرُ ) ( في ليلة النصف ما يدري مُضَاجِعُها ... أوجهُها عنده أبهىَ أَمِ القمرُ ) ويروى ( أوجُهُها ما يَرَى أم وجهُها القمرُ ... ) ( لَوْ خُلِّيَتْ لَمَشتْ نَحْوِي على قَدَمٍ ... تكاد من رِقَّةٍ للمشي تَنْفَطِرُ ) الغناء لسمير الأيلي رمل مطلق بالبنصر عن حبش وأخبرني ذكاء وجه الرزة أنه سمع فيه لحنا للدلال من الثقيل الأول فلم يشكك سليمان أن الذي بها مما سمعت وأنها تهوى سميرا فوجه من وقته من أحضره وحبسه ودعا لها بسيف ونطع وقال والله لتصدقني أو لأضربن عنقك قالت سلني عما تريد قال أخبريني عما بينك وبين هذا الرجل قالت والله ما أعرفه ولا رأيته قط وأنا جارية منشأي الحجاز ومن هناك حملت إليك ووالله ما أعرف بهذه البلاد أحدا سواك فرق لها وأحضر الرجل فسأله وتلطف له في المسألة فلم يجد بينه وبينها سبيلا ولم تطب نفسه بتخليته سويا فخصاه وكتب في المخنثين بمثل ذلك هذه الرواية الصحيحة أسف ابن أبي عتيق والماجشون لخصائه وقد أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار يقال حدثنا عمي قال قيل للوليد بن عبد الملك إن نساء قريش يدخل عليهن المخنثون بالمدينة وقد قال رسول الله ( لا يدخل عليكن هؤلاء ) فكتب إلى ابن حزم الأنصاري أن اخصهم فخصاهم فمر ابن أبي عتيق فقال أخصيتم الدلال أما والله لقد كان يحسن ( لِمَنْ رَبْعٌ بذات الجَيْشِ ... أمسَى دارساً خَلَقَا ) ( تأبَّد بعد ساكنه ... فأصبح أهلُه فِرَقَا ) ( وقفتُ به أُسائلُه ... ومَرّتُ عِيسُهم حِزَقَا ) ثم ذهب ثم رجع فقال إنما أعني خفيفة لست أعني ثقيله أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الواقدي عن ابن الماجشون أن خليفة صاحب الشرطة لما خصي المخنثون مر بأبيه الماجشون وهو في حلقته فصاح به تعال فجاءه فقال أخصيتم الدلال قال نعم قال أما إنه كان يجيد ( لِمَنْ رَبعٌ بذات الجيش ... أمسى دارساً خَلَقَا ) ثم مضى غير بعيد فرده ثم قال أستغفر الله إنما أعني هزجه لا ثقيله أخبر له في المسجد أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني حمزة النوفلي قال صلى الدلال المخنث إلى جانبي في المسجد فضرط ضرطة هائلة سمعها من في المسجد فرفعنا رؤوسنا وهو ساجد وهو يقول في سجوده رافعا بذلك صوته سبح لك أعلاي وأسفلي فلم يبق في المسجد أحد إلا فتن وقطع صلاته بالضحك أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن المدائني عن أشياخه أن عبد الله بن جعفر قال لصديق له لو غنتك جاريتي فلانه ( لِمَنْ رَبْعٌ بذات الجيش ... أمسَى دارساً خَلَقَا ) لما أدركت دكانك فقال جعلت فداك قد وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير فقال عبد الله يا غلام مر فلانة أن تخرج فخرجت معها عودها فقال عبد الله إن هذا الشيخ يكره السماع فقالت ويحه لو كره الطعام والشراب كان أقرب له إلى الصواب فقال الشيخ فكيف ذاك وبهما الحياة فقالت إنهما ربما قتلا وهذا لا يقتل فقال عبد الله غني ( لِمَنْ ربعٌ بذات الجيش ... أمسى دارساً خَلَقاَ ) فغنت فجعل الشيخ يصفق ويرقص ويقول ( هذا أوانُ الشَّدِّ فاشْتَدِّي زِيَمْ ... ) ويحرك رأسه ويدور حتى وقع مغشيا عليه وعبد الله بن جعفر يضحك منه أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان قال مر الغمر بن يزيد بن عبد الملك حاجا فغناه الدلال ( بانتْ سُعادُ وأمسى حَبْلُها انْصَرَمَا ... واحْتَلَّت الغَمْرَ فالأجراعَ من إِضَما ) فقال له الغمر أحسنت والله وغلبت فيه ابن سريج فقال له الدلال نعمة الله علي فيه أعظم من ذلك قال وما هي قال السمعة لا يسمعه أحد إلا علم أنه غناء مخنث حقا نسبة هذا الصوت صوت بانتْ سعادُ وأمسى حبلُها انصرما ... واحتلّتِ الغَمْرَ فالأجراعَ من إِضَمَا ) ( إِحْدَى بَلِي وما هامَ الفؤادُ بها ... إلاّ السَّفَاهَ وإلاّ ذُكْرةً حُلُمَا ) ( هَلاَّ سألتِ بني ذُبْيانَ ما حَسَبي ... إذا الدُّخَانُ تَغَشَّى الأشمط البَرَمَا ) الشعر للنابغة الذبياني والغناء للدلال خفيف ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وفيه خفيف ثقيل بالبنصر لمعبد عن عمرو بن بانة وفيه لابن سريج ثقيل أول بالبنصر عن حبش وفيه لنشيط ثاني ثقيل بالبنصر عنه وذكر الهشامي أن لحن معبد ثقيل أول وذكر حماد أنه للغريض وفيه لجميلة ودحمان لحنان ويقال إنهما جميعا من الثقيل الأول أخبرني الحسين بن يحيى قال أخبرنا حماد بن إسحاق إجازة عن أبيه عن المدائني قال اختصم شيعي ومرجئ فجعلا بينهما أول من يطلع فطلع الدلال فقالا له أبا زيد أيهما خير الشيعي أم المرجئ فقال لا أردي إلا أن أعلاي شيعي وأسفلي مرجئ هروبه من المدينة إلى مكة قال إسحاق قال المدائني وأخبرني أبو مسكين عن فليح بن سليمان قال كان الدلال ملازما لأم سعيد الأسلمية وبنت ليحيى بن الحكم بن أبي العاصي وكانتا من أمجن النساء كانتا تخرجان فتركبان الفرسين فتستبقان عليهما حتى تبدو خلاخيلهما فقال معاوية لمروان بن الحكم إكفني بنت أخيك فقال أفعل فاستزارها وأمر ببئر فحفرت في طريقها وغطيت بحصير فلما مشت عليه سقطت في البئر فكانت قبرها وطلب الدلال فهرب إلى مكة فقال له نساء أهل مكة قتلت نساء أهل المدينة وجئت لتقتلنا فقال والله ما قتلهن إلا الحكاك فقلن اعزب أخزاك الله ولا أدنى بك دارا ولا آذانا بك قال فمن لكن بعدي يدل على دائكن ويعلم موضع شفائكن والله ما زنيت قط ولا زني بي وإني لأشتهي ما تشتهي نساؤكم ورجالكم قال إسحاق وحدثني الواقدي عن ابن الماجشون قال كان أبي يعجبه الدلال ويستحسن غناءه ويدنيه ويقربه ولم أره أنا فسمعت أبي يقول غناني الدلال يوما بشعر مجنون بني عامر فلقد خفت الفتنة على نفسي فقلت يا أبت وأي شعر تغني قال قوله صوت ( عَسَى اللهُ أنْ يُجْرِي المَوَدّةَ بيننا ... ويُوصِلَ حبلاً منكُم بحِبالِيَا ) ( فكَمْ من خَلِيلَيْ جَفْوةٍ قد تَقَاطَعَا ... على الدَّهْرِ لمّا أنْ أطالاَ التَّلاَقِيَا ) ( وإنّي لفي كَرْبٍ وأنتِ خَلِيّةٌ ... لقد فارقتْ في الوصف حالُكِ حاليا ) ( عتبتُ فما أعتبتِني بمودّةٍ ... ورُمْتُ فما أسعفتِني بسؤاليا ) الغناء في هذا الشعر للغريض ثقيل أول بالوسطى ولا أعرف فيه لحنا غيره وذكر حماد في أخبار الدلال أنه للدلال ولم يجنسه قال إسحاق وحدثني الواقدي عن عثمان بن إبراهيم الحاطبي قال قدم مخنث من مكة يقال له مخة فجاء إلى الدلال فقال يا أبا زيد دلني على بعض مخنثي أهل المدينة أكايده وأمازحه ثم أجاذبه قال قد وجدته لك وكان خثيم بن عراك بن مالك صاحب شرطة زياد بن عبيد الله الحارثي جاره وقد خرج في ذلك الوقت ليصلي في المسجد فأومأ إلى خثيم فقال الحقه في المسجد فإنه يقوم فيه فيصلي ليرائي الناس فإنك ستظفر بما تريد منه فدخل المسجد وجلس إلى جنب ابن عراك فقال عجلي بصلاتك لا صلى الله عليك فقال خثيم سبحان الله فقال المخنث سبحت في جامعة قراصة انصرفي حتى أتحدث معك فانصرف خثيم من صلاته ودعا بالشرط والسياط فقال خذوه فأخذوه فضربه مائة وحبسه أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه قال صلى الدلال يوما خلف الإمام بمكة فقرأ ( وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ) فقال الدلال لا أدري والله فضحك أكثر الناس وقطعوا الصلاة فلما قضى الوالي صلاته دعا به وقال له ويلك ألا تدع هذا المجون والسفه فقال له قد كان عندي أنك تعبد الله فلما سمعتك تستفهم ظننت أنك قد تشككت في ربك فثبتك فقال له أنا شككت في ربي وأنت ثبتني إذهب لعنك الله ولا تعاود فأبالغ والله في عقوبتك قصته مع رجل زوجه امرأة لم يدخل بها قال إسحاق وحدثني الواقدي عن عثمان بن إبراهيم قال سأل رجل الدلال أن يزوجه امرأة فزوجه فلما أعطاها صداقها وجاء بها إليه فدخلت عليه قام إليها فواقعها فضرطت قبل أن يطأها فكسل عنها الرجل ومقتها وأمر بها فأخرجت وبعث إلى الدلال فعرفه ما جرى عليه فقال له الدلال فديتك هذا كله من عزة نفسها قال دعني منك فإني قد أبغضتها فاردد علي دراهمي فرد بعضها فقال له لم رددت بعضها وقد خرجت كما دخلت قال للروعة التي أدخلتها على استها فضحك وقال له اذهب فأنت أقضى الناس وأفقههم فتية من قريش يسقونه حتى يسكروه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني محمد بن سلام عن أبيه قال وأخبرني به الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد ابن سلام عن أبيه قال أن الدلال خرج يوما مع فتية من قريش في نزهة له وكان معهم غلام جميل الوجه فأعجبه وعلم القوم وعلم القوم بذلك فقالوا قد ظفرنا به بقية يومنا وكان لا يصبر في مجلس حتى ينقضي وينصرف عنه استثقالا لمحادثة الرجال ومحبة في محادثة النساء فغمزوا الغلام عليه وفطن لذلك فغضب وقام لينصرف فأقسم الغلام عليه والقوم جميعا فجلس وكان معهم شراب فشربوا وسقوه وحملوا عليه لئلا يبرح ثم سألوه أن يغنيهم فغناهم صوت ( زُبَيْرِيّةٌ بالعَرْج منها منازلٌ ... وبالخَيْفِ من أدنى مَنازِلها رَسْمُ ) ( أُسائلُ عنها كلَّ رَكْبٍ لَقِيتُه ... ومالي بها من بعد مَكَّتِنا عِلْمُ ) ( أيا صاحب الخَيْماتِ من بَطْن أَرْثّدٍ ... إلَى النخل من وَدّانَ ما فعلتْ نُعْمُ ) ( فإنْ تَكُ حَرْبٌ بين قومي وقومِها ... فإنِّي لها في كلِّ نائرةٍ سَلْمُ ) ذكر يحيى المكي وعمرو بن بانة أن الغناء في هذا الشعر لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى وذكر غيرهما أنه للدلال وفيه لمخارق رمل وذكر إسحاق هذا اللحن في طريقة الثقيل الثاني ولم ينسبه إلى أحد قال فاستطير القوم فرحا وسرورا وعلا نعيرهم فنذر بهم السلطان وتعادت الأشراط فأحسوا بالطلب فهربوا وبقي الغلام والدلال ما يطيقان براحا من السكر فأخذا فأتي بهما أمير المدينة فقال للدلال يا فاسق فقال له من فمك إلى السماء قال جؤوا فكه قال وعنقه أيضا قال يا عدو الله أما وسعك بيتك حتى خرجت بهذا الغلام إلى الصحراء تفسق به فقال لو علمت أنك تغار علينا وتشتهي أن نفسق سرا ما خرجت من بيتي قال جردوه واضربوه حدا قال وما ينفعك من ذلك وأنا والله أضرب في كل يوم حدودا قال ومن يتولى ذلك منك قال أيور المسلمين قال ابطحوه على وجهه واجلسوا على ظهره قال أحسب أن الأمير قد اشتهى أن يرى كيف أناك قال أقيموه لعنه الله واشهروه في المدينة مع الغلام فأخرجا يدار بهما في السكك فقيل له ما هذا يا دلال قال إشتهى الأمير أن يجمع بين الرأسين فجمع بيني وبين هذا الغلام ونادى علينا ولو قيل له الآن إنك قواد غضب فبلغ قوله الوالي فقال خلوا سبيلهما لعنة الله عليهما قال إسحاق في خبره خاصة ولم يذكره أبو أيوب فحدثني أبي عن ابن جامع عن سياط قال سمعت يونس يقول قال لي معبد ما ذكرت غناء الدلال في هذا الشعر ( زُبَيْريَّةٌ بالعَرْج منها مَنازِلٌ ... ) إلا جدد لي سرورا ولوددت أني كنت سبقته إليه لحسنه عندي قال يونس فقلت له ما بلغ من حسنه عندك قال يكفيك أني لم أسمع أحسن منه قط خبره هو وطويس والوليد مع عبد الرحمن بن حسان أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن صالح بن حسان قال كان بالمدينة عرس فاتفق فيه الدلال وطويس والوليد المخنث فدخل عبد الرحمن بن حسان فلما رآهم قال ما كنت لأجلس في مجلس فيه هؤلاء فقال له طويس قد علمت يا عبد الرحمن نكايتي فيك وأن جرحي إياك لم يندمل يعني خبره معه بحضرة عبد الله بن جعفر وذكره لعمته الفارعة فاربح نفسك وأقبل على شأنك فإنه لا قيام لك بمن يفهمك فهمي وقال له الدلال يا أخا الأنصار إن أبا عبد النعيم أعلم بك مني وسأعلمك بعض ما أعلم به ثم اندفع ونقر بالدف وكلهم ينقر بدفه معه فتغنى صوت ( أتهجُر يا إنسانُ مَنْ أنت عاشقُهْ ... ومَنْ أنت مشتاقٌ إليه وشائقُهْ ) ( وريمٍ أحَمَّ المقلتين مُوَشَّحٍ ... زَرَابِيُّه مبثوثةٌ ونَمَارِقُهْ ) ( ترى الرَّقْمَ والدِّيباجَ في بيته معاً ... كما زيَّن الروضَ الأنيقَ حدائقُهْ ) ( وسِرب ظباء ترْتَعِي جانبَ الحِمَى ... إلى الجو فالْخَبْتَيْنِ بِيضٌ عَقَائقُهْ ) ( وما مِنْ حمىً في الناس إلاّ لنا حِمىً ... إلاّ لنا غَرْبِيَّهُ ومَشَارقُهْ ) فاستضحك عبد الرحمن وقال اللهم غفرا وجلس لحن الدلال في هذه الأبيات هزج بالبنصر عن يحيى المكي وحماد أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبد الله الجمحي عن محمد بن عثمان عن عبدالرحمن بن الحارث بن هشام قال سمعت عمي عتبة يقول حدثني مولى للوليد بن عبد الملك قال كان الدلال ظريفا جميلا حسن البيان من أحضر الناس جوابا وأحجهم وكان سليمان بن عبد الملك قد رق له حين خصي غلطا فوجه إليه مولى له وقال له جئني به سرا وكانت تبلغه نوادره وطيبه وحذر رسوله أن يعلم بذلك أحد فنفذ المولى إليه وأعلمه ما أمره به وأمره بالكتمان وحذر أن يقف على مقصده أحد ففعل وخرج به إلى الشام فلما قدم أنزله المولى منزله وأعلم سليمان بمكانه فدعا به ليلا فقال ويلك ما خبرك فقال جببت من القبل مرة أخرى يا أمير المؤمنين فهل تريد أن تجبني المرة من الدبر فضحك وقال اعزب أخزاك الله ثم قال له غن فقال لا أحسن إلا بالدف فأمر فأتي له بدف فغنى في شعر العرجي ( أفي رسمِ دارٍ دَمْعُكَ المُتَحَدِّرُ ... سَفَاهاً وما استنطاقُ ما ليس يُخْبِرُ ) ( تغيَّر ذاك الربعُ من بعد جِدَّةٍ ... وكلُّ جديدٍ مَرّةً متغيِّرُ ) ( لأسماءَ إذ قلبي بأسماءَ مُغْرَمٌ ... وما ذِكْرُ أسماءَ الجميلةِ مُهْجَرُ ) ( ومَمْشَى ثَلاثٍ بعد هَدْءٍ كَوَاعبٍ ... كمثل الدُّمَى بل هُنّ من ذاك أنضَرُ ) ( فَسَلَّمْنَ تسليماً خفيّاً وسَقَّطَتْ ... مَصَاعِبةٌ ظُلْعٌ مِنَ السير حُسَّرُ ) ( لها أَرَجٌ من زاهر البَقْلِ والثَّرَى ... وبُرْدٌ إذا ما باشر الجِلْدَ يَخْصَرُ ) ( فقالتْ لِتِرْبَيْها الغداةَ تَبَقَيَّا ... بعينٍ ولا تَسْتبعِدَا حين أُبْصِرُ ) ( ولا تُظْهِرَا بُرْدَيْكما وعليكما ... كِساءانِ من خَزٍّ بنَقْشٍ وأخضرُ ) ( فعَدِّي فما هذا العتابُ بنافعٍ ... هوايَ ولا مُرْجِي الهوى حين يُقْصِر ) فقال له سليمان حق لك يا دلال أن يقال لك الدلال أحسنت وأجملت فوالله ما أدري أي أمريك أعجب أسرعة جوابك وجودة فهمك أم حسن غنائك بل جميعا عجب وأمر له بصلة سنية فأقام عنده شهرا يشرب على غنائه ثم سرحه إلى الحجاز مكرما قصة الشامي الذي أراد أن يتزوج من المدينة أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الأصمعي قال حج هشام بن عبد الملك فلما قدم المدينة نزل رجل من أشراف أهل الشأم وقوادهم بجنب دار الدلال فكان الشامي يسمع غناء الدلال ويصغي إليه ويصعد فوق السطح ليقرب من الصوت ثم بعث إلى الدلال إما أن تزورنا وإما أن نزورك فبعث إليه الدلال بل تزورنا فتهيأ الشامي ومضى إليه وكان للشامي غلمان روقة فمضى معه بغلامين منهم كأنهما درتان فغناه الدلال ( قد كنتُ آمُلُ فيكُم أمَلاً ... والمرءُ ليس بمُدْرِكِ أمَلَهْ ) ( حتّى بدا لي منكم خُلُفٌ ... فزجرتُ قلبي عن هوىً جَهِلَهْ ) ( ليس الفتى بمُخَلَّدٍ أبداً ... حَقّاً وليس بفائتِ أجَلَهْ ) ( حَيِّ العَمُودَ ومَنْ بِعَقْوتِه ... وقَفَا العَمُودِ وإن جَلاَ أهلُهْ ) قال فاستحسن الشامي غناءه وقال له زدني فقال أو ما يكفيك ما سمعت قال لا والله ما يكفيني قال فإن لي إليك حاجة قال وما هي قال تبيعني أحد هذين الغلامين أو كليهما قال اختر أيهما شئت فاختار أحدهما فقال الشامي هو لك فقبله الدلال ثم غناه ( دَعَتْني دَوَاعٍ من أُرَيَّا فهيَّجتْ ... هَوىً كان قِدْماً من فؤادِ طَرُوبِ ) ( لعلَّ زماناً قد مضى أن يعودَ لي ... فتَغْفِرَ أَرْوَى عند ذاك ذُنوبي ) ( سَبَتْنِي أُرَياَّ يوم نَعْف مُحَسَّرٍ ... بوجهٍ جميلٍ للقلوبِ سَلُوبِ ) فقال له الشامي أحسنت ثم قال له أيها الرجل الجميل إن لي إليك حاجة قال وما هي قال أريد وصيفة ولدت في حجر صالح ونشأت في خير جميلة الوجه مجدولة وضيئة جعدة في بياض مشربة حمرة حسنة القامة سبطة أسيلة الخد عذبة اللسان لها شكل ودل تملأ العين والنفس فقال له الدلال قد أصبتها لك فما لي عليك إن دللتك قال غلامي هذا قال إذا رأيتها وقبلتها فالغلام لي قال نعم فأتى امرأة كنى عن اسمها فقال لها جعلت فداك إنه نزل بقربي رجل من أهل الشأم من قواد هشام له ظرف وسخاء وجاءني زائرا فأكرمته ورأيت معه غلامين كأنهما الشمس الطالعة والقمر المنير والكواكب الزاهرة ما وقعت عيني على مثلهما ولا ينطلق لساني بوصفهما فوهب لي أحدهما والآخر عنده وإن لم يصل إلي فنفسي خارجة قالت فتريد ماذا قال طلب مني وصيفة يشتريها على صفة لا أعلمها في أحد إلا في فلانة بنتك فهل لك أن تريها له قالت وكيف لك بأن يدفع الغلام إليك إذا رآها قال فإني قد شرطت عليه ذلك عند النظر لا عند البيع قالت فشأنك ولا يعلم أحد بذلك فمضى الدلال فجاء الشامي معه فلما صار إلي المرأة أدخلته فإذا هو بحجلة وفيها امرأة على سرير مشرف برزة جميلة فوضع له كرسي فجلس فقالت له أمن العرب أنت قال نعم قالت من أيهم قال من خزاعة قالت مرحبا بك وأهلا أي شيء طلبت فوصف الصفة فقالت أصبتها وأصغت إلى جارية لها فدخلت فمكثت هنيهة ثم خرجت فنظرت إليها المرأة فقالت لها أي حبيبتي أخرجي فخرجت وصيفة ما رأى الراؤون مثلها فقالت لها أقبلي فأقبلت ثم قالت لها أدبري فأدبرت تملأ العين والنفس فما بقي منها شيء إلا وضع يده عليه فقالت أتحب أن نؤزرها لك قال نعم قالت أي حبيبتي ائتزري فضمها الإزار وظهرت محاسنها الخفية وضرب بيده على عجيزتها وصدرها ثم قالت أتحب أن نجردها لك قال نعم قالت أي حبيبتي وضحي فألقت إزارها فإذا أحسن خلق الله كأنها سبيكة فقالت يا أخا أهل الشأم كيف رأيت قال منية المتمني قال بكم تقولين قالت ليس يوم النظر يوم البيع ولكن تعود غدا حتى نبايعك ولا تنصرف إلا على الرضا فانصرف من عندها فقال له الدلال أرضيت قال نعم ما كنت أحسب أن مثل هذه في الدنيا فإن الصفة لتقصر دونها ثم دفع إليه الغلام الثاني فلما كان من الغد قال له الشامي امض بنا فمضيا حتى قرعا الباب فأذن لهما فدخلا وسلما ورحبت المرأة بهما ثم قالت للشامي اعطنا ما تبذل قال ما لها عندي ثمن إلا وهي أكبر منه فقولي يا أمة الله قالت بل قل فإنا لم نوطئك أعقابنا ونحن نريد خلافك وأنت لها رضا قال ثلاثة آلاف دينار فقالت والله لقبلة من هذه خير من ثلاثة آلاف دينار قال بأربعة آلاف دينار قالت غفر الله لك أعطنا أيها الرجل قال والله ما معي غيرها ولو كان لزدتك إلا رقيق ودواب وخرثي أحمله إليك قالت ما أراك إلا صادقا أتدري من هذه قال تخبريني قالت هذه ابنتي فلانة بنت فلان وأنا فلانة بنت فلان وقد كنت أردت أن أعرض عليك وصيفة عندي فأحببت إذا رأيت غدا غلظ أهل الشأم وجفاءهم ذكرت ابنتي فعلمت أنكم في غير شيء قم راشدا فقال للدلال خدعتني قال أولا ترضى أن ترى ما رأيت من مثلها وتهب مائة غلام مثل غلامك قال أما هذا فنعم وخرجا من عندها نسبة ما عرفت نسبته من الغناء المذكور في هذا الخبر صوت ( قد كنتُ آمُلُ فيكُم أَمَلاً ... والمرءُ ليس بمُدْرِكٍ أَمَلَهْ ) ( حتَّى بدا لي منكُم خُلُفٌ ... فزجرتُ قلبي عن هَوىً جَهِلَهْ ) الشعر للمغيرة بن عمرو بن عثمان والغناء للدلال ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها وجدته في بعض كتب إسحاق بخط يده هكذا وذكر علي بن يحيى المنجم أن هذا اللحن في هذه الطريقة لابن سريج وأن لحن الدلال خفيف ثقيل نشيد وذكر أحمد بن المكي أن لحن الدلال ثاني ثقيل بالوسطى ولحن ابن سريج ثقيل أول وفيه لمتيم وعريب لميتم خفيفا ثقيل المطلق المسجح منهما لعريب ومنها صوت ( دعتْني دَوَاعٍ من أُرَيَّا فهيَّجَتْ ... هَوىً كان قِدْما من فُؤادِ طَرُوبِ ) ( سبتْني أرَيَّا يومَ نَعْفِ مُحَسِّرٍ ... بوجهٍ صبِيح للقلوب سَلُوبِ ) ( لعلّ زماناً قد مضى أن يعودَ لي ... وتَغْفِرَ أَرْوَى عند ذاك ذُنوبي ) الغناء للدلال خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها من رواية حماد عن أبيه وذكر يحيى المكي أنه لابن سريج أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي قبيصة قال جاء الدلال يوما إلى منزل نائلة بنت عمار الكلبي وكانت عند معاوية فطلقها فقرع الباب فلم يفتح له فغنى في شعر مجنون بني عامر ونقر بدفه ( خَلِيلَيَّ لا واللهِ ما أَمْلِكُ البُكَا ... إذا عَلَمٌ من أرض لَيلَى بَدَا لِيَا ) ( خليلَيَّ إنْ بانُوا بليلَى فَهَيِّئا ... لِيَ النَّعْشَ والأكفان واسْتَغْفِرَا لِيا ) فخرج حشمها فزجروه وقالوا تنح عن الباب وسمعت الجلبة فقالت ما هذه الضجة بالباب فقالوا الدلال فقالت ائذنوا له فلما دخل عليها شق ثيابه وطرح التراب على رأسه وصاح بويله وحربه فقالت له الويل ويلك ما دهاك وما أمرك قال ضربني حشمك قال ولم قال غنيت صوتا أريد أن أسمعك إياه لأدخل إليك فقالت أف لهم وتف نحن نبلغ لك ما تحب ونحسن تأديبهم يا جارية هاتي ثيابا مقطوعة فلما طرحت عليه جلس فقالت ما حاجتك قال لا أسألك حاجة حتى أغنيك قال فذاك إليك فاندفع يغني شعر جميل ( اِرْحَمِينِي فقد بَلِيتُ فَحَسْبي ... بعضُ ذا الدَّاءِ يا بُثَيْنةُ حَسْبِي ) ( لامَني فيكِ يا بثنيةُ صَحْبِي ... لا تَلُومُوا قد أقْرح الحُبُّ قلبي ) ( زعَم الناسُ أنّ دائيَ طِبِّي ... أنتِ واللَّهِ يا بثنيةُ طِبِّي ) ثم جلس فقال هل من طعام قالت علي بالمائدة فأتي بها كأنها كانت مهيأة عليها أنواع الأطعمة فأكل ثم قال هل من شراب قالت أما نبيذ فلا ولكن غيره فأتي بأنواع الأشربة فشرب من جميعها ثم قال هل من فاكهة فأتي بأنواع الفواكه فتفكه ثم قال حاجتي خمسة آلاف درهم وخمس حلل من حلل معاوية وخمس حلل من حلل حبيب بن مسلمة وخمس حلل من حلل النعمان بن بشير فقالت وما أردت بهذا قال هو ذاك والله ما أرضى ببعض دون بعض فإما الحاجة وإما الرد فدعت له بما سأل فقبضه وقام فلما توسط الدار غنى ونقر بدفه ( ليتَ شِعْرِي أَجَفْوةٌ أم دَلاَلٌ ... أمْ عَدُوٌّ أتى بُثَيْنَة بعدي ) ( فمُرِيني أُطِعْكِ في كلِّ أمرٍ ... أنت واللَّهِ أوجهُ الناسِ عندي ) وكانت نائلة عند معاوية فقال لفاختة بنت قرظة إذهبي فانظري إليها فذهبت فنظرت إليها فقالت له ما رأيت مثلها ولكني رأيت تحت سرتها خالا ليوضعن منه رأس زوجها في حجرها فطلقها معاوية فتزوجها بعده رجلان أحدهما حبيب بن مسلمة والآخر النعمان بن بشير فقتل أحدهما فوضع رأسه في حجرها نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني صوت ( خليلَيَّ لا واللَّه ما أَمْلْكُ البُكَا ... إذا عَلَم من أرض ليلَى بَدَالِيا ) ( خليلَيَّ إنْ بانوا بليلَى فَهيِّئا ... لي النَّعْشَ والأكفان واستغفِرالِيا ) ( أمضروبة ليلَى عَلَى أنْ أزورها ... ومتَّخَذ ذنباً لها أنْ تَرانِيا ) ( خليلَيّ لا واللَّه ما أمِلِك الذي ... قضى اللَّه في ليلى ولا ما قَضَى ليا ) ( قَضَاها لغيري وابتلاني بحُبِهَا ... فَهلاّ بشيء غير ليلى ابتلانيا ) الشعر للمجنون والغناء لابن محرز ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر الهشامي أن فيه لحنا لمعبد ثقيل أول لا يشك فيه قال وقد قال قوم إنه منحول يحيى المكي وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل عن الهشامي أيضا وفيه ليحيى المكي رمل من رواية ابنه أحمد وفيه خفيف رمل عن أحمد بن عبيد لا يعرف صانعه ومنها صوت ( ليتَ شِعْرِي أَجَفْوَةٌ أم دَلاَلٌ ... أم عَدُوٌّ أتى بثينةَ بعدي ) ( فمِرِينِي أُطِعْكِ في كلِّ أمرٍ ... أَنتِ والله أوجهُ الناسِ عندي ) الشعر لجميل والغناء لابن محرز خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لعلويه خفيف ثقيل آخر وذكر عمرو بن بانة أن فيه خفيف ثقيل بالوسطى لمعبد وذكر إسحاق أن فيه رملا بالبنصر في مجراها ولم ينسبه إلى أحد وذكر الهشامي أنه لمالك وفيه لمتيم خفيف رمل وفيه لعريب ثقيل أول بالبنصر وذكر حبش أن فيه للغريض ثقيلا أول بالبنصر ولمعبد فيه ثقيل أول بالوسطى وذكر ابن المكي أن فيه خفيف ثقيل لمالك وعلويه غناؤه في زفاف ابنة عبد الله بن جعفر أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن المدائني عن عوانة بن الحكم قال لما أراد عبد الله بن جعفر إهداء بنته إلى الحجاج كان ابن أبي عتيق عنده فجاءه الدلال متعرضا فاستأذن فقال له ابن جعفر لقد جئتنا يا دلال في وقت حاجتنا إليك قال ذلك قصدت فقال له ابن أبي عتيق غننا فقال ابن جعفر ليس وقت ذلك نحن في شغل عن هذا فقال ابن أبي عتيق ورب الكعبة ليغنين فقال له ابن جعفر هات فغنى ونقر بالدف والهوادج والرواحل قد هيئت وصيرت بنت ابن جعفر فيها مع جواريها والمشيعين لها ( يا صاح لو كنتَ عالماً خَبِراً ... بما يُلاَقِي المُحِبُّ لم تَلُمُهْ ) ( لا ذنبَ لي في مُقَرَّطٍ حَسَنٍ ... أعجبني دَلُّهُ ومُبْتَسَمُهْ ) ( شيمتُه البُخْلُ والبِعادُ لنا ... يا حَبَّذّا هُوَ وحَبَّذَا شيَمُهْ ) ( مُضَمَّخٌ بالعَبِيرِ عارِضُه ... طُوبَى لِمَنْ شَمَّه ومَنْ لَثَمُهْ ) قال ولابن محرز في هذا الشعر لحن أجود من لحن الدلال فطرب ابن جعفر وابن أبي عتيق وقال له ابن جعفر زدني وطرب فأعاد اللحن ثلاثا ثم غنى ( بَكَرَ العواذِلُ في الصَّباحِ ... يَلُمْنَنِي وألُومُهُنَّهْ ) ( ويَقُلْن شيبٌ قد عَلاكَ ... وقد كَبِرْتَ فقُلْتُ إنَّهْ ) ومضت بنت ابن جعفر فاتبعها يغنيها بهذا الشعر ولعبد آل الهذلي فيه لحن وهو أحسنها ( إنّ الخَلِيطَ أجَدّ فاحتملاَ ... وأراد غَيْظَكَ بالذي فَعَلاَ ) ( فوقفتُ أنظر بعضَ شأنهمُ ... والنَّفْسُ مما تأمُلُ الأَمَلاَ ) ( وإذا البِغالُ تُشَدُّ صافِنةً ... وإذا الحُداةُ قَدَ ازْمَعُوا الرِّحَلاَ ) ( فهناك كاد الشَّوْقُ يقتُلني ... لَوْ أنَّ شوقاً قبلَه قَتَلا ) فدمعت عينا عبد الله بن جعفر وقال للدلال حسبك فقد أوجعت قلبي وقال لهم امضوا في حفظ الله على خير طائر وأيمن نقيبة نسبة ما في هذا الخبر من الغناء صوت ( بَكَرَ العواذلُ في الصَّباح ... يَلُمْنَنِي وأَلُومُهُنَّهْ ) ( ويقلنَ شيبٌ قد علاكَ ... وقد كَبِرْتَ فقلتُ إنَّهْ ) ( لا بُدَّ من شيبٍ فَدَعْنَ ... ولا تُطِلْنَ مَلاَمَكُنَّهْ ) ( يَمْشِينَ كالبَقَرِ الثِّقالِ ... عَمَدْنَ نحو مُرِاحِهِنَّهْ ) ( يَحْفَيْنَ في المَمْشَى القريبِ ... إذا يُرِدْنَ صَدِيقَهُنَّهْ ) الشعر لابن قيس الرقيات والغناء لابن مسجح خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه ثقيل أول للغريض عن الهشامي وفيه خفيف ثقيل آخر بالوسطى ليعقوب بن هبار عن الهشامي ودنانير وذكر حبش أنه ليعقوب ومنها صوت ( إنّ الخليطَ أجدّ فاحتملاَ ... وأراد غيظَك بالذي فعلا ) الأبيات الأربعة الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض ثقيل أول بالسبابة عن يحيى المكي وفيه ليحيى أيضا ثقيل أول بالوسطى من رواية أحمد ابنه وذكر حبش أن هذا اللحن لبسباسة بنت معبد غنى شعرا لعمر بن أبي ربيعة فأجازه أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص الثقفي قال كان للدلال صوت يغني به ويجيده وكان عمر بن أبي ربيعة سأله الغناء فيه وأعطاه مائة دينار ففعل وهو قول عمر صوت ( ألم تَسْأَلِ الأَطلالَ والمُتَرَبَّعَا ... ببطن حُلَيَّاتٍ دَوَارِسَ بَلْقَعَا ) ( إلى السَّرْحِ من وادي المُغَمَّسِ بُدِّلتْ ... مَعَالِمُه وَبْلاً ونَكْباءَ زَعْزَعَا ) ( وقَرَّبْنَ أسبابَ الهَوَى بمُتَيَّمٍ ... يقِيس ذِرَاعاً كُلَّما قِسْنَ أَصْبَعَا ) ( فقلتُ لِمُطْرِيهِنّ في الحُسْنِ إِنّما ... ضَرَرْتَ فهل تَسْطِيعُ نَفْعاً فَتَنْفَعَا ) الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض فيه لحنان أحدهما في الأول والثاني من الأبيات ثقيل أول بالبنصر عن عمرو والآخر في الثالث والرابع ثاني ثقيل بالبنصر وفي هذين البيتين الآخرين لابن سريج ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفي الأول والثاني للهذلي خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيهما لابن جامع رمل بالوسطى عنه أيضا وقال يونس لمالك فيه لحنان ولمعبد لحن واحد أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه قال حدثني هشام بن المرية قال كنا نعرف للدلال صوتين عجيبين وكان جرير يغني بهما فأعجب من حسنهما فأخذتهما عنه وأنا أغني بهما فأما أحدهما فإنه يفرح القلب والآخر يرقص كل من سمعه فأما الذي يفرح القلب فلابن سريج فيه أيضا لحن حسن وهو ( ولقد جرى لك يومَ سَرْحةِ مالكٍ ... مما تَعَيَّفُ سانحٌ وبَرِيحُ ) أَحْوَى القَوَادِمِ بالبياض مُلَمَّعٌ ... قَلِقُ المَواقِعِ بالفِراقِ يَصِيحُ ) ( الحُبُّ أبغضُه إليَّ أقلُّه ... صَرٍّحْ بذاك فرَاحَتي التَّصْرِيحُ ) ( بانتْ عُوَيْمةُ فالفؤادُ قَرِيحُ ... ودموعُ عينِك في الرِّداء سُفُوحُ ) والآخر ( كلَّما أبصرتُ وجهاً ... حَسَناً قلتُ خَليلي ) ( فإذا ما لم يَكُنْهُ ... صِحْتُ وَيْلي وعَوِيل ) ( فصِلِي حبلَ مُحِبٍ ... لكُمُ جِدِّ وَصُولِ ) ( وانظُرِي لا تَخْذُلِيهِ ... إنّه غيرُ خَذُولِ ) نسبة هذين الصوتين للدلال في الشعر الأول الذي أوله ( ولقد جرى لك يوم سرحةِ مالكٍ ... ) خفيف ثقيل بالوسطى وفيه لابن سريج ثقيل أول عن الهشامي وقال حبش إن للدلال فيه لحنين خفيف ثقيل أول وخفيف رمل وأول خفيف الرمل ( بانتْ عويمةُ فالفؤادُ قَرِيحُ ... ) ذكر أن لحن ابن سريج ثاني ثقيل وأن لابن مسجح فيه أيضا خفيف ثقيل والصوت الثاني الذي أوله ( كلّما أبصرتْ وجهاً ... حَسَناً قلتُ خليلي ) الغناء فيه لعطرد خفيف ثقيل بالوسطى عن حبش ويقال إنه للدلال وفيه ليونس خفيف رمل وفيه لإبراهيم الموصلي خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو شرب الخمرة وسكر فخلع ثيابه أخبرني الحسين عن حماد عن أبيه عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال كان الدلال لا يشرب النبيذ فخرج مع قوم إلى متنزه لهم ومعهم نبيذ فشربوا ولم يشرب منه وسقوه عسلا مجدوحا وكان كلما تغافل صيروا في شرابه النبيذ فلا ينكره وكثر ذلك حتى سكر وطرب وقال اسقوني من شرابكم فسقوه حتى ثمل وغناهم في شعر الأحوص ( طاف الخيالُ وطاف الهَمُّ فاعتَكَرَا ... عند الفِرَاشِ فبات الهَمُّ مُحْتَضِراَ ) ( أُرَاقِبُ النَّجْمَ كالحَيْرَانِ مُرْتَقِباً ... وقَلَّصَ النومُ عن عينيّ فانْشَمَرَا ) ( من لوعةٍ أورثتْ قَرْحاً على كَبِدي ... يوماً فأصبحَ منها القلبُ مُنْفطِرا ) ( ومَنْ يَبِتْ مُضْمِراً هَمَّا كما ضَمِنَتْ ... منِّي الضُّلُوعُ يَبِتْ مُسْتَبْطِنَاً غِيَرا ) فاسحتسنه القوم وطربوا وشربوا ثم غناهم ( طَرِبْتَ وهاجَكَ مَنْ تَدَّكِرْ ... ومَنْ لستَ من حُبِّه تَعْتَذِرْ ) ( فإنْ نِلتُ منها الذي أَرتجي ... فذاك لَعَمْرِي الذي أَنْتَظِرْ ) ( وإلاّ صبرتُ فلا مُفْحِشاً ... عليها بِسُوءٍ ولا مُبْتَهِرْ ) لحن الدلال في هذا الشعر خفيف ثقيل أول بالبنصر عن حبش قال وذكر قوم أنه للغريض قال وسكر حتى خلع ثيابه ونام عريانا فغطاه القوم بثيابهم وحملوه إلى منزله ليلا فنوموه وانصرفوا عنه فأصبح وقد تقيأ ولوث ثيابه بقيئه فأنكر نفسه وحلف ألا يغني أبدا ولا يعاشر من يشرب النبيذ فوفى بذلك إلى أن مات وكان يجالس المشيخة والأشراف فيفيض معهم في أخبار الناس وأيامهم حتى قضى نحبه انقضت أخبار الدلال ومما في شعر الأحوص من المائة المختارة صوت من المائة المختارة ( يا دِينَ قَلْبِك منها لست ذاكِرَها ... إلا تَرَقْرَقَ ماءُ العين أو دَمَعا ) ( أدعو إلى هَجْرِها قلبي فَيَتْبَعُني ... حتّى إذا قلتُ هذا صادقٌ نَزَعَا ) ( لا أستطيعُ نُزُوعاً عن مَحَبَّتها ... أو يَصْنَعَ الحُبُّ بي فوق الذي صنَعا ) ( كَمْ مِنْ دَنِيٍّ لها قد صرتُ أتْبَعُه ... ولو سلا القلبُ عنها صار لي تَبَعَا ) ( وزادنَى كَلَفاً في الحُبِّ أنْ منعتْ ... وحَبُّ شيء إلى الإِنسان ما مُنِعاَ ) الشعر للأحوص والغناء ليحيى بن واصل المكي وهو رجل قليل الصنعة غير مشهور ولا وجدت له خبرا فأذكره ولحنه المختار ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق وذكر يونس أن فيه لحنا لمعبد ولم يجنسه أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا مطرف بن عبد الله المدني قال حدثني أبي عن جدي قال بينا أطوف بالبيت ومعي أبي إذا بعجوز كبيرة يضرب أحد لحييها الآخر فقال لي أبي أتعرف هذه قلت لا ومن هي قال هذه التي يقول فيها الأحوص ( يا سَلْمَ ليت لساناً تَنْطِقين به ... قبلَ الذي نالني من حُبِّكم قُطِعَا ) ( يلومني فيكِ أقوامٌ أُجالسهم ... فما أبَالي أطارَ اللومُ أم وَقَعَا ) ( أدعو إلى هَجْرِها قلبي فَيَتْبَعُني ... حتَّى إذا قلتُ هذا صادقٌ نَزَعَا ) قال فقلت له يا أبت ما أرى أنه كان في هذه خير قط فضحك ثم قال يا بني هكذا يصنع الدهر بأهله حدثنا به وكيع قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا أبو خويلد مطرف بن عبد الله المدني عن أبيه ولم يقل عن جده وذكر الخبر مثل الذي قبله صوت من المائة المختارة ( كالبَيْضِ بالأُدْحِيّ يلمَع في الضُّحى ... فالحُسْنُ حسنٌ والنَّعيمُ نعيمُ ) ( حُلِّينَ من دُرِّ البُحورِ كأنّه ... فوق النُّحورِ إذَا يلوح نُجومُ ) الأدحي المواضع التي يبيض فيها النعام واحدتها أدحية وذكر أبو عمرو الشيباني أن الأدحي البيض نفسه ويقال فيه أدحي وأداح أيضا الشعر لطريح بن إسماعيل الثقفي والغناء لأبي سعيد مولى فائد ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه للهذلي خفيف ثقيل من رواية الهشامي وقد سمعنا من يغني فيه لحنا من خفيف الرمل ولست أعرف لمن هو ذكر طريح وأخباره ونسبه هو فيما أخبرني به محمد بن الحسن بن دريد عن عمه عن ابن الكلبي في كتاب النسب إجازة وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبي أيوب المديني عن ابن عائشة ومحمد بن سلام ومصعب الزبيري قال طريح بن إسماعيل بن عبيد بن أسيد بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى بن عنزة بن عوف بن قسي وهو ثقيف بن منبه بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس ابن عيلان بن مضر الخلاف في نسب ثقيف قال ابن الكلبي ومن النسابين من يذكر أن ثقيفا هو قسي بن منبه بن النبيت ابن منصور بن يقدم بن أفصى بن دعمي بن إياد بن نزار ويقال إن ثقيفا كان عبدا لأبي رغال وكان أصله من قوم نجوا من ثمود فانتمى بعد ذلك إلى قيس وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه وكرم وجهه أنه مر بثقيف فتغامزوا به فرجع إليهم فقال لهم يا عبيد أبي رغال إنما كان أبوكم عبدا له فهرب منه فثقفه بعد ذلك ثم انتمى إلى قيس وقال الحجاج في خبطة خطبها بالكوفة بلغني أنكم تقولون إن ثقيفا من بقية ثمود ويلكم وهل نجا من ثمود إلا خيارهم ومن آمن بصالح فبقي معه عليه السلام ثم قال قال الله تعالى ( وثمود فما أبقى ) فبلغ ذلك الحسن البصري فتضاحك ثم قال حكم لكع لنفسه إنما قال عز و جل ( فما أبقى ) أي لم يبقهم بل أهلكهم فرفع ذلك إلى الحجاج فطلبه فتوارى عنه حتى هلك الحجاج وهذا كان سبب تواريه منه ذكر ابن الكلبي أنه بلغه عن الحسن وكان حماد الراوية يذكر أن أبا رغال أبو ثقيف كلها وأنه من بقية ثمود وأنه كان ملكا بالطائف فكان يظلم رعيته فمر بامرأة ترضع صبيا يتيما بلبن عنز لها فأخذها منها وكانت سنة مجدبة فبقي الصبي بلا مرضعة فمات فرماه الله بقارعة فأهلكه فرجمت العرب قبره وهو بين مكة والطائف وقيل بل كان قائد الفيل ودليل الحبشة لما غزوا الكعبة فهلك فيمن هلك منهم فدفن بين مكة والطائف فمر النبي بقبره فأمر برجمه فرجم فكان ذلك سنة قال ابن الكلبي وأخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال كان ثقيف والنخع من إياد فثقيف قسي بن منبه بن النبيت بن يقدم بن أقصى بن دعمي بن إياد والنخع بن عمرو بن الطمنان بن عبد مناة بن يقدم بن أقصى فخرجا ومعهما عنز لهما لبون يشربان لبنها عرض لهما مصدق لملك اليمن فأراد أخذها فقالا له إنما نعيش بدرها فأبى أن يدعها فرماه أحدهما فقتله ثم قال لصاحبه إنه لا يحملني وإياك أرض فأما النخع فمضى إلى بيشة فأقام بها ونزل القسي موضعا قريبا من الطائف فرأى جارية ترعى غنما لعامر بن الظرب العدواني فطمع فيها وقال أقتل الجارية ثم أحوي الغنم فأنكرت الجارية منظره فقالت له إني أراك تريد قتلي وأخذ الغنم وهذا شيء إن فعلته قتلت وأخذت الغنم منك وأظنك غريبا جائعا فدلته على مولاها فأتاه واستجار به فزوجه بنته وأقام بالطائف فقيل لله دره من أثقفه حين ثقف عامرا فأجاره وكان قد مر بيهودية بوادي القرى حين قتل المصدق فأعطته قضبان كرم فغرسها بالطائف فأطعمته ونفعته قال ابن الكلبي في خبر طويل ذكره كان قسي مقيما باليمن فضاق عليه موضعه ونبا به فأتى الطائف وهو يومئذ منازل فهم وعدوان ابني عمرو بن قيس ابن عيلان فانتهى إلى الظرب العدواني وهو أبو عامر بن الظرب فوجده نائما تحت شجرة فأيقظه وقال من أنت قال أنا الظرب قال علي ألية إن لم أقتلك أو تحالفني وتزوجني ابنتك ففعل وانصرف الظرب وقسي معه فلقيه ابنه عامر بن الظرب فقال من هذا معك يا أبت فقص قصته قال عامر لله أبوه لقد ثقف أمره فسمي يومئذ ثقيفا قال وعير الظرب تزويجه قسيا وقيل زوجت عبدا فسار إلى الكهان يسألهم فانتهى إلى شق بن صعب البجلي وكان أقربهم منه فلما انتهى إليه قال إنا قد جئناك في أمر فما هو قال جئتم في قسي وقسي عبد إياد أبق ليلة الواد في وج ذات الأنداد فوالى سعدا ليفاد ثم لوى بغير معاد يعني سعد بن قيس بن عيلان بن مضر قال ثم توجه إلى سطيح الذئبي حي من غسان ويقال إنهم حي من قضاعة نزول في غسان فقال إنا جئناك في أمر فما هو قال جئتم في قسي وقسي من ولد ثمود القديم ولدته أمه بصحراء بريم فالتقطه إياد وهو عديم فاستعبده وهو مليم فرجع الظرب وهو لا يدري ما يصنع في أمره وقد وكد عليه في الحلف والتزويج وكانوا على كفرهم يوفون بالقول فلهذا يقول من قال إن ثقيفا من ثمود لأن إيادا من ثمود قال وقد قيل إن حربا كانت بين إياد وبين قيس وكان رئيسهم عامر بن الظرب فظفرت بهم قيس فنفتهم إلى ثمود وأنكروا أن يكونوا من نزار قال وقال عامر بن الظرب في ذلك ( قالتْ إِيَادٌ قد رأينا نَسَبَا ... في ابْنَيْ نِزَارٍ ورأينا غَلَبَا ) ( سيرِي إيَادُ قد رأينا عَجَبَا ... لا أصلُكم منّا فسَامِي الطَّلَبا ) ( دارَ ثَمُودٍ إِذْ رأيتِ السَّبَبَا ... ) قال وقد روي عن الأعمش أن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قال على المنبر بالكوفة وذكر ثقيفا لقد هممت أن أضع على ثقيف الجزية لأن ثقيفا كان عبدا لصالح نبي الله وإنه سرحه إلى عامل له على الصدقة فبعث العامل معه بها فهرب واستوطن الحرم وإن أولى الناس بصالح محمد وإني أشهدكم أني قد رددتهم إلى الرق قال وبلغنا أن ابن عباس قال وذكر عنده ثقيف فقال هو قسي بن منبه وكان عبدا لامرأة صالح نبي الله وهي الهيجمانة بنت سعد فوهبته لصالح وإنه سرحه إلى عامل له على الصدقة ثم ذكر باقي خبره مثل ما قال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وقال فيه إنه مر برجل معه غنم ومعه ابن له صغير ماتت أمه فهو يرضع من شاة ليست في الغنم لبون غيرها فأخذ الشاة فناشده الله وأعطاه عشرا فأبى فأعطاه جميع الغنم فأبى فلما رأى ذلك تنحى ثم نثل كنانته فرماه ففلق قلبه فقيل له قتلت رسول الله صالح فأتى صالحا فقص عليه قصته فقال أبعده الله فقد كنت أنتظر هذا منه فرجم قبره فإلى اليوم والليلة يرجم وهو أبو رغال قال وبلغنا عن عبد الله بن عباس أن رسول الله حين انصرف من الطائف مر بقبر أبي رغال فقال ( هذا قبر أبي رغال وهو أبو ثقيف كان في الحرم فمنعه الله عز و جل فلما خرج منه رماه الله وفيه عمود من ذهب ) فابتدره المسلمون فأخرجوه قال وروى عمرو بن عبيد عن الحسن أنه سئل عن جرهم هل بقي منهم أحد قال ما أدري غير أنه لم يبق من ثمود إلا ثقيف في قيس عيلان وبنو لجإ في طيئ والطفاوة في بني أعصر قال عمرو بن عبيد وقال الحسن ذكرت القبائل عند النبي فقال ( قبائل تنتمي إلى العرب وليسوا من العرب حمير من تبع وجرهم من عاد وثقيف من ثمود ) قال وروي عن قتادة أن رجلين جاءا إلى عمران بن حصين فقال لهما ممن أنتما قالا من ثقيف فقال لهما أتزعمان أن ثقيفا من إياد قالا نعم قال فإن إيادا من ثمود فشق ذلك عليهما فقال لهما أساء كما قولي قالا نعم والله قال فإن الله أنجى من ثمود صالحا والذين آمنوا معه فأنتم إن شاء الله من ذرية من آمن وإن كان أبو رغال قد أتى ما بلغكما قالا له فما اسم أبي رغال فإن الناس قد اختلفوا علينا في اسمه قال قسي بن مبنه قال وروى الزهري أن النبي قال ( من كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يحب ثقيفا ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يبغض الأنصار ) قال وبلغنا عنه أنه قال ( بنو هاشم والأنصار حلفان وبنو أمية وثقيف حلفان ) قال وفي ثقيف يقول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه ( إذا الثَّقَفيّ فاخركم فقولوا ... هَلُمَّ نَعُد شأنَ أبي رِغَالِ ) ( أبوكم أخبثُ الآباء قِدْماً ... وأنتم مُشْبِهوه على مثالِ ) ( عَبيد الفِزر أورثهم بَنيه ... وولّى عنهم أُخْرَى الليالي ) نسب أم طريح وأم طريح بنت عبد الله بن سباع بن عبد العزى بن نضلة بن غبشان من خزاعة وهم حلفاء بني زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي وسباع بن عبد العزى هو الذي قتله حمزة بن عبد المطلب يوم أحد ولما برز إليه سباع قال له حمزة هلم إلي يابن مقطعة البظور وكانت أمه تفعل ذلك وتقبل نساء قريش بمكة فحمي وحشي لقوله وغضب لسباع فرمى حمزة بحربته فقتله رحمة الله عليه وقد كتب ذلك في خبر غزاة أحد في بعض هذا الكتاب ويكنى طريح أبا الصلت كني بذلك لابن كان له اسمه صلت وله يقول ( يا صَلْتُ إنّ أباك رَهْنُ مَنِيّةٍ ... مكتوبةٍ لا بُدّ أنْ يلقاها ) ( سَلَفتْ سَوالِفُها بأنْفُسِ مَنْ مَضَى ... وكذاك يَتْبَعُ باقياً أُخْرَاها ) ( والدّهرُ يُوشِك أن يُفَرِّقَ رَيْبُه ... بالموت أو رِحَلٍ تَشِتُّ نَوَاها ) ( لا بُدَّ بينكما فتُسْمِع دَعْوةً ... أو تَستجيب لدعوةٍ تُدْعاها ) وأخبرني يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال أخبرني أبو الحسن الكاتب أن أم الصلت بن طريح ماتت وهو صغير فطرحه طريح إلى أخواله بعد موت أمه وفيه يقول ( بات الخيالُ من الصُّلَيْتِ مُؤَرِّقِي ... يَفْرِي السَّراةَ مع الرَّبَابِ المُلْثِقِ ) ( ما راعني إلاّ بياضُ وُجَيْههِ ... تحت الدُّجُنَّة كالِّسراج المُشْرِقِ ) نشأة طريح ونشأ طريح في دولة بني أمية واستفرغ شعره في الوليد بن يزيد وأدرك دولة بني العباس ومات في أيام المهدي وكان الوليد له مكرما مقدما لانقطاعه إليه ولخؤولته في ثقيف فأخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني أحمد بن حماد بن الجميل عن العتبي عن سهم بن عبد الحميد قال أخبرني طريح بن إسماعيل الثقفي قال خصصت بالوليد بن يزيد حتى صرت أخلو معه فقلت له ذات يوم وأنا معه في مشربة يا أمير المؤمنين خالك يحب أن تعلم شيئا من خلقه قال وما هو قلت لم أشرب شرابا قط ممزوجا إلا من لبن أو عسل قال قد عرفت ذاك ولم يباعدك من قلبي قال ودخلت يوما إليه وعنده الأمويون فقال لي إلي يا خالي وأقعدني إلى جانبه ثم أتي بشراب فشرب ثم ناولني القدح فقلت يا أمير المؤمنين قد أعلمتك رأيي في الشراب قال ليس لذلك أعطيتك إنما دفعته إليك لتناوله الغلام وغضب فرفع القوم أيديهم كأن صاعقة نزلت على الخوان فذهبت أقوم فقال أقعد فلما خلا البيت افترى علي ثم قال يا عاض كذا وكذا أردت أن تفضحني ولولا أنك خالي لضربتك ألف سوط ثم نهى الحاجب عن إدخالي وقطع عني أرزاقي فمكثت ما شاء الله ثم دخلت عليه يوما متنكرا فلم يشعر إلا وأنا بين يديه وأنا أقول ( يابنَ الخلائفِ مالي بعدَ تَقْربةٍ ... إليك أقْصَى وفي حالَيْك لي عَجَبُ ) ( مالي أُذَادُ وأُقْصَى حين أَقصِدُكم ... كما تُوَقِّيَ من ذي العرّة الجَرَبُ ) ( كأنّني لم يكن بيني وبينكُم ... إلٌّ ولا خُلَّةٌ تُرْعَى ولا نَسبُ ) ( لو كان بالوُدّ يُدْنَى منك أزْلَفَني ... بِقُربْك الودُّ والإِشفاقُ والحَدَبُ ) ( وكنتُ دون رجالٍ قد جعلتُهُم ... دوني إذ ما رأَوْني مُقْبِلاً قَطَبُوا ) ( إنْ يَسْمَعُوا الخير يُخْفُوهُ وإِنْ سَمِعوا ... شَرّاً أذاعُوا وإن لم يَسمعوا كَذَبُوا ) ( رأَوْا صُدودَك عنِّي في اللِّقاء فقد ... تحدَّثوا أنَّ حبلي منكَ مُنْقَضِبُ ) ( فذوا الشَّماتةِ مسرورٌ بهَيْضَتِنا ... وذوا النَّصيحةِ والإِشفاقِ مكتئبُ ) قال فتبسم وأمرني بالجلوس فجلست ورجع إلي وقال إياك أن تعاود وتمام هذه القصيدة ( أين الذِّمامَةُ والحَقُّ الذي نزلتْ ... بحِفْظه وبتعظيمٍ له الكُتُبُ ) ( وحَوْكِيَ الشِّعْرَ أُصْفِيهِ وأَنْظِمهُ ... نظمَ القلائدِ فيها الدُّرُّ والذهبُ ) ( وإنَّ سُخْطَكَ شيءٌ لم أُنَاجِ به ... نفسي ولم يك مما كنتُ أكتسِبُ ) ( لكن أتاك بقَوْلٍ كاذبٍ أَثِمٍ ... قومٌ بَغوْني فنالوا فيّ ما طلبوا ) ( وما عَهِدْتُكَ فيما زَلَّ تقْطَعُ ذا ... قُرْبَى ولا تدفع الحقَّ الذي يجب ) ( ولا تَوَجّعُ من حَقٍّ تَحَمِّلُه ... ولا تَتَبَّعُ بالتكدير ما تَهَبُ ) ( فقد تقرّبتُ جهداً من رَضاك بما ... كانت تُنالُ به من مثلك القُرَبُ ) ( فغير دَفْعِكَ حَقِّي وارتفاضِكَ لي ... وطَيِّكَ الكَشْحَ عنِّي كنت أحتسبُ ) ( أمُشِمتٌ بِيَ أقواماً صُدُورُهُمُ ... عليّ فيك إلى الأذقانِ تَلْتَهِبُ ) ( قد كنتُ أحسبُ أنِّي قد لجأتُ إلى ... حِرْزٍ وألاّ يَضرُّوني وإنْ ألبُوا ) ( إنّ التي صُنْتُها عن مَعْشَرٍ طَلبوا ... منِّي إليّ الذي لم يُنْجِحِ الطَّلَبُ ) ( أخلصتُها لك إخلاصَ امرئٍ علِم الأقوامُ ... أنْ ليس إلاّ فيك يَرتَغبُ ) ( أصبحتَ تدفَعها منِّي وأَعْطِفُها ... عليكَ وَهْي لمن يُجْبَى بها رَغبُ ) ( فإنْ وصلتَ فأهل العُرْف أنت وإنْ ... تَدْفَعْ يَديَّ فلي بقْيَا ومُنْقَلبُ ) ( إنيِّ كريمُ كِرامٍ عشتْ في أَدَبٍ ... نَفى العيوبَ ومَلْكُ الشِّيمةِ الأدَبُ ) ( قد يَعلمون بأنَّ العُسْرَ منقطعٌ ... يوماً وأنَّ الغنَى لا بدّ منقلبُ ) ( فمالُهُمْ حُبُسٌ في الحقِّ مُرْتَهَنُ ... مثل الغنائم تُحْوَى ثم تُنْتَهَبُ ) ( وما علي جارِهمُ ألاّ يكونَ له ... إذا تَكَنَّفَه أبياتُهم نَشَبُ ) ( لا يفرَحون إذا ما الدَّهْرُ طاوَعَهم ... يوماً بُيسْرٍ ولا يَشكُون إنْ نُكِبُوا ) ( فارقتُ قومي فلم أعتضْ بهم عِوَضاً ... والدَّهرُ يُحْدِثُ أحداثاً لها نُوَبُ ) رواية أخرى عن خلاف طريح مع الوليد بن يزيد وأما المدائني فقال كان الوليد بن يزيد يكرم طريحا وكانت له منه منزلة قريبة ومكانه وكان يدني مجلسه وجعله أول داخل وآخر خارج ولم يكن يصدر إلا عن رأيه فاستفرغ مديحه كله وعامة شعره فيه فحسده ناس من أهل بيت الوليد وقدم حماد الرواية على التفئة الشأم فشكوا ذلك إليه وقالوا والله لقد ذهب طريح بالأمير فما نالنا منه ليل ولا نهار فقال حماد ابغوني من ينشد الأمير بيتين من شعر فأسقط منزلته فطلبوا إلى الخصي الذي كان يقوم على رأس الوليد وجعلوا له عشرة آلاف درهم على أن ينشدهما الأمير في خلوة فإذا سأله من قول من هذا قال من قول طريح فأجابهم الخصي إلى ذلك وعلموه البيتين فلما كان ذات يوم دخل طريح على الوليد وفتح الباب وأذن للناس فجلسوا طويلا ثم نهضوا وبقي طريح مع الوليد وهو ولي عهد ثم دعا بغدائه فتغديا جميعا ثم إن طريحا خرج وركب إلى منزله وترك الوليد في مجلسه ليس معه أحد فاستلقى على فراشه واغتنم الخصي خلوته فاندفع ينشد ( سيرِي ركابي إلى مَنْ تَسْعَدِين به ... فقد أقمتِ بدار الهُونِ ما صَلَحا ) ( سِيرِي إلى سَيِّدٍ سَمْحٍ خلائقُه ... ضخمِ الدَّسيعةِ قَرْمٍ يحمِل المِدَحَا ) فأصغى الوليد إلى الخصي بسمعه وأعاد الخصي غير مرة ثم قال الوليد ويحك يا غلام من قول من هذا قال من قول طريح فغضب الوليد حتى امتلأ غيظا ثم قال والهفا على أم لم تلدني قد جعلته أول داخل وآخر خارج ثم يزعم أن هشاما يحمل المدح ولا أحملها ثم قال علي بالحاجب فأتاه فقال لا أعلم ما أذنت لطريح ولا رأيته على وجه الأرض فإن حاولك فاخطفه بالسيف فلما كان العشي وصليت العصر جاء طريح للساعة التي كان يؤذن له فيها فدنا من الباب ليدخل فقال له الحاجب وراءك فقال مالك هل دخل على ولي العهد أحد بعدي قال لا ولكن ساعة وليت من عنده دعاني فأمرني ألا آذن لك وإن حاولتني في ذلك خطفتك بالسيف فقال لك عشرة آلاف درهم واذن لي في الدخول عليه فقال له الحاجب والله لو أعطيتني خراج العراق ما أذنت لك في ذلك وليس لك من خير في الدخول عليه فارجع قال ويحك هل تعلم من دهاني عنده قال الحاجب لا والله لقد دخلت عليه وما عنده أحد ولكن الله يحدث ما يشاء في الليل والنهار قال فرجع طريح وأقام بباب الوليد سنة لا يخلص إليه ولا يقدر على الدخول عليه وأراد الرجوع إلى بلده وقومه فقال والله إن هذا لعجز بي أن أرجع من غير أن ألقى ولي العهد فأعلم من دهاني عنده ورأى أناسا كانوا له أعداء قد فرحوا بما كان من أمره فكانوا يدخلون على الوليد ويحدثونه ويصدر عن رأيهم فلم يزل يلطف بالحاجب ويمنيه حتى قال له الحاجب أما إذا أطلت المقام فإني أكره أن تنصرف على حالك هذه ولكن الأمير إذا كان يوم كذا وكذا دخل الحمام ثم أمر بسريره فأبرز وليس عليه يومئذ حجاب فإذا كان ذلك اليوم أعلمتك فتكون قد دخلت عليه وظفرت بحاجتك وأكون أنا على حال عذر فلما كان ذلك اليوم دخل الحمام وأمر بسريره فأبرز وجلس عليه وأذن للناس فدخلوا عليه والوليد ينظر إلى من أقبل وبعث الحاجب إلى طريح فأقبل وقد تتام الناس فلما نظر الوليد إليه من بعيد صرف عنه وجهه واستحيا أن يرده من بين الناس فدنا فسلم فلم يرد عليه السلام فقال طريح يستعطفه ويتضرع إليه ( نام الخَليُّ من الهُمومِ وبات لِي ... ليلٌ أُكَابِدُه وهَمٌّ مُضْلِعُ ) ( وسَهِرْتُ لا أَسْرِي ولا في لَذّةٍ ... أرَقي وأغْفَل ما لَقيتُ الهُجَّعُ ) ( أبغي وجوَه مَخَارجي من تُهْمةٍ ... أَزَمتْ عليّ وسُدَّ منها المَطْلَعُ ) ( جزعاً لمَعْتَبِة الوليدِ ولم أكُنْ ... من قبلِ ذاك من الحوادث أَجْزَعُ ) ( يابنَ الخلائفِ إنّ سُخْطَك لامرئٍ ... أمسيتَ عِصْمَته بلاءٌ مُفْظِعُ ) ( فَلانْزِعنّ عن الذي لم تَهْوَه ... إنْ كان لي ورأيتُ ذلك مَنْزعُ ) ( فاعْطِفْ فِدَاك أبي عليّ تَوَسُّعاً ... وفضيلةً فعلى الفضيلة تتبعُ ) ( فلقد كفاكَ وزادَ ما قد نالني ... إن كنتَ لي ببلاء ضُرٍّ تَقْنَعُ ) ( سِمَةٌ لذاك عليَّ جِسْمٌ شاحبٌ ... بادٍ تَحسُّرُه ولونٌ أَسْفَعُ ) ( إنّ كنتَ في ذنبٍ عتبتَ فإِنّني ... عمّا كَرهتَ لنازعٌ متضرِّعُ ) ( ويئستُ منك فكلُّ عُسْرٍ باسطٌ ... كفّاً إليّ وكلُّ يُسْرٍ أقْطَعُ ) ( من بعد أخْذِي من حبالك بالّذي ... قد كنتُ أحسَبُ أنّه لا يُقْطَع ) ( فاربُبْ صنيعَك بي فإنّ بأعينِ ... للكاشحين وسمْعِهم ما تصنَع ) ( أدَفعتَني حتى انقطعتُ وسُدِّدتْ ... عني الوجوه ولم يكن لي مَدْفَعُ ) ( ورُجِيتُ واتّقِيَتْ يدايَ وقيل قد ... أمسي يَضُرُّ إذا أحبَّ ويَنفع ) ( ودخلتُ في حرم الذِّمام وحاطَني ... خَفَرٌ أخذت به وعهدٌ مُولِعُ ) ( أفهادِمٌ ما قد بنيتَ وخافضٌ ... شرفي وأنت لغير ذلك أوسعُ ) ( أفلا خَشيتَ شَماتَ قومٍ فُتَّهم ... سَبْقاً وأنفُسهم عليك تَقَطَّعُ ) ( وفَضلتَ في الحَسبِ الأشَمِّ عليهم ... وصنعتَ في الأقوامِ ما لم يصنعوا ) ( فكأنَّ انُفهَمْ بكلِّ صنيعةٍ ... أسديتها وجميل فعلٍ تُجْدَعُ ) ( وَدُّوا لَو أنَّهُم ينال أكُفِّهُمْ ... شَلَل وأنِّك عن صَنيعَك تنْزعُ ) ( أو تسْتليمُ فيجعلونك أُسْوةً ... وأبى المَلاَم لك النَّدَى والمَوْضِعُ ) قال فقربه وأدناه وضحك إليه وعاد له إلى ما كان عليه أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا محمد بن عبد الله بن حمزة بن عتبة اللهبي عن أبيه أن طريحا دخل على أبي جعفر المنصور وهو في الشعراء فقال له لا حياك الله ولا بياك أما اتقيت الله ويلك حيث تقول للوليد بن يزيد ( لو قلتَ للسيل دَعْ طريقَك والموج ... عليه كالهَضْبِ يَعْتَلِج ) ( لساخ وارتدّ أو لكانَ له ... في سائر الأرض عنك مُنْعَرَجُ ) فقال له طريح قد علم الله عز و جل أني قلت ذاك ويدي ممدودة إليه عز و جل وإياه تبارك وتعالى عنيت فقال المنصور يا ربيع أما ترى هذا التخلص مدح الوليد فأطربه نسخت من كتاب أحمد بن الحارث مما أجاز لي أبو أحمد الجريري روايته عنه حدثنا المدائني أن الوليد جلس يوما في مجلس له عام ودخل إليه أهل بيته ومواليه والشعراء وأصحاب الحوائج فقضاها وكان أشرف يوم رئي له فقام بعض الشعراء فأنشد ثم وثب طريح وهو عن يسار الوليد وكان أهل بيته عن يمينه وأخواله عن شماله وهو فيهم فأنشده صوت ( أنت ابنُ مُسْلَنْطِح البِطَاحِ ولم ... تُطْرقْ عليك الحُنِيُّ والوُلُجُ ) ( طوبَى لفَرْعَيْك من هنا وهنا ... طُوبَى لأعراقك التي تَشِجُ ) ( لو قلتَ للسيل دَعْ طريقَك والموجُ ... عليه كالهَضْبِ يعتلِجُ ) ( لساخَ وارتدّ أو لكانَ له ... في سائر الأرض عنك مُنْعَرَجُ ) فطرب الوليد بن يزيد حتى رئي الارتياح فيه وأمر له بخمسين ألف درهم وقال ما أرى أحدا منكم يجيئني اليوم بمثل ما قال خالي فلا ينشدني أحد بعده شيئا وأمر لسائر الشعراء بصلات وانصرفوا واحتبس طريحا عنده وأمر ابن عائشة فغنى هذا الشعر نسبة هذا الصوت ( أنت ابنُ مُسْلَنْطِح البِطاح ولم ... تُطْرِق عليك الحُنِيُّ والوُلُجُ ) الأبيات الأربعة عروضه من المنسرح غناه ابن عائشة ولحنه رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق المسلنطح من البطاح ما اتسع واستوى سطحه منها وتطرق عليك تطبق عليك وتغطيك وتضيق مكانك يقال طرقت الحادثة بكذا وكذا إذا أتت بأمر ضيق معضل والوشيج أصول النبت يقال أعرقك واشجة في الكرم أي نابتة فيه قال الشاعر ( وهل يُنبِتُ الخَطِّيَّ إلاّ وِشَيجُه ... وتَنْبُت إلاّ في مَغَارسها النِّخْلُ ) يعني أنه كريم الأبوين من قريش وثقيف وقد ردد طريح هذا المعنى في الوليد فقال في كلمة له ( واعتامَ كَهْلُك من ثَقِيفٍ كُفْأه ... فتنازعاكَ فأنت جَوْهَرُ جوهرِ ) ( فنَمَتْ فروعُ القَرْيَتَيْن قُصَيُّها ... وقَسِيّها بك في الأشمّ الأكبرِ ) والحني ما انخفص من الأرض والواحدة حنا والجمع حني مثل عصا وعصي والولج كل متسع في الوادي الواحدة ولجة ويقال الولجات بين الجبال مثل الرحاب أي لم تكن بين الحني ولا الولج فيخفى مكانك أي لست في موضع خفي من الحسب وقال أبو عبيدة سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقول لآخر يفخر عليه أنا ابن مسلنطح البطاح وابن كذا وكذا فقال له عمر إن كان لك عقل فلك أصل وإن كان لك خلق فلك شرف وإن كان لك تقوى فلك كرم وإلا فذاك الحمار خير منك أحبكم إلينا قبل أن نراكم أحسنكم سمتا فإذا تكلمتم فأبينكم منطقا فإذا اختبرناكم فأحسنكم فعلا وقوله لو قلت للسيل دع طريقك يقول أنت ملك هذا الأبطح والمطاع فيه فكل من تأمره يطيعك فيه حتى لو أمرت السيل بالانصراف عنه لفعل لنفوذ أمرك وإنما ضرب هذا مثلا وجعله مبالغة لأنه لا شيء أشد تعذرا من هذا وشبهه فإذا صرفه كان على كل شيء سواه أقدر وقوله لساخ أي لغاض في الأرض وارتد أي عدل عن طريقه وإن لم يجد إلى ذلك سبيلا كان له منعرج عنك إلى سائر الأرض ابن عائشة استعرض الوليد بأن غنى له في شعر طريح أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال إسحاق وحدثني به الواقدي عن أبي الزناد عن إبراهيم بن عطية أن الوليد بن يزيد لما ولي الخلافة بعث إلى المغنين بالمدينة ومكة فأشخصهم إليه وأمرهم أن يتفرقوا ولا يدخلوا نهارا لئلا يعرفوا وكان إذ ذاك تيستر في أمره ولا يظهره فسبقهم ابن عائشة فدخل نهارا وشهر أمره فحبسه الوليد وأمر به فقيد وأذن للمغنين وفيهم معبد فدخلوا عليه دخلات ثم إنه جمعهم ليلة فغنوا له حتى طرب وطابت نفسه فلما رأى ذلك منه معبد قال لهم أخوكم ابن عائشة فيما قد علمتم فاطلبوا فيه ثم قال يا أمير المؤمنين كيف ترى مجلسنا هذا قال حسنا لذيذا قال فكيف لو رأيت ابن عائشة وسمعت ما عنده قال فعلي به فطلع ابن عائشة يرسف في قيده فلما نظر إليه الوليد اندفع ابن عائشة فغناه في شعر طريح والصنعة فيه له ( أنت ابنُ مُسْلَنْطِح البِطَاح ولم ... تُطْرِقْ عليك الحُنِيُّ والوُلُجُ ) فصاح الوليد اكسروا قيده وفكوا عنه فلم يزل عنده أثيرا مكرما أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد عن الحزامي عن عثمان بن حفص عن إبراهيم بن عبد السلام بن أبي الحارث الذي يقول له عمر بن أبي ربيعة ( يا أبا الحارث قلبي طائرٌ ... فأْتَمرْ أمْرَ رَشيدٍ مُؤْتَمَنْ ) قال والله إني لقاعد مع مسلمة بن محمد بن هشام إذ مر به ابن جوان بن عمر بن أبي ربيعة وكان يغني فقال له اجلس يابن أخي غننا فجلس فغنى ( أنت ابن مُسْلَنْطِح البِطَاحِ ولم ... تطْرِقْ عليك الحُنِيُّ والوُلُجُ ) فقال له يابن أخي ما أنت وهذا حين تغناه ولا حظ لك فيه هذا قاله طريح فينا ( إذ النَّاسُ ناسٌ والزِّمانُ زمانُ ... ) ومما في المائة الصوت المختارة من الأغاني من أشعار طريح بن إسماعيل التي مدح بها الوليد بن يزيد صوت من المائة المختارة ( وَيْحي غَداً إنْ غَدَا عليِّ بما ... أحْذَرُ من لَوْعَةِ الفِرَاقِ غَدُ ) ( وكيف صَبْرِي وقد تجاوبَ بالفُرْقَةِ ... مِنْها الغُراب والصُّرَدُ ) الشعر لطريح بن إسماعيل والغناء لابن مشعب الطائفي ولحنه المختار من الرمل بالوسطى ذكر ابن مشعب وأخباره هو رجل من أهل الطائف مولى لثقيف وقيل إنه من أنفسهم وانتقل إلى مكة فكان بها وإياه يعني العرجي بقوله ( بِفنَاءِ بيتِك وابنُ مِشْعَبَ حاضرٌ ... في سَامرٍ عَطِر وليلٍ مُقْمِرِ ) ( فَتَلاَزَمَا عند الفِراق صبابةً ... أَخْذَ الغَرِيم بفضل ثوب المُعْسِرِ ) أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال ابن مشعب مغن من أهل الطائف وكان من أحسن الناس غناء وكان في زمن ابن سريج والأعرج وعامة الغناء الذي ينسب إلى أهل مكة له وقد تفرق غناؤه فنسب بعضه إلى ابن سريج وبعضه إلى الهذليين وبعضه إلى ابن محرز قال ومن غنائه الذي ينسب إلى ابن محرز ( يا دارَ عَاتِكَةَ التي بالأزْهَرِ ... ) ومنه أيضا ( أقفرَ ممن يَحُلُّه السِّنَدُ ... فالمُنْحَنَي فالعَقِيقُ فالجُمُدُ ) أخبرني الحسين قال قال حماد وحدثني أبي قال مرض رجل من أهل المدينة بالشأم فعاده جيرانه وقالوا له ما تشتهي قال أشتهي إنسانا يضع فمه على أذني ويغنيني في بيتي العرجي ( بِفَنَاءِ بَيْتِك وابنُ مِشْعَبَ حاضرٌ ... في سامرٍ عَطِرٍ وليلٍ مُقْمِرِ ) ( فَتَلاَزَمَا عند الفِرَاقِ صبابةً ... أَخْذَ الغريمُ بفضل ثوبِ المُعْسِرِ ) نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني ( يا دارَ عاتِكةَ الّتي بالأَزْهَرِ ... أو فوقَه بَقَفَا الكَثِيبِ الأحمرِ ) ( بِفناء بيتِك وابنُ مِشْعَبَ حاضرٌ ... في سَامرٍ عَطرٍ وليلٍ مُقْمِرِ ) ( فتلازمَا عند الفراق صبابةً ... أَخْذَ الغريمِ بفضل ثوب المُعْسِرِ ) الشعر للعرجي والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالبنصر وذكر إسحاق أنه لابن مشعب وذكر حبش وذكر حبش أن فيه لابن المكي هزجا خفيفا بالبنصر وأما الصوت الآخر الذي أوله ( أَقفرَ ممن يَحُلُّه السَّنَدُ ... ) فإنه الصوت الذي ذكرناه الذي فيه اللحن المختار وهو أول قصيدة طريح التي منها ( وَيْحي غداً إنّ غَدَا عليّ بما ... أكره من لَوْعِة الفِرَاق غدُ ) وليس يغني فيه في زماننا هذا وهذه القصيدة طويلة يمدح فيها طريح الوليد بن يزيد يقول فيها ( لم يَبْقَ فيها من المَعَارِفِ بعد ... الحَيّ إلاّ الرَّمَادُ والوَتِدُ ) ( وعَرْصةٌ نَكَّرتْ مَعَالِمَها الريحُ ... بها مَسْجِدٌ ومُنْتَضَدُ ) المنصور يمدح قصيدة لطريح أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني محمد بن خلف القارئ قال أخبرنا هارون بن محمد وأخبرنا به وكيع وأظنه هو الذي كنى عنه يحيى بن علي فقال محمد بن خلف القارئ قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني علي بن عبد الله اللهبي قال حدثنا أبي عن أبيه قال أنشد المنصور هذه القصيدة فقال للربيع أسمعت أحدا من الشعراء ذكر في باقي معالم الحي المسجد غير طريح وهذه القصيدة من جيد قصائد طريح يقول فيها ( لم أنْس سلمى ولا ليَالِينَا ... بالحَزْنِ إذ عيشُنا بها رَغَدُ ) ( إذْ نحن في مَيْعة الشَّبَاب وإذْ ... أيّامُنا تلك غَضّةٌ جُدُدُ ) ( في عِيشةٍ كالفِريْد عازبةِ الشِّقوةِ ... خَضْرَاءَ غُصْنُها خَضَدُ ) ( نُحْسَدُ فيها على النَّعيم وما ... يُولَعُ إلاّ بالنَّعْمة الحَسَدُ ) ( أيّامَ سَلْمَى غَرِيرةٌ أُنُفٌ ... كأنَّها خُوطُ بانةٍ رُؤدُ ) ( وَيْحِي غَداً إنْ غَدَا عليّ بما ... أكره من لَوْعةِ الفِراق غَدُ ) ( قد كنتُ أبكي من الفراق وحَيَّانَا ... جميعٌ ودارُنا صَدَدُ ) ( فيكف صَبْرِي وقد تَجاوَبَ بالفُرقة ... منها الغُرابُ والصُّرَدُ ) ( دَعْ عنك سَلْمَى لغير مَقْلِيَةٍ ... وعُدَّ مَدْحاً بُيوتُه شُرُدُ ) ( للأَفْضَل الأَفْضَل الخليفة عبد ... الله من دون شَأْوِه صُعُدُ ) ( في وجهه النُّورُ يُسْتبانُ كما ... لاح سِراجُ النَّهار إذ يَقِدُ ) ( يمضي على خير ما ي قول ولا ... يخلف ميعادَه إذا يَعِد ) ( من مَعْشَرٍ لا يَشَمُّ مَنْ خّذَلُوا ... عِزّاً ولا يُسْتَذَلُّ مَنْ رَفَدُوا ) ( بِيضٌ عظامُ الحلومِ حَدُّهُمُ ... ماضٍ حُسَامٌ وخيرُهم عَتَدُ ) ( أنت إيامُ الهدي الذي أصلَح الله ... به الناسَ بعدما فَسَدُوا ) ( لمّا أتى الناسَ أنّ مُلْكَهُمُ ... إليكَ قد صار أمره سجَدوا ) ( واستبشروا بالرضا تَبَاشُرَهم ... بالخُلْدِ لو قيل إنّكم خُلُدُ ) ( وَعَجَّ بالحمد أهلُ أرضِك حتّى ... كاد يَهْتَزّ فرحةً أُحُدُ ) ( واستقبل الناسُ عِيشةً أُنُفاً ... إنْ تبق فيها لهم فقد سَعِدوا ) ( رُزِقتَ من ودِّهم وطاعتهم ... ما لم يَجِدْه لِوالدٍ وَلَد ) ( أَثْلَجهمْ منك أنَّهم عَلِموا ... أنّك فيما وَلِيتَ مُجتهِدُ ) ( وأنّ ما قد صنعتَ من حَسَنٍ ... مِصْداقُ ما كنتَ مَرّةً تَعِدُ ) ( ألَّفْتَ أهواءهمُ فأصبحتِ الأضغانُ ... سِلْماً وماتتِ الحِقَدُ ) ( كنتُ أرى أنّ ما وجدتُ من الفَرْحةِ ... لم يلقَ مثلَه أَحَدُ ) ( حتى رأيت العبادَ كلَّهمُ ... قد وجدوا من هواك ما أَجِدُ ) صوت ( قد طلب الناسُ ما بلغتَ فما ... نالوا ولا قاربوا وقد جَهَدوا ) ( يرفَعُك اللهُ بالتَّكَرُّمِ والتقْوَى ... فتعلو وأنت مُقْتَصِدُ ) ( حَسْبُ امرءٍ من غِنًى تَقَرُّبُه ... منك وإن لم يكن له سَبَدُ ) ( فأنت أمْنٌ لمن يَخاف وللمَخْذولِ ... أودى نصيرهُ عَضُدُ ) غنى في هذه الأبيات الأربعة إبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر ( كلُّ امرئٍ ذي يدٍ تُعَدّ عليه ... منك معلومة يَدٌ ويدُ ) ( فهم ملوكٌ ما لم يَرَوْكَ فإِنْ ... دَاناهُمُ منكَ منزلٌ خَمَدوا ) ( تعروهم رِعْدةٌ لديكَ كما ... قَفْقَفَ تحت الدُّجُنَّةِ الصَّرِدُ ) ( لا خوفَ ظُلْمٍ ولا قِلَى خُلُقٍ ... إلاّ جَلالاً كَسَاكَهُ الصَّمَدُ ) ( وأنت عَمْرٌ النَّدى إذا هَبَط الزُّوّارُ ... أرضاً تَحُلُّها حُمِدُوا ) ( فهم رِفاقٌ فرْفْقةٌ صَدَرتْ ... عنكَ بغُنْمٍ ورُفْقةٌ تَرِدُ ) ( إنْ حال دهرٌ فإِنّك لا ... تَنْفَكُّ عن حالِك التي عَهِدوا ) ( قد صدّق اللهُ مادِحيك فما ... في قولهم فِرْيةٌ ولا فَنَدُ ) علم جعفر بن يحيى بالأشعار والألحان أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال سمعت إسحاق بن إبراهيم الموصلي يحلف بالله الذي لا إله إلا هو إنه ما رأى أذكى من جعفر بن يحيى قط ولا أفطن ولا أعلم بكل شيء ولا أفصح لسانا ولا أبلغ في مكاتبة قال ولقد كنا يوما عند الرشيد فغنى أبي لحنا في شعر طريح بن إسماعيل وهو ( قد طلب الناسُ ما بلغتَ فما ... نالوا ولا قاربوا وقد جَهَدُوا ) فاستحسن الرشيد اللحن والشعر واستعاده ووصل أبي عليه وكان اللحن في طريقة خفيف الثقيل الأول فقال جعفر بن يحيى قد والله يا سيدي أحسن ولكن اللحن مأخوذ من لحن الدلال الذي غناه في شعر أبي زبيد ( مَنْ يَرَ العِيرَ لابنَ أرَوى على ظَهْرِ ... المَرَوْرى حُدَاتُهُنَّ عجالُ ) وأما الشعر فنقله طريح من قول زهير ( سعَى بعدَهم قومُ لكي يُدركوهُمُ ... فلم يَبْلُغُوا ولم يُلاَمُوا ولم يأْلُوا ) قال إسحاق فعجبت والله من علمه بالألحان والأشعار وإذا اللحن يشبه لحن الدلال قال وكذلك الشعر فاغتممت أني لم أكن فهمت اللحن وكان ذلك أشد علي من ذهاب أمر الشعر علي وأنا والله مع ذلك أغني الصوتين وأحفظ الشعرين قال الحسين ولحن الدلال في شعر أبي زبيد هذا من خفيف الثقيل أيضا طريح يذكر لأبي ورقاء قصته مع أعرابي عاشق أخبرني يحيى بن علي بن يحيى إجازة قال حدثني أبو الحسن البلاذري أحمد ابن يحيى وأبو أيوب المديني قال البلاذري وحدثني الخرمازي وقال أبو أيوب وحدثونا عن الحرمازي قال حدثني أبو القعقاع سهل بن عبد الحميد عن أبي ورقاء الحنفي قال خرجت من الكوفة أريد بغداد فلما صرت إلى أول خان نزلته بسط غلماننا وهيأوا غداءهم ولم يجئ أحد بعد إذ رمانا الباب برجل فاره البرذون حسن الهيئة فصحت بالغلمان فأخذوا دابته فدفعها إليهم ودعوت بالغداء فبسط يديه غير محتشم وجعلت لا أكرمه بشيء إلا قبله ثم جاء غلمانه بعد ساعة في ثقل سري وهيئة حسنة فتناسبنا فإذا الرجل طريح بن إسماعيل الثقفي فلما ارتحلنا ارتحلنا في قافلة غناء لا يدرك طرفاها قال فقال لي ما حاجتنا إلى زحام الناس وليست بنا إليهم وحشة ولا علينا خوف نتقدمهم بيوم فيخلوا لنا الطريق ونصادف الخانات فارغة ونودع أنفسنا إلى أن يوافوا قلت ذلك إليك قال فأصبحنا الغد فنزلنا الخان فتغدينا وإلى جانبنا نهر ظليل فقال هل لك أن نستنقع فيه فقلت له شأنك فلما سرا ثيابه إذا ما بين عصعصه إلى عنقه ذاهب وفي جنبيه أمثال الجرذان فوقع في نفسي منه شيء فنظر إلي ففطن وتبسم ثم قال قد رأيت ذعرك مما رأيت وحديث هذا إذا سرنا العشية إن شاء الله تعالى أحدثك به قال فلما ركبنا قلت الحديث قال نعم قدمت من عند الوليد بن يزيد بالدنيا وكتبت إلى يوسف بن عمر مع فراش فملأ يدي أصحابي فخرجت أبادر الطائف فلما امتد لي الطريق وليس يصحبني فيه خلق عن لي أعرابي على بعير له فحدثني فإذا هو حسن الحديث وروى لي الشعر فإذا هو راوية وأنشدني لنفسه فإذا هو شاعر فقلت له من أين أقبلت قال لا أدري قلت فأين تريد فذكر قصة يخبر فيها أنه عاشق لمريئة قد أفسدت عليه عقله وسترها عنه أهلها وجفاه أهله فإنما يستريح إلى الطريق ينحدر مع منحدريه ويصعد مع مصعديه قلت فأين هي قال غدا ننزل بإزائها فلما نزلنا أراني ظربا على يسار الطريق فقال لي أترى ذلك الظرب قلت أراه قال فإنها في مسقطه قال فأدركني أريحية الشباب فقلت أنا والله آتيها برسالتك قال فخرجت وأتيت الظرب وإذا بيت حريد وإذا فيه امرأة جميلة ظريفة فذكرته لها فزفرت زفرة كادت أضلاعها تساقط ثم قالت أوحي هو قلت نعم تركته في رحلي وراء هذا الظرب ونحن بائتون ومصبحون فقالت يا أبي أرى لك وجها يدل على خير فهل لك في الأجر فقلت فقير والله إليه قالت فالبس ثيابي وكن مكاني ودعني حتى آتيه وذلك مغيربان الشمس قلت أفعل قالت إنك إذا أظلمت أتاك زوجي في هجمة من إبله فإذا بركت أتاك وقال يا فاجرة يا هنتاه فيوسعك شتما فأوسعه صمتا ثم يقول اقمعي سقاءك فضع القمع في هذا السقاء حتى يحقن فيه وإياك وهذا الآخر فإنه واهي الأسفل قال فجاء ففعلت ما أمرتني به ثم قال اقمعي سقاءك فحينني الله فتركت الصحيح وقمعت الواهي فما شعر إلا باللبن بين رجليه فعمد إلى رشاء من قد مربوع فثناه باثنين فصار على ثمان قوى ثم جعل لا يتقي مني رأسا ولا رجلا ولا جنبا فخشيت أن يبدو له وجهي فتكون الأخرى فألزمت وجهي الأرض فعمل بظهري ما ترى ذكر أخبار أبي سعيد مولى فائد ونسبه جمع الشعر إلى جانب الغناء أبو سعيد مولى فائد وفائد مولى عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه وذكر ابن خرداذبة أن اسم أبي سعيد إبراهيم وهو يعرف في الشعراء بابن أبي سنة مولى بني أمية وفي المغنين بأبي سعيد مولى فائد وكان شاعرا مجيدا ومغنيا وناسكا بعد ذلك فاضلا مقبول الشهادة بالمدينة معدلا وعمر إلى خلافة الرشيد ولقيه إبراهيم بن المهدي وإسحاق الموصلي وذووهما وله قصائد جياد في مراثي بني أمية الذين قتلهم عبد الله وداود ابنا علي بن عبد الله بن العباس يذكر هاهنا في موضعه منها ما تسوق الأحاديث ذكره أخبرني علي بن عبد العزيز عن عبيد الله بن عبد الله عن إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى عن ابن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه وأخبرنا به يحيى بن علي عن أخيه أحمد بن علي عن عافية بن شبيب عن أبي جعفر الأسدي عن إسحاق قال يحيى خاصة في خبره قال إسحاق حججت مع الرشيد فلما قربت من مكة استأذنته في التقدم فأذن لي فدخلت مكة فسألت عن أبي سعيد مولى فائد فقيل لي هو في المسجد الحرام فأتيت المسجد فسألت عنه فدللت عليه فإذا هو قائم يصلي فجئت فجلست قريبا منه فلما فرغ قال لي يا فتى ألك حاجة قلت نعم تغنيني لقد طفت سبعا هذه رواية يحيى بن علي وأما الباقون فإنهم ذكروا عن إسحاق أن المهدي قال هذا لأبي سعيد وأمره أن يغني له ( لقد طُفْتُ سبعاً قلتُ لمّا قَضَيْتُها ... أَلاَ ليتَ هذا لا عَلَيّ ولا لِيَا ) ورفق به وأدنى مجلسه وقد كان نسك فقال أو أغنيك يا أمير المؤمنين أحسن منه قال أنت وذاك فغني ( إنّ هذا الطويلَ من آلِ حَفْصٍ ... نَشَرَ المَجْدَ بعدما كان ماتَا ) ( وبَنَاهُ على أَسَاسٍ وثَيقٍ ... وعِمَادٍ قد أُثْبِتَتْ إثباتا ) ( مثلَ ما قد بنى له أوّلُوه ... وكذا يُشْبِهُ البُنَاةُ البُنَاتَا ) الشعر والغناء لأبي سعيد مولى فائد فأحسن فقال له المهدي أحسنت يا أبا سعيد فغني لقد طفت سبعا قال أو أغنيك أحسن منه قال أنت وذاك فغناه ( قَدِم الطويلُ فأشرقتْ واستبشرتْ ... أرضُ الحجازِ وبانَ في الأشجارِ ) ( إنّ الطويلَ منَ آل حَفْصٍ فاعلموا ... سادَ الحضَورَ وساد في الأسفارِ ) فأحسن فيه فقال غنني لقد طفت سبعا قال أو أغنيك أحسن منه قال فغنني فغناه ( أيّها السائلُ الذي يَخْبِطُ الأرض ... دعِ الناسَ أجمعين وراكا ) ( وأْتِ هذا الطويلَ مِنْ آل حَفْصٍ ... إنْ تخوّفتَ عَيْلةً أو هلاكا ) فأحسن فيه فقال له غنني لقد طفت سبعا فقد أحسنت فيما غنيت ولكنا نحب أن تغني ما دعوناك إليه فقال لا سبيل إلى ذلك يا أمير المؤمنين لأني رأيت رسول الله منامي وفي يده شيء لا أدري ما هو وقد رفعه ليضربني به وهو يقول يا أبا سعيد لقد طفت سبعا لقد طفت سبعا سبعا طفت ما صنعت بأمتي في هذا الصوت فقلت له بأبي أنت وأمي اغفر لي فوالذي بعثك بالحق واصطفاك بالنبوة لا غنيت هذا الصوت أبدا فرد يده ثم قال عفا الله عنك إذا ثم انتبهت وما كنت لأعطي رسول الله شيئا في منامي فارجع عنه في يقظتي فبكى المهدي وقال أحسنت يا أبا سعيد أحسن الله إليك لا تعد في غنائه وحباه وكساه وأمر برده إلى الحجاز فقال له أبو سعيد ولكن اسمعه يا أمير المؤمنين من منة جارية البرامكة وأظن حكاية من حكى ذلك عن المهدي غلطا لأن منة جارية البرامكة لم تكن في أيام المهدي وإنما نشأت وعرفت في أيام الرشيد وقد حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي عن أبيه أنه هو الذي لقي أبا سعيد مولى فائد وجاراه هذه القصة وذكر ذلك أيضا حماد بن إسحاق عن إبراهيم بن المهدي وقد يجوز أن يكون إبراهيم بن المهدي وإسحاق سألاه عن هذا الصوت فأجابهما فيه بمثل ما أجاب المهدي وأما خبر إبراهيم بن المهدي خاصة فله معان غير هذه والصوت الذي سأله عنه غير هذا وسيذكر بعد انقضاء هذه الأخبار لئلا تنقطع رفض الشخوص إلى بغداد مع إبراهيم بن المهدي وأخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة أن إبراهيم بن المهدي لقي أبا سعيد مولى فائد وذكر الخبر بمثل الذي قبله وزاد فيه فقال له اشخص معي إلى بغداد فلم يفعل فقال ما كنت لآخذك بما لا تحب ولو كان غيرك لأكرهته على ما أحب ولكن دلني على من ينوب عنك فدل على ابن جامع وقال له عليك بغلام من بني سهم قد أخذ عني وعن نظرائي وتخرج وهو كما تحب فأخذه إبراهيم معه فأقدمه بغداد فهو الذي كان سبب وروده إياها نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني صوت من المائة المختارة ( لقد طُفْتُ سبعاً قلتُ لمّا قَضَيْتُها ... ألاَ ليت هذا لا عَلَيَّ ولا لِيَا ) ( يُسَائلني صَحْبِي فما أَعقِلُ الَّذي ... يقولون من ذِكْرٍ لليلَى اعترانيا ) عروضه من الطويل ذكر يحيى بن علي أن الشعر والغناء لأبي سعيد مولى فائد وذكر غيره أن الشعر للمجنون ولحنه خفيف رمل بالبنصر وهو المختار وذكر حبش أن فيه لإبراهيم خفيف رمل آخر والذي ذكر يحيى بن علي من أن الشعر لأبي سعيد مولى فائد هو الصحيح أخبرني عمي عن الكراني عن عيسى بن إسماعيل عن القحذمي أنه أنشده لأبي سعيد مولى فائد قال عمي وأنشدني هذا الشعر أيضا أحمد بن أبي طاهر عن أبي دعامة لأبي سعيد وبعد هذين البيتين اللذين مضيا هذه الأبيات ( إذا جئتَ بابَ الشِّعْبِ شِعْبِ ابن عامرٍ ... فأقْرِئ غزالَ الشِّعْبِ مِنِّي سَلامِيَا ) ( وقُلْ لغزال الشِّعْب هل أنتَ نازلٌ ... بشِعْبِكَ أم هل يُصْبِحُ القلبَ ثاويا ) ( لقد زادني الحُجَّاجُ شوقاً إليكمُ ... وقد كنتُ قبل اليومِ لِلْحَجِّ قالِيا ) ( وما نظرتْ عيني إلى وجه قادمٍ ... من الحَجِّ إلاّ بَلَّ دَمْعِي ردائيا ) في البيت الأول من هذه الأبيات وهو ( إذا جئت باب الشعب شعب ابن عامر ... ) لحن لابن جامع خفيف رمل عن الهشامي ومنها صوت ( إنّ هذا الطويلَ مِنْ آل حَفْصٍ ... نَشَر المجد بعدما كان ماتا ) ( وبناه على أساسٍ وَثِيقٍ ... وعِمّادٍ قد أُثْبِتَتْ إثباتا ) ( مثلَ ما قد بنَى له أوّلْوه ... وكذا يشبِه البُنَاةُ البُنَاتَا ) عروضه من الخفيف الشعر والغناء لأبي سعيد مولى فائد ولحنه رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق ومنها صوت ( قَدِم الطويلُ فأشرقت لقدومه ... أرضُ الحجاز وبان في الأشجارِ ) ( إنّ الطويلَ من آل حَفْصٍ فاعلموا ... ساد الحُضُورَ وساد في الأسفارِ ) الشعر والغناء لأبي سعيد ومنها صوت ( أيّها الطالب الذي يَخْبِطُ الأرْضَ ... دَعِ الناسَ أجمعين وراكا ) ( وأنِ هذا الطويلَ من آل حَفْصٍ ... إن تخوفتَ عَيْلةً أو هلاكا ) عروضه من الخفيف الشعر لأبي سعيد مولى فائد وقيل إنه للدارمي والغناء لأبي سعيد خفيف ثقيل وفيه للدارمي ثاني ثقيل الطويل من آل حفص الذي عناه الشعراء في هذه الأشعار هو عبد الله بن عبد الحميد بن حفص وقيل ابن أبي حفص بن المغيرة المخزومي وكان ممدحا مدح عبد الله بن عبد الحميد فأخبرني يحيى بن علي بن يحيى إجازة عن أبي أيوب المديني قال حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه أن عبد الله بن عبد الحميد المخزومي كان يعطي الشعراء فيجزل وكان موسرا وكان سبب يساره ما صار إليه من أم سلمة المخزومية امرأة أبي العباس السفاح فإنه تزوجها بعده فصار إليه منها مال عظيم فكان يتسمح به ويتفتى ويتسع في العطايا وكانت أم سلمة مائلة إليه فأعطته ما لا يدري ما هو ثم إنها اتهمته بجارية لها فاحتجبت عنه فلم تعد إليه حتى مات وكان جميل الوجه طويلا وفيه يقول أبو سعيد مولى فائد ( إنّ هذا الطويلَ من آل حفصٍ ... نشرَ المجدَ بعد ما كان ماتا ) وفيه يقول الدارمي ( أيُّها السائل الذي يَخْبِطُ الأرضَ ... دَعَ الناسَ أجمعين وراكا ) ( وأْتِ هذا الطويلَ من آل حَفْصٍ ... إنّ تَخوْفتَ عَيْلةً أو هلاكا ) وفيه يقول الدارمي أيضا صوت ( إنّ الطويلَ إذا حَلَلْتَ به ... يوماً كفاك مَؤونةَ الثِّقْلِ ) ويروى ( ابن الطويل إذا حللت به ... ) ( وحللتَ في دَعَةٍ وفي كَنَفٍ ... رَحْبِ الفنِاء ومنزلٍ سَهلِ ) غناه ابن عباد الكاتب ولحنه من الثقيل الأول الذي بالبنصر عن ابن المكي فأما خبر إبراهيم بن المهدي مع أبي سعيد مولى فائد الذي قلنا إنه يذكر هاهنا فأخبرني به الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني القطراني المغني قال حدثني ابن جبر قال سمعت إبراهيم بن المهدي يقول كنت بمكة في المسجد الحرام فإذا شيخ قد طلع وقد قلب إحدى نعليه على الأخرى وقام يصلي فسألت عنه فقيل لي هذا أبو سعيد مولى فائد فقلت لبعض الغلمان احصبه فحصبه فأقبل عليه وقال ما يظن أحدكم إذا دخل المسجد إلا أنه له فقلت للغلام قل له يقول لك مولاي ابلغني فقال ذلك له فقال له أبو سعيد من مولاك حفظه الله قال مولاي إبراهيم بن المهدي فمن أنت قال أنا أبو سعيد مولى فائد وقام فجلس بين يدي وقال لا والله بأبي أنت وأمي ما عرفتك فقلت لا عليك أخبرني عن هذا الصوت ( أفاضَ المدامعَ قَتْلَى كُدىً ... وقَتْلَى بكُثْوةَ لم تُرْمَسِ ) قال هو لي قلت ورب هذه البنية لا تبرح حتى تغنيه قال ورب هذه البنية لا تبرح حتى تسمعه قال ثم قلب إحدى نعليه وأخذ بعقب الأخرى وجعل يقرع بحرفها على الأخرى ويغنيه حتى أتى عليه فأخذته منه قال ابن جبر وأخذته أنا من إبراهيم بن المهدي محمد بن عمران يقبل شهادته بعد أن ردها أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال حدثني دنية المدني صاحب العباسة بنت المهدي وكان آدب من قدم علينا من أهل الحجاز أن أبا سعيد مولى فائد حضر مجلس محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة لأبي جعفر وكان مقدما لأبي سعيد فقال له ابن عمران التيمي يا أبا سعيد أنت القائل ( لقد طفتُ سبعاً قلتُ لمّا قضيتُها ... ألا ليت هذا لا عَليَّ ولا لِيَا ) فقال أي لعمر أبيك وإني لأدمجه إدماجا من لؤلؤ فرد محمد بن عمران شهادته في ذلك المجلس وقام أبو سعيد من مجلسه مغضبا وحلف ألا يشهد عنده أبدا فأنكر أهل المدينة على ابن عمران رده شهادته وقالوا عرضت حقوقنا للتوى وأموالنا للتلف لأنا كنا نشهد هذا الرجل لعلمنا بما كنت عليه والقضاة قبلك من الثقة به وتقديمه وتعديله فندم ابن عمران بعد ذلك على رد شهادته ووجه إليه يسأله حضور مجلسه والشهادة عنده ليقضي بشهادته فامتنع وذكر أنه لا يقدر على حضور مجلسه ليمين لزمته إن حضره حنث قال فكان ابن عمران بعد ذلك إذا ادعى أحد عنده شهادة أبي سعيد صار إليه إلى منزله أو مكانه من المسجد حتى يسمع منه ويسأله عما يشهد به فيخبره وكان محمد بن عمران كثير اللحم عظيم البطن كبير العجيزة صغير القدمين دقيق الساقين يشتد عليه المشي فكان كثيرا ما يقول لقد أتعبني هذا الصوت لقد طفت سبعا وأضر بي ضررا طويلا شديدا وأنا رجل ثقال بترددي إلى أبي سعيد لأسمع شهادته أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا النضر بن عمرو عن الهيثم بن عدي قال كان المطلب بن عبد الله بن حنطب قاضيا على مكة فشهد عنده أبو سعيد مولى فائد بشهادة فقال له المطلب ويحك ألست الذي يقول ( لقد طفتُ سبعاً قلتُ لمّا قضيتُها ... ألاَ ليت هذا لا عليَّ ولا ليا ) لا قبلت لك شهادة أبدا فقال أبو سعيد أنا والله الذي أقول ( كأن وُجوهَ الحَنْطَبِيِّين في الدُّجَى ... قناديلُ تَسْقيها السَّلِيطَ الهياكلُ ) فقال الحنطبي إنك ما علمتك إلا دبابا حول البيت في الظلم مدمنا للطواف به في الليل والنهار وقبل شهادته نسبة الصوت المذكور قبل هذا الذي في حديث إبراهيم بن المهدي وخبره صوت ( أفاضَ المدامعَ قَتْلَى كُدىً ... وقَتْلَى بكُثْوةَ لم تُرْمَسِ ) ( وقَتْلى بِوَجٍّ وباللاَّبَتَين ... من يَثْرِبٍ خيرُ ما أَنْفُسِ ) ( وبالزَّابَيَيْنِ نفوسٌ ثَوَتْ ... وأُخْرَى بنهر أبي فُطْرُسِ ) ( أولئك قومي أناختْ بهم ... نوائبُ من زَمَنٍ مُتْعِسِ ) ( إذا رَكِبوا زيَّنوا المَوْكَبْينِ ... وإن جَلَسوا الزَّيْنُ في المجلس ) ( همُ أضرعوني لريب الزَّمان ... وهُمْ أَلْصَقُوا الرَّغْمَ بالمَعْطِسِ ) عروضه من المتقارب الشعر للعبلي واسمه عبد الله بن عمر ويكنى أبا عدي وله أخبار تذكر مفردة في موضعها إن شاء الله والغناء لأبي سعيد مولى فائد ولحنه من الثقيل الثاني بالسبابة في مجرى البنصر وقصيدة العبلي أولها ( تقول أُمامةُ لمّا رأتْ ... نُشُوزي عن المَضْجَعِ الأَنْفسَ ) الشاعر العبلي ينشد ابن حسن رثاء في قومه فيبكي نسخت من كتاب الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار وأخبرني الأخفش عن المبرد عن المغيرة بن محمد المهلبي عن الزبير عن سليمان بن عياش السعدي قال جاء عبد الله بن عمر العبلي إلى سويقة وهو طريد بن العباس وذلك بعقب أيام بني أمية وابتداء خروج ملكهم إلى بني العباس فقصد عبد الله وحسنا ابني الحسن بن حسن بسويقة فاستنشده عبد الله بن حسن شيئا من شعره فأنشده فقال له أريد أن تنشدني شيئا مما رثيت به قومك فأنشده قوله ( تقول أمامةُ لمّا رأتْ ... نُشُوزِي عن المَضْجَع الأَنْفَسِ ) ( وقِلَّةَ نَوْمي على مضجعي ... لدي هَجْعةِ الأَعْيُنِ النُّعَّس ) ( أبي ما عَرَاك فقلتُ الهُموم ... عَرَوْن أباكِ فلا تَبْلِسي ) ( عَرَوْنَ أباكِ فحبَّسْنَه ... من الذُّلِّ في شِرّ ما مَحْبِسِ ) ( لِفَقْدِ الأحِبَّة إذ نالها ... سهامٌ من الحَدَث المُبْئسِ ) ( رمتْها المَنُونُ بلا نُكَّلٍ ... ولا طائشاتٍ ولا نُكَّسِ ) ( بأسْهُمِها المُتْلِفاتِ النفوسِ ... متى ما تُصِبْ مُهْجةً تَخْلِسِ ) ( فصَرَّعْنَهمْ في نَواحي البلادِ ... مُلَقًّى بأرْضٍ ولم يُرْسَسِ ) ( تَقِيٍّ أصِيبَ وأثوابهُ ... من العَيْبِ والعارِ لم تَدْنَسِ ) ( وآخَرُ قد دُسَّ في حُفْرةٍ ... وآخرَ قد طار لم يُحْسَسِ ) ( إذا عنّ ذِكْرُهُمُ لم يَنَمْ ... أبوكِ وأَوْحَشَ في المَجْلِسِ ) ( فذاك الذي غالني فاعلمي ... ولا تسألي بامرىءٍ مُتْعَسِ ) ( أذلُّوا قَنَاتِي لمن رامَها ... وقد أَلْصَقُوا الرَّغمَ بالمَعْطَسِ ) قال فرأيت عبد الله بن حسن وإن دموعه لتجري على خده وقد أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن إبراهيم بن رباح قال عمر أبو سعيد بن أبي سنة مولى بني أمية وهو مولى فائد مولى عمرو بن عثمان إلى أيام الرشيد فلما حج أحضره فقال أنشدني قصيدتك ( تقول أُمامةُ لمّا رأتْ ... ) فاندفع فغناه قبل أن ينشده الشعر لحنه في أبيات منها أولها ( أفاضَ المدامعَ قَتْلَى كُدى ... ) وكان الرشيد مغضبا فسكن غضبه وطرب فقال أنشدني القصيدة فقال يا أمير المؤمنين كان القوم موالي وأنعموا علي فرثيتهم ولم أهج أحدا فتركه أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا الحزنبل قال كنا عند ابن الأعرابي وحضر معنا أبو هفان فأنشدنا ابن الأعرابي عمن أنشده قال قال ابن أبي سبة العبلي ( أفاضَ المدامعَ قَتْلَى كذا ... وقَتْلَى بكبوة لم تُرْمَس ) فغمز أبو هفان رجلا وقال له قل له ما معنى كذا قال يريد كثرتهم فلما قمنا قال لي أبو هفان أسمعت إلى هذا المعجب الرقيع صحف اسم الرجل هو ابن أبي سنة فقال ابن أبي سبة وصحف في بيت واحد موضعين فقال قتلى كذا وهو كدى وقتلى بكبوة وهو بكثوة وأغلظ علي من هذا أنه يفسر تصحيفه بوجه وقاح وهذا الشعر الذي غناه أبو سعيد يقوله أبو عدي عبد الله بن عمر العبلي فيمن قتله عبد الله بن علي بنهر أبي فطرس وأبو العباس السفاح أمير المؤمنين بعدهم من بني أمية وخبرهم والوقائع التي كانت بينهم مشهورة يطول ذكرها جدا ونذكر هاهنا ما يستحسن منها ذكر من قتل أبو العباس السفاح من بني أمية أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني مسبح بن حاتم العكلي قال حدثني الجهم بن السباق عن صالح بن ميمون مولى عبد الصمد بن علي قال لما استمرت الهزيمة بمروان أقام عبد الله بن علي بالرقة وأنفذ أخاه عبد الصمد في طلبه فصار إلى دمشق وأتبعه جيشا عليهم أبو إسماعيل عامر الطويل من قواد خراسان فلحقه وقد جاز مصر في قرية تدعى بوصير فقتله وذلك يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة ووجه برأسه إلى عبد الله بن علي فأنفذه عبد الله بن علي إلى أبي العباس فلما وضع بين يديه خر لله ساجدا ثم رفع رأسه وقال الحمد لله الذي أظهرني عليك وأظفرني بك ولم يبق ثأري قبلك وقبل رهطك أعداء الدين ثم تمثل قول ذي الإصبع العدواني ( لو يَشربون دَمِي لم يُرْوِ شاربَهم ... ولا دِماؤُهم للغَيْظِ تُرْوِيني ) أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن يزيد قال نظر عبد الله بن علي إلى فتى عليه أبهة الشرف وهو يقاتل مستنتلا فناداه يا فتى لك الأمان ولو كنت مروان بن محمد فقال إلا أكنه فلست بدونه قال فلك الأمان من كنت فأطرق ثم قال ( أَذُلَّ الحياةِ وكُرْه الممماتِ ... وكلاًّ أرى لك شرّاً وَبِيلاَ ) ويروى ( وكلاّ أراه طعاماً وبِيلا ... ) ( فإنْ لم يكن غير إحداهما ... فسَيْراً إلى الموت سَيْراً جَميلاَ ) ثم قاتل حتى قتل قال فإذا هو ابن مسلمة بن عبد الملك بن مروان مقتل جماعة من الأمويين في اجتماع عند السفاح أخبرني عمي قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثني النضر بن عمرو عن المعيطي وأخبرنا محمد بن خلف وكيع قال قال أبو السائب سلم بن جنادة السوائي سمعت أبا نعيم الفضل بن دكين يقول دخل سديف وهو مولى لآل أبي لهب على أبي العباس بالحيرة هكذا قال وكيع وقال الكراني في خبره واللفظ له كان أبو العباس جالسا في مجلسه على سريره وبنو هاشم دونه على الكراسي وبنو أمية على الوسائد قد ثنيت لهم وكانوا في أيام دولتهم يجلسون هم والخلفاء منهم على السرير ويجلس بنو هاشم على الكراسي فدخل الحاجب فقال يا أمير المؤمنين بالباب رجل حجازي أسود راكب على نجيب متلثم يستأذن ولا يخبر باسمه ويحلف ألا يحسر اللثام عن وجهه حتى يراك قال هذا مولاي سديف يدخل فدخل فلما نظر إلى أبي العباس وبنو أمية حوله حدر اللثام عن وجهه وأنشأ يقول ( أصبح المُلْكُ ثابتَ الآساسِ ... بالبَهاليل من بني العبّاس ) ( بالصدورِ المُقَدَّمين قديماً ... والرُّؤوس القَماقِم الرُّؤَّاسِ ) ( يا أميرَ المُطَهَّرينَ مِنَ الذَّمّ ... ويا رأسَ منتهى كلِّ راس ) ( أنت مَهْدِيُّ هاشمٍ وهُدَاها ... كم أُناسٍ رَجَوْكَ بعد إياسِ ) ( لا تُقيلَنّ عبدَ شَمْسٍ عِثَاراً ... واقْطَعَنْ كلَّ رَقْلةٍ وغِرَاسِ ) ( أَنْزِلُوها بحيث أنزَلها اللّهُ ... بدار الهَوَانِ والإِتْعاسِ ) ( خَوْفُهم أظهرَ التَّودُّدَ منهمْ ... وبهم منكمُ كحَزِّ المَوَاسِي ) ( أقْصِهم أيُّها الخليفةُ واحْسِمْ ... عنك بالسَّيف شَأفَةَ الأرْجاسِ ) ( واذْكُرَنْ مَصْرَعَ الحُسَيْنِ وزَيْدٍ ... وقَتِيلٍ بجانبِ المِهْراسِ ) ( والإِمامِ الذي بحَرَانَ أمْسَى ... رَهْنَ قبرٍ في غْربةٍ وتَنَاسِي ) ( فلقد ساءني وساء سَوَائي ... قُرْبُهمْ من نَمَارِقٍ وكَرَاسِي ) ( نِعْمَ كَلْبُ الهِرَاش مولاك لولا ... أودٌ من حبائل الإِفلاس ) فتغير لون أبي العباس وأخذه زمع ورعدة فالتفت بعض ولد سليمان بن عبد الملك إلى رجل منهم وكان إلى جنبه فقال قتلنا والله العبد ثم أقبل أبو العباس عليهم فقال يا بني الفواعل أرى قتلاكم من أهلي قد سلفوا وأنتم أحياء تتلذذون في الدنيا خذوهم فأخذتهم الخراسانية بالكافر كوبات فأهمدوا إلا ما كان من عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز فإنه استجار بداود بن علي وقال له إن أبي لم يكن كآبائهم وقد علمت صنيعته إليكم فأجاره واستوهبه من السفاح وقال له قد علمت يا أمير المؤمنين صنيع أبيه إلينا فوهبه له وقال له لا تريني وجهه وليكن بحيث تأمنه وكتب إلى عماله في النواحي بقتل بني أمية لماذا قتل السفاح بني أمية أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار عن عمه أن سبب قتل بني أمية أن السفاح أنشد قصيدة مدح بها فأقبل على بعضهم فقال أين هذا مما مدحتم به فقال هيهات لا يقول والله أحد فيكم مثل قول ابن قيس الرقيات فينا ( ما نَقَمُوا من بني أُمَيَّة إلا ... أنَّهمْ يَحْلُمون إنْ غَضِبوا ) ( وأنَّهُمْ مَعْدِنُ المُلوكِ ولا ... تَصْلُحُ إلاّ عليهم العَرَبُ ) فقال له يا ماص كذا من أمه أو إن الخلافة لفي نفسك بعد خذوهم فأخذوا فقتلوا أخبرني عمي عن الكراني عن النضر بن عمرو عن المعيطي أن أبا العباس دعا بالغداء حين قتلوا وأمر ببساط فبسط عليهم وجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته فلما فرغ من الأكل قال ما أعلمني أكلت أكلة قط أهنأ ولا أطيب لنفسي منها فلما فرغ قال جروا بأرجلهم فألقوا في الطريق يلعنهم الناس أمواتا كما لعنوهم أحياء قال فرأيت الكلاب تجر بأرجلهم وعليهم سراويلات الوشي حتى أنتنوا ثم حفرت لهم بئر فألقوا فيها أخبرني عمر بن عبد الله بن جميل العتكي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن معن الغفاري عن أبيه قال لما أقبل داود بن علي من مكة أقبل معه بنو حسن جميعا وحسين بن علي بن حسين وعلي بن عمر بن علي بن حسين وجعفر بن محمد والأرقط محمد بن عبد الله وحسين بن زيد ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وعبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاصي وعروة وسعيد ابنا خالد بن سعيد بن عمرو بن عثمان فعمل لداود مجلس بالرويثة فجلس عليه هو والهاشميون وجلس الأمويون تحتهم فأنشده إبراهيم بن هرمة قصيدة يقول فيها ( فلا عَفَا اللهُ عن مَرْوانَ مَظْلِمةً ... ولا أُمَيّة بئس المجلسُ النّادِي ) ( كانوا كعادٍ فأمسَى اللهُ أهلكهم ... بمثلِ ما أهلك الغاوين من عادِ ) ( فلن يُكَذِّبني من هاشمٍ من أحدٌ ... فيما أقول ولو أكثرتُ تعْدَادي ) قال فنبذ داود نحو ابن عنبسة ضحكة كالكشرة فلما قام قال عبد الله بن حسن لأخيه حسن أما رأيت ضحكته إلى ابن عنبسة الحمد لله الذي صرفها عن أخي يعني العثماني قال فما هو إلا أن قدم المدينة حتى قتل ابن عنبسة قال محمد بن معن حدثني محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال استحلف أخي عبد الله بن حسن داود بن علي وقد حج معه سنة اثنتين وثلاثين ومائة بطلاق امرأته مليكة بنت دواد بن حسن ألا يقتل أخويه محمدا والقاسم ابني عبد الله قال فكنت أختلف إليه آمنا وهو يقول بني أمية وكان يكره أن يراني أهل خراسان ولا يستطيع إلي سبيلا ليمينه فاستدناني يوما فدنوت منه فقال ما أكثر الغفلة وأقل الحزمة فأخبرت بها عبد الله بن حسن فقال يابن أم تغيب عن الرجل فتغيبت عنه حتى مات خبر آخر عن مقتل الأمويين عند السفاح أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن يحيى قالا حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثني إسماعيل بن إبراهيم عن الهيثم بن بشر مولى محمد بن علي قال أنشد سديف أبا العباس وعنده رجال من بني أمية قوله ( يابنَ عمّ النبيّ أنت ضِيَاءٌ ... اسْتَبنَّا بك اليقينَ الجَلِيّا ) فلما بلغ قوله ( جَرِّد السَّيْف وارْفَعِ العفْو حتَّى ... لا ترى فوق ظهرها أُمَويا ) ( لا يَغُرَّنْكَ ما ترى من رجالٍ ... إنّ تحت الضُّلوع داء دَويّا ) ( بَطن البُغضُ في القديم فأضحَى ... ثاوياً في قلوبهم مَطْويّا ) وهي طويلة قال يا سديف خلق الإنسان من عجل ثم قال ( أحيا الضغائن آباءٌ لنا سَلَفُوا ... فلنْ تَبِيدَ وللآباءِ أبناءُ ) ثم أمر بمن عنده منهم فقتلوا أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه عن عمومته أنهم حضروا سليمان بن علي بالبصرة وقد حضره جماعة من بني أمية عليهم الثياب الموشية المرتفعة فكأني أنظر إلى أحدهم وقد أسود شيب في عارضيه من الغالية فأمر بهم فقتلوا وجروا بأرجلهم فألقوا على الطريق وإن عليهم لسراويلات الوشي والكلاب تجر بأرجلهم عمرو بن معاوية يأخذ الأمان من سليمان بن علي أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن عبد الله بن عمرو قال أخبرني طارق بن المبارك عن أبيه قال جاءني رسول عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة فقال لي يقول لك عمرو قد جاءت هذه الدولة وأنا حديث السر كثير العيال منتشر المال فما أكون في قبيلة إلا شهر أمري وعرفت وقد اعتزمت على أن أفدي حرمي بنفسي وأنا صائر إلى باب الأمير سليمان بن علي فصر إلي فوافيته فإذا عليه طيلسان مطبق أبيض وسراويل وشي مسدول فقلت يا سبحان الله ما تصنع الحداثة بأهلها أبهذا اللباس تلقى هؤلاء القوم لما تريد لقاءهم فيه فقال لا والله ولكنه ليس عندي ثوب إلا أشهر مما ترى فأعطيته طيلساني وأخذت طيلسانه ولويت سراويله إلى ركبتيه فدخل ثم خرج مسرورا فقلت له حدثني ما جرى بينك وبين الأمير قال دخلت عليه ولم نتراء قط فقلت أصلح الله الأمير لفظتني البلاد إليك ودلني فضلك عليك فإما قتلتني غانما وإما رددتني سالما فقال ومن أنت ما أعرفك فانتسبت له فقال مرحبا بك أقعد فتكلم آمنا غانما ثم أقبل علي فقال ما حاجتك يابن أخي فقلت إن الحرم اللواتي أنت أقرب الناس إليهن معنا وأولى الناس بهن بعدنا قد خفن لخوفنا ومن خاف خيف عليه فوالله ما أجابني إلا بدموعه على خديه ثم قال يابن أخي يحقن الله دمك ويحفظك في حرمك ويوفر عليك مالك ووالله لو أمكنني ذلك في جميع قومك لفعلت فكن متواريا كظاهر وآمنا كخائف ولتأتني رقاعك قال فكنت والله أكتب إليه كما يكتب الرجل إلى أبيه وعمه قال فلما فرغ من الحديث رددت عليه طيلسانه فقال مهلا فإن ثيابنا إذا فارقتنا لن ترجع إلينا قول الشعراء في تحريض السفاح على بني أمية أخبرني أحمد بن عبد الله قال حدثنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر ابن شبة قال قال سديف لأبي العباس يحضه على بني أمية ويذكر من قتل مروان وبنو أمية من قومه ( كيف بالعفو عنهمُ وقَدِيماً ... قتلوكم وهَتَّكُوا الحُرُماتِ ) ( أين زيدٌ وأين يحيى بن زيدٍ ... يا لَها من مُصِيبةٍ وتِرَاتِ ) ( والإِمامُ الذي أُصِيبَ بحَرّانَ ... إمامُ الهُدَى ورأسُ الثِّقاتِ ) ( قتلوا آلَ أحمدٍ لا عفا الذَّنْبَ ... لمروانَ غافرُ السَّيِّئات ) أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني محمد بن يزيد لرجل من شيعة بني العباس يحرضهم على بني أمية ( إيّاكُم أنْ تلينوا لاعتذارهُم ... فليس ذلك إلاّ الخَوْفُ والطَّمَعُ ) ( لو أنَّهم أمنُوا أبْدَوْا عَداوتَهُمْ ... لكنّهم قُمعُوا بالذلّ فانقمَعُوا ) ( أليس في ألفِ شهرٍ قد مضت لهُم ... سقَوْكُمُ جُرَعاً من بعدها جُرَعُ ) ( حتّى إذا ما انقضتْ أيّامُ مُدّتهمْ ... مَتُّوا إليكم بالأَرحامِ التي قَطَعوا ) ( هيهاتَ لا بدّ أن يُسَقوْا بكأسهمُ ... ريّاً وأن يَحْصُدُوا الزَّرْعَ الذي زَرعوا ) ( إنّا وإِخوانَنا الأنصارَ شيعتُكم ... إذا تفرّقت الأهواءُ والشِّيَعُ ) ( إيّاكُمُ أن يقولَ الناسُ إنَّهُم ... قد مُلِّكوا ثم ما ضرُّوا ولا نفعوا ) وذكر ابن المعتز أن جعفر بن إبراهيم حدثه عن إسحاق بن منصور عن أبي الخصيب في قصة سديف بمثل ما ذكره الكراني عن النضر بن عمرو عن المعيطي إلا أنه قال فيها فلما أنشده ذلك التفت إليه أبو الغمر سليمان بن هشام فقال يا ماص بظر أمه أتجبهنا بهذا ونحن سروات الناس فغضب أبو العباس وكان سليمان بن هشام صديقه قديما وحديثا يقضي حوائجه في أيامهم ويبره فلم يلتفت إلى ذلك وصاح بالخراسانية خذوهم فقتلوا جمعيا إلا سليمان بن هشام فأقبل عليه السفاح فقال يا أبا الغمر ما أرى لك في الحياة بعد هؤلاء خيرا قال لا والله فقال اقتلوه وكان إلى جنبه فقتل وصلبوا في بستانه حتى تأذى جلساؤه بروائحهم فكلموه في ذلك فقال والله لهذا ألذ عندي من شم المسك والعنبر غيظا عليهم وحنقا نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء صوت ( أصبح الدِّينُ ثابتَ الاساسِ ... بالبَهَالِيلِ من بني العبَّاسِ ) ( بالصُّدُورِ المُقَدَّمين قديماً ... والرُّؤُوس القَمَاقِمِ الرُّؤَّاس ) عروضه من الخفيف الشعر لسديف والغناء لعطرد رمل بالبنصر عن حبش قال وفيه لحكم الوادي ثاني ثقيل وفيه ثقيل أول مجهول ومما قاله أبو سعيد مولى فائد في قتلى بني أمية وغنى فيه صوت ( بكيتُ وماذا يَرُدّ البُكَاءْ ... وقَلَّ البكاءُ لقَتْلى كُدَاءْ ) ( أُصِيبوا معاً فتوَلَّوْا معاً ... كذلك كانوا معاً في رَخَاءْ ) ( بكتْ لهم الأرضُ من بعدهم ... وناحتْ عليهم نجومُ السماءْ ) ( وكانوا الضياءَ فلمَّا انقضى الزَّمانُ بقومي تولَّ الضياءْ ) عروضه من المتقارب الشعر والغناء لأبي سعيد مولى فائد ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر من رواية عمرو بن بانة وإسحاق وغيرهما ومما قاله فيهم وغنى فيه على أنه قد نسب إلى غيره صوت ( أثَّر الدهر في رجالي فَقلُّوا ... بعد جَمْعٍ فراحَ عَظْمِي مَهِيضا ) ( ما تذكَّرتُهم فتَمْلِك عَيْنِي ... فَيْض غَرْبٍ وحُقَّ لي أن تَفيضا ) الشعر والغناء لأبي سعيد خفيف ثقيل بالوسطى عن ابن المكي والهشامي وروى الشيعي عن عمر بن شبة عن إسحاق أن الشعر لسديف والغناء للغريض ولعله وهم ومنها صوت ( أولئك قَوْمي بعد عَزٍّ ومَنْعَةٍ ... تَفَانَوْا فإِلاَّ تَذْرِفِ العينُ أَكْمَدِ ) ( كأنَّهمُ لا ناسَ للموت غيرُهم ... وإن كان فيهمْ مُنْصِفاً غيرَ مُعْتَدي ) الشعر والغناء لأبي سعيد وفيه لحن لمتيم خبر المأمون مع المغني علويه أخبرني عبد الله بن الربيع قال حدثنا أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال حدثني عمي طياب بن إبراهيم قال ركب المأمون بدمشق يتصيد حتى بلغ جبل الثلج فوقف في بعض الطريق على بركة عظيمة في جوانبها أربع سروات لم ير أحسن منها ولا أعظم فنزل المأمون وجعل ينظر إلى آثار بني أمية ويعجب منها ويذكرهم ثم دعا بطبق عليه بزما ورد ورطل نبيذ فقام علويه فغنى ( أولئك قَوْمي بعد عِزٍّ ومَنْعَةٍ ... تَفَانَوْا فإِلاَّ تَذْرِفِ العينُ أَكْمَدِ ) قال فغضب المأمون وأمر برفع الطبق وقال يابن الزانية ألم يكن لك وقت تبكي فيه على قومك إلا هذا الوقت قال نعم أبكي عليهم مولاكم زرياب يركب معهم في مائة غلام وأنا مولاهم معكم أموت جوعا فقام المأمون فركب وانصرف الناس وغضب على علويه عشرين يوما فكلمه فيه عباس أخو بحر فرضي عنه ووصله بعشرين ألف درهم صوت من المائة المختارة ( مَهَاةٌ لَوَ انّ الذَّرَّ تَمْشِي ضِعَافُه ... على مَتْنِها بَضَّتْ مَدَارِجُه دَمَا ) ( فقُلْنَ لها قُومِي فديْنَاكِ فَارْكَبِي ... فأومَتْ بلاَ لا غيرَ أنْ تَتَكَلَّمَا ) عروضه من الطويل بضت سالت يقول لو مشى الذر على جلدها لجرى منه الدم من رقته وروى الأصمعي ( مُنَعَّمَةٌ لو يُصْبِحُ الذَّرُّ سارياً ... على مَتْنِها بَضَّتْ مَدَارِجُه دَمَا ) الشعر لحميد بن ثور الهلالي والغناء في اللحن المختار لفليح بن أبي العوراء ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى وذكر عمرو بن بانه أن لحن فليح من خفيف الثقيل الأول بالوسطى وأن الثقيل الأول للهذلي ومما يغني فيه من هذه القصيدة صوت ( إذا شئتُ غَنَّتْنِي بأجزاع بِيشَةٍ ... أوِ النَّخْلِ من تَثْلِيثَ أو مِنْ يَلَمْلَمَا ) ( مُطَوَّقةٌ طَوْقاً وليس بحِلْيةٍ ... ولا ضَرْبِ صَوّاغِ بكَفَّيْهِ دِرْهَما ) ( تُبَكِّي على فَرْخ لها ثمّ تَغْتَدِي ... مُوَلَّهةً تبغِي له الدّهْرَ مَطْعَمَا ) ( تُؤَمِّل منه مُؤْنِساً لاِنْفرادها ... وتَبْكي عليه إنْ زَقَا أو تَرَنَّما ) غناه محمد الرَّفّ خفيف رمل بالوسطى ذكر حميد بن ثور ونسبه وأخباره هو حميد بن ثور بن عبد الله بن عامر بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة ابن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار وهو من شعراء الإسلام وقرنه ابن سلام بنهشل بن حري وأوس بن مغراء وقد أدرك حميد بن ثور عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال الشعر في أيامه وقد أدرك الجاهلية أيضا يخرج على نهي عمر ويشبب بالنساء أخبرنا وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد وعبد الله بن شبيب قالا حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثني محمد بن فضالة النحوي قال تقدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشعراء ألا يشبب أحدا بامرأة إلا جلده فقال حميد بن ثور ( أبَى اللهُ إلاّ أنَّ سَرْحةَ مالكٍ ... على كُلِّ أفنانِ العِضَاةِ تَرُوقُ ) ( فقد ذهبتْ عَرْضاً وما فوق طُولها ... من السَّرْحِ إلاَّ عَشَّةٌ وسَحُوقُ ) العشة القليلة الأغصان والورق والسحوق الطويلة المفرطة ( فلا الظِّلَّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَستَطِيعهُ ... ولا الفَيْءَ من بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ ) ( فَهَلْ أنا إنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بسَرْحةٍ ... مِن السَّرْحِ موجودٌ عليَّ طريقُ ) وهي قصيدة طويلة أولها ( نأتْ أُمُّ عَمْرٍ فالفُؤادُ مِشُوقُ ... يَحِنُّ إليها والهاً ويَتُوقُ ) صوت وفيها ما يغني فيه ( سَقَى السَّرْحَةَ المحْلاَلَ والأَبْرَقَ الذي ... به السَّرْحُ غيثٌ دائمٌ وبُروقُ ) ( وهلْ أنا إنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِسَرْحةٍ ... مِنَ السَّرْح موجودٌ عليّ طريقٌ ) غناه إسحاق ولحنه ثاني ثقيل بالوسطى أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمه قال وفد حميد بن ثور على بعض خلفاء بني أمية فقال له ما جاء بك فقال ( أتاكَ بِيَ الله الذي فوق مَنْ تَرَى ... وخيرٌ ومعروفٌ عليك دليلُ ) ( وَمَطْوِيَّةُ الأَقْرَابِ أمّا نهارُها ... فَنَصٌّ وأمّا ليلُها فَذَمِيلُ ) ( ويَطْوِي عليَّ اللَّيْلُ حِضْنَيْهِ إنَّني ... لذاك إذا هاب الرجالُ فَعُولُ ) فوصله وصرفه شاكرا أخبار فليح بن أبي العوراء فليح رجل من أهل مكة مولى لبني مخزوم ولم يقع إلينا اسم أبيه وهو أحد مغني الدولة العباسية له محل كبير من صناعته وموضع جليل وكان إسحاق إذا عد من سمع من المحسنين ذكره فيهم وبدأ به وهو أحد الثلاثة الذين اختاروا المائة الصوت للرشيد إسحاق الموصلي يمدح غناءه أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ابن المكي عن أبيه عن إسحاق قال ما سمعت أحسن غناء من فليح بن أبي العوراء وابن جامع فقلت له فأبو إسحاق يعني أباه فقال كان هذان لا يحسنان غير الغناء وكان أبو إسحاق فيه مثلهما ويزيد عليهما فنونا من الأدب والرواية لا يداخلانه فيها أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال قال لي إسحاق أحسن من سمعت غناء عطرد وفليح وكان فليح أحد الموصوفين بحسن الغناء المسموع في أيامه وهو أحد من كان يحكي الأوائل فيصيب ويحسن أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني محمد بن محمد العنبسي قال حدثني محمد بن الوليد الزبيري قال سمعت كثير بن المحول يقول كان مغنيان بالمدينة يقال لأحدهما فليح بن أبي العوراء والآخر سليمان بن سليم فخرج إليهما رسول الرشيد يقول لفليح غناؤك من حلق أبي صدقة أحسن منه من حلقك فعلمه إياه قال وكان يغني صوتا يجيده وهو ( خيرُ ما نَشْرَبُها بالبُكَرْ ... ) قال فقال فليح للرسول قل له حسبك قال فسمعنا ضحكة من وراء الستارة تفرده برؤية المهدي وهو يغني أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال حدثنا الفضل بن الربيع أن المهدي كان يسمع المغنين جميعا ويحضرون مجلسه فيغنونه من وراء الستارة لا يرون له وجها إلا فليح بن أبي العوراء فإن عبد الله بن مصعب الزبيري كان يرويه شعره ويغني فيه في مدائحه للمهدي فدس في أضعافها بيتين يسأله فيهما أن ينادمه وسأل فليحا أن يغنيهما في أضعاف أغانيه وهما صوت ( يا أمين الإِلهِ في الشَّرْقِ والغَرْبِ ... على الخَلْقِ وابنَ عَمِّ الرَّسُولِ ) ( مجلساً بالعَشِيِّ عندك في المَيْدَانِ ... أبغِي والإِذْنَ لي في الوُصُولِ ) فغناه فليح إياهما فقال المهدي يا فضل أجب عبد الله إلى ما سأل وأحضره مجلسي إذا حضره أهلي وموالي وجلست لهم وزده على ذلك أن ترفع بيني وبين روايته فليح الستارة فكان فليح أول مغن عاين وجهه في مجلسهم أخبرني رضوان قال حدثني يوسف بن إبراهيم قال حدثني بعد قدومي فسطاط مصر زياد بن أبي الخطاب كاتب مسرور خادم الرشيد قال سمعت محبوب بن الهفتي يحدث أبي قال دعاني محمد بن سليمان بن علي فقال لي قد قدم فليح من الحجاز ونزل عند مسجد ابن رغبان فصر إليه فأعلمه أنه إن جاءني قبل أن يدخل إلى الرشيد خلعت عليه خلعة سرية من ثيابي ووهبت له خمسة آلاف درهم فمضيت إليه فخبرته بذلك فأجابني إليه إجابة مسرور به نشيط له وخرج معي فعدل إلى حمام كان بقربه فدعا القيم فأعطاه درهمين وسأله أن يجيئه بشيء يأكله ونبيذ يشربه فجاءه برأس كأنه رأس عجل ونبيذ دوشابي غليظ مسحوري رديء فقلت له لا تفعل وجهدت به ألا يأكل ولا يشرب إلا عند محمد بن سليمان فلم يلتفت إلي وأكل ذلك الرأس وشرب من ذلك النبيذ الغليظ حتى طابت نفسه وغنى وغنى القيم معه مليا ثم خاطب القيم بما أغضبه وتلاحيا وتواثبا فأخذ القيم شيئا فضربه به على رأسه فشجه حتى جرى دمه فلما رأى الدم على وجهه اضطرب وجزع وقام يغسل جرحه ودعا بصوفة محرقة وزيت وعصبه وتعمم وقام معي فلما دخلنا دار محمد بن سليمان ورأى الفرش والآلة وحضر الطعام فرأى سروه وطيبه وحضر النبيذ وآلته ومدت الستائر وغنى الجواري أقبل علي وقال يا مجنون سألتك بالله أيما أحق بالعربدة وأولى مجلس القيم أم مجلس الأمير فقلت وكأنه لا بد من عربدة قال لا والله مالي منها بد فأخرجتها من رأسي هناك فقلت أما على هذا الشرط فالذي فعلت أجود فسألني محمد عما كنا فيه فأخبرته فضحك ضحكا كثيرا وقال هذا الحديث والله أظرف وأطيب من كل غناء وخلع عليه وأعطاه خمسة آلاف درهم اتفق مع حكم الوادي على ابن جامع قال هارون بن محمد وحدثني حماد بن إسحاق قال حدثني أبو إسحاق القرمطي قال حدثنا مدركة بن يزيد قال قال فليح بن أبي العوراء بعث يحيى بن خالد إلي والى حكم الوادي وإلى ابن جامع فأتيناه فقلت لحكم إن قعد ابن جامع معنا فعاوني عليه لنكسره فلما صرنا إلى الغناء غنى حكم فصحت وقلت هكذا والله يكون الغناء ثم غنيت ففعل لي حكم مثل ذلك وغنى ابن جامع فما كنا معه في شيء فلما كان العشي أرسل إلى جاريته دنانير إن أصحابك عندنا فهل لك أن تخرجي إلينا فخرجت وخرج معها وصائف فأقبل عليها يقول لها من حيث يظن أنا لا نسمع ليس في القوم أنزه نفسا من فليح ثم أشار إلى غلام له أن ائت كل إنسان بألفي درهم فجاء بها فدفع إلى ابن جامع ألفي درهم فأخذها فطرحها في كمه وفعل بحكم الوادي مثل ذلك فطرحها في كمه ودفع إلي ألفين فقلت لدنانير قد بلغ مني النبيذ فاحبسيها لي عندك حتى تبعثي بها إلي فأخذت الدراهم مني وبعثت بها إلي من الغد وقد زادت عليها وأرسلت إلي قد بعثت إليك بوديعتك وبشيء أحببت أن تفرقه على أخواتي تعني جواري قال هارون بن محمد وحدثني حماد قال حدثني أبي قال كنا عند الفضل بن الربيع فقال هل لك في فليح بن أبي العوراء قلت نعم فأرسل إليه فجاء الرسول فقال هو عليل فعاد إليه فقال الرسول لا بد من أن تجيء فجاء به محمولا في محفة فحدثنا ساعة ثم غنى فكان فيما غنى ( تقول عِرْسِي إذ نبا المَضْجَعُ ... ما بالك الليلةَ لا تَهْجَعُ ) فاستحسناه منه واستعدناه منه مرارا ثم انصرف ومات في علته تلك وكان آخر العهد به ذلك المجلس غنى لفتى وعشيقته فعجلت في أمر خطبتها أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال حدثني أبي عن فليح بن أبي العوراء قال كان بالمدينة فتى يعشق ابنة عم له فوعدته أن تزوره وشكا إلي أنها تأتيه ولا شيء عنده فأعطيته دينارا للنفقة فلما زارته قالت له من يلهينا قال صديق لي ووصفني لها ودعاني فأتيته فكان أول ما غنيته ( مِنَ الخَفِراتِ لم تَفْضَحْ أخاها ... ولم تَرْفَعْ لِوالدها شَنَارَا ) فقامت إلى ثوبها فلبسته لتنصرف فعلق بها وجهد بها كل الجهد في أن تقيم فلم تقم وانصرفت فأقبل علي يلومني في أن غنيتها ذلك الصوت فقلت والله ما هو شيء اعتمدت به مساءتك ولكنه شيء اتفق قال فلم نبرح حتى عاد رسولها بعدها ومعه صرة فيها ألف دينار ودفعها إلى الفتى وقال له تقول لك ابنة عمك هذا مهري ادفعه إلى أبي واخطبني ففعل فتزوجها نسبة هذا الصوت صوت ( مِنَ الخَفِراتِ لم تَفْضَحْ أخاها ... ولم ترفَعْ لوالدها شَنَارَا ) ( كأنّ مَجامِعَ الأردافِ منها ... نَقاً درجتْ عليه الريحُ هارا ) ( يعافُ وِصالَ ذاتِ البَذلِ قلبي ... وأتَّبع المُمَنَّعةَ النَّوَارا ) الشعر لسليك بن السلكة السعدي والغناء لابن سريج رمل بالسبابة في مجرى الوسطى وفيه لابن الهربذ لحن من رواية بذل أوله ( يعاف وِصَالَ ذاتِ البذل قلبي ... ) وبعده ( غَذَاها قارِصٌ يغدو عليها ... ومَحْضٌ حين تنتظر العِشَارَا ) انتشار أغانيه بأصوات جواري إبراهيم بن المهدي أخبرني رضوان بن أحمد قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال كتب إلي جعفر بن يحيى وأنا عامل للرشيد على جند دمشق قد قدم علينا فليح بن أبي العوراء فأفسد علينا بأهزاجه وخفيفه كل غناء سمعناه قبله وأنا محتال لك في تخليصه إليك لتستمتع به كما استمتعنا فلم ألبث أن ورد علي فليح بكتاب الرشيد يأمر له بثلاثة آلاف دينار فورد علي رجل أذكرني لقاؤه الناس وأخبرني أنه قد ناهز المائة فأقام عندي ثلاث سنين فأخذ عنه جواري كل ما كان معه من الغناء وانتشرت أغانيه بدمشق قال يوسف ثم قدم علينا شاب من المغنين مع علي بن زيد بن الفرج الحراني عند مقدم عنبسة بن إسحاق فسطاط مصر يقال له مونق فغناني من غناء فليح صوت ( يا قُرّة العين اقْبَلي عُذْري ... ضاق بهِجرانكم صدري ) ( لو هَلَك الهجرُ استراح الهوى ... ما لَقَى الوصلُ من الهجر ) ولحنه خفيف رمل فلم أر بين ما غناه وبين ما سمعته في دار أبي إسحاق فرقا فسألته من أين أخذه فقال أخذته بدمشق فعلمت أنه مما أخذه أهل دمشق عن فليح صوت من المائة المختارة ( أفاطمَ إنّ النأْيَ يسلِي ذوي الهَوَى ... ونأيُكِ عنِّي زاد قلبي بكم وَجْدَا ) ( أرى حَرَجاً ما نِلتُ من وُدّ غيركم ... ونافلةً ما نلتُ من ودّكم رُشْدَا ) ( وما نلتقي من بعدِ نأْيٍ وفُرْقةٍ ... وشَحْط نَوًى إلاّ وجدتُ له بَرْدا ) ( على كَبِدٍ قد كان يُبْدي بها الهوى ... نُدوباً وبعضُ القوم يحسَبُني جَلْدا ) عروضه من الطويل النأي البعد ومثله الشحط والحرج الضيق قال الله تعالى ( يجعل صدره ضيقا حرجا ) والندوب آثار الجراح واحدها ندب الشعر لإبراهيم بن هرمة والغناء في اللحن المختار على ما ذكره إسحاق ليونس الكاتب وهو من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى وذكر يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه مثل ذلك وذكر حبش بن موسى أن الغناء لمرزوق الصراف أو ليحيى بن واصل وفي هذه الأبيات للهذلي لحن من خفيف الثقيل الأول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة ومن الناس من ينسب اللحنين جميعا إليه ذكر ابن هرمة وأخباره ونسبه هو إبراهيم بن علي بن سلمة بن هرمة بن هذيل هكذا ذكر يعقوب بن السكيت وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب وذكر ذلك العباس بن هشام الكلبي عن أبيه هشام بن محمد بن السائب قالوا جميعا هو إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة بن الهذيل بن ربيع بن عامر ابن صبيح بن كنانة بن عدي بن قيس بن الحارث بن فهر وفهر أصل قريش فمن لم يكن من ولده لم يعد من قريش وقد قيل ذلك في النضر بن كنانة وفهر ابن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر قال من ذكرنا من النسابين قيس بن الحارث هو الخلج وكانوا في عدوان ثم انتقلوا إلى بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن فلما استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتوه ليفرض لهم فأنكر نسبهم فلما استخلف عثمان أتوه فأثبتهم في بني الحارث بن فهر وجعل لهم معهم ديوانا وسموا الخلج لأنهم اختلجوا ممن كانوا معه من عدوان ومن بني نصر بن معاوية وأهل المدينة يقولون إنما سموا الخلج لأنهم نزلوا بالمدينة على خلج وواحدها خليج فسموا بذلك ولهم بالمدينة عدد قال مصعب كان لإبراهيم بن هرمة عم يقال له هرمة الأعور فأرادت الخلج نفيه منهم فقال أمسيت الأم العرب دعي أدعياء ثم قال يهجوهم ( رأيتُ بنِي فِهْر سَبَاطاً أَكُفُّهُمْ ... فما بالُ أَنْبُوني أَكُفِّكُم قُفْدا ) ( ولم تُدْرِكوا ما أدرك القومُ قبلَكم ... من المجدِ إلا دَعْوَةً ألحقتْ كَدَّا ) ( على ذي أيادِي الدّهرِ أفلح جَدُّهم ... وخِبْتُمْ فلم يَصْرَعْ لكم جَدُّكم جَدَّا ) وقال يحيى بن علي حدثني أبو أيوب المديني عن المدائني عن أبي سلمة الغفاري قال نفى بنو الحارث بن فهر ابن هرمة فقال ( أحارِبنَ فِهْرٍ كيف تَطَّرحونني ... وجاء العِدا من غيركم تبتغي نَصْرِي ) قال فصار من ولد فهر في ساعته قال يحيى بن علي وحدثني أحمد بن يحيى الكاتب قال حدثني العباس بن هشام الكلبي عن أبيه قال كان ابن هرمة يقول أنا الأم العرب دعي أدعياء هرمة دعي في الخلج والخلج أدعياء في قريش خبره مع رجل من أسلم ضافه حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي قال حدثني عبد الله بن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال زرت عبد الله بن حسن بباديته وزاره ابن هرمة فجاءه رجل من أسلم فقال ابن هرمة لعبد الله بن حسن أصلحك الله سل الأسلمي أن يأذن لي أن أخبرك خبري وخبره فقال له عبد الله بن حسن ائذن له فأذن له الأسلمي فقال له إبراهيم بن هرمة إني خرجت أصلحك الله أبغي ذودا لي فأوحشت وضفت هذا الأسلمي فذبح لي شاة وخبز لي خبزا وأكرمني ثم غدوت من عنده فأقمت ما شاء الله ثم خرجت أيضا في بغاء ذود لي فأوحشت فضفته فقراني بلبن وتمر ثم غدوت من عنده فأقمت ما شاء الله ثم خرجت في بغاء ذود لي فأوحشت فقلت لو ضفت الأسلمي فاللبن والتمر خير من الطوى فضفته فجاءني بلبن حامض فقال قد أجبته أصلحك الله إلى ما سأل فسله أن يأذن لي أن أخبرك لم فعلت فقال له ائذن له فأذن له فقال الأسلمي ضافني فسألته من هو فقال رجل من قريش فذبحت له الشاة التي ذكر ووالله لو كان غيرها عندي لذبحته له حين ذكر أنه من قريش ثم غدا من عندي وغدا علي الحي فقالوا من كان ضيفك البارحة قلت رجل من قريش فقالوا لا والله ما هو من قريش ولكنه دعي فيها ثم ضافني الثانية على أنه دعي في قريش فجئته بلبن وتمر وقلت دعي قريش خير من غيره ثم غدا من عندي ثم غدا علي الحي فقالوا من كان ضيفك البارحة قلت الرجل الذي زعمتم أنه دعي في قريش فقالوا لا والله ما هو بدعي في قريش ولكنه دعي أدعياء قريش ثم جاءني الثالثة فقريته لبنا حامضا ووالله لو كان عندي شر منه لقريته إياه قال فانخذل ابن هرمة وضحك عبد الله وضحكنا معه طلب منه ابن ميادة أن يتهاجيا أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير قال حدثني نوفل بن ميمون قال لقي ابن ميادة ابن هرمة فقال ابن ميادة والله لقد كنت أحب أن ألقاك لا بد من أن نتهاجى وقد فعل الناس ذلك قبلنا فقال ابن هرمة بئس والله ما دعوت إليه وأحببته وهو يظنه جادا ثم قال له ابن هرمة أما والله إنني للذي أقول ( إنِّي لَميمونٌ جِوَاراً وإِنَّني ... إذا زَجَر الطَّيْرَ العِدَا لَمَشُومُ ) ( وإنِّي لملآنُ العِنَانِ مُنَاقِلٌ ... إذا مَا وَنَى يوماً ألَفُّ سَؤومُ ) ( فَوَدَّ رجالٌ أنَّ أُمِّي تَقَنَّعتْ ... بشيبٍ يُغَشِّي الرأسَ وهي عقيمُ ) فقال ابن ميادة وهل عندك جراء ثكلتك أمك أنت ألأم من ذلك ما قلت إلا مازحا أخبرنا به وكيع قال حدثنا محمد بن إسماعيل قال قال عبد العزيز بن عمران اجتمع ابن هرمة وابن ميادة عند جميع بن عمر بن الوليد فقال ابن ميادة لابن هرمة قد كنت أحب أن ألقاك ثم ذكر نحوه وقال هارون بن محمد بن عبد الملك حدثنا علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال حدثني أبو سلمة الغفاري عن أبيه قال وفدت على المهدي في جماعة من أهل المدينة وكان فيمن وفد يوسف بن موهب وكان في رجال بني هاشم من بني نوفل وكان معنا ابن هرمة فجلسنا يوما على دكان قد هيئ لمسجد ولم يسقف في عسكر المهدي وقد كنا نلقى الوزراء وكبراء السلطان وكانوا قد عرفونا وإذا حيال الدكان رجل بين يديه ناطف يبيعه في يوم شات شديد البرد فأقبل إذا ضربه بفأسه فتطاير جفوفا فأقبل ابن هرمة علينا فقال ليوسف يابن عم رسول الله أما معك درهم نأكل به من هذا الناطف فقال له متى عهدتني أحمل الدراهم قال فقلت له لكني أنا معي فأعطيته درهما خفيفا فاشترى به ناطفا على طبق للناطفي فجاء بشيء كثير فأقبل يتمضغه وحده ويحدثنا ويضحك فما راعنا إلا موكب أحد الوزيرين أبي عبيد الله أو يعقوب بن داود ثم أقبلت المطرقة فقلنا ما لك قاتلك الله يهجم علينا هذا وأصحابه فيرون الناطف بين أيدينا فيظنون أنا كنا نأكل معك قال فوالله ما أحد أولى بالستر على أصحابه وتقلد البلية منك يابن عم الرسول الله فضعه بين يديك قال أعزب قبحك الله قال فأنت يا بن أبي ذر فزبرته قال فقال قد علمت أنه لا يبتلى بهذا إلا دعي أدعياء عاض كذا من أمه ثم أخذ الطبق في يده فحمله وتلقى به الموكب فما مر به أحد له نباهة إلا مازحه حتى مضى القوم جميعا إكرام عبد الله بن حسن على مدحه له وقال هارون حدثني أبو حذافة السهمي قال حدثنا إسحاق بن نسطاس قال كان ابن هرمة مشتهرا بالنبيذ فأتى عبد الله بن حسن وهو بالسيالة فأنشده مديحا له فقام عبد الله إلى غنم كانت له فرمى بساجة عليها فافترقت فرقتين فقال اختر أيهما شئت قال فإما أن تكون زادت بواحدة أو نقصت بواحدة على الأخرى قال وكانت ثلاثمائة وكتب له إلى المدينة بدنانير فقال له يابن هرمة انقل عيالك إلينا يكونوا مع عيالنا فقال أفعل يابن رسول الله ثم قدم ابن هرمة المدينة وجهز عياله لينقلهم إلى عبد الله بن حسن واكترى من رجل من مزينة فبينا هو قد شد متاعه وحمله والكري ينتظره أن يتحمل إذ أتاه صديق له فقال أي أبا إسحاق عندي والله نبيذ يسقط لحم الوجه فقال ويحك أما ترانا على مثل هذه الحال أعليها يمكن الشراب فقال إنما هي ثلاثة لا تزد عليهن شيئا فمضى معه وهم وقوف ينظرون فلم يزل يشرب حتى مضى من الليل صدر صالح ثم أتي به وهو سكران فطرح في شق المحمل وعادلته امرأته ومضوا فلما أسحروا رفع رأسه فقال أين أنا فأقبلت عليه امرأته تلومه وتعذله وقالت قد أفسد عليك هذا النبيذ دينك ودنياك فلو تعللت عنه بهذه الألبان فرفع رأسه إليها وقال ( لا نبتغي لبن البعيرِ وعندنا ... ماءُ الزَّبِيبِ وناطفُ المِعْصارِ ) أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا زكريا بن يحيى بن خلاد قال كان الأصمعي يقول ختم الشعراء بابن هرمة والحكم الخضري وابن ميادة وطفيل الكناني ومكين العذري ولعه بالنبيذ قال هارون بن محمد بن عبد الملك حدثني أبو حذافة السهمي أحمد بن إسماعيل قال كان ابن هرمة مدمنا للشراب مغرما به فأتى أبا عمرو بن أبي راشد مولى عدوان فأكرمه وسقاه أياما ثلاثة فدعا ابن هرمة بالنبيذ فقال له غلام لأبي عمرو بن أبي راشد قد نفد نبيذنا فنزع ابن هرمة رداءه عن ظهره فقال للغلام اذهب به إلى ابن حونك نباذ كان بالمدينة فارهنه عنده وأتنا بنبيذ ففعل وجاء ابن أبي راشد فجعل يشرب معه من ذلك النبيذ فقال له أين رداؤك يا أبا إسحاق فقال نصف في القدح ونصف في بطنك قال هارون حدثني محمد بن عمر بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري قال حدثني عمي عبد العزيز بن إسماعيل قال مدح ابن هرمة محمد بن عمران الطلحي وبعث إليه بالمديح مع ابن ربيح فاحتجب عنه فمدح محمد بن عبد العزيز وكان ابن هرمة مريضا فقال قصيدته التي يقول فيها ( إنِّي دعوتُكَ إذْ جُفِيتُ وشَفَّني ... مرضٌ تَضَاعفني شديدُ المُشْتَكَى ) ( وحُبِستُ عن طلب المَعيِشةِ وارتقتْ ... دوني الجوائجُ في وعُورِ الَمُرْتَقَى ) ( فأَجِبْ أخاك فقد أنافَ بصوته ... يا ذا الإِخاء ويا كريمَ الْمُرْتَجَى ) ( ولقد حُفِيتَ صَبيبَ عُكَّةِ بَيْتِنا ... ذَوْباً ومِزْتُ بصَفْوِه عنك القَذَى ) ( فخُذِ الغَنِيمةَ واغتنمني إِنَّني ... غُنُمٌ لمثلك والمكارِمُ تُشْتَرَى ) ( لا تَرْمِيَنَّ بحاجتي وقضائها ... ضَرْحَ الحجاب كما رَمى بي مَنْ رَمَى ) فركب إلى جعفر بن سليمان نصف النهار فقال ما نزعك يا أبا عبد الله في هذا الوقت قال حاجة لم أر فيها أحدا أكفى مني قال وما هي قال قد مدحني ابن هرمة بهذه الأبيات فأردت من أرزاقي مائة دينار قال ومن عندي مثلها قال ومن الأمير أيضا قال فجاءت المائتا الدينار إلى ابن هرمة فما أنفق منها إلا دينارا واحدا حتى مات وورث الباقي أهله طلب من أبي جعفر أن يجيز له الشراب وقال أحمد بن أبي خيثمة عن أبي الحسن المدائني قال امتدح ابن هرمة أبا جعفر فوصله بعشرة آلاف درهم فقال لا تقع مني هذه قال ويحك إنها كثيرة قال إن أردت أن تهنئني فأبح لي الشراب فإني مغرم به فقال ويحك هذا حد من حدود الله قال احتل لي يا أمير المؤمنين قال نعم فكتب إلى والي المدينة من أتاك بابن هرمة سكران فاضربه مائة واضرب ابن هرمة ثمانين قال فجعل الجلواز إذا مر بابن هرمة سكران قال من يشتري الثمانين بالمائة أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا أبو سلمة الغفاري قال أخبرنا ابن ربيح راوية ابن هرمة قال أصابت ابن هرمة أزمة فقال لي في يوم حار إذهب فتكار حمارين إلى ستة أميال ولم يسم موضعا فركب واحدا وركبت واحدا ثم سرنا حتى صرنا إلى قصور الحسن بن زيد ببطحاء ابن أزهر فدخلنا مسجده فلما مالت الشمس خرج علينا مشتملا على قميصه فقال لمولى له أذن فأذن ولم يكلمنا كلمة ثم قال له أقم فأقام فصلى بنا ثم أقبل على ابن هرمة فقال مرحبا بك يا أبا إسحاق حاجتك قال نعم بأبي أنت وأمي أبيات قلتها وقد كان عبد الله وحسن وإبراهيم بنو حسن بن حسن وعدوه شيئا فأخلفوه فقال هاتها فقال ( أمّا بنو هاشمٍ حوْلِي فقد قَرَعُوا ... نَبْلَ الضِّبابِ التي جَمّعتُ في قَرَنِ ) ( فما بِيَثْرِبَ منهم مَنْ أُعاتِبُه ... إلاّ عَوَائدَ أرجوهنّ من حَسَنَ ) ( اللهُ أعطاك فضلاً مِنْ عَطِيَّتِهِ ... على هَنٍ وهَنٍ فيما مَضَى وهَنِ ) قال حاجتك قال لابن أبي مضرس علي خمسون ومائة دينار قال فقال لمولى له يا هيثم اركب هذه البغلة فأتني بابن أبي مضرس وذكر حقه قال فما صلينا العصر حتى جاء به فقال له مرحبا بك يابن أبي مضرس أمعك ذكر حقك على ابن هرمة قال نعم قال فامحه فمحاه ثم قال يا هيثم بع ابن أبي مضرس من تمر الخانقين بمائة وخمسين دينارا وزده كل دينار ربع دينار وكل ابن هرمة بخمسين ومائة دينار تمرا وكل ابن ربيح بثلاثين دينار تمرا قال فانصرفنا من عنده فلقيه محمد بن عبد الله بن حسن بالسيالة وقد بلغه الشعر فغضب لأبيه وعمومته فقال أي ماص يظر أمه أنت القائل ( على هَنٍ وهَنٍ فيما مَضَى وهَنِ ... ) فقال لا والله ولكني الذي أقول لك ( لا والَّذي أنتَ منه نِعمةٌ سَلَفَتْ ... نرجو عَوَاقِيَها في آخِرِ الزِّمَنِ ) ( لقد أُتِيتُ بأمرٍ ما عَمَدتُ له ... ولا تعمَّده قولي ولا سَنَني ) ( فكيف أمشي مع الأقوام معتدلاً ... وقد رَمَيتُ بَرِيءَ العُودِ بالأُبَن ) ( ما غَيَّرتْ وجهَه أمُّ مُهَجِّنةٌ ... إذا القَتَامُ تَغَشَّى أوجُهَ الهُجُنِ ) قال وأم الحسن أم ولد قال هارون فحدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية قال لما قال ابن هرمة هذا الشعر في حسن بن زيد قال عبد الله بن حسن والله ما أراد الفاسق غيري وغير أخوي حسن وإبراهيم وكان عبد الله يجري على ابن هرمة رزقا فقطعه عنه وغضب عليه فأتاه يعتذر فنحي وطرد فسأل رجالا أن يكلموه فردهم فيئس من رضاه واجتنبه وخافه فمكث ما شاء الله ثم مر عشية وعبد الله على زربيه في ممر المنبر ولم تكن تبسط لأحد غيره في ذلك المكان فلما رأى عبد الله تضاءل وتقنفذ وتصاغر وأسرع المشي فكأن عبد الله رق له فأمر به فرد عليه فقال يا فاسق يا شارب الخمر على هن وهن تفضل الحسن علي وعلى أخوي فقال بأبي أنت وأمي ورب هذا القبر ما عنيت إلا فرعون وهامان وقارون أفتغضب لهم فضحك وقال والله ما أحسبك إلا كاذبا قال والله ما كذبتك فأمر بأن ترد عليه جرايته قصيدتة الخالية من الحروف المعجمة أخبرني يحيى بن علي إجازة قال أخبرني أبو أيوب المديني عن مصعب قال إنما اعتذر ابن هرمة بهذا إلى محمد بن عبد الله بن حسن قال يحيى وأخبرني أبو أيوب عن علي بن صالح قال أنشدني عامر بن صالح قصيدة لابن هرمة نحوا من أربعين بيتا ليس فيها حرف يعجم وذكر هذه الأبيات منها ولم أجد هذه القصيدة في شعر ابن هرمة ولا كنت أظن أن أحدا تقدم رزينا العروضي إلى هذا الباب وأولها ( أرَسْمُ سَوْدَة أمسى دارسَ الطَّلَلِ ... مُعَطَّلاً ردّه الأحوالُ كالحُلَل ) هكذا ذكر يحيى بن علي في خبره أن القصيدة نحو من أربعين بيتا ووجدتها في رواية الأصمعي ويعقوب بن السكيت اثنى عشر بيتا فنسختها هاهنا للحاجة إلى ذلك وليس فيها حرف يعجم إلا ما اصطلح عليه الكتاب من تصبيرهم مكان ألف ياء مثل أعلى فإنها في اللفظ بالألف وهي تكتب بالياء ومثل رأى ونحو هذا وهو في التحقيق في اللفظ بالألف وإنما اصطلح الكتاب على كتابته بالياء كما ذكرناه والقصيدة ( أَرَسْمُ سَوْدَةَ مَحْلٌ دارسُ الطَّلَلِ ... مُعَطَّلٌ رَدَّه الأحوالُ كالحُلَلِ ) ( لمّا رأى أهلَها سَدّوا مَطالِعَها ... رام الصُّدودَ وعاد الوُدُّ كالمُهُلِ ) ( وعاد وُدُّك داءً لا دواءَ له ... ولو دعاك طَوالَ الدّهرِ للرِّحَلِ ) ( ما وَصْلُ سَوْدَة إلاّ وَصْلُ صارمةٍ ... أحلّها الدهرُ داراً مأكَلَ الوَعِلِ ) ( وعاد أمواهُها سُدْماً وطارَ لها ... سَهْمٌ دعا أهلَها لِلصُّرْم والعِلَلِ ) ( صَدُّوا وصدّ وساء المرءَ صَدُّهُمُ ... وحام للوِرْدِ رَدْهاً حَوْمَة العَلَلِ ) حومة الماء كثرته وغمرته والعلل الشرب الثاني والرده مستنقع الماء ( وحَلَّؤُوهُ رِدَاهاً ماؤُها عَسَلٌ ... ما ماءُ رَدْهٍ لَعَمْرُ اللهِ كالعَسَلِ ) ( دعا الحَمامُ حماماً سَدَّ مَسْمَعَه ... لمّا دعاه رآه طامحَ الأملِ ) ( طُمُوحَ سارحةٍ حَوْمٍ مُلَمَّعةٍ ... ومُمْرعُ السرِّ سهلٌ مَاكِدُ السَّهَل ) ( وحاولوا رَدَّ أمرٍ لا مَرَدَّ له ... والصُّرْمُ داءٌ لأهلِ اللَّوْعةِ الوُصُل ) ( أحَلَّكَ اللهُ أعْلى كلِّ مَكْرُمةٍ ... واللهُ أعطاك أعلَى صالِح العَمَلِ ) ( سهلُ مَوَارِدُهُ سَمْحٌ مَوَاعِدُه ... مُسَودٌ لِكِرَامٍ سادةٍ حُمُلِ ) شعره في المسور بن عبد الملك قال يحيى بن علي وحدثني أبو أيوب المديني عن أبي حذيفة قال كان المسور بن عبد الملك المخزومي يعيب شعر ابن هرمة وكان المسور هذا عالما بالشعر والنسب فقال ابن هرمة فيه ( إيّاكَ لا أُلْزِمَنْ لَحْييْكَ من لُجُمي ... نِكْلاً يُنَكِّلُ قَرَّاصاً من اللُّجُمِ ) ( يَدُقُّ لَحْيَيْكَ أو تنقاد مُتَّبعاً ... مَشْي المُقَيَّدِ ذي القِردانِ والحَلَمِ ) ( إنِّي إذا ما امرؤٌ خَفَّتْ نَعَامَتُه ... إليّ واسْتَحْصّدَتْ منه قُوَى الوَذَمِ ) ( عقدتُ في مُلْتقى أوداج لَبَّته ... طَوقَ الحمامةِ لا يَبْلَى على القِدَم ) ( إنِّي امرؤٌ لا أصوغ الحَلْيَ تَعْمَلُه ... كَفَّايَ لكن لِساني صائغُ الكَلِمِ ) ( إنَّ الأديم الذي أمسيتَ تَقْرظُه ... جَهْلاً لذو نَغَلٍ بادٍ وذو حَلَمِ ) ( ولا يَئِطُّ بأيدي الخالِقينَ ولا ... أيدي الخَوَالِقِ إلاّ جَيِّدُ الأدَمِ ) قال يحيى وحدثني أبو أيوب عن مصعب بن عبد الله عن أبيه قال لقيني ابن هرمة فقال لي يابن مصعب أتفضل علي ابن أذينة أما شكرت قولي ( فما لَكَ مُخْتَلاًّ عليك خَصَاصةٌ ... كأنّك لم تَنْبُتْ ببعض المنَابِتِ ) ( كأنّك لم تَصْحَبْ شُعَيْب بنَ جَعْفَرٍ ... ولا مُصْعباً ذا المَكْرُماتِ ابنَ ثابت ) يعني مصعب بن عبد الله قال فقلت يا أبا إسحاق أقلني وروني من شعرك ما شئت فإني لم أرو لك شيئا فرواني عباسياته تلك مدحه لإبراهيم بن عبد الله قال يحيى وأخبرني أبو أيوب المديني عن مصعب بن عبد الله عن مصعب ابن عثمان قال قال ابن هرمة ما رأيت أحدا قط أسخى ولا أكرم من رجلين إبراهيم بن عبد الله بن مطيع وإبراهيم بن طلحة بن عمرو بن عبد الله بن معمر أما إبراهيم بن طلحة فأتيته فقال أحسنوا ضيافة أبي إسحاق فأتيت بكل شيء من الطعام فأردت أن أنشده فقال ليس هذا وقت الشعر ثم أخرج الغلام إلي رقعة فقال أئت بها الوكيل فأتيته بها فقال إن شئت أخذت لك جميع ما كتب به وإن شئت أعطيتك القيمة قلت وما أمر لي به فقال مائتا شاة برعائها وأربعة أجمال وغلام جمال ومظلة وما تحتاج إليه وقوتك وقوت عيالك سنة قلت فأعطني القيمة فأعطاني مائتي دينار وأما إبراهيم بن عبد الله فأتيته في منزله بمشاش على بئر ابن الوليد بن عثمان بن عفان فدخل إلى منزله ثم خرج إلي برزمة من ثياب وصرة من دراهم ودنانير وحلي ثم قال لا والله ما بقينا في منزلنا ثوبا إلا ثوبا نواري به امرأة ولا حليا ولا دينارا ولا درهما وقال يمدح إبراهيم ( أَرَّقَتْني تَلُومُني أُمَّ بكرٍ ... بعد هَدْءٍ واللَّوْمُ قد يُؤْذِيني ) ( حَذِّرْتني الزمانَ ثُمَّت قالتْ ... ليس هذا الزمانُ بالمأمون ) ( قلتُ لمّا هبَّتْ تُحَذِّرني الدَّهْرَ ... دَعَي اللَّوْمَ عنك واسْتَبْقيني ) ( إنّ ذا الجُودِ والمَكَارِم إبراهيمَ ... يَعْنيه كلُّ ما يعْنِيني ) ( قد خَبَرْناه في القديم فألفَيْنَا ... مَوَاعيدَه كعَيْنِ اليقين ) ( قلتُ ما قلتُ للذي هو حقٌّ ... مستبينٌ لا لِلَّذي يُعْطيني ) ( نَضَحتْ أرضَنا سماؤك بعد الجَدْبِ ... منها وبعد سُوء الظُّنونِ ) ( فَرعَيْنا آثارَ غَيْثٍ هَرَاقَتْهُ ... يَدا مُحْكَم القُوَى ميمونِ ) وقال هارون حدثنا حماد عن عبد الله بن إبراهيم الحجبي أن إبلا لمحمد بن عمران تحمل علفا مرت بمحمد بن عبد العزيز الزهري ومعه ابن هرمة فقال يا أبا إسحاق ألا تستعلف محمد بن عمران وهو يريد أن يعرضه لمنعه فيهجوه فأرسل ابن هرمة في أثر الحمولة رسولا حتى وقف على ابن عمران فأبلغه رسالته فرد إليه الإبل بما عليها وقال إن احتجت إلي غيرها زدناك فأقبل ابن هرمة على محمد بن عبد العزيز فقال له اغسلها عني فإنه إن علم أني استعلفته ولا دابة لي وقعت منه في سوءة قال بماذا قال تعطيني حمارك قال هو لك بسرجه ولجامه فقال ابن هرمة من حفر حفرة سوء وقع فيها وفادته على السري بن عبد الله باليمامة ومدحه أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أبو يحيى هارون بن عبد الله الزهري عن ابن زريق وكان منقطعا إلى أبي العباس بن محمد وكان من أروى الناس قال كنت مع السري بن عبد الله باليمامة وكان يتشوق إلى إبراهيم بن علي ابن هرمة ويحب أن يفد عليه فأقول ما يمنعك أن تكتب إليه فيقول أخاف أن يكلفني من المؤونة ما لا أطيق فكنت أكتب بذلك إلى ابن هرمة فكره أن يقدم عليه إلا بكتاب منه ثم غلب فشخص إليه فنزل علي ومعه راويته ابن ربيح فقلت له ما منعك من القدوم على الأمير وهو من الحرص على قدومك على ما كتبت به إليك قال الذي منعه من الكتاب إلي فدخلت على السري فأخبرته بقدومه فسر بذلك وجلس للناس مجلسا عاما ثم أذن لابن هرمة فدخل عليه ومعه راويته ابن ربيح وكان ابن هرمة قصيرا دميما أريمص وكان ابن ربيح طويلا جسيما نقي الثياب فسلم على السري ثم قال له أصلحك الله إني قد قلت شعرا أثنيت فيه عليك فقال إنشد فقال هذا ينشد فجلس فأنشده ابن ربيح قصيدته التي أولها ( عُوجَا على رَبْعِ ليلَى أُمِّ محمودِ ... كيما نُسائلَه من دون عَبُّودِ ) ( عن أُمِّ محمودَ إذ شَطَّ المَزَارُ بها ... لعلّ ذلك يَشْفي داءَ مَعمودِ ) ( فَعَرَّجَا بعد تغويرٍ وقد وقفتْ ... شمسُ النهارِ ولاذ الظِّلُّ بالعُودِ ) ( شيئاً فما رجَعَتْ أطلالُ منزلةٍ ... قَفْرٍ جواباً لمحزونِ الجَوَى مُودي ) ثم قال فيها يمدح السري ( ذاك السَّرِيّ الذي لولا تَدَفُّقُهُ ... بالعُرْفِ مِتْنَا حليفُ المجدِ والجودِ ) ( مَنْ يَعْتَمِدْكَ ابنَ عبدِ اللهَ مجتدياً ... لِسَيْبِ عُرْفِك يعْمِدْ خيرَ معمود ) ( يابنَ الأُساةِ الشُّفَاةِ المُسْتَغاثِ بهِمْ ... والمُطْعِمِينَ ذُرَى الكُومِ المَقَاحِيدِ ) ( والسَّابقين إلى الخيرات قومَهُمُ ... سَبْقَ الجيِاد إلى غاياتها القُودِ ) ( أنت ابنُ مُسْلَنْطَحِ البطحاء مَنْبِتُكُمْ ... بطحاءُ مكةَ لا روسُ القَرَادِيدِ ) ( لَكُمْ سِقَايَتُها قِدْماً ونَدْوَتُها ... قد حازها والدٌ منكمُ لمولودِ ) ( لولاَ رجاؤك لم تَعْسِفْ بنا قُلُصٌ ... أجوازَ مَهْمَهَةٍ قَفْرِ الصُّوَى بِيدِ ) ( لكنْ دعاني وميضٌ لاح معترضاً ... من نحو أرضِك في دُهْمٍ مَنَاضِيدِ ) وأنشده أيضا قصيدة مدحه فيها أولها ( أفي طَلَلٍ قَفْرٍ تَحَمَّلَ آهِلُهْ ... وقفتَ وماءُ العينِ يَنْهَلُّ هامِلُهْ ) ( تُسائل عن سَلْمَى سفاهاً وقد نأت ... بسلمَى نَوىً شَحْطٌ فكيف تُسائلُهْ ) ( وترجو لم يَنْطِقْ وليس بناطقٍ ... جواباً مُحِيلٌ قد تَحَمَّل آهلُهْ ) ( ونُؤْيٌ كخَطِّ النُّونِ ما إن تَبِينُه ... عَفَتْه ذيول من شَمَالٍ تُذَايِلُهْ ) ثم قال فيها يمدح السري ( فقُلْ للسَّرِيّ الواصلِ البَرِّ ذي النَّدَي ... مديحاً إذا ما بُثَّ صُدِّقَ قائلُه ) ( جوادٌ على العِلاَّتِ يَهْتَزُّ للنَّدَى ... كما اهتَزَّ غَضْبٌ أخلصتهْ صَيَاقِلُهْ ) ( نَفَى الظُّلْمَ عن أهل اليَمَامةِ عدلُه ... فعاشَوا وزَاحِ الظُّلْمُ عنهم وباطلُهْ ) ( وناموا بأَمْنِ بعد خوفٍ وشِدَّةٍ ... بسيرِة عَدْلٍ ما تُخاف غوائلُه ) ( وقد عَلِم المعروفُ أنَّك خِدْنُه ... ويَعلَمُ هذا الجوعُ أنَّك قاتِلُه ) ( بك اللهُ أحيا أرضَ حَجْرٍ وغيرَها ... من الأرض حتَّى عاش بالبَقْلِ آكلُهْ ) ( وأنت تُرَجَّى لِلَّذي أنت أهلُه ... وتنفَع ذا القُرْبَى لديك وَسائِلُهْ ) وأنشده أيضا مما مدحه به قوله ( عُوجَا نُحَيِّ الطُّولَ بالكَثَب ... ) يقول فيها يمدحه ( دَعْ عنك سَلْمَى وقُلْ مُحَبَّرةً ... لِماجِدِ الجَدِّ طَيِّبِ النَّسِبِ ) ( مَحْضٍ مُصَفِّى العُروقِ يحمَده ... في العُسْر واليُسْر كُلُّ مُرْتَغِبِ ) ( الواهبِ الخَيْلِ في أَعِنَّتها ... والوُصَفاءَ الحِسَانَ كالذَّهَبِ ) ( مجداً وحمداً يُفِيدُه كَرَماً ... والحمدُ في الناس خيرُ مُكْتَسَبِ ) قال فلما فرغ ابن ربيح قال السري لابن هرمة مرحبا بك يا أبا إسحاق ما حاجتك قال جئتك عبدا مملوكا قال لا بل حرا كريما وابن عم فما ذاك قال ما تركت لي مالا إلا رهنته ولا صديقا إلا كلفته قال أبو يحيى يقول لي ابن زريق حتى كأن له ديانا وعليه مالا فقال له السري وما دينك قال سبعمائة دينار قال قد قضاها الله عز و جل عنك قال فأقام أياما ثم قال لي قد اشتقت فقلت له قل شعرا تشوق فيه فقال قصيدته التي يقول فيها ( أألحمامةُ في نخل ابن هَدّاج ... هاجتْ صَبَابةَ عانِي القلب مُهْتاجِ ) ( أمِ المُخَبِّرُ أنّ الغَيْثَ قد وَضَعتْ ... منه العِشَارُ تماماً غيرَ إخْداجِ ) ( شَقَّتْ سَوَائفُها بالفْرَشِ من مَلَلِ ... إلى الأَعارِفِ من حَزْنٍ وأولاجِ ) ( حتَّى كأنّ وُجوهَ الأرض مُلْبَسةٌ ... طرائفاً من سَدَى عَصْبٍ ودِيباجِ ) وهي طويلة مختارة من شعره يقول فيها يمدح السري ( أمَّا السَّرِيُّ فإِنِّي سوف أمدَحُه ... ما المادحُ الذاكرُ الإِحسانِ كالهاجي ) ( ذاك الذي هو بعد اللهِ أنقذني ... فلستُ أنساه إنقاذي وإخراجي ) ( لَيْثٌ بحَجْرٍ إذا ما هاجَه فَزَعٌ ... هاجَ إليه بإِلْجَامٍ وإسْرَاجِ ) ( لأَحْبُوَنَّكَ مما أصْطَفِي مِدَحاً ... مُصَاحِباتٍ لعُمَّارٍ وحُجَّاجِ ) ( أَسْدَى الصنعيةَ من بِرٍّ ومن لَطَفٍ ... إلى قَرُوعٍ لباب المُلْكِ وَلاَّجِ ) ( كَمْ من يَدٍ لك في الأقوامِ قد سَلَفتْ ... عند امرئٍ ذي غِنىً أو عند مُحْتاجِ ) فأمر له بسبعمائة دينار في قضاء دينه ومائة دينار يتجهز بها ومائة دينار يعرض بها أهله ومائة دينار إذا قدم على أهله قوله يعرض بها أهله أي يهدي لهم بها هدية والعراضة الهدية قال الفرزدق يهجو هشام بن عبد الملك ( كانتْ عُرَاضتَكَ الَّتي عَرَّضتْنَا ... يوم المدينة زَكْمةً وسُعَالاَ ) أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني نوفل بن ميمون قال أخبرني أبو مالك محمد بن علي بن هرمة قال قال ابن هرمة ( ومهما أُلاَمُ على حَبِّهْم ... فإِنِّي أُحِبُّ بني فاطمهْ ) ( بنى بنت مَنْ جاء بالمُحْكَماتِ ... والدِّين والسُّنَّةِ القائمهْ ) فلقيه بعد ذلك رجل فسأله من قائلها فقال من عض بظر أمه فقال له ابنه يا أبت ألست قائلها قال بلى قال فلم شتمت نفسك قال أليس أن يعض المرء بظر أمه خيرا من أن يأخذه ابن قحطبة خبره مع رجل وابنتيه أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا جعفر بن مدرك الجعدي قال جاء ابن هرمة إلى رجل كان بسوق النبط معه زوجة له وابنتان كأنهما ظبيتان يقود عليهما بمال فدفعه إليه فكان يشتري لهم طعاما وشرابا فأقام ابن هرمة مع ابنتيه حتى خف ذلك المال وجاء قوم آخرون معهم مال فأخبرهم بمكان ابن هرمة فاستثقلوه وكرهوا أن يعلم بهم فأمر ابنتيه فقالتا له يا أبا إسحاق أما دريت ما الناس فيه قال وما هم فيه قالتا زلزل بالروضة فتغافلهما ثم جاء أبوهما متفازعا فقال أي أبا إسحاق ألا تفزع لما الناس فيه قال وما هم فيه قال زلزل بالروضة قال قد جاءكم الآن إنسان معه مال وقد نفضت ما جئتكم به وثقلت عليه فأردت إدخاله وإخراجي أيزلزل بروضة من رياض الجنة ويترك منزلك وأنت تجمع فيه الرجال على ابنتيك والله لا عدت إليه وخرج من عنده وروى هذا الخبر عن الزبير بن هارون بن محمد الزيات فزاد فيه قال ثم خرج من عندهم فأتى عبد الله بن حسن فقال إني قد مدحتك فاستمع مني قال لا حاجة لي بذلك أنا أعطيك ما تريد ولا أسمع قال إذا أسقط ويكسد سوقي فسمع منه وأمر له بمائتي دينار فأخذها وعاد إلى الرجل وقال قد جئتك بما تنفقه كيف شئت ولم يزل عنده حتى نفذت أخباره مع محمد بن عبد العزيز ومحمد بن عمران قال الزبير وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز قال حدثني عمي عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف قال وافينا الحج في عام من الأعوام الخالية فأصبحت بالسيالة فإذا إبراهيم ابن علي بن هرمة يأتينا فاستأذن على أخي محمد بن عبد العزيز فأذن له فدخل عليه فقال يا أبا عبد الله ألا أخبرك ببعض ما تستظرف قال بلى وربما فعلت يا أبا إسحاق قال فإنه أصبح عندنا هاهنا منذ أيام محمد بن عمران وإسماعيل بن عبد الله بن جبير وأصبح ابن عمران بجملين له ظالعين فإذا رسوله يأتيني أن أجب فخرجت حتى أتيته فأخبرني بظلع جمليه وقال لي أردت أن أبعث إلى ناضحين لي بعمق لعلي أوتى بهما إلى هاهنا لأمضي عليهما ويصير هذان الظالعان إلى مكانهما ففرغ لنا دارك واشتر لنا علفا واستلنه بجهدك فإنا مقيمون هاهنا حتى تأتينا جمالنا فقلت في الرحب والقرب والدار فارغة وزوجته طالق إن اشتريت عود علف عندي حاجتك منه فأنزلته ودخلت إلى السوق فما أبقيت فيه شيئا من رسل ولا جداء ولا طرفة ولا غير ذلك إلا ابتعت منه فاخره وبعثت به إليه مع دجاج كان عندنا قال فبينا أنا أدور في السوق إذ وقف علي عبد لإسماعيل بن عبد الله يساومني بحمل علف لي فلم أزل أنا وهو حتى أخذه مني بعشرة دراهم وذهب به فطرحه لظهره وخرجت عند الرواح أتقاضى العبد ثمن حملي فإذا هو لإسماعيل ابن عبد الله ولم أكن دريت فلما رآني مولاه حياني ورحب بي وقال هل من حاجة يا أبا إسحاق فأعلمه العبد أن العلف لي فأجلسني فتغديت عنده ثم أمر لي مكان كل درهم منها بدينار وكانت معه زوجته فاطمة بنت عباد فبعثت إلي بخمسة دنانير قال وراحوا وخرجت بالدنانير ففرقتها على غرمائي وقلت عند ابن عمران عوض منها قال فأقام عندي ثلاثا وأتاه جملاه فما فعل بي شيئا فبينا هو يترحل وفي نفسه مني ما لا أدري به إذ كلم غلاما له بشيء فلم يفهم فأقبل علي فقال ما أقدر على إفهامه مع قعودك عندي قد والله آذيتني ومنعتني ما أردت فقمت مغتما بالذي قال حتى إذا كنت على باب الدار لقيني إنسان فسألني هل فعل إليك شيئا فقلت أنا والله بخير إذ تلف مالي وربحت بدني قال وطلع علي وأنا أقولها فشتمني والله يا أبا عبد الله حتى ما أبقى لي وزعم أنه لولا إحرامه لضربني وراح وما أعطاني درهما فقلت ( يا مَنْ يُعيِنُ على ضَيْفٍ أَلَمَّ بنا ... ليس بِذِي كَرَمٍ يُرْجَى ولا دِينِ ) ( أقام عندي ثلاثاً سُنَّةً سَلَفتْ ... أَغضيتُ منها على الأقذاء والهُونِ ) ( مسافةُ البيت عَشْرٌ غيرُ مُشْكِلِةٍ ... وأنت تأتيه في شَهْرٍ وعشرينِ ) ( لستَ تُبالي فَوَاتَ الحَجِّ إن نَصِبتْ ... ذاتُ الكَلاَلِ وأسمنتَ ابنَ حِرقينِ ) ( تحدّث النَّاسُ عمّا فيك من كَرَمٍ ... هيهاتَ ذاك لِضيفَانٍ المَساكينِ ) ( أصبحتَ تَخْزُنُ ما تَحْوِي وتجمَعُه ... أبا سُلِيمانَ من أشلاءِ قارونِ ) ( مثلُ ابنِ عِمْرانَ آباءٌ له سَلَفُوا ... يَجْزُونَ فِعْلَ ذوي الإِحسان بالدُّوِن ) ( ألاّ تكون كإسماعيل إنّ له ... رأياً أَصيلاً وفِعْلاً غيرَ ممنونِ ) ( أو مِثْل زوجتِه فيما ألمَّ بها ... هيهاتَ مَنْ أُمُّها ذاتُ النِّطَاقَيْنِ ) فلما أنشدها قال له محمد بن عبد العزيز نحن نعينك يا أبا إسحاق لقوله يا من يعين قال قد رفعك الله عن العون الذي أريده ما أردت إلا رجلا مثل عبد الله بن خنزيرة وطلحة أطباء الكلبة يمسكونه لي وآخذ خوط سلم فأوجع به خواصره وجواعره قال ولما بغل في إنشاده إلى قوله ( مثلُ ابن عمران آباءٌ له سلفوا ... ) أقبل علي فقال عذرا إلى الله تعالى وإليكم إني لم أعن من آبائه طلحة بن عبيد الله قال ونزل إليه إسماعيل بن جعفر بن محمد وكان عندنا فلم يكلمه حتى ضرب أنفه وقال له فعنيت من آبائه أبا سلميان محمد بن طلحة يا دعي قال فدخلنا بينهما وجاء رسول محمد بن طلحة بن عبيد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى ابن هرمة يدعوه فذهب إليه فقال له ما الذي بلغني من هجائك أبا سليمان والله لا أرضى حتى تحلف ألا تقول له أبدا إلا خيرا وحتى تلقاه فترضاه إذا رجع وتحتمل كل ما أزل إليك وتمدحه قال أفعل بالحب والكرامة قال وإسماعيل بن جعفر لا تعرض له إلا بخير قال نعم قال فأخذ عليه الأيمان فيهما وأعطاه ثلاثين دينارا وأعطاه محمد بن عبد العزيز مثلها قال واندفع ابن هرمة يمدح محمد بن عمران ( ألم تر أنّ القولَ يَخْلُص صِدْقُه ... وتأبَى فما تزكوا لباغٍ بَوَاطِلُهْ ) ( ذَمَمْتُ امرأً لم يَطْبَعِ الذَّمُّ عِرْضَه ... قليلاً لدى تحصيلِه مَنْ يَشاكِلُهْ ) ( فما بالحجاز من فَتًى ذي إمارةٍ ... ولا شَرَفٍ إلا ابنُ عِمْرانَ فاضِلُهْ ) ( فَتًى لا يَطُورُ الذَّمُّ ساحةَ بيتِه ... ونشقَى به ليلَ التِّمَامِ عَوَاذِلُهْ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا أحمد بن عمر الزهري قال حدثنا أبو بكر بن عبد الله ابن جعفر المسوري قال مدح إبراهيم بن هرمة محمد بن عمران الطلحي فألفاه راويته وقد جاءته عير له تحمل غلة قد جاءته من الفرع أو خبير فقال له رجل كان عنده أعلم والله أن أبا ثابت بن عمران بن عبد العزيز أغراه بك وأنا حاضر عنده وأخبره بعيرك هذه فقال إنما أراد أبو ثابت أن يعرضني للسانه قودوا إليه القطار فقيد إليه كان يعمل من التمر نبيذا أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني يحيى بن محمد عن عبد الله بن عمرو بن القاسم قال جاء أبي تمر من صدقة عمر فجاءه ابن هرمة فقال أمتع الله بك أعطني من هذا التمر قال يا أبا إسحاق لولا أني أخاف أن تعمل منه نبيذا لأعطيتك قال فإذا علمت أني أعمل منه نبيذا لا تعطيني قال فخافه فأعطاه فلقيه بعد ذلك فقال له ما في الدنيا أجود من نبيذ يجيء من صدقة عمر فأخجله أخبرنا الحرمي قال أخبرنا الزبير قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز قال قدم جرير المدينة فأتاه ابن هرمة وابن أذينة فأنشداه فقال جرير القرشي أشعرهما والعربي أفصحهما أخبرنا يحيى بن علي إجازة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني عبد الله بن محمد أن ابن هرمة قال يمدح أبا الحكم المطلب بن عبد الله ( لمّا رأيتُ الحادثاتِ كنَفْنَنِي ... وأَوْرَثْنَنِي بُؤْسي ذكرتُ أبا الحَكَمْ ) ( سليلُ مُلوكٍ سبعةٍ قد تتابعوا ... همُ المُصْطَفَوْنَ والمُصَفَّوْنَ بالكَرَمْ ) فلاموه وقالوا أتمدح غلاما حديث السن بمثل هذا قال نعم وكانت له ابنة يلقبها عيينة وقال الزبير كان يلقبها عينة فقال ( كانتْ عُيَيْنَةُ فينا وهي عاطلةٌ ... بين الجَوَارِي فحَلاَّها أبو الحَكَمِ ) ( فمَنْ لَحَانَا على حُسْنِ المَقَالِ له ... كان المُلِيمَ وكنَّا نحن لم نُلِمِ ) قال يحيى وحدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن الزبيري عن نوفل بن ميمون قال أرسل ابن هرمة إلى عبد العزيز بن المطلب بكتاب يشكو فيه بعض حاله فبعث إليه بخمسة عشر دينارا فمكث شهرا ثم بعث يطلب منه شيئا آخر بعد ذلك فقال إنا والله ما نقوى على ما كان يقوى عليه الحكم بن المطلب وكان عبد العزيز قد خطب إلى امرأة من ولد عمر فردته فخطب إلى امرأة من بني عامر ابن لؤي فزوجوه فقال ابن هرمة ( خطبتَ إلى كَعْبٍ فرَّدُّوكَ صاغراً ... فحوّلتَ من كعبٍ إلى جِذْمِ عامرِ ) ( وفي عَامِرٍ عِزٌّ قديمٌ وإنّما ... أجازك فيْهم هزلُ أهل المقابر ) وقال فيه أيضا ( أبالبُخْلِ نطلُب ما قَدَّمتْ ... عرانينُ جادتْ بأموالها ) ( فهيهات خالفتَ فعلَ الكرامِ ... خلاَفَ الجِمالِ بأبوالها ) خبر زواجه وقال هارون بن محمد حدثني مغيرة بن محمد قال حدثني أبو محمد السهمي قال حدثني أبو كاسب قال تزوج ابن هرمة بامرأة فقالت له أعطني شيئا فقال والله ما معي إلا نعلاي فدفعهما إليها ومضى معها فتوركها مرارا فقالت له أجفيتني فقال لها الذي أجفى صاحبه منا يعض بظر أمه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني المسيبي محمد بن إسحاق قال حدثني إبراهيم بن سكرة جار أبي ضمرة قال جلس ابن هرمة مع قوم على شراب فذكر الحكم بن المطلب فأطنب في مدحه فقالوا له إنك لتكثر ذكر رجل لو طرقته الساعة في شاة يقال لها غراء تسأله إياها لردك عنها فقال أهو يفعل هذا قالوا إي والله وكانوا قد عرفوا أن الحكم بها معجب وكانت في داره سبعون شاة تحلب فخرج وفي رأسه ما فيه فدق الباب فخرج إليه غلامه فقال له أعلم أبا مروان بمكاني وكان قد أمر ألا يحجب إبراهيم بن هرمة عنه فأعلمه به فخرج إليه متشحا فقال أفي مثل هذه الساعة يا أبا إسحاق فقال نعم جعلت فداك ولد لأخ لي مولود فلم تدر عليه أمه فطلبوا له شاة حلوبة فلم يجدوها فذكروا له شاة عندك يقال لها غراء فسألني أن أسألكها فقال أتجيء في هذه الساعة ثم تنصرف بشاة واحدة والله لا تبقى في الدار شاة إلا انصرفت بها سقهن معه يا غلام فساقهن فخرج بهن إلى القوم فقالوا ويحك أي شيء صنعت فقص عليهم القصة قال وكان فيهن والله ما ثمنه عشرة دنانير وأكثر من عشرة مدح الوليد بعد أن قتل قال هارون وحدثني حماد بن إسحاق قال ذكر أبي عن أيوب بن عباية عن عمر بن أيوب الليثي قال شرب ابن هرمة عندنا يوما فسكر فنام فلما حضرت الصلاة تحرك أو حركته فقال لي وهو يتوضأ ما كان حديثكم اليوم قلت يزعمون أن الوليد قتل فرفع رأسه إلي وقال ( وكانت أُمورُ الناس مُنْبَتَّةَ القُوَى ... فشدّ الوليدُ حين قام نِظامَها ) ( خليفةُ حقٍّ لا خليفةُ باطلٍ ... رمَى عن قناة الدِّين حتى أقامها ) ثم قال لي إياك أن تذكر من هذا شيئا فإني لا أدري ما يكون أخبرني علي بن سليمان النحوي قال حدثنا أبو العباس الأحول عن ابن الأعرابي أنه كان يقول ختم الشعراء بأبن هرمة أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني أحمد بن يحيى البلاذري أن ابن هرمة كان مغرما بالنبيذ فمر على جيرانه وهو شديد السكر حتى دخل منزله فلما كان من الغد دخلوا عليه فعاتبوه على الحال التي رأوه عليها فقال لهم أنا في طلب مثلها منذ دهر أما سمعتم قولي ( أسألُ اللهَ سكرةً قبل موتي ... وصِياحَ الصِّبيان يا سكرانُ ) قال فنفضوا ثيابهم وخرجوا وقالوا ليس يفلح والله هذا أبدا موته ودفنه أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أنشدني عمي لابن هرمة ( ما أظنّ الزمانَ يا أُمَّ عَمْرٍ ... تاركاً إن هلكتُ من يَبْكِيني ) قال فكان والله كذلك لقد مات فأخبرني من رأى جنازته ما يحملها إلا أربعة نفر حتى دفن بالبقيع قال يحيى بن علي أراه عن البلاذري ولد ابن هرمة سنة تسعين وأنشد أبا جعفر المنصور في سنة أربعين ومائة قصيدته التي يقول فيها ( إنّ الغَوَانيَ قد أعرضن مَقْلِيَةً ... لمّا رمَى هَدَفَ الخمسين ميلادي ) قال ثم عمر بعدها مدة طويلة ذكر أخبار يونس الكاتب هو يونس بن سليمان بن كرد بن شهريار من ولد هرمز وقيل إنه مولى لعمرو بن الزبير ومنشؤه ومنزله بالمدينة وكان أبوه فقيها فأسلمه في الديوان فكان من كتابه وأخذ الغناء عن معبد وابن سريج وابن محرز والغريض وكان أكثر روايته عن معبد ولم يكن في أصحاب معبد أحذق ولا أقوم بما أخذ عنه منه وله غناء حسن وصنعة كثيرة وشعر جيد وكتابه في الأغاني ونسبها إلى من غنى فيها هو الأصل الذي يعمل عليه ويرجع إليه وهو أول من دون الغناء أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال أنشدني مسعود بن خالد المورياني لنفسه في يونس ( يا يونسُ الكاتبُ يا يونسُ ... طاب لنا اليوم بك المجلسُ ) ( إنّ المغنِّين إذا ما هُمُ ... جارَوْك أخْنَى بهمُ المقبس ) ( تنشُر دِيباجا وأشباهه ... وهم إذا ما نشروا كرْبسُوا ) أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال ذكر إبراهيم بن قدامة الجمحي قال اجتمع فتيان من فتيان أهل المدينة فيهم يونس الكاتب وجماعة ممن يغني فخرجوا إلى واد يقال له دومة من بطن العقيق في أصحاب لهم فتغنوا واجتمع إليهم نساء أهل الوادي قال بعض من كان معهم فرأيت حولنا مثل مراح الضأن وأقبل محمد بن عائشة ومعه صاحب له فلما رأى جماعة النساء عندهم حسدهم فالتفت إلى صاحبه فقال أما والله لأفرقن هذه الجماعة فأتى قصرا من قصور العقيق فعلا سطحه وألقى رداءه واتكأ عليه وتغنى صوت ( هذا مُقامُ مُطَرَّدٍ ... هُدِمتْ منازلُه ودورُهْ ) ( رَقَّى عليه عُداتُه ... ظلماً فعاقبه أميرُه ) الغناء لابن عائشة رمل بالوسطى والشعر لعبيد بن حنين مولى آل زيد بن الخطاب وقيل إنه لعبد الله بن أبي كثير مولى بني مخزوم قال فوالله ما قضى صوته حتى ما بقيت امرأة إلا جلست تحت القصر الذي هو عليه وتفرق عامة أصحابهم فقال يونس وأصحابه هذا عمل ابن عائشة وحسده ابن عائشة تغنى بشعر لعبد الله بن أبي كثير أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى عن أبيه قال تزوج عبد الله بن أبي كثير مولى بني مخزوم بالعراق في ولاية مصعب بن الزبير امرأة من بني عبد بن بغيض بن عامر بن لؤي ففرق مصعب بينهما فخرج حتى قدم على عبد الله بن الزبير بمكة فقال ( هذا مُقامُ مُطردِ ... هُدِمتْ منازلهُ ودورُهْ ) ( رَقَّتْ عليه عُداتُه ... كَذِاباً فعاقبه أميرُه ) ( في أنْ شَرِبتُ بجمّ ماءٍ ... كان حِلاًّ لي غَدِيرُهْ ) ( فلقد قُطعتُ الخَرْق بعد ... الخرِق مُعْتَسِفاً أسيرُهْ ) ( حتّى أتيتُ خليفةَ الرَّحمن ... ممهوداً سريرهُ ) ( حَيَّيْتُه بتَحِيّةٍ ... في مجلسٍ حضرتْ صُقُورُهْ ) فكتب عبد الله إلى مصعب أن أردد عليه امرأته فإني لا أحرم ما أحل الله عز و جل فردها عليه هذه رواية عمر بن شبة وأخبرني الحسن بن علي عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني عن سحيم بن حفص أن المتزوج بهذه المرأة عبيد بن حنين مولى آل زيد بن الخطاب وأن المفرق بينهما الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة الذي يقال له القباع وذكر باقي الخبر مثل الأول أخبرني عمي قال حدثني طلحة بن عبد الله الطلحي قال حدثني أحمد بن الهيثم قال خرج يونس الكاتب من المدينة إلى الشام في تجارة فبلغ الوليد بن يزيد مكانه فلم يشعر يونس إلا برسله قد دخلوا عليه الخان فقالوا له أجب الأمير والوليد إذا ذاك أمير قال فنهضت معهم حتى أدخلوني على الأمير لا أدري من هو إلا أنه من أحسن الناس وجها وأنبلهم فسلمت عليه فأمرني بالجلوس ثم دعا بالشراب والجواري فكنا يومنا وليلتنا في أمر عجيب وغنيته فأعجب بغنائي إلى أن غنيته ( إنْ يعِشْ مُصْعبٌ فنحن بخيرٍ ... قد أتانا مِنْ عيشنا ما نُرجِّي ) ثم تبنهت فقطعت الصوت فقال مالك فأخذت أعتذر من غنائي بشعر في مصعب فضحك وقال إن مصعبا قد مضى وانقطع أثره ولا عداوة بيني وبينه وإنما أريد الغناء فامض الصوت فعدت فيه فغنيته فلم يزل يستعيدنيه حتى أصبح فشرب مصطبحا وهو يستعيدني هذا الصوت ما يتجاوزه حتى مضت ثلاثة أيام ثم قلت له جعلني الله فداء الأمير أنا رجل تاجر خرجت مع تجار وأخاف أن يرتحلوا فيضيع مالي فقال لي أنت تغدوا غدا وشرب باقي ليلته وأمر لي بثلاثة آلاف دينار فحملت إلي وغدوت إلى أصحابي فلما خرجت من عنده سألت عنه فقيل لي هذا الأمير الوليد بن يزيد ولي عهد أمير المؤمنين هشام فلما استخلف بعث إلي فأتيته فلم أزل معه حتى قتل صوت من المائة المختارة ( أقصدتْ زينبُ قلبي بعدما ... ذهب الباطلُ عنِّي والغزلْ ) ( وعَلاَ المَفْرِقَ شيبٌ شامِلٌ ... واضِحٌ في الرأس منَّي واشْتعلْ ) الشعر لابن رهيمة المدني والغناء في اللحن المختار لعمر الوادي ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها عن إسحاق وفيه ليونس الكاتب لحنان أحدهما خفيف ثقيل أول بالبنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر رمل بالسبابة في مجرى البنصر عنه أيضا وفيه رملان بالوسطى والبنصر أحدها لابن المكي والآخر لحكم وقيل إنه لإسحاق من رواية الهشامي ولحن يونس في هذا الشعر من أصواته المعروفة بالزيانب والشعر فيها كله لابن رهيمة في زينب بنت عكرمة ابن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وهي سبعة أحدها قد مضى والآخر صوت ( أقصدتْ زينبُ قلبي ... وسَبَتْ عقلي ولُبِّي ) ( تركتْني مُستهاماً ... أستغيثُ الله رَبِّي ) ( ليس لي ذنبٌ إليها ... فتُجازيني بذَنْبي ) ( ولها عندي ذنوبٌ ... في تَنَائيها وقُربي ) ( غنّاه يونس رَمَلاً ... بالبِنصر وفيه لَحَكَم هَزَجٌ ) خفيف بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق ومنها صوت ( وجَدَ الفؤادُ بزينبَا ... وَجْداً شديداً مُتْعِبَا ) ( أصبحت من وَجْدِي بها ... أُدْعَى سقيماً مُسْهَبا ) ( وجعلتُ زينبَ سُتْرةً ... وأتيتُ أَمراً مُعْجِبا ) غناه يونس ثقيلا أول مطلقا في مجرى البنصر عن عمرو وإسحاق وهو مما يشك فيه من غناء يونس ولعلية بنت المهدي فيه ثقيل أول آخر لا يشك فيه أنه لها كنت فيه عن رشأ الخادم وذكر أحمد بن عبيد أن فيه من الغناء لحنين هما جميعا من الثقيل الأول ليونس ومن لا يعلم يزعم أن الشعر لها ومنها صوت ( إنّما زينبُ المُنَى ... وهِي الهمُّ والهَوَى ) ( ذاتُ دَلٍّ تُضْنِي الصَّحِيحَ ... وتُبْرِي من الجَوَى ) ( لا يُغَرَّنْكِ أنْ دعَوْتِ ... فُؤادي فما الْتَوَى ) ( واحْذَرِي هِجْرةَ الحبيبِ ... إذا مَلَّ وانْزَوَى ) غناه يونس رملا بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق ومنها صوت ( إنّما زينبُ هَمِّي ... بأبي تلك وأُمِّي ) ( بأبي زينبُ لا أَكْنِي ... ولكنِّي أُسَمِّي ) ( بأبي زينبُ مِنْ قاضٍ ... قَضَى عمداً بُظلْمي ) ( بأبي مَنْ ليس لي في ... قلبِه قيراطُ رُحْمِ ) غناه يونس رملا بالبنصر عن عمرو وله فيه لحن آخر ومنها صوت ( يا زينبُ الحسناءُ يا زينبُ ... يا أكرمَ النَّاسِ إذا تُنْسَبُ ) ( تَقِيكِ نفسي حادثاتِ الرَّدَى ... والأُمُّ تَفْدِيكَ معاً والأبُ ) ( هَلْ لكِ في وُدّ امرىءٍ صادقٍ ... لا يَمْذُق الوُدَّ ولا يَكْذِبُ ) ( لا يبتغي في وُدّه مَحْرَماً ... هيهاتَ أنتِ العملُ الأَرْيَبُ ) غناه يونس ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق ومنها صوت فليتَ الذي يلحَى على زينبَ المُنَى ... تَعَلَّقهُ مما لَقِيتُ عَشِيرُ ) ( فَحْسِبي به بالعُشْرِ ممّا لَقِيتُه ... وذلك فيما قد تراه يسير ) غناه يونس ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن الهشامي هذه سبعة أصوات قد مضت وهي المعروفة بالزيانب ومن الناس من يجعلها ثمانية ويزيد فيها لحن يونس في ( تَصَابَيْتَ أم هاجتْ لك الشوقَ زينب ... ) وليس هذا منها وإن كان ليونس لحنه فإن شعره لحجية بن المضرب الكندي وقد كتب في موضع آخر وإنما الزيانب في شعر ابن رهيمة ومنهم من يعدها تسعة ويضيف إليها ( قُولاَ لزينبَ لو رأيتِ ... تَشَوُّقي لكِ واشترافي ) وهذا اللحن لحكم والشعر لمحمد بن أبي العباس السفاح في زينب بنت سليمان ابن علي وقد كتب في موضع آخر انقضت أخبار يونس الكاتب أخبار ابن رهيمة تشبيبه بزينب بنت عكرمة وأمر هشام بضربه ) أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم قال حدثني أبو هفان عن إسحاق قال كان ابن رهيمة يشبب بزينب بنت عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ويغني يونس بشعره فافتضحت بذلك فاستعدى عليه أخوها هشام بن عبد الملك فأمر بضربه خمسمائة سوط وأن يباح دمه إن وجد قد عاد لذكرها وأن يفعل ذلك بكل من غنى في شيء من شعره فهرب هو ويونس فلم يقدر عليهما فلما ولي الوليد بن يزيد ظهرا وقال ابن رهيمة ( لئن كنت اطردتني ظالما ... لقد كَشَف اللهُ ما أرَهَبُ ) ( ولو نِلْتَ مِنِّي ما تشتهي ... لقلَّ إذا رَضِيتْ زينبُ ) ( وما شئت فاصْنعْه بي بعد ذا ... فحُبِّي لزينب لا يذهبُ ) وفي الأصوات المعروفة بالزيانب يقول أبان بن عبد الحميد اللاحقي ( أحِبُّ من الغِناء خفِيفه ... إنْ فاتني الهزجُ ) ( وأشْنَأ ضوءَ برقٍ مثل ... ما أشْنأ عفا مُزُجُ ) ( وأبْغِضُ يومَ تنأى والزَّيانِبُ ... كلُّها سُمُجُ ) ( ويُعْجِبُني لإِبراهيم ... والأوتارُ تَخْتلِجُ ) ( أدِيرُ مُدَامةً صِرْفاً ... كأنَّ صَبِيبَها وَدَجُ ) يغني أبان لحن إبراهيم والشعر لأبان أيضا وهو صوت ( أُدِيرُ مدامةً صِرْفاً ... كأنَّ صَبِيبَها وَدَجُ ) ( فظَلَّ تخالُه مَلِكاً ... يُصَرِّفُها ويَمتزجُ ) الشعر لأبان والغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لابن جامع ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق أيضا ومما في غناء يونس من المائة المختارة المذكورة في هذا الكتاب صوت من المائة المختارة ( ألاَ يا لَقَوْمِي لِلرُّقَادِ المُسَهَّدِ ... ولِلماء ممنوعاً مِنَ الحائمِ الصَّدِي ) ( ولِلحال بعد الحال يركَبُها الفتى ... ولِلحُبِّ بعد السَّلْوة المُتَمَرِّدِ ) الشعر لإسماعيل بن يسار النسائي من قصيدة مدح بها عبد الملك بن مروان وذكر يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق أنها للغول بن عبد الله بن صيفي الطائي والصحيح أنها لإسماعيل وأنا أذكر خبره مع عبد الملك بن مروان ومدحه إياه بها ليعلم صحة ذلك والغناء ليونس ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول مطلق في مجرى البنصر وتمام هذه الأبيات ( ولِلمَرْءِ لا عَمّنْ يُحِبُّ بِمُرْعوٍ ... ولا لِسبيلِ الرُّشْدِ يوما بمُهتدي ) ( وقد قال أقوامٌ وهم يعذِلُونه ... لقد طال تعذيبُ الفؤادِ المُصيَّدِ ) أخبار إسماعيل بن يسار ونسبه ولاؤه وسبب تلقيبه بالنسائي حدثني عمي قال حدثني أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال كان إسماعيل بن يسار النسائي مولي بني تيم بن مرة تيم قريش وكان منقطعا إلى آل الزبير فلما أفضت الخلافة إلى عبد الملك بن مروان وفد إليه مع عروة بن الزبير ومدحه ومدح الخلفاء من ولده بعده وعاش عمرا طويلا إلى أن أدرك آخر سلطان بني أمية ولم يدرك الدولة العباسية وكان طيبا مليحا مندرا بطالا مليح الشعر وكان كالمنقطع إلى عروة بن الزبير وإنما سمي إسماعيل بن يسار النسائي لأن أباه كان يصنع طعام العرس ويبيعه فيشتريه منه من أراد التعريس من المتجملين وممن لم تبلغ حاله اصطناع ذلك وأخبرني الأسدي قال حدثنا أبو الحسن محمد بن صالح بن النطاح قال إنما سمي إسماعيل بن يسار النسائي لأنه كان يبيع النجد والفرش التي تتخذ للعرائس فقيل له إسماعيل بن يسار النسائي وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد عن ابن عائشة أن إسماعيل بن يسار النسائي إنما لقب بذلك لأن أباه كان يكون عنده طعام العرسات مصلحا أبدا فمن طرقه وجده عنده معدا أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال حدثني الزبير بن بكار قال قال مصعب بن عثمان لما خرج عروة بن الزبير إلى الشام يريد الوليد بن عبد الملك أخرج معه إسماعيل بن يسار النسائي وكان منقطعا إلى آل الزبير فعادله فقال عروة ليلة من الليالي لبعض غلمانه انظر كيف ترى المحمل قال أراه معتدلا قال إسماعيل الله أكبر ما اعتدل الحق والباطل قبل الليلة قط فضحك عروة وكان يستخف إسماعيل ويستطيبه سخريته من رجل يكنى أبا قيس أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي عن أيوب بن عباية المخزومي أن إسماعيل بن يسار كان ينزل في موضع يقال له حديلة وكان له جلساء يتحدثون عنده ففقدهم أياما وسأل عنهم فقيل هم عند رجل يتحدثون إليه طيب الحديث حلو ظريف قدم عليهم يسمى محمدا ويكنى أبا قيس فجاء إسماعيل فوقف عليهم فسمع الرجل القوم يقولون قد جاء صديقنا إسماعيل بن يسار فأقبل عليه فقال له أنت إسماعيل قال نعم قال رحم الله أبويك فإنهما سمياك باسم صادق الوعد وأنت أكذب الناس فقال له إسماعيل ما اسمك قال محمد قال أبو من قال أبو قيس قال لا ولكن لا رحم الله أبويك فإنهما سمياك باسم نبي وكنياك بكنية قرد فأفحم الرجل وضحك القوم ولم يعد إلى مجالستهم فعادوا إلى مجالسة إسماعيل أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني عن نمير العذري قال إستأذن إسماعيل بن يسار النسائي على الغمر بن يزيد بن عبد الملك يوما فحجبه ساعة ثم أذن له فدخل يبكي فقال له الغمر مالك يا أبا فائد تبكي قال وكيف لا أبكي وأنا على مروانيتي ومروانية أبي أحجب عنك فجعل الغمر يعتذر إليه وهو يبكي فما سكت حتى وصله الغمر بجملة لها قدر وخرج من عنده فلحقه رجل فقال له أخبرني ويلك يا إسماعيل أي مروانية كانت لك أو لأبيك قال بغضنا إياهم امرأته طالق إن لم يكن يلعن مروان وآله كل يوم مكان التسبيح وإن لم يكن أبوه حضره الموت فقيل له قل لا إله إلا الله فقال لعن الله مروان تقربا بذلك إلى الله تعالى وإبدالا له من التوحيد وإقامة له مقامه مفاخرته بالعجم على العرب أخبرني عمي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني مصعب قال قال إسماعيل بن يسار النسائي قصيدته التي أولها ( ما على رسمِ منزلٍ بالجَنَابِ ... لو أبانَ الغداةَ رَجْعَ الجوابِ ) ( غيَّرتْه الصَّبَا وكلُّ مُلِثٍّ ... دائِم الوَرْقِ مُكْفَهِرِّ السَّحَابِ ) ( دارَ هندٍ وهل زماني بهندٍ ... عائدٌ بالهوى وصَفْوِ الجَنابِ ) ( كالذي كان والصفاءُ مصونٌ ... لم تَشُبْه بهِجْرةٍ واجتنابِ ) ( ذاك منها إذ أنتَ كالغُصْن غَضٌّ ... وهي رُؤْدٌ كُدمْيةِ المِحْرابِ ) ( غادةٌ تَسْتَبي العقولَ بعَذْبٍ ... طَيِّبِ الطعم باردِ الأنياب ) ( وأثيثٍ من فوق لونٍ نَقِيٍّ ... كبياض اللُّجَيْنِ في الزِّرْياب ) ( فأقِلَّ المَلاَمَ فيها وأقْصِرْ ... لَجَّ قلبي من لوعةٍ واكتئاب ) ( صاحِ أبصرتَ أو سمِعتَ براعٍ ... رَدَّ في الضَّرْعِ ما قَرَى في العِلاَبِ ) ( انقضتْ شِرَّتي وأقصر جهلي ... واستراحتْ عَوَاذِلِي من عِتابي ) وقال فيها يفخر على العرب بالعجم ( رُبَّ خالٍ مُتوَّجٍ لِي وعَمٍّ ... ماجدٍ مُجْتَدىً كريم النِّصَاب ) ( إنّما سُمِّي الفوارِسُ بالفُرْسِ ... مُضاهاةَ رِفْعةِ الأنسابِ ) ( فاتْرُكي الفخر يا أُمام علينا ... واتركي الجورْ وانْطِقِي بالصَّوابِ ) ( وأسألي إن جهِلْتِ عنَّا وعنكم ... كيف كنّا في سالف الأحقابِ ) ( إذ تُرَبِّي بَنَاتنا وتَدَسُّونَ ... سَفَاهاً بناتِكم في التُّرابِ ) فقال رجل من آل كثير بن الصلت إن حاجتنا إلى بناتنا غير حاجتكم فأفحمه يريد أن العجم يربون بناتهم لينكحوهن والعرب لا تفعل ذلك وفي هذه الأبيات غناء نسبته صوت ( صاحِ أبصرتَ أو سمعتَ براعٍ ... ردّ في الضَّرْع ما قَرَى في العِلابَ ) ( إنقضتْ شِرَّتي وأَقْصَرَ جهلي ... واستراحتْ عواذلي من عِتابي ) الشعر لإسماعيل بن يسار النسائي والغناء لمالك خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى وذكر عمرو بن بانة في نسخته الأولى أن فيه للغريض خفيف ثقيل بالبنصر وذكر في نسخته الثانية أنه لابن سريج وذكر الهشامي أن لحن ابن سريج رمل بالوسطى وأن لحن الغريض ثقيل أول شعوبيته وحدثني بهذا الخبر عمي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن مصعب قال إسماعيل بن يسار يكنى أبا فائد وكان أخواه محمد وإبراهيم شاعرين أيضا وهم من سبي فارس وكان إسماعيل شعوبيا شديد التعصب للعجم وله شعر كثير يفخر فيه بالأعاجم قال فأنشد يوما في مجلس فيه أشعب قوله ( إذ نُرَبِّي بناتِنا وتَدُسُّونُ ... سَفَاهاً بناتِكم في التُّرابِ ) فقال له أشعب صدقت والله يا أبا فائد أراد القوم بناتهم لغير ما أردتموهن له قال وما ذاك قال دفن القوم بناتهم خوفا من العار وربيتموهن لتنكحوهن قال فضحك القوم حتى استغربوا وخجل إسماعيل حتى لو قدر أن يسيخ في الأرض لفعل مدح الوليد بن يزيد فأكرمه أخبرني الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال أخبرني أبو سلمة الغفاري قال أخبرنا أبو عاصم الأسلمي قال بينا ابن يسار النسائي مع الوليد بن يزيد جالس على بركة إذ أشار الوليد إلى مولى له يقال له عبد الصمد فدفع ابن يسار النسائي في البركة بثيابه فأمر به الوليد فأخرج فقال ابن يسار ( قُلْ لِوَالِي العَهْدِ إنْ لاقَيْتَه ... ووَلِيُّ العهدِ أولىَ بالرَّشَدْ ) ( إنّه واللهِ لولا أنت لم ... يَنْجُ منِّي سالماً عبدُ الصَّمَدْ ) ( إنّه قد رام منِّي خُطَّةً ... لم يَرُمْها قبلَه منِّي أحدْ ) ( فهو مما رامَ منِّي كالذي ... يَقْنُصُ الدُّرّاج من خِيسِ الأَسَدْ ) فبعث إليه الوليد بخلعة سنية وصلة وترضاه وقد روي هذا الخبر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في قصة أخرى وذكر هذا الشعر له فيه أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي حدثني مصعب بن عبد الله قال سمعت إبراهيم بن أبي عبد الله يقول ركب فلان من ولد جعفر بن أبي طالب رحمه الله بإسماعيل بن يسار النسائي حتى أتى به قباء فاستخرج الأحوص فقال له أنشدني قولك ( ما ضَرَّ جِيرانَنا إِذ انتجعوا ... لو أنَّهم قبل بَيْنهِم رَبَعُوا ) فأنشده القصيدة فأعجب بها ثم انصرف فقال له إسماعيل بن يسار أما جئت إلا لما أرى قال لا قال فاسمع فأنشده قصيدته التي يقول فيها ( ما ضَر أهلَكِ لو تَطَوّف عاشقٌ ... بِفناء بيتِك أو أَلَمَّ فسلَّما ) فقال والله لو كنت سمعت هذه القصيدة أو علمت أنك قلتها لما أتيته وفي أبيات من هذا الشعر غناء نسبته صوت ( يا هندُ رُدّي الوصلَ أن يَتَصَرَّمَا ... وصِلي امرأً كَلِفاً بحبِّك مُغْرَما ) ( لو تبذُلين لنا دَلاَلَكِ مَرّةً ... لم نَبْغِ منكِ سوى دَلاَلَكِ مَحْرَمَا ) ( مَنَع الزيارةَ أنَّ أهْلَكِ كلَّهم ... أبدَوْا لِزَوْرِك غِلْظةً وتَجَهُّمَا ) ( ما ضَرَّ أهلَكِ لو تَطَوَّفَ عاشقٌ ... بِفناء بيتِكِ أو ألَمَّ فَسلَّما ) الشعر لإسماعيل بن يسار النسائي والغناء لابن مسجح خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لإبراهيم الموصلي رمل بالبنصر عن حبش زبان السواق يبكي بعد أن يسمع شعره أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة قال أنشد رجل زبان السواق قول إسماعيل بن يسار ( ما ضَرَّ أهلَكِ لو تَطَوّفَ عاشقٌ ... بفناءِ بيتِكِ أو ألَمَّ فسَلَّما ) فبكى زبان ثم قال لا شيء والله إلا الضجر وسوء الخلق وضيق الصدر وجعل يبكي ويمسح عينيه أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي صهر المبرد قال حدثني طلحة ابن عبد الله بن إسحاق الطلحي قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني جعفر بن الحسين المهلبي قال أنشدت زبان السواق قول إسماعيل بن يسار النسائي صوت ( إنّ جُمْلاً وإنْ تَبَيَّنْتُ منها ... نَكَباً عن مَوَدّتي وازْوِرَارَا ) ( شَرَّدتْ بادِّكارها النَّوْمَ عنِّي ... وأُطيرَ العَزَاءُ منِّي فطارا ) ( ما على أهلها ولم تأتِ سُوءا ... أن تُحَيَّا تَحِيّةً أو تُزارَا ) ( يوم أَبْدَوْا لِيَ التَّجَهُّمَ فيها ... وحَمَوْها لجَاجةً وضِرَارَا ) فقال زبان لا شيء وأبيهم إلا اللحز وقلة المعرفة وضيق العطن فصاح عليه أبو المعافى وقال فعلى من ذاك ويلك أعليك أو على أبيك أو أمك فقال له زبان إنما أتيت يا أبا المعافى من نفسك لو كنت تفعل هذا ما اختلفت أنت وابنك فوثب إليه أبو المعافى يرميه بالتراب ويقول له ويحك يا سفيه تحسن الدياثة وزبان يسعى هربا منه الغناء في هذه الأبيات لابن مسجح خفيف ثقيل بالوسطى عن ابن المكي وحماد وذكر الهشامي وحبش أنه لابن محرز وأن لحن ابن مسجح ثاني ثقيل حضر من الحجاز ليمدح الوليد أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال غني الوليد بن يزيد في شعر لإسماعيل بن يسار وهو ( حتّى إذا الصبحُ بدا ضوؤُهُ ... وغارِت الجوزاء والمِرزَمُ ) ( خرجتُ والوَطْءُ خَفِيٌّ كما ... ينساب من مَكْمَنِه الأَرْقَمُ ) فقال من يقول هذا قالوا رجل من أهل الحجاز يقال له إسماعيل بن يسار النسائي فكتب في إشخاصه إليه فلما دخل عليه استنشده القصيدة التي هذان البيتان منها فأنشده ( كَلْثَمُ أنتِ الهَمُّ يا كلثُم ... وأنتمُ دائي الذي أكْتُمُ ) ( أُكاتمُ الناسَ هوىً شَفَّني ... وبعضُ كِتمان الهوى أحزمُ ) ( قد لُمْتِني ظلماً بلا ظِنَّةٍ ... وأنتِ فيما بيننا ألوَمُ ) ( أبْدِي الذي تُخْفِينه ظاهراً ... أرتدُّ عنه فيكِ أو أُقدِمُ ) ( إمّا بيأْسٍ منك أو مَطْمَعٍ ... يُسْدَى بحسن الودّ أو يُلْحَمُ ) ( لا تَترُكِيني هكذا مَيِّتاً ... لا أُمْنَحُ الوُدَّ ولا أصْرَمُ ) ( أَوْفِي بما قُلْتِ ولا تَنْدَمِي ... إنّ الوَفِيَّ القولِ لا يَنْدَمُ ) ( آية ما جئتُ على رِقْبةٍ ... بعد الكَرَى والحيُّ قد نَوَّمُوا ) ( أخافِتٌ المَشْيَ حذارَ العِدا ... والليلُ داجٍ حالكٌ مظلمُ ) ( ودون ما حاولتُ إذ زرتُكم ... أخوكِ والخالُ معاً والعَمُ ) ( وليس إلاّ اللهَ لي صاحبٌ ... إليكمُ والصارمُ اللَّهْذَمُ ) ( حتّى دخلتُ البيتَ فاستذرفتْ ... من شَفَقٍ عيناكِ لي تَسْجُمُ ) ( ثم انجلَى الحزنُ ورَوْعاتُه ... وغُيِّبَ الكاشحُ والمُبْرمُ ) ( فبِتُّ فيما شئتُ من نَعْمةٍ ... يَمْنَحُنِيها نحرهُا والفَمُ ) ( حتىّ إذا الصبحُ بَدَا ضوؤه ... وغارِت الجوزاءُ والمِرْزَمُ ) ( خرجتُ والوطءُ خفيُّ كما ... ينسابُ من مَكْمَنِه الأَرْقَمُ ) قال فطرب الوليد حتى نزل عن فرشه وسريره وأمر المغنين فغنوه الصوت وشرب عليه أقداحا وأمر لإسماعيل بكسوة وجائزة سنية وسرحه إلى المدينة نسبة هذا الصوت الشعر لإسماعيل بن يسار النسائي والغناء لابن سريج رمل شيخ يسمع شعره بصوت جارية فيلقي بنفسه في الفرات إعجابا به حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق الموصلي قال حدثنا محمد بن كناسة قال اصطحب شيخ وشباب في سفينة من الكوفة فقال بعض الشباب للشيخ إن معنا قينة لنا ونحن نجلك ونحب أن نسمع غناءها قال الله المستعان فأنا أرقى على الأطلال وشأنكم فغنت ( حتَّى إذا الصبحُ بَدَا ضوؤه ... وغارتِ الجوزاء والمرزمُ ) ( أقبلت والوطء خفيٌّ كما ... ينساب من مكمنه الأرقمُ ) قال فألقى الشيخ بنفسه في الفرات وجعل يخبط بيديه ويقول أنا الأرقم أنا الأرقم فأدركوه وقد كاد يغرق فقالوا ما صنعت بنفسك فقال إني والله أعلم من معاني الشعر ما لا تعلمون أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو مسلم المستملي عن المدائني قال مدح إسماعيل بن يسار النسائي رجلا من أهل المدينة يقال له عبد الله بن أنس وكان قد اتصل ببني مروان وأصاب منهم خيرا وكان إسماعيل صديقا له فرحل إلى دمشق إليه فأنشده مديحا له ومت إليه بالجوار والصداقة فلم يعطه شيئا فقال يهجوه ( لَعَمْرُكَ ما إلى حَسَنٍ رَحَلْنا ... ولا زُرْنَا حُسَيْناً يابنَ أنْسِ ) يعني الحسن والحسين رضي الله عنهما ( ولا عبداً لعبدهما فنَحْظَى ... بحُسْنِ الحَظِّ منهم غيرَ بَخْسِ ) ( ولكن ضُبَّ جَنْدَلةٍ أتينا ... مُضِبّاً في مَكَامِنِه يُفَسِّي ) ( فلمّا أنّ أتيناه وقَلْنا ... بحاجتنا تلوَّن لَوْنَ وَرْسِ ) ( وأعرضَ غيرَ مُنْبَلِجٍ لِعُرْفٍ ... وظَلَّ مُقَرْطِباً ضِرْساً بِضرْسِ ) ( فقلتُ لأهله أبِه كُزَازٌ ... وقلتُ لصاحبي أتُراه يُمْسِي ) ( فكان الغُنْمُ أن قُمْنا جميعاً ... مخافةَ أن نُزَنِّ بقتل نَفْسِ ) رثاؤه لمحمد بن عروة حدثني عمي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب بن عبد الله قال وفد عروة بن الزبير إلى الوليد بن عبد الملك وأخرج معه إسماعيل بن يسار النسائي فمات في تلك الوفادة محمد بن عروة بن الزبير وكان مطلعا على دواب الوليد بن عبد الملك فسقط من فوق السطح بينها فجعلت ترمحه حتى قطعته كان جميل الوجه جوادا فقال إسماعيل بن يسار يرثيه ( صلَّى الإِلهُ على فَتًى فارقتُه ... بالشام في جَدَثِ الطَّويّ المُلْحَدِ ) ( بوَأْتُه بيديَّ دارَ إقامةٍ ... نائي المَحَلة عن مَزَارِ العُوَّدِ ) ( وغبَرتُ أعْوِلُه وقد أسملتُه ... لِصَفَا الأَماعِزِ والصَّفِيحِ المُسْنَدِ ) ( مُتَخَشِّعاً للدهر ألبَسُ حِلَّةً ... في النائبات بحَسْرةٍ وتَجَلُّدِ ) ( أعني ابنَ عُرْوةَ إنَّه قد هَدّني ... فَقْدُ ابنِ عُرْوةَ هَدّةً لم تَقْصِدِ ) ( فإِذا ذهبتُ إلى العَزاء أَرُومُه ... لِيَرَى المُكَاشِحُ بالعزاء تَجَلُّديِ ) ( مَنَع التَّعَزِّيَ أَنَّني لِفراقه ... لَبِس العَدُوُّ عليّ جِلْدَ الأَرْبَدِ ) ( ونأَى الصديقُ فلا صديقَ أَعُدُّه ... لدِفاع نائبةِ الزَّمان المُفْسِدِ ) ( فلئن تركتُكَ يا محمد ثاوياً ... لِبِمَا تروح مع الكرامِ وتغتدي ) ( كان الذي يَزَع العدوَّ بدفعه ... ويردّ نَخْوَةَ ذي المِرَاحِ الأَصْيَد ) ( فمضى لوجهته وكلُّ مُعَمَّرِ ... يوماً سيُدْركُه حِمَامُ الموعد ) مدح عبد الملك بن مروان بعد مقتل ابن الزبير حدثني عمي قال حدثني أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب بن عبد الله عن أبيه أن إسماعيل بن يسار دخل على عبد الملك بن مروان لما أفضى إليه الأمر بعد مقتل عبد الله بن الزبير فسلم ووقف موقف المنشد واستأذن في الإنشاد فقال له عبد الملك الآن يابن يسار إنما أنت امرؤ زبيري فبأي لسان تنشد فقال له يا أمير المؤمنين أنا أصغر شأنا من ذلك وقد صفحت عن أعظم جرما وأكثر غناء لأعدائك مني وإنما أنا شاعر مضحك فتبسم عبد الملك وأومأ إليه الوليد بأن ينشد فابتدأ فأنشد قوله ( أَلاَ يا لَقَوْمي لِلرُّقَاد المُسَهَّدِ ... ولِلماء ممنوعاً من الحائم الصَّدِي ) ( ولِلحال بعد الحال يركبها الفتى ... ولِلحُبِّ بعد السَّلوْة المُتَمَرِّد ) ( ولِلمرء يُلْحَى في التصابي وقبلَه ... صبا بالغواني كُلُّ قَرْمٍ مُمَجَّدِ ) ( وكيف تَنَاسِي القَلْبِ سَلْمَى وحُبَها ... كَجمْرِ غَضىً بين الشَّراسيف مُوقَدِ ) حتى انتهى إلى قوله ( إليكَ إمامَ النّاس من بطن يَثْرِبٍ ... ونِعْمَ أخو ذي الحاجة المُتَعَمِّدِ ) ( رَحَلْنا لأنّ الجودَ منك خليقةٌ ... وأنَّك لم يَذْمُمْ جنابَك مُجْتَدِي ) ( ملكتَ فزِدْتَ النّاسَ ما لم يَزِدْهُم ... إمامٌ من المعروف غيرِ المُصَرَّد ) ( وقُمْتَ فلم تنقُض قضاءَ خليفةٍ ... ولكن بما ساروا من الفعل تقتدي ) ( ولمّا وَلِيتَ المُلْكَ ضاربتَ دونه ... وأسندتَه لا تأتلي خيرَ مُسْنَدِ ) ( جعلتَ هِشَاماً والوليد ذخيرةً ... ولِيَّين للعهد الوثيق المؤكَّدِ ) قال فنظر إليهما عبد الملك متبسما والتفت إلى سلميان فقال أخرجك إسماعيل من هذا الأمر فقطب سليمان ونظر إلى إسماعيل نظر مغضب فقال إسماعيل يا أمير المؤمنين إنما وزن الشعر أخرجه من البيت الأول وقد قلت بعده ( وأمضيتَ عزماً في سليمانَ راشداً ... ومَنْ يعتصمْ بالله مثَلك يَرْشُدِ ) فأمر له بألفي درهم صلة وزاد في عطائه وفرض له وقال لولده أعطوه فأعطوه ثلاثة آلاف درهم هشام بن عبد الملك يلقي به في بركة ماء بعد أن أنشده قصيدته التي يفتخر فيها بالعجم أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال ذكر ابن النطاح عن أبي اليقظان أن إسماعيل بن يسار دخل على هشام بن عبد الملك في خلافته وهو بالرصافة جالس على بركة له في قصره فاستنشده وهو يرى أنه ينشده مديحا له فأنشده قصيدته التي يفتخر فيها بالعجم ( يا رَبْعَ رامةَ بالعَلْياْء من رِيمِ ... هل تَرْجِعَنّ إذا حَيَّيْتُ تسليمي ) ( ما بالُ حَيٍّ غدتْ بُزْلُ المَطِيِّ بهم ... تَخْدِي لغربتهم سَيْراً بتقحيم ) ( كأنَّني يوم ساروا شاربٌ سلَبْتْ ... فؤادَه قهوةٌ من خَمْرِ دَارُومِ ) حتى انتهى إلى قوله ( إِنِّي وَجدِّك ما عُوِدي بذي خَوَرٍ ... عند الحِفَاظِ ولا حَوْضِي بمهدومِ ) ( أَصْلي كريمٌ ومجدي لا يُقاس به ... ولي لسانٌ كحَدِّ السَّيْفِ مسموم ) ( أَحْمي به مجدَ أقوامٍ ذوي حَسَبٍ ... من كلِّ قَرْمٍ بتاج المُلْكِ معمومِ ) ( جَحَاجِحٍ سادةٍ بُلْجٍ مَرَازِبةٍ ... جُرْدٍ عِتَاقٍ مسَامِيحٍ مَطَاعيم ) ============================================= ج9. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ( مَنْ مثلُ كِسْرَى وسابورِ الجنودِ معاً ... والهُرْمُزانِ لفخرٍ أو لتعظيم ) ( أُسْدُ الكتائبِ يوم الرَّوعِ إن زَحَفُوا ... وهمْ أذلُّوا ملوكَ التُّرْكِ والرُّوم ) ( يمشُون في حَلَق المادِيِّ سابغةً ... مَشْيَ الضَّرَاغِمةِ الأُسدِ اللَّهاميمِ ) ( هناك إنْ تسألي تُنْبَيْ بأنّ لنا ... جُرثْومةً قَهَرتْ عِزَّ الجراثيم ) قال فغضب هشام وقال له يا عاض بظر أمه أعلي تفخر وإياي تنشد قصيدة تمدح بها نفسك وأعلاج قومك غطوه في الماء فغطوه في البركة حتى كادت نفسه تخرج ثم أمر بإخراجه وهو بشر ونفاه من وقته فأخرج عن الرصافة منفيا إلى الحجاز قال وكان مبتلى بالعصبية للعجم والفخر بهم فكان لا يزال مضروبا محروما مطرودا مدح ابني يزيد فأكرماه أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي خيثمة قال قال ابن النطاح وحدثني أبو اليقظان أن إسماعيل بن يسار وفد إلى الوليد بن يزيد وقد أسن وضعف فتوسل إليه بأخيه الغمر ومدحه بقوله ( نأتْك سُلَيْمَى فالهَوَى مُتَشاجِرُ ... وفي نَأْيِها للقلب داءٌ مُخَامِرُ ) ( نأتْك وهام القلب نأياً بذكرها ... ولَجّ كما لجّ الخليعُ المُقَامِرُ ) ( بواضحةِ الأقرابِ خَفّاقةِ الحَشَى ... بَرَهْرَهةٍ لا يَجْتَوِيها المُعَاشِرُ ) يقول فيها يمدح الغمر بن يزيد ( إذا عدّد الناسُ المكارمَ والعُلاَ ... فلا يَفْخَرَنْ يوماً على الغَمْرِ فاخرُ ) ( فما مرّ من يومٍ على الدهر واحدٍ ... على الغَمْرِ إلاّ وهو في الناس غامِر ) ( تراهم خشوعاً حين يبدو مهابةً ... كما خَشَعَتْ يوماً لكِسْرَى الأَسَاوِرُ ) ( أَغَزُّ بِطاحِيٌّ كأنّ جبينَه ... إذا ما بدا بدرٌ إذا لاح باهرُ ) ( وَقَى عِرْضَه بالمالِ فالمالُ جُنَّةٌ ... له وأهات المَُال والعِرض وافر ) ( وَفَى سَيْبِه للمجتدين عِمارةٌ ... وفي سَيْفه للدِّين عِزٌّ وناصر ) ( نَمَاه إلى فَرْعَيْ لُؤَيِّ بن غالبٍ ... أبوه أبو العاصي وحَرْبٌ وعامر ) ( وخمسة آباءٍ له قد تتابعوا ... خلائفُ عَدْلٍ مُلْكُهُمْ مُتَواتِر ) ( بَهالِيلُ سَبَّاقون في كلّ غايةٍ ... إذا استبقتْ في المَكْرُماتِ المَعاشِر ) ( همُ خيرُ مَنْ بين الحَجُون إلى الصَّفَا ... إلى حيثُ أفضتْ بالبِطاح الحَزَاوِر ) ( وهمْ جمعوا هذه الأنامَ على الهُدَى ... وقد فرّقتْ بين الأنام البصائر ) قال فأعطاه الغمر ثلاثة آلاف درهم وأخذ له من أخيه الوليد ثلاثة آلاف درهم أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي حيثمة عن مصعب قال لما مات محمد بن يسار وكانت وفاته قبل أخيه دخل إسماعيل على هشام ابن عروة فجلس عنده وحدثه بمصيبته ووفاة أخيه ثم أنشده يرثيه ( عِيلَ العَزَاءُ وخانني صَبْرِي ... لمّا نَعَى الناعي أبا بَكْرِ ) ( ورأيتُ رَيْبَ الدَّهْرِ أفردني ... منه وأسْلمَ للعِدَا ظهري ) ( من طَيِّبِ الأثواب مُقْتَبِلٍ ... حُلْوِ الشمائل ماجدٍ غَمْرِ ) ( فمضى لوجْهته وأدركه ... قَدَرٌ أتِيحَ له من القَدْر ) ( وغَبَرتُ مالي من تَذَكُّرِه ... إلاّ الأَسَى وحرارةُ الصدر ) ( وخَوىً يُعَاوِدُني وقَلَّ له ... منِّي الجوى ومَحَاسِنُ الذِّكْر ) ( لمّا هوتْ أيدي الرِّجالِ به ... في قَعْرِ ذات جَوَانبٍ غُبْرِ ) ( وعلمتُ أنِّي لن أُلاقِيَه ... في الناس حتَّى ملتقَى الحَشْرِ ) ( كادتْ لِفُرْقته وما ظلمتْ ... نَفْسِي تموت على شَفَا القبر ) ( ولعَمْرُ مَنْ حُبِس الهَدِيُّ له ... بالأَخْشَبَيْنِ صبِيحةَ النَّحْرِ ) ( لو كان نيلُ الخلُدْ يُدركه ... بَشَرٌ بطِيب الخيم والنَّجْرِ ) ( لغَبَرْتَ لا تخشَى المَنُونَ ولا ... أوْدَى بنفسك حادثُ الدَّهرِ ) ( ولنِعْمَ مأوَى المُرْمِلينَ إذا ... قُحِطُوا وأخلفَ صائبُ القَطْرِ ) ( كم قلتُ آونةً وقد ذَرَفتْ ... عيني فماءُ شؤونها يجري ) ( أنَّي وأيُّ فتًى يكون لنا ... شَرْوَاكَ عند تَفَاقُمِ الأَمر ) ( لِدفاع خَصْمٍ ذي مُشَاغَبةٍ ... ولِعائلٍ تَرِبٍ أخي فَقْرِ ) ( ولقد علمتُ وإنّ ضمنتُ جَوىً ... مما أجِنّ كَوَاهِج الجَمْر ) ( ما لامرئٍ دون المنيَّةِ مِنْ ... نَفَقٍ فيُحْرِزُه ولا ستر ) قال وكان بحضرة هشام رجل من آل الزبير فقال له أحسنت وأسرفت في القول فلو قلت هذا في رجل من سادات قريش لكان كثيرا فزجره هشام وقال بئس والله ما واجهت به جليسك فكشره إسماعيل وجزاه خيرا فلما انصرف تناول هشام الرجل الزبيري وقال ما أردت إلى رجل شاعر ملك قوله فصرف أحسنه إلى أخيه ما زدت على أن أغريته بعرضك وأعراضنا لولا أني تلافيته وكان محمد بن يسار أخو إسماعيل هذا الذي رثاه شاعرا من طبقة أخيه وله أشعار كثيرة ولم أجد له خبرا فأذكره ولكن له أشعار كثيرة يغنى فيها منها قوله في قصيدة طويلة صوت ( غَشِيتُ الدارَ بالسَّنَدِ ... دُوَيْنَ الشِّعْبِ من أُحُدِ ) ( عَفَتْ بعدي وغيَّرها ... تَقَادُمُ سالِفِ الأَبَدِ ) الغناء لحكم الوادي خفيف ثقيل عن الهشامي ولإسماعيل بن يسار ابن يقال له إبراهيم شاعر أيضا وهو القائل ( مضَى الجهلُ عنكَ إلى طِيَّتِهْ ... وآبَكَ حِلْمُك من غَيْبتِهْ ) ( وأصبحتَ تَعْجَبُ مما رأيتَ ... من نَقْضِ دَهْرٍ ومن مِرَّتِهْ ) وهي طويلة يفتخر فيها بالعجم كرهت الإطال بذكرها انقضت أخباره ( كُلَيْبٌ لَعَمْرِي كان أكثَر ناصراً ... وأَيْسَرَ جُرْماً منكَ ضُرِّجَ بالدَّمِ ) ( رَمَى ضَرْعَ نابٍ فاستمرّ بطعنةٍ ... كحاشية البُرْدِ اليَمَاني الُمُنَمْنَمِ ) عروضه من الطويل الشعر للنابغة الجعدي والغناء للهذلي في اللحن المختار وطريقته من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق ونذكر هاهنا سائر ما يغنى به في هذه الأبيات وغيرها من هذه القصيدة وننسبه إلى صانعه ثم نأتي بعده بما يتبعه من أخباره فمنها على الولاء سوى لحن الهذلي ( كُلَيْبٌ لَعَمْرِي كان أكثر ناصراً ... وأيسرَ جُرْماً منكَ ضُرِّجَ بالدَّمِ ) ( رمى ضَرْعَ نابٍ فاستمرّ بطعنةٍ ... كحاشية البُرْد اليماني المسهمَّ ) ( أيا دارَ سَلْمَى بالحَرَوْرِيّة اسْلِمِي ... إلى جانب الصَّمَّان فالمُتَثَلِّمِ ) ( أقامتْ به الْبَرْدَيْن ثم تَذكّرتْ ... منازلَها بين الدَّخُولِ فَجُرْثُمِ ) ( ومسكنَها بين الغُروب إلى اللِّوى ... إلى شُعَبٍ ترعَى بهنّ فَعْيَهمِ ) ( لياليَ تَصَطادُ الرجالَ بفاحمٍ ... وأبيضَ كالإَغريض لمَ يَتَثَلَّم ) في البيت الأول والثاني لابن سريج ثقيل أول آخر بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق ويونس وفيهما لمالك خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وللغريض في الثالث والرابع والأول والثاني ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى ولإسحاق في الثالث والأول ثقيل أول بالوسطى ذكر ذلك أبو العبيس والهشامي وللغريض في الرابع ثم الأول خفيف ثقيل بالوسطى في رواية عمرو ابن بانة ولمعبد فيهما وفي الخامس والسادس خفيف ثقيل من رواية أحمد بن المكي ولابن سريج في الخامس والسادس ثقيل أول بالبنصر من رواية علي بن يحيى المنجم وذكر غيره أنه للغريض ولإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وذكر حبش أنه لمعبد ولابن محرز في الأول والثاني والثالث والرابع هزج ذكر ذلك أبو العبيس وذكر قمري أنه لأبي عيسى بن المتوكل لا يشك فيه وللدلال في الخامس والسادس ثاني ثقيل عن الهشامي وذكر أبو العبيس أنه للهذلي ولعبيد الله بن عبد الله بن طاهر في الرابع خفيف رمل ولإسحاق في الثالث والرابع أيضا ماخوري ولمعبد خفيف ثقيل أول بالوسطى فيهما وقيل إنه لحنه الذي ذكرنا متقدما وإنه ليس في هذا الشعر غيره وذكر حبش أن في هذه الأبيات التي أولها كليب لعمري خفيف رمل بالوسطى وللهذلي خفيف ثقيل بالبنصر وللدلال رمل فذلك ثمانية عشر صوتا وأخبرني محمد بن إبراهيم قريص أن له فيهما أعني الأول والثاني خفيفا بالوسطى حذف 5 بسم الله الرحمن الرحيم ذكر النابغة الجعدي ونسبه وأخباره والسبب الذي من أجله قيل هذا الشعر هو على ما ذكر أبو عمرو الشيباني والقحذمي وهو الصحيح حبان بن قيس بن عبد الله بن وحوح بن عدس وقيل ابن عمرو بن عدس مكان وحوح ابن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان ابن مضر هذا النسب الذي عليه الناس اليوم مجتمعون وقد روى ابن الكلبي وأبو اليقظان وأبو عبيدة وغيرهم في ذلك روايات تخالف هذا فمنها أن ابن الكلبي ذكر عن أبيه أن خصفة الذي يقول الناس إنه ابن قيس بن عيلان ليس كما قالوا وأن عكرمة ابن قيس بن عيلان وخصفة أمه وهي امرأة من أهل هجر وقيل بل هي حاضنته وكان قيس بن عيلان قد مات وعكرمة صغير فربته حتى كبر وكان قومه يقولون هذا عكرمة بن خصفة فبقيت عليه ومن لا يعلم يقول عكرمة بن خصفة بن قيس كما يقال خندف وإنما هي امرأة وزوجها إلياس بن مضر وقالوا في صعصعة بن معاوية إن الناقمية بنت عامر بن مالك وهو الناقم سمي بذلك لأنه انتقم بلطمة لطمها وهو ابن سعد بن جدان بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار كانت عند معاوية بن بكر بن هوازن فمات عنها أو طلقها وهي نسء فتزوجها سعد بن زيد مناة بن تميم فولدت على فراشه صعصعة ابن معاوية ثم ولدت هبيرة ونجدة وجنادة فلما مات سعد اقتسم بنوه الميراث وأخرجوا صعصعة منه وقالوا أنت ابن معاوية بن بكر فلما رأى ذلك أتى بني معاوية بن بكر فأقروا بنسبه ودفعوه عن الميراث فلما رأى ذلك أتى سعد بن الظرب العدواني فشكا إليه ما لقي فزوجه بنت أخيه عمرة بنت عامر بن الظرب وأبوها عامر الذي يقال له ذو الحلم وعمرة ابنته هذه هي التي كانت تقرع له العصا إذا سها في الحكم وله يقول الشاعر ( لذي الحِلْم قبلَ اليومِ ما تُقَرع العصا ... وما عُلِّم الإِنسانُ إلا ليَعْلَمَا ) قال وكانت عمرة يوم زوجها عمها نسئا من ملك من ملوك اليمن يقال له الغافق بن العاصي الأزدي والمُلك يومئذ في الأزد فولدت على فراش صعصعة عامر بن صعصعة فسماه صعصعة عامرا بجده عامر ابن الظرب وقال في ذلك حبيب بن وائل بن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن ( أزعمتَ أنّ الغافقيّ أبوكم ... نسبٌ لَعَمْرُ أبيك غيرُ مُفَنَّدِ ) ( وأبوكم ملكٌ يُنتِّفُ باسته ... هَلْباء عافيةٌ كعُرف الهُدْهُدِ ) ( جَنَحتْ عجوزُكُمُ إليه فردّها ... نسئاً بعامركم ولمّا يُويدِ ) ويكنى النابغة أبا ليلى وأخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال هو قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وقال ابن الأعرابي هو قيس بن عبد الله بن عمرو بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة ووافق ابن سلام في باقي نسبه وهذا وهم ممن قال إن اسمه قيس وليس يشك في أنه كان له أخ يقال له وحوح بن قيس وهو الذي قتله بنو أسد وخبره يذكر بعد هذا ليصدق نسب النابغة وأمه فاخرة بنت عمرو بن جابر بن شحنة الأسدي سبب لقبه النابغة وإنما سمي النابغة لأنه أقام مدة لا يقول الشعر ثم نبغ فقاله أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على القحذمي قال الجعدي الشعر في الجاهلية ثم أجبل دهرا ثم نبغ بعد في الشعر في الإسلام أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال أقام النابغة الجعدي ثلاثين سنة لا يتكلم ثم تكلم بالشعر قال القحذمي في رواية حماد عنه كان الجعدي أسن من نابغة بني ذبيان قال ابن سلام في رواية أبي خليفة عنه كان الجعدي النابغة قديما شاعرا طويلا مفلقا طويل البقاء في الجاهلية والإسلام وكان أكبر من الذبياني ويدل على ذلك قوله ( ومن يكُ سائلاً عنّي فإني ... من الفِتيان أيامَ الخُنَانِ ) ( أتت مائةٌ لعامَ وُلدتُ فيه ... وعَشْرٌ بعد ذاك وحِجّتَان ) ( فقد أَبقتْ خطوبُ الدّهر منّي ... كما أبقتْ من السيفِ اليَمانِي ) قال وعمر بعد ذلك عمرا طويلا سئل محمد بن حبيب عن أيام الخنان ما هي فقال وقعة لهم فقال قائل منهم وقد لقوا عدوهم خنوهم بالرماح فسمي ذلك العام الخنان ويدل على أنه أقدم من النابغة الذبياني أنه عمر مع المنذر بن المحرق قبل النعمان بن المنذر وكان النابغة الذبياني مع النعمان بن المنذر وفي عصره ولم يكن له قدم إلا أنه مات قبل الجعدي ولم يدرك الإسلام والجعدي الذي يقول ( تَذكَّرتُ شيئاً قد مضَى لسبيلِهِ ... ومِنْ عادةِ المحزونِ أن يَتَذكَّرَا ) ( نَدَامايَ عند المُنذر بنِ مُحرِّقٍ ... أرى اليومَ منهم ظاهرَ الأرض مُقفِرَا ) ( كُهولٌ وفِتيانٌ كأنّ وِجوهَهم ... دنانيرُ ممّا شِيفَ في أرضِ قَيصَرا ) أخبرني أحمد بن عبد العزيز و حبيب بن نصر قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عبد الله بن محمد بن حكيم عمن كان يأخذ العلم عنه ولم يسم إلي أحدا في هذا أن النابغة عمر مائة وثمانين سنة وهو القائل ( لبِستُ أُناساً فأفنيتُهم ... وأفنيتُ بعد أناسٍ أناسَا ) ( ثلاثة أَهلِينَ أفنيتُهم ... وكان الإِله هُوَ المُسْتآسَا ) وهي قصيدة طويلة يقول فيها وفيه غناء صوت ( وكنتُ غلاماً أُقاسي الحُروبَ ... يَلْقى المُقاسون منّي مِرَاسَا ) ( فلمّا دَنَوْنا لجَرْسِ النُّبَاحِ ... لم نعرِف الحيَّ إلا التماسَا ) ( أضاءتْ لنا النّارُ وجهاً أَغَرَّ ... مُلتبساً بالفُؤادِ التباسَا ) غنى في هذه الثلاثة الأبيات فليح بن أبي العوراء خفيف ثقيل أوْلَ بالوسطى رجع الخبر إلى رواية عمر بن شبة قال وقال أيضا ( ألا زعمتْ بُنو سعدٍ بأنّي ... ألاَ كذَبوا كبيرُ السنّ فانِي ) ( أتتْ مائةٌ لعامَ وُلدتُ فيه ... وعشرٌ بعد ذاك وحِجّتانِ ) قال وأنشد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أبياته التي يقول فيها ( ثلاثة أهلين أفنيتُهم ... ) فقال له عمر رضي الله تعالى عنه كم لبثت مع كل أهل قال ستين سنة النابغة يعمر طويلا وأخبرني بعض أصحابنا عن أبي بكر بن دريد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال أنشد رجل من العجم قول النابغة الجعدي ( لبِستُ أُناساً فأفنيتُهم ... وأفنيتُ بعد أُناس أناسَا ) وفسر له فقال بدين شان بود أي هذا رجل مشؤوم وأما ابن قتيبة فإنه ذكر ما رواه لنا عنه إبراهيم بن محمد أنه عمر مائتين وعشرين سنة ومات بأصبهان وما ذاك بمنكر لأنه قال لعمر رضي الله تعالى عنه إنه أفنى ثلاثة قرون كل قرن ستون سنة فهذه مائة وثمانون ثم عمر بعده فمكث بعد قتل عمر خلافة عثمان وعلي ومعاوية ويزيد وقدم على عبد الله بن الزبير بمكة وقد دعا لنفسه فاستماحه ومدحه وبين عبد الله ابن الزبير وبين عمر نحو مما ذكر ابن قتيبة بل لا أشك أنه قد بلغ هذه السن وهاجى أوس بن مغراء بحضرة الأخطل والعجاج وكعب بن جعيل فغلبه أوس وكان مغلبا حدثنا أحمد بن عمر بن موسى القطان المعروف بابن زنجوية قال حدثنا إسماعيل بن عبد الله السكري قال حدثنا يعلى بن الأشدق العقيلي قال حدثني نابغة بني جعدة قال أنشدت النبي هذا الشعر فأعجب به ( بلغنا السماء مَجدُنا وجدودُنا ... وإنا لنَبْغِي فوقَ ذلك مَظْهَرَا ) فقال النبي " فأين المظهر يا أبا ليلى " فقلت الجنة فقال " قل إن شاء الله " فقلت إن شاء الله ( ولا خَيْرَ في حِلْم إذا لم يكن له ... بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَه أن يُكدَرَا ) ( ولا خيرَ في جهلٍ إذا لم يكن له ... حَليمٌ إذا ما أَوْردَ الأمرَ أَصْدَرَا ) فقال النبي " أجدت لا يفضض الله فاك " قال فلقد رأيته وقد أتت عليه مائة سنة أو نحوها وما انفض من فيه سن النابغة ممن أنكر الخمر والسكر في الجاهلية أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني أبو حاتم قال أخبرنا أبو عبيدة قال كان النابغة الجعدي ممن فكر في الجاهلية وأنكر الخمر والسكر وما يفعل بالعقل وهجر الأزلام والأوثان وقال في الجاهلية كلمته التي أولها ( الحمد لله لا شريكَ لَهُ ... من لم يقُلْها فنفسَه ظَلَما ) وكان يذكر دين إبراهيم والحنيفية ويصوم ويستغفر ويتوقى أشياء لعواقبها ووفد على النبي فقال ( أتيتُ رسولَ الله إذ جاء بالهُدى ... ويتلو كتاباً كالمَجَرّة نَيِّرَا ) ( وجاهدتُ حتى ما أُحِسّ ومن معي ... سُهَيْلاً إذا ما لاح ثُمَّتَ غَوّرا ) ( أُقيم على التقوى وأرضى بفعلها ... وكنتُ مِنَ النار المخَوُفة أَوْجَرَا ) وحسن إسلامه وأنشد النبي فقال له " لا يفضض الله فاك " وشهد مع علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه صفين وقد ذكر خبره مع عمر رضي الله عنه وأما خبره مع عثمان فأخبرنا به أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال قال مسلمة بن محارب دخل النابغة الجعدي على عثمان رضي الله تعالى عنه فقال أستودعك الله يا أمير المؤمنين قال وأين تريد يا أبا ليلى قال ألحق بإبلي فأشرب من ألبانها فإني منكر لنفسي فقال أتعربا بعد الهجرة يا أبا ليلى أما علمت أن ذلك مكروه قال ما علمته وما كنت لأخرج حتى أعلمك قال فأذن له وأجل له في ذلك أجلا فدخل على الحسن والحسين ابني علي فودعهما فقالا له أنشدنا من شعرك يا أبا ليلى فأنشدهما ( الحمدُ لله لا شريكَ لهُ ... من لم يقُلْها فنفْسَه ظلَمَا ) فقالا يا أبا ليلى ما كنا نروي هذا الشعر إلا لأمية بن أبي الصلت فقال يا بني رسول الله إني لصاحب هذا الشعر وأول من قاله وإن السروق لمن سرق شعر أمية قال أبو زيد عمر بن شبة في خبره كان النابغة شاعرا متقدما وكان مغلبا ما هاجى قط إلا غلب هاجى أوس بن مغراء وليلى الأخيلية وكعب بن جعيل فغلبوه جميعا النابغة وأوس بن مغراء وقال أبو عمرو الشيباني كان بدء حديث النابغة وأوس بن مغراء أن معاوية لما وجه بسر بن أرطأة الفهري لقتل شيعة علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه قام إليه معن بن يزيد بن الأخنس السلمي وزياد بن الأشهب ابن ورد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة فقالا يا أمير المؤمنين نسألك بالله وبالرحم ألا تجعل لبسر على قيس سلطانا فيقتل قيسا بمن قتلت بنو سليم من بني فهر وبني كنانة يوم دخل رسول الله مكة فقال معاوية يا بسر لا أمر لك على قيس وسار بسر حتى أتى المدينة فقتل ابني عبيد الله ابن العباس وفر أهل المدينة ودخلوا الحرة حرة بني سليم ثم سار بسر حتى أتى الطائف فقالت له ثقيف ما لك علينا سلطان نحن من قيس فسار حتى أتى همدان وهم في جبل لهم يقال له شبام فتحصنت فيه همدان ثم نادوا يا بسر نحن همدان وهذا شبام فلم يلتفت إليهم حتى إذا اغتروا ونزلوا إلى قراهم أغار عليهم فقتل وسبى نساءهم فكن أول مسلمات سبين في الإسلام ومر بحي من بني سعد نزول بين ظهري بني جعدة بالفلج فأغار بسر على الحي السعديين فقتل منهم وأسر فقال أوس بن مغراء في ذلك ( مُشِرِّين ترعَوْن النَّجيل وقد غَدتْ ... بأوصال قَتْلاكمِ كلابُ مُزاحِمِ ) المشر الذي قد بسط ثوبه في الشمس والنجيل جنس من الحمض فقال النابغة يجيبه ( متى أكلتْ لُحومَكُم كِلابي ... أكلْتَ يديك من جَرَبٍ تَهَامِ ) أخبرنا أبو خليفة الفضل بن الحباب مما أجاز لنا روايته عنه من حديثه وأخباره مما ذكره منها عن محمد بن سلام الجمحي عن أبي الغراف وأخبرنا به أحمد بن عبد العزيز وحبيب بن نصر قالا حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن سلام عن أبي الغراف أن النابغة هاجى أوس بن مغراء قال ولم يكن أوس مثله ولا قريبا منه في الشعر فقال النابغة إني وإياه لنبتدر بيتا أينا سبق إليه غلب صاحبه فلما بلغه قول أوس ( لَعَمْرُك ما تَبْلَى سَرابيلُ عَامرٍ ... من اللؤم ما دامتْ عليها جلودُهَا ) قال النابغة هذا البيت الذي كنا نبتدر إليه فغلب أوس عليه قال أبو زيد فحدثني المدائني أنهما اجتمعا في المربد فتنافرا وتهاجيا وحضرهما العجاج والأخطل وكعب بن جعيل فقال أوس ( لمّا رأتْ جَعدةُ منا وورْدَا ... ولَّوْا نَعَاماً في البلاد رُبْدَا ) ( إنّ لنا عليكُمُ مَعَدّا ... كاهلَها وركنَها الأَشدَّا ) فقال العجاج ( كل امرىءٍ يَعْدو بما استعدّا ... ) وقال الأخطل يعين أوس بن مغراء ويحكم به ( وإني لقاضٍ بين جَعدةِ عامرٍ ... وسَعدٍ قضاءً بَيِّنَ الحقِّ فَيْصلا ) ( أبو جعدةَ الذئبُ الخبيثُ طَعامُه ... وعَوفُ بن كعبٍ أكرمُ الناس أَوَّلا ) وقال كعب بن جعيل ( إنّي لقاضٍ قضاءً سوف يتبعه ... مَنْ أَمَّ قَصْداً ولم يَعدِل إلى أَوَدِ ) ( فَصْلاً من القول تَأْتَمُّ القضاةُ به ... ولا أَجُور ولا أَبغِي على أحدِ ) ( ناكت بنو عامرٍ سعداً وشاعرَها ... كما تَنيك بنو عَبْس بني أسدِ ) سبب مهاجاته ليلى الأخيلية وقال أبو عمرو الشيباني كان سبب المهاجاة بين ليلى الأخيلية وبين الجعدي أن رجلا من قشير يقال له ابن الحيا وهي أمه واسمه سوار بن أوفى بن سبرة هجاه وسب أخواله من أزد في أمر كان بين قشير وبين بني جعدة وهم بأصبهان متجاورون فأجابه النابغة بقصيدته التي يقال لها الفاضحة سميت بذلك لأنه ذكر فيها مساوي قشير وعقيل وكل ما كانوا يسبون به وفخر بمآثر قومه وبما كان لسائر بطون بني عامر سوى هذين الحيين من قشير وعقيل ( جَهِلتَ عليّ ابنَ الحيا وظلمتَني ... وجَمّعت قولاً جاء بيتاً مُضلّلا ) وقال في هذه القصة أيضا قصيدته التي أولها ( إمّا تَرَىْ ظُلَلَ الأيّامِ قد حَسِرِتْ ... عنّي وشَمّرتُ ذَيلاً كان ذَيَالا ) وهي طويلة يقول فيها ( ويومَ مكّةَ إذْ ماجَدْتُمُ نَفَراً ... حَامَوْا على عُقَد الأحسابِ أَزْوَالا ) ( عند النّجاشيّ إذ تُعطون أيديَكم ... مُقرَّنين ولا تَرجُون إِرْسالا ) ( إذ تَستحِبُّونَ عند الخَذْل أنّ لكم ... مِنْ آل جَعْدة أعماماً وأخْوَالا ) ( لو تستطيعون أنْ تُلْقوا جُلودَكُم ... وتجعلوا جِلْدَ عبد الله سِرْبالا ) يعني عبد الله بن جعدة بن كعب ( إذاً تسرْبلتُم فيه ليُنجيَكم ... ممّا يقولُ ابنُ ذي الجَدّين إذْ قَالا ) ( حتّى وَهبتم لعبد الله صاحبَه ... والقولُ فيكم بإذن الله ما فالا ) ( تلك المكارمُ لاقَعْبَانِ من لَبنٍ ... شِيبَا بماءٍ فعادَا بعدُ أبْوالا ) يعني بهذا البيت أن ابن الحيا فخر عليه بأنهم سقوا رجلا من جعدة أدركوه في سفر وقد جهد عطشا لبنا وماء فعاش وقال في هذه القصة أيضا قصيدته التي أولها ( أبلغ قُشَيراً والحَرِيشَ فما ... ذا ردّ في أيديكم شَتْمي ) وفخر عليهم بقتل علقمة الجعفي يوم وادي نساح وقتل شراحيل بن الأصهب الجعفي وبيوم رحرحان أيضا فقال فيه ( هَلاّ سألتَ بيومَيْ رَحْرحان وقد ... ظنّتْ هَوازنُ أنّ العِزَ قد زَالا ) فلما ذكر ذلك النابغة قال ( تلك المكارم لا قَعبَانِ من لبن ... شِيبَا بماءٍ فعادا بعدُ أبوالا ) ففخر بما له وغض مما لهم ودخلت ليلى الأخيلية بينهما فقالت ( وما كنتُ لو قاذفتُ جلّ عشيرتي ... لأذكر قَعْبَيْ حازِرٍ قد تَثَمَّلا ) وهي كلمة فلما بلغ النابغة قولها قال ( ألا حَيَّيا ليلَى وقُولا لها هَلا ... فقد رَكِبتْ أيْراً أغرَّ مُحَجَّلا ) ( وقد أكلتْ بقلاً وخيماً نباتُه ... وقد شَرِبتْ من آخر الصيف أَيِّلا ) يعني ألبان الأيل ( دَعِي عنكِ تَهْجَاءَ الرجال وأَقْبِلي ... على أَذْلِغيٍّ يملأ استَكِ فَيْشَلا ) ( وكيف أُهاجي شاعراً رُمحه استُه ... خَضِيبَ البَنانِ لا يزال مُكَحَّلا ) فردت عليه ليلى الأخيلية فقالت ( أنابغُ لم تَنْبغ ولم تكُ أوّلا ... وكنتَ صُنَيًّا بين صُدّيْن مَجْهَلا ) الصني شعب صغير يسيل منه الماء وصدان جبلان ( أنابغُ إن تَنْبغ بلؤمك لا تجدْ ... للؤمك إلاّ وسْط جَعْدة مَجْعَلا ) ( تُعيِّرني داءً بأمّك مثلُه ... وأيّ حَصَانٍ لا يُقال لها هَلا ) فغلبته فلما أتى بني جعدة قولها هذا اجتمع ناس منهم فقالوا والله لنأتين صاحب المدينة أو أمير المؤمنين فليأخذن لنا بحقنا من هذه الخبيثة فإنها قد شتمت أعراضنا وافترت علينا فتهيؤوا لذلك وبلغها أنهم يريدون أن يستعدوا عليها فقالت ( أتَانِي من الأنباء أنّ عشيرةً ... بَشورانَ يُزْجون المطيّ المُذَلَّلا ) ( يروح ويغدو وفدُهم بصحيفةٍ ... ليَستجلدوا لي ساء ذلك مَعْمَلا ) وقد أخبرني ببعض هذه القصة أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة فجاء بها مختلطة وهذا أوضح وأصح يوم وادي نساح قال أبو عمرو فأما ما فخر به النابغة من الأيام فمنها يوم علقمة الجعفي فإنه غدا في مذحج ومعه زهير الجعفي فأتى بني عقيل بن كعب فأغار عليهم وفي بني عقيل بطون من سليم يقال لهم بنو بجلة فأصاب سبيا وإبلا كثيرة ثم انصرف راجعا بما أصاب فاتبعه بنو كعب ولم يلحق به من بني عقيل إلا عقال بن خويلد بن عامر بن عقيل فجعل يأخذ أبعار إبل الجعفيين فيبول عليها حتى ينديها ثم يلحق ببني كعب فيقول إيه فدى لكم أبواي قد لحقتم القوم حتى وردوا عليهم النخيل في يوم قائظ ورأس زهير في حجر جارية من سليم من بني بجلة سباها يومئذ وهي تفليه وهو متوسد قطيفة حمراء وهي تضفر سعفاته أي أعلى رأسه بهدب القطيفة فلم يشعروا إلا بالخيل فكان أول من لحق زهيرا ابن النهاضة فضرب وجه زهير بقوسه حتى كسر أنفه ثم لحقه عقال بن خويلد فبعج بطنه فسال من بطنه برير وحلب والبرير ثمر الأراك والحلب لبن كان قد اصطبحه فذلك يوم يقول أبو حرب أخو عقال بن خويلد والله لا أصطبح لبنا حتى آمن من الصباح قال وهذا اليوم هو يوم وادي نساح وهو باليمامة يوم شراحيل قال وأما يوم شراحيل بن الأصهب الجعفي فإنه يوم مذكور تفتخر به مضر كلها وكان شراحيل خرج مغيرا في جمع عظيم من اليمن وكان قد طال عمره وكثر تبعه وبعد صيته واتصل ظفره وكان قد صالح بني عامر على أن يغزو العرب مارا بهم في بدأته وعودته لا يعرض أحد منهم لصاحبه فخرج غازيا في بعض غزواته فأبعد ثم رجع إليهم فمر على بني جعدة فقرته ونحرت له فعمد ناس من أصحابه سفهاء فتناولوا إبلا لبني جعدة فنحروها فشكت ذلك بنو جعدة إلى شراحيل فقالوا قريناك وأحسنا ضيافتك ثم لم تمنع أصحابك مما يصنعون فقال إنهم قوم مغيرون وقد أساؤوا لعمري وإنما يقيمون عندكم يوما أو يومين ثم يرتحلون عنكم فقال الرقاد بن عمرو بن ربيعة بن جعدة لأخيه ورد بن عمرو وقيل بل قال ذلك لابن أخيه الجعد بن ورد دعني أذهب إلى بني قشير قال وجعدة وقشير أخوان لأم وأب أمهما ريطة بنت قنفذ بن مالك بن عوف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور فأدعوهم واصنع أنت يا هذا لشراحيل طعاما حسنا كثيرا وادعه وأدخله إليك فاقتله فإن احتجت إلينا فدخن فإني إذا رأيت الدخان أتيتك بهم فوضعنا سيوفنا على القوم فعمد ورد هذا إلى طعام فأصلحه ودعا شراحيل وناسا من أصحابه وأهله وبني عمه فجعلوا كلما دخل البيت رجل قتله ورد حتى انتصف النهار فجاء أصحاب شراحيل يتبعونه فقال لهم ورد تروحوا فإن صاحبكم قد شرب وثمل وسيروح فرجعوا ودخن ورد وجاءت قشير فقتلوا من أدركوا من أصحابه وسار سائرهم وبلغهم قتل شراحيل فمروا على بني عقيل وهم إخوتهم فقالوا لنقتلن مالك بن المنتفق فقال لهم مالك أنا آتيكم بورد فركب ببني عقيل إلى بني جعدة وقشير ليعطوهم وردا فامتنعوا من ذلك وساروا بأجمعهم فذبوا عن عقيل حتى تفرق من كان مع شراحيل فقال في ذلك بحير بن عبد الله بن سلمة ( أحيٌّ يتبعون العير نَحْراً ... أحبُّ إليك أم حَيَّا هِلالِ ) ( لعلك قاتلٌ وَرْداً ولَمّا ... تَسَاقَ الخيلُ بالأَسَل النِّهالِ ) ( أَلا يا مالُ وَيْحَ سِواك أَقصِرَ ... أَمَا ينهاك حلمُك عن ضلالِ ) يوما رحرحان وأما يوما رحرحان فأحدهما مشهور قد ذكر في موضع آخر من هذا الكتاب بعقب أخبار الحارث بن ظالم وهذا اليوم الثاني فكان الطماح الحنفي أغار في بني حنيفة وبني قيس بن ثعلبة على بني الحريش بن كعب وبني عبادة بن عقيل وطوائف من بني عبس يقال لهم بنو حذيفة فركبت بنو جعدة وبنو أبي بكر بن كلاب ولم يشهد ذلك من بني كلاب غير بني أبي بكر فأدركوا الطماح من يومهم فاستنقذوا ما أخذه وأصابوا ما كان معه وقتلوا عددا من أصحابه وهزموهم قال وأما ما ذكره من إدراكهم بثأر كعب الفوارس فإن كعب الفوارس وهو ابن معاوية بن عبادة بن البكاء مر على بني نهد وعليه سلاحه فحمل عليه رجل من نهد يقال له خليف فقتله وأخذ فرسه وسلاحه ثم إن خليفا بعد ذلك بدهر مر على بني جعدة فرآه مالك بن عبد الله بن جعدة وعليه جبة كعب وفيها أثر الطعنة وكان محرما فلم يقدر على قتله فقال يا هذا ألا رقعت هذا الخرق الذي في جبتك وجعل يترصده بعد ذلك حتى بلغه بعد دهر أنه مر ببني جعدة فركب مالك بن عبد الله بن جعدة فرسا له وقد أخبر أن خليفا مر بجنباتهم فأدركه فقتله ثم قال بؤ بكعب ثم غزا نواحيهم عبد الله بن ثور بن معاوية بن عبادة بن البكاء جرما ونهدا وهم يومئذ في بني الحارث فناداهم بنو البكاء ليس معنا أحد من قومنا غيرنا وإن النهدي قتل صاحبنا محرما فقاتلهم نهد وجرم جميعا يومئذ وكان عبد الله بن ثور يومئذ على فرس ورد فأصابوا من نهد يومئذ غنيمة عظيمة وقتلوا قتلى كثيرة فقال عبد الله في ذلك ( فسائِلْ بني جَرْمٍ إذا ما لقيتَهم ... ونَهْداً إذا حَحَتْ عليك بنو نهدِ ) ( فإن يُخبروك الحقَّ عنا تَجدْهُم ... يقولون أَبلى صاحبُ الفرس الوَرْدِ ) يوم الفلج قال وأما يوم الفلج فإن بكر بن وائل بعثت عينا على بني كعب ابن ربيعة حتى جاء الفلج وهو ماء فوجد النعم بعضه قريبا من بعض ووجد الناس قد احتملوا فليس في النعم إلا من لا طباخ به من راع أو ضعيف فجاءهم عينهم بذلك فركبت بكر بن وائل يريدونهم حتى إذا كانوا منهم بحيث يسمعون أصواتهم سمعوا الصهيل وأصوات الرجال فقالوا لعينهم ما هذا ويلك قال والله ما أدري وإن هذا لمما لم أعهد فأرسلوا من يعلم علمهم فرجع فأخبرهم أن الرجال قد رجعوا ورأى جمعا عظيما وخيولا كثيرة فكروا راجعين من ليلتهم وأصبحت بنو كعب فرأوا الأثر فاتبعوهم فأصابوا من أخرياتهم رجالا وخيلا فرجعوا بها قال وأما قوله ( لو تستطيعون أن تُلْقوا جُلودكم ... وتجعلوا جِلد عبدِ الله سِرْبالا ) فإن السبب في ذلك أن هبيرة بن عامر بن سلمة بن قشير لقي خداش ابن زهير البكائي فتنافرا على مائة من الإبل وقال كل منهما لصاحبه أنا أكرم وأعز منك فحكما في ذلك رجلا من بني ذي الجدين فقضى بينهما أن أعزهما وأكرمهما أقربهما من عبد الله بن جعدة نسبا فقال خداش بن زهير أنا أقرب إليه أم عبد الله بن جعدة عمتي وهي أميمة بنت عمرو ابن عامر وإنما أنت أدنى إليه مني منزلة بأب فلم يزالا يختصمان في القرابة لعبد الله دون المكاثرة بآبائهما إقرارا له بذلك حتى فلج هبيرة القشيري وظفر عبد الله بن جعدة السيد المطاع قال أبو عمرو وكان عبد الله بن جعدة سيدا مطاعا وكانت له إتاوة بعكاظ يؤتى بها يأتيه بها هذا الحي من الأزد وغيرهم فجاء سمير بن سلمة القشيري وعبد الله جالس على ثياب قد جمعت له من إتاوته فأنزله عنها وجلس مكانه فجاء رياح بن عمرو بن ربيعة بن عقيل وهو الخليع سمي بذلك لتخلعه عن الملوك لا يعطيهم الطاعة فقال للقشيري مالك ولشيخنا تنزله عن إتاوته ونحن ها هنا حوله فقال القشيري كذبت ما هي له ثم مد القشيري رجله فقال هذه رجلي فاضربها إن كنت عزيزا قال لا لعمري لا أضرب رجلك فقال له القشيري فامدد لي رجلك حتى تعلم أأضربها أم لا فقال ولا أمد لك رجلي ولكن أفعل ما لا تنكره العشيرة وما هو أعز لي وأذل لك ثم أهوى إلى رجل القشيري فسحبه على قفاه ونحاه وأقعد عبد الله بن جعدة مكانه قال وعبد الله بن جعدة أول من صنع الدبابة وكان السبب في ذلك أنهم انتجعوا ناحية البحرين فهجموا على عبد لرجل يقال له كودن في قصر حصين فدخن العبد ودعا النساء والصبيان فظنوا أنه يطعمهم ثريدا حتى إذا امتلأ القصر منهم أغلقه عليهم فصاح النساء والصبيان وقام العبد ومن معه على شرف القصر فجعل لا يدنوا منه أحد إلا رماه فلما رأى ذلك عبد الله بن جعدة صنع دبابة على جذوع النخل وألبسها جلود الإبل ثم جاء بها والقوم يحملونها حتى أسندوها إلى القصر ثم حفروا حتى خرقوه فقتل العبد ومن كان معه واستنقذ صبيانهم ونساءهم فذلك قول النابغة ( ويومَ دعا ولِدانَكم عبدُ كَوْدَنٍ ... فخالُوا لدى الدّاعي ثريداً مُفلفلا ) ( وقى ابنَ زِياد وهو عُقبة خيركم ... هبيرةُ ينزو في الحديد مُكَبَّلا ) يعنى هبيرة بن عامر بن سلمة بن قشير وكان عبد الله بن مالك بن عدس بن ربيعة بن جعدة خرج ومعه مالك بن عبد الله بن جعدة حتى مروا على بني زياد العبسيين والرجال غيب فأخذوا ابنا لأنس بن زياد وانطلقوا به يرجون الفداء وانطلق عمه عمارة بن زياد حتى أتى بني كعب فلقي هبيرة ابن عامر بن سلمة بن قشير فقال له يا هبيره إن الناس يقولون إنك بخيل قال معاذ الله قال فهب لي جبتك هذه فأهوى ليخلعها فلما وقعت في رأسه وثب عليه فأسره ثم بعث إلى بني قشير علي وعلي إن قبلت من هبيرة أقل من فدية حاجب إلا أن يأتوني بابن أخي الذي في أيدي بني جعدة فمشت بنو قشير إلى بني جعدة فاستوهبوه منهم فوهبوه لهم فافتدوا به هبيرة خبر وحوح أخي النابغة وأما خبر وحوح أخي النابغة الذي تقدم ذكره مع نسب أخيه النابغة فإن أبا عمرو ذكر أن بني كعب أغارت على بني أسد فأصابوا سبيا وأسرى فركبت بنو أسد في آثارهم حتى لحقوهم بالشريف فعطفت بنو عدس بن ربيعة بن جعدة فذادوا بني أسد حتى قتلوا منهم ثلاثين رجلا وردوهم ولم يظفروا منهم بشيء وتعلقت امرأة من بني أسد بالحكم بن عمرو بن عبد الله ابن جعدة وقد أردفها خلفه فأخذت بضفيرته ومالت به فصرعته فعطف عليه عبد الله بن مالك بن عدس وهو أبو صفوان فضرب يدها بالسيف فقطعها وتخلصه وطعن يومئذ وحوح بن قيس أخو النابغة الجعدي فارتث في معركة القوم فأخذه خالد بن نضلة الأسدي وعطف عليه يومئذ أخوه النابغة فقال له خالد بن نضلة هلم إلي وأنت آمن فقال له النابغة لا حاجة لي في أمانك أنا على فرسي ومعي سلاحي وأصحابي قريب ولكني أوصيك بما في العوسجة يعني أخاه وحوح بن قيس فعدل إليه خالد فأخذه وضمه إليه ومنع من قتله وداواه حتى فدي بعد ذلك قال ففي ذلك يقول مدرك العبسي ( أقمتُ على الحِفاظِ وغاب فَرْجٌ ... وفي فَرْجٍ عن الحسب انفراجُ ) ( كذلك فِعْلُنَا وحِبالُ عمّي ... وردْنَ بوحوح فَلَجَ الفِلاَج ) ومما قاله النابغة في هذه المفاخرة وغني فيه قوله وقد جمع معه كل ما يغنى فيه من القصيدة صوت ( هل بالدّيار الغداةَ من صَمَمِ ... أم هَلْ برَبْع الأنيس من قِدَمِ ) ( أم ما تُنادِي من ماثلٍ دَرَج السّيلُ ... عليه كالحوض مُنهدِم ) ( غرّاءُ كالليلة المباركة القمراءِ ... تَهدِي أوائلَ الظُّلَمِ ) ( أَكْني بغير اسمها وقد علِم اللَّه ... خَفيَّاتِ كلّ مُكتَتَمِ ) ( كأنّ فاها إذا تبّسم من ... طِيبِ مَشَمٍّ وطيبِ مُبْتَسَم ) ( يُسَنّ بالضِّرْوِ من بَراقِشَ أو ... هَيْلانَ أو ضامرٍ من العُتُم ) عروضه من المنسرح وفي الأول والثاني والثالث من الأبيات خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر ذكره إسحاق ولم ينسبه إلى أحد وذكر ابن المكي والهشامي أنه لمعبد وأظنه من منحول يحيى وذكر حبش أنه لإبراهيم وفي الثالث وما بعده لابن سريج رمل بالبنصر وذكر حبش أن فيها لإسحاق رملا آخر ولابن مسجح فيها ثقيل أول بالبنصر أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أول من سبق إلى الكناية عن اسم من يعني بغيره في الشعر الجعدي فإنه قال ( أَكْنِي بغير اسمها وقد علم اللَّه ... خَفِيّاتِ كلّ مكتَتَمِ ) فسبق الناس جميعا إليه واتبعوه فيه وأحسن من أخذه وألطفه فيه أبو نواس حيث يقول ( أسألُ القادمين من حَكَمانِ ... كيف خلّفُتُمُ أبا عثمانِ ) ( فيقولون لي جِنانٌ كما سرّك ... في حالها فسَلْ عن جنانِ ) ( ما لهم لا يُبارك اللهُ فيهمْ ... كيف لم يُغْنِ عندهم كِتماني ) أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو بكر الباهلي قال حدثني الأصمعي قال ذكر الفرزدق نابغة بني جعدة فقال كان صاحب خلقان عنده مطرف بألف وخمار بواف يعني درهما النابغة وابن الزبير وحدثني خبره مع ابن الزبير جماعة منهم حبيب بن نصر المهلبي عمر بن عبد العزيز بن أحمد والحرمي بن أبي العلاء ووكيع ومحمد بن جرير الطبري حدثنيه من حفظه قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا أخي هارون بن أبي بكر عن يحيى بن إبراهيم عن سليمان بن محمد بن يحيى بن عروة عن أبيه عن عمه عبد الله بن عروة قال أَقْحمت السنةُ نابغةَ بني جعدة فدخل على ابن الزبير المسجد الحرام فأنشده ( حَكَيتَ لنا الصِّدِّيَق لمّا وَلِيتَنا ... وعمثانَ والفاروقَ فارتاح مُعدمُ ) ( أتاك أبو ليلى يَجُوب به الدُّجى ... دُجىَ الليلَ جوّابُ الفلاة عَثَمْثَمُ ) ( لتجُبر منه جانباً زَعْزَعت به ... صُروفُ الليالي والزمانُ المُصمَّم ) فقال له ابن الزبير هون عليك أبا ليلى فإن الشعر أهون وسائلك عندنا أما صفوة مالنا فلآل الزبير وأما عفوته فإن بني أسد بن عبد العزى تشغلها عنك وتيما معها ولكن لك في مال الله حقان حق برؤيتك رسول الله وحق بشركتك أهل الإسلام في فيئهم ثم أخذ بيده فدخل به دار النعم فأعطاه قلائص سبعا وجملا رجيلا وأوقر له الإبل برا وتمرا وثيابا فجعل النابغة يستعجل فيأكل الحب صرفا فقال ابن الزبير ويح أبي ليلى لقد بلغ به الجهد فقال النابغة أشهد أني سمعت رسول الله يقول " ما وليت قريش فعدلت واسترحمت فرحمت وحدثت فصدقت ووعدت خيرا فأنجزت فأنا والنبيون فراط القاصفين " وقال الحرمي فراط لها ضمن قال الزبيري كتب يحيى بن معين هذا الحديث عن أخي النابغة يهجو أبا موسى الأشعري أخبرني أبو الحسن الأسدي أحمد بن محمد بن عبد الله بن صالح وهاشم بن محمد الخزاعي أبو دلف قالا حدثنا الرياشي قال قال أبو سليمان عن الهيثم بن عدي قال رعت بنو عامر بالبصرة في الزرع فبعث أبو موسى الأشعري في طلبهم فتصارخوا يا آل عامر يا آل عامر فخرج النابغة الجعدي ومعه عصبة له فأتي به إلى أبي موسى الأشعري فقال له ما أخرجك قال سمعت داعية قومي قال فضربه أسواطا فقال النابغة ( رأيتُ البَكْرَ بَكْرَ بني ثمودٍ ... وأنت أَراك بكرَ الأَشعَرينا ) ( فإن يكُنِ ابنُ عَفّانٍ أَمينا ... فلم يَبْعَثْ بك البَرَّ الأمينَا ) ( فيا قبرَ النبيّ وصاحِبَيْهِ ... أَلاَ يا غَوْثَنا لو تسمَعُونا ) ( أَلاَ صَلَّى إلهكُم عليكم ... ولا صلَّى على الأُمراء فِينَا ) أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري ويحيى بن علي بن يحيى قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا بعض أصحابنا عن ابن دأب قال لما خرج علي رضي الله تعالى عنه إلى صفين خرج معه نابغة بني جعدة فساق به يوما فقال ( قد علِم المِصْرانِ والعِراقُ ... أنّ عليًّا فحلُها العُتَاقُ ) ( أبيضُ جَحْجَاجٌ لهُ رِواقُ ... وأُمّه غالَى بها الصَّداقُ ) ( أكرمُ من شُدَّ به نِطاقُ ... إنّ الأُلى جارَوْكَ لا أَفاقوا ) ( لهم سِياقٌ ولكم سياقُ ... قد علمتْ ذلكُم الرِّفاقُ ) ( سُقتم إلى نَهْج الهُدَىوساقُوا ... إلى التي ليس لها عِراقُ ) ( في مِلّةٍ عادتُها النِّفاقُ ... ) فلما قدم معاوية بن أبي سفيان الكوفة قام النابغة بين يديه فقال ( ألم تأتِ أهلَ المَشْرقَين رسالتي ... وأيُّ نَصيح لا يَبيتُ على عَتْبِ ) ( مَلَكتْم فكان الشرُّ آخرَ عَهدِكمُ ... لئن لم تَدَاركْكُمْ حُلُومُ بني حَرْبِ ) وقد كان معاوية كتب إلى مروان فأخذ أهل النابغة وماله فدخل النابغة على معاوية وعنده عبد الله بن عامر ومروان فأنشده ( مَنْ راكِبٌ يأتي ابنَ هندٍ بحاجتي ... على النَّأي والأنباءُ تُنْمَى وتُجلَبُ ) ( ويُخبر عنِّي ما أقول ابنَ عامر ... ونعم الفتى يأوِي إليه المُعصَّبُ ) ( فإنُ تأخذوا أهلي ومالي بِظنَّةٍ ... فإنّي لَحَرّابُ الرجالِ مُحرِّبُ ) ( صَبورٌ على ما يكره المرءُ كلِّه ... سِوى الظلم إني إن ظُلمت سأغضَبُ ) النابغة وعقال بن خويلد فالتفت معاوية إلى مروان فقال ما ترى قال أرى ألا ترد عليه شيئا فقال ما أهون والله عليك أن ينجحر هذا في غار ثم يقطع عرضي علي ثم تأخذه العرب فترويه أما والله إن كنت لممن يرويه أردد عليه كل شيء أخذته منه وهذا الشعر يقوله النابغة الجعدي لعقال بن خويلد العقيلي يحذره غب الظلم لما أجار بني وائل بن معن وكانوا قتلوا رجلا من جعدة فحذرهم مثل حرب البسوس إن أقاموا على ذلك فيهم قال أبو عمرو الشيباني كان السبب في قول الجعدي هذه القصيدة أن المنتشر الباهلي خرج فأغار على اليمن ثم رجع مظفرا فوجد بني جعدة قد قتلوا ابنا له يقال له سيدان وكانت باهلة في بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ثم في بني جعدة فلما أن علم ذلك المنتشر وأتاه الخبر أغار على بني جعدة ثم على بني سبيع في وجهه ذلك فقتل منهم ثلاثة نفر فلما فعل ذلك تصدعت باهلة فلحقت فرقة منهم يقال لهم بنو وائل بعقال بن خويلد العقيلي ولحقت فرقة أخرى يقال لهم بنو قتيبة وعليهم حجل الباهلي بيزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي فأجارهم يزيد وأجار عقال وائلا فلما رأت ذلك بنو جعدة أرادوا قتالهم فقال لهم عقال لا تقاتلوهم فقد أجرتهم فأما أحد الثلاثة القتلى منكم فهو بالمقتول وأما الآخران فعلي عقلهما فقالوا لا نقبل إلا القتال ولا نريد من وائل غيرا يعني الدية فقال لا تفعلوا فقد أجرت القوم فلم يزل بهم حتى قبلوا الدية وانتقلت وائل إلى قومهم فقال النابغة في ذلك قصيدته التي ذكر فيها عقالا ( فابلِغْ عِقَالاً أنّ غايةَ داحسٍ ... بكفّيكَ فاستأخرْ لها أو تَقدّمِ ) ( تُجِير علينا وائلاً في دمائنا ... كأنك عما نابَ أشياعَنا عَمِ ) ( كُلَيبٌ لَعَمْرِي كان أكثرَ ناصراً ... وأيسرَ جُرماً منك ضُرِّجَ بالدّم ) ( رمىَ ضَرْعَ نابٍ فاستمرَّ بطَعنةٍ ... كحاشية البُردِ اليَمَانِي المسَهَّمِ ) ( وما يَشْعُر الرمحُ الأصمُّ كعوبُه ... بِثَرْوَةِ رَهطِ الأبلخ المتظلِّم ) ( وقال لجَسّاسٍ أَغِثْني بشَرْبةٍ ... تَفضَّلْ بها طَولاً عليّ وأَنعِمِ ) ( فقال تَجاوزتَ الأَحَصّ وماءَه ... وبطنَ شُبَيثٍ وهو ذو مُترسَّم ) حرب بكر وتغلب حرب البسوس وكان السبب في قتل كليب بن ربيعة فيما ذكره أبو عبيدة عن مقاتل الأحول بن سنان بن مرثد بن عبد بن عمرو بن بشر بن عمرو بن مرثد أخي بني قيس بن ثعلبة ونسخت بعضه من رواية الكلبي وأخبرنا به محمد ابن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل فجمعت من روايتهم ما احتيج إلى ذكره مختصر اللفظ كامل المعنى أن كليبا كان قد عز وساد في ربيعة فبغى بغيا شديدا وكان هو الذي ينزلهم منازلهم ويرحلهم ولا ينزلون ولا يرحلون إلا بأمره فبلغ من عزه وبغيه أنه اتخذ جرو كلب فكان إذا نزل منزلا به كلأ قذف ذلك الجرو فيه فيعوي فلا يرعى أحد ذلك الكلأ إلا بإذنه وكان يفعل هذا بحياض الماء فلا يردها أحد إلا بإذنه أو من آذن بحرب فضرب به المثل في العز فقيل أعز من كليب وائل وكان يحمي الصيد ويقول صيد ناحية كذا وكذا في جواري فلا يصيد أحد منه شيئا وكان لا يمر بين يديه أحد إذا جلس ولا يحتبي أحد في مجلسه غيره فقتله جساس بن مرة وقال أبو عبيدة قال أبو برزة القيسي وهو من ولد عمرو بن مرثد وكان كليب بن ربيعة ليس على الأرض بكري ولا تغلبي أجار رجلا ولا بعيرا إلى بإذنه ولا يحمي حمى إلا بأمره وكان إذا حمى حمى لا يقرب وكان لمرة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة عشرة بنين جساس أصغرهم وكانت أختهم عند كليب وقال مقاتل وفراس وأم جساس هيلة بنت منقذ بن سليمان بن كعب بن عمرو بن سعد بن زيد مناة ثم خلف عليها سعد ابن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بعد مرة بن ذهل فولدت له مالكا وعوفا وثعلبة قال فراس بن خندق البسوسي فهي أمنا وخالة جساس البسوس وقال أبو برزة البسوسية وهي التي يقال لها أشأم من البسوس فجاءت فنزلت على ابن أختها جساس فكانت جارة لبني مرة ومعها ابن لها ولهم ناقة خوارة من نعم بني سعد ومعها فصيل أخبرني علي بن سليمان قال قال أبو برزة وقد كان كليب قبل ذلك قال لصاحبته أخت جساس هل تعلمين على الأرض عربيا أمنع مني ذمة فسكتت ثم أعاد عليها الثانية فسكتت ثم أعاد عليها الثالثة فقالت نعم أخي جساس وندمانه ابن عمه عمرو المزدلف بن أبي ربيعة بن ذهل ابن شيبان وزعم مقاتل أن امرأته كانت أخت جساس فبينا هي تغسل رأس كليب وتسرحه ذات يوم إذ قال من أعز وائل فصمتت فأعاد عليها فلما أكثر عليها قالت أخواي جساس وهمام فنزع رأسه من يدها وأخذ القوس فرمى فصيل ناقة البسوس خالة جساس وجارة بني مرة فقتله فأغمضوا على ما فيه وسكتوا على ذلك ثم لقي كليب ابن البسوس فقال ما فعل فصيل ناقتكم قال قتلته وأخليت لنا لبن أمه فأغمضوا على هذه أيضا ثم إن كليبا أعاد على امرأته فقال من أعز وائل فقالت أخواي فأضمرها وأسرها في نفسه وسكت حتى مرت به إبل جساس فرأى الناقة فأنكرها فقال ما هذه الناقة قالوا لخالة جساس قال أو قد بلغ من أمر ابن السعدية أن يجير علي بغير إذني ارم ضرعها يا غلام قال فراس فأخذ القوس فرمى ضرع الناقة فاختلط دمها بلبنها وراحت الرعاة على جساس فأخبروه بالأمر فقال احلبوا لها مكيالي لبن بمحلبها ولا تذكروا لها من هذا شيئا ثم أغمضوا عليها أيضا قال مقاتل حتى أصابتهم سماء فغدا في غبها يتمطر وركب جساس بن مرة وابن عمه عمرو بن الحارث ابن ذهل وقال أبو برزة بل عمرو بن أبي ربيعة وطعن عمرو كليبا فحطم صلبه وقال أبو برزة فسكت جساس حتى ظعن ابنا وائل فمرت بكر ابن وائل على نهي يقال له شبيث فنفاهم كليب عنه وقال لا يذوقون منه قطرة ثم مروا على نهي آخر يقال له الأحص فنفاهم عنه وقال لا يذوقون منه قطرة ثم مروا على بطن الجريب فمنعهم إياه فمضوا حتى نزلوا الذنائب واتبعهم كليب وحيه حتى نزلوا عليه ثم مر عليه جساس وهو واقف على غدير الذنائب فقال طردت أهلنا عن المياه حتى كدت تقتلهم عطشا فقال كليب ما منعناهم من ماء إلا ونحن له شاغلون فمضى جساس ومعه ابن عمه المزدلف وقال بعضهم بل جساس ناداه فقال هذا كفعلك بناقة خالتي فقال له أو قد ذكرتها أما إني لو وجدتها في غير إبل مرة لاستحللت تلك الإبل بها فعطف عليه جساس فرسه فطعنه برمح فأنفذ حضنيه فلما تداءمه الموت قال يا جساس اسقني من الماء قال ما عقلت استسقاءك الماء منذ ولدتك أمك إلا ساعتك هذه قال أبو برزة فعطف عليه المزدلف عمرو بن أبي ربيعة فاحتز رأسه وأما مقاتل فزعم أن عمرو بن الحارث بن ذهل الذي طعنه فقصم صلبه قال وفيه يقول مهلهل ( قتيلٌ ما قتيلُ المرءِ عمروٍ ... وجَسَّاسِ بنِ مُرّة ذو ضَريرِ ) وقال العباس بن مرداس السلمي يحذر كليب بن عهمة السلمي ثم الظفري لما مات حرب بن أمية وخنقت الجن مرداسا وكانوا شركاء في القرية فجحدهم كليب حظهم منها وسنذكر خبر ذلك في آخر هذه الأخبار إن شاء الله تعالى فحذره غب الظلم فقال ( أكليبُ مالكَ كلَّ يوم ظالماً ... والظلمً أنكدُ وجهُه مَلعونُ ) ( فافعَلْ بقومك ما أرادَ بوائلٍ ... يومَ الغَديرِ سَمِيُّكَ المطعونُ ) وقال رجل من بني بكر بن وائل في الإسلام وهي تنحل للأعشى ( ونحن قهَرنا تَغلِبَ ابنةَ وائلٍ ... بقتل كُلَيبٍ إذا طغَى وتَخيّلاَ ) ( أبَأْناه بالناب التي شَقَّ ضَرْعَها ... فأصبح مَوْطُوءَ الحِمَى مُتذلِّلا ) قال ومقتل كليب بالذنائب عن يسار فلجة مصعدا إلى مكة وقبره بالذنائب وفيه يقول المهلهل ( ولو نُبِش المقابرُ عن كُلَيبٍ ... فَيُخْبَرَ بالذنائب أَيُّ زِيرِ ) قال أبو برزة فلما قتله أمال يده بالفرس حتى انتهى إلى أهله قال وتقول أخته حين رأته لأبيها إن ذا لجساس أتى خارجا ركبتاه قال والله ما خرجت ركبتاه إلا لأمر عظيم قال فلما جاء قال ما وراءك يا بني قال ورائي إني قد طعنت طعنة لتشغلن بها شيوخ وائل زمنا قال أقتلت كليبا قال نعم قال وددت أنك وإخوتك كنتم متم قبل هذا ما بي إلا أن تتشاءم بي أبناء وائل وزعم مقاتل أن جساسا قال لأخيه نضلة بن مرة وكان يقال له عضد الحمار ( وإني قد جَنيتُ عليكَ حرباً ... تُغِصُ الشيخَ بالماء القَرَاحِ ) ( مُذَكَّرةً متى ما يَصْحُ عنها ... فَتىً نَشِبَتْ بآخرَ غيرِ صَاحِ ) ( تُنَكِّلُ عن ذُبَاب الغيّ قوماً ... وتدعُو آخرينَ إلى الصّلاح ) فأجابه نضلة ( فإن تَكُ قد جَنَيتَ عليّ حرباً ... فلا وَانٍ ولا رَثُّ السِّلاَحِ ) قال أبو برزة وكان همام بن مرة آخى مهلهلا وعاقده ألا يكتمه شيئا فجاءت إليه أمة له فأسرت إليه قتل جساس كليبا فقال له مهلهل ما قالت فلم يخبره فذكره العهد بينهما فقال أخبرت أن جساسا قتل كليبا فقال است أخيك أضيق من ذلك وزعم مقاتل أن هماما كان آخى مهلهلا وكان عاقده ألا يكتمه شيئا فكانا جالسين فمر جساس يركض به فرسه مخرجا فخذيه فقال همام إن له لأمرا والله ما رأيته كاشفا فخذيه قط في ركض فلم يلبث إلا قليلا حتى جاءته الخادم فسارته أن جساسا قتل كليبا فقال له مهلهل ما أخبرتك قال أخبرتني أن أخي قتل أخاك قال هو أضيق استا من ذلك وتحمل القوم وغدا مهلهل بالخيل وقال المفضل في خبره فلما قتل كليب قالت بنو تغلب بعضهم لبعض لا تعجلوا على إخوتكم حتى تعذروا بينكم وبينهم فانطلق رهط من أشرافهم وذوي أسنانهم حتى أتوا مرة بن ذهل فعظموا ما بينهم وبينه وقالوا له اختر منا خصالا إما أن تدفع إلينا جساسا فنقتله بصاحبنا فلم يظلم من قتل قاتله وإما أن تدفع إلينا هماما وإما أن تقيدنا من نفسك فسكت وقد حضرته وجوه بني بكر بن وائل فقالوا تكلم غير مخذول فقال أما جساس فغلام حديث السن ركب رأسه فهرب حين خاف فلا علم لي به وأما همام فأبو عشرة وأخو عشرة ولو دفعته إليكم لصيح بنوه في وجهي وقالوا دفعت أبانا للقتل بجريرة غيره وأما أنا فلا أتعجل الموت وهل تزيد الخيل على أن تجول جولة فأكون أول قتيل ولكن هل لكم في غير ذلك هؤلاء بني فدونكم أحدهم فاقتلوه به وإن شئتم فلكم ألف ناقة تضمنها لكم بكر بن وائل فغضبوا وقالوا إنا لم نأتك لترذل لنا بنيك ولا لتسومنا اللبن فتفرقوا ووقعت الحرب وتكلم في ذلك عند الحارث بن عباد فقال لا ناقة لي في هذا ولا جمل وهو أول من قالها وأرسلها مثلا قالوا جميعا كانت حربهم أربعين سنة فيهن خمس وقعات مزاحفات وكانت تكون بينهم مغاورات وكان الرجل يلقى الرجل والرجلان الرجلين ونحو هذا وكان أول تلك الأيام يوم غنيزة وهي عند فلجة فتكافؤوا فيه لا لبكر ولا لتغلب وتصديق ذلك قول مهلهل ( كأنّا غُدوةً وبَنى أبينا ... بجَنْب عُنَيزةٍ رَحَيَا مُدِيرِ ) ( ولولا الريحُ أُسمِع مَنْ بحَجْرٍ ... صليلَ الِبيض تُقرَع بالذُّكور ) فتفرقوا ثم غبروا زمانا ثم التقوا يوم واردات وكان لتغلب على بكر وقتلوا بكرا أشد القتل وقتلوا بجيرا وذلك قول مهلهل ( فإني قد تركتُ بِوارِداتٍ ... بُجيراً في دَمٍ مثلِ العَبيرِ ) ( هتكتُ به بيوتَ بني عُبَادٍ ... وبعضُ الغَشْم أِشفَى للصدور ) قال مقاتل إنه إنما التقط توا وسيجيء حديثه أسفل من هذا التو الفرد يقال وجدته توا أي وحده قال أبو برزة ثم انصرفوا بعد يوم واردات غير بني ثعلبة بن عكابة ورأسوا على أنفسهم الحارث بن عباد فاتبعتهم بنو ثعلبة بن عكابة حتى التقوا بالحنو فظهرت بنو ثعلبة على تغلب يوما القصيبات وقضة قال مقاتل ثم التقوا يوم بطن السرو وهو يوم القصيبات وربما قبل يوم القصيبة وكان لبني تغلب على بكر حتى ظنت بكر أن سيقتلونها قال مقاتل وقتلوا يومئذ همام بن مرة ثم التقوا يوم قضة وهو يوم التحالق ويوم الثنية ويوم قضة ويوم الفصيل لبكر على تغلب قال أبو برزة اتبعت تغلب بكرا فقطعوا رملات خزازى والرغام ثم مالوا لبطن الحمارة فوردت بكر قضة فسقت وأسقت ثم صدرت وحلؤوا تغلب ونهضوا في نجعة يقال لها مويبة لا يجوز فيها إلا بعير بعير فلحق رجل من الأوس بن تغلب بغليم من بني تيم اللات بن ثعلبة يطرد ذودا له فطعن في بطنه بالرمح ثم رفعه فقال تحد بي أم البو على بوك فرآه عوف بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فقال أنفذوا جمل أسماء اينته فإنه أمضى جمالكم وأجودها منفذا فإذا نفذ تبعته النعم فوثب الجمل في المويبة حتى إذا نهض على يديه وارتفعت رجلاه ضرب عرقوبيه وقطع بطان الظعينة فوقع فسد الثنية ثم قال عوف أنا البرك أبرك حيث أدرك فسمي البرك ووقع الناس إلى الأرض لا يرون مجازا وتحالقوا لتعرفهم النساء فقال جحدر بن ضبيعة بن قيس أبو المسامعة واسمه ربيعة قال وإنما سمي جحدرا لقصره لا تحلقوا رأسي فإني رجل قصير لا تشينوني ولكني أشتريه منكم بأول فارس يطلع عليكم من القوم فطلع ابن عناق فشد عليه فقتله فقال رجل من بكر بن وائل يمدح مسمع بن مالك بذلك ( يابنَ الذي لمّا حلقنا اللِّمَمَا ... ابتاع منا رأسَه تَكَرُّمَا ) ( بفارسٍ أوّلِ مَنْ تقدّما ... ) وقال البكري ( ومنّا الذي فادَى من القوم رأسَه ... بمستلئمٍ من جَمْعهم غير أعزلا ) ( فأدّى إلينا بَزَّه وسِلاحَه ... ومُنْفصِلاً من عُنْقه قد تَزَيَّلا ) قال وكان جحدر يرتجز يومئذ ويقول ( رُدّوا عليّ الخيل إن ألَمّتِ ... إن لم أُقاتلْهم فجُزُّوا لِمَّتي ) وزعم عامر بن عبد الملك المسمعي أنه لم يقلها وأن صخر بن عمرو السلمي قائلها فقال مسمع كردين كذب عامر وقال البكري ( ومِنّا الذي سَدّ الثنيةَ غُدْوةً ... على خَلْفةٍ لم يُبقِ فيها تَحَلُّلاَ ) ( بجَهْدِ يمين الله لا يطلُعونها ... ولمّا نُقاتِلْ جَمْعَهم حين أَسْهَلاَ ) وأما مقاتل فزعم أنهم قالوا اتخذوا علما يعرف به بعضكم بعضا فتحالقوا وفيه يقول طرفة صوت ( سائلوا عنّا الذي يَعرِفنا ... بقُوَانا يومَ تَحْلاَق اللِّمَمْ ) ( يومَ تُبدِي البِيضُ عن أَسُؤقها ... وتَلُفُّ الخيلُ أَعْراجَ النَّعَمْ ) غنى في هذين البيتين ابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وذكر أحمد بن المكي أنه لمعبد مقتل همام بن مرة وزعم مقاتل أن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان لم يزل قائد بكر حتى قتل يوم القصيبات وهو قبل يوم قضة ويوم قضة على أثره وكان من حديث مقتل همام أنه وجد غلاما مطروحا فالتقطه ورباه وسماه ناشرة فكان عنده لقيطا فلما شب تبين أنه من بني تغلب فلما التقوا يوم القصيبات جعل همام يقاتل فم يقاتل فإذا عطش رجع إلى قربة فشرب منها ثم وضع سلاحه فوجد ناشرة من همام غفلة فشد عليه بالعنزة فأقصده فقتله ولحق بقومه تغلب فقال باكي همام ( لقد عَيّل الأقوامَ طعنةُ ناشِرَهْ ... أناشِرُّ لا زالتُ يميُنك آشِرَهْ ) ثم قتل ناشرة رجل من بني يشكر فلما كان يوم قضة وتجمعت إليهم بكر جاء إليهم الفند الزماني أحد بني زمان بن مالك بن صعب بن علي بن بكر بن وائل من اليمامة قال عامر بن عبد الملك المسمعي فرأسوه عليهم فقلت أنا لفراس بن خندق إن عامرا يزعم أن الفند كان رئيس بكر يوم قضة فقال رحم الله أبا عبد الله كان أقل الناس حظا في علم قومه وقال فراس كان رئيس بكر بعد همام الحارث بن عباد قال مقاتل وكان الحارث ابن عباد قد اعتزل يوم قتل كليب وقال لا أنا من هذا ولا ناقتي ولا جملي ولا عدلي وربما قال لست من هذا ولا جملي ولا رحلي وخذل بكرا عن تغلب واستعظم قتل كليب لسؤدده في ناقة فقال سعد بن مالك يحضض الحارث بن عباد ( يا بؤسَ للحرب التي ... وضعتْ أراهطَ فاستراحوا ) ( والحربُ لا يَبْقى لصاحبها ... التَّخَيُّلُ والمِراحُ ) ( إلاّ الفتى الصَبارُ في النِّجَداتَ ... والفرسُ الوَقَاحُ ) فلما أخذ بجير بن الحارث بن عباد توا بواردات وإنما سل ولم يؤخذ في مزاحفة قال له مهلهل من خالك يا غلام قال امرؤ القيس بن أبان التغلبي لمهلهل إني أرى غلاما ليقتلن به رجل لا يسأل عن خاله وربما قال عن حاله قال فكان والله امرؤ القيس هو المقتول به قتله الحارث بن عباد يوم قضة بيده فقتله مهلهل قال فلما قتل مهلهل بجيرا قال بؤبشسع نعل كليب فقال له الغلام إن رضيت بذلك بنو ضبيعة بن قيس رضيت فلما بلغ الحارث قتل بجير ابن أخيه وقال أبو برزة بل بجير بن الحارث بن عباد نفسه قال نعم الغلام غلام أصلح بين ابني وائل وباء بكليب فلما سمعوا قول الحارث قالوا له إن مهلهلا لما قتله قال له بؤ بشسع نعل كليب وقال مهلهل ( كُلُّ قتيلٍ في كُلَيبٍ حُلاَّمْ ... حتى ينالَ القتلُ آلَ هَمَّامْ ) وقال أيضا ( كلُّ قتيلٍ في كُلَيبٍ غُرَّهْ ... حتى ينالَ القتلُ آلَ مُرَّهْ ) فغضب الحارث عند ذلك فنادى بالرحيل قال مقاتل وقال الحارث ابن عباد ( قَرِّبَا مَرْبِطَ النَّعَامةِ مِنِّي ... لَقِحتْ حربُ وائلٍ عن حِيالِ ) ( لا بُجَيرٌ أغنَى قتيلاً ولا رهطُ ... كُلَيبٍ تَزَاجروا عن ضَلالِ ) ( لم أكن من جُنَاتها علم اللّهُ ... وإنّي بحَرّها اليومَ صالِ ) قال ولم يصحح عامر ولا مسمع غير هذه الثلاثة الأبيات وزعم أبو برزة قال كان أول فارس لقي مهلهلا يوم واردات بجير بن الحارث بن عباد فقال من خالك يا غلام وبوأ نحوه الرمح فقال له امرؤ القيس بن أبان التغلبي وكان على مقدمتهم في حروبهم مهلا يا مهلهل فإن عم هذا وأهل بيته قد اعتزلوا حربنا ولم يدخلوا في شيء مما نكره ووالله لئن قتلته ليقتلن به رجل لا يسأل عن نسبه فلم يلتفت مهلهل إلى قوله وشد عليه فقتله وقال بؤبشسع نعل كليب فقال الغلام إن رضيت بهذا بنو ثعلبة فقد رضيته قال ثم غبروا زمانا ثم لقي همام بن مرة فقتله أيضا فأتى الحارث ابن عباد فقيل له قتل مهلهل هماما فغضب وقال ردوا الجمال على عكرها الأمر مخلوجة ليس بسكلى وجد في قتالهم قال مقاتل فكان حكم بكر بن وائل يوم قضة الحارث بن عباد وكان الرئيس الفند وكان فارسهم جحدر وكان شاعرهم سعد بن مالك بن ضبيعة وكان الذي سد الثنية عوف بن مالك بن ضبيعة وكان عوف أنبه من أخيه سعد المهلهل وأسره ونجاته وقال فراس بن خندق بل كان رئيسهم يوم قضة الحارث بن عباد قال مقاتل فأسر الحارث بن عباد عديا وهو مهلهل بعد انهزام الناس وهو لا يعرفه فقال له دلني على المهلهل قال ولي دمي قال ولك دمك قال ولي ذمتك وذمة أبيك قال نعم ذلك لك قال فأنا مهلهل قال دلني على كفء لبجير قال لا أعلمه إلا امرأ القيس بن أبان هذاك علمه فجز ناصيته وقصد قصد امرئ القيس فشد عليه فقتله فقال الحارث في ذلك ( لَهْفَ نفسي على عَدِيٍّ ولم أَعرِفْ ... عَدِيًّا إذ أمكنتْني اليدانِ ) ( طُلَّ مَنْ طُلَّ في الحروب ولم أُوتِرْ ... بُجَيراً أَبَأْتُه ابنَ أبانِ ) ( فارسٌ يَضرِب الكتيبةَ بالسيف ... وتسمو أَمامَه العينانِ ) وزعم حجر أن مهلهلا قال لا والله أو يعهد لي غيرك قال الحارث أختر من شئت قال أختار الشيخ القاعد عوف بن محلم قال الحارث يا عوف أجره قال لا حتى يقعد خلفي فأمره فقعد خلفه فقال أنا مهلهل وأما مقاتل فقال إنما أخذه في دور الرحى وحومة القتال ولم يقعد أحد بعد فكيف يقول الشيخ القاعد قال مقاتل وشد عليهم جحدر فاعتوره عمرو وعامر فطعن عمرا بعالية الرمح وطعن عامرا بسافلته فقتلهما عداء وجاء ببزهما قال عامر بن عبد الملك المسمعي فحدثني رجل عالم قال سألني الوليد بن يزيد من قتل عمرا وأخاه عامرا قلت جحدر قال صدقت فهل تدري كيف قتلهما قلت نعم قتل عمرا بسنان الرمح وقتل عامرا بزجه قال وقتل جحدر أيضا أبا مكنف قال مقاتل فلما رجع مهلهل بعد الوقعة والأسر إلى أهله جعل النساء والولدان يستخبرونه تسأل المرأة عن زوجها وابنها وأخيها والغلام عن أبيه وأخيه فقال ( ليس مثلي يُخبِّر الناسَ عن آبائهم ... قُتلِّوا ويَنْسَى القِتالاَ ) ( لم أرِمْ عَرْصةَ الكتيبةِ حتّى انتعل ... الوَرْدُ من دماءٍ نِعالا ) ( عَرَفَتْه رِمَاحُ بكرٍ فما يأخُذن ... إلا لَبَانَه والقَذَالا ) ( غلَبونا ولا محالةَ يوماً ... يَقلِبُ الدهرُ ذاك حالاً فحالاَ ) ثم خرج حتى لحق بأرض اليمن فكان في جنب فخطب إليه أحدهم ابنته فأبى أن يفعل فأكرهوه فأنكحها إياه فقال في ذلك مهلهل ( أنكحَها فقدُها الأرَاقِمَ في ... جَنْبٍ وكان الحَباءُ من أَدَمِ ) ( لو بأبَانَيْن جاء يخطُبها ... ضُرِّج ما أَنفُ خاطبِ بدَمِ ) ( أصبحتُ لا مُنْفِساً أصبتُ ولا ... أُبْتُ كريماً حُرًّا من النَّدَمِ ) ( هان على تَغْلِبٍ بما لَقِيتْ ... أختُ بني المالِكِين من جُشَمِ ) ( ليسوا بأكفائنا الكرام ولا ... يُغْنُون من عَيْلةٍ ولا عَدَمِ ) ثم إن مهلهلا انحدر فأخذه عمرو بن مالك بن ضبيعة فطلب إليه أخواله بنو يشكر وأم مهلهل المرادة بنت ثعلبة بن جشم بن غبر اليشكرية وأختها منة بنت ثعلبة أم حيي بن وائل وكان المحلل بن ثعلبة خالهما فطلب إلى عمرو أن يدفعه إليه فيكون عنده ففعل فسقاه خمرا فلما طابت نفسه تغنى ( طَفْلةٌ ما ابنةُ المُحلّل بيضاءُ ... لَعُوبٌ لذيذةٌ في العِناقِ ) حتى فرغ من القصيدة فأدى ذلك من سمعه من المهلهل إلى عمرو فحوله إليه واقسم ألا يذوق عنده خمرا ولا ماء ولا لبنا حتى يرد ربيب الهضاب جمل له كان أقل وروده في الصيف الخمس فقالوا له يا خير الفتيان أرسل إلى ربيب فلتؤت به قبل وروده ففعل فأوجره ذنوبا من ماء فلما تحلل من يمينه سقاه من ماء الحاضرة وهو أوبأ ماء رأيته فمات فتلك الهضاب التي كان يرعاها ربيب يقال لها هضاب ربيب طالما رعيتهن ورأيتهن قال مقاتل ولم يقاتل معنا من بني يشكر ولا من بني لجيم ولا ذهل ابن ثعلبة غير ناس من بني يشكر وذهل قاتلت بأخرة ثم جاء ناس من بني لجيم يوم قضة مع الفند وفي ذلك يقول سعد بن مالك ( إنّ لُجَيماً قد أبتْ كلُّها ... أن يُرْفِدونا رجلاً واحدَا ) ( ويَشكُرٌ أَضْحتْ على نأيها ... لم تَسْمَعِ الآن لها حامدَا ) ( ولا بنو ذُهْلٍ وقد أصبحوا ... بها حُلولا خَلَفاً ماجدَا ) ( القائِدي الخيلِ لأرض العِدَا ... والضاربين الكوكبَ الوافِدَا ) وقال البكري ( وصَدّتْ لُجَيمٌ للبراءة إذ رأتْ ... أهاضيبَ موتٍ تُمطِر الموتَ مُعْضِلاَ ) ( وَيَشْكُرُ قد مالتْ قديماً وأرْتعتْ ... ومَنّتْ بقُرْباها إليهم لتُوصَلا ) وقالوا جميعا مات جساس حتف أنفه ولم يقتل قال عامر بن عبد الملك لم يكن بينهم من قتلى تعد ولا تذكر إلا ثمانية نفر من تغلب وأربعة من بكر عددهم مهلهل في شعريه يعني قصيدتيه ( أليلتَنا بذي حُسُمٍ أَنِيرِي ... إذا أنتِ انْقضَيتِ فلا تَحُورِي ) ( فإن يكُ بالذَّنائب طال ليلي ... فقد أبكِي من الليلِ القصِيرِ ) ( فلو نُبِش المقابرُ عن كُلِيب ... فيَعْلَمَ بالذنائب أَيُّ زِيرِ ) ( بيوم الشَّعْثَمَينِ أُقِرّ عيناً ... وكيف لِقاءُ من تحت القُبورِ ) ( وإنّي قد تركتُ بِوارِداتٍ ... بُجَيراً في دمٍ مثلِ العَبيرِ ) ( هتكتُ به بيوتَ بني عُبادٍ ... وبعضُ الغَشْم أشفَى للصّدورِ ) ( على أنْ ليس يُوفِي من كُلَيْبٍ ... إذَا برزتْ مخبّأةُ الخُدورِ ) ( وهمّامَ بن مُرَّةَ قد تركنا ... عليه القَشْعمانِ من النسورِ ) ( يَنُوء بصدره والرمحُ فيه ... وَيَخْلِجُه خِدَبٌّ كالبعير ) ( فلولا الريحُ أُسْمِعَ مَنْ بحَجْرٍ ... صليلَ البيض تُقْرَعُ بالذكور ) ( فِدىً لبني شَقِيقِةَ يوم جاؤوا ... كأُسْدِ الغَابِ لَجّتْ في الزَّئير ) ( كأنّ رماحَهم أَشطانُ بئرٍ ... بعيدٍ بين جَالَيْها جَرُورِ ) ( غداةَ كأنّنا وبني أبينا ... بَجْنب عُنَيزةٍ رحَيَا مُدِيرِ ) ( تَظَلّ الخيلُ عاكفةً عليهم ... كأنّ الخيلَ تُرْحَضُ في غديرِ ) فهؤلاء أربعة من بني بكر بن وائل وقال أيضا ( طَفْلةٌ ما ابنةُ المحلِّل بَيْضاءُ ... لَعُوبٌ لذيذةٌ في العِنَاقِ ) ( فاذْهَبِي ما إليكِ غيرَ بعيدٍ ... لا يُؤاتِي العِناقُ مَنْ في الوَثاقِ ) ( ضربتْ نحرَها إليّ وقالتْ ... يا عَدِيًّا لقد وَقَتْك الأواقي ) ( ما أُرَجِّي في العيش بعد نَدَامَايَ ... أراهم سُقُوا بكأسِ حَلاَقِ ) ( بعد عمروٍ وعامرٍ وحُيّيٍّ ... ورَبيعِ الصَّدُوفِ وابنْي عَنَاقِ ) ( وامرئ القيس مَيّت يوم أوْدَى ... ثم خَلّى عليّ ذاتَ العَرَاقي ) ( وكليبٍ سُمّ الفوارس إذ حُمّ ... رماه الكماةُ بالإِيفاق ) ( إنّ تحت الأحجار حَدًّا ولِيناً ... وخَصيماً ألدَّ ذا مِعْلاقِ ) ( حيّةٌ في الوِجَار أربدُ لا تَنفَعُ ... منه السليم نَفْثهُ راقِ ) فهؤلاء ثمانية من تغلب قال عامر والدليل على أن القتلى كانوا قليلا أن آباء القبائل هم الذين شهدوا تلك الحروب فعدوهم وعدوا بنيهم وبني بنيهم فإن كانوا خمسمائة فقد صدقوا فكم عسى أن يبلغ عدد القتلى والقبائل قال مسمع إن أخي مجنون وكيف يحتج بشعر المهلهل وقد قتل جحدر أبا مكنف يوم قضة فلم يذكره في شعره وقتل اليشكري ناشرة فلم يذكره في الشعر وقتل حبيب يوم واردات وقتل سعد بن مالك يوم قضة ابن القبيحة فلم يذكر فهؤلاء أربعة وقال البكري ( تركنا حَبيباً يوم أَرْجفَ جمعُه ... صريعاً بأعلى وارداتٍ مُجَدَّلا ) وقال مهلهل أيضا ( لستُ أرجو لَذَّةَ العيش ما ... أزَمَتْ أجلادُ قِدٍّ بساقِي ) ( جَلَّلوني جِلدَ حَوْبٍ فقد ... جعلوا نَفْسيَ عند التَّراقِي ) وقال آخر يفخر بيوم واردات ( ومُهْراقُ الدماء بوارداتٍ ... تَبِيد المْخزِياتُ وما تَبِيدُ ) فقلت لعامر ما بال مسمع وما احتج به من هؤلاء الأربعة فقال عامر وما أربعة إن كنت أغفلتهم فيما يقولون إنهم قتلوا يوم كذا ثلاثة آلاف ويوم كذا أربعة آلاف والله ما أظن جميع القوم كانوا يومئذ ألفا فهاتوا فعدوا أسماء القبائل وأبناءهم وانزلوا معهم إلى أبناء أبنائهم فكم عسى أن يكونوا نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني صوت ( أُزْجُرِ العين أنْ تُبَكِّي الطُّلولاَ ... أنّ في الصدر من كُلَيبٍ غليلاَ ) ( إنّ في الصدرِ حاجةً لن تَقَضَّى ... ما دعا في الغصون داعٍ هَدِيلاَ ) ( كيف أنساكَ يا كُلَيبُ ولمّا ... أقِض حزناً يَنُوبُني وغَليلاَ ) ( أيّها القلبُ أَنْجِزِ اليومَ نَحْباً ... من بني الحِصْنِ إذ غَدَوْا وذُحولاَ ) ( كيف يَبكي الطلولَ مَنْ هو رهنٌ ... بِطعَانِ الأنامِ جِيلاً فجِيلاَ ) ( أَنَبضُوا مَعْجِسَ القِسيِّ وأبرقْنا ... كما تُوعِدُ الفحولُ الفحولاَ ) ( وصبَرْنا تحت البَوَارِقِ حتّى ... رَكَدتْ فيهمُ السيوفُ طويلاَ ) ( لم يُطيقوا أن يَنزِلوا ونزلْنا ... وأخو الحربِ مَنْ أطاق النّزولاَ ) الشعر لمهلهل قال أبو عبيدة اسمه عدي وقال يعقوب بن السكيت اسمه امرؤ القيس وهو ابن ربيعة بن الحارث بن زهير بن جشم ابن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب وإنما لقب مهلهلا لطيب شعره ورقته وكان أحد من غني من العرب في شعره وقيل إنه أول من قصد القصائد وقال الغزل فقيل قد هلهل الشعر أي أرقه وهو أول من كذب في شعره وهو خال امرئ القيس بن حجر الكندي وكان فيه خنث ولين وكان كثير المحادثة للنساء فكان كليب يسميه زير النساء فذلك قوله ( ولو نُبِش المقابرُ عن كُلَيبٍ ... فيَعلَمَ بالذنائب أيُّ زير ) الغناء لابن محرز في الأول والثاني من الأبيات ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى وللغريض فيهما لحن في هذه الطريقة والإصبع والمجرى والذي فيه سجحة منها لابن محرز ولمعبد لحنان أحدهما في الأول والسادس ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر والآخر خفيف ثقيل أول بالبنصر ولإبراهيم في الأول والرابع ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى ولإسحاق في الأول والثالث ماخوري ولعلويه في الأول والثاني خفيف ثقيل أول بالبنصر ولمالك فيهما خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى ولابن سريج في السادس والسابع خفيف رمل بالسبابة في مجرى البنصر ولابن سريج أيضا في الأول والثامن خفيف ثقيل أول بالبنصر وللغريض في الأول والثاني خفيف ثقيل أول بالبنصر وللهذلي في الأول والثاني والسابع خفيف ثقيل أول بالوسطى من رواية حماد عن أبيه ولمالك في الأول والثاني والخامس خفيف ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق وعمرو بن بانة ومنها صوت ( ثَكِلْتني عند الثَّنِيَّة أُمِّي ... وأتاها نَعِيُّ عمِّي وخالي ) ( إنْ لَمَ اشْف النفوسَ من حَيِّ بكرٍ ... وعَدِيّ تَطَاهُ بُزْلُ الجِمالِ ) غناه ابن سريج ثقيلا أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى من رواية إسحاق وغناه الغريض ثقيلا أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو ابن بانة ومنها صوت ( قَرِّبَا مَرْبِطَ النَّعَامة مِنِّي ... لَقِحتْ حربُ وائلٍ عن حِيال ) ( قَرِّباها في مُقْرَبَات عِجَالٍ ... عابساتٍ يَثِبْنَ وَثْبَ السَّعَالِي ) ( لم أكن من جُنَاتها علم اللَّهُ ... وإنّي بَحرّها اليوم صالِ ) الشعر للحارث بن عباد والغناء للغريض ثقيل أول بالبنصر وفيه لحن آخر يقال إنه لابن سريج ومنها صوت ( يا لَبَكْرٍ أَنْشِروا لي كُلَيباً ... يا لَبَكْرٍ أينَ أينَ الفِرارُ ) ( يا لَبَكْرٍ فاظعنوا أو فحُلُّوا ... صَرَّح الشرُّ وبان السِّرارُ ) الشعر لمهلهل والغناء لابن سريج ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى البنصر من رواية إسحاق وغناه الأبجر خفيف رمل بالوسطى من رواية عمرو ومنها صوت ( أليلتَنا بذي حُسُمٍ أَنِيري ... إذا أنتِ انقضيتِ فلا تَحُورِي ) ( فإن يكُ بالذَّنَائب طال ليلِي ... فقد أبكي من الليلَ القصيرِ ) ( كأنّ الجَدْيَ جَدْيَ بناتِ نَعْشٍ ... يُكِبّ على اليدين بمستديرٍ ) ( وتَحْبُوا الشِّعْرَيانِ إلى سُهَيلٍ ... يَلُوح كِقمَّةِ الجمل الكبير ) ( فولا الريحُ أُسمِعَ أهلُ حَجْرٍ ... صَلِيلَ البيض تُقْرَعُ بالذُّكورِ ) الشعر لمهلهل والغناء لابن محرز في الأول والثاني ثقيل أول بالبنصر وله في الأبيات كلها خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق جميعا وفي الأبيات كلها على الولاء للأبجر ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو ويقال إن فيها لحنا للغريض أيضا الهجرس بن كليب وخاله جساس أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا الحسن بن الحسين السكري قال حدثنا محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل عن أبي عبيدة أن آخر من قتل في حرب بكر وتغلب جساس بن مرة بن ذهل بن شيبان وهو قاتل كليب بن ربيعة وكانت أخته تحت كليب فقتله جساس وهي حامل فرجعت إلى أهلها ووقعت الحرب فكان من الفريقين ما كان ثم صاروا إلى الموادعة بعد ما كادت القبيلتان تتفانيان فولدت أخت جساس غلاما فسمته الهجرس ورباه جساس فكان لا يعرف أبا غيره وزوجه ابنته فوقع بين الهجرس وبين رجل من بني بكر بن وائل كلام فقال له البكري ما أنت بمنته حتى نلحقك بأبيك فأمسك عنه ودخل إلى أمه كئيبا فسألته عما به فأخبرها الخبر فلما أوى إلى فراشه ونام إلى جنب امرأته وضع أنفه بين ثدييها فتنفس تنفسة تنفط ما بين ثدييها من حرارتها فقامت الجارية فزعة قد أقلتها رعدة حتى دخلت على أبيها فقصت عليه قصة الهجرس فقال جساس ثائر ورب الكعبة وبات جساس على مثل الرضف حتى أصبح فأرسل إلى الهجرس فأتاه فقال له إنما أنت ولدي ومني بالمكان الذي قد علمت وقد زوجتك ابنتي وأنت معي وقد كانت الحرب في أبيك زمانا طويلا حتى كدنا نتفانى وقد اصطلحنا وتحاجزنا وقد رأيت أن تدخل فيما دخل فيه الناس من الصلح وأن تنطلق حتى نأخذ عليك مثل ما أخذ علينا وعلى قومنا فقال الهجرس أنا فاعل ولكن مثلي لا يأتي قومه إلا بلأمته وفرسه فحمله جساس على فرس وأعطاه لأمة ودرعا فخرجا حتى أتيا جماعة من قومهما فقص عليهم جساس ما كانوا فيه من البلاء وما صاروا إليه من العافية ثم قال وهذا الفتى ابن أختي قد جاء ليدخل فيما دخلتم فيه ويعقد ما عقدتم فلما قربوا الدم وقاموا إلى العقد أخذ الهجرس بوسط رمحه ثم قال وفرسي وأذنيه ورمحي ونصليه وسيفي وغراريه لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه ثم طعن جساسا فقتله ثم لحق بقومه فكان آخر قتيل في بكر بن وائل قال أبو الفرج أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه عن الشرقي بن القطامي قال لما قتل جساس بن مرة كليب بن ربيعة وكانت جليلة بنت مرة أخت جساس تحت كليب اجتمع نساء الحي للمأتم فقلن لأخت كليب رحلي جليلة عن مأتمك فإن قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب فقالت لها يا هذه اخرجي عن مأتمنا فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا فخرجت وهي تجر أعطافها فلقيها أبوها مرة فقال لها ما وراءك يا جليلة فقالت ثكل العدد وحزن الأبد وفقد حليل وقتل أخ عن قليل وبين ذين غرس الأحقاد وتفتت الأكباد فقال لها أو يكف ذلك كرم الصفح وإغلاء الديات فقالت جليلة أمنية مخدوع ورب الكعبة أبالبدن تدع لك تغلب دم ربها قال ولما رحلت جليلة قالت أخت كليب رحلة المعتدي وفراق الشامت ويل غدا لآل مرة من الكرة بعد الكرة فبلغ قولها جليلة فقالت وكيف تشمت الحرة بهتك سترها وترقب وترها أسعد الله جد أختي أفلا قالت نفرة الحياء وخوف الاعتداء ثم أنشأت تقول ( يا بنةَ الأقوامِ إنْ شئتِ فلا ... تَعْجَلِي باللَّوْم حتى تسألِي ) ( فإذا أنتِ تَبِيَّنتِ الذي ... يُوجِبُ اللَّومَ فلَومِي واعِذُلِي ) ( إن تكن أُختُ امرئ لِيَمتْ على ... شَفَقٍ منها عليه فافعلي ) ( جَلَّ عندي فعلُ جَسّاسٍ فيا ... حَسْرتِي عما انجلتْ أو تنجلي ) ( فعلُ جَسّاسٍ على وَجْدِي به ... قاطعٌ ظَهْرِي ومُدْنٍ أجَلِي ) ( لَوْ بِعَينٍ فُقِئتْ عيني سوى ... أُختِها فانفقأتْ لم أَحْفِل ) ( تَحمِلُ العينُ قَذَى العينِ كما ... تَحمِلُ الأُمّ أذَىَ ما تَفْتَلِي ) ( يا قتيلاً قَوّض الدهرُ به ... سَقفَ بيتّي جميعاً من عَلِ ) ( هدمَ البيتَ الذي استحدثُته ... وانثنَى في هدمِ بيتي الأوّلِ ) ( ورماني قتلُه من كَثَبٍ ... رميةَ المُصْمِي به المُستأصِلِ ) ( يا نِسائي دونكنّ اليومَ قد ... خَصَّني الدهرُ برُزْءٍ مُعْضِل ) ( خَصّني قتلُ كُلَيب بلَظىً ... مِن ورائي ولَظىً مُسْتقبِلي ) ( ليس من يَبكِي ليومين كمن ... إنما يبكِي ليومٍ ينجلي ) ( يشتفِي المدرِكُ بالثأر وفي ... دَرَكي ثأرِيَ ثُكْلُ المُثِكلِ ) ( ليته كان دَمِي فاحتلبوا ... بَدَلاً منه دَماً من أَكْحَلي ) ( إنني قاتلةٌ مقتولةٌ ... ولعلّ الله أن يرتاحَ لي ) ذكر الهذلي وأخباره أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال الهذليان أخوان يقال لهما سعيد وعبد آل ابنا مسعود فالأكبر منهما يقال له سعيد ويكنى أبا مسعود وأمه امرأة يقال لها أم فيعل وكان كثيرا ما ينسب إليها وكان ينقش الحجارة بأبي قبيس وكان فتيان من قريش يروحون إليه كل عشية فيأتون بطحاء يقال لها بطحاء قريش فيجلسون عليها ويأتيهم فيغني لهم ويكون معهم وقد قيل إن الأكبر هو عبد آل والأصغر سعيد قال هارون وحدثني الزبير بن بكار قال حدثني حمزة بن عتبة اللهبي أن الهذلي كان نقاشا يعمل البرم من حجارة الجبل وكان يكنى أبا عبد الرحمن وكان إذا أمسى راح فأشرف على المسجد ثم غنى فلا يلبث أن يرى الجبل كقرص الخبيص صفرة وحمرة من أدرية قريش فيقولون يا أبا عبد الرحمن أعد فيقول أما والله وها هنا حجر أحتاج إليه لم يرد الأبطح فلا فيضعون أيديهم في الحجارة حتى يقطعوها له ويحدروها إلى الأبطح وينزل معهم حتى يجلس على أعظمها حجرا ويغني لهم قال هارون وحدثني حماد بن إسحاق عن أبي مسعود بن أبي جناح قال أخبرني أبو لطيف وعمارة قالا تغنى الهذلي الأكبر وكان من أنفسهم وكان فتيان قريش يروحون كل عشية حتى يأتوا بطحاء يقال لها بطحاء قريش قريبا من داره فيجلسون عليها ويأتيهم فيغنيهم قال وأخبرني ابن أبي طرفة عن الحسن بن عباد الكاتب مولى آل الزبير قال هجم الحارث بن خالد وهو يومئذ أمير مكة على الهذلي وهو مع فتيان قريش بالمفجر يغنيهم وعليه جدبة صوف فطرح عليه مقطعات خز فكانت هذه أول ما تحرك لها الهذلي يتزوج بنت ابن سريج قال هارون وحدثني حماد عن أبيه قال ذكر ابن جامع عن ابن عباد أن ابن سريج لما حضرته الوفاة نظر إلى ابنته فبكى فقالت له ما يبكيك قال أخشى عليك الضيعة بعدي فقالت له لا تخف فما من غنائك شيء إلا وقد أخذته قال فغنيني فغنته فقال قد طابت نفسي ثم دعا بالهذلي فزوجها منه فأخذ الهذلي غناء أبيها كله عنها فانتحل أكثره فعامة غناء الهذلي لابن سريج مما أخذه عن ابنته وهي زوجته أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني محمد ابن يحيى أبو غسان قال كان الهذلي منزله بمنى وكان فتيان قريش يأتونه فيغنيهم هناك ثم أقبل مرة حتى جلس على جمرة العقبة فغنى هناك فحدره الحارث من منى وكان عاملا على مكة ثم أذن له فرجع إلى منى قال هارون وحدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبي قال كان الهذلي النقاش يغدو إليه فتيان قريش وقد عمل عمله بالليل ومعهم الطعام والشراب والدراهم فيقولون له غننا فيقول لهم الوظيفة فيقولون قد جئنا بها فيقول الوظيفة الأخرى أنزلوا أحجاري فيلقون ثيابهم ويأتزرون بأزرهم وينقلون الحجارة وينزلونها ثم يجلس على شنخوب من شناخيب الجبل فيجلسون تحته في السهل فيشربون وهو يغنيهم حتى المساء وكانوا كذلك مدة فقال له يوما ثلاثة فتية من قريش قد جاءك كل واحد منا بمثل وظيفتك على الجماعة من غير أن تنقص وظيفتك عليهم وقد اختار كل واحد منا صوتا من غنائك ليجعله حظه اليوم فإن وافقت الجماعة هوانا كان ذلك مشتركا بيننا وإن أبوا غنيت لهم ما أرادوا وجعلت هذه الثلاثة الأصوات لنا بقية يومنا قال هاتوا فاختار أحدهم ( عَفَتْ عَرَفَاتٌ فالمصايفُ من هندِ ... ) واختار الآخر ( ألمَّ بنا طيفُ الخيال المهجِّدُ ... ) واختار الآخر ( هجَرْتُ سُعدَى فزادني كَلَفَا ... ) فغناهم إياها فما سمع السامعون شيئا كان أحسن من ذلك فلما أرادوا الانصراف قال لهم إني قد صنعت صوتا البارحة ما سمعه أحد فهل لكم فيه قالوا هاته منعما بذلك فاندفع فغناهم ( أأن هتَفتْ وَرْقاءُ ظَلْتَ سفاهةً ... تُبكِّي على جُمْلٍ لِوَرْقاءَ تَهتِفُ ) فقالوا أحسنت والله لا جرم لا يكون صبوحنا في غد إلا عليه فعادوا وغناهم إياه وأعطوه وظيفته ولم يزالوا يستعيدونه إياه باقي يومهم نسبة ما في هذا الخبر من الأصوات من ذلك صوت ( عَفَتْ عَرَفاتٌ فالمَصايف من هندِ ... فَأَوْحَشَ ما بين الجَرِيبينِ فالنَّهْدِ ) ( وغَيَّرها طولُ التقادُمِ والبِلَى ... فليستْ كما كانتْ تكونُ على العَهْدِ ) الشعر للأحوص وقيل إنه لعمر والغناء للهذلي ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر ومنها صوت من المائة المختارة ( ألمّ بنا طَيْفُ الخيال المهجِّدُ ... وقد كادت الجوزاءُ في الجوّ تَصْعَدُ ) ( ألمّ يُحّيينا ومِن دون أهلها ... فَيَافٍ تَغُورُ الريحُ فيها وتُنجِد ) عروضه من الطويل لم يقع لنا اسم شاعره ونسبه والغناء للهذلي ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وهو اللحن المختار وفيه ليحيى المكي هزج ولحن الهذلي هذا مما اختير للرشيد والواثق بعده من المائة الصوت المذكورة ومنها صوت ( هجرتُ سُعْدَى فزادنِي كَلَفَا ... هِجرانُ سُعْدَى وأزمعتْ خُلُفَا ) ( وقَدْ على حُبّها حلفتُ لها ... لو أنّ سُعْدَى تُصدِّق الحِلَفَا ) ( ما عَلِقَ القلبُ غيرَها بَشَراً ... ولا سواها مِن مَعْلَقٍ عَرَفا ) ( فلم تُجبني وأعرضتْ صَلَفاً ... وغادرتْني بحبّها كَلِفَا ) الغناء للهذلي ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق قال زوج ابن سريج لما حضرته الوفاة الهذلي الأكبر بابنته فأخذ عنها أكثر غناء أبيها وادعاه فغلب عليه قال وولدت منه ابنا فلما أيفع جاز يوما بأشعب وهو جالس في فتية من قريش فوثب فحمله على كتفه وجعل يرقصه ويقول هذا ابن دفتي المصحف وهذا ابن مزامير داود فقيل له ويلك ما تقول ومن هذا الصبي فقال أو ما تعرفونه هذا ابن الهذلي من ابنة ابن سريج ولد على عود واستهل بغناء وحنك بملوى وقطعت سرته بوتر وختن بمضراب وذكر يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن عبد الله بن عيسى الماهاني قال دخلت يوما على إسحاق بن إبراهيم الموصلي في حاجة فرأيت عليه مطرف خز أسود ما رأيت قط أحسن منه فتحدثنا إلى أن أخذنا في أمر المطرف فقال لقد كان لكم أيام حسنة ودولة عجيبة فكيف ترى هذا فقلت له ما رأيت مثله فقال إن قيمته مائة ألف درهم وله حديث عجيب فقلت ما أقومه إلا بنحو مائة دينار فقال إسحاق شربنا يوما من الأيام فبت وأنا مثخن فانتبهت لرسول محمد الأمين فدخل علي فقال يقول لك أمير المؤمنين عجل وكان بخيلا على الطعام فكنت آكل قبل أن أذهب إليه فقمت فتسوكت وأصلحت شأني وأعجلني الرسول عن الغداء فقمت معه فدخلت عليه وإبراهيم بن المهدي قاعد عن يمينه وعليه هذا المطرف وجبة خز دكناء فقال لي محمد يا إسحاق أتغديت قلت نعم يا سيدي قال إنك لنهم أهذا وقت غداء فقلت أصبحت يا أمير المؤمنين وبي خمار فكان ذلك مما حداني على الأكل فقال لهم كم شربنا فقالوا ثلاثة أرطال فقال اسقوه إياها فقلت إن رأيت أن تفرق علي فقال يسقى رطلين ورطلا فدفع إلي رطلان فجعلت أشربهما وأنا أتوهم أن نفسي تسيل معهما ثم دفع إلي رطل آخر فشربته فكأن شيئا انجلى عني فقال غنني ( كُليبٌ لعمْرِي كان أكثر ناصراً ... ) فغنيته فقال أحسنت وطرب ثم قام فدخل وكان كثيرا ما يدخل إلى النساء ويدعنا فقمت في إثر قيامه فدعوت غلاما لي فقلت اذهب إلى بيتي وجئني ببزماوردتين ولفهما في منديل واذهب ركضا وعجل فمضى الغلام وجاءني بهما فلما وافى الباب ونزل عن دابته انقطع فنفق من شدة ما ركض عليه وأدخل إلي البزماوردتين فأكلتهما ورجعت نفسي إلي وعدت إلى مجلسي فقال لي إبراهيم لي إليك حاجة أحب أن تقضيها لي فقلت إنما أنا عبدك وابن عبدك فقل ما شئت قال تردد علي كليب لعمري وهذا المطرف لك فقلت أنا لا آخذ منك مطرفا على هذا ولكنني أصير إلى منزلك فألقيه على الجواري وأردده عليك مرارا فقال أحب أن تردده علي الساعة وأن تأخذ هذا فإنه من لبسك وهو من حاله كذا وكذا فرددت عليه الصوت مرارا حتى أخذه ثم سمعنا حركة محمد فقمنا حتى جاء وجلس ثم قعدنا فشرب وتحدثنا فغناه إبراهيم كليب لعمري فكأني والله لم أسمعه قبل ذلك حسنا وطرب محمد طربا شديدا وقال أحسنت والله يا غلام عشر بدر لعمي الساعة فجاؤوا بها فقال يا أمير المؤمنين إن لي فيها شريكا قال من هو قال إسحاق قال وكيف فقال إنما أخذته منه لما قمت فقلت أنا ولم أضاقت الأموال على أمير المؤمنين حتى تريد أن تشرك فيما يعطي قال أما أنا فأشركك وأمير المؤمنين أعلم فلما انصرفنا من المجلس أعطاني ثمانين ألفا وأعطاني هذا المطرف فهذا أخذ به مائة ألف درهم وهي قيمته صوت من المائة المختارة من رواية جحظة عن أصحابه ( عَلِّلِ القومَ يَشربُوا ... كي يَلَذُّوا ويَطْرَبُوا ) ( إنما ضلَّل الفؤادَ ... عزالٌ مُرَبَّبُ ) ( فرشتْه على النَّمارقِ ... سُعْدَى وزينبُ ) ( حالَ دون الهوى ودون ... سُرى الليلِ مُصعَبُ ) ( وسِياطٌ على اكفِّ ... رجالٍ تقلَّبُ ) الشعر لعبيد الله بن قيس الرقيات والغناء في اللحن المختار لمالك بن أبي السمح ولحنه من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى وفيه لإسحاق ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر ولابن سريج في الرابع والخامس والأول ثاني ثقيل في مجرى الوسطى ولمعبد في الثاني وما بعده خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى ذكر عبيد الله بن قيس الرقيات ونسبه وأخباره هو عبيد الله بن قيس بن شريح بن مالك بن ربيعة بن أهيب بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب وأمه قتيلة بنة وهب بن عبد الله بن ربيعة بن طريف بن عدي بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد ابن محمد بن أبي قلامة العمري قال حدثني محمد بن طلحة قال الزبير وحدثنيه أيضا محمد بن الحسن المخزومي قالا جميعا كان يقال لبني معيص بن عامر بن لؤي وبني محارب بن فهر الأجربان من أهل تهامة وكانا متحالفين وإنما قيل لهما الأجربان من شدة بأسهما وعرهما من ناوأهما كما يعر الجرب سبب لقبه بالرقيات وإنما لقب عبيد الله بن قيس الرقيات لأنه شبب بثلاث نسوة سمين جميعا رقية منهن رقيه بنت عبد الواحد بن أبي سعد بن قيس بن وهب بن أهبان بن ضباب بن حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي وابنة عم لها يقال لها رقية وامرأة من بني أمية يقال لها رقية وكان هواه في رقية بنت عبد الواحد وكان عبد الواحد فيما أخبرني الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير ينزل الرقة وإياه عنى ابن قيس بقوله ( ما خبرُ عيش بالجزيرة بعد ما ... عثَر الزمانُ ومات عبدُ الواحدِ ) وله في الرقيات عدة أشعار يغنى فيها تذكر بعقب هذا الخبر والأبيات الثانية التي فيها اللحن المختار يقولها في مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وكان صاحب شرطة مروان بن الحكم بالمدينة أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال لما ولي مروان بن الحكم المدينة ولى مصعب بن عبد الرحمن بن عوف شرطته فقال إني لا أضبط المدينة بحرس المدينة فابغني رجالا من غيرها فأعانه بمائتي رجل من أهل أيلة فضبطها ضبطا شديدا فدخل المسور بن مخرمة على مروان فقال أما ترى ما يشكوه الناس من مصعب فقال ( ليس بهذا من سِيَاقٍ عَتْبُ ... يمشي القَطُوفُ وينامُ الركبُ ) وقال غير مصعب في هذا الخبر وليس من رواية الحرمي إنه بقي إلى أن ولي عمرو بن سعيد المدينة وخرج الحسين رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن الزبير فقال له عمرو اهدم دور بني هاشم وآل الزبير فقال لا أفعل فقال انتفخ سحرك يابن أم حريث ألق سيفنا فألقاه ولحق بابن الزبير وولى عمرو بن سعيد شرطته عمرو بن الزبير بن العوام وأمره بهدم دور بني هاشم وآل الزبير ففعل وبلغ منهم كل مبلغ وهدم دار ابن مطيع التي يقال لها العنقاء وضرب محمد بن المنذر بن الزبير مائة سوط ثم دعا بعروة ابن الزبير ليضربه فقال له محمد أتضرب عروة فقال نعم يا سبلان إلا أن تحتمل ذلك عنه فقال أنا أحتمله فضربه مائة سوط أخرى ولحق عروة بأخيه وضرب عمرو الناس ضربا شديدا فهربوا منه إلى ابن الزبير وكان المسور بن مخرمة أحد من هرب منه ولما أفضى الأمر إلى ابن الزبير أقاد منه وضربه بالسوط ضربا مبرحا فمات فدفنه في غير مقابر المسلمين وقال للناس فيما ذكر عنه إن عمرا مات مرتدا عن الإسلام كان شاعر قريش زبيري الهوى أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال سألت عمي مصعبا ومحمد بن الضحاك ومحمد بن حسن عن شاعر قريش في الإسلام فكلهم قالوا ابن قيس الرقيات وحكي ذلك عن عدي وعن الضحاك بن عثمان وحكاه محمد بن الحسن عن عثمان بن عبد الرحمن اليربوعي قال الزبير وحدثني بمثله غمامة بن عمرو السهمي عن مسور بن عبد الملك اليربوعي أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي والحرمي بن أبي العلاء وغيرهما قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن عمه محمد ابن عبد العزيز أن ابن قيس الرقيات أتى إلى طلحة بن عبد الله بن عوف الزهري فقال له يا عمي إني قد قلت شعرا فاسمعه فإنك ناصح لقومك فإن كان جيدا قلت وإن كان رديئا كففت فقال له أنشد فأنشده قصيدته التي يقول فيها ( منَع اللهوَ والهوى ... وسُرَى الليلِ مُصْعَبُ ) ( وسِياطٌ على أَكفِّ ... رجالٍ تقلَّبُ ) فقال قل يابن أخي فإنك شاعر وكان عبيد الله بن قيس الرقيات زبيري الهوى وخرج مع مصعب بن الزبير على عبد الملك فلما قتل مصعب وقتل عبد الله هرب فلجأ إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فسأل عبد الملك في أمره فأمنه وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي والحرمي بن أبي العلاء وغيرهما قالوا حدثنا الزبيري قال حدثني عبد الله بن البصير البربري مولى قيس بن عبد الله ابن الزبير عن أبيه قال قال عبيد الله بن قيس الرقيات خرجت مع مصعب بن الزبير حين بلغه شخوص عبد الملك بن مروان إليه فلما نزل مصعب بن الزبير بمسكن ورأى معالم الغدر ممن معه دعاني ودعا بمال ومناطق فملأ المناطق من ذلك المال وألبسني منها وقال لي انطلق حيث شئت فإني مقتول فقلت له لا والله لا أريم حتى أرى سبيلك فأقمت معه حتى قتل ثم مضيت إلى الكوفة فأول بيت صرت إليه دخلته فإذا فيه امرأة لها ابنتان كأنهما ظبيتان فرقيت في درجة لها إلى مشربة فقعدت فيها فأمرت لي المرأة بما أحتاج إليه من الطعام والشراب والفرش والماء للوضوء فأقمت كذلك عندها أكثر من حول تقيم لي ما يصلحني وتغدو علي في كل صباح فتسألني بالصباح والحاجة ولا تسألني من أنا ولا أسألها من هي وأنا في ذلك أسمع الصياح في والجعل فلما طال بي المقام وفقدت الصياح في وغرضت بمكاني غدت علي تسألني بالصباح والحاجة فعرفتها أني قد غرضت وأحببت الشخوص إلى أهلي فقالت لي نأتيك بما تحتاج إليه إن شاء الله تعالى فلما أمسيت وضرب الليل بأرواقه رقيت إلي وقالت إذا شئت فنزلت وقد أعدت راحلتين عليهما ما أحتاج إليه ومعهما عبد وأعطت العبد نفقة الطريق وقالت العبد والراحلتان لك فركبت وركب العبد معي حتى طرقت أهل مكة فدققت منزلي فقالوا لي من هذا فقلت عبيد الله بن قيس الرقيات فولولوا وبكوا وقالوا ما فارقنا طلبك إلا في هذا الوقت فأقمت عندهم حتى أسحرت ثم نهضت ومعي العبد حتى قدمت المدينة فجئت عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب عند المساء وهو يعشي أصحابه فجلست معهم وجعلت أتعاجم وأقول ياريار ابن طيار فلما خرج أصحابه كشفت له عن وجهي فقال ابن قيس فقلت ابن قيس جئتك عائذا بك قال ويحك ما أجدهم في طلبك وأحرصهم على الظفر بك ولكني سأكتب إلى أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان فهي زوجة الوليد بن عبد الملك وعبد الملك أرق شيء عليها فكتب إليها يسألها أن تشفع له إلى عمها وكتب إلى أبيها يسأله أن يكتب إليها كتابا يسألها الشفاعة فدخل عليها عبد الملك كما كان يفعل وسألها هل من حاجة فقالت نعم لي حاجة فقال قد قضيت كل حاجة لك إلا ابن قيس الرقيات فقالت لا تستثن علي شيئا فنفح بيده فأصاب خدها فوضعت يدها على خدها فقال لها يابنتي ارفعي يدك فقد قضيت كل حاجة لك وإن كانت ابن قيس الرقيات فقالت إن حاجتي ابن قيس الرقيات تؤمنه فقد كتب إلي أبي يسألني أن أسألك ذلك قال فهو آمن فمريه يحضر مجلسي العشية فحضر ابن قيس وحضر الناس حين بلغهم مجلس عبد الملك فأخر الإذن ثم أذن للناس وأخر إذن ابن قيس الرقيات حتى أخذوا مجالسهم ثم أذن له فلما دخل عليه قال عبد الملك يا أهل الشأم أتعرفون هذا قالوا لا فقال هذا عبيد الله بن قيس الرقيات الذي يقول ( كيف نومِي على الفِراش ولما ... تَشْمَلِ الشأمّ غارةٌ شَعْواءُ ) ( تُذهِل الشيخَ عن بَنيه وتُبدِي ... عن خِدام العقيلةُ العذراءُ ) فقالوا يا أمير المؤمنين اسقنا دم هذا المنافق قال الآن وقد أمنته وصار في منزلي وعلى بساطي قد أخرت الإذن له لتقتلوه فلم تفعلوا فاستأذنه ابن قيس الرقيات أن ينشده مديحه فأذن له فأنشده قصيدته التي يقول فيها ( عاد له من كَثِيرةَ الطربُ ... فعينُه بالدموع تنسكبُ ) ( كُوفيّةٌ نازحٌ مَحَلَّتُها ... لا أَمَمٌ دارُها ولا صَقَبُ ) ( والله ما إن صَبَتْ إليّ ولا ... إن كان بيني وبينها سببُ ) ( إلا الذي أورثتْ كثيرةُ في القلب ... وللحّب سَوْرَةٌ عجبُ ) حتى قال فيها ( إنّ الأعزَّ الذي أبوه أبو العاصي ... عليه الوقارُ والحُجُبُ ) ( يعتدِل التاجُ فوق مَفْرِقِه ... على جَبينٍ كأنه الذهبُ ) فقال له عبد الملك يابن قيس تمدحني بالتاج كأني من العجم وتقول في مصعب ( إنما مُصعَبٌ شِهابٌ من اللَّه ... تجلّت عن وجهه الظلماءُ ) ( ملكُه ملك عِزَّةِ ليس فيه ... جبروتٌ منه ولا كِبرياءُ ) أما الأمان فقد سبق لك ولكن والله لا تأخذ مع المسلمين عطاء أبدا قال وقال ابن قيس الرقيات لعبد الله بن جعفر ما نفعني أماني تركت حيا كميت لا آخذ مع الناس عطاء أبدا فقال له عبد الله بن جعفر كم بلغت من السن قال ستين سنة قال فعمر نفسك قال عشرين سنة من ذي قبل فذلك ثمانون سنة قال كم عطاؤك قال ألفا درهم فأمر له بأربعين ألف درهم وقال ذلك لك علي إلى أن تموت على تعميرك نفسك فعند ذلك قال عبيد الله بن قيس الرقيات يمدح عبد الله بن جعفر ( تَقَدَّتْ بِيَ الشَّهْباءُ نحوَ ابنِ جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلُها ونهارُها ) ( تزور امرأً قد يعلمُ اللهُ أنه ... تَجُودُ له كفُّ قليلٌ غِرَارُها ) ( أتيناك نُثْنِي بالذي أنت أهلُه ... عليك كما يُثْني على الروض جارُها ) ( فوالله لولا أن تزورَ ابن جعفر ... لكان قليلاً في دِمَشْقَ قَرارُها ) ( إذا مِتَّ لم يُوصَلْ صديقٌ ولم تُقَمْ ... طريقٌ من المعروف أنت منَارُها ) ( ذكرتُكَ أن فاض الفراتُ بأرضنا ... وفاض بأعلى الرَّقَّتيْن بِحارُها ) ( وعندَي مما خوَّل اللهُ هَجْمَةٌ ... عَطَاؤكَ منها شَوْلُها وعِشَارُها ) ( مباركةٌ كانت عطاءَ مُبَارَكٍ ... تُمانِحُ كُبراها وتَنْمِي صِغارُها ) أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا مصعب بن عبد الملك قال قال عبد الملك بن مروان لعبيد الله بن قيس الرقيات ويحك يابن قيس أما اتقيت الله حين تقول لابن جعفر ( تزورُ امرأً قد يعلم اللهُ أنه ... تَجودُ له كفُّ قليلٌ غِرارُها ) ألا قلت قد يعلم الناس ولم تقل قد يعلم الله فقال ابن قيس قد والله علمه الله وعلمته أنت وعلمته أنا وعلمه الناس أخبرنا الحسين بن يحيى قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي أن عبيد الله بن قيس الرقيات منعه عبد الملك بن مروان عطاءه من بيت المال وطلبه ليقتله فاستجار بعبد الله بن جعفر وقصده فألفاه نائما وكان صديقا لسائب خاثر فطلب الإذن على ابن جعفر فتعذر فجاء سائب خاثر ليستأذن له عليه قال سائب فجئت من قبل رجل عبد الله بن جعفر فنبحت نباح الجرو الصغير فانتبه ولم يفتح عينيه وركلني برجله فدرت إلى عند رأسه فنبحت نباح الكلب الهرم فانتبه وفتح عينيه فرآني فقال ما لك ويحك فقلت ابن قيس الرقيات بالباب قال ائذن له فأذنت له فدخل إليه فرحب ابن جعفر به وقربه فعرفه ابن قيس خبره فدعا بظبية فيها دنانير وقال عد له منها فجعلت أعد وأترنم وأحسن صوتي بجهدي حتى عددت ثلاثمائة دينار فسكت فقال لي عبد الله ما لك ويلك سكت ما هذا وقت قطع الصوت الحسن فجعلت أعد حتى نفذ ما كان في الظبية وفيها ثمانمائة دينار فدفعتها إليه فلما قبضها قال لابن جعفر اسأل أمير المؤمنين في أمري قال نعم فإذا دخلت إليه معي ودعا بالطعام فكل أكلا فاحشا فركب ابن جعفر فدخل معه إلى عبد الملك فلما قدم الطعام جعل يسيء الأكل فقال عبد الملك لابن جعفر من هذا فقال هذا إنسان لا يجوز إلا أن يكون صادقا إن استبقي وإن قتل كان أكذب الناس قال وكيف ذلك قال لأنه يقول ( ما نَقموا من بني أُميّةَ إلاّ ... أنهم يَحلُمُون إن غَضِبُوا ) فإن قتلته لغضبك عليه أكذبته فيما مدحكم به قال فهو آمن ولكن لا أعطيه عطاء من بيت المال قال ولم وقد وهبته لي فأحب أن تهب لي عطاءه أيضا كما وهبت لي دمه وعفوت لي عن ذنبه قال قد فعلت قال وتعطيه ما فاته من العطاء قال قد فعلت وأمرت له بذلك أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال كان ابن قيس الرقيات منقطعا إلى ابن جعفر وكان يصله ويقضي عنه دينه ثم استأمن له عبد الملك فأمنه وحرمه عطاءه فأمره عبد الله أن يقدر لنفسه ما يكفيه أيام حياته ففعل ذلك فأعطاه عبد الله ما سأل وعوضه من عطائه أكثر منه ثم جاءت عبد الله صلة من عبد الملك وابن قيس غائب فأمر عبد الله خازنه فخبأ له صلته فلما قدم دفعها إليه وأعطاه جارية حسناء فقال ابن قيس ( إذا زرتُ عبدَ الله نفسي فداؤه ... رجعتُ بفضلٍ من نَدَاهُ وَنائلِ ) ( وإن غِبتُ عنه كان للوُدّ حافظاً ... ولم يكُ عنّي في المغيب بغافِلِ ) ( تداركَنِي عبدُ الإله وقد بدَتْ ... لذي الحِقدِ والشَّنآن منّي مَقَاتلي ) ( فأنقذني من غَمرة الموت بعد ما ... رأيتُ حياضَ الموت جَمَّ المَناهِل ) ( حَبَانِيَ لما جئتُه بعطّيةٍ ... وجاريةٍ حسناءَ ذاتِ خَلاخِل ) نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني منها صوت ( عادَ له من كَثِيرةَ الطّربُ ... فعينُه بالدموع تنسكبُ ) ( كُوفيّةٌ نازحٌ مَحَلّتُها ... لا أَمَمٌ دارُها ولا صَقَبُ ) ( والله ما إن صَبَتْ إليّ ولا ... يُعرَفُ بيني وبينها سَبَبُ ) ( إلا الذي أورثَتْ كثيرةٌ في القلب ... وللحبّ سَوْرةٌ عَجَبُ ) عروضه من المنسرح غناه معبد ثقيلا أول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى قوله لا أمم دارها يعني أنها ليست بقريبة ويقال ما كلفتني أمما من الأمر فأفعله أي قريبا من الإمكان ويقال إن فلانا لأمم من أن يكون فعل كذا وكذا قال الشاعر ( أطَرقَتْه أسماءُ أم حَلَمَا ... بل لم تكن من رِحَالنا أَمَمَا ) أي قريبة وقال الراجز ( كلَّفها عمروٌ نِقَال الضَبْعانْ ... ما كُلِّفَتْ من أَمَمٍ ولا دَانْ ) وقال آخر ( إنك إن سألت شيئا أَمَمَا ... جاء به الكَرِي أو تَحبشَّمَا ) والصقب الملاصقة تقول والله ما صاقبت فلانا ولا صاقبني ودار فلان مصاقبة لدار فلان وفي الحديث الجار أحق بصقبه أي بما لاصقه أي إنه أحق بشفعته والسورة شدة الأمر ومنه يقال ساور فلان فلانا وتساور الرجلان إذا تغالبا وتشادا وقيل إن السورة البقية أيضا ومنها صوت ( ما نَقَمُوا من بني أُميَّة ... إلا أنهم يَحلُمُون إن غَضِبوا ) ( وأنّهمُ سادةُ الملوك فما ... تَصلُح إلاّ عليهمُ العَربُ ) غنت في هذين البيتين حبابة وهما من القصيدة التي أولها ( عاد له من كَثِيرةَ الطّربُ ... ) قال الأصمعي كثيرة هذه امرأة نزل بها بالكوفة فآوته قال ابن قيس فأقمت عندها سنة تروح وتغدو علي بما أحتاج إليه ولا تسألني عن حالي ولا نسبي فبينا أنا بعد سنة مشرف من جناح إلى الطريق إذا أنا بمنادي عبد الملك ينادي ببراءة الذمة ممن أصبت عنده فأعلمت المرأة أني راحل فقالت لا يروعنك ما سمعت فإن هذا نداء شائع منذ نزلت بنا فإن أردت المقام ففي الرحب والسعة وإن أردت الانصراف أعلمتني فقلت لها لا بد لي من الانصراف فلما كان الليل قدمت إلي راحلة عليها جميع ما أحتاج إليه في سفري فقلت لها من أنت جعلت فداءك لأكافئك قالت ما فعلت هذا لتكافئني فانصرفت ولا والله ما عرفتها إلا أني سمعتها تدعى باسمها كثيرة فذكرتها في شعري وذكر الزبير بن بكار عن عمه مصعب أن عبد الله بن علي بن عبد الله ابن عباس صاحب بني أمية بنهر أبي فطرس إنما بعثه على قتلهم أنه أنشده بعض الشعراء ذات يوم مديحا مدح به بني هاشم فقال لبعضهم أين هذا مما كنتم تمدحون به فقال هيهات أن يمدح أحد بمثل قول ابن قيس فينا ( ما نقَمُوا من بني أميّة إلا ... أنهم يَحلُمُون إن غَضِبُوا ) البيتين فقال له عبد الله بن علي ألا أرى المطمع في الملك في نفسك بعد يا ماص كذا من أمه ثم أوقع بهم أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن جدي عبد الله بن مصعب قال اعترض هارون الرشيد قينة فغنت ( ما نقَموا من بني أميّة إلاّ ... أنهم يحلُمُون إن غضبوا ) فلما ابتدأت به تغير وجه الرشيد وعلمت أنها قد غلطت وأنها إن مرت فيه قتلت فغنت ( ما نَقَمُوا من بني أميّة إلاّ ... أنهم يجهَلُون إن غَضِبوا ) ( وأنهم مَعدِنُ النّفاق فما ... تَفسُدُ إلا عليهم العربُ ) فقال الرشيد ليحيى بن خالد أسمعت يا أبا علي فقال يا أمير المؤمنين تبتاع وتسنى لها الجائزة ويعجل لها الإذن ليسكن قلبها قال ذلك جزاؤها قومي فأنت مني بحيث تحبين قال فأغمي على الجارية فقال يحيى بن خالد ( جُزِيتَ أميرَ المؤمنين بأَمْنها ... من الله جناتٍ تفوز بِعَدْنها ) ومنها صوت ( تَقَدّتْ بيَ الشَّهْباءُ نحوَ ابن جعفرٍ ... سواءٌ عليها ليلُها ونهارُها ) ( تَزُور امرأً قد يَعلمُ الله أنه ... تَجودُ له كَفٌّ بطيءٌ غِرارُها ) ( ووالله لولا أن تزورَ ابنَ جعفرٍ ... لكان قليلاً في دِمَشقَ قرارُها ) عروضه من الطويل غناه معبد ثاني ثقيل بالبنصر قوله تقدت أي سارت سيرا ليس بعجل ولا مبطئ فيقال تقدى فلان إذا سار سير من لا يخاف فوت مقصده فلم يعجل وقوله بطيء غرارها يعني أن منعها المعروف بطيء وأصل الغرار أن تمنع الناقة درتها ثم يستعار في كل ما أشبه ذلك ومنه قول الراجز ( إنّ لكلّ نَهَلاَتٍ شِرَّهْ ... ثم غِرَاراً كغِرار الدِّرَّهْ ) وقال جميل في مثل ذلك ( لاحتْ لعينك من بُثينةَ نارُ ... فدموعُ عينكَ دِرَّةٌ وغرَارُ ) ما عيب عليه في شعره قال الزبير وهذا البيت مما عيب على ابن قيس لأنه نقض صدره بعجزه فقال في أوله إنه سار سيرا بغير عجل ثم قال ( سَواءٌ عليها ليلُها ونهارُها ... ) وهذا غاية الدأب في السير فناقض معناه في بيت واحد ومما عيب على ابن قيس الرقيات قوله وفي هذين البيتين غناء صوت ( تُرضِعُ شِبْلَيْنِ وَسْطَ غِيلِهما ... قد ناهزا للفِطام أو فُطِما ) ( ما مرَّ يومٌ إلاّ وعندهما ... لحمُ رجال أو يَوْلَغانِ دَمَا ) غناه الغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة وهي قصيدة مدح بها عبد العزيز بن مروان وفيها يقول ( أعْني ابنَ ليلَى عبدَ العزيز بِبَابِلْيُونَ ... تَغدُو جِفَانُه رُذُمَا ) ( الواهبَ النُّجْبَ والولائدَ كالغِزلانِ ... والخيلَ تَعْلُك اللُّجُمَا ) وكان قال في قصيدته هذه أو يالغان دما بالألف وكذلك روي عنه ثم غيرته الرواة أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال سمعت ابن الأعرابي يقول سئل يونس عن قول ابن قيس الرقيات ( ما مرّ يوم إلا وعندهما ... لحم رجال أو يَوْلغان دَما ) فقال يونس يجوز يولغان ولا يجوز يالغان فقيل له فقد قال ذلك ابن قيس الرقيات وهو حجازي فصيح فقال ليس بفصيح ولا ثقة شغل نفسه بالشرب بتكريت أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي أو بلغك أن ابن أبي عتيق أنشد قول ابن قيس ( سواءٌ عليها ليلُها ونهارُها ... ) فقال كانت هذه يابن أم فيما أرى عمياء أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب عن جدي عن هشام بن سليمان المخزومي قال قال ابن أبي عتيق لعبيد الله بن قيس وقد مر به فسلم عليه فقال وعليك السلام يا فارس العمياء فقال له ما هذا الاسم الحادث يا أبا محمد بأبي أنت قال أنت سميت نفسك حيث تقول ( سواءٌ عليها ليلُها ونهارُها ... ) فما يستوي الليل والنهار إلا على عمياء قال إنما عنيت التعب قال فبيتك هذا يحتاج إلى ترجمان يترجم عنه ومنها صوت ( ذكرتُكَ أنْ فاض الفراتُ بأرضنا ... وفاضت بأعلى الرَّقَّتَيْن بِحَارُها ) ( وحَوْلِيَ مما خوّل الله هَجمةٌ ... عطاؤكَ منها شَوْلُها وعِشَارُها ) ( فجئناك نُثْني بالذي أنتَ أهلُه ... عليك كما أَثْنَى على الروض جارُها ) ( إذا متَّ لم يُوصَل صديقٌ ولم تُقَمْ ... طَريقٌ من المعروف أنت منارُها ) الشول النوق التي شالت بأذنابها وكرهت الفحل وذلك حين تلقح واحدتها شائل غناه حكم الوادي ثقيلا أول بالوسطى حكم الوادي ودنانير أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال قال لي أبي قال حكم الوادي دخلت يوما على يحيى بن خالد فقال لي يا أبا يحيى ما رأيك في خمسمائة دينار قد حضرت قلت ومن لي بها قال تلقي لحنك في ( ذكرتكَ أن فاض الفراتُ بأرضنا ... ) على دنانير فها هي ذه وهذا سلام واقف معك ومخرجها إليك وأنا راكب إلى أمير المؤمنين ولست أنصرف من مجلس المظالم إلى وقت الظهر فكدها فيه فإذا أحكمته فلك خمسمائة فقالت دنانير يا سيدي أبو يحيى يأخذ خمسمائة دينار وينصرف وأنا أبقى معك أقاسيك عمري كله فقال لها إن حفظتيه فلك ألف دينار وقام فمضى فقلت لها يا سيدتي اشغلي نفسك بذا فإنك أنت تهبين لي الخمسمائة الدينار بحفظك إياه وتفوزين بالألف الدينار وإلا بطل هذا فلم أزل معها أكدها ونفسي وتغنيني حتى انصرف يحيى فدعا بماء وطست ثم قال يا أبا يحيى غن الصوت كما كنت تغنيه فقلت هلكت يسمعه مني وليس هو بمن يخفى عليه ثم يسمعه منها فلا يرضاه فلم أجد بدا من الغناء ثم قال غنيه أنت الآن فغنت فقال والله ما أرى إلا خيرا فقلت جعلت فداءك أنا أمضغ هذا منذ أكثر من خمسين سنة كما أمضغ الخبز وهذه أخذته الساعة وهو يذل لها بعدي وتجترئ عليه ويزداد حسنا في صوتها فقال صدقت هات يا سلام خمسمائة دينار ولها ألف دينار ففعل فقالت له وحياتك يا سيدي لأشاطرن أستاذي الألف الدينار قال ذلك إليك ففعلت فانصرفت وقد أخذت بهذا الصوت ألف دينار رجع الحديث إلى عبيد الله بن قيس الرقيات قال الزبير بن بكار حدثني عبد الله بن النضير عن أبيه أن ابن قيس الرقيات قال في الكوفية التي نزل عليها ( بانت لِتَحْزُنَنَا كَثِيرَهْ ... ولقد تكون لنا أميرَهْ ) ( حَلَّتْ فَلاَلِيجَ السَّوَاد ... وحَلّ أهلي بالجزيرهْ ) قال ولقد رحل من عندها وما يتعارفان قال وقال فيها أيضا وفيه لحن من خفيف الثقيل لابن المكي صوت ( لَجِجْتَ بحبّكَ أهلَ العِراق ... ولولا كَثِيرةُ لم تَلْجَجِ ) ( فليتَ كثيرةَ لم تَلْقَني ... كثيرةَ أُختَ بني الخَزْرج ) ابن قيس الرقيات وسعيد بن المسيب أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن عاصم القحطاني قال حدثني أبي عن عبد الرحيم بن حرملة قال كنت عند سعيد بن المسيب فجاء ابن قيس الرقيات فهش وقال مرحبا بظفر من أظفار العشيرة ما أحدثت بعدي قال قد قلت أبياتا وأستفتيك في بيت منها فاسمعها قال هات فأنشده ( هل للديار بأهلها عِلْمُ ... أم هل تُبِينُ فينطقَ الرسمُ ) ( قالت رُقيّةُ فِيمَ تَصِرمُنا ... أَرُقَيّ ليس لوجهك الصّرمُ ) ( تَخطُو بخَلْخَاليْن حَشْوُهما ... ساقَانِ مارَ عليهما اللحم ) ( يا صاحِ هل أبكاكَ موقُفنا ... أم هل علينا في البُكا إثمُ ) فقال سعيد لا والله ما أبكاني قال ابن قيس الرقيات ( بل ما بكاؤكَ منزلاً خَلَقاً ... قَفْراً يَلُوح كأنه الوَشْمُ ) فقال سعيد اعتذر الرجل ثم أنشد ( أتلبَثُ في تَكْريتَ لا في عَشيرةٍ ... شهودٍ ولا السلطانُ منكَ قريبُ ) ( وأنت امرؤ للحزم عندك منزلٌ ... وللدِّين والإِسلام منك نصيب ) فقال سعيد لا مقام على ذلك فاخرج منها قال قد فعلت قال قد أصبت أصاب الله بك نسبة ما في هذا الخبر من الغناء صوت ( قامَتْ بخَلْخَالينِ حَشْوُهما ... ساقان مارَ عليهما اللحمُ ) ( يا صاحِ هل أبكاك موقفُنا ... أم هل علينا في البكا إثمُ ) غنى فيهما ابن سريج رملا بالبنصر ابن قيس الرقيات وعمر بن أبي ربيعة أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن عبد الله البكري وهارون بن أبي بكر عن عبد الجبار بن سعيد المساحقي عن أبيه عن سعيد بن مسلم بن وهب مولى بني عامر بن لؤي عن أبيه قال دخلت مسجد رسول الله مع نوفل بن مساحق وإنه لمعتمد على يدي إذ مررنا بسعيد بن المسيب في مجلسه فسلمنا عليه فرد سلامنا ثم قال لنوفل يا أبا سعيد من أشعر أصاحبنا أم صاحبكم يعني عبيد الله ابن قيس الرقيات أو عمر بن أبي ربيعة فقال نوفل حين يقولان ماذا فقال حين يقول صاحبنا ( خليليَّ ما بالُ المَطِيّ كأنّما ... نَراها على الأدبار بالقوم تَنكُصُ ) ( وقد أَبْعدَ الحادِي سُرَاهنّ وانتحَى ... بهنّ فما يأْلُو عَجُولٌ مُقلِّص ) ( وقد قُطِّعتْ أعناقُهُنّ صَبابة ... فأنفُسنا ممّا تُكلَّفُ شُخَّص ) ( يَزِدْنَ بنا قُرْباً فيزدادُ شوقُنا ... إذا زاد طولُ العهد والبعدُ ينقُص ) ويقول صاحبكم ما شئت قال فقال له نوفل صاحبكم أشهر بالقول في الغزل أمتع الله بك وصاحبنا أكثر أفانين شعر قال صدقت فلما انقضى ما بينهما من ذكر الشعر جعل سعيد يستغفر الله ويعقد بيده ويعده بالخمس كلها حتى وفى مائة قال البكري في حديثه عن عبد الجبار فقال مسلم بن وهب فلما فارقناه قلت لنوفل أتراه استغفر الله من إنشاده الشعر في مسجد رسول الله قال كلا هو كثير الإنشاد والاستنشاد للشعر ولكني أحسبه للفخر بصاحبه ابن قيس الرقيات وحمزة بن عبد الله بن الزبير أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن الضحاك عن أبيه قال استأذن عبيد الله بن قيس الرقيات على حمزة بن عبد الله بن الزبير فقالت له الجارية ليس عليه إذن الآن فقال أما إنه لو علم بمكاني ما احتجب عني قال فدخلت الجارية على حمزة فأخبرته فقال ينبغي أن يكون هذا ابن قيس الرقيات ائذني له فأذنت له فقال مرحبا بك يابن قيس هل من حاجة نزعت بك قال نعم زوجت بنين لي ثلاثة ببنات أخ لي ثلاث وزوجت ثلاثة من بني أخ لي بثلاث بنات لي قال فلبنيك الثلاثة أربعمائة دينار أربعمائة دينار ولبني أخيك الثلاثة أربعمائة دينار أربعمائة دينار ولبناتك الثلاث ثلاثمائة دينار ثلاثمائة دينار ولبنات أخيك الثلاث ثلاثمائة دينار ثلاثمائة دينار هل بقيت لك من حاجة يابن قيس قال لا والله إلا مؤونة السفر فأمر له بما يصلحه لسفره حتى رقاع أخفاف الإبل ذكر ما قاله ابن قيس الرقيات وغني فيه صوت ( أمسْت رُقّية دونها البِشَرُ ... فالرَّقّة السَّوْداء فالغَمْرُ ) غناه يونس ثقيلا أول بالوسطى وفيه لعزة الميلاء ثاني ثقيل ومنها صوت ( رُقَيّ بَعْيشكم لا تَهجُرِينَا ... ومَنّينَا المُنَى ثم امطُلِينَا ) ( عِدِينا في غَدٍ ما شِئتِ إنّا ... نُحِبُّ وإن مَطَلْتِ الواعِدِينا ) ( أَغرَّكِ أنني لا صبرَ عندي ... على هَجْرٍ وأنّكِ تَصْبِرِينا ) ( ويومَ تَبِعتُكم وتركتُ أهلي ... حَنِينَ العَوْدِ يَتَّبِعُ القَرِينا ) عروضه من الوافر غناه ابن محرز ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى ومنها صوت ( رُقيَّةُ تَيَّمَتْ قلبي ... فواكَبِدِي من الحبِّ ) ( نهانِي إخوتي عنها ... وما بالقلب من عَتْبِ ) غناه مالك ثاني ثقيل أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو ابن بانة وقد ذكرت بذل أن فيه لابن المكي لحنا رأي ابن أبي عتيق في شعره أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني سعيد بن عمرو بن الزبير قال حدثني إبراهيم بن عبد الله قال أنشد كثير ابن أبي عتيق كلمته التي يقول فيها ( ولستُ بِراضٍ من خليلٍ بنائلٍ ... قليلٍ ولا أرضَى له بقليلِ ) فقال له هذا كلام مكافىء ليس بعاشق القرشيان أقنع وأصدق منك ابن أبي ربيعة حيث يقول ( ليتَ حَظِّي كَلَحْظَةِ العَينِ منها ... وكثِيرٌ منها القليلُ المُهَنّا ) وقوله أيضا ( فعِدِي نائلاً وإن لم تُنيلي ... إنه يُقنِعُ المحبَّ الرجاءُ ) وابن قيس الرقيات حيث يقول ( رُقَيَّ بعيشكم لا تَهجُرِينا ... ومَنّينا المُنَى ثم امطُلِينَا ) ( عِدِينا في غَدٍ ما شئتِ إنّا ... نُحِبّ وإن مَطلتِ الواعِدينا ) ( فإمّا تُنجِزِي عِدَتِي وإمّا ... نَعِيشُ بما نُؤمّل منك حِينا ) قال فذكرت ذلك لأبي السائب المخزومي ومعه ابن المولى فقال صدق ابن أبي عتيق وفقه الله ألا قال المديون كثير كما قال هذا حيث يقول ( وأبكِي فلا ليلَى بكَتْ من صبابةٍ ... لِباكٍ ولا ليلَى لِذي الودّ تَبذُلُ ) ( وأخنَعُ بالعُتْبَى إذا كنتُ مذنِباً ... وإن أذنَبتْ كنتُ الذي أتنَصَّلُ ) تشبيبه برقية بنت عبد الواحد أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال سمعت عبيدة بن أشعب بن جبير قال حدثني أبي قال حدثني فند مولى عائشة بنت سعد بن أبي وقاص قال حجت رقية بنت عبد الواحد بن أبي سعد العامرية فكنت آتيها وأحدثها فتستظرف حديثي وتضحك مني فطافت ليلة بالبيت ثم أهوت لتستلم الركن الأسود وقبلته وقد طفت مع عبيد الله بن قيس الرقيات فصادف فراغنا فراغها ولم أشعر بها فأهوى ابن قيس يستلم الركن الأسود ويقبله فصادفها قد سبقت إليه فنفحته بردنها فارتدع وقال لي من هذه فقلت أو لا تعرفها هذه رقية بنت عبد الواحد بن أبي سعد فعند ذلك قال ( مَنْ عَذِيري ممن يَضِنَّ بمبذولٍ لغيري عليّ عند الطّوافِ ) يريد أنها تقبل الحجر الأسود وتضن عنه بقبلتها وقال في ذلك ( حدِّثوني هل على رجلٍ ... عاشقٍ في قُبْلةٍ حَرَجُ ) وفيه غناء ينسب بعد هذا الخبر قال ولما نفحته بردنها فاحت منه رائحة المسك حتى عجب من في المسجد وكأنما فتحت بين أهل المسجد لطيمة عطار فسبح من حول البيت قال وقال فند فقلت بعد انصرافها لابن قيس هل وجدت رائحة ردنها لشيء طيبا فعند ذلك قال أبياته التي يقول فيها صوت ( سائلاً فِنْداً خليلِي ... كيف أرْدانُ رُقَيّهْ ) ( إنّني عُلِّقت خَوْداً ... ذاتَ دّلٍّ بَخْتَرِيَّهْ ) غناه فند ولحنه ثقيل أول بالبنصر عن حبش نسبة هذا الصوت الذي في الخبر المتقدم وخبره وهو أيضا مما قاله ابن قيس في رقية صوت ( حَبَّ ذاك الدَّلُّ والغُنُجُ ... والتي في عينها دَعَجُ ) ( والتي إن حَدّثتْ كذبتْ ... والتي في وعدها خَلَجُ ) ( وتَرى في البيت صورتَها ... مِثْلَما في البيعِة السُّرُجُ ) ( خبِّروني هل على رجلٍ ... عاشقٍ في قُبلةٍ خَرَجُ ) الشعر لابن قيس الرقيات يقوله في رقية بنت عبد الواحد والغناء لمالك خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر وفيه خفيف ثقيل آخر لابن محرز من رواية عمرو بن بانة وقيل بل هو هذا أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني سليمان بن عياش السعدي قال حدثني سائب راوية كثير قال كان كثير مديونا فقال لي يوما ونحن بالمدينة اذهب بنا إلى ابن أبي عتيق نتحدث عنده قال فذهبت إليه معه فاستنشده ابن أبي عتيق فأنشده قوله ( أبائنةٌ سُعْدَى نعم ستَبينُ ... ) حتى بلغ إلى قوله ( وأخلفْنَ ميعادي وخُنَّ أمانتي ... وليس لمن خان الأمانةَ دِينُ ) فقال له ابن أبي عتيق أعلى الأمانة تبعتها فانكف واستغضب نفسه وصاح وقال ( كذبْنَ صفاءَ الودّ يوم مَحِلِّه ... وأنكدْنَني من وعدهن ديونُ ) فقال له ابن أبي عتيق ويلك هذا أملح لهن وأدعى للقلوب إليهن سيدك ابن قيس الرقيات كان أعلم منك وأوضع للصواب موضعه فيهن أما سمعت قوله ( حَبّ ذاكَ الدَّلُّ والغُنُجُ ... والتي في عينها دَعَجُ ) ( والتي إن حَدّثتْ كذبتْ ... والتي في وعدها خَلَجُ ) ( وتَرى في البيت صورتَها ... مثلما في البِيعَة السُّرَجُ ) ( خبِّروني هل على رجلٍ ... عاشقٍ في قُبلةٍ حَرَجٌ ) قال فسكن كثير واستحلى ذلك وقال لا إن شاء الله فضحك ابن أبي عتيق حتى ذهب به أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا عبد الرحمن بن غرير الزهري قال أنشدت أبا السائب المخزومي قول ابن قيس الرقيات صوت ( قد أتانا من آل سُعْدَى رسولُ ... حَبَّذا ما يقول لي وأقولُ ) ( مِنْ فتاةٍ كأنها قَرْنُ شمسٍ ... ضاق عنها دَمَالجٌ وحُجُولُ ) ( حَبَّذا ليلتي بِمزَّة كلبٍ ... غال عنّي بها الكَوَانينَ غُولُ ) فقال لي يابن الأمير ما تراه كان يقول وتقول فقلت ( حديثاً كما يسري النّدَى لو سمعتَه ... شفاك مِنَ ادواءٍ كثيرٍ وأَسْقَمَا ) فطرب وقال بأبي أنت وأمي ما زلت أحبك ولقد أضعف حبي إياك حين تفهم عني هذا الفهم غنى في هذه الأبيات ابن سريج ثقيلا أول بالوسطى ولمالك فيها ثاني ثقيل كلاهما عن الهشامي أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي صهر المبرد قال حدثني طلحة بن عبد الله أبو إسحاق الطلحي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان قال أنشد أشعب بن جبير أبي أبيات عبيد الله بن قيس الرقيات التي يقول فيها ( قد أتانا من آل سُعْدى رسولُ ... حَبّذا ما يقول لي وأقولُ ) فقال أبي ويحك يا أشعب ما تراه قال وقالت له فقال ( حديثاً لَوَ أنّ اللحمَ يَصْلَى بحَرّه ... غَريضاً أتى أصحابَه وهو مُنْضَجُ ) ذكر شوقا ووصف توقا ووعد ووفى والتقيا بمزة كلب فشفى واشتفى فذلك قوله ( حَبّذا ليلتي بمزّة كلبٍ ... غال عنّي بها الكَوَانينَ غُولُ ) فقال له إنك لعلامة بهذه الأحوال قال أجل بأبي أنت فاسأل عالما عن علمه ومما في المائة الصوت المختارة من شعر عبيد الله بن قيس الرقيات صوت من المائة المختارة ( يا قلبُ وَيْحَك لا تذهبْ بك الحُرَقُ ... إنّ الأُلَى كنتَ تهواهم قد انطلقُوا ) وذكر أنه لوضاح وقد أخرج في وضع آخر ذكر مالك بن أبي السمح وأخباره ونسبه هو مالك بن أبي السمح واسم أبي السمح جابر بن ثعلبة الطائي أحد بني ثعل ثم أحد بني عمرو بن درماء ويكنى أبا الوليد وأمه قرشية من بني مخزوم وقيل بل أم أبيه منهم وهو الصحيح وقال ابن الكلبي هو مالك بن أبي السمح بن سليمان بن أوس بن سماك بن سعد بن أوس بن عمرو بن درماء أحد بني ثعل وأم أبيه بنت مدرك بن عوف بن عبيد بن عمرو بن مخزوم وكان أبوه منقطعا إلى عبد الله ابن جعفر بن أبي طالب ويتيما في حجره أوصى به أبوه إليه فكان ابن جعفر يكفله ويمونه وأدخله وسائر إخوته في دعوة بني هاشم فهم معهم إلى اليوم وكان أحول طويلا أحنى قال الوليد بن يزيد فيه يعارض الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب في قوله فيه ( أبيضُ كالبدر أو كما يَلْمَع السارقُ ... في حالكٍ من الظُّلَمِ ) فقال له الوليد بل أنت ( أحولُ كالقردِ أو كما يَرْقُب السارقُ ... في حالكٍ من الظُّلَم ) أساتذته في الغناء وموته وأخذ الغناء عن جميلة ومعبد وعمر حتى أدرك الدولة العباسية وكان منقطعا إلى بني سليمان بن علي ومات في خلافة أبي جعفر المنصور أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حماد قرأت على أبي أن السبب في انقطاع أبي السمح إلى ابن جعفر أن السنة أقحمت طيئا فكان ثعلبة جد مالك أحدهم فولد أبو السمح بالمدينة وكان صديقا للحسين بن عبد الله الهاشمي وكان سبب ذلك مودة كانت بينه وبين آل شعيب السهميين فلما تزوج حسين عابدة بنت شعيب السهمية خاصمهم بسببها وكان جد مالك معه وعونا له مع من عاونه فنشبت بذلك حال بينه وبين بني هاشم حتى ولد مالك في دورهم فصارت دعوته فيهم أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي وعمر مالك حتى أدرك دولة بني العباس وقدم على سليمان بن علي بالبصرة فمت إليه بخؤولته في قريش ودعوته لبني هاشم وانقطاعه إلى ابن جعفر فعجل له سليمان صلته وكساه وكتب له بأوساق من تمر أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني القاسم بن يوسف قال أخبرني الورداني قال كان مالك بن أبي السمح المغني من طيىء فأصابتهم حطمة في بلادهم بالجبلين فقدمت به أمه وبإخوة له وأخوات أيتام لا شيء لهم فكان يسأل الناس على باب حمزة بن عبد الله بن الزبير وكان معبد منقطعا إلى حمزة يكون عنده في كل يوم يغنيه فسمع مالك غناءه فأعجبه واشتهاه فكان لا يفارق باب حمزة يسمع غناء معبد إلى الليل فلا يطوف بالمدينة ولا يطلب من أحد شيئا ولا يريم موضعه فينصرف إلى أمه ولم يكتسب شيئا فتضربه وهو مع ذلك يترنم بألحان معبد ويؤديها دورا دورا في مواضع صيحاته وإسجاحاته ونبراته نغما بغير لفظ ولا رواية شيء من الشعر وجعل حمزة كلما غدا وراح رآه ملازما لبابه فقال لغلامه يوما أدخل هذا الغلام الأعرابي إلي فأدخله فقال له من أنت فقال أنا غلام من طيىء أصابتنا حطمة بالجبلين فحطتنا إليكم ومعي أم لي وإخوة وإني لزمت بابك فسمعت من دارك صوتا أعجبني فلزمت بابك من أجله قال فهل تعرف منه شيئا قال أعرف لحنه كله ولا أعرف الشعر فقال إن كنت صادقا إنك لفهم ودعا بمعبد فأمره أن يغنى صوتا فغناه ثم قال لمالك هل تستطيع أن تقوله قال نعم قال هاته فاندفع فغناه فأدى نغمه بغير شعر يؤدي مداته ولياته وعطفاته ونبراته وتعليقاته لا يخرم حرفا فقال لمعبد خذ هذا الغلام إليك وخرجه فليكونن له شأن قال معبد ولم أفعل ذلك قال لتكون محاسنه منسوبة إليك وإلا عدل إلى غيرك فكانت محاسنه منسوبة إليه فقال صدق الأمير وأنا أفعل ما أمرتني به ثم قال حمزة لمالك كيف وجدت ملازمتك لبابنا قال أرأيت لو قلت فيك غير الذي أنت له مستحق من الباطل أكنت ترضى بذلك قال لا قال وكذلك لا يسرك أن تحمد بما لم تفعل قال نعم قال فوالله ما شبعت على بابك شبعة قط ولا انقلبت منه إلى أهل بخير فأمر له ولأمه ولإخوته بمنزل وأجرى لهم رزقا وكسوة وأمر لهم بخادم يخدمهم وعبد يسقيهم الماء وأجلس مالكا معه في مجالسه وأمر معبدا أن يطارحه فلم ينشب أن مهر وحذق وكان ذلك بعقب مقتل هدبة بن خشرم فخرج مالك يوما فسمع امرأة تنوح على زيادة الذي قتله هدبة بن خشرم بشعر أخي زيادة ( أبعد الذي بالنَّعْفِ نَعْفِ كُوَيْكبٍ ... رهِينةَ رَمْسٍ ذي تراب وجَنْدلِ ) ( أَذَكَّرُ بالبُقْيَا على من أصابني ... وبُقْيَاي أنِّي جاهدٌ غيرُ مْؤتَلِي ) ( فلا يَدْعُني قومي لزيد بن مالكٍ ... لئن لم أُعجِّلْ ضربةً أو أعجَّلِ ) ( وإِلا أنَلْ ثأرِي من اليوم أو غدٍ ... بني عمِّنا فالدهرُ ذو مُتَطَوَّلِ ) ( أَنَخْتُمْ علينا كَلْكَلَ الحرب مرّةً ... فنحن مُنِيخُوها عليكم بكَلْكَلِ ) فغني في هذا الشعر لحنين أحدهما نحا فيه نحو المرأة في نوحها ورققه وأصلحه وزاد فيه والآخر نحا فيه نحو معبد في غنائه ثم دخل على حمزة فقال له أيها الأمير إني قد صنعت غناء في شعر سمعت بعض أهل المدينة ينشده وقد أعجبني فإن أذن الأمير غنيته فيه قال هاته فغناه اللحن الذي نحا فيه نحو معبد فطرب حمزة وقال له أحسنت يا غلام هذا الغناء غناء معبد وطريقته فقال لا تعجل أيها الأمير واسمع مني شيئا ليس من غناء معبد ولا طريقته قال هات فغناه اللحن الذي تشبه فيه بنوح المرأة فطرب حمزة حتى ألقى عليه حلة كانت عليه قيمتها مائتا دينار ودخل معبد فرأى حلة حمزة عليه فأنكرها وعلم حمزة بذلك فأخبر معبدا بالسبب وأمر مالكا فغناه الصوتين فغضب معبد لما سمع الصوت الأول وقال قد كرهت أن آخذ هذا الغلام فيتعلم غنائي فيدعيه لنفسه فقال له حمزة لا تعجل واسمع غناء صنعه ليس من شأنك ولا غنائك وأمره أن يغني الصوت الآخر فغناه فأطرق معبد فقال له حمزة والله لو انفرد بهذا لضاهاك ثم يتزايد على الأيام وكلما كبر وزاد شخت أنت ونقصت فلأن يكون منسوبا إليك أجمل فقال له معبد وهو منكسر صدق الأمير فأمر حمزة لمعبد بخلعة من ثيابه وجائزة حتى سكن وطابت نفسه فقام مالك على رجله فقبل رأس معبد وقال له يا أبا عباد أساءك ما سمعت مني والله لا أغني لنفسي شيئا أبدا ما دمت حيا وإن غلبتني نفسي فغنيت في شعر استحسنته لا نسبته إلا إليك فطب نفسا وارض عني فقال له معبد أو تفعل هذا وتفي به قال إي والله وأزيد فكان مالك بعد ذلك إذا غنى صوتا وسئل عنه قال هذا لمعبد ما غنيت لنفسي شيئا قط وإنما آخذ غناء معبد فأنقله إلى الأشعار وأحسنه وأزيد فيه وأنقص منه أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثنا الحسن بن عتبة اللهبي عن عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله أحد بني الحارث بن عبد المطلب قال خرجت من مكة أريد العراق فحملت معي مالك بن أبي السمح من المدينة وذلك في أيام أبي العباس السفاح فكان إذا كانت عشية الخميس قال لنا يا معشر الرفقة إن الليلة ليلة الجمعة وأنا أعلم أنكم تسألوني الغناء وعلي وعلي إن غنيت ليلة الجمعة فإن أردتم شيئا فالساعة اقترحوا ما أحببتم فنسأله فيغنينا حتى إذا كادت الشمس أن تغيب طرب ثم صاح الحريق في دار شلمغان ثم يمر في الغناء فما يكون في ليلة أكثر غناء منه في تلك الليلة بعد الأيمان المغلظة مالك بن أبي السمح وسليمان بن علي أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان سليمان بن علي يسمع من مالك بن أبي السمح بالسراة لأنه كان إذا قدم الشأم على الوليد بن يزيد عدل إليهم في بدأته وعودته لانقطاعه إليهم فيبرونه ويصلونه فلما أفضى إليهم الأمر رأى سليمان مالكا على باب ابنه جعفر فقال له يا بني لقد رأيت ببابك أشبه الناس بمالك فقال له جعفر ومن مالك يوهمه أنه لا يعرفه فتغافل عنه سليمان لئلا ينبهه عليه فيطلبه وتوهم أنه لم يعرفه ولا سمع غناءه قال حماد وحدثني أبي عن جدي إبراهيم أنه أخبره أنه رأى مالكا بالبصرة على باب جعفر بن سليمان أو أخيه محمد ولم يعرفه فسأل عنه بعد ذلك فعرفه وقد كان خرج عن البصرة قال فما لي حسرة مثل حسرتي بأني ما سمعت غناءه أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو غسان محمد بن يحيى قال كان مالك بن أبي السمح يتيما في حجر عبد الله بن جعفر وكان أبوه أبو السمح صار إلى عبد الله بن جعفر انقطع إليه فلما احتضر أوصى بمالك إليه فكلفه وعاله ورباه وأدخله في دعوة بني هاشم فهو فيهم إلى اليوم ثم خطب حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس العابدة بنت شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص فمنعه بعض أهلها منها وخطبها لنفسه فعاون مالك حسينا وكانت العابدة تستنصحه وكانت بين أبيها شعيب وبينه مودة فأجابت حسينا وتزوجته فانقطع مالك إلى حسين فلما أفضى الأمر إلى بني هاشم قدم البصرة على سليمان بن علي فلما دخل إليه مت بصحبته عبد الله بن جعفر ودعوته في بني هاشم وانقطاعه إلى حسين فقال له سليمان أنا عارف بكل ما قلته يا مالك ولكنك كما تعلم وأخاف أن تفسد علي أولادي وأنا واصلك ومعطيك ما تريد وجاعل لك شيئا أبعث به إليك ما دمت حيا في كل عام على أن تخرج عن البصرة وترجع إلى بلدك قال أفعل جعلني الله فداك فأمر له بجائزة وكسوة وحمله وزوده إلى المدينة أخبرني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني محمد بن هارون بن جناح قال أخبرني يعقوب بن إبراهيم الكوفي عمن أخبره قال دخلت المدينة حاجا فدخلت الحمام فبينا أنا فيه إذ دخل صاحب الحمام فغسله ونظفه ثم دخل شيخ أعمى له هيئة مؤتزر بمنديل أبيض فلما جلس خرجت إلى صاحب الحمام فقلت له من هذا الشيخ قال هذا مالك بن أبي السمح المغني فدخلت عليه فقلت له يا عماه من أحسن الناس غناء فقال يابن أخي على الخبير سقطت أحسن الناس غناء أحسنهم صوتا أخبرني عمي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني أبو يحيى العبادي عن إسحاق قال كان فتية من قريش جلوسا في مجلس فمر بهم مالك بن أبي السمح فقال بعضهم لبعض لو سألنا مالكا فغنانا صوتا فقام إليه بعضهم فسأله النزول عندهم فعدل إليهم فسألوه أن يغنيهم فقال نعم والله بالحب والكرامة ثم اندفع يغني أوقع بالمقرعة على قربوس سرجه فرفع صوته فلم يقدر ثم خفضه فلم يقدر فجعل يبكي ويقول واشباباه أخبرني عمي قال حدثني هارون بن محمد عن الزبير بن بكار عن عمه عن جده أنه كان في هؤلاء الفتية الذين كانوا سألوه الغناء وذكر باقي الخبر مثل ما ذكره إسحاق مالك وعجاجة المخنث أخبرني عمي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال حدثني صالح بن أبي الصقر قال قدم مالك بن أبي السمح المغني البصرة فلقيه عجاجة المخنث وكان أشهر من بها من المخنثين وقال له فديتك يا أبا الوليد إني كنت أحب أن ألقاك وأن أعرض عليك صوتا من غنائك أخذته عن بعض المخنثين فإن رأيت أن تنزل عندي فعلت فنزل مالك عنده فبسط له المخنث جرد قطيفة كانت عنده فجلس ثم أخذ عجاجة الدف فغنى ( حَبّ إنّ الخمارَ كان عليها ... شاهداً يوم زارتِ الجَوْشَنِيَّه ) ( قد سَبَتْه بِدَلّها حين جاءت ... تَتَهادَى في مِشْيةٍ بَخْتَرِيَّه ) فجعل مالك يقول له ويلك من قال هذا لعنة الله ويحك من غنى هذا قبحه الله ويحك من روى عني هذا أخزاه الله ثم قام فركب وهو يضحك عجبا من عجاجة أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني حماد بن إسحاق عن أبيه عن ابن جناح قال حدثني مصعب بن عثمان قال حدثني عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزبير قال حدثني مالك بن أبي السمح قال قدمنا على يزيد بن عبد الملك أول قدومنا عليه مع معبد وابن عائشة فغنيناه ليلة فأطربناه فأمر لكل واحد منا بألف دينار وكتب لنا بها إلى كاتبه فغدونا عليه بالكتاب فلما رآه أنكره وقال أيؤمر لمثلكم بألف دينار ألف دينار لا والله ولا حبا ولا كرامة فرجعنا إلى يزيد فأخبرناه بمقالته وكررنا عليه فقال كأنه استنكر ذلك فقلنا نعم فقال مثله والله يستنكره ودعاه فلما حضر ورآنا عنده استأمره فيها فأطرق مستحييا وقال له إني قد قلتها لهم ولا يجمل أن أرجع عما قلت ولكن قطعها عليهم قال مالك فمات والله يزيد وقد بقي لكل واحد منا أربعمائة دينار أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حماد قال قرأت على أبي وحدثنا الحسن بن محمد قال لما انهزم عبد الله بن علي من أبي مسلم قدم البصرة وكان عند سليمان بن علي وكان مالك بن أبي السمح يومئذ بها فاستزاره جعفر ومحمد فزارهما وغناهما مالك في جوف الليل في دار سليمان بن علي وبلغ الخبر سليمان فدخل عليهم فعذل جعفرا ومحمدا وقال نحن نتوقع الطامة الكبرى وأنتم تسمعون الغناء فقالا ألا تجلس وتسمع ففعل فغناهم مالك صوت ( ما كنتُ أوّلَ مَنْ خاسَ الزمانُ به ... قد كنتُ ذا نَجْدةٍ أُخْشَى وذا باسِ ) ( أَبلِغْ أبا معبدٍ عنّي وإخوتَهَ ... شوقي إليهم وأحزانِي ووَسْوَاسِي ) فخرج وتركهم ولم ينكر عليهم شيئا الحسين بن عبد الله يمدح مالكا وفي مالك بن أبي السمح يقول الحسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس صوت ( لا عيشَ إلا بمالكِ بن أبي السّمح ... فلا تَلْحَنِي ولا تَلُمِ ) ( أبيضُ كالبدر أو كما يَلْمَع البارقُ ... في حالكٍ من الظُّلمَ ) ( مَنْ ليس يَعصِيكَ إن رَشَدتَ ولا ... يَهتِكُ حقَّ الإِسلام والحُرَم ) ( يُصيبُ من لَذّة الكريم ولا ... يَجهَلُ آي الترخيص في اللَّمَم ) ( يارُبَّ ليلٍ لنا كحاشية البُردِ ... ويومٍ كذاكَ لم يَدُم ) ( نَعِمتُ فيه ومالكَ بنَ أبي السمح ... الكريمَ الأخلاقِ والشّيمَ ) غناه مالك في الأول والثاني والثالث رملا بالبنصر في مجراها فيقال إن مالكا قال له لا والله ولا إن غويت أيضا أعصيك ذكر ذلك الزبير عن عمه مصعب ويقال إنه قال هذه المقالة للوليد بن يزيد فسر بذلك وأجزل صلته غناؤه الوليد بن يزيد أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حماد قال حدثني أبي قال قال ابن الكلبي قال الوليد بن يزيد لمعبد قد آذتني ولولتك هذه وقال لابن عائشة قد آذاني استهلالك هذا فانظر لي رجلا يكون مذهبه متوسطا بين مذهبيكما فقالا له مالك بن أبي السمح فكتب في إشخاصه إليه وسائر مغني الحجاز المذكورين فلما قدم مالك على الوليد بن يزيد فيمن معه من المغنين نزل على الغمر بن يزيد فأدخله على الوليد فغناه فلم يعجبه فلما انصرف الغمر قال له إن أمير المؤمنين لم يعجبه شيء من غنائك فقال له جعلني الله فداك اطلب لي الإذن عليه مرة واحدة فإن أعجبه شيء مما أغنيه وإلا انصرفت إلى بلادي فلما جلس الوليد في مجلس اللهو ذكره الغمر وطلب له الإذن وقال له إنه هابك فحضر قال فأذن له فبعث إليه فأمر مالك الغلام فسقاه ثلاث صراحيات صرفا فخرج حتى دخل عليه يخطر في مشيته وقال غير ابن الكلبي إنه قال لفراش للوليد اسقني عسا من شراب ولك دينار فسقاه إياه وأعطاه الدينار ثم قال له زدني آخر فأزيدك آخر ففعل حتى شرب ثلاثة ثم دخل على الوليد يخطر في مشيته فلما بلغ باب المجلس وقف ولم يسلم وأخذ بحلقة الباب فقعقعها ثم رفع صوته فغنى ( لا عَيْشَ إلا بمالكِ بنِ أبي السمْح ... فلا تَلْحَنِي ولا تَلُمِ ) فطرب الوليد ورفع يديه حتى بدا إبطاه إليه مادا لهما وقام فاعتنقه قائما وقال له ادن يابن أخي فدنا حتى اعتنقه ثم أخذ في صوته ذلك فلم يزالوا فيه أياما وأجزل صلته حين أراد الانصراف قال ولما أتى مالك على قوله ( أبْيضُ كالسيف أو كما يَلْمَعُ البارقُ ... في حالِكٍ من الظُّلَمِ ) قال له الوليد ( أحْولُ كالقِرْد أو كما يَرْقُبُ السارقُ ... في حالكٍ من الظُّلَمِ ) مالك يأخذ غناء الناس وأصواتهم وكان مالك طويلا أجنى فيه حول وقد قال قوم إن مالكا لم يصنع لحنا قط غير هذا أعني لا عيش إلا بمالك بن أبي السمح وإنه كان يأخذ غناء الناس فيزيد فيه وينقص منه وينسبه الناس إليه وكان إسحاق ينكر ذلك غاية الإنكار ويقول غناء مالك كله مذهب واحد لا تباين فيه ولو كان كما يقول الناس لاختلف غناؤه وإنما كان إذا غنى ألحان معبد الطوال خففها وحذف بعض نغمها وقال أطاله معبد ومططه وحذفته أنا وحسنته فأما ألا يكون صنع شيئا فلا أخبرني الحسين بن يحيى قال نسخت من كتاب حماد قرأت على أبي وذكر بكار بن النبال أن الوليد قال لمالك هل تصنع الغناء قال لا ولكني أزيد فيه وأنقص منه فقال له فأنت المحلي إذا قال إسحاق وذكر الحسن بن عتبة اللهبي عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الهاشمي الحارثي الذي يقال له سنابل وفيه يقول الشاعر ( فإن هي ضَنَّتْ عنكَ أو حِيل دونَها ... فدَعْها وقُلْ في ابن الكرامِ سَنَابِلِ ) قال خرجت من مكة أريد أبا العباس أمير المؤمنين فمررت على المدينة فحملت معي مالك بن أبي السمح فسألته يوما عن بعض ما ينسب إليه من الغناء فقال يا أبا الفضل عليه وعليه إن كان غنى صوتا قط ولكني آخذه وأحسنه وأهيئه وأطيبه فأصيب ويخطئون فينسب إلي قال إسحاق وليس الأمر هكذا لمالك صنعة كثيرة حسنة وصنعته تجري في أسلوب واحد ويشبه بعضها بعضا ولو كان كما قيل لاختلف غناؤه وقد قيل إن مالكا كان ينتفي من الصنعة لأن أكثر الأشراف هناك كانوا ينكرون عليه فكان يتبذل به عند من يراه وينكره عند من يذمه لمحله في بني هاشم وأخبرني بخبر سنابل هذا محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني حمزة بن عتبة اللهبي عن سنابل فذكر الخبر وخالف ما رواه إسحاق أن الحسن بن عتبة حدثه وحكاه عن حمزة بن عتبة أخيه أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن هشام بن الكلبي عن أبيه عن محمد بن يزيد الليثي قال سئل مالك بن أبي السمح عن صنعته في ( لاحَ بالدَّيْر من أُمامةَ نارُ ... ) فقال أخذته والله من خربنده بالشأم يسوق أحمرة فكان يترنم بهذا اللحن بلا كلام فأخذته فكسوته هذا الشعر أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال نزل مالك بن أبي السمح عند رجل بمكة مخزومي وكان له غلام حائك فأتاه آت فقال أما سمعت غناء غلامك الحائك قال لا أويغني قال نعم بشعر لأبي دهبل الجمحي فبعث إليه فأتاه فقال تغنه فقال ما أحسن ذاك إلا على حفي فخرج مولاه ومعه مالك إلى بيته فلما جلس على حفه تغنى ( تطاولَ هذا الليلُ ما يَتبلَّجُ ... ) فأخذه مالك عنه وغناه فنسبه الناس إليه وكان يقول والله ما غنيته قط ولا غناه إلا الحائك نسبة هذين الصوتين صوت ( لاحَ بالدَّيْر من أُمامةَ نارُ ... لمحبٍّ له بيَثْرِبَ دارُ ) ( قد تَراها ولو تشاءُ من القُرْب ... لأغناكَ عن نَدَاها السِّرَارُ ) الشعر للأحوص ويقال إنه لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت والغناء لمالك بن أبي السمح ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وفيه لحن لمعبد ذكره إسحاق صوت ( تَطَاوَلَ هذا الليلُ ما يَتَبَلَّجُ ... وأعيتْ غَوَاشِي سَكْرَتِي ما تَفَرّجُ ) ( أبيتُ بِهَمٍّ ما أنامُ كأنما ... خِلالَ ضُلوعِي جمرةٌ تَتَوهّج ) ( فَطَوْراً أُمنّي النفسَ من تُكْتَمَ المُنَى ... وطوراً إذا ما لجّ بي الحبُّ أَنْشِج ) عروضه من الطويل الشعر لأبي دهبل والغناء لمالك بن أبي السمح ثقيل أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن جده قال قال ابن عائشة حضرت الوليد بن يزيد يوم قتل وكان معنا مالك بن أبي السمح وكان من أحمق الناس فلما قتل الوليد قال اهرب بنا فقلت وما يريدون منا قال وما يؤمنك أن يأخذوا رأسينا فيجعلوا رأسه بينهما ليحسنوا أمرهم بذلك قال ابن عائشة فما رأيت منه عقلا قط قبل ذلك اليوم أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال الزبير بن بكار حدثتني ظبية قالت رأيت مالك بن أي السمح وهو على منامته يلقي على ابنه وقد كبر وانقطع صوت ( اِعتادَ هذا القلبَ بَلْبالُهُ ... إذ قُرّبتْ للبيْنِ أَجمالُهُ ) ( خَوْدٌ إذا قامتْ إلى خِدْرها ... قامت قَطُوفُ المَشْيِ مِكْسالُهُ ) ( تَفْتَرُّ عن ذي أُشُرٍ باردٍ ... عَذْبٍ إذا ما ذِيقَ سَلْسالُهُ ) الشعر لعمر بن أبي ربيعة ولمالك بن أبي السمح فيه ثلاثة ألحان خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى وثقيل أول بالوسطى في مجراها جميعا عن إسحاق وخفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة وقيل إنه لابن سريج وفيه رمل ينسب إلى ابن جامع وابن سريج شعر في رثائه أخبرني وكيع قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال أبو عبيدة سمعت منشدا ينشد لنفسه يرثي مالكا بهذه القصيدة ( يا مالُ إني قَضَتْ نفسي عليكَ وما ... بيني وبينَكَ من قُرْبَى ولا رَحِمِ ) ( إلا الذي لك في قَلْبي خُصِصتَ به ... من المودّة في سِتْرٍ وفي كَرَم ) قال إسحاق قال أبو عبيدة هو مالك بن أبي السمح انقضت أخباره صوت من المائة المختارة من رواية هارون بن الحسن بن سهل وابن المكي وأبي العبيس ومن روى جحظة عنه ( فإلاّ تَجَلّلها يُعالُوكَ فوقها ... وكيف تَوَقَّى ظهرَ ما أنتَ راكبُهْ ) ( همُ قتلوه كي يكونوا مكانَه ... كما غَدرتْ يوماً بكسرى مَرَازِبُهْ ) ( بني هاشمٍ رُدُّوا سِلاَح ابنِ أُختِكم ... ولا تَنْهَبُوه لا تَحِلُّ مَناهِبُهْ ) عروضه من الطويل البيت الأول من الشعر لرجل من بني نهد جاهلي وباقي الأبيات للوليد بن عقبة بن أبي معيط والغناء لابن محرز ولحنه من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن يونس وإسحاق وهو اللحن المختار وفيه للغريض ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لمعبد ثقيل أول آخر مطلق في مجرى الوسطى عن عمرو وعن الهشامي وفيه لسلسل في الثاني والثالث ثقيل أول بالبنصر عن حبش وفيه لعطرد خفيف ثقيل خبر النهدي في هذا الشعر وخبر الوليد بن عقبة وقد مضى نسبه في أول الكتاب أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عمي عن ابن الكلبي عن أبيه عن عبد الرحمن المدائني وكان عالما بأخبار قومه قال وحدثنيه أبو مسكين أيضا قالا كان الحارث بن مارية الغساني الجفني مكرما لزهير بن جناب الكلبي ينادمه ويحادثه فقدم على الملك رجلان من بني نهد بن زيد يقال لهما حزن وسهل ابنا رزاح وكان عندهما حديث من أحاديث العرب فاجتباهما الملك ونزلا بالمكان الأثير منه فحسدهما زهير بن جناب فقال أيها الملك وهما والله عين لذي القرنين عليك يعني المنذر الأكبر جد النعمان ابن المنذر وهما يكتبان إليه بعورتك وخلل ما يريان منك قال كلا فلم يزل به زهير حتى أوغر صدره وكان إذا ركب يبعث إليهما ببعيرين يركبان معه فبعث إليهما بناقة واحدة فعرفا الشر فلم يركب أحدهما وتوقف فقال له الآخر ( فإلاّ تَجَلَّلْها يُعالُوكَ فَوْقَها ... وكيف تَوَقَّى ظهرَ ما أنتَ راكِبُهْ ) فركبها مع أخيه ومضى بهما فقتلا ثم بحث عن أمرهما بعد ذلك فوجده باطلا فشتم زهيرا وطرده فانصرف إلى بلاد قومه وقدم رزاح أبو الغلامين إلى الملك وكان شيخا عالما مجربا فأكرمه الملك وأعطاه دية ابنيه وبلغ زهيرا مكانه فدعا ابنا له يقال له عامر وكان من فتيان العرب لسانا وبيانا فقال له إن رزاحا قد قدم على الملك فالحق به واحتل في أن تكفينيه وقال له اذممني عند الملك ونل مني وأثر به آثارا فخرج الغلام حتى قدم الشأم فتلطف للدخول على الملك حتى وصل إليه فأعجبه ما رأى منه فقال له من أنت قال أنا عامر بن زهير بن جناب قال فلا حياك الله ولا حيا أباك الغادر الكذوب الساعي فقال الغلام نعم فلا حياه الله أنظر أيها الملك ما صنع بظهري وأراه آثار الضرب فقبل ذلك منه وأدخله في ندمائه فبينا هو يحدثه يوما إذ قال له أيها الملك إن أبي وإن كان مسيئا فلست أدع أن أقول الحق قد والله نصحك أبي ثم أنشأ يقول ( فيا لكِ نَصْحةً لمّا نَذُقْها ... أراها نصحةً ذهبت ضلالا ) ثم تركه أياما وقال له بعد ذلك أيها الملك ما تقول في حية قد قطع ذنبها وبقي رأسها قال ذاك أبوك وصنيعه بالرجلين ما صنع قال أبيت اللعن والله ما قدم رزاح إلا ليثأر بهما فقال له وما آية ذلك قال اسقه الخمر ثم ابعث إليه عينا يأتك بخبره فلما انتشى صرفه إلى قبته ومعه بنت له وبعث عليه عيونا فلما دخل قبته قامت إليه ابنته تسانده فقال ( دَعِيني من سِنادِكِ إنّ حَزْناً ... وسَهْلاً ليس بعدهما رُقودُ ) ( أَلا تَسَلِين عن شِبْلَيّ ماذا ... أصابهما إذا اهْتَرش الأُسُودُ ) ( فإنّي لو ثأرتُ المرءَ حَزْناً ... وسَهْلاً قد بدا لكِ ما أُريد ) فرجع القوم إلى الملك فأخبروه بما سمعوا فأمر بقتل النهدي رزاح ورد زهيرا إلى موضعه وقد أنشدني محمد بن العباس اليزيدي قال أنشدنا محمد بن حبيب أبيات الوليد هذه على الولاء وهي ( ألاَ مَن لِلَيْلٍ لا تَغُور كواكبُهْ ... إذا لاح نجمٌ لاح نجم يراقبه ) ( بني هاشم رُدّوا سلاحَ ابن اختكم ... ولا تَنْهبوه لا تَحِلُّ مناهِبُهْ ) ( بني هاشم لا تَعْجَلوا بإقادةٍ ... سواءٌ علينا قاتِلوه وسالِبُهْ ) ( فقد يُجْبَر العظُم الكسير ويَنْبرِي ... لذي الحقّ يوماً حقُّه فيطالبُهْ ) ( وإنّا وإيّاكم وما كان منكم ... كصَدْع الصَّفا لا يَرْأَبُ الصَّدعَ شاعِبُهْ ) ( بني هاشم كيف التعاقُد بيننا ... وعند عليٍّ سيفُه وحَرائِبُهْ ) ( لعَمْرُكَ لا أنسى ابنَ أَرْوَى وقتلَه ... وهل ينسيَنّ الماءَ ما عاش شارِبُهْ ) ( همُ قتلوه كي يكونوا مكانَه ... كما غَدَرتْ يوماً بكسْرَى مَرازِبُهْ ) ( وإنِّي لمجتابٌ إليكم بجحفلٍ ... يُصِمُّ السَّميعَ جَرْسُه وجَلائبُهْ ) وقد أجاب الفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب الوليد عن هذه الأبيات وقيل بل أبوه العباس بن عتبة المجيب له أيضا والجواب صوت ( فلا يسألونا بالسلاح فإنه ... أُضِيع وألقاه لَدى الرَّوْع صاحبُهْ ) ( وشبَّهْتَه كسرى وقد كان مثلُه ... شبيهاً بكسرى هَدْيُه وعصائبُهْ ) ذكر أحمد بن المكي أن لابن مسجح فيه لحنا وأن لحنه من الثقيل الأول بالسبابة في مجرى الوسطى وقال غيره إنه من منحول أبيه يحيى إلى ابن مسجح ذكر باقي خبر الوليد بن عقبة ونسبه الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد مضى نسبه مع أخبار ابنه أبي قطيفة ويكنى الوليد أبا وهب وهو أخو عثمان بن عفان لأمه أمهما أروى بنت كريز وأمها البيضاء بنت عبد المطلب وكان من فتيان قريش وشعرائهم وشجعانهم وأجوادهم وكان فاسقا وولي لعثمان رضي الله عنه الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص فشرب الخمر وشهد عليه بذلك فحده وعزله وهو الذي يقول يرثي عثمان رضي الله عنه ويحرض معاوية ( والله ما هندٌ بأُمِّك إن مضى النهارُ ... ولم يَثْأر لعثمان ثائرُ ) ( أيقتُل عبدُ القوم سيِّدَ أهلِه ... ولم تقتلوه ليت أمَّكَ عاقرُ ) ( وإنا متى نقتلْهمُ لا يُقِدْ بهم ... مُقِيدٌ فقد دارت عليك الدوائر ) منزلته عند عثمان رض أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد بن عمرو بن سعيد عن أبيه قال لم يكن يجلس مع عثمان رضي الله عنه على سريره إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن حرب والحكم بن أبي العاصي والوليد بن عقبة فأقبل الوليد يوما فجلس ثم أقبل الحكم فلما رآه عثمان زحل له عن مجلسه فلما قام الحكم قال له الوليد والله يا أمير المؤمنين لقد تلجلج في صدري بيتان قلتهما حين رأيتك آثرت عمك على ابن أمك فقال له عثمان رضي الله تعالى عنه إنه شيخ قريش فما البيتان اللذان قلتهما قال قلت ( رأيت لعمّ المرء زُلْفَى قرابةٍ ... دُوَيْن أخيه حادثاً لم يكن قِدْمَا ) ( فأمّلتُ عَمْراً أن يَشِبّ وخالدا ... لكي يدعُواني يوم مَزْحمةٍ عمّا ) يعني عمرا وخالدا ابني عثمان قال فرق له عثمان وقال له قد وليتك العراق يعني الكوفة الوليد بن عقبة وسعد بن أبي وقاص أخبرني أحمد قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني بعض أصحابنا عن ابن دأب قال لما ولي عثمان رضي الله عنه الوليد بن عقبة الكوفة قدمها وعليها سعد ابن أبي وقاص فأخبر بقدومه فقال وما صنع قال وقف في السوق فهو يحدث الناس هناك ولسنا ننكر شيئا من شأنه فلم يلبث أن جاءه نصف النهار فاستأذن على سعد فأذن له فسلم عليه بالإمرة وجلس معه فقال له سعد ما أقدمك أبا وهب قال أحببت زيارتك قال وعلى ذلك أجئت بريدا قال أنا أرزن من ذلك ولكن القوم احتاجوا إلى عملهم فسرحوني إليه وقد استعملني أمير المؤمنين على الكوفة فمكث طويلا ثم قال لا والله ما أدري أصلحت بعدنا أم فسدنا بعدك ثم قال ( خُذيني فجُرِّيني ضِباعُ وأَبْشِري ... بلحم امرئٍ لم يَشهد اليوم ناصرُهْ ) فقال أما والله لأنا أقول للشعر وأروى له منك ولو شئت لأجبتك ولكني أدع ذلك لما تعلم نعم والله قد أمرت بمحاسبتك والنظر في أمر عمالك ثم بعث إلى عماله فحبسهم وضيق عليهم فكتبوا إلى سعد يستغيثون فكلمه فيهم فقال له أو للمعروف عندك موضع قال نعم والله فخلى سبيلهم أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر قال حدثنا جناد بن بشر قال حدثني جرير عن مغيرة بنحوه قال أبو زيد عمر بن شبة أخبرنا أبو بكر الباهلي قال حدثنا هشيم عن العوام بن حوشب أنه لما قدم على سعد قال له سعد ما أدري أكست بعدنا أم حمقنا بعدك فقال لا تجزعن أبا إسحاق فإنما هو الملك يتغداه قوم ويتعشاه آخرون فقال له سعد أراكم والله ستجعلونه ملكا أخبرني أحمد قال حدثني عمر قال حدثني المدائني عن بشر بن عاصم عن الأعمش عن شقيق بن سلمة قال قدم الوليد بن عقبة عاملا لعثمان على الكوفة وعبد الله بن مسعود على بيت المال وكان سعد قد أخذ مالا فقال الوليد لعبد الله خذه بالمال فكلمه عبد الله بمحضر من الوليد في ذلك فقال سعد آتي أمير المؤمنين فإن أخذني به أديته فغمز الوليد عبد الله ونظر إليهما سعد فنهض وقال فعلتماها ودعا الله أن يغري بينهما وأدى المال أخبرني أحمد قال حدثني عمر بن شبة قال حدثنا هارون بن معروف قال حدثنا ضمرة بن ربيعة عن ابن شوذب قال صلى الوليد بن عقبة بأهل الكوفة الغداة أربع ركعات ثم التفت إليهم فقال أأزيدكم فقال عبد الله بن مسعود ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم أخبرني أحمد قال حدثني عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا جرير عن الأجلح عن الشعبي في حديث الوليد بن عقبة حين شهدوا عليه قال قال الحطيئة ( شهد الحطيئةَ يوم يلقى ربَّه ... أنّ الوليدَ أحقّ بالعُذرِ ) ( نادى وقد تمّت صلاتُهم ... أأزيدكم سُكراً وما يدري ) ( فأبَوْا أبا وَهْب ولو أذِنوا ... لقَرَنْتَ بين الشفع والوِتْر ) ( كَفُّوا عِنانَك إذ جريتَ ولو ... تركوا عِنانك لم تزل تجري ) وقال الحطئية أيضا ( تكلّم في الصلاة وزاد فيها ... عَلانِيَةً وجاهر بالنِّفاقِ ) ( ومجّ الخمرَ في سَنَن المُصلّى ... ونادى والجميعُ إلى افتراق ) ( أزيدكُم على أن تحمَدُوني ... وما لكُم ومالي من خَلاق ) صلى بالناس وهو مخمور فضرب الحد أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال حماد بن إسحاق حدثني أبي قال ذكر أبو عبيدة وهشام بن الكلبي والأصمعي قالوا كان الوليد بن عقبة زانيا شريب خمر فشرب الخمر بالكوفة وقام ليصلي بهم الصبح في المسجد الجامع فصلى بهم أربع ركعات ثم التفت إليهم وقال لهم أزيدكم وتقيأ في المحراب وقرأ بهم في الصلاة وهو رافع صوته ( عَلِق القلبُ الرَّبابَا ... بعد ما شْابَتْ وشابا ) فشخص أهل الكوفة إلى عثمان فأخبروه خبره وشهدوا عليه بشربه الخمر فأتي به فأمر رجلا بضربه الحد فلما دنا منه قال له نشدتك الله وقرابتي من أمير المؤمنين فتركه فخاف علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يعطل الحد فقام إليه فحده فقال له الوليد نشدتك بالله وبالقرابة فقال له علي اسكت أبا وهب فإنما هلكت بنو إسرائيل بتعطيلهم الحدود فضربه وقال لتدعوني قريش بعد هذا جلادها قال إسحاق فأخبرني مصعب الزبيري قال قال الوليد بن عقبة بعد ما جلد اللهم إنهم شهدوا علي بزور فلا ترضهم عن أمير ولا ترض عنهم أميرا فقال الحطيئة يكذب عنه ( شهِد الحُطَيئةُ يومَ يلقى ربَّه ... أنّ الوليد أحقُّ بالعُذْرِ ) ( خلَعْوا عِنَانَك إذ جربتَ ولو ... تركوا عِنانَك لم تَزَل تَجْري ) ( ورأَوْا شمائلَ ماجدٍ أَنِفٍ ... يُعْطِي على الميسور والعُسْر ) ( فنُزِعتَ مكذوباً عليك ولم ... تَنْرِعْ إلى طمَع ولا فقر ) فقال رجل من بني عجل يرد على الحطيئة ( نادَى وقد تَمّتْ صَلاتُهُم ... أأزيدكم ثَمِلاً وما يَدْرِي ) ( لِيزيدَهم خَيْراً ولو قَبِلوا ... لقَرَنْتَ بين الشَّفْع والوتر ) ( فأَبَوْا أبا وَهْب ولو فعلوا ... وصلتْ صَلاتُهُم إلى العَشْر ) وروى العباس بن ميمون طائع عن ابن عائشة قال حدثني أبي قال لما أحضر عثمان رضي الله عنه الوليد لأهل الكوفة في شرب الخمر حضر الحطيئة فاستأذن على عثمان وعنده بنو أمية متوافرون فطمعوا أن يأتي الوليد بعذر فقال ( شَهِد الحُطَيئةُ يوم يلقى ربَّه ... أنّ الوليد أحقُّ بالعذرِ ) ( خلعوا عِنانَك إذ جريتَ ولو ... تركوا عِنانك لم تزل تجري ) ( ورأَوْا شمائل ماجدٍ أَنِفٍ ... يُعطي على الميسور والعُسر ) ( فنُزعتَ مكذوباً عليك ولم ... تَنزِع إلى طمع ولا فقر ) قال فسروا بذلك وظنوا أن قد قام بعذره فقال رجل من بني عجل يرد على الحطيئة ( نادى وقد تَمّتْ صَلاتُهُم ... أأزيدكم ثَمِلاً وما يَدْرِي ) ( فأَبَوْا أبا وَهْبٍ ولو فعلوا ... وصلتْ صلاتُهمُ إلى العَشْر ) فوجم القوم وأطرقوا فأمر به عثمان رضي الله تعالى عنه فحد أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن الفضل من حفظه قال حدثنا عمر بن شبة من حفظه ونسخت من كتاب لهارون بن الزيات بخطه عن عمر بن شبة وروايته أتم فحكيت لفظه قال شهد رجل عند أبي العجاج وكان على البصرة على رجل من المعيطيين شهادة وكان الرجل الشاهد سكران فقال المشهود عليه وهو المعيطي أعزك الله إنه لا يحسن أن يقرأ من السكر فقال الشاهد بلى إني لأحسن فقال اقرأ فقال ( عَلِق القلبُ الرَّبابا ... بعد ما شابت وشابا ) قال وإنما تماجن بذلك على المعيطي ليحكي به ما صنع الوليد بن عقبة في محراب الكوفة وقد تقدم للصلاة وهو سكران فأنشد في صلاته هذا الشعر وكان أبو العجاج محمقا فظن أن هذا قرآن فقال صدق الله ورسوله ويلكم فلم تعلمون ولا تعملون ولقد روي أيضا في الشهادة على الوليد في السكر غير ما ذكر من زيادته في الصلاة أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال عرضت على المدائني عن مبارك بن سلام عن فطر بن خليفة عن أبي الضحى قال كان أبو زينب الأزدي وأبو مورع يطلبان عثرة الوليد بن عقبة فجاءا يوما فلم يحضر الصلاة فسألا عنه وتلطفا حتى علما أنه يشرب فاقتحما عليه الدار فوجداه يقيء فاحتملاه وهو سكران فوضعاه على سريره وأخذا خاتمه من يده فأفاق فافتقد خاتمه فسأل عنه فقالوا لا ندري وقد رأينا رجلين دخلا الدار فاحتملاك فوضعاك على سريرك فقال صفوهما لي فقالوا أحدهما آدم طويل حسن الوجه والآخر عريض مربوع عليه خميصة فقال هذا أبو زينب وأبو مورع ولقي أبو زينب وصاحبه عبد الله بن حبيش الأسدي وعلقمة بن يزيد البكري وغيرهما فأخبراهم فقالوا اشخصوا إلى أمير المؤمنين فأعلموه فقال بعضهم لا يقبل قولنا في أخيه فشخصوا إليه وقالوا إنا جئناك في أمر ونحن مخرجوه إليك من أعناقنا وقد قلنا إنك لا تقبله قال وما هو قالوا رأينا الوليد وهو سكران من خمر قد شربها وهذا خاتمه أخذناه وهو لا يعقل فأرسل إلى علي رضي الله تعالى عنه فشاوره فقال أرى أن تشخصه فإن شهدوا عليه بمحضر منه حددته فكتب عثمان رضي الله تعالى عنه إلى الوليد بن عقبة فقدم عليه فشهد عليه أبو زينب وأبو مورع وجندب الأسدي وسعد بن مالك الأشعري ولم يشهد عليه إلا يمان فقال عثمان لعلي قم فاضربه فقال علي للحسن قم فاضربه فقال الحسن مالك ولهذا يكفيك غيرك فقال علي لعبد الله بن جعفر قم فاضربه فضربه بمخصرة فيها سير له رأسان فلما بلغ أربعين قال له علي حسبك ما وقع بين عثمان وعائشة بسببه أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا المدائني عن الوقاصي عن الزهري قال خرج رهط من أهل الكوفة إلى عثمان في أمر الوليد فقال أكلما غضب رجل منكم على أميره رماه بالباطل لئن أصبحت لكم لأنكلن بكم فاستجاروا بعائشة وأصبح عثمان فسمع من حجرتها صوتا وكلاما فيه بعض الغلظة فقال أما يجد مراق أهل العراق وفساقهم ملجأ إلا بيت عائشة فسمعت فرفعت نعل رسول الله وقالت تركت سنة رسول الله صاحب هذه النعل فتسامع الناس فجاؤوا حتى ملؤوا المسجد فمن قائل أحسنت ومن قائل ما للنساء ولهذا حتى تحاصبوا و تضاربوا بالنعال ودخل رهط من أصحاب رسول الله على عثمان فقالوا له اتق الله ولا تعطل الحد واعزل أخاك عنهم فعزله عنهم أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا المدائني عن أبي محمد الناجي عن مطر الوراق قال قدم رجل المدينة فقال لعثمان رضي الله عنه إني صليت الغداة خلف الوليد بن عقبة فالتفت إلينا فقال أأزيدكم إني أجد اليوم نشاطا وأنا أشم منه رائحة الخمر فضرب عثمان الرجل فقال الناس عطلت الحدود وضربت الشهود أخبرني أحمد قال حدثني عمر قال حدثنا أبو بكر الباهلي عن بعض من حدثه قال لما شهد على الوليد عند عثمان بشرب الخمر كتب إليه يأمره بالشخوص فخرج وخرج معه قوم يعذرونه فيهم عدي بن حاتم فنزل الوليد يوما يسوق بهم فقال يرتجز ( لا تحسَبنّا قد نَسِينا الإِيجافْ ... والنَّشَوَات من عَتيق أو صَافْ ) ( وعَزْفَ قَيْناتٍ علينا عُزَّافْ ... ) فقال عدي إلى أين تذهب بنا أقم أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال عرضت على المدائني عن قيس بن الربيع عن الأجلح عن الشعبي عن جندب قال كنت فيمن شهد على الوليد فلما استتممنا عليه الشهادة حبسه عثمان ثم ذكر باقي خبره وضرب علي عليه السلام إياه وقول الحسن ما لك ولهذا فزاد فيه فقال له علي لست إذا مسلما أو من المسلمين حدثنا إبراهيم بن عبد الله المخزومي قال حدثنا سعيد بن محمد المخزومي قال حدثنا ابن علية قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن عبد الله الداناج قال سمعت الحضين بن المنذر أبا ساسان يحدث وأخبرني أحمد ابن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن علية قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة قال حدثنا عبد الله الداناج عن حضين أبي ساسان قال لما جيء بالوليد بن عقبة إلى عثمان بن عفان وقد شهدوا عليه بشرب الخمر قال لعلي دونك ابن عمك فأقم عليه الحد فأمر به فجلد أربعين ثم ذكر نحو هذا الحديث وقال فيه فقال علي للحسن بل ضعفت ووهنت وعجزت قم يا عبد الله بن جعفر فقام فجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال علي أمسك جلد رسول الله أربعين وجلد أبو بكر أربعين وأتمها عمر ثمانين وكل سنة أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر قال حدثنا عبد الله بن محمد ابن حكيم عن خالد بن سعيد قال لما ضرب عثمان الوليد الحد قال إنك لتضربني اليوم بشهادة قوم ليقتلنك عاملا قابلا أخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله قال أخبرني محمد ابن حبيب عن ابن الأعرابي قال وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الله بن محمد بن حكيم عن خالد بن سعيد وأخبرني إبراهيم بن محمد بن أيوب قال حدثنا عبد الله بن مسلم قالوا جميعا كان أبو زبيد الطائي نديما للوليد بن عقبة أيام ولايته الكوفة فلما شهد عليه بالسكر من الخمر وخرج من الكوفة قال أبو زبيد واللفظ في القصيدة لليزيدي لأنها في روايته أتم ( من يرى العِيرَ لابن أَرْوَى على ظهر ... المَرَوْرَى حُدَاتُهنّ عِجالُ ) ( مُصْعِداتٍ والبيتُ بيتُ أبي وَهْبٍ ... خَلاءٌ تَحِنُّ فيه الشَّمال ) ( يعرف الجاهلُ المُضَلّل أنّ الدهر ... فيه النَّكْراء والزَّلْزال ) ( ليت شعري كذاكم العهدِ أم كانوا ... أُناساً كمن يزول فزالوا ) ( بعد ما تَعْلمين يا أّمَّ زيدٍ ... كان فيهم عِزٌ لنا وجَمال ) ( ووجوهٌ بوُدِّنا مِشرقاتٌ ... ونَوَالٌ إذا أُريد النَّوال ) ( أصبح البيتُ قد تبدّل بالحيّ وجوهاً كأنّها الأَقْتالُ ) ( كلُّ شيء يَحتال فيه الرجالُ ... غير أنْ ليس للمنايا احتيال ) ( ولَعَمْرُ الإِلهِ لو كان للسيف ... مَصَالٌ أو للّسان مَقَال ) ( ما تناسيتُك الصفاءَ ولا الودُّ ... ولا حال دونك الأشغال ) ( ولحرَّمتُ لَحْمَك المُتَعَضَّى ... ضَلَّةً ضَلَّ حِلْمُهم ما اغتالوا ) ( قولُهم شُرْبُك الحرامُ وقد كان ... شرابٌ سوى الحرام حَلال ) ( وأبَى الظّاهرُ العداوةِ إلاّ ... شَنَاناً وقولَ ما لا يُقال ) ( من رجالٍ تَقارضوا مُنْكَراتٍ ... ليَنَالوا الذي أرادوا فناولوا ) ( غيرَ ما طالِبين ذحْلاً ولكن ... مال دهرٌ على أُناس فمالوا ) ( مَن يَخُنْك الصّفاءَ أو يتبدَّلْ ... أو يَزُلْ مثلَ ما تزولَ الضلال ) ( فاعلمن أنّني أخوك أخو الودَّ ... حياتي حتى تزول الجبال ) ( ليس بخلاً عليك عندي بمالٍ ... أبداً ما أَقَلَّ نعلاً قِبال ) ( ولك النّصر باللسان وبالكفِّ ... إذا كان لليدين مَصَال ) نسبة ما في هذا الشعر من الغناء صوت ( من يَرى العِيرَ لابن أَرْوَى على ظهر ... المَرَوْرَى حُداتُهنَ عِجالُ ) ( مُصْعِداتٍ والبيتُ بيتُ أبي وَهْبٍ ... خلاءٌ تَحِنّ فيه الشَّمال ) عروضه من الخفيف المرورى جمع مروراة وهي الصحراء غنى الدلال فيه خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وغيره أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال لما قدم الوليد بن عقبة الكوفة قدم عليه أبو زبيد فأنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد وهي دار القبطي فكان مما احتج به عليه أهل الكوفة أن أبا زبيد كان يخرج إليه من داره يخترق المسجد وهو نصراني فيجعله طريقا أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن أبي حبيب بن جبلة عن ابن الأعرابي أن أبا زبيد وفد على الوليد حين استعمله عثمان على الكوفة فأنزله الوليد دارا لعقيل بن أبي طالب على باب المسجد فاستوهبها منه فوهبها له فكان ذلك أول الطعن عليه من أهل الكوفة لأن أبا زبيد كان يخرج من منزله حتى يشق الجامع إلى الوليد فيسمر عنده ويشرب معه ويخرج فيشق المسجد وهو سكران فذلك نبههم عليه عمر يوليه صدقات بني تغلب قال وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ولى الوليد بن عقبة صدقات بني تغلب فبلغه عنه بيت قاله وهو ( إذا ما شَدَدْتُ الرأسَ مِنّي بِمِشْوَذٍ ... فغَيَّكِ مِنّي تَغْلِبَ بنةَ وائلِ ) فعزله وكان أبو زبيد قد استودع بني كنانة بن تيم بن أسامة بن مالك بن بكر ابن حبيب بن غنم بن تغلب إبلا فلم يردوها عليه حين طلبها وكانت بنو تغلب أخوال أبي زبيد فوجد الوليد بني تغلب ظالمين لأبي زبيد فأخذ له الوليد بحقه فقال يمدح الوليد ( يا ليت شِعري بأنْباءٍ أُنَبَّؤُها ... قد كان يَعْيا بها صَدْري وتَقْديري ) ( عن امرِىءٍ ما يَزِدْه اللهُ من شَرَفٍ ... أفرَحْ به ومُرّيُّ غيرُ مسرور ) يعني مري بن أوس بن حارثة بن لأم وهي طويلة يقول فيها ( إنّ الوليدَ له عندي وحُقَّ له ... وُدُّ الخليلِ ونُصْحٌ غيرُ مَذْخورِ ) ( لقد رعاني وأدناني وأظَهرني ... على الأعادي بنصرٍ غير تَعْذير ) ( فشَذَّب القومَ عنّي غير مكترثٍ ... حتى تناهَوْا على رغم وتَصْغير ) ( نفسي فداءُ أبي وَهْبٍ وقَلَّ له ... يا أُمَّ عمروٍ فحُلِّي اليومَ أو سِيرِي ) وفي رواية ابن حبيب يا أم زيد يعني يا أم أبي زبيد أخبرني محمد بن العباس عن عمه عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي قال كان الوليد بن عقبة قد استعمل الربيع بن مري بن أوس بن حارثة بن لأم الطائي على الحمى فيما بين الجزيرة وظهر الحيرة فأجدبت الجزيرة وكان أبو زبيد في تغلب فخرج بهم ليرعيهم فأبى عليه الأوسي وقال إن شئت أن أرعيك وحدك فعلت وإلا فلا فأتى أبو زبيد الوليد بن عقبة فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشأم إلى القصور الحمر من الحيرة وجعله له حمى وأخذها من الآخر هكذا روى ابن حبيب وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال كانت الجنينة في يد مري بن أوس فلما قدم الوليد بن عقبة الكوفة انتزعها منه ودفعها إلى أبي زبيد والقول الأول أصح وشعر أبي زبيد يدل عليه في قوله في الوليد بن عقبة يمدحه ( لَعَمرُ أبيك يابنَ أبي مُرَيٍّ ... لَغَيْرُك من أباح لها الدّيارا ) ( أباح لها أَبارِقَ ذات نَوْر ... تَرَعَّى القَفّ منها والعَرارا ) ( بحمد الله ثم فتى قريشٍ ... أبى وهبٍ غدتْ بُطُناً غِزَارا ) ( أباح لها ولا يُحْمَى عليها ... إذا ما كنتمُ سَنةً جزارا ) يريد جزرا من الجدب والشدة ( فتىً طالت يداه إلى المعالي ... وطَحْطَحَتا المُقطَّعة القِصارا ) وهي أبيات قال عمر بن شبة في خبره خاصة فلما عزل الوليد ووليها سعيد انتزعها منه وأخرجها من يده فقال ( ولقد مِتّ غير أنَّيَ حيُّ ... يوم بانت بودّها خنساءُ ) ( من بني عامرٍ لها شِقُّ نفسي ... قسمةً مثلَ ما يُشقّ الرداء ) ( أُشْرِبَتْ لونَ صُفرةٍ في بياضٍ ... وهي في ذاك لَدْنَةٌ غَيْداء ) ( كلُّ عينٍ ممّن يراها من النّاس ... إليها مُديمةٌ حَوْلاء ) ( فانتهُوا إن للشدائد أهلاً ... وذَرُوا ما تُزَيِّن الأهواء ) ( ليتَ شعري وأين مِنِّي ليتٌ ... إنّ ليتاً وإنّ لوّاً عَناء ) ( أيُّ ساعٍ سعى ليقطع شِربي ... حين لاحت للصابح الجَوْزاء ) ( واستظلَّ العُصفور كَرْها مع الضبّ ... وأوفَى في عُوده الحِرْباء ) ( ونفى الجُنْدُبُ الحصا بكُراعَيهِ ... وأذْكَت نيرانَها المَعْزاء ) ( من سَمُوم كأنها حَرُّ نارٍ ... سَفَعتها ظَهيرةٌ غَرّاء ) ( وإذا أهلُ بلدةٍ أنكروني ... عَرَفتْني الدَّوِّيَّةُ المَلْساءُ ) ( عرفتْ ناقتي الشمائل منِّي ... فهي إلاّ بُغَامَها خَرْساء ) ( عرَفَتْ ليلَها الطويلَ وليلي ... إنّ ذا الليلَ للعيون غِطاء ) نسبة ما يغنى فيه من هذا الشعر صوت ( أيُّ ساعٍ سعى ليقطع شِرْبي ... حين لاحت للصابح الجَوْزاءُ ) ( واستَكنّ العصفورُ كَرْها مع الضبِّ ... وأَوْفَى في عوده الحِرْباء ) ( وإذا الدارُ أهلُها أنكَروني ... عَرفتني الدَّوِّيَّة المَلْساء ) ( عرفتْ ناقتي الشمائلَ منّي ... فهي إلا بُغامَها خَرْساء ) ( عرفتْ ليلَها الطويل وليلي ... إنّ ذا الليلَ للعيون غِطاء ) عروضه من الخفيف غناه ابن سريج خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وغنى داود بن العباس الهاشمي في الخامس ثم الثالث خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو قال ابن حبيب في خبره وقال أبو زبيدة يتشوق إلى الوليد لما خرج عن الكوفة ( لعَمْرِي لئن أَمْسَى الوليدُ ببلدةٍ ... سواي لقد أمسيتُ للدهر مُعْوِرا ) قال ابن حبيب ويروى سوي لقد وهي لغة طيىء ( خلا أنّ رزقَ الله غادٍ ورائحٌ ... وأنِّي له راجٍ وإن سِرتُ أشهرا ) ( وكان هو الحصنَ الذي ليس مُسلِمي ... إذا أنا بالنكْرَاء هيّجتُ معشرا ) ( إذا صادَفوا دوني الوليدَ كأنما ... يرون بوادي ذي حَمَاسٍ مُزَعْفَرا ) ( خضيبَ بنان ما يزال براكب ... يَخُبّ وضاحِي جلدِه قد تقشَّرا ) وهي طويلة حدثني إسحاق بن بنان الأنماطي قال حدثنا حبيش بن مبشر قال حدثنا عبيد الله بن موسى قال حدثنا ابن أبي ليلى عن الحكم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال قال الوليد بن عقبة لعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أناأحد منك سنانا وأبسط منك لسانا وأملأ للكتيبة طعانا فقال له علي رضي الله تعالى عنه اسكت فإنما أنت فاسق فنزل القرآن ( أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون ) أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد ابن حاتم قال حدثنا يونس بن محمد قال حدثنا شيبان عن قتادة في قوله تعالى ( إن جاءكم فاسق بنبإٍ ) قال هذا ابن أبي معيط الوليد بن عقبة بعثه النبي إلى بني المصطلق مصدقا فلما رأوه أقبلوا نحوه فهابهم فرجع إلى النبي فأخبره أنهم قد ارتدوا عن الإسلام فبعث النبي خالد بن الوليد وأمره أن يتثبت ولا يعجل فانطلق حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه فلما جاؤوه أخبروه بأنهم متمسكون بالإسلام وسمعوا أذانهم وصلاتهم فلما أصبحوا أتاهم خالد فرأى ما يعجبه فرجع إلى النبي فأخبره أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبيد الله ابن موسى قال حدثنا نعيم بن حكيم عن أبي مريم عن علي أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى النبي تشتكي الوليد وقالت إنه يضربها فقال لها " ارجعي وقولي إن رسول الله قد أجارني " فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت ما أقلع عني فقطع رسول الله هدبة من ثوبه ثم قال " امضي بهذا ثم قولي إن رسول الله أجارني " فانطلقت فمكثت ساعة ثم رجعت فقالت يا رسول الله ما زادني إلا ضربا فرفع يديه وقال " اللهم عليك الوليد " مرتين أو ثلاثا لم يمسسه النبي بسبب الخلوق أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر بن شبة وحدثني أبو عبيد الصيرفي قال حدثني الفضل بن الحسن البصري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أيوب بن عمر قال حدثنا عمر بن أيوب قال حدثنا جعفر بن برقان عن ثابت بن الحجاج عن أبي موسى عبد الله الهمداني أن الوليد بن عقبة قال لما فتح رسول الله مكة جعل أهل مكة يأتونه بصبيانهم فيدعو لهم بالبركة ويمسح على رؤوسهم فجيء بي إليه وأنا مخلق فلم يمسسني وما منعه إلا أن أمي خلقتني بخلوق فلم يمسسني من أجل الخلوق أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا خلف بن الوليد قال حدثنا المبارك بن فضالة عن الحسن أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يريه كتيبتين تقتتلان فتحمل إحداهما على الأخرى فتهزمها فقال له الساحر أيسرك أن أريك هذه المنهزمة تغلب الغالبة فتهزمها قال نعم وأخبر جندب بذلك فاشتمل على السيف ثم جاء فقال أفرجوا فضربه حتى قتله ففزع الناس وخرجوا فقال يا أيها الناس لا عليكم إنما قتلت هذا الساحر لئلا يفتنكم في دينكم فحبسه قليلا ثم تركه أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عمر بن سعيد الدمشقي وحدثنا سعيد بن عبد العزيز عن الزهري أن رجلا من الأنصار نظر إلى رجل يستعلن بالسحر فقال أو إن السحر ليعلن به في دين محمد فقتله فأتي به الوليد بن عقبة فحبسه فقال له دينار بن دينار فيم حبست فأخبره فخلى سبيله فأرسل الوليد إلى دينار فقتله أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا موسى بن إسماعيل قال حدثنا حماد بن سلمة قال حدثنا أبو عمران الجوني أن ساحرا كان عند الوليد بن عقبة فجعل يدخل في جوف بقرة ويخرج منه فرآه جندب فذهب إلى بيته فاشتمل على سيف فلما دخل الساحر في جوف البقرة قال أتأتون السحر وأنتم تبصرون ثم ضرب وسط البقرة فقطعها وقطع الساحر في البقرة فانذعر الناس فسجنه الوليد وكتب بذلك إلى عثمان رضي الله عنه وكان السجان يفتح له الباب بالليل فيذهب إلى أهله فإذا أصبح دخل السجن جندب بن كعب الأسدي أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا حجاج بن نصير قال حدثنا قرة عن محمد بن سيرين قال انطلق بجندب بن كعب إلى سجن خارج من الكوفة وعلى السجن رجل نصراني فلما رأى جندب بن كعب يصوم النهار ويقوم الليل قال النصراني والله إن قوما هذا شرهم لقوم صدق فوكل بالسجن رجلا ودخل الكوفة فسأل عن أفضل أهل الكوفة فقالوا الأشعث بن قيس فاستضافه فجعل يرى أبا محمد ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه فخرج من عنده فسأل أي أهل الكوفة أفضل فقالوا جرير بن عبد الله فوجده ينام الليل ثم يصبح فيدعو بغدائه فاستقبل القبلة ثم قال ربي رب جندب وديني على دين جندب وأسلم حدثني عمي الحسن بن محمد قال حدثنا الخزاز عن المدائني عن علي ابن مجاهد عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان عن الزهري وغيره قالوا لما انصرف رسول الله من غزوة بني المصطلق نزل رجل فساق بالقوم ورجز ثم نزل آخر فساق بالقوم ورجز ثم بدا لرسول الله أن يواسي أصحابه فنزل فجعل يقول " جندب وما جندب والأقطع الخير زيد فدنا منه أصحابه وقالوا يا رسول الله ما ينفعنا مشيك مخافة أن تلسعك دابة الأرض أو تصيبك نكبة فركب ودنوا منه فقالوا لقد قلت قولا ما ندري ما هو قال وما ذاك قالوا قولك جندب وما جندب والأقطع الخير زيد فقال رجلان يكونان في هذه الأمة يضرب أحدهما ضربة يفرق بين الحق والباطل وتقطع يد الآخر في سبيل الله فيتبع الله آخر جسده بأوله " فكان زيد بن صوحان قطعت يده يوم جلولاء وقتل يوم الجمل مع علي وأما جندب فإنه رجل دخل على الوليد بن عقبة وعنده ساحر يكنى أبا شيبان يأخذ أعين الناس فيخرج مصارين بطنه ثم يعيدها فيه فجاء من خلفه فقتله وقال ( اِلْعَنْ ولِيداً وأبا شَيْبَانِ ... وابنَ حُبَيْش راكبَ الشَّيطانِ ) ( رسولَ فِرْعونَ إلى هامانِ ... ) عثمان ينزعه عن الكوفة أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثني ابن وهب عن يونس عن الزهري قال نزع عثمان بن عفان الوليد بن عقبة عن الكوفة وأمر عليها سعيد بن العاص قال أبو زيد فحدثني عبد الله بن عبد الرحمن قال حدثنا سعيد بن جامع الهجيمي قال لما أقبل سعيد من المدينة عامدا للكوفة بعد ما خرج واليا لعثمان جعل يرتجز في طريقه ( وَيْلَ نُسَيّاتِ العِراق منّي ... كأنني سَمَعْمَعٌ من جِنِّ ) أخبرني أحمد قال حدثني عمر قال حدثني المدائني عن أبي علقمة عن سعيد بن أشوع قال قال عدي بن حاتم قدم سعيد بن العاص الكوفة فقال اغسلوا هذا المنبر فإن الوليد كان رجسا نجسا فلم يصعده حتى غسل عيبا على الوليد وكان الوليد أسن منه وأسخى نفسا وألين جانبا وأرضى عندهم فقال بعض شعرائهم ( يا وَيْلَنا قد ذهب الوليدُ ... وجاءنا من بعده سيعدُ ) ( ينقُص في الصّاع ولا يَزيدُ ... ) وقال آخر ( فَرَرتُ من الوليد إلى سَعيدٍ ... كأهل الحِجْر إذ جزِعوا فبارُوا ) ( يَلِينا من قريش كلَّ عامٍ ... أميرٌ مُحْدَثٌ أو مستشار ) ( لنا نارٌ تُحرِّقنا فَنْخشى ... وليس لهم فلا يَخْشَوْن نار ) أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر قال حدثنا المدائني قال قدم الوليد بن عقبة الكوفة زائرا للمغيرة بن شعبة فأتاه أشراف أهل الكوفة يسلمون عليه فقالوا والله ما رأينا بعدك مثلك فقال أخيرا أم شرا فقالوا بل خيرا قال ولكني والله ما رأيت بعدكم شرا منكم فأعادوا الثناء عليه فقال بعض ما تثنون به فوالله إن بغضكم لتلف وإن حبكم لصلف قال أبو زيد وذكروا أن قبيصة بن جابر كان ممن كثر على الوليد فقال معاوية يوما والوليد وقبيصة عنده يا قبيصة ما كان شأنك وشأن الوليد فقال خيرا يا أمير المؤمنين في أول وصل الرحم وأحسن الكلام فلا تسألن عن الشكر وحسن الثناء ثم غضب على الناس وغضبوا عليه وكنا منهم فإما ظالمون فنستغفر الله وإما مظلومون فغفر الله له وخذ في غير هذا يا أمير المؤمنين فإن الحديث ينسي القديم قال ولم فوالله لقد أحسن السيرة وبسط الخير وكف الشر قال فأنت أقدر على ذلك يا أمير المؤمنين منه فافعل قال اسكت لاسكت فسكت وسكت القوم فقال له ما لك لا تتحدث قال نهيتني عما كنت أحب فسكت عما أكره أخبرني أحمد قال حدثني عمر قال حدثني المدائني قال مات الوليد بن عقبة فويق الرقة ومات أبو زبيد فدفنا جميعا في موضع واحد فقال في ذلك أشجع السلمي وقد مر بقبريهما ( مررتُ على عظامِ أبي زُبَيْدٍ ... وقد لاحتْ ببَلْقَعَةٍ صَلُودِ ) ( وكان له الوليدُ نَدِيمَ صدْقٍ ... فنادَمَ قبرُه قبرَ الوليد ) ( وما أدْرِي بمن تَبْدا المنايا ... بأحمدَ أو بأشجعَ أو يزيد ) الوليد يخرج غازيا للروم أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي عن أبيه قال خرج الوليد بن عقبة غازيا للروم وعلى مقدمته عتبة بن فرقد فلقيه الروم فقاتلوه فقال له رجل من العرب نصراني لست على دينكم ولكني أنصحكم للنسب فالقوم مقاتلوكم إلى نصف النهار فإن رأوكم ضعفاء أفنوكم وإن صبرتم هربوا وتركوكم فقال سلمان بن ربيعة يا معشر المسلمين ما عذركم عند الله غدا إن أصيب عتبة بن فرقد وأصحابه ولم يعنهم أحد منكم فركب معه ثلاثة آلاف رجل على البغال يجنبون الخيل فلحقوا عتبة وأصحابه فقاتلوا معهم قتالا شديدا حتى هزم الله الروم فقال الوليد بن عقبة ( أتاني من الفَجّ الذي كنتُ آمناً ... بقيَّةُ شُذَّاذٍ من الخيل ظُلَّع ) ( عليها العبيدُ يضربون جُنُوبَها ... ونازَلَ منّا كُلُّ خِرْقٍ سَمَيْذَع ) ( فإنِّي زعيمٌ أن تَصِيحَ نساؤهم ... صياحَ دَجَاجِ القرية المتوزِّع ) وقال الحطيئة يمدح الوليد بذلك وكان قد وصله وكان الوليد جوادا ( أرى لابن أرْوَى خَلَّتينِ اصطفاهما ... قِتالٌ إذا يَلْقَى العدوَّ ونائلُهْ ) ( فتىً يملأ الشِّيزَى ويروَى بكفّه ... سِنانُ الرُّدَيْنّي الأصمِّ وعاملُهْ ) ( يَؤُمُّ العدوَّ حيث كان بجَحْفَلٍ ... يُصِمُّ السميعَ جَرْسُه وصواهلُه ) ( إذا حان منه مَنزِلُ الليل أُوْقِدَتْ ... لأُخْراه في أعلى اليَفَاع أَوائلُهْ ) ( نَفَيْتَ الجِعادَ البِيضَ عن حُرِّدارهم ... فلم يَبْقَ إلا حيّةٌ أنت قاتلُهْ ) فقال الحليس بن نعيم النهدي يكذب الحطيئة ( وأبلغْ أبا وهبٍ إذا ما لَقيتَه ... فقد حاربتك الرومُ فيمن تُحارِبُ ) ( وفي الأرض حَيَّاتٌ وأُسْدٌ كثيرةٌ ... عدوٌّ ولكنّ الحطيئةَ كاذب ) أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا علي ابن محمد عن أبي مخنف عن خالد بن قطن عن أبيه قال لما قتل عثمان أرسل علي فأخذ كل ما كان في داره من السلاح وإبلا من إبل الصدقة فلذلك قال الوليد بن عقبة ( بني هاشم رُدُّوا سلاحَ ابنِ أُختكم ... ولا تَنْهَبوه لا تَحِلُّ مَنَاهِبُهْ ) ويروي ( ولا تَهَبُوه لا تَحِلُّ مواهبُهْ ... ) ( بني هاشمٍ كيف الهَوادةُ بيننا ... وعند عليٍّ سيفُه ونجائُبه ) ( قتلتم أخي كيما تكونوا مكانَه ... كما فعلتْ يوماً بكسرى مَرَازِبُه ) هكذا في الخبر ( ولا تهبوه لا تحِلّ مواهبه ... ) أخبرني الطوسي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن إسحاق الجعفري أن الوليد بن عقبة بن أبي معيط لقي بجادا مولى عثمان فأخبره أن عثمان قد قتل فقال ( ليت أنيّ هلكت قبل حديثٍ ... سَلَّ جسمي ورِيعَ منه فؤادي ) ( يوم لاقيتُ بالبَلاَط بجاداً ... ليت أنّي هلكت قبل بجاد ) وقد زيد في هذا الشعر بيت ونقص منه آخر مكانه وغني فيه وهو صوت ( طال ليلي وملَّني عُوّادي ... وتَجافَى عن الضلوعِ مهادي ) ( من حديثٍ نُمِي إليّ فما يَرْقَأُ ... دمعي ولا أُحِسّ رُقادي ) ( يوم لاقيتُ بالبَلاط بِجاداً ... ليت أنِّي هلكتُ قبل بِجادِ ) ( وبنفسي التي أُحِبّ وأهلي ... وبمالي وطارفي وتِلادي ) ( قلتُ لا تَغْضَبي فذلك قولي ... بلساني وما يُجِنُّ فؤادي ) غنى فيه ابن عباد ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر في الأول والرابع من الأبيات وذكر عمرو بن بانة أنه لابن محرز ومن الناس من ينسبه إلى ابن سريج في هذه الطريقة في الأول والثاني وذكر ابن المكي أنه للغريض ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر ووافقه يونس وذكر أن في هذا الشعر لابن سريج والغريض لحنين في الخمسة الأبيات وذكر حبش أن فيها لمعبد ثقيلا أول بالوسطى ولعبد الله بن العباس الربيعي ثاني ثقيل بالوسطى وللغريض خفيف رمل بالوسطى ولسليم ثقيل أول بالوسطى وذكر أحمد بن عبيد أن فيه رملا لابن جامع في البيت الأول وحده وأن فيه هزجا لا يعرف صانعه أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال حدثني أبي قال أرسل إلي محمد بن زبيدة في ليلة من ليالي الصيف مقمرة يا عم إن الحرب بيني وبين طاهر بن الحسين قد سكنت فصر إلي فإني إليك مشتاق فجئته وقد بسط له على سطح زبيدة وعنده سليمان بن جعفر عليه كساء روذباري وقلنسوة طويلة وجواريه بين يديه وضعف جاريته عنده فقال لها غنيني فقد سررت بعمومتي فاندفعت تغنيه ( هُمُ قَتَلوه كي يكونوا مكانه ... كما فَعَلَتْ يوماً بكسرى مَرَازِبُهْ ) ( بني هاشمٍ كيف التواصُلُ بيننا ... وعند أخيه سيفُه ونجائبُه ) هكذا غنت وإنما هو ( وعند عليّ سيفُه ونجائبُهْ ... ) فغضب وتطير وقال لها ما قصتك ويحك انثني وانتهي وغنيني ما يسرني فاندفعت وغنت ( هذا مَقامُ مُطَرَّدٍ ... هُدِمتْ منازلُه ودورُهْ ) فازداد تطيرا ثم قال لها ويحك انتهي غنيني غير هذا فغنت ( كُلَيبٌ لَعَمْرِي كان أكثرَ ناصراً ... وأيسرَ جُرْماً منك ضُرِّج بالدّم ) فقال لها قومي إلى لعنة الله فوثبت وكان بين يديه قدح بلور وكان لحبه إياه سماه باسمه محمدا فأصابه طرف ذيلها فسقط على بعض الصواني فانكسر وتفتت فأقبل علي وقال أرى والله يا عم أن هذا آخر أيامنا فقلت كلا بل يبقيك الله يا أمير المؤمنين ويسرك قال ودجلة والله يا بني هادئة ما فيها صوت مجداف ولا أحد يتحرك وهي كالطست هادئة فسمعت هاتفا يهتف قضي الأمر الذي فيه تستفتيان قال فقال لي أسمعت ما سمعت يا عم فقلت وما هو وقد والله سمعته فقال الصوت الذي جاء الساعة من دجلة فقلت ما سمعت شيئا وما هذا إلا توهم فإذا الصوت قد عاد يقول قضي الأمر الذي فيه تستفتيان فقال انصرف يا عم بيتك الله بخير فمحال ألا تكون الآن قد سمعت ما سمعت فانصرفت وكان آخر العهد به وفود الوليد بن عقبة على معاوية أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري ومحمد بن يحيى الصولي واللفظ له قالا حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا عبد الله بن الضحاك عن هشام بن محمد عن أبيه قال محمد وحدثنا عبد الله بن محمد ومحمد بن عبد الرحمن جميعا عن مطرف بن عبد الله عن عيسى بن يزيد قال وفد الوليد بن عقبة وكان جوادا على معاوية فقيل له هذا الوليد ابن عقبة بالباب فقال والله ليرجعن معطيا غير معطى فإنه الآن قد أتانا يقول علي دين وعلي كذا وكذا يا غلام ائذن له فأذن له فسأله وتحدث معه ثم قال أما والله إن كنا لنحب إيثار مالك بالوادي وقد أعجب أمير المؤمنين فإن رأيت أن تهبه ليزيد فعلت فقال الوليد هو ليزيد ثم خرج وجعل يختلف إلى معاوية أياما فقال له يوما انظر يا أمير المؤمنين في شأني فإن علي مؤونة وقد أرهقني دين فقال له معاوية ألا تستحي لحسبك ونسبك تأخذ ما تأخذ فتبذره ثم لا تنفك تشكو دينا فقال له الوليد أفعل ثم انطلق مكانه فصار إلى الجزيرة فقال ( فإذا سُئلتَ تقول لا ... وإذا سألتَ تقول هاتِ ) ( تأبَى فِعالَ الخيرِ لا ... تُرْوِي وأنت على الفُراتِ ) ( أفَلاَ تَميل إلى نَعَمْ ... أو تَرْكِ لا حتى الممات ) قال فبلغ معاوية مقدمه الجزيرة فخافه وكتب إليه أن أقبل إلي فكتب إليه ( أَعِفُّ وأَسَتحْيي كم قد أمرتَني ... فأعْطِ سوايَ ما بدا لك وانْحَلِ ) ( سأحْدُو ركابي عنك إنّ عزيمتي ... إذا نابَني أمر كسَلّة مُنْصُلِ ) ( وإني امرؤ للرأي منّي تَطرّفٌ ... وليس شَبَا قُفْلٍ عليَّ بمُقْفَلِ ) ورحل إلى الحجاز فبعث إليه معاوية بجائزة انقضت أخبار الوليد بن عقبة صوت من المائة المختارة ( ربما نّبهني الإِخوانُ ... والليلُ بَهيمُ ) ( حين غارتْ وتدلَّتْ ... في مَهاويها النجومُ ) ( ونُعاسُ الليل في عينيّ ... كالثَّاوِي مُقِيمُ ) ( للتي تُعْصَر لمّا ... أَيْنعتْ منها الكُرُومُ ) ( أنا بالرَّيّ مقيمٌ ... في قُرَى الرَّيّ أهيمُ ) ( ما أُرَاني عن قُرَى الرَّيِّ ... مَدَى دهري أَريمُ ) الشعر والغناء لإبراهيم الموصلي ولحنه المختار ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق ولإبراهيم أيضا فيه خفيف ثقيل وقيل إنه لابنه إسحاق وفيه لأحمد بن يحيى المكي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي وأحمد بن عبيد نسب إبراهيم الموصلي وأخباره هو فيما أخبرنا به يحيى بن علي بن يحيى المنجم عن حماد عن أبيه وأخبرني به عبد الله بن الربيع عن وسواسة وهو أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي عن أبيه عن جده وعن حماد عن أبيه إبراهيم ابن ميمون أو ابن ماهان بن بهمن بن نسك وكان سبب نسبه إلى ميمون أنه كتب إلى صديق له فعنون كتابه من إبراهيم بن ماهان فقال له بعض فتيان الكوفة أما تستحي من هذا الاسم فقال هو اسم أبي فقال غيره فقال وكيف أغير فأخذ الكتاب فمحا ماهان وكتب ميمون فبقي إبراهيم ابن ميمون قال إسحاق عن أبيه وأصلنا من فارس ولنا بيت شريف في العجم وكان جدنا ميمون هرب من جور بعض عمال بني أمية فنزل بالكوفة في بني عبد الله بن دارم فكان بين إبراهيم وبين ولد نضلة بن نعيم رضاع وأم إبراهيم امرأة من بنات الدهاقين الذين هربوا من فارس لما هرب ميمون أبو إبراهيم فنزلوا جميعا بالكوفة في بني عبد الله بن دارم فتزوجها ماهان بالكوفة فولدت إبراهيم ومات في الطاعون الجارف وخلف إبراهيم طفلا وكان مولد إبراهيم سنة خمس وعشرين ومائة بالكوفة وتوفي ببغداد سنة ثمان وثمانين ومائة وله ثلاث وستون سنة مات أبوه وهو طفل قال أحمد بن أحمد بن إسماعيل وسواسة في خبره ومات ماهان وخلف إبراهيم طفلا فكفله آل خزيمة بن خازم وقال يحيى بن علي في خبره إنه كان لإبراهيم لما مات أبوه سنتان أو ثلاث وخلف معه أخوين له من غير أمه أكبر منه فأقام إبراهيم مع أمه وأخواله حتى ترعرع فكان مع ولد خزيمة بن خازم في الكتاب فبهذا السبب صار ولاؤه لبني تميم وسأله الرشيد فقال ما السبب بينك وبين بني تميم فاقتص عليه قصته وقال ربونا يا أمير المؤمنين فأحسنوا تربيتنا ونشأت فيهم وكان بيننا رضاع فتولونا بهذا السبب فقال له الرشيد ويحك فما أراك إذا إلا مولاي فقال فهذه والله قصتي يا أمير المؤمنين قال يحيى بن علي في خبره وكان سبب قولهم إبراهيم الموصلي أنه لما نشأ واشتد وأدرك صحب الفتيان واشتهى الغناء فطلبه واشتد أخواله عليه في ذلك وبلغوا منه فهرب منهم إلى الموصل فأقام بها نحوا من سنة فلما رجع إلى الكوفة قال له إخوانه من الفتيان مرحبا بالفتى الموصلي فلقب به وقال أحمد في خبره إن سبب طلبه الغناء أنه خرج إلى الموصل فصحب جماعة من الصعاليك كانوا يصيبون الطريق ويصيبه معهم ويجمعون ما يفيدونه فيقصفون ويشربون ويغنون فتعلم منهم شيئا من الغناء وشدا فكان أطيبهم وأحذقهم فلما أحس بذلك من نفسه اشتهى الغناء وطلبه وسافر إلى المواضع البعيدة فيه وذكر ابن خرداذبه وهو قليل التحصيل لما يقوله ويضمنه كتبه أن سبب نسبته إلى الموصل أنه كان إذا سكر كثيرا ما يغني على سبيل الولع ( أنا جت من طرق مَوْصل ... أحمل قلل خَمْرِيا ) ( من شارب الملوك فلا ... بدّ من سُكْرِيا ) وما سمعت بهذه الحكاية إلا عنه وإنما ذكرتها على غثاثتها لشهرتها عند الناس وأنها عندهم كالصحيح من الرواية في نسبة إبراهيم إلى الموصل فذكرته دالا على عواره أخبرني الحسين بن يحيى المرداسي وابن أبي الأزهر قال حدثنا حماد ابن إسحاق عن أبيه قال أسلم أبي إلى الكتاب فكان لا يتعلم شيئا ولا يزال يضرب ويحبس ولا ينجع ذلك فيه فهرب إلى الموصل وهناك تعلم الغناء ثم صار إلى الري وتعلم بها أيضا ومهر وتزوج هناك امرأته دوشار وتفسير هذا الاسم أسدان وطال مقامه هناك وأخذ الغناء الفارسي والعربي وتزوج بها أيضا شاهك أم إسحاق ابنه وسائر ولده قال وفي دوشار هذه يقول إبراهيم وله فيه غناء من الهزج ( دُوشَارُ يا سيّدتي ... يا غايتي ومُنْيتِي ) ( ويا سروري من جميع ... الناس رُدِّي سِنَتي ) قال إسحاق وحدثني أبي قال أول شيء أعطيته بالغناء أني كنت بالري أنادم أهلها بالسوية لا أرزؤهم شيئا ولا أنفق إلا من بقية مال كان معي انصرفت به من الموصل فمر بنا خادم أنفذه أبو جعفر المنصور إلى بعض عماله برسالة فسمعني عند رجل من أهل الري فشغف بي وخلع علي دواج سمور له قيمة ومضى بالرسالة ورجع وقد وصله العامل بسبعة آلاف درهم وكساه كسوة كثيرة فجاءني إلى منزلي الذي كنت أسكنه فأقام عندي ثلاثة أيام ووهب لي نصف الكسوة التي معه وألفي درهم فكان ذلك أول ما اكتسبته بالغناء فقلت والله لا أنفق هذه الدراهم إلا على الصناعة التي أفادتنيها ووصف لي رجل بالأبلة يقال له جوانويه كان حاذقا فخرجت إليه وصحبت فتيانها فأخذت عنهم وغنيتهم فشغفوا بي إبراهيم وسبب اتصاله بالمهدي أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن جده قال لما أتيت جوانويه لم أصادفه في منزله فانتظرته حتى جاء فلما رآني احتشمني وكان مجوسيا فأخبرته بصناعتي والحال التي قصدته فيها فرحب بي وأفرد لي جناحا في داره ووكل بي أخته فقدمت إلي ما أحتاج إليه فلما كان العشي عاد إلى منزله ومعه جماعة من الفرس ممن يغني فنزلت إليه فجلسنا في مجلس قد صفي لنا فيه نبيذ وأعدت لنا فاكهة ورياحين فجلسنا وأخذوا في شأنهم وضربوا وغنوا فلم أجد عند أحد منهم فائدة وبلغت النوبة إلي فضربت وغنيت فقاموا كلهم إلي وقبلوا رأسي وقالوا سخرت منا نحن إلى تعليمك لنا أحوج منك إلينا فأقمت على تلك الحال أياما حتى بلغ محمد بن سليمان بن علي خبري فوجه إلي فأحضرني وأمرني بملازمته فقلت له أيها الأمير إني لست أتكسب بالغناء وإنما ألتذه فلذلك تعلمته وأريد العود إلى الكوفة فلم أنتفع بذلك عنده وأخذني بملازمته وسألني من أين أنا فانتسبت إلى الموصل فلزمتني وعرفت بها ولم أزل عنده أثيرا مكرما حتى قدم عليه خادم من خدم المهدي فلما رآني عنده قال له أمير المؤمنين أحوج إلى هذا منك فدافعه عني فلما قدم الرسول على المهدي سأله عما رأى في طريقه ومقصده فأخبره بذلك حتى انتهى إلى ذكري فوصفني له فأمره المهدي بالرجوع إلى محمد وإشخاصي إليه ففعل ذلك وجاء فأشخصني إلى المهدي فحظيت عنده وقدمني قال وسواسة في خبره عن إسحاق فحدثني أبي قال كان أول هاشمي صحبته علي بن سليمان بن علي أخو جعفر ومحمد وكان فتاهم ظرفا ولهوا وسماحة ووصفني له جوانويه ومضى بي إليه فوقعت من قلبه كل موقع وأول خليفة سمعني المهدي وصفت له فأخذني من علي بن سليمان وما سمع قبلي من المغنين أحدا سوى فليح بن أبي العوراء وسياط فإن الفضل بن الربيع وصلهما به قال إسحاق فحدثني أبي قال كان المهدي لا يشرب فأرادني على ملازمته وترك الشرب فأبيت عليه وكنت أغيب عنه الأيام فإذا جئته جئته منتشيا فغاظه ذلك مني فضربني وحبسني فحذقت الكتابة والقراءة في الحبس ثم دعاني يوما فعاتبني على شربي في منازل الناس والتبذل معهم فقلت يا أمير المؤمنين إنما تعلمت هذه الصناعة للذتي وعشرتي لإخواني ولو أمكنني تركها لتركتها وجميع ما أنا فيه لله جل وعز فغضب غضبا شديدا وقال لا تدخل على موسى وهارون البتة فوالله لئن دخلت عليهما لأفعلن ولأصنعن فقلت نعم ثم بلغه أني دخلت عليهما وشربت معهما وكانا مستهترين بالنبيذ فضربني ثلاثمائة سوط وقيدني وحبسني قال أحمد بن إسماعيل في خبره قال عمي إسحاق فحدثني أبي أنه كان معهما في نزهة لهما ومعهم أبان الخادم فسعى بهما وبي إلى المهدي وحدثه بما كنا فيه فدعاني فسألني فأنكرت فأمر بي فجردت فضربت ثلاثمائة وستين سوطا فقلت له وهو يضربني أن جرمي ليس من الأجرام التي يحل لك بها سفك دمي والله لو كان سر ابنيك تحت قدمي ما رفعتهما عنه ولو قطعتا ولو فعلت ذلك لكنت في حالة أبان الساعي العبد فلما قلت له هذا ضربني بالسيف في جفنه فشجني به وسقطت مغشيا علي ساعة ثم فتحت عيني فوقعتا على عيني المهدي فرأيتهما عيني نادم وقال لعبد الله بن مالك خذه إليك قال وقبل ذلك ما تناول عبد الله ابن مالك السوط من يد سلام الأبرش فضربني فكان ضرب عبد الله عندي بعد ضرب سلام عافية ثم أخرجني عبد الله إلى داره وأنا أرى الدنيا في عيني صفراء وخضراء وحمراء من حر السوط وأمره أن يتخذ لي شبيها بالقبر فيصيرني فيه فدعا عبد الله بكبش فذبح وسلخ وألبسني جلده ليسكن الضرب ودفعني إلى خادم له يقال له أبو عثمان سعيد التركي فصيرني في ذلك القبر ووكل بي جارية له يقال لها جشة فتأذيت بنز كان في ذلك القبر وبالبق وكان فيه حلي أستريح إليه فقلت لجشة اطلبي لي آجرة عليها فحم وكندر يذهب عني هذا البق فأتتني بذلك فلما دخنت أظلم القبر علي وكادت نفسي تخرج من الغم فاسترحت من أذاه إلى النز فألصقت به أنفي حتى خف الدخان فلما ظننت أني قد استرحت مما كنت فيه إذا حيتان مقبلتان نحوي من شق القبر تدوران حولي بحفيف شديد فهممت أن آخذ واحدة بيدي اليمنى والأخرى بيدي اليسرى فإما علي وإما لي ثم كفيتهما فدخلتا من الثقب الذي خرجتا منه فمكثت في ذلك القبر ما شاء الله ثم أخرجت منه ووجهت إلى أبي عثمان الخادم أسأله أن يبيعني جشة لأكافئها عما أولتني ففعل فزوجتها من حاجب لي ولم تزل عندنا قال إسحاق مكثت عندنا حتى ماتت وبقيت بنت لها يقال لها جمعة فزوجتها من مولى لي في سنة أربع وثلاثين ومائتين قال إبراهيم وقلت في الحبس وأنا مقيد ( ألاَ طال ليلِي أُراعي النجوم ... أُعَالج في السّاق كَبْلاً ثقيلاَ ) ( بدارِ الهَوَان وشرِّ الديار ... أُسامُ بها الخسفَ صبراً جميلا ) ( كثيرَ الأخلاّء عند الرّخاء ... فلمّا حُبِستُ أراهم قليلا ) ( لطول بلائيَ مَلَّ الصديقُ ... فلا يأمَنَنّ خليلٌ خليلا ) قال ثم أخرجني المهدي وأحلفني بالطلاق والعتاق وكل يمين لا فسحة لي فيها ألا أدخل على ابنيه موسى وهارون أبدا ولا أغنيهما وخلى سبيلي قال وصنعت في الحبس لحنا في شعر أبي العتاهية لما حبسه المهدي بسبب عتبة وهو صوت ( أيا وَيْحَ قَلْبِي من نَجِيّ البَلاَبِلِ ... ويا ويحَ ساقِي من قُرُوح السّلاسلِ ) ( ويا ويحَ نفسي وَيْحَها ثم ويحها ... ألَمْ تَنْجُ يوماً من شِباك الحبائل ) ( ويا ويحَ عَيْنِي قد أضرّ بها البَكا ... فلم يُغْنِ عنها طِبُّ ما في المَكاحِل ) ( ذَرِيني أُعَلِّلْ نفسيَ اليوم إنها ... رهينةُ رَمْسٍ في ثَرىً وجَنَادل ) ( ذَريني أُعَلَّل بالشّراب فقد أرَى ... بقيّةَ عيشي هذه غيرَ طائل ) الشعر لأبي العتاهية وذكر حماد أنه لجده إبراهيم والغناء لإبراهيم رمل بالوسطى في الثلاثة الأبيات الأول وله في البيتين الأخيرين ثقيل أول بالوسطى الهادي يطلبه قال حماد فلما ولي موسى الهادي الخلافة استتر جدي منه ولم يظهر له بسبب الأيمان التي حلفه بها المهدي فكانت منازلنا تكبس في كل وقت وأهلنا يروعون بطلبه حتى أصابوه فمضوا به إليه فلما عاينه قال يا سيدي فارقت أم ولدي وأعز خلق الله علي ثم غناه لحنه في شعره صوت ( يابنَ خيرِ الملوك لا تَترُكَنّي ... غَرَضاً للعدوّ يرمي حِيالي ) ( فلقد في هواك فارقتُ أهلي ... ثم عرَّضتُ مهجتي للزوال ) ( ولقد عِفْتُ في هواك حياتي ... وتغرّبتُ بين أهلي ومالي ) الشعر والغناء لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى قال إسحاق فموله والله الهادي وخوله وبحسبك أنه أخذ منه في يوم واحد مائة وخمسين ألف دينار ولو عاش لنا لبنينا حيطان دورنا بالذهب والفضة قال حماد قال لي أبي نظرت إلى ما صار إلى جدك من الأموال والغلات وثمن ما باع من جواريه فوجدته أربعة وعشرين ألف ألف درهم سوى أرزاقه الجارية وهي عشرة آلاف درهم في كل شهر وسوى غلات ضياعه وسوى الصلات النزرة التي لم يحفظها ولا والله ما رأيت أكمل مروءة منه كان له طعام معد في كل وقت فقلت لأبي أكان يمكنه ذلك فقال كان له في كل يوم ثلاث شياه واحدة مقطعة في القدور وأخرى مسلوخة ومعلقة وأخرى حية فإذا أتاه قوم طعموا ما في القدور فإذا فرغت قطعت الشاة المعلقة ونصبت القدور وذبحت الحية فعلقت وأتي بأخرى فجعلت وهي حية في المطبخ وكانت وظيفته لطعامه وطيبه وما يتخذ له في كل شهر ثلاثين ألف درهم سوى ما كان يجري وسوى كسوته ولقد اتفق عندنا مرة من الجواري الودائع لإخوانه ثمانون جارية ما منهن واحدة إلا ويجري عليها من الطعام والكسوة والطيب مثل ما يجري لأخص جواريه فإذا ردت الواحدة منهن إلى مولاها وصلها وكساها ومات وما في ملكه إلا ثلاثة آلاف دينار وعليه من الدين سبعمائة دينار قضيت منها أخبرني محمد بن خلف وكيع ويحيى بن علي بن يحيى وابن المرزبان قالوا أخبرنا حماد بن إسحاق قال كان أبي يحدث أن الرشيد اشترى من جدي جارية بستة وثلاثين ألف دينار فأقامت عنده ليلة ثم أرسل إلى الفضل بن الربيع إنا اشترينا هذه الجارية من إبراهيم ونحن نحسب أنها من بابتنا وليست كما ظننتها وما قربتها وقد ثقل علي الثمن وبينك وبينه ما بينكما فاذهب إليه فسله أن يحطنا من ثمنها ستة آلاف دينار قال فصار الفضل إليه فاستأذن عليه فخرج جدي فتلقاه فقال دعني من هذه الكرامة التي لا مؤنة بيننا فيها لست ممن يخدع وقد جئتك في أمر أصدقك عنه ثم أخبره الخبر كله فقال له إبراهيم إنه أراد أن يبلو قدرك عندي قال ذاك أراد قال فمالي كله صدقة من المساكين إن لم أضعفه لك قد حططتك اثني عشر ألف دينار فرجع الفضل إليه بالخبر فقال ويلك ادفع إلى هذا ماله فما رأيت سوقة قط أنبل نفسا منها قال أبي وكنت قد أتيت جدك فقلت ما كان لحطيطة هذا المال معنى وما هو بقليل فتغافل عني وقال أنت أحمق أنا أعرف الناس به والله لو أخذت المال منه كملا ما أخذته إلا وهو كاره ويحقد ذلك علي وكنت أكون عنده صغير القدر وقد مننت عليه وعلى الفضل وانبسطت نفسه ونشط وعظم قدري عنده وإنما اشتريت الجارية بأربعين ألف درهم وقد أخذت بها أربعة وعشرين ألف دينار فلما حمل المال إليه بلا حطيطة دعاني فقال لي كيف رأيت يا إسحاق من البصير أنا أم أنت فقلت بل أنت جعلني الله فداءك حدثني وكيع قال حدثنا حماد قال حدثني أبي قال لقي الفضل بن يحيى أبي وهو خارج من عند الفضل بن الربيع وكانا متجاورين في الشماسية فقال من أين يا أبا إسحاق أمن عند الفضل ابن الربيع قلت نعم غير معتذر من ذلك فقال خروج من عند الفضل بن الربيع إلى الفضل بن يحيى هذان والله أمران لا يجتمعان لك فقال والله لئن لم يكن في ما يتسع لكما حتى يكون الوفاء لكما جميعا واحدا ما في خير والله لا أترك واحدا منكما لصاحبه فمن قبلني على هذا قبلني ومن لم يقبلني فهو أعلم فقال له الفضل بن يحيى أنت عندي غير متهم والأمر كما قلت وقد قبلتك على ذلك الرشيد يحبسه بالرقة ثم يطلقه ليغنيه أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال حدثني أبي أن الرشيد غضب عليه فقيده وحبسه بالرقة ثم جلس للشرب يوما في مجلس قد زينه وحسنه فقال لعيسى بن جعفر هل لمجلسنا عيب قال نعم غيبة إبراهيم الموصلي عنه فأمر بإحضاري فأحضرت في قيودي ففكت عني بين يديه وأمرهم فناولوني عودا وقال غني يا إبراهيم فغنية ( تَضَوَّعَ مِسْكاً بَطْنُ نَعْمَانَ أَنْ مشتْ ... به زينبٌ في نِسُوةٍ خَفِراتِ ) فاستعاده وشرب وطرب وقال هنأتني يومي وسأهنئك بالصلة وقد وهبت لك الهنيء والمريء فانصرفت فلما أصبحت عوضت منهما مائتي ألف درهم نسبه هذا الصوت صوت ( تَضَوَّعِ مسكاً بطنُ نَعْمانَ أَنْ مشتْ ... به زينبٌ في نِسْوةٍ خَفِراتِ ) ( مَرَرْنَ بفخٍّ رائحاتٍ عَشِيّةً ... يُلَبِّين للرّحمن مُعْتَمِراتِ ) ( يُخَمِّرن أطرافَ البَنان من التُّقى ... ويَقتُلْنَ بالألحاظ مُقْتَدِراتِ ) ( ولما رأت ركبَ النُّمَيْرِيّ أعرضتْ ... وكنَّ منَ أن يَلْقَيْنَه حَذِراتِ ) الشعر للنميري الثقفي والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق ويحيى المكي وعمرو بن بانة وذكر حبش أن فيه لعزة الميلاء لحنا من الثقيل الأول أخبرني محمد بن مزيد وأحمد بن جعفر جحظة قالا حدثنا حماد بن إسحاق قال وأخبرني الصولي قال حدثني عون بن محمد جميعا عن إسحاق عن أبيه قال رأيت يحيى بن خالد خارجا من قصره الذي عند باب الشماسية يريد قصره الذي بباب البردان وهو يتمثل صوت ( هَوىً بِتِهامةٍ وهوىً بنجدٍ ... فأبلتْني التَّهائِمُ والنُّجودُ ) قال أبي فزدته عليه ( أُقِيم بذا وأَذْكُر عهدَ هذا ... فَلِي ما بين ذَيْن هوىً جديدُ ) قال وصنعت فيه لحنا قال الصولي في خبره وهو من خفيف الثقيل ثم صرت إليه فغنيته إياه فأمر لي بألف دينار وبدابته التي كانت تحته يومئذ بسرجها ولجامها فقلت له جزاك الله من سيد خيرا فإنك تأتي الأنفس وهي شوارد فتقرها والأهواء وهي سقيمة فتصحها فأمر لي بألف دينار أخرى قال إبراهيم ثم ضرب الدهر من ضربه فبينا أنا أسير معه إذ لقيه العباس بن الأحنف وكان ساخطا عليه لشيء بلغه عنه فترجل له وأنشده صوت ( بالله يا غضبانُ إلاّ رَضِيْت ... أذاكرٌ للعهدِ أم قد نسِيتْ ) فقال بل ذاكر يا أبا الفضل فأضفت إلى هذا البيت ( لو كنتُ أبغي غيرَ ما تشتهي ... دعوتُ أن تُبْلَى كما قد بُلِيتْ ) وصنعت فيه لحنا قال الصولي في خبره هو ثقيل أول قال وغنيته به فأمر لي بألفي دينار وضحك فقلت من أي شيء تضحك يا سيدي لا زلت ضاحكا مسرورا فقال ذكرت ما جرى في الصوت الأول وأنه كان مع الجائزة دابة بسرجه ولجامه ولن تنصرف الليلة إلا على مثله فقمت فقبلت يده فأمر لي بألفي دينار آخرين وقال تلك الكرة شكرت على الجائزة بكلام فزدناك والآن شكرت بفعل أوجب الزيادة ولولا أني مضيق في هذا الوقت لضاعفتها ولكن الدهر بيننا مستأنف جديد حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي عن أبيه قال لما نزل الرشيد في طريقه إلى طوس بشبداز جلس يشرب عنده فكان إبراهيم الموصلي أول من غناه فابتدأ بهذا الصوت والشعر له صوت ( رأيتُ الدِّيَن والدُّنيا ... مُقيمَيْن بِشبْدازِ ) ( أقاما بين حَجّاجٍ ... وغازٍ أيِّما غازِ ) وهو من الثقيل الأول فأمر له بألف دينار ولم يستحسن الشعر وقال له يا إبراهيم صنعتك فيه أحسن من شعرك فخجل وقال يا سيدي شغل خاطري الغناء فقلت لوقتي ما حضرني فضحك الرشيد من قوله وقال له صدقت كان محبا للأشراف وكان شاعرا وخطيبا أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن حماد عن أبيه قال كان جدك محبا للأشراف كثير الأصدقاء منه حتى إن كان الرشيد ليقول كثيرا ما أعرف أحد أكثر أصدقاء من إبراهيم قال إسحاق وما سمعت أحسن غناء من أربعة أبي وحكم الوادي وفليح بن أبي العوراء وسياط فقلت له ما بلغ من حذقهم قال كانوا يصنعون فيحسنون ويؤدون غناء غيرهم فيحسنون فقلت فأيهم كان أحذق قال كانوا بمنزلة خطيب أو كاتب أو شاعر يحسن صناعته فإذا انتقل عنها إلى غيرها لم يبلغ منها ما يبلغ من صناعته وكان جدك كرجل مفوه إن خطب أجزل وإن كتب رسالة أحسن وإن قال شعرا أحسن ولم يكن فيهم مثله أخبرني الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد عن أبيه وأخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه وأخبرني إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبة جميعا عن إسحاق قال لم يكن الناس يعلمون الجارية الحسناء الغناء وإنما كانوا يعلمونه الصفر والسود وأول من علم الجواري المثمنات أبي فإنه بلغ بالقيان كل مبلغ ورفع من أقدارهن وفيه يقول أبو عيينة بن محمد بن أبي عيينة المهلبي وقد كان هوي جارية يقال لها أمان فأغلى بها مولاها السوم وجعل يرددها إلى إبراهيم وإسحاق ابنه فتأخذ عنهما فكلما زادت في الغناء زاد في سومه فقال أبو عيينة ( قلتُ لما رأيتُ مولَى أمانٍ ... قد طَغَى سومُه بها طُغْيانَا ) ( لا جَزَى الله المَوْصليّ أبا إسحاقَ ... عنّا خيراً ولا إحسانَا ) ( جاءنا مُرسَلاً بوَحْيٍ من الشّيطان ... أغَلَى به علينا القِيانا ) ( من عِناءٍ كأنه سَكَرات الحبّ ... يُصْبي القُلوبَ والآذانا ) وقال فيه ابن سيابة صوت ( ما لإبراهيمَ في العِلْم ... بهذا الشأن ثاني ) ( إنما عُمْر أبي إسحاق ... زَيْنٌ للزمان ) ( جَنّة الدُّنْيا أبو إسحاق ... في كلّ مكان ) ( فإذا غَنّى أبو إسحاق ... اجابتْه المَثَاني ) ( منه يُجْنَى ثَمَرُ اللهو ... وريحانُ الجِنَان ) لإبراهيم في هذا الشعر لحنان خفيف ثقيل بالبنصر وخفيف رمل بالوسطى عن عمرو والهشامي أخبرني عمي عن أحمد بن أبي طاهر عن أبي دعامة قال كان سلم الخاسر عند أبي العتاهية فأخبره سلم أن الرشيد حبس إبراهيم الموصلي في المطبق فأقبل عليه أبو العتاهية فقال ( سَلْمُ يا سَلْمُ ليس دونك سِترُ ... حُبِس المَوْصليُّ فالعيشُ مُرُّ ) ( ما استطابَ اللَّذاتِ مُذْ سَكَن الْمُطْبِقَ ... رأسُ اللّذات في الناس حُرّ ) ( تركَ الموصليُّ مَنْ خَلَق اللّهُ ... جميعا وعيشُهم مُقْشَعِر ) ( حُبِس اللهوُ والسرور فما في الأرض ... شيءٌ يُلْهَى به أو يَسُرُّ ) وأنشدني بعض أصحابنا عن ابن المرزبان عن أحمد بن أبي طاهر عن ابن أبي فنن لأبي العتاهية يخاطب إبراهيم الموصلي لما حبس ( أيا غَمِّي لغَمِّك يا خليلي ... ويا وَيْلي عليك ويا عَوِيلي ) ( يَعِزُّ عليّ أنّك لا تراني ... وأنّي لا أراكَ ولا رسولي ) ( وأنك في محلِّ أذًى وضَنْكٍ ... وليس إلى لقائكَ من سبيلِ ) ( وأني لستُ أملِك عنك دفعاً ... وقد فُوجئتَ بالخَطْب الجليل ) إبراهيم الموصلي وإبراهيم بن المهدي أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن عمر قال حدثني أبو توبة صالح بن محمد عن القطراني المغني عن محمد بن جبر وكان المهدي رباه قال حدثني إبراهيم بن المهدي قال انصرفت ليلة من الشماسية فمررت بدار إبراهيم الموصلي وإذا هو في روشن له وقد صنع لحنه ( ألاَ رُبّ نَدمانٍ عليّ دموعُه ... تَفِيضُ على الخدَّين سَحًّا سُجُومُها ) وهو يعيده ويلعب به بنغمه ويكرره لتستوي له أجزاءه وجواريه يضربن عليه فوقفت تحت الروشن حتى أخذتهم ثم انصرفت إلى منزلي فمازلت أعيده حتى بلغت فيه الغاية وأصبحت فغدوت إلى الشماسية واجتمعنا عند الرشيد فاندفع إبراهيم فغناه أول شيء غنى فلما سمعه الرشيد طرب واستحسنه وشرب عليه ثم قال له لمن هذا يا إبراهيم قال لي يا سيدي صنعته البارحة فقلت كذب يا أمير المؤمنين هذا الصوت قديم وأنا أغنيه فقال لي غنه يا حبيبي فغنيته كما غناه فبهت إبراهيم وغضب الرشيد وقال له يا ابن الفاجرة أتكذبني وتدعي ما ليس لك قال فظل إبراهيم بأسوأ حال فلما صليت العصر قلت للرشيد يا أمير المؤمنين الصوت وحياتك له وما كذب ولكني مررت به البارحة وهو يردده على جارية له فوقفت حتى دار لي واستوى فأخذته منه فدعا به الرشيد ورضي عنه وأمر له بخمسة آلاف دينار نسبة هذا الصوت صوت ( ألا رُبّ نَدْمانٍ عليّ دموعُه ... تَفِيضُ على الخَدَّين سَحًّا سُجومُها ) ( حَلِيمٌ إذا ما الكأسُ دارتْ وهَرَّها ... رجالٌ لديها قد تَخِفّ حُلومُها ) الغناء لإبراهيم رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبي عن طياب بن إبراهيم الموصلي قال كان إبراهيم بن المهدي يقدم ابن جامع ولا يفضل عليه أحدا فأخبرني إبراهيم بن المهدي قال كنا في مجلس الرشيد وقد غلب النبيذ على ابن جامع فغنى صوتا فأخطأ في أقسامه فالتفت إلي إبراهيم فقال قد خري قد خري أستاذك فيه وفهمت صدقه فيما قال قال فقلت له انتبه أيها الشيخ وأعد الصوت ففطن وأعاده وتحفظ فيه وأصاب فغضب إبراهيم وأقبل علي فقال ( أُعلَّمه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ ... فلمّا استَدّ ساعدُه رماني ) وتنكر لي وحلف ألا يكلمني فقلت للرشيد بعد أيام إن لي حاجة قال وما هي قلت تأمر إبراهيم الموصلي أن يرضى عني ويعود إلى ما كان عليه فقال ومن إبراهيم حتى يطلب رضاه فقلت يا أمير المؤمنين إن الذي أريده منه لا ينال إلا برضاه فقال قم إليه يا إبراهيم فقبل رأسه فقام إلي ليقبل رأسي فلما أكب علي قال تعود قلت لا قال قد رضيت عنك رضا صحيحا وعاد إلى ما كان عليه أخبرني أبو الحسن أحمد بن يحيى بن علي بن يحيى قال سمعت جدي عليا يحدث عن إسحاق قال قال أبي خرجت مع الرشيد إلى الحيرة فساعة نزل بها دعا بالغداء فتغدى ثم نام فاغتنمت قائلته فذهبت فركبت أدور في ظهر الحيرة فنظرت إلى بستان فقصدته فإذا على بابه شاب حسن الوجه فاستأذنته في الدخول فإذن لي فدخلت فإذا جنة من الجنان في أحسن تربة وأغزرها ماء فخرجت فقلت له لمن هذا البستان فقال لبعض الأشاعثة فقلت له أيباع فقال نعم وهو على سوم فقلت كم بلغ فقال أربعة عشر ألف دينار قلت وما يسمى هذا الموضع قال شمارى فقلت صوت ( جِنانَ شُمَارَى ليس مثلَك مَنظَرٌ ... لذِي رَمَدٍ أعيَا عليه طبيبُ ) ( تُرابُكِ كافورٌ ونَوْرُكِ زهرةٌ ... لها أَرَجٌ بعد الهُدُوِّ يطيب ) قال وحضرتني فيه صنعة حسنة فلما جلس الرشيد وأمر بالغناء غنيته إياه أول ما غنيت فقال ويلك وأين شمارى فأخبرته القصة فأمر لي بأربعة عشر ألف دينار وغمزني جعفر بن يحيى فقال خذ توقيعه بها إلي وتشاغل الرشيد عني فأعدت الصوت فقال ويلكم أعطوا هذا دنانيره فوثبت وقلت يا سيدي وقع لي بها إلى جعفر بن يحيى فقال أفعل ووقع لي بها إليه فلما حصل التوقيع عند جعفر أطلق لي المال وخمسة آلاف دينار من عنده فلما حصل المال عندي كان أحب إلي وأحسن في عيني من شمارى أخبرني جعفر بن قدامة قال أخبرني أبو العيناء قال خرج الفضل بن الربيع يوما من حضرة الرشيد ومعه رقعة فيها أربعة أبيات فقال إن أمير المؤمنين يأمر كل من حضر ممن يقول الشعر أن يجيزها وهي ( أَهْدَى الحبيبُ مع الجَنُوب سلامَه ... فاردُدْ إليه مع الشَّمَال سلامَا ) ( واعرِفْ بقلبك ما تَضَمَّن قلبُه ... وتَدَاولاَ بهواكما الأيّاما ) ( وإذا بكيتَ له فأَيْقِنْ أنه ... ستجود أَدْمُعه عليك رِهَاما ) ( فاحبِس دموعَك رحمةً لدموعه ... إن كنتَ تحفظُ أو تَحُوط ذِماما ) فلم يوجد من يجيزها فأمر إبراهيم فغنى فيها لحنا من خفيف الثقيل أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أبو العباس البصري قال حدثني عبد الله بن الفضل بن الربيع قال سمعت أبي يقول لما خرج الرشيد إلى الرقة أخرج معه إبراهيم الموصلي وكان به مشغوفا ففقده في بعض المنازل أياما وطلبه فلم يخبره أحد بقصته ثم أتاه فقال له ويحك ما خبرك وأين كانت غيبتك فقال يا أمير المؤمنين حديثي عجيب نزلنا بموضع كذا وكذا فوصف لي خمار من ظرفه ومن نظافة منزله كيت وكيت فتقدمت أمام ثقلي وأتيته مخفا فوافيت أطيب منزل وأوسع رحل وأطيب طعام وأسخى نفس من شاب حسن الوجه ظريف العشرة فأقمت عنده فلما أردت اللحاق بأمير المؤمنين أقسم علي وأخرج لي من الشراب ما هو أطيب وأجود مما رأيت فأقمت ثلاثا ووهبت له دنانير كانت معي وكسوة وقلت فيه صوت ( سَقْيًا لمنزل خَمّارٍ قَصَفْتُ به ... وَسْط الرُّصافة يوماً بعد يومينِ ) ( ما زلتُ أرهَنُ أثوابي وأَشْرَبُها ... صفراءَ قد عُتِّقتْ في الدَّنّ حَوْلين ) ( حتى إذا نَفِدت منّي بأجمعها ... عاودتُه بالرّبا دَنًّا بدَنَّين ) ( فقال إزَلْ بشِين حين ودَّعني ... وقد لَعَمْرُك زُلنا عنه بالشَّيْنِ ) الشعر والغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر قوله إزل بشين كلمة سريانية تفسيرها امض بسلام دعا له بها لما ودعه قال إبراهيم فقال لي الرشيد غني هذا الصوت فعنيته إياه وزمر عليه برصوما فوهب لي الرشيد مائة ألف درهم وأقطعني ضيعة وبعث إلى الخمار فأحضر وأهدى إلى الرشيد من ذلك الشراب فوصله ووهب له إبراهيم عشرة آلاف درهم إبراهيم الموصلي وابن جامع أخبرني الحسين بن يحيى ومحمد بن مزيد ووكيع قالوا جميعا حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال قال ابن جامع يوما لأبي رأيت في منامي كأني وإياك راكبان في محمل فسفلت حتى كدت تلصق بالأرض وعلا الشق الذي أنا فيه فلأعلونك في الغناء فقال إبراهيم الرؤيا حق والتأويل باطل إني وإياك كنا في ميزان فرجحت بك وشالت كفتك وعلوت فلصقت بالأرض فلأبقين بعدك ولتموتن قبلي قال إسحاق فكان كما قال أبي علا عليه وأفاد أكثر من فوائده ومات ابن جامع قبله وعاش أبي بعده أخبرني عبد الله بن الربيع الربيعي قال حدثتني خديجة بنت هارون بن عبد الله بن الربيع قالت حدثتني خمار جارية أبي وكانت قندهارية اشتراها جدي عبد الله وهي صبية ريض من آل يحيى بن معاذ بمائتي ألف درهم قالت ألقى علي إبراهيم الموصلي لحنه في هذين البيتين صوت ( إذا سَرّها أمرٌ وفيه مَساءتي ... قضيتُ لها فيما تريد على نفسِي ) ( وما مَرّ يومٌ أرتجي فيه راحةً ... فأذكُرَه إلاّ بكيتُ على أمسِ ) الشعر لأبي حفص الشطرنجي والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى فسمعني ابن جامع يوما وأنا أغنيه فسألني ممن أخذته فأخبرته فقال أعيديه فأعدته مرارا وما زال ابن جامع يتنغم به معي حتى ظننت أنه قد أخذه ثم كان كلما جاءنا قال لي يا صبية غني ذلك الصوت فكان صوته علي إبراهيم الموصلي ومخارق أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر بن شبة قال قال مخارق أذن لنا أمير المؤمنين الرشيد أن نقيم في منازلنا ثلاثة أيام وأعلمنا أنه مشتغل فيها مع الحرم فمضى الجلساء أجمعون إلى منازلهم وأخبرني وسواسة وهو أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي بهذا الخبر فقال حدثني أبي عن أبيه عن مخارق قال اشتغل الرشيد يوما واصطبح مع الحرم وقد أصبحت السماء متغيمة فانصرفنا إلى منازلنا ولم يذكر في الخبر ما ذكره عمر بن شبة مما قدمت ذكره واتفقا هاهنا في أكثر الحكايات واللفظ فأكثره لرواية ابن الموصلي قال مخارق وأصبحت السماء متغيمة تطش طشا خفيفا فقلت والله لأذهبن إلى أستاذي إبراهيم فأعرف خبره ثم أعود فأمرت من عندي أنا يسووا مجلسا لنا إلى وقت رجوعي فجئت إلى إبراهيم الموصلي فإذا الباب مفتوح والدهليز قد كنس والبواب قاعد فقلت ما خبر أستاذي فقال ادخل فدخلت فإذا هو جالس في رواق له وبين يديه قدور تغرغر وأباريق تزهر والستارة منصوبة والجواري خلفها وإذا قدامه طست فيه رطلية وكوز وكأس فدخلت أترنم ببعض الأصوات وقلت له ما بال الستارة لست أسمع من ورائها صوتا فقال اقعد ويحك إني أصبحت على الذي ظننت فأتاني خبر ضيعة تجاورني قد والله طلبتها زمانا وتمنيتها فلم أملكها وقد أعطي بها مائة ألف درهم فقلت وما يمنعك منها فوالله لقد أعطاك الله أضعاف هذا المال وأكثر قال صدقت ولكن لست أطيب نفسا أن أخرج هذا المال فقلت فمن يعطيك الساعة مائة ألف درهم والله ما أطمع في ذلك من الرشيد فكيف بمن دونه فقال اجلس خذ هذا الصوت ونقر بقضيب معه على الدواة وألقى علي صوت ( نام الخَلِيُّون من هَمِّ ومن سَقَمِ ... وبِتُّ من كَثْرة الأحزان لم أَنَمِ ) ( يا طالبَ الجود والمعروفِ مُجتهداً ... اعْمِدْ ليحني خليفِ الجود والكرم ) الشعر لأبي النضير والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالبنصر قال فأخذته فأحكمته ثم قال لي امض الساعة إلى باب الوزير يحيى بن خالد فإنك تجد الناس عليه وتجد الباب قد فتح ولم يجلس بعد فاستاذن عليه قبل أن يصل إليه أحد فإنه سينكر عليك مجيئك ويقول من أين أقبلت في هذا الوقت فحدثه بقصدك إياي وما ألقيت إليك من خبر الضيعة وأعلمه أني صنعت هذا الصوت وأعجبني ولم أر أحدا يستحقه إلا فلانة جاريته وأني ألقيته عليك حتى أحكمته لتطرحه عليها فسيدعو بها ويأمر بالستارة أن تنصب ويوضع له كرسي ويقول لك اطرحه عليها بحضرتي فافعل وأتني بالخبر بعد ذلك قال فجئت باب يحيى فوجدته كما وصف وسألني فأعلمته ما أمرني به ففعل كل شيء قاله لي إبراهيم وأحضر الجارية فألقيته عليها ثم قال لي تقيم عندنا يا أبا المهنأ أو تنصرف فقلت أنصرف أطال الله بقاءك فقد علمت ما أذن لنا فيه قال يا غلام احمل مع أبي المهنأ عشرة آلاف درهم واحمل إلى أبي إسحاق مائة ألف درهم ثمن هذه الضيعة فحملت العشرة الآلاف الدرهم إلي وأتيت منزلي فقلت أسر يومي هذا وأسر من عندي ومضى الرسول إليه بالمال فدخلت منزلي ونثرت على من عندي من الجواري دراهم من تلك البدرة وتوسدتها وأكلت وشربت وطربت وسررت يومي كله فلما أصبحت قلت والله لآتين أستاذي ولأعرفن خبره فأتيته فوجدت الباب كهيئته بالأمس ودخلت فوجدته على مثل ما كان عليه فترنمت وطربت فلم يتلق ذلك بما يجب فقلت له ما الخبر ألم يأتك المال قال بلى فما كان خبرك أنت بالأمس فأخبرته بما كان وهب لي وقلت ما ينتظر من خلف الستارة فقال ارفع السجف فرفعته فإذا عشر بدر فقلت وأي شيء بقي عليك في أمر الضيعة قال ويحك ما هو والله إلا أن دخلت منزلي حتى شححت عليها فصارت مثل ما حويت قديما فقلت سبحان الله العظيم فتصنع ماذا قال قم حتى ألقي عليك صوتا صنعته يفوق ذلك الصوت فقمت وجلست بين يديه فألقى علي صوت ( ويَفْرَح بالمولود من آل بَرْمَكٍ ... بُغاةُ النَّدَى والسيفُ والرمحُ ذو النصل ) ( وتَنْبسط الآمالُ فيه لفضله ... ولا سيما إن كان من وَلَدِ الفَضْل ) الشعر لأبي النضير والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي وذكر عمرو بن بانة أنه لإسحاق وهو الصحيح وفيه خفيف ثقيل أظنه لحن إبراهيم أخبرني إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبة عن إسحاق أن أباه صنع هذا الصوت في طريقه خفيف الثقيل وعرضه على الفضل فاستحسنه وأمر مخارقا بإلقائه على جواريه فألقاه فى مراقش وقضيب فأخذتاه عنه قال مخارق فلما ألقى علي الصوت سمعت ما لم أسمع مثله قط وصغر عندي الأول فأحكمته ثم قال انهض الساعة إلى الفضل بن يحيى فإنك تجده لم يأذن لأحد بعد وهو يريد الخلوة مع جواريه اليوم فاستأذن عليه وحدثه بحديثنا أمس وما كان من أبيه إلينا وإليك وأعلمه أني قد صنعت هذا الصوت وكان عندي أرفع منزلة من الصوت الذي صنعته بالأمس وأني ألقيته عليك حتى أحكمته ووجهت بك قاصدا لتلقيه على فلانة جاريته فصرت إلى باب الفضل فوجدت الأمر على ما ذكر فاستأذنت فوصلت وسألني ما الخبر فأعلمته بخبري في اليوم الماضي وما وصل إلي وإليه من المال فقال أخزى الله إبراهيم فما أبخله على نفسه ثم دعا خادما فقال اضرب الستارة فضربها فقال لي ألقه فلما غنيته لم أتمه حتى أقبل يجر مطرفه ثم قعد على وسادة دون الستارة وقال أحسن والله أستاذك وأحسنت أنت يا مخارق فلم أخرج حتى أخذته الجارية وأحكمته فسر بذلك سرورا شديدا وقال أقم عندي اليوم فقلت يا سيدي إنما بقي لنا يوم واحد ولولا أني أحب سرورك لم أخرج من منزلي فقال يا غلام احمل مع أبي المهنأ عشرين ألف درهم واحمل إلى إبراهيم مائتي ألف درهم فانصرفت إلى منزلي بالمال ففتحت بدرة فنثرت منها على الجواري وشربت وسررت أنا ومن عندي يومنا فلما أصبحت بكرت إلى إبراهيم أتعرف خبره وأعرفه خبري فوجدته على الحال التي كان عليها أولا وآخرا فدخلت أترنم وأصفق فقال لي ادن فقلت ما بقي فقال اجلس وارفع سجف هذا الباب فإذا عشرون بدرة مع تلك العشر فقلت ما تنتظر الآن فقال ويحك ما هو والله إلا أن حصلت حتى جرت مجرى ما تقدم فقلت والله ما أظن أحدا نال في هذه الدولة ما نلته فلم تبخل على نفسك بشيء تمنيته دهرا وقد ملكك الله أضعافه ثم قال اجلس فخذ هذا الصوت وألقى علي صوتا أنساني والله صوتي الأولين صوت ( أفي كلّ يومٍ أنتَ صبُّ وليلةٍ ... إلى أمّ بكرٍ لا تُفيق فَتُقْصِرُ ) ( أُحِبّ على الهِجران أكنافَ بيتها ... فيا لَكَ من بيتٍ يُحَبّ ويُهْجَرُ ) ( إلى جعفرٍ سارت بنا كلُّ جَسْرةٍ ... طَواهَا ثُراها نحوَه والتهجُّر ) ( إلى واسعٍ للمُجْتَدين فِناؤه ... تَروح عطاياه عليهم وتَبْكُر ) الشعر لمروان بن أبي حفصة يمدح به جعفر بن يحيى والغناء لإبراهيم ولم تقع إلينا طريقته قال مخارق ثم قال لي إبراهيم هل سمعت مثل هذا فقلت ما سمعت قط مثله فلم يزل يردده علي حتى أخذته ثم قال لي امض إلى جعفر فافعل به كما فعلت بأخيه وأبيه قال فمضيت ففعلت مثل ذلك وخبرته ما كان منهما وعرضت عليه الصوت فسر به ودعا خادما فأمره بضرب الستارة وأحضر الجارية وقعد على كرسي ثم قال هات يا مخارق فاندفعت فألقيت الصوت عليها حتى أخذته فقال أحسنت والله يا مخارق وأحسن أستاذك فهل لك في المقام عندنا اليوم فقلت يا سيدي هذا آخر أيامنا وإنما جئت لموقع الصوت مني حتى ألقيته على الجارية فقال يا غلام احمل معه ثلاثين ألف درهم وإلى الموصلي ثلاثمائة ألف درهم فصرت إلى منزلي بالمال فأقمت ومن معي مسرورين نشرب بقية يومنا ونطرب ثم بكرت إلى إبراهيم فتلقاني قائما وقال لي أحسنت يا مخارق فقلت ما الخبر فقال اجلس فجلست فقال لمن خلف الستارة خذوا فيما أنتم فيه ثم رفع السجف فإذا المال فقلت ما خبر الضيعة فأدخل يده تحت مسورة هو متكئ عليها فقال هذا صك الضيعة سئل عن صاحبها فوجد ببغداد فاشتراها منه يحيى بن خالد وكتب إلي قد علمت أنك لا تسخو نفسا بشراء الضيعة من مال يحصل لك ولو حيزت لك الدنيا كلها وقد ابتعتها لك من مالي ووجهت لك بصكها ووجه إلي بصكها وهذا المال كما ترى ثم بكى وقال لي يا مخارق إذا عاشرت فعاشر مثل هؤلاء وإذا خنكرت فخنكر لمثل هؤلاء هذه ستمائة ألف وضيعة بمائة ألف وستون ألف درهم لك حصلنا ذلك اجمع وأنا جالس في مجلسي لم أبرح منه فمتى يدرك مثل هؤلاء إبراهيم الموصلي وموسى الهادي أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني أبي عن إسحاق قال كان موسى الهادي شكس الأخلاق صعب المزاج من توقاه وعرف أخلاقه أعطاه ما أمل ومن فتح فاه فاتفق له أن يفتحه بغير ما يهواه أقصاه وأطرحه فكان لا يحتجب عن ندمائه ولا عن المغنين وكان يكثر جوائزهم وصلاتهم ويواترها فتغنى أبي عنده يوما فقال له يا إبراهيم غنني جنسا من الغناء ألذ به وأطرب له ولك حكمك فقال يا أمير المؤمنين إن لم يقابلني زحل ببرده رجوت أن أصيب ما في نفسك قال وكنت لا أراه يصغي إلى شيء من الأغاني إصغاءه إلى النسيب والرقيق منه وكان مذهب ابن سريج عنده أحمد من مذهب معبد فغنيته ( وإنّي لتَعْروني لِذكراكِ هزّةٌ ... كما انتفض العصفورُ بلّله القَطْرُ ) فضرب بيده إلى جيب دراعته فحطها ذراعا ثم قال أحسنت والله زدني فغنيت ( فيا حُبَّها زدني جَوىً كلَّ ليلةٍ ... ويا سَلوةَ الأيّام موعدُكِ الحشرُ ) فضرب بيده إلى دراعته فحطها ذراعا آخر أو نحوه وقال زدني ويلك أحسنت والله ووجب حكمك يا إبراهيم فغنيت ( هجرتُكِ حتى قِيل لا يعرِف الهَوى ... وزُرتُكِ حتى قيل ليس له صَبْرُ ) فرفع صوته وقال أحسنت لله أبوك هات ما تريد قلت يا سيدي عين مروان بالمدينة فدارت عيناه في رأسه حتى صارتا كأنهما جمرتان وقال يابن اللخناء أردت أن تشهرني بهذا المجلس فيقول الناس أطربه فحكمه فتجعلني سمرا وحديثا يا إبراهيم الحراني خذ بيد هذا الجاهل إذا قمت فأدخله في بيت مال الخاصة فإن أخذ كل ما فيه فخله وإياه فدخلت فأخذت خمسين ألف دينار نسبة هذا الصوت صوت ( عَجِبتُ لسعيِ الدّهرِ بيني وبينها ... فلما انقضَى ما بيننا سَكَن الدهرُ ) ( فيا حُبَّها زِدْنِي جَوىً كلَّ ليلة ... ويا سَلْوةَ الأيّامِ موعدُك الحَشْر ) ( ويا هجر ليلى قد بلغتَ بي المَدَى ... وزِدْتَ على ما ليس يبلغُه الهجر ) ( وإني لتَعْروني لذكراكِ هِزّةٌ ... كما انتفض العصفور بلَّلَة القَطر ( هجرتُكِ حتى قيل لا يَعرف الهوى ... وزُرْتُكِ حتى قيل ليس له صبر ) ( أمَا والذي أَبْكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمْرُه أَمْر ) ( لقد تركتني أحسدُ الوحشَ أَنْ أرى ... أَلِيفَيْن منها لا يروعهما الذُّعر ) الشعر لأبي صخر الهذلي والغناء لمعبد وأول لحنه يا هجر ليلى وبعده الثاني ثم الأول من الأبيات ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو ولابن سريج في السادس والسابع والرابع والخامس ثقيل أول عن الهشامي ولعريب في السادس والسابع والرابع والخامس ثقيل أول أيضا وللواثق فيها رمل وهو مما صنعه الواثق قبلها فعارضته بلحنها وقد نسب قوم لحن معبد إلى ابن سريج ولحن ابن سريج إلى معبد أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال اشترى جدك إبراهيم لجعفر بن يحيى جارية مغنية بمال عظيم فقال جعفر أي شيء تحسن هذه الجارية حتى بلغت بها هذا المال كله قال لو لم تحسن شيئا إلا أنها تحكي قولي ( لِمَنِ الدّيارُ بُبرْقَة الرَّوْحَان ... ) لكانت تساويه وزيادة فضحك جعفر وقال أفرطت نسبة هذا الصوت صوت ( لمن الديارُ بُبرْقَة الرَّوْحَانِ ... إذ لا نبيعُ زمانَنا بزمانِ ) ( صدَع الغواني إذ رَمَيْن فؤادَه ... صَدْعَ الزُّجاجة ما لذاك تَدَان ) ( إن زرتُ أهلَكِ لم أُنَوَّلْ حاجةً ... وإذا هجرتك شَفَّني هِجْراني ) الغناء لمعبد فيما ذكره الهشامي وأحمد بن المكي ثقيل أول بالوسطى ونسبه غيرهما إلى حنين وقال آخرون إنه للغريض وذكر حبش أنه ليزيد حوراء وفيه لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر أخبرني الحسين عن حماد قال قال لي أبي صنع جدك تسعمائة صوت منها دينارية ومنها درهمية ومنهما فلسية وما رأيت أكثر من صنعة فأما ثلاثمائة منها فإنه تقدم الناس جميعا فيها وأما ثلاثمائة فشاركوه وشاركهم فيها وأما الثلاثمائة الباقية فلعب وطرب قال ثم أسقط أبي الثلاثمائة الآخرة بعد ذلك من غناء أبيه فكان إذا سئل عن صنعته أبيه قال هي ستمائة صوت وقال أحمد بن حمدون قال لي إسحاق من غناء أبي الذي أكرهه واستزريه صوته في شعر العباس بن الأحنف ( أَبْكِي ومثلي بكى من حُبّ جاريةٍ ... ) فما أعلم له فيه معنى إلا استحسانه للشعر فإن العباس أحسن فيه جدا نسبة هذا الصوت صوت ( أبكي ومثلي بكى من حُبّ جاريةٍ ... لم يَخلُقِ الله لي في قلبها لِينَا ) ( هل تذكرين وُقُوفي عند بابُكم ... نصفَ النهار وأهلُ الدار لاهُونا ) الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى أخبرني جحظة قال أخبرني حماد بن إسحاق قال قال رجل لأبي أخبرني عنك لم طعنت على أبيك في صنعته ( قال لي فيها عَتِيقٌ مقالاً ... فجرتْ مما يقول الدموعُ ) قال لأنه تعرض لابن عائشة وله في هذا الشعر صنعة وابن عائشة ممن لا يعارض فلم يقاربه وعلى أن صنعة أبي من جيد الغناء لو كان صنعها في غير هذا الشعر ولكنها اقترنت بصنعة ابن عائشة فلم تقاربها فسقط عندي لذلك نسبة هذا الصوت صوت ( قال لي فيها عَتِيقٌ مقالاً ... فَجرتْ ممّا يقول الدموعُ ) ( قال لي وَدِّعْ سُلَيمى ودَعْها ... فأجاب القلبُ لا أستطيع ) الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وقيل إنه لابن عائشة وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى الهذلي وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى ابن عائشة وإلى إبراهيم أخبرني الحسن بن علي قال أخبرني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق عن أبيه قال دخلت الري فكنت آلف فتيانا من أهل النعم بها وهم لا يعرفونني فطال ذلك علي إلى أن دعاني أحدهم ليلة إلى منزله فبت عنده فأخرج جارية له ومد لها ستارة فتغنت خلفها فرأيتها صالحة الأداء كثيرة الرواية فشوقتني إلى العراق وذكرتني أيامي بها فدعوت بعود فلما جيء به اندفعت فغنيت صوتي في شعري ( أنا بالرَّيّ مُقيم ... في قُرَى الرَّيّ أَهِيمُ ) وقد كنت صنعت هذا اللحن قديما بالري فخرجت الجارية من وراء الستارة مبادرة إلي فأكبت على رأسي وقالت أستاذي والله فقال لها مولاها أي أستاذيك هذا قالت إبراهيم الموصلي فإذا هي إحدى الجواري اللاتي أخذن عني وطال العهد بها فأكرمني مولاها وبرني وخلع علي فأقمت مدة بعد ذلك بالري وانتشر خبري بها ثم كتب بحملي إلى والي البلد فأشخصت المهدي يرق له ويطلقه من الحبس أخبرني الحسن قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة صالح بن محمد قال حدثني القطراني عن محمد بن جبر عن يحيى المكي قال كنا يوما بين يدي المهدي وقد حبس إبراهيم الموصلي وضربه وأمر بأن يلبس جبة صوف وكان يخرج على تلك الحال فيطرح على الجواري فكتب إلينا ذات يوم ونحن مصطبحون وقد جادت السماء بمطر صيف وبحضرتنا شيء من ورد مبكر ( ألاَ مَن مُبْلغٌ قوماً ... مِنِ اخواني وجيراني ) ( هنيئاً لكم الشُّربُ ... على وَرْدٍ وتَهْتان ) ( وأنّي مُفْرَدٌ وحدي ... بأشجاني وأحزاني ) ( فمَن جَفّ له جفنٌ ... فَجفْناي يَسيلان ) قال فوقف المهدي على رقعته وقرأها فرق له وأمر بطلبه في الوقت ثم أطلقه بعد بأيام أخبرني الحسن قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني ابن المكي عن أبيه قال كانت لعلي اليماني جارية مغنية فهويها إبراهيم واستهيم بها زمانا وقال فيها صوت ( كنتُ حُرًّا فصرتُ عبدَ اليماني ... من هوَى شادنٍ هواه بَرَاني ) ( وهو نِصْفان من قضيبٍ ودِعْصٍ ... زانَ صدرَ القضيب رُمّانتان ) اللحن لإبراهيم في هذين البيتين ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو وقد زعم قوم أن الشعر للحسين بن الضحاك أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق قال كان بعض أهل نهيك قد تعاطى الغناء فلما ظن أنه قد أحكمه شاورني وأبي حاضر فقلت له إن قبلت مني فلا تغن فلست فيه كما أرضى فصاح أبي علي صيحة شديدة ثم قال لي وما يدريك يا صبي ثم أقبل على الرجل فقال أنت يا حبيبي بضد ما قال وإن لزمت الصناعة برعت فيها فلما خلا بي قال لي يا أحمق ما عليك أن يخزي الله مائة ألف مثل هذا هؤلاء أغنياء ملوك وهم يعيروننا بالغناء فدعهم يتهتكوا به ويعيروا ويفتضحوا ويحتاجوا إلينا فننتفع بهم ويبين فضلنا لدى الناس بأمثالهم قال ولزمه النهيكي يأخذ عنه ويبره فيجزل فكان إذا غنى فأحسن قال له بارك الله فيك وإذا أساء قال بارك الله عليك وكثر ذلك منه حتى عرف النهيكي معناه فيه فغنى يوما وأبي ساه فسكت ولم يقل له شيئا فقال له جعلت فداك يا أستاذي أهذا الصوت من أصوات فيك أم عليك فضحك أبي ولم يكن علم أنه قد فطن لقوله ثم قال له والله لأقبلن عليك حتى تصير كما تشتهي فأنك ظريف أديب وعني به حتى حسن غناؤه وتقدم وفيه يقول أبي ( أوجب الله لك الحقَّ ... على مثلي بظَرْفِكْ ) ( لن تراني بعد هذا ... ناطقاً إلاّ بوصفك ) ( وترى القوّةَ فيما ... تَشتهيه بعد ضعفك ) إبراهيم الحاذق العالم بالغناء وأصوله أخبرني إسماعيل قال حدثني عمر بن شبة عن إسحاق أخبرني به الصولي عن عون بن محمد عن إسحاق قال غنى مخارق بين يدي الرشيد صوتا فأخطأ في قسمته فقلت له أعد فأعاده وكان الخطأ خفيا فقلت للرشيد يا سيدي قد أخطأ فيه فقال لإبراهيم بن المهدي ما تقول فيما ذكره إسحاق قال ليس الأمر كما قال ولا هاهنا خطأ فقلت له أترضى بأبي قال إي والله وكان أبي في بقايا علة فأمر الرشيد بإحضاره ولو محمولا فجيء به محفة فقال لمخارق أعد الصوت فأعاده فقال ما عندك يا إبراهيم في هذا الصوت فقال قد أخطأ فيه فقال له هكذا قال ابنك إسحاق وذكر أخي إبراهيم أنه صحيح فنظر إلي ثم قال هاتوا دواة فأتي بها وكتب شيئا لم يقف عليه أحد ثم قطعه ووضعه بين يدي الرشيد وقال لي اكتب بذكر الموضع الفاسد من قسمة هذا الصوت فكتبته وألقيته فقرأه وسر وقام فألقاه بين يدي الرشيد فإذا الذي قلناه جميعا متفق فضحك وعجب ولم يبق أحد في المجلس إلا قرظ وأثنى ووصف ولا أحد خالف إلا خجل وذل وأذعن وقال أبي في ذلك ( ليت من لا يُحسن العلمَ ... كفانا شَرَّ عِلْمِهْ ) ( فاخْبُرِ الحقَّ ابتداءً ... وقِسِ العلمَ بفهمه ) ( طيِّبُ الرَّيْحان لا تعرفه ... إلا بشَمّه ) حدثني جحظة قال حدثني هبة الله وحدثني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال غنى أبي يوما بحضرة الرشيد ( سَلِي هل قَلاَنِي من عَشيرٍ صَحِبتُه ... وهل ذمّ رَحْلي في الرِّفاق رفيقُ ) فطرب واستعاده وأمر له بعشرين ألف درهم فلما كان بعد سنين خطر ببالي ذلك الصوت وذكرت قصته فغنيته إياه فطرب وشرب ثم قال لي يا إسحاق كأني في نفسك ذكرت حديث أبيك وأني أعطيته ألف دينار على هذا الصوت فطمعت في الجائزة فضحكت ثم قلت والله يا سيدي ما أخطأت فقال قد أخذ ثمنه أبوك مرة فلا تطمع فعجبت من قوله ثم قلت يا سيدي قد أخذ أبي منك أكثر من مائتي ألف دينار ما رأيتك ذكرت منها غير هذا الألف على بختي أنا فقال ويحك أكثر من مائتي ألف دينار قلت إي والله فوجم وقال أستغفر الله من ذلك ويحك فما الذي خلف منها قلت خلف علي ديونا مبلغها خمسة آلاف دينار قضيتها عنه فقال ما أدري أينا أشد تضييعا والله المستعان نسبة هذا الصوت صوت ( سَلِي هل قلاني مِنْ عَشيرٍ صَحِبتُه ... وهل ذَمّ رَحْلي في الرِّفاق رفيقُ ) ( وهل يَجْتوِي القومُ الكرامُ صَحابتي ... إذا اغبّر مَخْشِيُّ الفِجَاج عَميقُ ) ( ولو تَعلمين الغيبَ أيقنتِ أنّني ... لكُم والهَدايا المُشْعَراتِ صديقُ ) الشعر ينسب إلى مضرس بن قرط الهلالي وإلى قيس بن ذريح وفيه بيت يقال إنه لجرير والغناء مختلط في أشعار الثلاثة المذكورين ونسبته تأتي في أخبار قيس بن ذريح إلا أن الغناء في هذه الثلاثة الأبيات لمعبد ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق كان يحفظ حتى صوت القطط أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثتني نشوة الأشنانية قالت أخبرني أبو عثمان يحيى المكي قال تشوق يوما إبراهيم الموصلي إلى سرداب له وكانت فيه بركة ماء تدخل من موضع إليه وتخرج إلى بستان فقال أشتهي أن أشرب يومي وأبيت ليلتي في هذا السرداب ففعل ذلك فبينا هو نائم في نصف الليل فإذا سنورتان قد نزلتا من درجة السرداب بيضاء وسوداء فقالت إحداهما أتراه نائما فقالت السوداء هو نائم فاندفعت السوداء فغنت بأحسن صوت ( عَفَا مُزْج إلى لَصَقٍ ... إلى الهَضَبات من هَكِر ) ( إلى قاع النَّقِير إلى ... قرار جِلاَل ذي حَدَر ) قال فمات إبراهيم فرحا وقال يا ليتهما أعاداه فأعاداه مرارا حتى أخذه ثم تحرك فقامت السنورتان وسمع إحداهما تقول للأخرى والله لا طرحه على أحد إلا جن فطرحه من غد على جارية له فجنت نسبة هذا الصوت الغناء فيه لمالك ثقيل أول بالوسطى عن يحيى المكي وعمرو بن بانة أخبرني الحسن بن علي وعمي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني أبو محمد إسحاق بن إبراهيم عن أبيه قال أتيت الفضل بن يحيى يوما فقلت له يا أبا العباس جعلت فداك هب لي دراهم فإن الخليفة قد حبس يده فقال ويحك يا أبا إسحاق ما عندي مال أرضاه لك ثم قال هاه إلا أن ها هنا خصلة أتانا رسول صاحب اليمن فقضينا حوائجه ووجه إلينا بخمسين ألف دينار يشتري لنا بها محبتنا فما فعلت ضياء جاريتك قلت عندي جعلت فداك قال فهو ذا أقول لهم يشترونها منك لا تنقصها من خمسين ألف دينار فقبلت رأسه ثم انصرفت فبكر علي رسول صاحب اليمن ومعه صديق لي فقال جاريتك فلانه عندك فقلت عندي فقال اعرضها علي فأخرجتها قال بكم قلت بخمسين ألف دينار ولا أنقص منها دينارا واحدا وقد أعطاني بها الفضل بن يحيى أمس هذه العطية فقال لي أريدها له فقلت له أنت أعلم إذا اشتريتها فصيرها لمن شئت فقال لي هل لك في ثلاثين ألف دينار مسلمة لك قال وكان شراء الجارية على أربعمائة دينار فلما وقع في أذني ذكر ثلاثين ألف أرتج علي ولحقني زمع وأشار علي صديقي الذي معه بالبيع وخفت والله أن يحدث بالجارية حدث أو بي أو بالفضل بن يحيى فسلمتها وأخذت المال ثم بكرت على الفضل بن يحيى فإذا هو جالس وحده فلما نظر إلي ضحك ثم قال لي يا ضيق الحوصلة حرمت نفسك عشرين ألف دينار فقلت له جعلت فداك دع ذا عنك فوالله لقد دخلني شيء أعجز عن وصفه وخفت أن تحدث بي حادثة أو بالجارية أو بالمشتري أو بك أعاذك الله من كل سوء فبادرت بقبول الثلاثين ألف دينار فقال لا ضير يا غلام جئ بالجارية فجاء بجاريتي بعينها فقال خذها مباركا لك فيها فإنما أردنا منفعتك ولم نرد الجارية فلما نهضت قال لي مكانك إن صاحب إرمينية قد جاءنا فقضينا حوائجه ونفذنا كتبه وذكر أنه قد جاءنا بثلاثين ألف دينار يشتري لنا بها ما نحب فاعرض عليه جاريتك هذه ولا تنقصها من ثلاثين ألف دينار فانصرفت بالجارية وبكر إلي رسول صاحب إرمينية ومعه صديق لي آخر فقاولني بالجارية فقلت لست أنقصها من ثلاثين ألف دينار فقال لي معي على الباب عشرون ألف دينار تأخذها مسلمة بارك الله لك فيها فدخلني والله مثل الذي دخلني في المرة الأولى وخفت مثل خوفي الأول فسلمتها وأخذت المال وبكرت على الفضل بن يحيى فإذا هو وحده فلما رأني ضحك وضرب برجله الأرض وقال ويحك حرمت نفسك عشرة آلاف دينار فقلت أصلحك الله خفت والله ما خفت في المرة الأولى قال لا ضير أخرج يا غلام جاريته فجاء بجاريتي بعينها فقال خذها ما أردناها ولا أردنا إلا منفعتك فلما ولت الجارية صحت بها ارجعي فرجعت فقلت أشهدك جعلت فداك أنها حرة لوجه الله وأني قد تزوجتها على عشرة آلاف درهم كسبت لي في يومين خمسين ألف دينار فما جزاؤها إلا هذا فقال وفقت إن شاء الله أخبرني الحسن بن علي قال أخبرني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق قال قال لي أبي كنت في شبابي ألازم أصحاب قطربل وباري وبنى وما أشبه هذه المنازل فأتخذ فيهم الخمار اللطيف يحسبوني بالشراب الجيد ويخبؤه لي فجئت إلى باري يوما فلقيني خماري فقال لي يا أبا إسحاق عندي شيء من بابتك وقد كنت عملت لحني هذا صوت ( اشرَبِ الرَّاح وكُنْ في ... شُرْبك الرّاحَ وَقُورَا ) ( فاشربِ الرّاح رَوَاحاً ... وظلاماً وبُكورا ) الشعر والغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى وفيه لمنصور زلزل الضارب خفيف رمل عن حبش قال فدخلت بيته وبزلت دنه وجعلت أرجع الصوت فبهت ينظر إلي والنبيذ يجري حتى امتلأ الإناء وفاض فقلت له ويحك شرابك قد فاض فقال دعني من شرابي بالله مات لك إنسان في هذه الأيام فقلت لا قال فما بال حلقك هذا حزينا أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني حماد بن إسحاق عن عمه طيات بن إبراهيم قال دخلت على أبي يوما وعنده مخارق وأبي يلقي عليه هذا الصوت صوت ( طَرِبتَ وأنت مَعْنِيُّ كئيبُ ... وقد يَشتاق ذو الحَزَنِ الغريبُ ) ( وشاقَك بالمُوَقَّر أهلُ خاخٍ ... فلا أَمَمٌ هناكَ ولا قريبُ ) ( وكم لك دونها من عُرض أرضٍ ... كأنّ سَرَابَها الجاري سَبيب ) ( لَعَمْرُك إنّني برَقِيم قَيْس ... وجارةِ أهلِها لأنا الحَرِيبُ ) الشعر للأحوص والغناء لإبراهيم ماخوري بالبنصر عن عمرو قال فلما أخذه مخارق جعل أبي يبكي ثم قال له يا مخارق نعم وسيلة إبليس أنت في الأرض أنت والله بعدي صاحب اللواء في هذا الشأن تفاخر مع ابنه في الغناء فحكم له أخبرني الحسن بن علي وعمي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال لما صنع أبي لحنه في ( ليتَ هنداً أنجزتنا ما تَعِدْ ... وشَفَتْ أنفُسَنا مما تَجِدْ ) خاصمته وعبته في صنعته وقلت له أما بإزائك من ينتقد أنفاسك ويعيب محاسنك وأنت لا تفكر تجيء إلى صوت قد عمل فيه ابن سريج لحنا فتعارضه بلحن لا يقاربه والشعر أوسع من ذلك فدع ما قد اعتورته صناعة القدماء وخذ في غيره فغضب وكنت لا أزال أفاخره بصنعتي وأعيب ما يعاب من صنعته فإن قبل مني فذلك وإن غضب درايته وترضيته فقال لي ما يعلم الله أني أدعك أو تفاخرني بخير صوت صنعته في الثقيل الثاني في طريقة هذا الصوت فلما رأيت الجد منه اخترت صنعتي في هذا اللحن ( قل لمَنْ صَدّ عاتبَا ... ونأى عنك جانِبَا ) ( قد بلغتَ الذي أردْتَ ... وإن كنتَ لاعبا ) وكان ما تجاريناه ونحن نتساير خارجين إلى الصحراء نقطع فضلة خمار بنا فقال من تحب أن يحكم بيني وبينك فقلت من ترى أن يحكم هاهنا قال أول من يطلع علينا أغنيه لحني وتغنيه لحنك فطمعت فيه وقلت نعم فأقبل شيخ نبطي يحمل شوكا على حمار له فأقبل عليه أبي فقال إني وصاحبي هذا قد تراضينا بك في شيء قال وأي شيء هو فقلنا زعم كل واحد منا أنه أحسن غناء من صاحبه فتسمع مني ومنه وتحكم فقال على اسم الله فبدأ أبي فغنى لحنه وتبعته فغنيت لحني فلما فرغت أقبل علي فقال لي قد حكمت عليك عافاك الله ومضى فلطمني أبي لطمة ما مر بي مثلها منه قط وسكت فما أعدت عليه حرفا ولا راجعته بعد ذلك في هذا المعنى حتى افترقنا نسبة هذين الصوتين صوت ( ليت هنداً أنْجزتْنا ما تَعِدْ ... وشَفَتْ أنفُسَنا ممّا تَجِدْ ) ( واستبدّتْ مرّةً واحدةً ... إنما العاجز من لا يَسْتَبِدّ ) ( زعموها سألتْ جاراتها ... ذاتَ يومٍ وتعرّتْ تَبْتَرِد ) ( أَكَمَا يَنْعَتُنِي تُبْصِرْنَنِي ... عَمْرَكُنّ الله أم لا يقتصِدْ ) ( فتضاحَكْن وقد قُلْن لها ... حسَنٌ في كلِّ عينٍ من تَوَدّ ) ( حسداً حُمِّلَنه من أجْلِها ... وقَديماً كان في الناس الحَسد ) الشعر لعمر بن أبي ربيعة ولحن إبراهيم فيه ثاني ثقيل بالوسطى وفيه لابن سريج رمل بالخنصر في مجرى البنصر وفيه لمالك خفيف ثقيل بالخنصر والبنصر عن يحيى المكي وذكره إسحاق في هذه الطريقة ولم ينسبه إلى أحد وقال الهشامي أدل شيء على أنه لمالك شبهه للحنه ( اسْلَمِي يا دارُ مِن هندِ ... ) وفيه لمتيم ثقيل أول وأما لحن إسحاق الذي فاخر به صنعة أبيه فقد كتب شعره والصنعة فيه وهما جميعا لإسحاق ولحنه ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو في أخبار إسحاق وذكر أحمد بن أبي طاهر أن حماد بن إسحاق حدثه عن أبيه قال كان الرشيد قد وجد على منصور زلزل لشيء بلغه عنه فحبسه عشر سنين أو نحوها فقام الرشيد يوما لحاجته فجعل إبراهيم يغني صوتا صنعه في شعر كان قاله في حبس زلزل وهو ( هل دهرُنا بك راجعٌ يا زَلْزَلُ ... أيّام يَبْغِينا العدوُّ المبطِلُ ) ( أيامَ أنت من المَكاره آمِنٌ ... والخيرُ مُتَّسِع علينا مُقْبِلُ ) ( يا بؤسَ مَنْ فقَد الإِمَامَ وقُرْبَه ... ماذا به من ذِلَّة لو يَعْقِل ) ( ما زلتُ بعدك في الهموم مُرَدَّداً ... أبكي بأربعةٍ كأنّي مُثْكِلُ ) الشعر والغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو قال ودخل الرشيد وهو في ذلك فجلس في مجلسه ثم قال يا إبراهيم أي شيء كنت تقول فقال خيرا يا سيدي فقال هاته فتلكأ فغضب الرشيد وقال هاته فلا مكروه عليك فرد الغناء فقال له أتحب أن تراه فقال وهل ينشر أهل القبور فقال هاتوا زلزلا فجاؤوا به وقد ابيض رأسه ولحيته فسر به إبراهيم وأمره فجلس وأمر إبراهيم فغنى وضرب عليه فزلزلا الدنيا وشرب الرشيد على ذلك رطلا وأمر بإطلاق زلزل وأسنى جائزتهما ورضي عنه وصرفه إلى منزله قال وزلزل أول من أحدث هذه العيدان الشبابيط وكانت قديما على عمل عيدان الفرس فجاءت عجبا من العجب قال وكانت أخت زلزل تحت إبراهيم وقد ولدت منه تعلم أول غناء من مجنون أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال أول من تعلمت منه الغناء مجنون كان إذا صيح به يا مضر يهيج ويرجم فبلغني أنه يغني أصواتا فيجيدها أخذها عن قدماء أهل الحجاز فكنت أدخله إلي فأطعمه وأسقيه وأخدعه حتى آخذ عنه وكان حاذقا فأول صوت أخذته عنه ( أَرْسِلي بالسّلام يا سَلْم إنِّي ... منذُ عُلِّقْتُكم غنيُّ فقيرُ ) ( فالغِنَى إن ملكتُ أمرَكِ والفقرُ ... بأنّي أزورُ من لا يزور ) ( وَيْحَ نفسي تسلو النفوسُ ونفسي ... في هَوى الرِّيم ذكرُها ما يَحُور ) ( مَنْ لنفسٍ تَتُوق أنتِ هواها ... وفؤادٍ يكاد فيكِ يطير ) ثم مكثت زمانا آخذ عنه وكان إذا عاد إليه عقله من أحذق الناس وأقومهم على ما يؤديه ثم غاب عني فما أعرف خبره وهذا الشعر للوليد بن يزيد والغناء ليونس خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر غيره أنه لعمر الوادي وفيه لوجه القرعة ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده قال خرجت مع الرشيد إلى الشأم لما غزا فدعاني يوما فدخلت إليه إلى مجلس لم أر أحسن منه مفروش بأنواع الرخام فأكل وأمرني فأكلت معه وجعلت أتولى خدمته إلى العصر ثم دعا بالنبيذ فشرب وسقاني معه ثم خلع علي خلعة وشي من ثيابه وأمر لي بألف دينار ثم قال انظر يا إبراهيم كم من يد أوليتك إياها اليوم نادمتني مفردا وآكلتني وخلعت عليك ثيابي من بدني ووصلتك وأجلستك في إيوان مسلمة بن عبد الملك تشرب معي فقلت يا سيدي ما ذهب علي شيء من تفضلك وإن نعمك عندي لأكثر من أن تحصى وقبلت رجله والأرض بين يديه إبراهيم الموصلي أول من غنى الرشيد بعد توليه الخلافة أخبرني الحسن بن علي حدثنا أحمد بن زهير قال قال دعبل بن علي لما ولي الرشيد الخلافة وجلس للشرب بعد فراغه من إحكام الأمور ودخل عليه المغنون كان أول من غناه إبراهيم الموصلي بشعره فيه وهو صوت ( إذا ظُلَمُ البلادِ تَجَلَّلْتنا ... فهارونُ الإِمامُ لها ضِياءُ ) ( بهارونَ استقام العدلُ فينا ... وغاض الجَورْ وانفسح الرجاء ) ( رأيتُ الناسَ قد سكنوا إليه ... كما سكنتْ إلى الحَرَم الظِّباءُ ) ( تَبِعْتَ من الرسول سبيلَ حقٍّ ... فشأنُك في الأمور به اقتداءُ ) فقال له الخادم من خلف الستارة أحسنت يا إبراهيم في شعرك وغنائك وأمر له بعشرين ألف درهم لحن إبراهيم في هذا الصوت ثقيل أول بالسبابة والوسطى عن أحمد بن المكي أخبرني الحسن بن علي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني أبي قال كنت أنا وأبو سعيد النهدي وهاشم بن سليمان المغني يوما مجتمعين في بستان لنا ونحن نشرب وهاشم يغنينا فلما توسطنا أمرنا إذا نحن برجل قد دخل علينا البستان جميل الهيئة حسن الزي فلما بصرنا به من بعيد وثب هاشم يعدو حتى لقيه فقبل يده وعانقه ولم يعرفه أحد منا فجاء وسلم سلام الصديق على صديقه ثم قال خذوا في شأنكم فإني اجتزت بكم فسمعت غناء أبي القاسم فاستخفني وأطربني فدخلت إليكم واثقا بأنه لا يعاشر إلا فتى ظريفا يستحسن هذا الفعل ويسره ولي في هذا إمام وهو عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عليه السلام فإنه سمع غناء عند قوم فدخل بغير إذن ثم قال إنما أدخلني عليكم مغنيكم لما غنى ( قُلْ لكرامٍ ببابنا يَلِجُوا ... ما في التَّصابي على الفتى حَرَجُ ) وأنا أعلم أن نفوسكم متعلقة بمعرفتي فمن عرفني فقد اكتفى ومن جهلني فأنا إبراهيم الموصلي فقمنا فقبلنا رأسه وسررنا به أتم سرور وانعقدت بيننا وبينه يومئذ مودة ثم غاب عنا غيبة طويلة وإذا هاشم قد أنفذ إلينا منه رقعة فيها ( أهاشمُ هل لي مِنْ سبيلٍ إلى التي ... تُفرِّق همَّ النفس في كل مَذْهبِ ) ( مُعَتَّقةً صرْفا كأنّ شُعاعَها ... تَضَرُّم نارٍ أو تَوَقُّدُ كوكبِ ) ( ألا ربّ يومٍ قد لهوتُ وليلةٍ ... بها والفتى النَّهْدِيُّ وابن المُهّلَّب ) ( نُدِير مُداماً بيننا بتَحِيَّة ... وتَفْدِيَةٍ بالنفس والأمّ والأب ) أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال ==

المكتبة الشاملة

1. العقيدة796 2. الفرق والردود151 3. التفسير270 4. علوم القرآن وأصول التفسير308 5. التجويد والقراءات148 6. كتب السنة1228 7. شروح الحدي...