Translate

الجمعة، 22 نوفمبر 2024

ج10و11و12.كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

 


ج10و11و12.كتاب:الأغاني


لأبي الفرج الأصفهاني

 

كان لي وأنا صبي عقعق قد ربيته وكان يتكلم بكل شيء سمعه فسرق خاتم ياقوت كان لأبي قد وضعه على تكأته ودخل الخلاء ثم خرج ولم يجده فطلبه وضرب غلامه الذي كان واقفا فلم يقف له على خبر فبينا أنا ذات يوم في دارنا إذا أبصرت العقعق قد نبش ترابا فأخرج الخاتم منه ولعب به طويلا ثم رده فيه ودفنه فأخذته وجئت به إلى أبي فسر بذلك وقال يهجو العقعق

( إذا بارك الله في طائرٍ ... فلا بارك الله في العقعقِ )

( طويل الذُّنَابَى قصير الجناح ... متى ما يجد غَفْلةً يسرق )

( يُقلِّب عينين في رأسه ... كأنهما قَطْرتا زِئْبَق )

الموصلي وابن جامع عند الرشيد

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن المكي وذاكرت أبا أحمد بن جعفر جحظة بهذا الخبر فقال حدثني به محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل عن أبيه عن جده ووجدت هذا الخبر في بعض الكتب عن علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون بن إسماعيل فجمعت الروايات كلها

أن الرشيد قال يوما لجعفر بن يحيى قد طال سماعنا هذه العصابة على اختلاط الأمر فيها فهلم أقاسمك إياها وأخايرك فاقتسما المغنين على أن جعلا بإزاء كل رجل نظيره وكان ابن جامع في حيز الرشيد وإبراهيم في حيز جعفر بن يحيى وحضر الندماء لمحنة المغنين وأمر الرشيد ابن

 

جامع فغنى صوتا أحسن فيه كل الإحسان وطرب الرشيد غاية الطرب فلما قطعه قال الرشيد لإبراهيم هات يا إبراهيم هذا الصوت فغنه فقال لا والله يا أمير المؤمنين ما أعرفه وظهر الانكسار فيه فقال الرشيد لجعفر هذا واحد ثم قال لإسماعيل بن جامع غن يا إسماعيل فغنى صوتا ثانيا أحسن من الأول وأرضى في كل حال فلما استوفاه قال الرشيد لإبراهيم هاته يا إبراهيم قال ولا أعرف هذا فقال هذان اثنان غن يا إسماعيل فغنى ثالث يتقدم الصوتين الأولين ويفضلهما فلما أتى على آخره قال هاته يا إبراهيم قال ولا أعرف هذا أيضا فقال له جعفر أخزيتنا أخزاك الله

قال وأتم ابن جامع يومه والرشيد مسرور به وأجازه بجوائز كثيرة وخلع عليه خلعا فاخرة ولم يزل إبراهيم منخذلا منكسرا حتى انصرف

قال فمضى إلى منزله فلم يستقر فيه حتى بعث إلى محمد المعروف بالزف وكان محمد من المغنين المحسنين وكان أسرع من عرف في أيامه في أخذ صوت يريد أخذه وكان الرشيد قد وجد عليه في بعض ما يجده الملوك على أمثاله فألزمه بيته وتناساه فقال إبراهيم للزف إني اخترتك على من هو أحب إلي منك لأمر لا يصلح له غيرك فانظر كيف تكون قال أبلغ في ذلك محبتك إن شاء الله تعالى فأدى إليه الخبر وقال أريد أن تمضي الساعة إلى ابن جامع فتعلمه أنك صرت إليه مهنئا بما تهيأ له علي وتنقصني وتثلبني وتشتمني وتحتال في أن تسمع منه الأصوات وتأخذها منه ولك ما تحبه من جهتي من عرض من الأعراض مع رضا الخليفة إن شاء الله

قال فمضى من عنده واستأذن على ابن جامع فأذن له فدخل وسلم عليه وقال جئتك مهنئا بما بلغني من خبرك والحمد لله الذي أخزى ابن الجرمقانية على يدك وكشف الفضل في

 

محلك من صناعتك قال وهل بلغك خبرنا قال هو أشهر من أن يخفى على مثلي قال ويحك إنه يقصر عن العيان قال أيها الأستاذ سرني بأن أسمعه من فيك حتى أرويه عنك وأسقط بيني ويبنك الأسانيد قال أقم عندي حتى أفعل قال السمع والطاعة فدعا له ابن جامع بالطعام فأكلا ودعا بالشراب ثم ابتدأ حدثه بالخبر حتى انتهى إلى خبر الصوت الأول فقال له الزف وما هو أيها الأستاذ فغناه ابن جامع أياه فجعل محمد يصفق وينعر ويشرب وابن جامع مجتهد في شأنه حتى أخذه عنه

ثم سأله عن الصوت الثاني فغناه إياه وفعل مثل فعله في الصوت الأول ثم كذلك في الصوت الثالث فلما أخذ الأصوات الثلاثة كلها وأحكمها قال له يا أستاذ قد بلغت ما أحب فتأذن لي في الانصراف قال إذا شئت فانصرف محمد من وجهه إلى إبراهيم فلما طلع من باب داره قال له ما وراءك قال كل ما تحب ادع لي بعود فدعا له به فضرب وغناه الأصوات قال إبراهيم وأبيك هي بصورها وأعيانها رددها علي الآن فلم يزل يرددها حتى صحت لإبراهيم وانصرف الزف إلى منزله وغدا إبراهيم إلى الرشيد فلما دعا بالمغنين دخل فيهم فلما بصر به قال له أو قد حضرت أما كان ينبغي لك أن تجلس في منزلك شهرا بسبب ما لقيت من ابن جامع قال ولم ذلك يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك والله لئن أذنت لي أن أقول لأقولن قال وما عساك أن تقول قل فقال إنه ليس ينبغي لي ولا لغيري أن يراك نشيطا لشيء فيعارضك ولا أن تكون متعصبا لحيز وجنبة فيغالبك وإلا فما في الأرض صوت لا أعرفه قال دع ذا عنك قد أقررت أمس بالجهالة بما سمعت من صاحبنا فإن كنت أمسكت عنه بالأمس على معرفة كما تقول فهاته اليوم فليس ها هنا عصبية ولا تمييز فاندفع فأمر الأصوات كلها وابن جامع مصغ

 

يسمع منه حتى أتى على آخرها فاندفع ابن جامع فحلف بالأيمان المحرجة أنه ما عرفها قط ولا سمعها ولا هي إلا من صنعته ولم تخرج إلى أحد غيره فقال له ويحك فما أحدثت بعدي قال ما أحدثت حدثا فقال يا إبراهيم بحياتي اصدقني فقال وحياتك لأصدقنك رميته بحجره فبعثت له بمحمد الزف وضمنت له ضمانات أولها رضاك عنه فمضى فاحتال لي عليه حتى أخذها عنه ونقلها إلي وقد سقط الآن اللوم عني بإقراره لأنه ليس علي أن أعرف ما صنعه هو ولم يخرجه إلى الناس وهذا باب من الغيب وإنما يلزمني أن يعرف هو شيئا من غناء الأوائل وأجهله أنا وإلا فلو لزمني أن أروي صنعته للزمه أن يروي صنعتي ولزم كل واحد منا لسائر طبقته ونظرائه مثل ذلك فمن قصر عنه كان مذموما ساقطا فقال له الرشيد صدقت يا إبراهيم ونضحت عن نفسك وقمت بحجتك ثم أقبل على ابن جامع فقال له يا إسماعيل أتيت أتيت دهيت دهيت أبطل عليك الموصلي ما فعلته به أمس وانتصف اليوم منك ثم دعا بالزف فرضي عنه

الأصوات التي غنى بها ابن جامع

قال علي بن محمد سألت خالي أبا عبد الله بن حمدون وقد تجارينا هذا الخبر هل تعرف أصوات ابن جامع هذه فأخبرني أنه سمع إسحاق يحكي هذه القصة وذكر أن الصوت الأول منها

صوت

( بكيتُ نعمْ بكيتُ وكّل إلْفٍ ... إذا بانت قرينتُه بكاها )

( وما فرقتُ لُبْنَى عن تَقالٍ ... ولكن شِقْوةٌ بلغتْ مَداها )

 

الشعر لقيس بن ذريح

والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى

وفيه ليحيى المكي ثاني ثقيل آخر بالخنصر والبنصر من كتابه

وفيه لإبراهيم ثقيل أول عن الهشامي

قال والثاني منها

صوت

( عفت دارَ سَلْمَى بمُفْضَى الرَّغام ... رياحٌ تَعَاقَبُها كلَّ عامِ )

( خِلاَفَ الحلولِ بتلك الطّلول ... وسَحْبِ الذُّيول بذاك المقام )

( وأنس الديار وقرب الجِوار ... وطيب المزار وردّ السلامِ )

( ودهر غَرِير وعيش السّرور ... ونأي الغَيور وحُسن الكلام )

الشعر لحماد الراوية

والغناء لابن جامع ثقيل أول بالبنصر ذكر ذلك الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو

قال ابن حمدون وهذا الصوت عجيب الصنعة كثير النغم محكم العمل من صدور أغاني ابن جامع ومتقدم صنعته وكان المعتصم معجبا به وكثيرا ما كان يسكت المغنين إذا غني بحضرته فلا يسمع سائر يومه غيره

قال والثالث منها

صوت

( نَزَف البكاءُ دموعَ عينك فاستَعِرْ ... عيناً لغيرك دمعُها مِدْرارُ )

 

( مَنْ ذا يُعيرك عينَه تبكي بها ... أرأيتَ عيناً للبكاء تُعارُ )

الشعر للعباس بن الأحنف

والغناء لابن جامع ثقيل أول بالوسطى وقال ابن حمدون وعارضه إبراهيم بعد ذلك في هذا الشعر فصنع فيه لحنا من الرمل بالبنصر في مجراها فلم يلحقه ولا قاربه

قال وقد صنع أيضا في هذا الشعر لحن خفيف فاسد الصنعة محدث ليس ينبغي أن يذكر هاهنا

حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني أبو عبد الله الحزنبل قال حدثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل عن أبيه قال

أنشد بشار قول العباس بن الأحنف

( نَزف البكاءُ دموعَ عينك فاستعرْ ... عيناً لغيرك دمعها مدرارُ )

فقال بشار لحق والله هذا الفتى بالمحسنين وما زال يدخل نفسه معنا ونحن نخرجه حتى قال هذا الشعر

حدثني محمد بن يحيى قال حدثني ميمون بن هارون عن إسحاق قال

أنشد الرشيد قول العباس

( من ذا يُعيركَ عينَه تبكي بها ... أرأيت عيناً للبكاء تُعارُ )

فقال يعيره من لا حاطه الله ولا حفظه

 

ومما يغنى فيه من قصيدة العباس بن الأحنف الرائية التي هذا الصوت الأخير منها قوله

صوت

( الحبُّ أوّلُ ما يكون لَجَاجةً ... تأتي به وتسوقُه الأقدارُ )

( حتى إذا سلَك الفتى لُجَجَ الهوى ... جاءت أمورٌ لا تُطاق كِبارُ )

غناه ابن جامع ثاني ثقيل بالبنصر

وفيه لشاطرة امرأة منصور زلزل ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي

وذكر ابن المكي المرتجل أن هذه الأصوات الثلاثة المسروقة من ابن جامع

( يا قبرُ بين بيوت آل مُحَرِّقٍ ... ) و

( عفا طَرَفُ القُرَيَّةِ فالكثيبُ ... )

وأسقط منها قوله

( نزف البكاء دموع عينك فاستعر ... ) و

( بكيتُ نعم بكيتُ وكلُّ إلف ... )

 

نسبة هذين الصوتين

صوت

( يا قبرُ بين بيوتِ آل مُحرِّقٍ ... جادت عليك رَوَاعِدٌ وبُروقُ )

( أمّا البكاء فقَلَّ عنك كثيرُه ... ولئن بكيتُ فبالبكاء حقيق )

الشعر لرجل من بني أسد يرثي خالد بن نضلة ورجلا آخر من بني أسد كانا نديمين للمنذر بن ماء السماء فقتلهما في سخطه عليهما وخبر ذلك مشهور في أخبار ابن جامع

والغناء لابن جامع وله فيه لحنان ثقيل أول بالوسطى ورمل بالبنصر وقيل إن الرمل لابن سريج

وذكر حبش أن لمحمد صاحب البرام فيه لحنا من الثقيل الثاني بالوسطى

ومنها

صوت

( عفا رَسْمُ القُرَيّة فالكثيبُ ... إلى مَلْحَاء ليس بها عَرِيبُ )

( تأبد رسُمها وجرى عليها ... سَفِيّ الريح والتُّربُ الغريبُ )

( فإنكَ واطّراحَك وصلَ سُعْدى ... لأخرى في مودّتها نُكوبُ )

 

( كثاقبةٍ لحَلْيٍ مستعار ... بأُذنْيها فشانَهما الثُّقوبُ )

( فردّت حَلْيَ جارتها إليها ... وقد بَقِيتْ بأُذنيْها نُدوبُ )

الشعر لابن هرمة

والغناء لابن جامع ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى

عن إسحاق

وفيه للغريض ثاني ثقيل آخر بالبنصر عن عمرو

وقال عمرو فيه لحن للهذلي ولم يجنسه

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني عيسى بن أيوب القرشي قال حدثني غيث بن عبد الكريم عن فليح بن إسماعيل عن إسماعيل بن جعفر الفقيه مولى حرب عن أبيه قال

مررت بابن هرمة وهو جالس على دكان في بني زريق فقلت له يا أبا إسحاق ما يجلسك ها هنا قال بيت كنت قلته ثم انقطع علي الروي فيه وتعذر علي ما أشتهيه فأبغضته وتركته قلت ما هو قال

( فإنك واطِّراحَك وصلَ سُعْدَى ... لأخرى في مودّتها نُكوبُ )

قال قلته ثم انقطع بي فيه فمرت بي جويرية صفراء مليحة كنت أستحسنها أبدا وأكلمها إذا مرت بي فمرت اليوم فرأيتها وقد ورم وجهها وتغير خلقها عما أعرف فسألتها عن خبرها فقالت كان في بني فلان عرس أردت حضوره فاستعار لي أهلي حليا وثقبوا أذني لألبسه فورم وجهي وأذناي كما ترى فردوه ولم أشهد العرس قال ابن هرمة فاطرد لي الشعر فقلت

 

( كثاقبةٍ لَحلْي مستعارٍ ... بأذنيها فشانَهما الثقوبُ )

( فردّت حَلْي جارتها إليها ... وقد بقيت بأذنيها نُدوبُ )

إبراهيم بن المهدي يسرق شعره ويغني به الرشيد

أخبرني الحسين بن القاسم قال حدثني العباس بن الفضل قال حدثني أبي قال

قال الرشيد لإبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابن جامع وابن أبي الكنات باكروني غدا وليكن كل واحد قد قال شعرا إن كان يقدر أن يقوله وغنى فيه لحنا وإن لم يكن شاعرا غنى في شعر غيره

قال إبراهيم ابن المهدي فقمت في السحر وجهدت أن أقدر على شيء أصنعه فلم يتفق لي فلما خفت طلوع الفجر دعوت بغلماني وقلت لهم إني أريد أن أمضي إلى موضع ولا يشعر بي أحد حتى أصير إليه وكانوا يبيتون على باب داري فقمت فركبت وقصدت دار إبراهيم الموصلي وكان قد حدثني أنه إذا أراد الصنعة لم ينم حتى يدبر ما يحتاج إليه وإذا قام لحاجته في السحر اعتمد على خشبة له في المستراح فلم يزل يقرع عليها حتى يفرغ من الصوت ويرسخ في قلبه فجئت حتى وقفت تحت مستراحه فإذا هو يردد هذا الصوت

صوت

( إذا سُكِبتْ في الكأسِ قبل مِزاجها ... تَرى لونَها في جِلدة الكأس مُذْهَبَا )

( وإن مُزجتْ راعت بلون تخاله ... إذا ضُمّنتْه الكأسُ في الكأس كوكبَا )

 

( أبوها نِجاء المُزْن والكَرْمُ أُمّها ... فلم أرَ زَوْجاً منه أشهى وأطيَبا )

( فجاءتك صَفْرا أشبهت غير جنسها ... وما أشبهت في اللون أُمًّا ولا أبا )

قال فما زلت واقفا أستمع منه الصوت حتى أخذته ثم غدونا إلى الرشيد فلما جلسنا للشرب خرج الخادم إلي فقال يقول لك أمير المؤمنين يابن أم غنني فاندفعت فغنيت هذا الصوت والموصلي في الموت حتى فرغت منه فشرب عليه وأمر لي بثلاثمائة ألف درهم فوثب إبراهيم الموصلي فحلف بالطلاق وحياة الرشيد أن الشعر له قاله البارحة وغنى فيه ما سبقه إليه أحد فقال إبراهيم يا سيدي فمن أين هو لي أنا لولا كذبه وبهته وإبراهيم يضطرب ويضج فلما قضيت أربا من العبث به قلت للرشيد الحق أحق أن يتبع وصدقته فقال للموصلي أما أخي فقد أخذ المال ولا سبيل إلى رده وقد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضا مما جرى عليه فلو بدأت أنت بالصوت لكان هذا حظك فأمر له بها فحملت إليه

إبراهيم الموصلي ومحمد بن يحيى

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن مخارق قال

أتى إبراهيم الموصلي محمد بن يحيى بن خالد في يوم مهرجان فسأله محمد أن يقيم عنده فقال ليس يمكنني لأن رسول أمير المؤمنين قد أتاني قال فتمر بنا إذا انصرفت ولك عندي كل ما يهدى إلي اليوم فقال نعم وترك في المجلس صديقا له يحصي ما يبعث به إليه قال فجاءت هدايا عجيبة من كل ضرب قال وأهدي إليه تمثال فيل من ذهب عيناه ياقوتتان فقال محمد للرجل لا تخبره بهذا حتى نبعث به إلى فلانة ففعل وانصرف إبراهيم إليه فقال أحضرني ما أهدي لك فأحضره ذلك كله إلا التمثال وقال

 

لا بد من صدقك كان من الأمر كذا وكذا فقال لا إلا على الشريطة وكما ضمنت فجيء بالتمثال فقال إبراهيم أليس الهدية لي فأعمل فيها ما أريد قال بلى قال فرد التمثال على الجارية وجعل يفرق الهدايا على جلساء محمد شيئا شيئا وعلى جميع من حضر من إخوانه وغلمانه وعلى من في دور الحرم من جواريه حتى لم يبق منها شيء ثم أخذ من المجلس تفاحتين لما أراد الانصراف وقال هذا لي وانصرف فجعل محمد يعجب من كبر نفسه ونبله

الرشيد يزوره ليلا ليغنيه

وقال أحمد بن المرزبان حدثني بعض كتاب السلطان

أن الرشيد هب ليلة من نومه فدعا بحمار كان يركبه في القصر أسود قريب من الأرض فركبه وخرج في دراعة وشي متلثما بعمامة وشي ملتحفا بإزار وشي بين يديه أربعمائة خادم أبيض سوى الفراشين وكان مسرور الفرغاني جريئا عليه لمكانه عنده فلما خرج من باب القصر قال أين يريد أمير المؤمنين في هذه الساعة قال أردت منزل الموصلي

قال مسرور فمضى ونحن معه وبين يديه حتى انتهى إلى منزل إبراهيم فخرج فتلقاه وقبل حافر حماره وقال له يا أمير المؤمنين أفي مثل هذه الساعة تظهر قال نعم شوق طرق لك بي ثم نزل فجلس في طرف الإيوان وأجلس إبراهيم فقال له إبراهيم يا سيدي أتنشط لشيء تأكله فقال نعم خاميز ظبي فأتي به كأنما كان معدا له فأصاب منه شيئا يسيرا ثم دعا بشراب حمل معه فقال الموصلي يا سيدي أؤغنيك أم تغنيك إماؤك فقال بل الجواري فخرج جواري إبراهيم فأخذن صدر الإيوان وجانبيه فقال أيضربن كلهن أم واحدة فقال بل

 

تضرب اثنتان اثنتان وتغني واحدة فواحدة ففعلن ذلك حتى مر صدر الإيوان وأحد جانبيه والرشيد يسمع ولا ينشط لشيء من غنائهن إلى أن غنت صبية من حاشيته

( يا مُورِيَ الزَّند قد أعيتْ قوادحُه ... إقْبِسْ إذا شئتَ من قلبي بمقباسِ )

( ما أقبحَ الناسَ في عيني وأسمجَهم ... إذا نظرتُ فلم أُبصرك في الناس )

قال فطرب لغنائها واستعاد الصوت مرارا وشرب أرطالا ثم سأل الجارية عن صانعه فأمسكت فاستدناها فتقاعست فأمر بها فأقيمت حتى وقفت بين يديه فأخبرته بشيء أسرته إليه فدعا بحماره فركبه وانصرف ثم التفت إلى إبراهيم فقال ما ضرك ألا تكون خليفة فكادت نفسه تخرج حتى دعا به وأدناه بعد ذلك

قال وكان الذي خبرته به أن الصنعة في الصوت لأخته علية بنت المهدي وكانت الجارية لها وجهت بها إلى إبراهيم يطارحها فغار الرشيد ولحن الصوت خفيف رمل

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

كان أبي يألف خمارة بالرقة يقال لها بشرة تنزل الهنيء والمريء

 

وكانت لها بنت من أحسن الناس وجها فكان أبي يتحلاها ثم رحل الرشيد عن الرقة إلى بلاد الروم في بعض غزواته فقال أبي فيها

( أيَا بنتَ بِشْرةَ ما عاقَنِي ... عن العهد بَعْدَكِ من عائقِ )

( نَفَى النّومَ عنّي سنا بارق ... وأشهقني في ذُرَى شاهق )

قال وفيها يقول أيضا من أبيات له وله فيها صنعة من الرمل الأول

صوت

( وزعمتِ أنِّي ظالمٌ فهجرتِنِي ... ورَمَيتِ في قلبي بسهمٍ نافذِ )

( ونَعَمْ ظلمتُكِ فاغفرِي وتجاوَزِي ... هذا مَقامُ المستجير العائذ )

ذكر حماد في هذا الخبر أن لحن جده من الرمل

ووجدت في كتاب أحمد بن المكي أن له فيهما لحنين أحدهما ثقيل أول والآخر ثاني ثقيل

الرشيد يحبس الموصلي فيغني في السجن

حدثني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال

حبس الرشيد إبراهيم الموصلي عند أبي العباس يعني أباه عبد الله ابن مالك فسمعناه ليلة وقد صنع هذا اللحن وهو يكرره حتى يستوي له

( يا أخلاّءِ قد مَلِلْتُ مكاني ... وتذكّرتُ ما مضى من زماني )

( شُرْبِيَ الراحَ إذ تقوم علينا ... ذاتُ دَلٍّ كأنّها غصنُ بانِ )

قال وغنى في الحبس أيضا

 

( ألاَ طال ليلي أُراعي النّجوم ... أُعالج في السّاق كَبْلاً ثَقيلاَ )

حدثني عيسى قال حدثني عبد الله قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني علويه الأعسر قال

دخلت على إبراهيم الموصلي في علته التي توفي فيها وهو في الأبزن وبه القولنج الذي مات فيه وهو يترنم بهذا الصوت

صوت

( تغّير مني كلُّ حُسْنٍ وجِدّةٍ ... وعاد على ثَغْري فأصبح أثْرَمَا )

( ومَحّلَ أطرافي فزالتْ فصوصُها ... وحَنّى عظامي عُوجَها والمُقَوَّما )

قال محمد فحدثت بهذا الحديث إسحاق الموصلي فقال كذب ابن الزانية والله ما كان يجترئ أن يدخل إلى أبي إسحاق وهو جالس للناس إلا بعد جهد فكيف يدخل إلى أبي إسحاق وهو جالس في الأبزن

نسبة هذا الصوت

الشعر والغناء لإبراهيم وله فيه لحنان ماخوري بالوسطى عن عمرو وثاني ثقيل عن ابن المكي

حدثني جحظة قال

كان المقتدر يدعونا في الأحايين فكان يحضر من المغنين إبراهيم بن أبي العبيس وكنيز وإبراهيم بن قاسم وأنا ووصيف الزامر وكان أكثر ما ندعى

 

له أن جواريه كن يطالبنه بإحضارنا ليأخذن منا أصواتا قد عرفنها ويسمعننا فنغني فيأخذن ما يستحسنه فإذا انصرفنا أمر لكل واحد من إبراهيم وكنيز دبة وإبراهيم بثلاثمائة دينار ولي بمائتي دينار ولوصيف بمائتي دينار ولسائر من لعله أن يحضر معنا بمائتين إلى المائة الدينار إلى الألف الدرهم فيكون إذا حضرنا من وراء ستارة وهو جالس مع الجواري فإذا أراد اقتراح شيء جاءنا الخدم فأمرونا أن نغنيه وبين يدي كل واحد منا قنينة فيها خمسة أرطال نبيذ وقدح ومغسل وكوز ماء فغنت يوما صلفة جارية زرياب بصنعة إبراهيم الموصلي

( تغّير منّي كلُّ حُسن وجِدّةٍ ... وعادَ على ثَغْرِي فأصبح أَثْرمَا )

فشربت عليه فاستعاده المقتدر مرارا وأنا أشرب عليه فأخذ إبراهيم بن أبي العبيس بكتفي وقال يا مجنون إنما دعيت لتغني لا لتغنى وتطرب وتشرب فلعلك تسكر حسبك فأمسكت طمعا أن ترده بعد ذلك فما فعلت ولا اجتمعنا بعدها وما سمعت قبل ذلك ولا بعده أحدا غنى هذا الصوت أحسن مما غنته

قال وكان المقتدر ابتاعها من زرياب

أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن القاسم بن جعفر بن سليمان بن علي قال حدثني إسحاق الموصلي عن أبيه قال

بينا أنا بمكة أجول في سككها إذا أنا بسوداء قائمة ساهية باكية فأنكرت حالها وأدمنت النظر إليها فبكت وقالت

( أعمرُو عَلاَمَ تجنَّبتَني ... أخذتَ فؤادي وعَذَّبْتَنِي )

 

( فلو كنتَ يا عمرُو خبّرتني ... أخذتُ حِذاري فما نِلْتَني )

فقلت لها يا هذه من عمرو قالت زوجي قلت وما شأنه قالت أخبرني أنه يهواني وما زال يطلبني حتى تزوجته فلبث معي قليلا ثم مضى إلى جدة وتركني فقلت لها صفيه لي قالت أحسن من أنت رائيه سمرة وأحلاهم حلاوة وقدا قال فركبت رواحلي مع غلماني وصرت إلى جدة فوقفت في موضع المرفأ أتبصر من يحمل من السفن وأمرت من يصوت يا عمرو يا عمرو وإذا أنا به خارجا من سفينة على عنقه صن فيه طعام فعرفته بصفتها ونعتها إياه فقلت

( أعمرُو عَلاَمَ تجنَّبتَنِي ... أخذتَ فؤادي وعذَّبتَنِي )

فقال هيه أرأيتها وسمعت منها فقلت نعم فأطرق هنيهة يبكي ثم اندفع فغنى به أملح غناء سمعته وردده علي حتى أخذته منه وإذا هو أحسن الناس غناء فقلت له ألا ترجع إليها فقال طلب المعاش يمنعني فقلت كم يكفيك معها في كل سنة فقال ثلاثمائة درهم قال إسحاق قال لي أبي فوالله يا بني لو قال ثلاثمائة دينار لطابت نفسي بها فدعوت به فأعطيته ثلاثة آلاف درهم وقلت له هذا لعشر سنين على أن تقيم معها فلا تطلب المعاش إلا حيث هي مقيمة معك ويكون ذلك فضلا ورددته معي إليها

الموصلي يغني الرشيد والرشيد يجزل صلته

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال حدثنا صالح بن علي يعني الأضجم عن إبراهيم الموصلي قال وكان

 

صالح جاره قال

بينا أنا عشية في منزلي إذ أتاني خادم من خدم الرشيد فاستحثني بالركوب إليه فخرجت شبيها بالراكض فلما صرت إلى الدار عدل بي عن المدخل إلى طرق لا أعرفها فانتهي بي إلى دار حديثة البناء فدخلت صحنا واسعا وكان الرشيد يشتهي الصحون الواسعة فإذا هو جالس على كرسي في وسط ذلك الصحن ليس عنده أحد إلا خادم يسقيه وإذا هو في لبسته التي كان يلبسها في الصيف غلالة رقيقة متوشح عليها بإزار رشيدي عريض العلم مضرج فلما رآني هش لي وسر وقال يا موصلي إني اشتهيت أن أجلس في هذا الصحن فلم يتفق لي إلا اليوم وأحببت ألا يكون معي ومعك أحد ثم صاح بالخدام فوافاه مائة وصيف وإذا هم بالأرقة مستترون بالأساطين حتى لا يراهم فلما ناداهم جاؤوا جميعا فقال مقطعة لإبراهيم وكان هو أول من قطع المصليات فأتيت بمقعد فألقي لي تجاه وجهه بالقرب منه ودعا بعود فقال بحياتي أطربني بما قدرت قال ففعلت واجتهدت في ذلك ونشطت ورجوت الجائزة في عشيتي فبينا أنا كذلك إذ جاءه مسرور الكبير فقام مقامه الذي كان إذا قامه علم الرشيد أنه يريد أن يساره بشيء فأومأ إليه بالدنو فدنا فألقى في أذنه كلمة خفيفة ثم تنحى فاستشاط غضبا واحمرت عيناه وانتفخت أوداجه ثم قال حتام أصبر على آل بني أبي طالب والله لأقتلنهم ولأقتلن شيعتهم ولأفعلن ولأفعلن فقلت إنا لله ليس عند هذا أحد يخرج غضبه عليه أحسبه والله سيوقع بي فاندفعت أغني

صوت

( نعِمَ عَوْناً على الهموم ثلاثُ ... مُتْرَعَاتٌ من بعدهنّ ثلاثُ )

 

( بعدها أربعٌ تَتِمَّةُ عشرٍ ... لا بِطاءٌ لكنّهنّ حِثاثُ )

( فإذا ناولَتْكَهُنّ جَوارٍ ... عَطِراتٌ بيضُ الوجوه خِنَاثُ )

( تمّ فيها لك السرورُ وما طَيَّبَ ... عَيْشاً إلا الخِناثُ الإِناثُ )

قال ويلك اسقني ثلاثا لا أمت هما فشرب ثلاثا متتابعة ثم قال غن فغنيت فلما قلت

ثلاث

( مُترعاتٌ من بعدهنّ ثلاثُ ... )

قال هات ويلك ثلاثا ثم قال لي غن فلما غنيته قال حث علي بأربع تتمة العشر ففعل فوالله ما استوفى آخرهن حتى سكر فنهض ليدخل ثم قال قم يا موصلي فانصرف يا مسرور أقسمت عليك بحياتي وبحقي إلا سبقته إلى منزله بمائة ألف درهم لا أستأمر فيها ولا في شيء منها فخرجت والله وقد أمنت خوفي وأدركت ما أملت ووافيت منزلي وقد سبقتني المائة الألف الدرهم إليه

أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال

خرج رسول الرشيد ذات ليلة إلى المغنين فقال غنوا

( يا خليليَّ قد مَلِلْتُ ثَوائِي ... بالمُصَلَّى وقد سَئِمتُ البَقِيعا )

 

( بلِّغانِي ديارَ هندٍ وسُعْدَى ... وارجِعاني فقد هَوِيتُ الرجوعَا )

قال فغناه ابن جامع فلما فرغ منه طرب الرشيد وشرب فقال له إبراهيم الموصلي يا سيدي فاسمعه من نبيطيك فغناه فجعل ابن جامع يزحف من أول البيت إلى آخره وطرب هارون فقال ارفعوا الستارة فقال له ابن جامع مني والله أخذه يا أمير المؤمنين فأقبل على إبراهيم فقال بحياتي صدق قال صدق وحياتك يا سيدي قال وكيف أخذته وهو أبخل الناس إذا سئل شيئا قال تركته يغنيه وكان إذا سكر يسترسل فيه فيغنيه مستويا ولا يتحرز مني فأخذته على هذا منه حتى وفيت به

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

كان برصوما الزامر وزلزل الضارب من سواد أهل الكوفة من أهل الخشنة والبذاذة والدناءة فقدم بهما أبي معه سنة حج ووقفهما على الغناء العربي وأراهما وجوه النغم وثقفهما حتى بلغا المبلغ الذي بلغاه من خدمة الخليفة وكانا أطبع أهل دهرهما في صناعتهما فحدثني أبي قال كان لزلزل جارية قد رباها وعلمها الضرب وسألني مطارحتها فطارحتها وكانت مطبوعة حاذقة قال فكان يصونها أن يسمعها أحد فلما مات بلغني أنها تعرض في ميراثه للبيع فصرت إليها لأعترضها فغنت

( أقفرَ من أوتاره العودُ ... فالعودُ للأوتار معمودُ )

( وأوحش المزمارُ من صوته ... فما لَه بعدكَ تغريدُ )

( مَنْ للمزامير وعِيدانها ... وعامرُ اللَّذات مفقود )

 

( الخمرُ تبكي في أباريقها ... والقَيْنةُ الخَمصْانةُ الرُّود )

قال وهذا شعر رثاه به صديق له كان بالرقة قال فأبكت والله عيني وأوجعت قلبي

فدخلت على الرشيد فحدثته بحديثها فأمر بإحضارها فحضرت فقال لها غني الصوت الذي حدثني إبراهيم عنك أنك غنيته فغنته وهي تبكي فرق الرشيد لها وتغرغرت عيناه وقال لها أتحبين أن أشتريك فقالت يا أمير المؤمنين لقد عرضت علي ما يقصر عنه الأمل ولكن ليس من الوفاء أن يملكني أحد بعد سيدي فينتفع بي فازداد رقة عليها وقال غني صوتا آخر فغنت

( العينُ تُظهِر كتماني وتُبديه ... والقلبُ يكتم ما ضَمَّنتُه فيهِ )

( فكيف ينكتم المكتومُ بينهما ... والعينُ تُظهره والقلبُ يُخفيه )

فأمر بأن تبتاع وتعتق ولم يزل يجري عليها إلى أن ماتت

قصته مع الرشيد بشأن جارية

أخبرنا محمد قال حدثنا حماد عن أبيه عن جده قال

قال لي الرشيد يوما يا إبراهيم بكر علي غدا حتى نصطبح فقلت له أنا والصبح كفرسي رهان فبكرت فإذا أنا به خاليا وبين يديه جارية كأنها خوط بان أو جدل عنان حلوة المنظر دمثة الشمائل وفي يدها عود فقال لها غني فغنت في شعر أبي نواس وهو

( تَوَهّمه قلبي فأصبح خدُّه ... وفيه مكانَ الوَهْم من نظري أُثرُ )

 

( ومرَّ بفكري خاطراً فجرحتُه ... ولم أر جِسماً قطُّ يَجرَحُه الفِكرُ )

( وصافَحه قلبي فآلَم كفَّه ... فمِنْ غَمْزِ قلبي في أناملهِ عَقْرُ )

قال إبراهيم فذهبت والله بعقلي حتى كدت أن أفتضح فقلت من هذه يا أمير المؤمنين فقال هذه التي يقول فيها الشاعر

( لها قلبي الغداةَ وقلبُها لي ... فنحن كذاك في جَسَدَيْنِ رُوحُ )

ثم قال لها غني فغنت

صوت

( تقول غداةَ البَيْنِ إحدى نسائهم ... لِيَ الكَبِدُ الحرَّى فسِرْ ولكَ الصَّبُر )

( وقد خَنقْتها عَبْرةٌ فدموعُها ... على خدِّها بِيضٌ وفي نحرِها صُفر )

الشعر لأبي الشيص

والغناء لعمرو بن بانة خفيف رمل بالوسطى من كتابه وفيه لمتيم ثاني ثقيل وخفيف رمل آخر قال فشرب وسقاني ثم سقاها ثم قال غن يا إبراهيم فغنيت حسب ما في قلبي غير متحفظ من شيء

( تَشَرَّبَ قلبي حبَّها ومشَى به ... تَمَشِّي حُمَيَّا الكأس في جسم شاربِ )

( ودبَّ هواها في عِظامي فشَفَّها ... كما دبَّ في المَلْسوع سمُّ العقارب )

قال ففطن بتعريضي وكانت جهالة مني قال فأمرني بالانصراف ولم يدعني شهرا ولا حضرت مجلسه فلما كان بعد شهر دس إلي خادما معه رقعة فيها مكتوب

 

( قد تخوّفتُ أن أموتَ من الوَجْد ... ولم يَدْرِ مَنْ هَوِيتُ بما بي )

( يا كتابي فاقرَ السَّلامَ على مَنْ ... لا أُسمِّي وقل له يا كتابي )

( إنَّ كفًّا إليكَ قد بعثتني ... في شَقَاءٍ مُواصَلٍ وعذاب )

فأتاني الخادم بالرقعة فقلت له ما هذا قال رقعة الجارية فلانة التي غنتك بين يدي أمير المؤمنين فأحسست القصة فشتمت الخادم ووثبت عليه وضربته ضربا شفيت به نفسي وغيظي وركبت إلى الرشيد من فوري فأخبرته القصة وأعطيته الرقعة فضحك حتى كاد يستلقي ثم قال على عمد فعلت ذلك بك لأمتحن مذهبك وطريقتك ثم دعا بالخادم فلما خرج رآني فقال لي قطع الله يديك ورجليك ويحك قتلتني فقلت القتل والله كان بعض حقك لما وردت به علي ولكن رحمتك فأبقيت عليك وأخبرت أمير المؤمنين ليأتي في عقوبتك بما تستحقه

فأمر لي الرشيد بصلة سنية والله يعلم أني ما فعلت الذي فعلت عفافا ولكن خوفا

الرشيد يسأله كيف يصوغ الألحان

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني حماد بن إسحاق قال

أخبرني أبي أنه سمع الرشيد وقد سأل جدي إبراهيم كيف يصنع إذا أراد أن يصوغ الألحان فقال يا أمير المؤمنين أخرج الهم من فكري وأمثل الطرب بين عيني فتسوغ لي مسالك الألحان التي أريد فأسلكها بدليل الإيقاع فأرجع مصيبا ظافرا بما أريد فقال يحق لك يا إبراهيم أن تصيب وتظفر وإن حسن وصفك لمشاكل حسن صنعتك وغنائك

أخبرني ابن المرزبان قال حدثني حماد عن أبيه عن جده قال

أدركت يونس الكاتب وهو شيخ كبير فعرضت عليه غنائي فقال إن

 

عشت كنت مغني دهرك

قال حماد قال لي محمد بن الحسن كان لكل واحد من المغنين مذهب في الخفيف والثقيل وكان معبد ينفرد بالثقيل وابن سريج بالرمل وحكم بالهزج ولم يكن في المغنين أحد يتصرف في كل مذهب من الأغاني إلا ابن سريج وإبراهيم جدك وأبوك إسحاق

حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال حدثني أحمد ابن ثابت العبدي عن أبي الهذيل العلاف رأس المعتزلة عن ثمامة بن أشرس قال

مررت بإبراهيم الموصلي ويزيد حوراء وهما مصطبحان وقد أخذا بينهما صوتا يغنيانه هذا بيتا وهذا بيتا وهو

صوت

( أيا جَبَلَيْ نَعْمانَ بالله خَلِّيَا ... سبيلَ الصَّبَا يَخْلُص إليّ نسيمُها )

( فإنّ الصَّبا ريحٌ إذا ما تنسّمتْ ... على نفس مهمومٍ تجلّت همومُها )

 

قال ثمامة فوالله ما خلت أن شيئا بقي من لذات الدنيا بعد ما كانا فيه

أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده إبراهيم قال

سألت الرشيد أن يهب لي يوما في الجمعة لا يبعث فيه إلي بوجه ولا بسبب لأخلو فيه بجواري وإخواني فأذن لي في يوم السبت وقال لي هو يوم أستثقله فآله فيه بما شئت فأقمت يوم السبت بمنزلي وتقدمت في إصلاح طعامي وشرابي بما احتجت إليه وأمرت بوابي فأغلق الأبواب وتقدمت إليه ألا يأذن علي لأحد فبينا أنا في مجلسي والخدم قد حفوا بي وجواري يترددن بين يدي إذا أنا بشيخ ذي هيئة وجمال عليه خفان قصيران وقميصان ناعمان وعلى رأسه قلنسوة لاطئة وبيده عكازة مقمعة بفضة وروائح المسك تفوح منه حتى ملأ البيت والدار فداخلني بدخوله علي مع ما تقدمت فيه غيظ ما تداخلني قط مثله وهممت بطرد بوابي ومن حجبني لأجله فسلم علي أحسن سلام فرددت عليه وأمرته بالجلوس فجلس ثم أخذ بي في أحاديث الناس وأيام العرب وأحاديثها وأشعارها حتى سلى ما بي من الغضب وظننت أن غلماني تحروا مسرتي بإدخالهم مثله علي لأدبه وظرفه فقلت هل لك في الطعام فقال لا حاجة لي فيه فقلت هل لك في الشراب فقال ذلك إليك فشربت رطلا وسقيته مثله فقال لي يا أبا إسحاق هل لك أن تغني لنا شيئا من صنعتك وما قد نفقت به عند الخاص والعام فغاظني قوله ثم سهلت على نفسي أمره فأخذت العود فجسسته ثم ضربت فغنيت فقال أحسنت يا إبراهيم

 

فازداد غيظي وقلت ما رضي بما فعله من دخوله علي بغير إذن واقتراحه أن أغنيه حتى سماني ولم يكنني ولم يجمل مخاطبتي

ثم قال هل لك أن تزيدنا فتذممت فأخذت العود فغنيت فقال أجدت يا أبا إسحاق فأتم حتى نكافئك ونغنيك فأخذت العود وتغنيت وتحفظت وقمت بما غنيته إياه قياما تاما ما تحفظت مثله ولا قمت بغناء كما قمت به له بين يدي خليفة قط ولا غيره لقوله لي أكافئك فطرب وقال أحسنت يا سيدي ثم قال أتأذن لعبدك بالغناء فقلت شأنك واستضعفت عقله في أن يغنيني بحضرتي بعد ما سمعه مني فأخذ العود وجسه وحبسه فوالله لخلته ينطق بلسان عربي لحسن ما سمعته من صوته ثم تغنى

صوت

( ولي كَبِدٌ مقروحةٌ مَنْ يبيعني ... بها كبِداً ليستْ بذات قُروح )

( أباها عليّ الناسُ لا يشترونها ... ومَنْ يشتري ذا عِلَّةٍ بصحيح )

( أئِنّ من الشوق الذي في جوانبي ... أنينَ غَصيصٍ بالشراب جَريح )

قال إبراهيم فوالله لقد ظننت الحيطان والأبواب وكل ما في البيت يجيبه ويغني معه من حسن غنائه حتى خلت والله أني أسمع أعضائي وثيابي تجاوبه وبقيت مبهوتا لا أستطيع الكلام ولا الجواب ولا الحركة لما خالط قلبي ثم غنى

صوت

( ألا يا حماماتِ اللِّوَى عُدْنَ عَوْدةً ... فإنّي إلى أصواتكنّ حزينُ )

( فعُدْنَ فلما عُدْنَ كِدْنّ يُمِتْنَنِي ... وكدتُ بأسراري لهنّ أُبين )

 

( دَعَوْنَ بتَرْدَاد الهَدير كأنما ... سُقِينَ حُمَيَّا أو بهنّ جُنونُ )

( فلم تَرَ عيني مثلَهنّ حمائماً ... بكينَ ولم تَدْمَع لهنّ عيونُ )

لم أعرف في هذه الأبيات لحنا ينسب إلى إبراهيم والذي عرفته لمحمد بن الحارث بن بسخنر خفيف رمل فكاد والله أعلم عقلي أن يذهب طربا وارتياحا لما سمعت ثم غنى

صوت

( أَلاَ يا صَبا نجدٍ متى هِجْتِ من نجدِ ... لقد زادني مَسْراكِ وَجْداً على وَجدِ )

( أَأَن هتفتْ وَرْقَاءُ في رَوْنق الضُّحَى ... على فَنَنٍ غضِّ النّبات من الرَّنْد )

( بكيتَ كما يبكي الحزينُ صبابةً ... وذُبْتَ من الحزن المبرِّحِ والجَهْد )

( وقد زعموا أنّ المحبَّ إذا دنا ... يَمَلُّ وأنّ النأي يِشْفِي مِن الوَجْد )

( بكلٍّ تداوينا فلم يُشْفَ ما بنا ... على أنّ قرب الدار خيرٌ من البعد )

ثم قال يا إبراهيم هذا الغناء الماخوري فخذه وانح نحوه في غنائك وعلمه جواريك فقلت أعده علي فقال لست تحتاج قد أخذته وفرغت منه ثم غاب من بين يدي فارتعت وقمت إلى السيف فجردته وعدوت نحو أبواب الحرم فوجدتها مغلقة فقلت للجواري أي شيء سمعتن عندي فقلن سمعنا أحسن غناء سمع قط فخرجت متحيرا إلى باب الدار فوجدته مغلقا فسألت البواب عن الشيخ فقال لي أي

 

شيخ هو والله ما دخل إليك اليوم أحد فرجعت لأتأمل أمري فإذا هو قد هتف بي من بعض جوانب البيت لا بأس عليك يا أبا إسحاق أنا إبليس وأنا كنت جليسك ونديمك اليوم فلا ترع

فركبت إلى الرشيد وقلت لا أطرفه أبدا بطرفه مثل هذه فدخلت إليه فحدثته بالحديث فقال ويحك تأمل هذه الأصوات هل أخذتها فأخذت العود أمتحنها فإذا هي راسخة في صدري كأنها لم تزل فطرب الرشيد عليها وجلس يشرب ولم يكن عزم على الشراب وأمر لي بصلة وحملان وقال الشيخ كان أعلم بما قال لك من أنك أخذتها وفرغت منها فليته أمتعنا بنفسه يوما واحدا كما أمتعك

نسبة هذه الأصوات

أما الصوت الأول فالذي أعرفه فيه خفيف رمل لمحمد بن الحارث بن بسخنر ولم يقع إلي فيه صنعة لإبراهيم

والصوت الثاني الذي أوله

( ألا يا صبا نجدٍ متى هِجْتِ من نجدِ ... )

فشعره ليزيد بن الطثرية والغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو

وفيه لمحمد بن الحسن بن مصعب ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي

 

وعمرو

وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لدحمان ولحنا لابنه الزبير ولم يذكر في أي طريقة هما

هكذا حدثنا ابن أبي الأزهر بهذا الخبر وما أدري ما أقول فيه ولعل إبراهيم صنع هذه الحكاية ليتنفق بها أو صنعت وحكيت عنه

إلا أن للخبر أصلا الأشبه بالحق منه ما حدثني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري وأحمد بن عبيد الله بن عمار قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبيه قال

صنعت لحنا فأعجبني وجعلت أطلب شعرا فعسر ذلك علي ورأيت في المنام كأن رجلا لقيني فقال يا إبراهيم أأعياك شعر لغنائك هذا الذي تعجب به قلت نعم قال فأين أنت من قول ذي الرمة حيث قال

( ألا يا اسْلَمِي يا دار مَيّ على البِلَى ... ولا زال مُنْهَلاًّ بجَرْعائك القَطْرُ )

 

( وإن لم تكوني غير شَام بقَفْرةٍ ... تَجْرُّ بها الأذيالَ صَيْفِيّة كُدْرُ )

قال فانتبهت وأنا فرح بالشعر فدعوت من ضرب علي وغنيته فإذا هو أوفق ما خلق الله فلما علمت ذلك وعملت هذا الغناء في شعر ذي الرمة تنبهت عليه وعلى شعره فصنعت فيه ألحانا ماخورية منها

صوت

( أَمَنْزِلَتَيْ مَيٍّ سلامٌ عليكما ... هل الأزمُنُ اللائي مَرَرْنَ رواجعُ )

( وهل يَرجِعُ التسليمَ أو يكشِفُ العَمَى ... ثلاثُ الأثافي أو رسومٌ بلاقِعُ )

صنعة إبراهيم في هذين الشعرين جميعا من الماخوري بالوسطى وهو خفيف الثقيل الثاني

وأخباره كلها في هذا المعنى تأتي في أخبار ذي الرمة مشروحة

سأل الرشيد أن يختصه بالغناء في شعر ذي الرمة

حدثني محمد بن مزيد قال حدثني حماد عن أبيه قال قال لي أبي

قال لي جعفر بن يحيى يوما وقد علم أن الرشيد أذن لي وللمغنين في الانصراف يومئذ صر إلي حتى أهب لك شيئا حسنا فصرت إليه فقال لي أيما أحب إليك أهب لك الشيء الحسن الذي وعدتك به أم أرشدك إلى شيء تكسب به ألف ألف درهم فقلت بل يرشدني الوزير أعزه الله إلى هذا الوجه فإنه يقوم مقام إعطائه إياي هذا الحسن فقال إن أمير المؤمنين يحفظ شعر ذي الرمة حفظ الصبا ويعجبه ويؤثره فإذا سمع

 

غناء أطربه أكثر مما يطربه غيره مما لا يحفظ شعره فإذا غنيته فأطربته وأمر لك بجائزة فقم على رجليك قائما وقبل الأرض بين يديه وقل له لي حاجة غير هذه الجائزة أريد أن أسألها أمير المؤمنين وهي حاجة تقوم عندي مقام كل فائدة ولا تضره ولا ترزؤه فإنه سيقول لك أي شيء حاجتك فقل قطيعة تقطعنيها سهلة عليك لا قيمة لها ولا منفعة فيها لأحد فإذا أجابك إلى ذلك فقل له تقطعني شعر ذي الرمة أغني فيه ما أختاره وتحظر على المغنين جميعا أن يداخلوني فيه فإني أحب شعره وأستحسنه فلا أحب أن ينغصه علي أحد منهم وتوثق منه في ذلك فقبلت ذلك القول منه وما انصرفت من عنده بعد ذلك إلا بجائزة وتوخيت وقت الكلام في هذا المعنى حتى وجدته فقمت فسألت كما قال لي وتبينت السرور في وجهه وقال ما سألت شططا قد أقطعتك سؤلتك فجعلوا يتضاحكون من قولي ويقولون لقد استضخمت القطيعة وهو ساكت فقلت يا أمير المؤمنين أتأذن لي في التوثق قال توثق كيف شئت فقلت بالله وبحق رسوله وبتربة أمير المؤمنين المهدي إلا جعلتني على ثقة من ذلك بأنك تحلف لي أنك لا تعطي أحدا من المغنين جائزة على شيء يغنيه في شعر ذي الرمة فإن ذلك وثيقتي فحلف مجتهدا لهم لئن غناه أحد منهم في شعر ذي الرمة لا أثابه بشيء ولا بره ولا سمع غناءه فشكرت فعله وقبلت الأرض بين يديه وانصرفنا

فغنيت مائة صوت وزيادة في شعر ذي الرمة فكان إذا سمع منها صوتا طرب وزاد طربه ووصلني فأجزل ولم ينتفع به أحد منهم غيري فأخذت منه والله بها ألف ألف درهم وألف ألف درهم

أخبرني جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني أبو خالد الأسلمي قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال

 

قال إبراهيم الموصلي أرتج علي فلم أجد شعرا أصوغ فيه غناء أغني فيه الرشيد فدخلت إلى بعض حجر داري مغموما فأسبلت الستور علي وغلبتني عيني فتمثل لي في البيت شيخ أشوه الخلقة فقال لي يا موصلي مالي أراك مغموما قلت لم أصب شعرا أغني فيه الرشيد الليلة قال فأين أنت عن قول ذي الرمة

( ألاّ يا اسْلَمِي يا دارَ مَيِّ على البِلَى ... ولا زال مُنْهَلاًّ بجَرْعائِك القطرُ )

( وإن لم تكوني غيرَ شام بقَفْرةٍ ... تَجُرّ بها الأذيالَ صيْفيّةٌ كُدْرُ )

( أقامت بها حتى ذَوَى العودُ في الثَّرَى ... وساق الثريّا في مُلاءته الفجرُ )

( وحتى اعتلى البُهْمَى من الصيف نافِضٌ ... كما نَفَضَتْ خيلٌ نواصيهَا شُقْرُ )

قال وغناني فيه بلحن وكرره حتى علقته فانتبهت وأنا أديره فناديت جارية لي وأمرتها بإحضار عود وما زلت أترنم بالصوت وهي تضرب حتى استوى لي ثم صرت إلى هارون فغنيته إياه فأسكت المغنين ثم قال أعد فأعدت فما زال ليلته يستعيدنيه فلما أصبح أمر لي بثلاثين ألف درهم وبفرش البيت الذي كنا فيه وقال عليك بشعر ذي الرمة فغن فيه فصنعت فيه غناء كثيرا فكنت أغنيه به فيعجبه ويجزل صلتي

أخبرني عمي وابن المرزبان والحسن بن علي قالوا حدثنا عبد الله بن

 

أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله السلمي قال حدثنا أبو غانم مولى جبلة ابن يزيد السلمي قال

اجتمع إبراهيم الموصلي وزلزل وبرصوما بين يدي الرشيد فضرب زلزل وزمر برصوما وغنى إبراهيم

صوت

( صَحَا قلبي وراعَ إليّ عقلي ... وأقْصَر باطلي ونَسِيتُ جهلي )

( رأيتُ الغانياتِ وكُنَّ صُوراً ... إليّ صَرَمْنني وقَطعْنَ حبلي )

فطرب هارون حتى وثب على رجليه وصاح يا آدم لو رأيت من يحضرني من ولدك اليوم لسرك ثم جلس وقال أستغفر الله

الشعر الذي غنى فيه إبراهيم لأبي العتاهية

والغناء لإبراهيم خفيف ثقيل بالبنصر

حدثني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال

كان الرشيد يجد بماردة وجدا شديدا فغضبت عليه وغضب عليها وتمادى بينهما الهجر أياما فأمر جعفر بن يحيى العباس بن الأحنف فقال

( راجِعّ أحبتَّك الذين هجرتَهم ... إنّ المُتَيَّم قلّما يَتَجَنّبُ )

( إنّ التجنُّبَ إن تطاولَ منكما ... دَبَّ السُّلُوُّله فعَزّ المطلبُ )

وأمر إبراهيم الموصلي فغنى فيه الرشيد فلما سمعه بادر إلى ماردة

 

فترضاها فسألت عن السبب في ذلك فعرفته فأمرت لكل واحد من العباس وإبراهيم بعشرة آلاف درهم وسألت الرشيد أن يكافئهما عنها فأمر لهما بأربعين ألف درهم

جائزة الرشيد الأولى كانت لإبراهيم الموصلي

أخبرني جعفر بن قدامة عن حماد عن أبيه قال

أول جائزة خرجت لشاعر من الرشيد لما ولي الخلافة جائزة لإبراهيم فإنه قال يمدحه لما ولي

صوت

( ألم تَرَ أنّ الشمسَ كانت مريضةً ... فلمّا وَلِي هارونُ أشرق نُورُها )

( فأُلبستِ الدّنيا جمالاً بوجهه ... فهارونُ وَاليها ويحيى وزيرُها )

وغنى فيه فأمر له بمائة ألف درهم وأمر له يحيى بخمسين ألف درهم

أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق الموصلي

أن أباه لعب يوما مع الرشيد بالنرد في الخلعة التي كانت على الرشيد والخلعة التي كانت عليه هو فتقامر للرشيد فلما قمره قام إبراهيم فنزع ثيابه ثم قال للرشيد حكم النرد الوفاء به وقد قمرت ووفيت لك فالبس ما كان علي فقال له الرشيد ويلك أنا ألبس ثيابك فقال إي والله إذا أنصفت وإذا لم تنصف قدرت وأمكنك قال ويلك أو أفتدي منك قال نعم قال وما الفداء قال قل أنت يا أمير المؤمنين فإنك

 

أولى بالقول فقال أعطيك كل ما علي قال فمر به يا أمير المؤمنين وأنا أستخير الله في ذلك فدعا بغير ما عليه فلبسه ونزع ما كان عليه فدفعه إلى إبراهيم

فطنته في صناعة الموسيقى

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني علي بن عبد الكريم قال

زار ابن جامع إبراهيم الموصلي فأخرج إليه ثلاثين جارية فضربن جميعا طريقة واحدة وغنين فقال ابن جامع في الأوتار وتر غير مستو فقال إبراهيم يا فلانة شدي مثناك فشدته فاستوى فعجبت أولا من فطنة ابن جامع لوتر في مائة وعشرين وترا غير مستو ثم ازداد عجبي من فطنة إبراهيم له بعينه

أخبرني إسماعيل بن يونس وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر ابن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم قال حدثني أبي قال

كنا مع الرشيد بالرقة وكان هناك خمار أقصده أشتري منه شرابا حسنا طيبا وربما شربت في حانته فأتيته يوما فبزل لي دنا في باطية له فرأيت لونه حسنا صافيا فاندفعت أغني

صوت

( اسْقِني صَهْبَاءَ صِرْفاً ... لم تُدَنَّسْ بِمزَاجِ )

( اسْقِني والليلُ داجٍ ... قبلَ أصوات الدَّجاج )

 

( يا أبا وَهْب خليلي ... كلُّ هَمٍّ لانفراج )

( حين تَوَّهْتَ بقلبي ... في أعاصير الفِجَاج )

الغناء في هذه الأبيات لإبراهيم هزج بالوسطى عن عمرو

وفيها لسياط ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق قال فدهش الخمار يسمع صوتي فقلت له ويحك قد فاض النبيذ من الباطية فقال دعني من النبيذ يا أبا إسحاق مالي أرى صوتك حزينا حريقا مات لك بالله إنسان فلما جئت إلى الرشيد حدثته بذلك فجعل يضحك

قصته مع الرشيد والجواري

وذكر أحمد بن أبي طاهر أن المدائني حدث قال

قال إبراهيم الموصلي قال لي الرشيد يوما يا إبراهيم إني قد جعلت غدا للحريم وجعلت ليلته للشرب مع الرجال وأنا مقتصر عليك من المغنين فلا تشتغل غدا بشيء ولا تشرب نبيذا وكن بحضرتي في وقت العشاء الآخرة فقلت السمع والطاعة لأمير المؤمنين فقال وحق أبي لئن تأخرت أو اعتللت بشيء لأضربن عنقك أفهمت فقلت نعم وخرجت فما جاءني أحد من إخواني إلا احتجبت عنه ولا قرأت رقعة لأحد حتى إذا صليت المغرب ركبت قاصدا إليه فلما قربت من فناء داره مررت بفناء قصر وإذا زنبيل كبير مستوثق منه بحبال وأربع عزى أدم وقد دلي من القصر وجارية قائمة تنتظر إنسانا قد وعد ليجلس فيه فنازعتني نفسي إلى الجلوس فيه ثم قلت هذا خطأ ولعله أن يجري سبب يعوقني عن الخليفة فيكون الهلاك فلم أزل أنازع نفسي وتنازعني حتى غلبتني فنزلت فجلست فيه ومد الزنبيل حتى صار في أعلى القصر ثم خرجت فنزلت

 

فإذا جوار كأنهن المها جلوس فضحكن وطربن وقلن قد جاء والله من أردناه فلما رأينني من قريب تبادرن إلى الحجاب وقلن يا عدو الله ما أدخلك إلينا فقلت يا عدوات الله ومن الذي أردتن إدخاله ولم صار أولى بهذا مني فلم يزل هذا دأبنا وهن يضحكن وأضحك معهن ثم قالت إحداهن أما من أردناه فقد فات وما هذا إلا ظريف فهلم نعاشره عشرة جميلة فأخرج إلي طعام ودعيت إلى أكله فلم يكن في فضل إلا أني كرهت أن أنسب إلى سوء العشرة فأصبت منه إصابة معذر ثم جيء بالنبيذ فجعلنا نشرب وأخرجن إلي ثلاث جوار لهن فغنين غناء مليحا فغنت إحداهن صوتا لمعبد فقالت إحدى الثلاث من وراء الستر أحسن إبراهيم هذا له فقلت كذبت ليس هذا له هذا لمعبد فقالت يا فاسق وما يدريك الغناء ما هو ثم غنت الأخرى صوتا للغريض فقالت تلك أحسن إبراهيم هذا له أيضا فقلت كذبت يا خبيثة هذا للغريض فقالت اللهم أخزه ويلك وما يدريك ثم غنت الجارية صوتا لي فقالت تلك أحسن ابن سريج هذا له فقلت كذبت هذا لإبراهيم وأنت تنسبين غناء الناس إليه وغناءه إليهم فقالت ويحك وما يدريك فقلت أنا إبراهيم فتباشرن بذلك جميعا وطربن كلهن وظهرهن كلهن لي وقلن كتمتنا نفسك وقد سررتنا فقلت أنا الآن أستودعكن الله فقلن وما السبب فأخبرتهن بقصتي مع الرشيد فضحكن وقلن الآن والله طاب حبسك علينا وعلينا إن خرجت أسبوعا فقلت هو والله القتل قلن إلى لعنة الله

فأقمت والله عندهن أسبوعا لا أزول فلما كان بعد الأسبوع ودعنني وقلن إن سلمك الله فأنت بعد ثلاث عندنا قلت نعم فأجلسنني في الزنبيل وسرحت فمضيت لوجهي حتى أتيت دار الرشيد وإذا النداء قد أشيع ببغداد في طلبي وأن من أحضرني فقد سوغ ملكي وأقطع مالي فاستأذنت فتبادر الخدم حتى أدخلوني على الرشيد فلما رآني شتمني وقال

 

السيف والنطع إيه يا إبراهيم تهاونت بأمري وتشاغلت بالعوام عما أمرتك به وجلست مع أشباهك من السفهاء حتى أفسدت علي لذتي فقلت يا أمير المؤمنين أنا بين يديك وما أمرت به غير فائت ولي حديث عجيب ما سمع بمثله قط وهو الذي قطعني عنك ضرورة لا اختيارا فاسمعه فإن كان عذرا فأقبله وإلا فأنت أعلم قال هاته فليس ينجيك فحدثته فوجم ساعة ثم قال إن هذا لعجب أفتحضرني معك هذا الموضع قلت نعم وأجلسك معهن إن شئت قبلي حتى تحصل عندهن وإن شئت فعلى موعد قال بل على موعد قلت أفعل فقال انظر قلت ذلك حاصل إليك متى شئت فعدل عن رأيه في وأجلسني وشرب وطرب فلما أصبحت أمرني بالانصراف وأن أجيئه من عندهن فمضيت إليهن في وقت الوعد فلما وافيت الموضع إذا الزنبيل معلق فجلست فيه ومده الجواري فصعدت فلما رأينني تباشرن وحمدن الله على سلامتي وأقمت ليلتي فلما أردت الانصراف قلت لهن إن لي أخا هو عدل نفسي عندي وقد أحب معاشرتكن ووعدته بذلك فقلن إن كنت ترضاه فمرحبا به فوعدتهن ليلة غد وانصرفت وأتيت الرشيد وأخبرته فلما كان الوقت خرج معي متخفيا حتى أتينا الموضع فصعدت وصعد بعدي ونزلنا جميعا وقد كان الله وفقني لأن قلت لهن إذا جاء صديقي فاستترن عني وعنه ولا يسمع لكن نطقة وليكن ما تخترنه من غناء أو تقلنه من قول مراسلة فلم يتعدين ذلك وأقمن على أتم ستر وخفر وشربنا شربا كثيرا وقد كان أمرني ألا أخاطبه بأمير المؤمنين فلما أخذ مني النبيذ قلت سهوا يا أمير المؤمنين فتواثبن من وراء الستارة حتى غابت عنا حركاتهن فقال لي يا إبراهيم لقد أفلت من أمر عظيم والله لو برزت إليك واحدة منهن لضربت عنقك قم بنا فانصرفنا وإذا هن له قد كان غضب

 

عليهن فحبسهن في ذلك القصر ثم وجه من غد بخدم فردوهن إلى قصره ووهب لي مائة ألف درهم وكانت الهدايا والألطاف تأتيني بعد ذلك منهن

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبي قال

دخلت على الرشيد يوما فقال لي أنا اليوم كسلان خاثر فإن غنيتني صوتا يوقظ نشاطي أحسنت صلتك فغيته

( ولم يُرَ في الدنيا مُحبّان مثلُنا ... على ما نلاقي من ذَوِي الأعين الخُزْرِ )

( صَفِيّانِ لا نرضى الوُشاةَ إذا وَشَوْا ... عفِيفانِ لا نَغْشَى من الأمر ما يُزْرِي )

فطرب ودعا بالطعام فأكل وشرب وأمر لي بخمسين ألف درهم

الموصلي يمتحن صوتا للمغنية دنانير

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال قال لي أبي قال لي يحيى بن خالد

إن ابنتك دنانير قد عملت صوتا أعجبني وأعجبت أيضا هي به فقلت لها لا تعجبي به حتى أعرضه على أبيك أبي إسحاق فقلت له والله ما في معرفة الوزير أعزه الله به ولا بغيره من الصنائع مطعن وإنه لأصح العالم تمييزا وأثقبه فطنة وما أعجبه إلا وهو صحيح حسن فقال إن كنت كما تقول أيضا فإن أهل كل صناعة يمارسونها أفهم بها ممن يعلمها عن عرض من غير ممارسة ولو كنا في هذه الصناعة متساويين لكان الاستظهار

 

برأيك أجود لأن ميلي إلى صانعة الصوت ربما حسن عندي ما ليس بالحسن وإنما يتم سروري به بعد سماعك إياه واستحسانك له على الحقيقة فمضيت فوجدت ستارة منصوبة وأمرا قد تقدم فيه قبلي فجلست فسلمت على الجارية وقلت لها تغنيني الصوت الذي ذكره لي الوزير أعزه الله فقالت إن الوزير قال لي إن استجاده فعرفيني ليتم سروري به وإلا فاطو الخبر عني لئلا تزول رتبته عندي فقلت هاتيه حتى أسمعه فغنت تقول

( نفسي أكنتُ عليكِ مدَّعياً ... أم حين أَزْمَعَ بينُهم خُنْتِ )

( إن كنتِ هائمةً بذكرهُم ... فعلى فراقهمُ ألا حُمْت )

قال فأحسنت والله وما قصرت فاستعدته لأطلب فيه موضعا لأصلحه فيكون لي فيه معنى فما وجدت قلت أحسنت والله يا بنية ما شئت ثم عدت إلى يحيى فحلفت له بأيمان رضيها أن كثيرا من حذاق المغنين لا يحسنون أن يصنعوا مثله ولقد استعدته لأرى فيه موضعا يكون لي فيه عمل فما وجدت فقال وصفك لها من أجله يقوم مقام تعليمك إياها فقد والله سررتني وسأسرك فلما انصرفت أتبعني بخمسين ألف درهم

حدثني عمي وابن المرزبان قالا حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله السلمي قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني إسحاق ولم يقل عن أبيه قال

والله إني لفي منزلي ذات يوم وأنا مفكر في الركوب مرة وفي القعود مرة إذا غلامي قد دخل ومعه خادم الرشيد يأمرني بالحضور من وقتي فركبت وصرت إليه فقال لي اجلس يا إبراهيم حتى أريك عجبا فجلست فقال علي بالأعرابية وابنتها فأخرجت إلي أعرابية ومعها بنية لها عشر أو أرجح فقال يا إبراهيم إن هذه الصبية تقول الشعر فقلت

 

لأمها ما يقول أمير المؤمنين فقالت هي هذه قدامك فسلها فقلت يا حبيبة أتقولين الشعر فقالت نعم فقلت أنشديني بعض ما قلت فأنشدتني

صوت

( تقول لأتراب لها وهي تَمْتَرِي ... دموعاً على الخدَّيْن من شدّة الوجدِ )

( أكلُّ فتاةٍ لا محالةَ نازلٌ ... بها مثلُ ما بي أم بُلِيتُ به وحدي )

( بَرانِي له حبٌّ تَنشَّبَ في الحَشَى ... فلم يُبْقِ من جسمي سوى العظمِ والجلد )

( وجَدتُ الهوى حُلْواً لذيذاً بَدِيئُه ... وآخرُه مرُّ لصاحبه مُرْدِي )

قال الشبي في خبره قال إسحاق وكان أبي حاضرا فقال والله لا تبرح يا أمير المؤمنين أو نصنع في هذه الأبيات لحنا فصغت فيها أنا وأبي وجميع من حضر

وقال الآخرون قال إبراهيم فما برحت حتى صنعت فيه لحنا وتغنيت به وهي حاضرة تسمع

قال ابن المرزبان في خبره ولم يذكره عمي فقالت يا أمير المؤمنين قد أحسن رواية ما قلت أفتأذن لي أن أكافئه بمدح أقوله فيه قال افعلي فقالت

صوت

( ما لإِبراهيم في العلم ... بهذا الشأن ثانِي )

( إنما عُمْرُ أبي إسحاقَ ... زينٌ للزمان )

( منه يُجنَى ثَمَرُ اللهو ... ورَيْحانُ الجِنان )

 

( جنّة الدنيا أبو إسحاق ... في كلّ مكان )

قال فأمر لها الرشيد بجائزة وأمر لي بعشرة آلاف درهم فوهبت لها شطرها

اللحن الذي صنعه إبراهيم في شعر الأعرابية ثقيل أول بالوسطى

وفيه لعلويه ثاني ثقيل

وأما الشعر الثاني فهو لابن سيابة لا يشك فيه

ولإبراهيم فيه لحن من خفيف الثقيل

أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال

كنت أخذت بالمدينة من مجنون بها هذا الصوت وغنيته الرشيد وقلت

صوت

( هما فتاتانِ لمّا تَعرِفا خُلُقي ... وبالشَّبابِ على شَيْبي تُدِلاّنِ )

( رأيتُ عِرْسَيَّ لمّا ضَمَّني كِبَري ... وشِخْتُ أزمعتَا صرمي وهِجْراني )

( كلُّ الفَعَال الذي يفعلْنَه حَسَنٌ ... يُصْبي فؤادي ويُبْدي سرّ أَشْجاني )

( بَل احذَرَا صَوْلةً من صَوْل شيخكما ... مَهْلاً على الشيخ مَهْلاً يا فتاتان )

فطرب وأمر لي بظبية كانت ملقاة بين يديه فيها ألف دينار مسيفة وكان ابن جامع حاضرا فقال اسمع يا أمير المؤمنين غناء العقلاء ودع غناء المجانين وكان أشد خلق الله حسدا فغناه

صوت

( ولقد قالت لأتراب لها ... كالمَهَا يَلْعَبْن في جُحْرتها )

 

( خُذْن عنّي الظِّلَّ لا يَتْبَعُني ... ومَضَتْ سَعْياً إلى قُبّتها )

فطرب وشرب وأمر له بألف وخمسمائة دينار

ثم تبعه محمد بن حمزة وجه القرعة فغنى

صوت

( يَمْشُون فيها بكلِّ سابغةٍ ... أُحكِم فيها القَتِيرُ والحِلَقُ )

( يُعرَف إنصافُهم إذا شهِدوا ... وصبْرُهم حين تَشْخَص الحَدَق )

فاستحسنه وشرب عليه وأمر له بخمسمائة دينار

ثم غنى علوية

صوت

( يَجْحَدْنَ دَيْني بالنّهار وأقتضي ... دَيْني إذا وَقَذَ النُّعاسُ الرُّقَّدا )

( وأَرَى الغَوَانيَ لا يُواصِلْنَ امرأً ... فقَدَ الشّبابَ وقد يَصِلن الأمْرَدَا )

فدعا به الرشيد وقال له يا عاض بظر أمه أتغني في مدح المرد وذم الشيب وستارتي منصوبة وقد شبت وكأنك تعرض بي ثم دعا مسرورا فأمره أن يأخذ بيده فيضربه ثلاثين درة ويخرجه من مجلسه ففعل وما انتفعنا به بقية يومنا ولا انتفع بنفسه وجفا علويه شهرا ثم سألناه فيه فأذن له

قال أبو الفرج لإبراهيم أخبار مع خنث المعروفة بذات الخال وكان يهواها جعلتها في موضع آخر من هذا الكتاب لأنها منفردة بذاتها

 

مستغنية عن إدخالها في غمار أخباره

وله في هذه الجارية شعر كثير فيه غناء له ولغيره وقد شرطت أن الشيء من أخبار الشعراء والمغنين إذا كانت هذه سبيله أفرده لئلا يقطع بين القرائن والنظائر مما تضاف إليه وتدخل فيه

خبر موته

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال

سمعت إسحاق الموصلي يقول لما دخلت سنة ثمان وثمانين ومائة اشتد أمر القُولَنْج على أبي ولزمه وكان يعتاده أحيانا فقعد عن خدمة الخليفة وعن نوبته في داره فقال في ذلك

صوت

( مَلّ والله طبيبي ... من مُقَاساة الذي بي )

( سوف أُنْعَى عن قريب ... لعدوٍّ وحبيب )

وغني فيه لحنا من الرمل فكان آخر شعر قاله وآخر لحن صنعه

أخبرني الصولي عن محمد بن موسى عن حماد بن إسحاق عن أبيه

أن الرشيد ركب حمارا ودخل إلى إبراهيم يعوده وهو في الأبزن جالس فقال له كيف أنت يا إبراهيم فقال أنا والله يا سيدي كما قال الشاعر

( سَقيمٌ مَلَّ منه أقربوه ... وأسْلَمه المُداوي والحميمُ )

 

فقال الرشيد إنا لله وخرج فلم يبعد حتى سمع الواعية عليه

المأمون يصلي عليه بعد موته

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر بن شبة قال

مات إبراهيم الموصلي سنة ثمان وثمانين ومائة ومات في ذلك اليوم الكسائي النحوي والعباس بن الأحنف الشاعر وهشيمة الخمارة فرفع ذلك إلى الرشيد فأمر المأمون أن يصلي عليهم فخرج فصفوا بين يديه فقال من هذا الأول قيل إبراهيم فقال أخروه وقدموا العباس بن الأحنف فقدم فصلى عليهم فلما فرغ وانصرف دنا منه هاشم بن عبد الله ابن مالك الخزاعي قال يا سيدي كيف آثرت العباس بالتقدمة على من حضر قال لقوله

( وسعَى بها ناسٌ فقالوا إنّها ... لهي التي تَشْقَى بها وتُكابِدُ )

( فجحدتُهم ليكونَ غيرَكِ ظنُّهم ... إنِّي ليُعجِبني المحبّ الجاحد )

ثم قال أتحفظها قلت نعم فقال أنشدني باقيها فأنشدته

( لمّا رأيتُ الليلَ سدّ طَريقَه ... عنّي وعذّبني الظلام الراكد )

 

( والنّجم في كَبِد السماء كأنه ... أعمى تحيَّر ما لديه قائد )

( ناديتُ مَنْ طَرَد الرُّقَادَ بصدّه ... عمّا أُعالج وهو خِلوٌ هاجد )

( ياذا الذي صدَع الفؤادَ بهجره ... أنت البَلاءُ طريفُه والتّالد )

( ألقيتَ بين جفون عيني حُرْقةً ... فإلى متى أنا ساهرٌ يا راقد )

فقال المأمون أليس من قال هذا الشعر حقيقا بالتقدمة فقلت بلى والله يا سيدي

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال قال حدثني حماد بن إسحاق قال حدثني أبي قال

قال لي برصوما الزامر أما في حقي وخدمتي وميلي إليكم وشكري لكم ما أستوجب به أن تهب لي يوما من عمرك تفعل فيه ما أريد ولا تخالفني في شيء فقلت بلى ووعدته بيوم فأتاني فقال مر لي بخلعة ففلعت وجعلت فيها جبة وشي فلبسها ظاهرة وقال امض بنا إلى المجلس الذي كنت آتي أباك فيه فمضينا جميعا إليه وقد خلقته وطيبته فلما صار على باب المجلس رمى بنفسه إلى الأرض فتمرغ في التراب وبكى وأخرج نايه وجعل ينوح في زمره ويدور في المجلس ويقبل المواضع التي كان أبو إسحاق يجلس فيها ويبكي ويزمر حتى قضى من ذلك وطرا ثم ضرب بيده إلى ثيابه فشقها وجعلت أسكته وأبكي معه فما سكن إلا بعد حين ثم دعا بثيابه فلبسها وقال إنما سألتك أن تخلع علي لئلا يقال إن برصوما إنما خرق

 

ثيابه ليخلع عليه ما هو خير منها ثم قال امض بنا إلى منزلك فقد اشتفيت مما أردت فعدت إلى منزلي وأقام عندي يومه وانصرف بخلعة مجددة

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني القاسم ابن يزيد قال

لما مات إبراهيم الموصلي دخلت على إبراهيم بن المهدي وهو يشرب وجواريه يغنين فذكرنا إبراهيم الموصلي وحذقه وتقدمه فأفضنا في ذلك وإبراهيم مطرق فلما طال كلامنا وقال كل واحد منا مثل ما قاله صاحبه اندفع إبراهيم بن المهدي يغني في شعر لابن سيابة يرثي به إبراهيم ويقال إن الأبيات لأبي الأسد

( تولَّى الموصليُّ فقد تولّتْ ... بشاشاتُ المَزَاهِر والقِيانِ )

( وأيُّ بشاشةٍ بَقِيَتْ فتبقَى ... حياةُ الموصلّي على الزمان )

( ستَبْكيه المَزَاهِرُ والمَلاَهي ... وتُسْعِدُهنّ عاتقةُ الدّنان )

( وتَبْكيه الغَوِيّة إذ تولّى ... ولا تبكيه تاليةُ القُران )

قال فأبكى من حضر وقلت أنا في نفسي أفتراه هو إذا مات من يبكيه المحراب أم المصحف قال وكان كالشامت بموته

أخبرني يحيى بن علي قال قال أنشدني حماد قال أنشدني أبي لنفسه

 

يرثي أباه وأنشدها غير يحيى وفيها زيادة على روايته

( أقول له لما وقفتُ بقبره ... عليك سلامُ الله يا صاحبَ القبرِ )

( أيا قبرَ إبراهيم حُيِّيت حُفْرةً ... ولا زِلتَ تُسْقَى الغَيثَ من سَبَل القَطْر )

( لقد عزّني وَجْدي عليكَ فلم يَدَعْ ... لقلبي نصيباً من عَزاء ولا صبر )

( وقد كنتُ أبكي من فِراقك ليلةً ... فكيف وقد صار الفِراقُ إلى الحشر )

أخبرني أحمد بن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي الملقب بوسواسة قال أنشدني حماد لأبيه إسحاق يرثي أباه إبراهيم الموصلي

( سلامٌ على القبر الذي لا يُجيبنا ... ونحن نُحيّي تُرْبه ونخاطُبهْ )

( سَتَبْكيه أشرافُ المُلوك إذا رَأَوْا ... مَحَلّ التصابي قد خلا منه جانبُهْ )

( ويَبكيه أهلُ الظَّرْف طُرًّا كما بكى ... عليه أمير المؤمنين وحاجبُه )

( ولمّا بدا لي اليأسُ منه وأَنْزَفتْ ... عيونُ بواكيه ومَلّتْ نوادبُه )

( وصار شفاءُ النفس من بعض ما بها ... إفاضةَ دمع تَسْتَهِلّ سواكبُه )

( جعلتُ على عينيّ للصبح عَبرةً ... ولَلّيل أخرى ما بدتْ لي كواكبُه )

قال وأنشدني أيضا حماد لأبيه يرثي أباه

( عليك سلامُ الله من قبرِ فاجع ... وجادك من نوءَ السِّماكين وابلُ )

( هَلَ انْتَ مُحييِّ القبرِ أم أنت سائل ... وكيف تُحيَّا تُربةٌ وجَنادل )

( أَظَلُّ كأني لم تُصبني مصيبةٌ ... وفي الصّدر من وَجْدٍ عليك بلابل )

 

( وهَوّن عندي فَقْدَه أنّ شخصه ... على كل حال بين عينيّ ماثل )

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المديني قال أنشدني إبراهيم ابن علي بن هشام لرجل يرثي إبراهيم الموصلي

( أصبح اللهو تحت عَفْر الترابِ ... ثَاوِياً في مَحَلّة الأحبابِ )

( إذ ثوى الموصليّ فانقرض اللّهو ... بخير الإِخوان والأصحاب )

( بكت المُسْمِعاتُ حُزْناً عليه ... وبكاه الهوى وصَفْوُ الشراب )

( وبكتْ آلةُ المجالس حتى ... رحِم العودُ دمعةَ المِضراب )

إسحاق الموصلي يذكر أباه عند الرشيد ويبكي

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال

دخلت إلى الرشيد بعقب وفاة أبي وذلك بعد شهر من يوم وفاته فلما جلست ورأيت موضعه الذي كان يجلس فيه خاليا دمعت عيني فكففتها وتصبرت ولمحني الرشيد فدعاني إليه وأدناني منه فقبلت يده ورجله والأرض بين يديه فاستعبر وكان رقيقا فوثبت قائما ثم قلت

( في بقاء الخليفة الميمون ... خَلَفٌ من مُصيبة المحزونِ )

( لاَ يضير المصابَ رُزْءٌ إذا ما ... كان ذا مَفْزَعٍ إلى هارون )

فقال لي كذاك والله هو ولن تفقد من أبيك ما دمت حيا إلا شخصه وأمر بإضافة رزقه إلى رزقي فقلت بل يأمر أمير المؤمنين به إلى ولده ففي خدمتي إياه ما يغنيني فقال اجعلوا رزق إبراهيم لولده وأضعفوا رزق إسحاق

 

صوت من المائة المختارة

( يا دارَ سُعْدى بالجِزْع من مَلَلِ ... حُيِّيتِ من دِمْنةٍ ومن طَلَلِ )

( إنِّي إذا ما البخيلُ أَمَّنها ... باتت ضَمُوزاً منِّي على وَجَلْ )

( لا أُمتِع العُوّذَ بالفِصال ولا ... أبتاع إلا قَرِيبةَ الأجل )

العوذ الإبل التي قد نتجت واحدتها عائذ يقول أنحرها وأولادها للأضياف فلا أمتعها

والضموز الممسكة عن أن تجتر

ضمز الجمل بجرته إذا أمسك عنها ودسع بها إذا استعملها

يقول فهذه الناقة من شدة خوفها على نفسها مما رأت من نحر نظائرها قد امتنعت من جرتها فهي ضامزة

الشعر لابن هرمة

والغناء في اللحن المختار لمرزوق الصراف ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق ويقال إنه ليحيى بن واصل

وذكر عمرو بن بانة أن فيه لدحمان لحنا من الثقيل الأول بالبنصر وأن فيه لابن محرز لحنا من الثقيل الثاني بالبنصر في الثالث ثم الثاني ووافقه ابن المكي

قال وفيه لدحمان خفيف رمل بالوسطى في الأول والثالث وذكر الهشامي أن هذا اللحن بعينه ليونس وأن الثقيل الثاني لإبراهيم وأن لمعبد فيه لحنا من الثقيل الأول بالوسطى وأن فيه للهذلي خفيف ثقيل وأن فيه رملا ينسب إلى ابن محرز أيضا

 

شيء من ذكر ابن هرمة أيضا

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد العزيز الزهري ونوفل بن ميمون عن يحيى بن عروة بن أذينة قال

خرجت في حاجة لي فلما كنت بالسيالة وقفت على منزل إبراهيم بن علي بن هرمة فصحت يا أبا إسحاق فأجابتني ابنته من هذا فقلت انظري فخرجت إلي فقلت أعلمي أبا إسحاق فقالت خرج والله آنفا قال فقلت هل من قِرىً فإني مُقْوٍ من الزاد قالت لا والله ما صادفته حاضرا قلت فأين قول أبيك

( لا أُمْتِع العُوذَ بالفِصَال ولا ... أبتاع إلاّ قريبةَ الأجلِ )

قالت بذاك والله أفناها أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أيوب بن عباية بمثل هذا الخبر سواء وزاد فيه قال فأخبرت إبراهيم بن هرمة بقولها فضمها إليه وقال بأبي أنت وأمي أنت والله ابنتي حقا الدار والمزرعة لك

 

اخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني نوفل بن ميمون قال حدثني مرقع قال

كنت مع ابن هرمة في سقيفة أم أذينة فجاءه راع بقطعة من غنم يشاوره فيما يبيع منها وكان قد أمره ببيع بعضها قال مرقع فقلت يا أبا إسحاق أين عزب عنك قولك

( لا غنمي مُدّ في الحياة لها ... إلا لدَرْك القِرَى ولا إبلي )

وقولك فيها أيضا

( لا أُمتِع العُوذَ بالفصال ولا ... ولا أَبتاع إلا قَرِيبةَ الأجلِ )

فقال لي مالك أخزاك الله من أخذ منها شيئا فهو له فانتهبناها حتى وقف الراعي وما معه منها شيء

وحدثنا بهذا الخبر أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه

أن ابن هرمة كان اشترى غنما للربح فلقيه رجل فقال له ألست القائل

( لا غنمي مُدّ في الحياة لها ... إلا لدَرْك القِرَى ولا إبلي )

قال نعم قال فوالله إني لأحسبك تدفع عن هذه الغنم المكروه بنفسك وإنك لكاذب فأحفظه ذلك فصاح من أخذ منها شيئا فهو له فانتهبها الناس جميعا وكان ابن هرمة أحد البخلاء

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني نوفل بن ميمون قال حدثني زفر بن محمد الفهري أن هذه القصيدة أول شعر قاله ابن هرمة

 

أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا حماد بن إسحاق قال قرأت على أبي حدثنا عبد الله بن الوليد الأزدي قال حدثني جعفر بن محمد بن زيد بن علي بن الحسين قال

سمع مزبد قول ابن هرمة

( لا أُمْتِع العُوذَ بالفِصَال ولا ... أبتاعُ إلاّ قريبةَ الأجَلِ )

قال صدق ابن الخبيثة إنما كان يشتري الشاة للأضحى فيذبحها من ساعته

أخبرنا وكيع قال حدثنا حماد عن أبيه عن عبد الله بن الوليد عن جعفر ابن محمد بن زيد عن أبيه قال

اجتمع قوم من قريش أنا فيهم فأحببنا أن نأتي ابن هرمة فنعبث به فتزودنا زادا كثيرا ثم أتيناه لنقيم عنده فلما انتهينا إليه خرج إلينا فقال ما جاء بكم فقلنا سمعنا شعرك فدعانا إليك لما سمعناك قلت

( إنّ امرأ جعل الطريقَ لبيته ... طُنُباً وأَنكَر حقّه للَئيم )

وسمعناك تقول

( وإذا تنوّر طارق مُسْتنبِحٌ ... نَبَحتْ فدلّته عليّ كلابِي )

( وعَوَينَ يَستعجِلْنه فلقِينَه ... يَضربْنه بشَرِاشِرِ الأذناب )

وسمعناك تقول

 

( كم ناقةٍ وجأْتُ مَنْحَرها ... بمُستَهَلّ الشُّؤْبُوب أو جَمَلِ )

( لا أُمتع العُوذَ بالفِصال ولا ... أبتاع إلاّ قريبة الأجَل )

قال فنظر إلينا طويلا ثم قال ما على وجه الأرض عصابة أضعف عقولا ولا أسخف دينا منكم فقلنا له يا عدو الله يا دعي أتيناك زائرين وتسمعنا هذا الكلام فقال أما سمعتم الله تعالى يقول للشعراء ( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) أفيخبركم الله أني أقول ما لا أفعل وتريدون مني أن أفعل ما أقول قال فضحكنا منه وأخرجناه معنا فأقام عندنا في نزهتنا يشركنا في زادنا حتى انصرفنا إلى المدينة

أخبرنا عمي قال حدثني محمد بن سعيد الكراني عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال

الحكم الخضري وابن ميادة ورؤبة وابن هرمة

 

وطفيل الكناني ومكين العذري كانوا على ساقة الشعراء وتقدمهم ابن هرمة بقوله

( لا أُمتع العُوذ بالفِصال ولا ... أبتاع إلاّ قريبةَ الأجل )

قال عبد الرحمن وكان عمي معجبا بهذا البيت مستحسنا له وكان كثيرا ما يقول أما ترون كيف قال والله لو قال هذا حاتم لما زاد ولكان كثيرا ثم يقول ما يؤخره عن الفحول إلا قرب عهده

انتهى

أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى ووكيع عن حماد عن أبيه قال

قلت لمروان بن أبي حفصة من أشعر المحدثين من طبقتكم عندك لا أعنيك قال الذي يقول

( لا أمتع العوذ بالفصال ولا ... أبتاع إلا قريبةَ الأجل )

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن أبي حذافة قال لما قال ابن هرمة

( لا أُمتع العوذ بالفِصال ولا ... أبتاع إلا قريبةَ الأجل )

قال ابن الكوسج مولى آل حنين يجيبه

( ما يشرب الباردَ القَراحَ ولا ... يذبح من جَفْرةٍ ولا حَمَلِ )

 

( كأنّه قِرْدةٌ يلاعبها ... قردٌ بأعلى الهِضاب من مَلَل )

قال فقال ابن هرمة لئن لم أوت به مربوطا لأفعلن بآل حنين ولأفعلن فوهبوا لابن الكوسج مائة درهم وربطوه وأتوا به ابن هرمة فأطلقه فقال ابن الكوسج والله لئن عاد لمثلها لأعودن

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال

كنا عند الرشيد في بعض أيامنا ومعنا ابن جامع فغناه ابن جامع ونحن يومئذ بالرقة

( هاج شوقاً فِراقُكَ الأحبابا ... فتناسيتَ أو نَسِيتَ الرَّبابا )

( حين صاح الغرابُ بالبَيْن منهم ... فتصامَمْتَ إذ سمعتَ الغُرابا )

( لو علمنا أنّ الفِراق وَشِيكٌ ... ما انتهينا حتى نزورَ القِبابا )

( أو علمنا حين استقلّتْ نَوَاهم ... ما أقمنا حتّى نَزُمّ الرِّكابا )

الغناء لابن جامع رمل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق وله فيه أيضا ثقيل أول بالوسطى عن عمرو

وذكرت دنانير عن فليح أن فيه لابن سريج وابن محرز لحنين

قال فاستحسنه الرشيد وأعجب به واستعاده مرارا وشرب عليه أرطالا حتى سكر وما سمع غيره ولا أقبل على أحد وأمر لابن جامع بخمسة آلاف دينار فلما انصرفنا قال لي

 

إبراهيم لا ترم منزلك حتى أصير إليك فصرت إلى منزلي فلم أغير ثيابي حتى أعلمني الغلام بموافاته فتلقيته في دهليزي فدخل وجلس وأجلسني بين يديه ثم قال لي يا مخارق أنت فسيلة مني وحسني لك وقبيحي عليك ومتى تركنا ابن جامع على ما ترى غلبنا على الرشيد وقد صنعت صوتا على طريقة صوته الذي غناه أحسن صنعة منه وأجود وأشجى وإنما يغلبني عند هذا الرجل بصوته ولا مطعن على صوتك وإذا أطربته وغلبته عليه بما تأخذه مني قام ذلك لي مقام الظفر وسيصبح أمير المؤمنين غدا فيدخل الحمام ونحضر ثم يخرج فيدعو بالطعام ويدعو بنا ويأمر ابن جامع فيرد الصوت الذي غناه ويشرب عليه رطلا ويأمر له بجائزة فإذا فعل فلا تنتظره أكثر من أن يرد ردته حتى تغني ما أعلمك إياه الساعة فإنه يقبل عليك ويصلك ولست أبالي ألا يصلني بعد أن يكون إقباله عليك فقلت السمع والطاعة فألقى علي لحنه

( يا دارَ سُعْدَى بالجِزْع من مَلَل ... )

وردده حتى أخذته وانصرف ثم بكر علي فاستعاد الصوت فرددته حتى رضيه ثم ركبنا وأنا أدرسه حتى صرنا إلى دار الرشيد فلما دخلنا فعل الرشيد جميع ما وصفه إبراهيم شيئا فشيئا وكان إبراهيم أعلم الناس به ثم أمر ابن جامع فرد الصوت ودعا برطل فشربه ولما استوفاه واستوفى ابن جامع صوته لم أدعه يتنفس حتى اندفعت فغنيت صوت إبراهيم فلم يزل يصغي إليه وهو باهت حتى استوفيته فشرب وقال أحسنت والله لمن هذا

 

الصوت فقلت لإبراهيم فلم يزل يستدنيني حتى صرت قدام سريره وجعل يستعيد الصوت فأعيده ويشرب عليه رطلا فأمر لإبراهيم بجائزة سنية وأمر لي بمثلها وجعل ابن جامع يشغب ويقول يجيء بالغناء فيدسه في أستاه الصبيان إن كان محسنا فليغنه هو والرشيد يقول له دع ذا عنك فقد والله استقاد منك وزاد عليك

صوت من المائة المختارة

( تَوَلّى شبابُكَ إلا قليلا ... وحلّ المَشيبُ فصبراً جميلاَ )

( كفى حَزَناً بِفراق الصِّبا ... وإنْ أصبح الشَّيبُ منه بَدِيلا )

الشعر والغناء لإسحاق

ولحنه المختار ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق بن عمرو

 

أخبار إسحاق بن إبراهيم

قد مضى نسبه مشروحا في نسب أبيه ويكنى أبا محمد وكان الرشيد يولع به فيكنيه أبا صفوان وهذه كنية أوقعها عليه إسحاق بن إبراهيم بن مصعب مزحا

وموضعه من العلم ومكانه من الأدب ومحله من الرواية وتقدمه في الشعر ومنزلته في سائر المحاسن أشهر من أن يدل عليه فيها بوصف وأما الغناء فكان أصغر علومه وأدنى ما يوسم به وإن كان الغالب عليه وعلى ما كان يحسنه فإنه كان له في سائر أدواته نظراء وأكفاء ولم يكن له في هذا نظير فإنه لحق بمن مضى فيه وسبق من بقي ولحب للناس جميعا طريقه فأوضحها وسهل عليهم سبيله وأنارها فهو إمام أهل صناعته جميعا ورأسهم ومعلمهم يعرف ذلك منه الخاص والعام ويشهد به الموافق والمفارق على أنه كان أكره الناس للغناء وأشدهم بغضا لأن يدعى إليه أو يسمى به

وكان يقول لوددت أن أضرب كلما أراد مريد مني أن أغني وكلما قال قائل إسحاق الموصلي المغني عشر مقارع لا أطيق أكثر من ذلك وأعفى من الغناء ولا ينسبني من يذكرني إليه

وكان المأمون يقول لولا ما سبق على ألسنة الناس وشهر به عندهم من الغناء لوليته القضاء بحضرتي فإنه أولى به وأعف وأصدق وأكثر دينا وأمانة من هؤلاء القضاة

 

مشايخه الذين تلقى عنهم

وقد روى الحديث ولقي أهله مثل مالك بن أنس وسفيان بن عيينة وهشيم بن بشير وإبراهيم بن سعد وأبي معاوية الضرير وروح بن عبادة وغيرهم من شيوخ العراق والحجاز

وكان مع كراهته

 

الغناء أضن خلق الله وأشدهم بخلا به على كل أحد حتى على جواريه وغلمانه ومن يأخذ عنه منتسبا إليه متعصبا له فضلا عن غيرهم

وهو الذي صحح أجناس الغناء وطرائقه وميزه تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله ولا تعلق به أحد بعده ولم يكن قديما مميزا على هذا الجنس إنما كان يقال الثقيل وثقيل الثقيل والخفيف وخفيف الخفيف وهذا عمرو بن بانة وهو من تلاميذه يقول في كتابه الرمل الأول والرمل الثاني ثم لا يزيد في ذكر الأصابع على الوسطى والبنصر ولا يعرف المجاري التي ذكرها إسحاق في كتابه مثل ما ميز الأجناس فجعل الثقيل الأول أصنافا فبدأ فيه بإطلاق الوتر في مجرى البنصر ثم تلاه بما كان منه بالبنصر في مجراها ثم بما كان بالسبابة في مجرى البنصر ثم فعل هذا بما كان منه بالوسطى على هذه المرتبة ثم جعل الثقيل الأول صنفين الصنف الأول منهما هذا الذي ذكرناه والصنف الثاني القدر الأوسط من الثقيل الأول وأجراه المجرى الذي تقدم من تمييز الأصابع والمجاري وألحق جميع الطرائق والأجناس بذلك وأجراها على هذا الترتيب

ثم لم يتعلق بفهم ذلك أحد بعده فضلا عن أن يصنفه في كتابه فقد ألف جماعة من المغنين كتبا منهم يحيى المكي وكان شيخ الجماعة وأستاذهم وكلهم كان يفتقر إليه ويأخذ عنه غناء الحجاز وله صنعة كثيرة حسنة متقدمة وقد كان إبراهيم الموصلي وابن جامع يضطران إلى الأخذ عنه ألف كتابا جمع فيه الغناء القديم وألحق فيه ابنه الغناء المحدث إلى آخر أيامه فأتيا فيه في أمر الأصابع بتخليط عظيم حتى جعلا أكثر ما جنساه من ذلك مختلطا فاسدا وجعلا بعضه فيما زعما تشترك الأصابع كلها فيه وهذا محال ولو اشتركت الأصابع لما احتيج إلى تمييز الأغاني وتصييرها مقسومة على صنفين الوسطى والبنصر

 

والكلام في هذا طويل ليس موضعه هاهنا وقد ذكرته في رسالة عملتها لبعض إخواني ممن سألني شرح هذا فأثبته واستقصيته استقصاء يستغني به عن غيره

وهذا كله فعله إسحاق واستخرجه بتمييزه حتى أتى على كل ما رسمته الأوائل مثل إقليدس ومن قبله ومن بعده من أهل العلم بالموسيقى ووافقهم بطبعه وذهنه فيما قد أفنوا فيه الدهور من غير أن يقرأ لهم كتابا أو يعرفه

فأخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال

كنت عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فسأل إسحاق الموصلي أو سأله محمد بن الحسن بن مصعب بحضرتي فقال له يا أبا محمد أرأيت لو أن الناس جعلوا للعود وترا خامسا للنغمة الحادة التي هي العاشرة على مذهبك أين كنت تخرج منه فبقي إسحاق واجما ساعة طويلة مفكرا واحمرت أذناه وكانتا عظيمتين وكان إذا ورد عليه مثل هذا احمرتا وكثر ولوعه بهما فقال لمحمد بن الحسن الجواب في هذا لا يكون كلاما إنما يكون بالضرب فإن كنت تضرب أريتك أين تخرج فخجل وسكت عنه مغضبا لأنه كان أميرا وقابله من الجواب بما لا يحسن فحلم عنه

قال علي بن يحيى فصار إلي به وقال لي يا أبا الحسن إن هذا الرجل سألني عما سمعت ولم يبلغ علمه أن يستنبط مثله بقريحته وإنما هو شيء قرأه في كتب الأوائل وقد بلغني أن التراجمة عندهم يترجمون لهم كتب الموسيقى فإذا خرج إليك منها شيء فأعطنيه فوعدته بذلك ومات قبل أن يخرج إليه شيء منها

وإنما ذكرت هذا بتمام أخباره كلها ومحاسنه وفضائله لأنه من أعجب شيء يؤثر عنه أنه استخرج بطبعه علما رسمته الأوائل لا يوصل إلى معرفته إلا بعد علم كتاب إقليدس الأول في الهندسة ثم ما بعده من الكتب الموضوعة في الموسيقى ثم تعلم ذلك وتوصل إليه واستنبطه بقريحته فوافق ما رسمه أولئك ولم يشذ عنه شيء يحتاج إليه

 

منه وهو لم يقرأه ولا له مدخل إليه ولا عرفه ثم تبين بعد هذا بما أذكره من أخباره ومعجزاته في صناعته فضله على أهلها كلهم وتميزه عنهم وكونه سماء هم أرضها وبحرا هم جداوله

وأم إسحاق امرأة من أهل الري يقال لها شاهك وذكر قوم أنها دوشار التي كانت تغني بالدف فهويها إبراهيم وتزوجها

وهذا خطأ تلك لم تلد من إبراهيم إلا بنتا وإسحاق وسائر ولد إبراهيم من شاهك هذه

برنامج دراسته اليومي

أخبرني يحيى بن علي المنجم قال أخبرني أبي عن إسحاق قال

بقيت دهرا من دهري أغلس في كل يوم إلى هشيم فأسمع منه ثم أصير إلى الكسائي أو الفراء أو ابن غزالة فأقرأ عليه جزءا من القرآن ثم آتي منصور زلزل فيضاربني طرقين أو ثلاثة ثم آتي عاتكة بنت شهدة فآخذ منها صوتا أو صوتين ثم آتي الأصمعي وأبا عبيدة فأناشدهما وأحدثهما فأستفيد منهما ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت ومن لقيت وما أخذت وأتغدى معه فإذا كان العشاء رحت إلى أمير المؤمنين الرشيد

 

أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

أخذ مني منصور زلزل إلى أن تعلمت مثل ضربه بالعود أكثر من مائة ألف درهم

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال

كنت عند ابن عائشة فجاءه أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي فرحب به وقال هاهنا يا أبا محمد إلى جنبي فلئن بعدت بيننا الأنساب لقد قربت بيننا الآداب

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثنا ابن شبيب من جلساء المأمون عنه أنه قال يوما وإسحاق غائب عن مجلسه لولا ما سبق على ألسنة الناس واشتهر به عندهم من الغناء لوليته القضاء فما أعرف مثله ثقة وصدقا وعفة وفقها

هذا مع تحصيل المأمون وعقله ومعرفته

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا الفضل بن العباس الوراق قال حدثنا المخرمي عن أبيه قال سمعت إسحاق الموصلي يقول

صرت إلى سفيان بن عيينة لأسمع منه فتعذر ذلك علي وصعب مرامه فرأيته عند الفضل بن الربيع فسألته أن يعرفه موضعي من عنايته ومكاني من الأدب والطلب وأن يتقدم إليه بحديثي ففعل وأوصاه بي فقال إن أبا محمد من أهل العلم وحملته

قال فقلت تفرض لي عليه ما يحدثني به فسأله في ذلك ففرض لي خمسة عشر حديثا في كل مجلس

 

فصرت إليه فحدثني بما فرض لي فقلت له أعزك الله صحيح كما حدثتني به قال نعم وعقد بيده شيئا قلت أفأرويه عنك قال نعم وعقد بيده شيئا آخر ثم قال هذه خمسة وأربعون حديثا وضحك إلي وقال قد سرني ما رأيت من تقصيك في الحديث وتشددك فيه على نفسك فصر إلي متى شئت حتى أحدثك بما شئت

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى أبو الجمان وعون بن محمد الكندي قالا سمعنا إسحاق الموصلي يقول

جئت يوما إلى أبي معاوية الضرير ومعي مائة حديث فوجدت حاجبه يومئذ رجلا ضريرا فقال لي إن أبا معاوية قد ولاني اليوم حجبته لينفعني فقلت معي مائة حديث وقد جعلت لك مائة درهم إذا قرأتها فدخل واستأذن لي فدخلت فلما عرفني أبو معاوية دعاه فقال له أخطأت وإنما جعلت لك مثل هذا من ضعفاء أصحاب الحديث فأما أبو محمد وأمثاله فلا ثم أقبل علي يرغبني في الإحسان إليه ويذكر ضعفه وعنايته به فقلت له احتكم في أمره فقال مائة دينار فأمرت بإحضارها الغلام وقرأت عليه ما أردت وانصرفت

أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني علي بن محمد الأسدي قال حدثني أحمد بن يحيى الشيباني ثعلب قال

وقف أبو عبد الله بن الأعرابي على المدائني فقال له إلى أين يا أبا عبد الله فقال أمضي إلى رجل هو كما قال الشاعر

( نَحمِلُ أشباحَنا إلى مَلِكٍ ... نأخذُ من ماله ومن أدبْه )

فقال له ومن ذلك يا أبا عبد الله قال أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي

 

قال أبو بكر والبيت لأبي تمام الطائي

وقد أخبرني بهذا الخبر عن ثعلب محمد بن القاسم الأنباري فقال فيه

كان إسحاق يجري على ابن الأعرابي في كل سنة ثلاثمائة دينار

وأهدى له ابن الأعرابي شيئا من كتاب النوادر كتبه له بخطه فمر ابن الأعرابي يوما على باب دار الموصلي ومعه صديق له فقال له صديقه هذه دار صديقك أبي محمد إسحاق فقال هذه دار الذي نأخذ من ماله ومن أدبه

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

رأيت في منامي كأن جريرا جالس ينشد شعره وأنا أسمع منه فلما فرغ أخذ بيده كبة شعر فألقاها في فمي فابتلعتها فأول ذلك بعض من ذكرته له أنه ورثني الشعر

قال يزيد بن محمد وكذلك كان لقد مات إسحاق وهو أشعر أهل زمانه

إسحاق يتعلم الضرب بالعود من زلزل

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق قال قال لي أبي

أعطيت منصورا زلزلا من مالي خاصة حتى تعلمت ضربه بالعود نحوا

 

من مائة ألف درهم سوى ما أخذته له من الخلفاء ومن أبي

قال وكانت في زلزل قبل أن يعرف الصوت ويفهمه بلادة أول ما يسمعه حتى لو ضرب هو وغلامه على صوت لم يعرفاه قبل لكان غلامه أقوى منه فإذا تفهمه جاء فيه من الضرب بما لا يتعلق به أحد البتة

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق وأخبرني به الأخفش عن الفضل عن إسحاق وأخبرني به يحيى ابن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن إسحاق قال

قال لي أبو زياد الكلابي أولم جار لي يكنى أبا سفيان وليمة ودعاني لها فانتظرت رسوله حتى تصرم يومي فلم يأت فقلت لامرأتي

( إنّ أبا سفيان ليس بُمولِم ... فقُومِي فهاتي فِلْقةً من حُوَارِكِ )

قال إسحاق فقلت له أليس غير هذا فقال لا إنما أرسلته يتيما فقلت أفلا أجيزه قال شأنك فقلت له

( فبيتُكِ خيرٌ من بُيوتٍ كثيرةٍ ... وقِدْرُكِ خيرٌ من وَليمة جارِك )

قال فضحك ثم قال أحسنت بأبي أنت وأمي جئت والله به قبلا ما انتظرت به القرب وما ألوم الخليفة أن يجعلك في سماره ويتملح بك وإنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله ولو كان الشباب يشترى لا ابتعته لك بإحدى عيني ويمنى يدي وعلى أن فيك بحمد الله ومنه بقية تسر الودود وترغم الحسود

هذا لفظ يزيد المهلبي والأخفش

وأخبرني بهذا الخبر محمد بن عبد الله بن عمار فقال حدثني عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال

 

قال لي إما شداد بن عقبة وإما أبو مجيب

قالت امرأة القتال الكلابي له هل لك في فلقة من حوار نطبخها لك

فقال لا والله نحن على وليمة أبي سفيان ودعوته وكان أبو سفيان رجلا من الحي زفت إليه امرأته تلك الليلة فجعل ينظر دخانا فلا يراه فقال

( إنّ أبا سفيان ليس بُمولم ... فقومي فهاتي فِلقةً من حُوارِك )

ثم ذكر باقي الخبر على ما تقدم من الذي قبله

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق قال

أنشدت أعرابيا فهما شعرا لي فقال أقفرت والله يا أبا محمد قلت وما أقفرت قال رعيت قفرة لم ترع قبلك

يريد أبدعت

نباهة إسحاق في الغناء

أخبرني علي بن سليمان الأخفش وعمي قالا حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثني بعض أصحاب السلطان بمدينة السلام قال سمعت إسحاق الموصلي يقول

 

دخلت على المأمون يوما وعقيد يغنيه ارتجالا وغيره يضرب عليه فقال يا إسحاق كيف تسمع مغنينا هذا فقلت هل سأل أمير المؤمنين عن هذا غيري قال نعم سألت عمي إبراهيم فوصفه وقرظه واستحسنه فقلت له يا أمير المؤمنين أدام الله سرورك وأطاب عيشك إن الناس قد أكثروا في أمري حتى نسبتني فرقة إلى التزيد في علمي فقال لي فلا يمنعك ذلك من قول الحق إذا لزمك فقلت لعقيد أردد هذا الصوت الذي غنيته آنفا وتحفظ فيه وضرب ضاربه عليه فقلت لإبراهيم بن المهدي كيف رأيته فقال ما رأيت شيئا يكره ولا سمعته فأقبلت على عقيد فقلت له حين استوفاه في أي طريقة هذا الصوت الذي غنيته قال في الرمل فقلت للضارب في أي طريقة ضربت أنت قال في الهزج الثقيل فقلت يا أمير المؤمنين ما عسيت أن أقول في صوت يغني مغنيه رملا ويضرب ضاربه هزجا وليس هو صحيحا في إيقاعه الذي ضرب عليه

قال وتفهمه إبراهيم بن المهدي بعدي فقال صدق يا أمير المؤمنين الأمر فيه الآن بين فغاظني فقلت له بأي شيء بان الآن ما لم يكن بينا قبل أتوهم أنك استنبطت معرفة هذا وإنما قلته لما علمته من جهتي كما يقوله الغلمان العجم وسائر من حضر اتباعا لي واقتداء بقولي

فقال له المأمون صدق فأمسك وجعل يتعجب من ذهاب ذلك على كل من حضر وكناني في ذلك اليوم مرتين

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون قال حدثني أبي

أن الأصمعي أنشد قول إسحاق يذكر ولاءه لخزيمة بن خازم

 

( إذا كانتِ الأحرارُ أصلي ومَنْصِبي ... ودافِعَ ضَيْمي خازِمٌ وابنُ خازِم )

( عَطَستُ بأنفٍ شامخ وتناولتْ ... يدايَ الثريّا قاعداً غيرَ قائم )

قال فجعل الأصمعي يعجب منهما ويستحسنهما وكان بعد ذلك يذكرهما ويفضلهما

قال ابن حمدون وكان السبب في تولي إسحاق خازم بن خزيمة بن حازم أن مناظرة جرت بينه وبين ابن جامع بحضرة الرشيد فتغالظا فقال له ابن جامع يا من إذا قلت له يا بن زانية لم أخف أن يكذبني أحد فمضى إلى خازم بن خزيمة فتولاه وانتمى إليه فقبل ذلك منه وقال هذين البيتين

المعتصم يمتحن إسحاق في الغناء

أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال قال إسحاق كانت عندي صناجة كنت بها معجبا واشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون فبينا أنا ذات يوم في منزلي إذا ببابي يدق دقا شديدا فقلت انظروا من هذا قالوا رسول أمير المؤمنين فقلت ذهبت صناجتي تجده ذكرها له ذاكر فبعث إلي فيها فلما مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب

 

وأنا مثخن فدخلت فسلمت فرد السلام ونظر إلى تغير وجهي فقال اسكن فسكنت وسألني عن صوت وقال أتدري لمن هو فقلت أسمعه ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء الله بذلك فأمر جارية من وراء الستارة فغنته وضربت فإذا هي قد شبهته بالقديم فقلت زدني معها عودا آخر فإنه أثبت لي فزادني عودا آخر فقلت يا أمير المؤمنين هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة فقال من أين قلت ذلك فقلت لما سمعته وسمعت لينه عرفت أنه من صنعة النساء ولما رأيت جودة مقاطعه علمت أن صاحبته ضاربة فقال من أين قلت ذلك فقلت لأنها قد حفظت مقاطعه وأجزاءه ثم طلبت عودا آخر ليكون أثبت لي فلم أشكك فقال صدقت الغناء لعريب

نسخت من كتاب ابن أبي سعيد حدثني إسحاق بن إبراهيم الطاهري قال حدثتني مخارق مولاتنا قالت

كان لمولاي الذي علمني الغناء فراش رومي وكان يغني بالرومية صوتا مليح اللحن فقال لي مولاي يا مخارق خذي هذا اللحن الرومي فانقليه إلى شعر من أصواتك العربية حتى أمتحن به إسحاق الموصلي فأعلم أين يقع من معرفته ففعلت ذلك وصار إليه إسحاق فاحتبسه مولاي فأقام وبعث إلي أن أدخلي اللحن الرومي في وسط غنائك فغنيته إياه في درج

 

أصوات مرت قبله فأصغى إليه إسحاق وجعل يتفهمه ويقسمه ويتفقد أوزانه ومقاطعه ويوقع عليه بيده ثم أقبل على مولاي فقال هذا صوت رومي اللحن فمن أين وقع إليك فكان مولاي بعد ذلك يقول ما رأيت شيئا أحسن من استخراجه لحنا روميا لا يعرفه ولا العلة فيه وقد نقل إلى غناء عربي وامتزجت نغمه حتى عرفه ولم يخف عليه

إسحاق وملاحظ في مجلس الواثق

أخبرني عمي قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني عبد الله بن عمرو عن محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني علويه الأعسر ووجدت هذا الخبر في بعض الكتب عن علي بن محمد بن نصر الشامي عن جده حمدون ابن إسماعيل قال

تناظر المغنون يوما عند الواثق فذكروا الضراب وحذقهم فقدم إسحاق زلزلا على ملاحظ ولملاحظ في ذلك الرياسة على جميعهم فقال له الواثق هذا حيف وتعد منك فقال إسحاق يا أمير المؤمنين اجمع بينهما وامتحنهما فإن الأمر سينكشف لك فيهما فأمر بهما فأحضرا فقال له إسحاق إن للضراب أصواتا معروفة أفأمتحنهما بشيء منها قال أجل افعل فسمى ثلاثة أصوات كان أولها

( عُلِّق قلبي ظبيةَ السِّيب ... )

فضربا عليه فتقدم زلزل وقصر عنه ملاحظ فعجب الواثق من كشفه عما ادعاه في مجلس واحد

فقال له ملاحظ فما باله يا أمير المؤمنين يحيلك على الناس ولم لا يضرب هو فقال يا أمير المؤمنين إنه لم

 

يكن أحد في زماني أضرب مني إلا أنكم أعفيتموني فتفلت مني وعلى أن معي بقية لا يتعلق بها أحد من هذه الطبقة ثم قال يا ملاحظ شوش عودك وهاته ففعل ذلك ملاحظ فقال يا أمير المؤمنين هذا يخلط الأوتار تخليط متعنت فهو لا يألو ما أفسدها ثم أخذ العود فجسه ساعة حتى عرف مواقعه ثم قال يا ملاحظ غن أي صوت شئت فغنى ملاحظ صوتا وضرب عليه إسحاق بذلك العود الفاسد التسوية فلم يخرجه عن لحنه في موضع واحد حتى استوفاه عن نقرة واحدة ويده تصعد وتنحدر على الدساتين فقال له الواثق لا والله ما رأيت مثلك ولا سمعت به اطرح هذا على الجواري فقال هيهات يا أمير المؤمنين هذا لا تعرفه الجواري ولا يصلح لهن إنما بلغني أن الفهليذ ضرب يوما بين يدي كسرى فأحسن فحسده رجل من حذاق أهل صنعته فترقبه حتى قام لبعض شأنه ثم خالفه إلى عوده فشوش بعض أوتاره فرجع فضرب وهو لا يدري والملوك لا تصلح في مجالسها العيدان فلم يزل يضرب بذلك العود الفاسد إلى أن فرغ ثم قام على رجله فأخبر الملك بالقصة فامتحن العود فعرف ما فيه ثم قال زه وزه وزهان زه ووصله بالصلة التي كان يصل بها من خاطبه هذه المخاطبة فلما تواطأت الرواية بهذا أخذت نفسي ورضتها عليه وقلت لا ينبغي أن يكون الفهليذ أقوى على هذا مني فما زلت أستنبطه بضع عشرة سنة حتى لم يبق في الأرض موضع على طبقة من الطبقات إلا وأنا أعرف نغمته كيف هي والمواضع التي يخرج النغم كلها منه فيها من أعاليها إلى أسافلها وكل شيء منها يجانس شيئا غيره كما أعرف ذلك في مواضع الدساتين وهذا شيء لا تفي به الجوراي

قال له الواثق صدقت ولئن مت لتموتن هذه الصناعة معك وأمر له بثلاثين ألف درهم

 

نسبه هذا الصوت

صوت

( عُلِّقَ قلبي ظبيةَ السِّيبِ ... جهلاً فقد أُغْرِي بتعذيبِي )

( نَمَّتْ عليها حين مرَّتْ بنا ... مَجاسِدٌ يَنْفَحْن بالطِّيب )

( تَصُدّها عّنا عَجْوزٌ لها ... مُنْكَرةٌ ذاتُ أعاجيب )

( فكلَّما هَمْتُ بإتيانها ... قالت تَوَقَّيْ عَدْوةَ الذِّيبِ )

الشعر والغناء لإبراهيم هزج ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر

حدثني علي بن هارون قال حدثني محمد بن موسى اليزيدي قال حدثتني دمن جارية إسحاق الموصلي وكانت من كبار جواريه وأحظى منه عنده ولقيتها فقلت لها أي شيء أخذت عن مولاك من الغناء فقالت لا والله ما أخذت أنا عنه ولا واحدة من جواريه صوتا قط كان أبخل بذلك وما أخذت منه قط إلا صوتا واحدا وذلك أنه انصرف من دار الخليفة وهو مثخن سكرا فدخل إلى بيت كان ينام فيه فرأى عودا معلقا فأخذه بيده وقال لخادمه يا غلام صح لي بدمن فجاءني الغلام فخرجت فلما بلغت الباب إذا هو مستلق على فراشه والعود في يده وهو يصنع هذا الصوت ويردده وقد اسحنفر في نغمه وتنوق فيها حتى استقام له وهو

صوت

( ألاَ ليُلكِ لا يَدهَبْ ... ونِيطَ الطَّرْفُ بالكوكبْ )

( وهذا الصّبح لا يأتي ... ولا يدنو ولا يَقُرب )

 

فلما سمعته علمت أني إن دخلت إليه أمسك فوقفت أستمعه حتى فرغ منه وأخذته عنه فلما فرغ منه وضع العود من يده وذكر أنه قد طلبني فقال يا غلام أين دمن فقلت هأنذي فقال مذ كم أنت واقفة فقلت مند ابتدأت بالصوت وقد أخذته فنظر إلي نظر مغضب أسف ثم قال غنيه فغنيته حتى استوفيته فقال لي وقد فتر وخجل قد بقيت عليك فيه بقية أنا أصلحها لك فقلت لست أحتاج إلى إصلاحك إياه وقد والله أخذته على رغمك فضحك

لحن هذا الصوت من الهزج بالبنصر والشعر والغناء لإسحاق

كان قادرا على إظهار الأخطاء في الغناء والأوتار

أخبرنا يحيى بن علي قال قال لي إسحاق

كنت عند المعتصم وعنده إبراهيم بن المهدي فغنى إبراهيم صوتا لابن جامع أخل ببعضه ثم قال يا أمير المؤمنين ترك ابن جامع الناس يحجلون خلفه ولا يلحقونه

وفي هذا الصوت خاصة فقلت والله يا أمير المؤمنين ما صدق وما هذا الصوت بتام الأجزاء فقال كذب والله يا أمير المؤمنين فقلت يا سيدي أنا أوقفه على نقصانه فمره فليعد يا أمير المؤمنين فأعاد البيت الأول فأقامه وطمع في الإصابة فقلت آفته في البيت الثاني فليردده فرده فنقص من أجزائه وقسمته فعرفته فأقر به فقلت يا أمير المؤمنين هذه صناعتي وصناعة آبائي وإبراهيم يكلمني فيها

 

وأنا أسأله عن ثلاثين مسألة من باب واحد في طريق الغناء لا يعرف منها مسألة واحدة فقال أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه فأعفاه

وقد أخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي عن إسحاق فذكر نحوا مما ذكره يحيى وذكر أن القصة كانت بين يدي المعتصم وزاد فيها فقال

أنا أسأله عن ثلاثين مسألة وأوقفه على خطئه فيها فإن لم يقر بذلك أقر به مخارق وعلويه فقال أو يعفيني أمير المؤمنين من كلامه فإنه يعدل عندي البختج قلت يا أمير المؤمنين وما يفعل البختج قال يسلح قلت قد والله فعل ذلك كلامي به ومنه هرب فضحك وغطى فاه وقام فظن إسحاق بن إبراهيم المصعبي أني قد أغضبته فضرب بيده إلى السيف فقلت له لا تحسب أني أغضبته فما كنت لأكلم عمه بين يديه بهزء من غير إذنه فأمسك وكان لا يقدم أحد أن يكلم الخليفة بحضرته بما فيه الوهن إلا بادر إلى سيفه تعظيما للأمير وإجلالا له

أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أحمد بن القاسم الهاشمي عن إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

دعاني المأمون وعنده إبراهيم بن المهدي وفي مجلسه عشرون جارية قد أجلس عشرا عن يمينه وعشرا عن يساره ومعهن العيدان يضربن بها فلما دخلت سمعت من الناحية اليسرى خطأ فأنكرته فقال المأمون يا إسحاق أتسمع خطأ فقلت نعم والله يا أمير المؤمنين فقال لإبراهيم هل تسمع خطأ فقال لا فأعاد علي السؤال فقلت بلى والله يا أمير المؤمنين وإنه لفي الجانب الأيسر فأعاد إبراهيم سمعه إلى الناحية اليسرى ثم قال

 

لا والله يا أمير المؤمنين ما في هذه الناحية خطأ فقلت يا أمير المؤمنين مر الجواري اللواتي على اليمين يمسكن فأمرهن فأمسكن فقلت لإبراهيم هل تسمع خطأ فتسمع ثم قال ما ها هنا خطأ فقلت يا أمير المؤمنين يمسكن وتضرب الثامنة

فأمسكن وضربت الثامنة فعرف إبراهيم الخطأ فقال نعم يا أمير المؤمنين ها هنا خطأ فقال عند ذلك لإبراهيم يا إبراهيم لا تمار إسحاق بعدها فإن رجلا فهم الخطأ بين ثمانين وترا وعشرين حلقا لجدير ألا تماريه فقال صدقت يا أمير المؤمنين

وقال الحسين بن يحيى في خبره وكان في الأوتار كلها مثنى فاسد التسوية

وقال فيه فطرب أمير المؤمنين المأمون وقال لله درك يا أبا محمد فكناني يومئذ

الواثق يثني على إسحاق

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أحمد بن حمدون قال

سمعت الواثق يقول ما غناني إسحاق قط إلا ظننت أنه قد زيد لي في ملكي ولا سمعته يغني غناء ابن سريج إلا ظننت أن ابن سريج قد نشر وإنه ليحضرني غيره إذا لم يكن حاضرا فيتقدمه عندي وفي نفسي بطيب الصوت حتى إذا اجتمعا عندي رأيت إسحاق يعلو ورأيت من ظننته يتقدمه ينقص وإن إسحاق لنعمة من نعم الملك التي لم يحظ بمثلها ولو أن العمر والشباب والنشاط مما يشترى لاشتريتهن له بشطر ملكي

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال

سأل إسحاق الموصلي المأمون أن يكون دخوله إليه مع أهل العلم والأدب والرواة لا مع المغنين فإذا أراده للغناء غناه فأجابه إلى ذلك ثم سأله بعد حين أن يأذن له في الدخول مع الفقهاء فأذن له

قال فحدثني

 

محمد بن الحارث بن بسخنر أنه كان هو ومخارق وعلويه جلوسا في حجرة لهم ينتظرون جلوس المأمون وخروج الناس من عنده إذ دخل يحيى بن أكثم وعليه سواده وطويلته ويده في يد إسحاق يماشيه حتى جلس معه بين يدي المأمون فكاد علويه أن يجن وقال يا قوم أسمعتم بأعجب من هذا يدخل قاضي القضاة ويده في يد مغن حتى يجلسا بين يدي الخليفة

ثم مضت على ذلك مدة فسأل إسحاق المأمون أن يأذن له في لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه في المقصورة قال فضحك المأمون وقال ولا كل ذا يا إسحاق وقد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف درهم وأمر له بها

حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال

كان المغنون جميعا يحضرون مجلس الواثق وعيدانهم معهم إلا إسحاق فإنه كان يحضر بلا عود للشرب والمجالسة فإن أمره الخليفة أن يغني أحضر له عودا فإذا غنى وفرغ سل من بين يديه إلى أن يطلبه

وكان الواثق كثيرا ما يكنيه رفعا له من أن يدعوه باسمه وكان إذا غنى وفرغ الواثق من شرب قدحه قطع الغناء ولم يعد منه حرفا إلا أن يكون في بعض بيت فيتمه ثم يقطع ويضع العود من يده

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه في خبر ذكر إسحاق فيه

 

فقال وعارض معبدا وابن سريج فانتصف منهما وكان إبراهيم بن المهدي يناظره ويجادله في الغناء وينازعه في صناعته ولم يبلغه وما رأيت بعد إسحاق مثله

أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال قال لي محمد بن راشد الخناق

سمعت علويه يقول لإسحاق بن إبراهيم الموصلي إن إبراهيم بن المهدي يعيبك بتركك تحريك الغناء فقال له إسحاق ليتنا نفي بما علمناه فإنا لا نحتاج إلى الزيادة فيه

ثم قال له فإنه يزعم أن حلاوة الغناء تحريكه وتحريكه عنده أن يكون كثير النغم وليس يفعل ذلك إنما يسقط بعض عمله لعجزه عنه فإذا فعل ذلك فهو بالإضافة إلى حاله الأولى بمنزلة الأسكدار للكتاب وهو حينئذ بأن يسمى المحذوف أشبه منه بأن يسمى المحرك فضحك علويه ثم قال فإن إبراهيم يسمي غناءكم هذا الممسك المدادي قال إسحاق هذا من لغات الحاكة لأنهم يسمون الثوب الجافي الكثير العرض والطول المدادي وعلى هذا القياس فينبغي لنا أن نسمي غناءه المحرك الضرابي وهو الخفيف السخيف من الثياب في لغة الحاكة حتى ندخل الغناء في جملة الحياكة ونخرجه عن جملة الملاهي ثم قال لعلويه بحياتي عليك إلا ما أعدت عليه ما جرى فقال له لا وحياتك لا فعلت فإنه يعلم ميلي إليكم ولكن عليك بأبي جعفر محمد بن راشد الخناق فكلمه إسحاق وأقسم عليه أن يؤيده ففعل وسار إلى إبراهيم فأخبره فجعل كلما أخبره شيئا تغيظ وشتم إسحاق بأقبح شتم ثم جاءه ابن راشد فأخبره فجعل كلما أخبره بشيء من ذلك ضحك وصفق سرورا لغيظ إبراهيم من قوله

 

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال أخبرني محمد بن راشد الخناق قال

إني لفي منزلي يوما مع الظهر إذ دخل علي إسحاق بن إبراهيم الموصلي فسررت بمكانه فقال قد جاءت بي إليك حاجة قال قلت قل ما شاء الله قال دعني في بيتك ودع غلاميك عندي بديحا وسليمان وكانا خادمين مغنيين ومرهما أن يغنياني وأتني بفلان ليغنيني أيضا بحياتي عليك وانطلق إلى إبراهيم بن المهدي فإنه سيسر بمكانك فاشرب معه أقداحا ثم قل له يا سيدي أسألك عن شيء فإذا قال سل فقل له أخبرني عن قولك

( ذهبتُ من الدنيا وقد ذهبتْ منّي ... )

أي شيء كان معنى صنعتك فيه وأنت تعلم أنه لا يجوز في غنائك الذي صنعته فيه إلا أن تقول ذهبتو بالواو فإن قلت ذهبت ولم تمدها انقطع اللحن والشعر وإن مددتها قبح الكلام وصار على كلام النبط فقلت له يا أبا محمد كيف أخاطب إبراهيم بهذا فقال هو حاجتي إليك وقد كلفتك إياها فإن استحسنت أن تردني فأنت أعلم قال أفعل ذلك لموضعك على ما فيه علي ثم أتيت إبراهيم وجلست عنده مليا وتجارينا الحديث إلى أن خرجنا إلى ذكر الغناء فخاطبته بما قال لي إسحاق فتغير لونه وانكسر ثم قال يا محمد ليس هذا من كلامك هذا من كلام الجرمقاني ابن الزانية قل له عني أنتم تصنعون هذه للصناعة ونحن نصنعه للهو واللعب والعبث قال فخرجت إلى إسحاق فحدثته بذلك فقال الجرمقاني والله منا أشبهنا بالجرامقة لغة وهو الذي يقول ذهبتو وأقام عندي يومه فرحا بما بلغته إبراهيم عنه من توقيفه على خطئه

 

إسحاق وصداقة محمد بن راشد

قال علي بن محمد قال لي أبي

كان محمد بن راشد صديقا لإسحاق ثم فسد ما بينهما فإنه طابق إبراهيم بن المهدي عليه وبلغه عنه من توقيعه أن يذكره

وكان في محمد ابن رشد رداءه ونقل لأحاديث فقال فيه إسحاق

( ونَدْمان صِدْقٍ لا تُخَاف أَذَاتُه ... ولا يلفِظ الأخبارَ لفظَ ابن راشِد )

( دعاني إلى ما يشتهي فأجبتُه ... إجابةَ محمود الخلائق ماجدِ )

( فلا خيرَ في اللّذات إلاّ بأهلها ... ولا عيشَ إلا بالخليل المُساعِد )

قال فجمع ابن راشد عدة من الشعراء وأمرهم بهجاء إسحاق فهجوه بأشعار لم تبلغ مراده فلم يظهرها

وبلغ ذلك إسحاق فقال فيه

( وأبيات شعر رائعات كأنها ... إذا أُنشدت في القوم من حُسنها سِحرُ )

( تحفّزَ واقْلَوْلَى لردّ جوابها ... أبو جعفر يَغْلِي كما غَلَتِ القِدْر )

( فلم يستطعها غيرَ أنْ قد أعانه ... عليها أُناس كي يكون له ذكر )

( فيا ضيعةَ الأشعار إذ يَقْرِضونها ... وأضيعُ منها من يَرى أنها شعر )

قال فعاذ محمد بن راشد بإسحاق واستكفه وصالحه فرجع إليه

أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر الشامي قال حدثني منصور بن محمد بن واضح

أن إبراهيم بن المهدي طرح في منزل أبيه

 

صوت

( أمن آلِ لَيْلَى عزفتَ الطُّلولاَ ... بذي حُرُضٍ ماثلاتٍ مُثولاَ )

( بَلِينَ وتحسَب آياتِهنّ ... عن فَرْط حَوْلين رِقّا مُحِيلا )

الشعر لكعب بن زهير

والغناء لإسحاق وله فيه لحنان ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر وماخوري بالوسطى

وفيه للزبير بن دحمان خفيف ثقيل قال فجاءنا إسحاق يوما وأقام عند أبي وأخرجنا إليه جوارينا ومر الصوت الذي طرحه إبراهيم بن المهدي من غنائه فقال إسحاق من أين لك هذا قال طرحه أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي أعزه الله تعالى فقال إسحاق وما لأبي إسحاق أعزه الله ولهذا الصوت هذا أنا صنعته وليس هو كما طرحه

قال فسأله أبي أن يغنيه فغناه وردده حتى صح لمن عنده فقال لي أبي أكتب إلى أبي إسحاق أن أبا محمد أعزه الله صار إلي فاحتبسته وأنه غنى بحضرتي الصوت الذي ألقيته في منزلك الذي أسكنه فزعم أنه صنعه وأنه ليس على ما أخذه الجواري عنك فأحببت أن أعلم ما عندك جعلني الله فداك

قال فكتبت الرقعة وأنفذتها إلى إبراهيم

فكتب نعم جعلت فداك صدق أبو محمد أعزه الله والصوت له وهو على ما ذكره لكني لعبت في وسطه لعبا أعجبني

قال فقرأ إسحاق الرقعة فغضب غضبا شديدا ثم قال لي اكتب إليه إذا أردت

 

يا هذا أن تلعب فالعب في غناء نفسك لا في غناء الناس وما حاجتك إلى هذا الشعر أكثر من ذلك فاصنع أنت إن كنت تحسن وألعب في صنعتك كما تشتهي مبتدئا باللهو واللعب غير مشارك في جد الناس بلعبك ومفسد له بما لا تعلمه

يا أبا إسحاق أيدك الله ليس هذا الصوت مما يتهيأ لك أن تمخرق فيه وتقول جندرته قال وكان إبراهيم يقول إنه يجندر صنعة القدماء ويحسنها

إسحاق يناظر إبراهيم بن المهدي في الغناء

قال علي بن محمد حدثني جدي حمدون

أن إسحاق قال لإبراهيم بن المهدي بحضرة المعتصم ما تقول فيمن يزعم أن ابن سريج وابن محرز ومعبدا ومالكا وابن عائشة لم يكونوا يحسنون تمام الصنعة ولا استيفاء الغناء ويعجزون عما به يكمل ويتم ويحسن وأنه أقدر على الصنعة منهم قال أقول إنه جاهل أحمق قال فأنت تزعم أنه قد كانت بقيت عليهم أشياء لم يهتدوا لها ولم يحسنوها فتنبهت عليها أنت وتممتها وحسنتها بجندرتك قال فضحك المعتصم وبقي إبراهيم واجما مطرقا ولم ينتفع بنفسه بقية يومه وما سمعته أنا ولا غيري بعد ذلك اليوم يتبجح بغناء يصلحه من غناء المتقدمين حتى يطنب في صنعته ويشتهى استماعه منه كما كان يدعي قديما

قال وكان حمدون يقول كان إبراهيم يأكل المغنين أكلا حتى يحضر إسحاق فيداريه إبراهيم ويطلب مكافأته ولا يدع إسحاق تبكيته ومعارضته وكان إسحاق آفته كما أن لكل شيء آفة

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال

 

خرجت يوما من داري وأنا مخمور أتنسم الهواء فمررت برجل ينشد رجلا معه لذي الرمة

صوت

( ألم تعلمي يا ميّ أنِّي وبينَنا ... مَهَاوٍ لَطْرف العين فيهنّ مَطْرَح )

( ذكرتِك أن مرَّتْ بنا أمُّ شادنٍ ... أمامَ المَطَايا تَشْرئبّ وتَسْنَح )

( من المؤلِفاتِ الرمِلَ أدماءُ حُرّةٌ ... شُعاعُ الضّحى في مَتْنها يتوضّح )

( هي الشِّبْهُ أعطافاً وجِيداً ومُقلةً ... ومَيَّةُ منها بَعْدُ أبهى وأملَحُ )

( كأن البُرَى والعاجَ عِيجَتْ مُتُونُه ... على عُشَرٍ نَهّى به السيلَ أبطح )

( لئن كانت الدنيا عليّ كما أُرَى ... تَباريِحَ من مَيِّ فَلَلموتُ أروْح )

فأعجبني فصنعت فيه لحنا غنيت به المأمون فأخذت به منه مائة ألف درهم

لحن إسحاق في هذه الأبيات أول مطلق في مجرى البنصر

حدثني يحيى بن محمد الطاهري قال حدثني ينشو مولى أبي أحمد بن الرشيد قال

اشتراني مولاي أبو أحمد بن الرشيد واشترى رفيقي محموما فدفعنا إلى وكيل له أعجمي خراساني وقال له انحدر بهذين الغلامين إلى بغداد

 

إلى إسحاق الموصلي ودفع إليه مائة ألف درهم وشهريا بسرجه ولجامه وثلاثة أدراج من فضة مملوءة طيبا وسبعة تخوت من بز خراساني وعشرة أسفاط من بز مصر وخمسة تخوت وشي كوفي وخمسة تخوت خز سوسي وثلاثين ألف درهم للنفقة وقال للرسول عرف إسحاق أن هذين الغلامين لرجل من وجوه أهل خراسان وجه بهما إليه ليتفضل ويعلمهما أصواتا اختارها وكتبها له في درج وقال له كلما علمهما صوتا ادفع إليه ألف درهم حتى يتعلما بها مائة صوت فإذا علمهما الصوتين اللذين بعد المائة فادفع إليه الشهري ثم إذا علمهما الثلاثة التي بعد الصوتين فادفع إليه بكل صوت درجا من الأدراج ثم لكل صوت بعد ذلك تختا أو سفطا حتى ينفد ما بعثت به معك ففعل وانحدرنا إلى بغداد فأتينا إسحاق وغنينا بحضرته وبلغه الوكيل الرسالة فلم يزل يلقي علينا الأصوات حتى أخذناها كما أمرنا سيدنا

ثم سرنا إلى سر من رأى فدخلنا إليه وغنيناه جميع ما أخذناه فسره ذلك

وقدم إسحاق سر من رأى ولقيه مولانا فدعا بنا وأوصانا بما أراد وغدا بنا إلى الواثق وقال إنكما ستريان إسحاق بين يديه فلا تسلما عليه ولا توهماه أنكما رأيتماه قط وألبسنا أقبية خراسانية ومضينا معه فلما دخلنا على الواثق قال له يا سيدي هذان غلامان اشتريا لي من خراسان يغنيان بالفارسية فقال غنيا فضربنا ضربا فارسيا وغنينا غناء فهليذيا فطرب الواثق وقال

 

أحسنتما فهل تغنيان بالعربية قلنا نعم واندفعنا نغني ما أخذناه عن إسحاق وهو ينظر إلينا ونحن نتغافل عنه حتى غنينا أصواتا من غنائه فقام إسحاق ثم قال للواثق وحياتك يا سيدي وبيعتك وإلا كل ملك لي صدقة وكل مملوك لي حر إن لم يكن هذان الغلامان من تعليمي ومن قصتهما كيت وكيت فقال له أبو أحمد ما أدري ما تقول هذان اشتريتهما من رجل نخاس خراساني فقال له بلغ ولعك إلي ونخاس خراساني من أين يحسن أن يختار مثل تلك الأغاني فضحك أبو أحمد ثم قال صدق أنا احتلت عليه ولو رمت أن يعلمهما ما أخذاه منه إذا علم أنهما لي بعشرة أضعاف ما أعطيته لما فعل فقال له إسحاق قد تمت علي حيلته

وقال أبو أحمد للواثق إن أردتهما فخذهما فقال لا أفجعك بهما يا عم ولكن لا تمنعني حضورهما فقال له قد بذلت لك الملك فلم تؤثره أفتراني أمنعك الخدمة فكنا نخدمه بنوبة

الواثق يرفع إسحاق إلى صف الجلساء

حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون قال حدثني ابن فيلا الطنبوري وكان قد دخل على الواثق وغناه قال

قال الواثق في بعض العشايا لا يبرح أحد من المغنين الليلة فقد عزمت على الصبوح في غد فأمسكوا جميعا عن معارضته إلا إسحاق فإنه قال له لا وحياتك ما أبيت قال فلا والله ما كان له عند الواثق معارضة أكثر من أن قال له فبحياتي إلا بكرت يا أبا محمد قال فرأيت مخارقا وعلويه قد تقطعا غيظا وبتنا في بعض الحجر فقالا لي اجلس على باب الحجرة فإذا جاء إسحاق فعرفنا حتى ندخل بدخوله فلم نلبث أن جاء

 

إسحاق مع أحمد بن أبي داود يماشيه في زيه وسواده وطويلته مثل طويلته فدخلت فأعلمتهما فقامت على علويه القيامة وقال يا هؤلاء خيناكر يدخل إلى الخليفة مع قاضي القضاة أسمعتم بأعجب من هذا البخت قط فقال له مخارق دع هذا عنك فقد والله بلغ ما أراد

ولم نلبث أن خرج ابن أبي داود ودعي بنا فدخلنا فإذا إسحاق جالس في صف الندماء لا يخرج منه فإذا أمره الواثق أن يغني خرج عن صفهم قليلا وأتي بعود فغنى الصوت الذي يأمره به فإذا فرغ من القدح قطع الصوت الذي يأمره به حيث بلغ ولم يتمه ورجع إلى صف الجلساء

قصة إبراهيم بن المهدي في مجلس الرشيد

أخبرني محمد بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي الملقب بوسواسة قال حدثني حماد قال

قال لي أبي كنت عند الرشيد يوما وعنده ندماؤه وخاصته وفيهم إبراهيم بن المهدي فقال لي الرشيد يا إسحاق تغن

 

( شَرِبتُ مُدامةً وسُقِيتُ أخرى ... وراح المُنتشون وما انتشيتُ )

فغنيته فأقبل علي إبراهيم بن المهدي فقال لي ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت فقلت ليس هذا مما تحسنه ولا تعرفه وإن شئت فغنه فإن لم أجدك أنك تخطئ فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال

ثم أقبلت على الرشيد فقلت يا أمير المؤمنين هذه صناعتي وصناعة أبي وهي التي قربتنا منك واستخدمتنا لك وأوطأتنا بساطك فإذا نازعناها أحد بلا علم لم نجد بدا من الإيضاح والذب فقال لا غرو ولا لوم عليك فقام الرشيد ليبول فأقبل إبراهيم بن المهدي علي وقال ويلك يا إسحاق أتجترئ علي وتقول ما قلت يابن الفاعلة لا يكني فداخلني ما لم أملك نفسي معه فقلت له أنت تشتمني وأنا لا أقدر على إجابتك وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة ولولا ذلك لكنت أقول لك يابن الزانية أو ترى أني كنت لا أحسن أن أقول لك يابن الزانية ولكن قولي في ذمك ينصرف جميعه إلى خالك الأعلم ولولاك لذكرت صناعته ومذهبه قال إسحاق وكان بيطارا قال ثم سكت وعلمت أن إبراهيم يشكوني وأن الرشيد سوف يسأل من حضر عما جرى فيخبرونه فتلافيت ذلك ثم قلت أنت تظن أن الخلافة تصير إليك فلا تزال تهددني بذلك وتعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك حسدا له ولولده على الأمر فأنت تضعف عنه وعنهم وتستخف بأوليائهم تشفيا وأرجوا ألا يخرجها الله عن يد الرشيد وولده وأن يقتلك دونها فإن صارت إليك وبالله العياذ فحرام علي العيش يومئذ والموت أطيب من الحياة معك فاصنع حينئذ ما بدا لك

قال فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه فقال يا أمير المؤمنين شتمني وذكر أمي واستخف

 

بي فغضب وقال ما تقول ويلك قلت لا أعلم فسل من حضر فأقبل على مسرور وحسين فسألهما عن القصة فجعلا يخبرانه ووجهه يتربد إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسري عنه ورجع لونه وقال لإبراهيم ماله ذنب شتمته فعرفك أنه لا يقدر على جوابك ارجع إلى موضعك وأمسك عن هذا

فلما انقضى المجلس وانصرف الناس أمر بألا أبرح وخرج كل من حضر حتى لم يبق غيري فساء ظني وأهمتني نفسي فأقبل علي وقال ويلك يا إسحاق أتراني لم أفهم قولك ومرادك قد والله زنيته ثلاث مرات أتراني لا أعرف وقائعك وأقدامك وأين ذهبت ويلك لا تعد حدثني عنك لو ضربك إبراهيم أكنت أقتص لك منه فأضربه وهو أخي يا جاهل أتراك لو أمر غلمانه فقتلوك أكنت أقتله بك فقلت يا أمير المؤمنين قد والله قتلتني بهذا الكلام ولئن بلغه ليقتلني وما أشك في أنه قد بلغه الآن فصاح بمسرور الخادم وقال علي بإبراهيم الساعة فأحضر وقال قم فانصرف وقلت لجماعة من الخدم وكلهم كان لي محبا وإلي مائلا ولي مطيعا أخبروني بما يجري فأخبروني من غد أنه لما دخل وبخه وجهله وقال له أتستخف بخادمي وصنيعتي ونديمي وابن نديمي وابن خادمي وصنيعتي وصنيعة أبي في مجلسي وتقدم علي وتستخف بمجلسي وحضرتي هاه هاه أتقدم على هذا وأمثاله وأنت مالك وللغناء وما يدريك ما هو ومن أخذك به وطارحك إياه حتى تتوهم أنك تبلغ مبلغ إسحاق الذي غذي به وعلمه وهو صناعته ثم تظن أنك تخطئه فيما لا تدريه ويدعوك إلى إقامة الحجة عليك فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه أليس هذا مما يدل على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك وغلبة لذتك على مروءتك وشرفك ثم إظهارك إياه ولم تحكمه

 

وادعائك ما لا تعلمه حتى ينسبك الناس إلى الجهل المفرط ألا تعلم ويلك أن هذا سوء أدب وقلة معرفة وقلة مبالاة بالخطأ والتكذيب والرد القبيح

ثم قال والله العظيم وحق رسوله وإلا فأنا نفي من المهدي لئن أصابه أحد بسوء أو سقط عليه حجر من السماء أو سقط من على دابته أو سقط عليه سقفه أو مات فجأة لأقتلنك به والله والله والله فلا تعرض له وأنت أعلم قم الآن فاخرج فخرج وقد كاد أن يموت

فلما كان بعد ذلك دخلت إليه وإبراهيم عنده فأعرضت عن إبراهيم وجعل ينظر إليه مرة وإلي مرة ويضحك ثم قال له إني لأعلم محبتك في إسحاق وميلك إليه وإلى الأخذ عنه وإن هذا لا يجيئك من جهته كما تريد إلا بعد أن يرضى والرضا لا يكون بمكروه ولكن أحسن إليه وأكرمه واعرف حقه وبره وصله فإذا فعلت ذلك ثم خالفك فيما تهواه عاقبته بيد منبسطة ولسان منطلق ثم قال لي قم إلى مولاك وابن مولاك فقبل رأسه فقمت إليه وقام إلي وأصلح الرشيد بيننا

نسبة الصوت المذكور في هذا الخبر

صوت

( أعاذلُ قد نَهَيْتِ فما انتهيتُ ... وقد طال العتابُ فما ارعويتُ )

( أعاذل ما كبِرتُ وفِيّ مَلْهىً ... ولو أدركتُ غايتكِ انتهيت )

( شَرِبتُ مُدَامةً وسُقِيت أُخرَى ... وراح المنتشون وما انتشيت )

( أبِيتُ مُعذَّباً قَلِقاً كئيباً ... لِما ألقاه من ألم وفَوْتِ )

الغناء لابن محرز ثقيل عن ابن المكي

وفيه رمل بالوسطى

 

إسحاق مغني الرشيد ونديمه

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

أرسل إلي الرشيد ذات ليلة فدخلت إليه فإذا هو جالس وبين يديه جارية عليها قميص مورد وسراويل موردة وقناع مورد كأنها ياقوتة على وردة فلما رآني قال لي اجلس فجلست فقال لي غن فغنيت

( تَشَكَّى الكُمَيْتُ الجريَ لما جَهَدتُه ... وبيَّن لو يَسطيعُ أن يتكلَّما )

فقال لمن هذا اللحن فقلت لي يا أمير المؤمنين فقال هات لحن ابن سريج فغنيته إياه فطرب وشرب رطلا وسقى الجارية رطلا وسقاني رطلا ثم قال غن فغنيته

صوت

( هاجَ شَوْقي بَعْدَ ما شُيِّب ... أصداغي بُرُوقُ )

( مَوْهِناً والبَرْقُ ممّا ... ذا الهوى قِدْماً يَشُوق )

فقال لمن هذا الصوت فقلت لي فقال قد كنت سمعت فيه لحنا آخر فقلت نعم لحن ابن محرز قال هاته فغنيته فطرب وشرب رطلا ثم سقى الجارية رطلا وسقاني رطلا ثم قال غن فغنيته

( أفاطم مهلاً بعضَ هذا التدلُّلِ ... وإن كنتِ قد أَزْمَعْتِ صرمي فأَجِملي )

فقال لي ليس هذا اللحن أريد غن رمل ابن سريج فغنيته وشرب

 

رطلا وسقى الجارية رطلا ثم قال حدثني فجعلت أحدثه بأحاديث القيان والمغنين طورا وأحاديث العرب وأيامها وأخبارها تارة وأنشده أشعار القدماء والمحدثين في خلال ذلك إذ دخل الفضل بن الربيع فحدثه حديث ثلاث جوار ملكهن ووصفهن بالحسن والإحسان والظرف والأدب فقال له يا عباسي هل تسخو نفسك بهن وهل لك من سلوة عنهن فقال له والله يا أمير المؤمنين إني لأسخو بهن وبنفسي فبها فداك الله ثم قام فوجه بهن إليه فغلبن على قلبه وهن سحر وضياء وخنث ذات الخال وفيهن يقول

( إنّ سِحْراً وضياءً وخُنُثْ ... هنّ سِحْرٌ وضياءٌ وخُنُثْ )

( أخذتْ سحرٌ ولا ذنبَ لها ... ثُلُثَيْ قلبي وتِرْباها الثُّلُثْ )

حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن إسحاق قال

أتيت عبيد الله بن محمد بن عائشة بالبصرة فلما دخلت إليه حصرت فقال لي إن الحصر رائد الحياء والحياء عقيد الإيمان فانبسط وأزل الوحشة فلئن باعدت بيننا الأحساب لقد قربت بيننا الآداب فقلت له والله لقد سررتني بخطابك وزدتني ببرك عجزا عن جوابك ولله در القطامي حيث يقول

 

( أمّا قريشٌ فلن تلقاهمُ أبداً ... وإلاّ وهم خيرُ من يَحْفَى ويَنتعِلُ )

أخبرني علي بن صالح بن الهيثم قال حدثني أبو هفان قال

وجه أحمد بن هشام إلى إسحاق الموصلي بزعفران رطب وكتب إليه

( اشربْ على الزعفرانِ الرَّطْبِ مُتَّكِئاً ... وانعَمْ نَعِمْتَ بطول اللَّهو والطّربِ )

( فحُرْمة الكأس بين الناس واجبةٌ ... كحرمة الوُدّ والأرحام والأدب )

قال فكتب إليه إسحاق

( أُذكر أبا جعفرٍ حقًّا أمُتّ به ... أَنِّي وإياك مَشْغوفان بالأدبِ )

( وأننا قد رضعنا الكأسَ دِرَّتَها ... والكأسُ حرمتُها أولى من النَّسب )

حدثنا الصولي قال حدثني محمد بن موسى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال لما أراد الفضل بن يحيى الخروج إلى خراسان ودعته ثم أنشدته بعد التوديع

( فِراقُك مثلُ فراق الحياةِ ... وفقدُك مثلُ افتقاد الدِّيَمْ )

( عليك السلامُ فكم من وفاء ... أفارق فيك وكم من كَرَمْ )

قال فضمني إليه وأمر لي بألف دينار وقال لي يا أبا محمد لو حليت هذين البيتين بصنعة وأودعتهما من يصلح من الخارجين معنا لأهديت بذلك إلي أنسا وأذكرتني بنفسك ففعلت ذلك وطرحته على بعض المغنين فكان كتابه لا يزال يرد علي ومعه ألف دينار يصلني بذلك كلما غني بهذا الصوت

قال الصولي وهو من طريقة الرمل

 

أخبرني عمي قال حدثني عمر بن شبة عن إسحاق قال

قال لي الأصمعي لما خرجنا مع الرشيد إلى الرقة قال لي هل حملت معك شيئا من كتبك فقلت نعم حملت منها ما خف حمله فقال كم فقلت ثمانية عشر صندوقا فقال هذا لما خففت فلو ثقلت كم كنت تحمل فقلت أضعافها فجعل يعجب

شعر إسحاق في المعتصم

أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال

لما ولي المعتصم دخلت إليه في جملة الجلساء والشعراء فهنأه القوم نظما ونثرا وهو ينظر إلي مستنطقا فأنشدته

صوت

( لاحَ بالمَفْرِق منك القَتِيرُ ... وذَوَى غصنُ الشّبابِ النَّضِيرُ )

( هزِئتْ أسماءُ منّي وقالتْ ... أنت يابنَ الموصليّ كبير )

( ورأت شيْباً برأسي فصدّتْ ... وابنُ سِتّين بشَيْب جديرُ )

( لا يَرْوعنَّكِ شَيْبي فإنّي ... مع هذا الشّيب حُلْوٌ مَزِيرُ )

( قد يُفَلّ السيفُ وهو جُرازٌ ... ويَصُول الليثُ وهو عَقِير )

( يا بني العبّاس أنتمْ شفاءٌ ... وضياءٌ للقُلوب ونور )

( أنتُم أهل الخلافةِ فينا ... ولكم مِنبرُها والسرير )

( لا يزال المُلك فيكم مَدَى الدَّهرِ ... مُقيماً ما أقام ثَبِير )

 

( وأبو إسحاق خير إمامٍ ... ماله في العالمين نظير )

( ما له فيما يَرِيش ويَبْري ... غير توفيق الإِله وزير )

( واضح الغرّة للخير فيه ... حين يبدو شاهدٌ وبشير )

( زانه هَدْيُ تُقىً وجلالٌ ... وعفافٌ ووقارٌ وخِير )

( لو تُبارِي جودَه الريحُ يوماً ... نَزَعَتْ وهي طَلِيحٌ حَسير )

قال فأمر لي بجائزة فضلني بها على الجماعة

ثم دخلت إليه يوم

مقدمه من غزاته فأنشدته قولي فيه

صوت

( لأسماءَ رسمٌ عفا باللِّوَى ... أقامَ رهيناً لطول البِلى )

( تعاوَرَه الدهرُ في صَرْفه ... بكَرِّ الجديدين حتى عفا )

( إذ البينُ لم تُخْشَ رَوْعاته ... ولم يصرِفِ الحيَّ صَرْفُ الرَّدى )

( وإذ مَيْعة اللهو يجري بنا ... وحبلُ الوصال متينُ القُوى )

( فذلك دهرٌ مضى فابْكِهِ ... ومَنْ ضاق ذَرْعاً بأمرٍ بكى )

( وهل يِشْفِينَّك من غُلَّة ... بكاؤك في إثْر ما قد مضى )

( إلى ابن الرشيد إمامِ الهدى ... بعثنا المطيَّ تَجُوب الفَلاَ )

( إلى مَلِك حَلّ من هاشمٍ ... ذُؤَابةَ مجدٍ مُنيفِ الذُّرى )

( إذا قيل أيُّ فتى هاشمٍ ... وسيِّدُها كان ذاك الفتى )

 

( به نَعَش الله آمالَنا ... كما نَعَش الأرضَ صَوْبُ الحَيَا )

( إذا ما نوى فِعْلَ أُكْرُومةٍ ... تجاوز من جُوده ما نَوى )

( كساه الإِلهُ رداءَ الجمال ... ونورَ الجلال وهَدْيَ التقى )

قال فأمر لي بجائزة وقال لست أحسب هذا لك إلا بعد أن تقرن صناعتك فيه بالأخرى يعني أن أغني فيه وفي هزئت أسماء مني فصنعت في

( هزئت أسماء مني ... )

لحنا وفي

( لأسماء رسم عفا باللّوى ... )

لخنا آخر وغنيته بهما فأمر لي بألفي دينار

نسبة هذين الصوتين

( هزِئتْ أسماءُ مني وقالت ... أنت يابنَ الموصليّ كبيرُ )

لحن إسحاق في أربعة أبيات متوالية من الشعر ثقيل أول بالوسطى

والآخر

( لأسماءَ رسمٌ عفا باللِّوَى ... أقام رَهِيناً لطُول البِلَى )

الغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالوسطى

أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني أحمد بن عبيد الله ابن أبي العلاء قال غنيت يوما بين يدي الواثق لحن إسحاق في

( هَزِئتْ أسماءُ مني وقالت ... أنت يا بنَ الموصليّ كبيرُ )

قال فنظر إلي مخارق نظر شزرا وعض شفته علي فلما خرجنا من

 

بين يدي الواثق قلت يا أستاذ لم نظرت إلي ذلك النظر أأنكرت علي شيئا أم أخطأت في غنائي فقال لي ويحك أتدري أي صوت غنيت إن إسحاق جعل صيحة هذا الصوت بمنزلة طريق ضيق وعر صعب المرتقى أحد جانبي ذلك الطريق حرف الجبل وعن جانبه الآخر الوادي فإن مال مرتقيه عن محجته إلى جانب الوادي هوى وإن مال إلى الجانب الآخر نطحه حرف الجبل فتكسر صر إلي غدا حتى أصححه لك

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثت من غير وجه

أن إسحاق بات ليلة عند المعتصم وهو أمير فسمع لحنا لعبد الوهاب المؤذن أذن به على باب المعتصم فأصغى إليه فأعجبه فأعاد المبيت ليلة أخرى عنده حتى استقام له اللحن فبنى عليه لحنه

( هزئت أسماءُ منِّي وقالتْ ... )

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي

أن إبراهيم بن المهدي فصد يوما فكتب إليه إسحاق يتعرف خبره ويدعو له بالسلامة وحسن العقبى وكتب إليه إني سأهدي إليك هدية للفصد حسنة فوجه إليه بديحا غلامه فغناه ه في

( هزئتْ أسماءُ منّي وقالتْ ... )

فاستحسنه إبراهيم وقال له قد قبلنا الهدية فإن كان أذن لك في طرحه على الجواري فافعل فقال له بذلك أمرني وقال لي إنك ستقول لي هذا القول فقال إن قاله لك فقل له لو لم آمرك بطرحه لم يكن هدية فضحك إبراهيم وألقاه بديح على جواريه

وقد ذكر علي بن

 

محمد بن نصر هذا الخبر فذكر أنه كتب إلى أبيه بهذه الهدية وهذا خطأ لأن الشعر في تهنئة المعتصم بالخلافة وإبراهيم الموصلي مات في حياة الرشيد فكيف يهدي إليه هذا الصوت

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني أحمد بن أبي العلاء قال

اندفع محمد بن الحارث بن بسخنر يوما يغني هذا الصوت فالتفت إلينا مخارق فقال خرج ابن الزانية

إسحاق يحاور علويه في مجلس الفضل بن الربيع

حدثني عمي قال حدثني أبو جعفر محمد بن الدهقانة النديم قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال

دعاني الفضل بن الربيع ودعا علويه ومخارقا وذلك في أيام المأمون بعد رجوعه ورضاه عنه إلا أن حاله كانت ناقصة متضعضعة فلما اجتمعنا عنده كتب إلى إسحاق الموصلي يسأله أن يصير إليه ويعلمه الحال في اجتماعنا عنده فكتب إليهم لا تنتظروني بالأكل فقد أكلت وأنا أصير إليكم بعد ساعة فأكلنا وجلسنا نشرب حتى قرب العصر ثم وافى إسحاق فجلس وجاء غلامه بقطرميز نبيذ فوضعه ناحية وأمر صاحب الشراب بإسقائه منه وكان علويه يغني الفضل بن الربيع في لحن لسياط اقترحه الفضل عليه وأعجبه وهو

( فإن تَعْجَبي أو تُبصري الدّهرَ طَمَّني ... بأحداثه طَمَّ المقصَّص بالجَلَمْ )

 

( فقد أترك الأضيافَ تَنْدَى رِحالُهم ... وأكرمهم بالمَحْض والتَّامِك السَّنِم )

ولحنه من الثقيل الثاني فقال له إسحاق أخطأت يا أبا الحسن في أداء هذا الصوت وأنا أصلحه لك فجن علويه واغتاظ وقامت قيامته ثم أقبل على علويه فقال له يا حبيبي ما أردت الوضع منك بما قلته لك وإنما أردت تهذيبك وتقويمك لأنك منسوب الصواب والخطأ إلى أبي وإلي فإن كرهت ذلك تركتك وقلت لك أحسنت وأجملت فقال له علويه والله ما هذا أردت ولا أردت إلا ما لا تتركه أبدا من سوء عشرتك أخبرني عنك حين تجيء هذا الوقت لما دعاك الأمير وعرفك أنه قد نشط للاصطباح ما حملك على الترفع عن مباكرته وخدمته مع صنائعه عندك وما كان ينبغي أن يشغلك عنه شيء إلا الخليفة ثم تجيئه ومعك قطرميز نبيذ ترفعا عن شرابه كما ترفعت عن طعامه ومجالسته إلا كما تشتهي وحين تنشط كما تفعل الأكفاء بل تزيد على فعل الأكفاء ثم تعمد إلى صوت قد اشتهاه واقترحه وسمعه جميع من حضر فما عابه منهم أحد فتعيبه ليتم تنغيصك إياه لذته أما والله لو الفضل بن يحيى أو أخوه جعفر دعاك إلى مثل ما دعاك إليه الأمير بل بعض أتباعهم لبادرت وباكرت وما تأخرت ولا اعتذرت قال فأمسك الفضل عن الجواب إعجابا بما خاطب به علويه إسحاق فقال له إسحاق أما ما ذكرته من تأخري عنه إلى الوقت الذي حضرت فيه فهو يعلم أني لا أتأخر عنه إلا بعائق قاطع إن وثق بذلك مني وإلا ذكرت له الحجة سرا من حيث لا يكون لك ولا لغيرك فيه مدخل

وأما ترفعي عنه فكيف أترفع عنه وأنا أنتسب إلى صنائعه وأستمنحه وأعيش من فضله مذ كنت وهذا تضريب لا أبالي به منك

وأما حملي النبيذ معي فإن لي في النبيذ شرطا من طعمه وريحه وإن لم أجده لم أقدر على الشرب وتنغص

 

علي يومئذ وإنما حملته ليتم نشاطي وينتفع بي

وأما طعني على ما اختاره فإني لم أطعن على اختياره وإنما أردت تقويمك ولست والله تراني متتبعا لك بعد هذا اليوم ولا مقوما شيئا من خطئك وأنا أغني له أعزه الله هذا الصوت فيعلم وتعلم ويعلم من حضر أنك أخطأت فيه وقصرت

وأما البرامكة وملازمتي لهم فأشهر من أن أجحده وإني لحقيق فيه بالمعذرة وأحرى أن أشكرهم على صنيعهم وبأن أذيعه وأنشره وذلك والله أقل ما يستحقونه مني

ثم أقبل على الفضل وقد غاظه مدحه لهم فقال اسمع مني شيئا أخبرك به مما فعلوه ليس هو بكبير في صنائعهم عندي ولا عند أبي قبلي فإن وجدت لي عذرا وإلا فلم كنت في ابتداء أمري نازلا مع أبي في داره فكان لا يزال يجري بين غلماني وغلمانه وجواري وجواريه الخصومة كما تجري بين هذه الطبقات فيشكونهم إليه فأتبين الضجر والتنكر في وجهه فاستأجرت دارا بقربه وانتقلت إليها أنا وغلماني وجواري وكانت دارا وساعة فلم أرض ما معي من الآلة لها ولا لمن يدخل إلي من أخواني أن يروا مثله عندي ففكرت في ذلك وكيف أصنع وزاد فكري حتى خطر بقلبي قبح الأحدوثة من نزول مثلي في دار بأجرة وأني لا آمن في وقت أن يستأذن علي صاحب داري وعندي من أحتشمه ولا يعلم حالي فيقال صاحب دارك أو يوجه في وقت فيطلب أجرة الدار وعندي من أحتشمه فضاق بذلك صدري ضيقا شديدا حتى جاوز الحد فأمرت غلامي بأن يسرج لي حمارا كان عندي لأمضي إلى الصحراء أتفرج فيها مما دخل على قلبي فأسرجه وركبت برداء ونعل فأفضى بي المسير وأنا مفكر لا أميز الطريق التي أسلك فيها حتى هجم بي على باب يحيى بن خالد فتواثب غلمانه إلي وقالوا أين هذا الطريق فقلت إلى الوزير فدخلوا فاستأذنوا لي وخرج الحاجب فأمرني بالدخول وبقيت خجلا قد وقعت في أمرين فاضحين إن دخلت إليه برداء ونعل وأعلمته أني قصدته في تلك الحال كان سوء أدب وإن قلت له كنت مجتازا ولم أقصدك فجعلتك

 

طريقا كان قبيحا ثم عزمت فدخلت فلما رآني تبسم وقال ما هذا الزي يا أبا محمد احتبسنا لك بالبر والفصد والتفقد ثم علمنا أنك جعلتنا طريقا فقلت لا والله يا سيدي ولكني أصدقك قال هات فأخبرته القصة من أولها إلى آخرها فقال هذا حق مستو أفهذا شغل قلبك قلت أي والله وزاد فقال لا تشغل قلبك بهذا يا غلام ردوا حماره وهاتوا له خلعة فجاؤوني بخلعة تامة من ثيابه فلبستها ودعا بالطعام فأكلت ووضع النبيذ فشربت وشرب فغنيته ودعا في وسط ذلك بدواة ورقعة وكتب أربع رقاع ظننت بعضها توقيعا لي بجائزة فإذا هو قد دعا بعض وكلائه فدفع إليه الرقاع وساره بشيء فزاد طمعي في الجائزة ومضى الرجل وجلسنا نشرب وأنا أنتظر شيئا فلا أراه إلى العتمة ثم اتكأ يحيى فنام فقمت وأنا منكسر خائب فخرجت وقدم لي حماري فلما تجاوزت الدار قال لي غلامي إلى أين تمضي قلت إلى البيت قال قد والله بيعت دارك وأشهد على صاحبها وابتيع الدرب كله ووزن ثمنه والمشتري جالس على بابك ينتظرك ليعرفك وأظنه اشترى ذلك للسلطان لأني رأيت الأمر في استعجاله واستحثاثه أمرا سلطانيا فوقعت من ذلك فيما لم يكن في حسابي وجئت وأنا لا أدري ما أعمل فلما نزلت على باب داري إذ أنا بالوكيل الذي ساره يحيى قد قام إلي فقال لي ادخل أيدك الله دارك حتى أدخل إلى مخاطبتك في أمر أحتاج إليك فيه فطابت نفسي بذلك ودخلت ودخل إلي فأقرأني توقيع يحيى يطلق لأبي محمد إسحاق مائة ألف درهم يبتاع له بها داره وجميع ما يجاورها ويلاصقها

والتوقيع الثاني إلى ابنه الفضل قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها داره فأطلق إليه مثلها لينفقها على إصلاح الدار كما يريد وبنائها على ما يشتهي

والتوقيع الثالث إلى جعفر قد أمرت لأبي محمد إسحاق بمائة ألف درهم يبتاع له بها منزل يسكنه وأمر له أخوك بدفع مائة ألف درهم ينفقها على بنائها ومرمتها على ما يريد فأطلق له أنت مائة ألف درهم يبتاع بها فرشا لمنزله

 

والتوقيع الرابع إلى محمد قد أمرت لأبي محمد إسحاق أنا وأخواك بثلاثمائة ألف درهم لمنزل يبتاعه ونفقة ينفقها عليه وفرش يبتذله فمر له أنت بمائة ألف درهم يصرفها في سائر نفقته

وقال الوكيل قد حملت المال واشتريت كل شيء جاورك بسبعين ألف درهم وهذه كتب الابتياعات باسمي والإقرار لك وهذا المال بورك لك فيه فاقبضه فقبضته وأصبحت أحسن حالا من أبي في منزلي وفرشي وآلتي ولا والله ما هذا بأكبر شيء فعلوه لي أفألام على شكر هؤلاء فبكى الفضل بن الربيع وكل من حضر وقالوا لا والله لا تلام على شكر هؤلاء

ثم قال الفضل بحياتي غن

الصوت

ولا تبخل على أبي الحسن بأن تقومه له فقال أفعل وغناه فتبين علويه أنه كما قال فقام فقبل رأسه وقال أنت أستاذنا وابن أستاذنا وأولى بتقويمنا واحتمالنا من كل أحد ورده إسحاق مرات حتى استوى لعلويه

ولقد روي في هذا الخبر بعينه أن هذه القصة كانت عند علي بن هشام وقد أخبرني بهذا الخبر أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون وأبو عبد الله الهاشمي قالا

دعا علي بن هشام إسحاق الموصلي وسأله أن يصطبح عنده ويبكر فأجابه فلما كان الغد وافاه ظهرا وعنده مخارق وعلويه فقال له علي بن هشام أين كنت الساعة يا أبا محمد قال عاقني أمر لم أجد من القيام به بدا فدعا له بطعام فأصاب منه ثم قعدوا على نبيذهم وتغنى علويه صوتا الشعر فيه لابن ياسين وهو

الصوت

( إلهي مَنَحتَ الوُدّ منّي بخيلةً ... وأنت على تغيير ذاك قديرُ )

 

( شفاءُ الهوى بثُّ الهوى واشتكاؤُه ... وإنّ امرأً أخفى الهوى لصَبور )

الغناء لسليمان أخي أحيحة خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو فقال له إسحاق أخطأت ويلك فوضع علويه العود وشرب رطلا وشرب علي بن هشام ثم تناول العود وغنى

صوت

( ولقد أَسْمُو إلى غُرَفٍ ... في طريقٍ مُوحشٍ جُدَدُهْ )

( حوله الأحراسُ تحرُسه ... ولديه جاثماً أسَدُهْ )

الغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو فقال له إسحاق أخطأت ويلك فوضع العود من يده ثم أقبل على إسحاق فقال له دعاك الأمير أعزه الله لتبكر إليه فجئته ظهرا وغنيت صوتين يشتهيهما الأمير أعزه الله علي فخطأتني فيهما وزعمت أنك لا تغني بين يدي الأمير أعزه الله ولا تغني إلا بين يدي خليفة أو ولي عهد ولو دعاك بعض البرامكة لكنت تسرع إليه ثم تغني منذ غدوة إلى الليل فقال إسحاق إني والله ما أردت انتقاصا منك ولا أقول مثله لغيرك ولا أريد ازدراء من أحد ولكني أردت بك خاصة التقويم والتأديب فإن ساءك ذلك تركتك في خطئك

ثم أقبل على علي بن هشام فقال له أعزك الله إني أحدثك عن البرامكة بما يقيم عذري فيما ذكره دخلت على يحيى بن خالد يوما ولم أكن أردت الدخول عليه وإنما ركبت متبذلا لهم أهمني وكنت نازلا مع أبي في داره فضقت صدرا بذلك وأحببت النقلة عنه ونظرت فإذا يدي تقصر عما يصلحني ثم ذكر الخبر نحوا مما قلته

وزاد فيه أنه دخل إلى يحيى بن خالد وهو مصطبح فلما رآه نعر وصفق وأنه وقع له بمائتي ألف درهم

 

ووقع له كل من جعفر والفضل بمائة وخمسين ألفا وكل واحد من موسى ومحمد بمائة ألف مائة ألف

وقال فيه فبكى علي بن هشام ومن حضر وقالوا لا يرى والله مثل هؤلاء أبدا وأخذ إسحاق العود فغنى الصوتين فأتى فيهما بالعجائب فقام علويه فقبل رأسه وقال له أنت أستاذنا وابن أستاذنا وما بنا عن تقويمك غنى ثم غنى بعد ذلك لحنه تشكى الكميت الجري ولم يزل يغني بقية يومه كلما شرب علي بن هشام ثم انصرف فأتبعه علي ابن هشام بجائزة سنية

عبد الله بن العباس الربيعي يشهد له بتفوقه في الصنعة

حدثني الصولي قال حدثنا عون بن محمد قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال

أحضرني إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فلما جلست وأطمأننت أخرج إلي خادمه رقعة فقال اقرأ ما فيها واعمل بما رسمه الأمير أعزه الله فقرأتها فإذا فيها قوله

صوت

( يرتاح للدّجْن قلبي وهو مقتسَمٌ ... بين الهموم ارتياحَ الأرض للمطرِ )

( إني جعلتُ لهذا الدَّجْن نِحْلتَه ... ألاّ يزولَ ولي في اللهو من وَطَر )

وتحت هذين البيتين تقدم جعلت فداك إلى من بحضرتك من المغنين بأن يغنوا في هذين البيتين وألق جميع ما يصنعونه على فلانة فإذا أخذته فأنفذها إلي مع رسولي فقلت السمع والطاعة لأمر الأمير أعزه الله

 

فهل صنع فيهما أحد قبلي فقال نعم إسحاق الموصلي فقلت والله لو كلف إبليس أن يصنع فيهما صنعة يفضل إسحاق فيها بل يساويه بل يقاربه ما قدر على ذلك ولا بلغ مبلغه فضحك حتى استلقى وقال صدقت والله وهكذا يقول من يعقل لا كما يقول هؤلاء الحمقى ولكن اصنع فيهما على كل حال كما أمر فقلت أفعل وقد برئت من العهدة فانصرفت فصنعت فيهما صنعة كانت والله عند صنعة إسحاق بمنزلة غناء القرادين

حدثني جحظة قال حدثني ميمون قال حدثني إسحاق الموصلي قال

قال لي المعتصم أو قال لي الواثق لقد ضحك الشيب في عارضيك فقلت نعم يا سيدي وبكيت ثم قلت أبياتا في الوقت وغنيت فيها

( تولَّى شبابُك إلا قليلاَ ... وحَلّ المَشيب فصبراً جميلاَ )

( كفى حَزَناً بِفراق الصِّبَا ... وإن أصبح الشيبُ منه بَدِيلاَ )

( ولمّا رأى الغانياتُ المَشِيب ... َ أغضَيْنَ دونك طَرْفاً كَلِيلاَ )

( سأندُب عهداً مضى للصِّبا ... وأبكي الشبابَ بكاء طويلاَ )

فبكى الواثق وحزن وقال والله لو قدرت على رد شبابك لفعلت بشطر ملكي فلم يكن لكلامه عندي جواب إلا تقبيل البساط بين يديه

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني حمدون ابن إسماعيل قال لما صنع أبوك لحنه في

( قِفْ بالديار التي عَفَا القِدَمُ ... وغيَّرتْها الأرواحُ والدِّيَمُ )

رأيتهم يعني المغنين يأخذونه عنه ويجهدون فيه فتوفي والله وما أخذوا منه إلا رسمه

 

نسبة هذا الصوت

صوت

( قِفْ بالديار التي عَفَا القِدَمُ ... وغيَّرتْها الأرواحُ والدِّيَمُ )

( لمّا وقفْتا بها نسائِلُها ... فاضت من القوم أعينٌ سُجُمُ )

( ذِكْراً لعيشٍ إذا ذكروا ... ما فات منه فإنه سَقَمُ )

( وكل عيش دامت غَضَارتُه ... منقطِعٌ مرّةً ومنصَرِمُ )

الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى من جميع أغانيه

حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني هارون اليتيم قال حدثني عجيف ابن عنبسة قال

كنت عند أمير المؤمنين المعتصم وعنده إسحاق الموصلي فغناه

( قُلْ لمن صَدّ عاتبَا ... ونأى عنكَ جانبَا )

فأمره بإعادته فأعاده ثلاثا وشرب عليه ثلاثا فقال له إبراهيم بن المهدي قد استحسنت هذا الصوت يا أمير المؤمنين أفنأخذه قال نعم خذوه فقد أعجبني فاجتمع جماعة المغنين مخارق وعلويه وعمرو ابن بانة وغيرهم فأمره المعتصم أن يلقيه عليهم حتى يأخذوه فقال عجيف فعددت خمسين مرة قد أعاده فيها عليهم وهم يظنون أنهم قد أخذوه ولم يكونوا أخذوه

قال هارون فنحن في هذا الحديث إذ دخل علينا محمد ابن الحارث بن بسخنر فقال له عجيف يا أبا جعفر كنت أحدث أبا موسى بحديثنا البارحة مع إسحاق في الصوت وأني عددت خمسين مرة فقال محمد إي والله أصلحك الله ولقد عددت أنا أكثر من سبعين مرة وما في القوم أحد إلا وهو يظن أنه قد أخذه والله ما أخذه أحد منهم وأنا أولهم ما قدرت علم الله على أخذه على الصحة وأنا أسرعهم أخذا فلا

 

أدري ألكثرة زوائده فيه أم لشدة صعوبته ومن يقدر أن يأخذ من ذلك الشيطان شيئا

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عجيف بن عنبسة بهذا الخبر فذكر مثله سواء

قال أبو أيوب وحدثني حماد عن أبيه قال

كنت يوما عند المعتصم فمر شعر على هذا الوزن فقال وددت أنه على غير ما هو فقلت له أنا لك به على هذا الوزن في أحسن من هذا الشعر

صوت

( قُلْ لمن صدّ عاتبَا ... ونأى عنك جانبَا )

( قد بلغتَ الذي أردت ... وإن كنت لاعبا )

فأعجبه وقال لي قد والله أحسنت وأمر لي بألفي دينار ووالله ما كانت قيمتهما عندي دانقين

الشعر والغناء في هذين البيتين لإسحاق ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى

الأمين يغضب عليه فيتشفع إليه بالفضل

أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني ابن المكي عن إسحاق قال

غضب علي المخلوع فأقصاني وجفاني فاشتد ذلك علي قال

 

وجفاني وهو يومئذ بالأنبار فحملت عليه بالفضل بن الربيع فطلب إليه فشفعه المخلوع ودعاني وهو مصطبح فلم أزل متوقفا وقد لبست قباء وخفا أحمر واعتصبت بعصابة صفراء وشددت وسطي بشقة حمراء من حرير فلما أخذوا في الأهزاج دخلت وفي يدي صفاقتان وأنا أتغنى

صوت

( اسمع لصوتٍ طَريبٍ ... من صَنْعةِ الأنْبارِي )

( صوتٍ مليح خفيف ... يطير في الأوْتار )

الشعر والغناء لإسحاق هزج بالبنصر فسر بذلك محمد وكان صوتهم في يومهم ذلك وأمر لي بثلثمائة ألف درهم

وأخبرني جحظة بهذا الخبر عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال حدثني أبي أن إسحاق حدثه بهذا الخبر وذكر مثل ما ذكره يحيى وزاد فيه قال وكان سبب تسمية محمد لي ب الأنباري أني دخلت عليه يوما وقد لثت عمامتي على رأسي لوثا غير مستحسن فقال لي يا إسحاق كأن عمامتك من عمائم أهل الأنبار

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق وأخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبي

قال إسحاق قلت في ليلة من الليالي

 

صوت

( هل إلى نظرةٍ إليكِ سبيلُ ... يُرْوَ منها الصَّدَى ويُشْفَى الغليلُ )

( إنْ ما قلّ منك يكثُر عندي ... وكثيرٌ ممن تحبّ القليلُ )

قال فلما أصبحت أنشدتهما الأصمعي فقال هذا الديباج الخسرواني هذا الوشي الإسكندراني لمن هذا فقلت له إنه ابن ليلته فتبينت الحسد في وجهه وقال أفسدته أفسدته أما إن التوليد فيه لبين

في هذين البيتين لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى قال حدثني إسحاق بهذا الخبر فذكر مثل ما ذكره من قدمت الرواية عنه وزاد فيه فقال لي علي بن يحيى بعقب هذا الخبر كان إسحاق يعجب بهذا المعنى ويكرره في شعره ويرى أنه ما سبق إليه فمن ذلك قوله

صوت

( أيّها الظّبيُ الغَريرُ ... هل لنا منك مُجِيرُ )

( إنّ ما نَوّلتني منك ... َ وإنْ قلَّ كثير )

لحن إسحاق خفيف ثقيل بالوسطى فقلت إنك قد سبقت إلى هذا المعنى فقال ما علمت أن أحدا سبقني إليه فأنشدته لأعرابي من بني عقيل

( قِفي وَدِّعينا يا مليح بنظرةٍ ... فقد حان مّنا يا مليح رحيلُ )

( أليس قليلاً نظرةٌ إنْ نظرتُها ... إليكِ وكَلا ليس منك قليل )

 

( عُقَيْلِيّةٌ أمّا مَلاثُ إزارها ... فوَعْثٌ وأما خَصْرها فضئيل )

صوت

( أيا جنّةَ الدنيا ويا غايةَ المُنى ... ويا سُؤْلَ نفسي هل إليك سبيلُ )

( أراجعةٌ نفِسي إليّ فأغتدِي ... مع الرَّكْب لم يُقْتل عليِك قتيل )

( فما كلَّ يومٍ لي بأرضك حاجةٌ ... ولا كلَّ يومٍ لي إليكِ رسول )

قال فحلف أنه ما سمع بذلك قط

قال علي بن يحيى وصدق ما سمع بها

الغناء في الأبيات الأخيرة من أبيات العقيلي

إبراهيم بن المهدي يعاتب إسحاق

حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري بمكة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال

عاتبني إبراهيم بن المهدي في ترك المجيء إليه فقال لي من جمع لك مع المودة الصادقة رأيا حازما فاجمع له مع المحبة الخالصة طاعة لازمة فقلت له جعلني الله فداك إذا ثبتت الأصول في القلوب نطقت الألسن بالفروع والله يعلم أن قلبي لك شاكر ولساني بالثناء عليك ناثر وما يظهر الود المستقيم إلا من القلب السليم قال فأبرئ ساحتك عندي بكثرة مجيئك إلي فقلت أجعل مجيئي إليك في الليل والنهار نوبا أتيقظ لها كتيقظي للصلوات الخمس وأكون بعد ذلك مقصرا فضحك وقال من يقدر على جواب المغنين فقلت من اتخذ الغناء لنفسه ولم يتخذه لغيره فضحك أيضا وأمر لي بخلع ودنانير وبرذون وخادم

وبلغ الخبر المعتصم فضاعف لإبراهيم ما أعطاني فرحت وقد ربحت وأربحت

 

حدثنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال

عتب علي الفضل بن الربيع في شيء بلغه عني فكتبت إليه إن لكل ذنب عفوا وعقوبة فذنوب الخاصة عندك مستورة مغفورة فأما مثلي من العامة فذنبه لا يغفر وكسره لا يجبر فإن كنت لا بد معاقبي فإعراض لا يؤدي إلى مقت

حدثني الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثني إسحاق قال

كان يختلف إلي رجل من الأعراب وكان الفضل بن الربيع يقربه ويستظرف كلامه وكان عندي يوما وجاء رسول الفضل يطلبه فمضى إليه فقال له الفضل فيم كنتم قال كنا في قدر تفور وكأس تدور وغناء يصور وحديث لا يحور

إسحاق يقول الشعر على ألسن الأعراب

حدثنا الحرمي قال حدثنا الحسين بن طالب قال

كان إسحاق يقول الشعر على ألسن الأعراب وينشده للأعراب وكان يعايي بذلك أصحابه ويغرب عليهم به فمن ذلك ما أنشدنيه لأعرابي

( لفَظ الخدورُ عليك حُوراً عِينَا ... أنسَيْن ما جمع الكِناسُ قَطِينَا )

( فإذا بَسَمْنَ فعَنْ كمثل غَمامةٍ ... أو أُقْحُوان الرمل بات مَعِينا )

( وأصحُّ من رأتِ العيونُ محاجراً ... ولهنّ أمرضُ ما رأيت عيونا )

 

( وكأنما تلك الوجوهُ أهِلّةٌ ... أَقْمَرْنَ بين العشْر والعشرينا )

( وكأنهنّ إذا نَهَضْنَ لحاجةٍ ... ينهضن بالعَقدَاتِ من يَبْرِينَا )

قال وأنشدني أيضا مما كان ينسبه إلى الأعراب وهو له

( ومكحولة العينيْن من غير ما كُحْلِ ... مُهَفْهَفَة الكَشْحَيْن ذات شَوىً خَدْلِ )

( مُنَعَّمَة الأطراف مُفْعَمة البُرَى ... روادفُها تَحكِي الدَّهاس من الرملِ )

( صَيُود لألباب الرجال متى رنتْ ... إلى ذي نُهىً جَلْد القُوَى وافرِ العقلِ )

( تخلّى النُّهى عنه وحالفه الصِّبا ... وأسلمه الرأيُ الأصيل إلى الجهلِ )

( شبيبة كُثْبانٍ يَرُوقك تحتها ... عناقيدُ كرم جادَها غَدَق الوَبْلِ )

( رمتْني فحلّت نائطيَّ ولم تُصِب ... لها نائَطيْ قلبٍ ولا مَقتلاً نَبْلي )

حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن الأصمعي قال

دخلت أنا وإسحاق الموصلي يوما على الرشيد فرأيناه لقس النفس فأنشده إسحاق يقول

صوت

( وآمرةٍ بالبخل قلتُ لها اقْصُرِي ... فذلِكِ شيءٌ ما إليه سبيلُ )

( أرى الناس خُلاّنَ الكرامِ ولا أرى ... بخَيلاً له حتّى المماتِ خليل )

 

( وإني رأيتُ البُخل يُزْرِي بأهله ... فأكرمتُ نفسي أنْ يُقال بخيل )

( ومن خير حالات الفتى لو علمتِه ... إذا نال خيراً أن يكون يُنِيل )

( فعالي فعالُ المُكْثِرِين تجمُّلاً ... ومالي كما قد تعلمين قليل )

( وكيف أخافُ الفقر أو أُحرَمُ الغِنَى ... ورأيُ أمير المؤمنين جميل )

قال فقال الرشيد لا تخف إن شاء الله ثم قال لله در أبيات تأتينا بها ما أشد أصولها وأحسن فصولها وأقل فضولها وأمر له بخمسين ألف درهم فقال له إسحاق وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه فعلام آخذ الجائزة فضحك الرشيد وقال اجعلوها لهذا القول مائة ألف درهم

قال الأصمعي فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني

وأخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة عن حماد عن أبيه وأخبرنا به يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق فذكر معنى الخبر قريبا مما ذكره الأصمعي والألفاظ تختلف

أخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرني به جعفر بن قدامة ووكيع عن حماد عن أبيه قال

كنت عند الفضل بن الربيع يوما فدخل إليه ابن ابنه عبد الله بن العباس بن الفضل وهو طفل وكان يرق عليه لأن أباه مات في حياته فأجلسه في حجره وضمه إليه ودمعت عيناه فأنشأت أقول

صوت

( مَدّ لك الله الحياةَ مَدَّا ... حتى يكون ابنُك هذا جَدَّا )

( مؤزَّراً بمجده مُردَّى ... ثم يُفدَّى مثلَ ما تُفَدَّى )

( أشبه منك سُنّة وخَدَّا ... وشِيَماً مَرْضيّة ومجدا )

 

( كأنه أنت إذا تَبدَّى ... شمائلاً محمودةً وقَدّا )

قال فتبسم الفضل وقال أمتعني الله بك يا أبا محمد فقد عوضت من الحزن سرورا وتسليت بقولك وكذلك يكون إن شاء الله

قال جعفر بن قدامة وحدثني بهذا الحديث علي بن يحيى فذكر أن إسحاق قال هذه الأبيات للفضل بن يحيى وقد دخل عليه وفي حجره ابن له

غنى في هذه الأبيات أبو عيسى بن المتوكل لحنا من الرمل يقال إنه صنعه وقد ولد للمعتمد ولد ثم غنى به

وأخبرني ذكاء وجه الرزة عن بدعة الكبيرة أن الرمل لعريب وأن لحن أبي عيسى خفيف رمل

حدثني عمي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق قال

أتيت الفضل بن الربيع يوما عائدا وجاءه بنو هاشم يعودونه فقلت في مجلسي ذلك

( إذا ما أبو العباس عِيدَ ولم يَعُد ... رأيتَ مَعُوداً أكرمَ الناسِ عائدَا )

( وجاء بنو العباس يبتدرونه ... مِراضاً لما يشكوه مَثْنَى وواحدا )

( يُفَدُّونه عند السلامِ وكلُّهم ... مُجِلُّ له يدعوه عَمًّا ووالدا )

قال وكان الفضل مضطجعا فأمر خادما له فأجلسه ثم قال لي أعد يا أبا محمد فأعدت فأمرني فكتبتها وسر بها وجعل يرددها حتى حفظها

 

إسحاق يسترضي الفضل بن الربيع بشعر

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني أبي قال قال إسحاق وأخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال

جاءني الزبير بن دحمان يوما مسلما فاحتبسته فقال لي أمرني الفضل بن الربيع بالمسير إليه فقلت له

( أقِمْ يا أبا العوّام وَيْحَك نَشْرَبِ ... ونَلْهُ مع اللاّهين يوماً ونَطْرَبِ )

( إذا ما رأيتَ اليومَ قد جاء خيرُه ... فخُذْه بشكرٍ واتركِ الفضلَ يغضَبِ )

فأقام عندي وسررنا يومنا ثم صار إلى الفضل فسأله عن سبب تأخره عنه فحدثه الحديث وأنشده البيتين فغضب وحول وجهه عني وأمر عونا حاجبه بألا يدخلني إليه ولا يستأذن لي عليه ولا يوصل لي رقعة فقلت

( حرامٌ عليّ الكأسُ ما دُمتَ غضبانَا ... وما لم يَعُد عنّي رضاك كما كانَا )

( فأحسِنْ فإني قد أسأتُ ولم تَزْلَ ... تُعوّدني عند الإساءة إحسانا )

قال وأنشدته إياهما فضحك ورضي عني وعاد إلى ما كان عليه

وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه فذكر مثله وزاد فيه فقلت في عون حاجبه

( عَوْنُ يا عونُ ليس مثلكَ عونُ ... أنت لي عُدّةٌ إذا كان كَوْنُ )

( لك عندي والله إن رَضِي الفضل ... غلامٌ يُرضيك أو بِرْذَوْنُ )

قال فأتى عون الفضل بالشعرين جميعا فقرأهما وضحك وقال ويحك إنما عرض لك بقوله غلام يرضيك بالسوءة قال قد وعدني ما سمعت فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم فأمره أن يرسل إلي فأتاني رسوله فصرت إليه فرضي عني

 

أخبرني جحظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل قال حدثني أبي قال حدثني الزبير بن دحمان قال

دخلت يوما على الفضل بن الربيع مسلما فقال لي قد عزمت غدا على الصبوح فصر إلي بكرة فكنت أنا والصبح كفرسي رهان فلما أصبحت في غد جعلت طريقي على إسحاق بن إبراهيم فدخلت إليه فلما جلست قال لي أقم اليوم عندي فعرفته خبري فقال

( أقِم يا أبا العَوّام وَيْحَك نشربِ ... ونَلْهُ مع اللاّهين يوماً ونطربِ )

( إذا ما رأيتَ اليوم قد جاء خيرُه ... فخذه بشكرِ واترُكِ الفضل يغضبِ )

فقلت إني لا آمن غضبه وأنا بين يديك فقال لي أنت تعلم أن صبوح الفضل أبدا في وقت غبوق الناس فأقم وارفق بنفسك ثم امض إليه فأجبته إلى ذلك فلما شربنا طاب لي الموضع فأقمت حتى سكرت

وذكر باقي الخبر نحوا مما ذكر إسحاق

انتهى

حدثني جحظة قال حدثني محمد بن المكي المرتجل قال قلت لزرزور الكبير كيف كان إسحاق ينفق على الخلفاء معكم وأنت وإبراهيم ابن المهدي ومخارق أطيب أصواتا وأحسن نغمة قال كنا والله يا بني نحضر معه فنجتهد في الغناء ونقيم الوهج فيه ويقبل علينا الخلفاء حتى نطمع فيه ونظن أنا قد غلبناه فإذا غنى عمل في غنائه أشياء من مداراته وحذقه ولطفه حتى يسقطنا كلنا ويقبل عليه الخليفة دوننا ويجيزه دوننا ويصغي إليه ونرى أنفسنا اضطرارا دونه

 

إسحاق أول من أحدث التخنيث في الغناء

حدثنا جحظة قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثني أبي قال

كان المغنون يجتمعون مع إسحاق وكلهم أحسن صوتا منه ولم يكن فيه عيب إلا صوته فيطمعون فيه فلا يزال بلطفه وحذقه ومعرفته حتى يغلبهم ويبذهم جميعا ويفضلهم ويتقدمهم

قال وهو أول من أحدث التخنيث ليوافق صوته ويشاكله فجاء معه عجبا من العجب وكان في حلقة نبو عن الوتر

اخبرني يحيى بن علي قال أخبرنا أبو العبيس بن حمدون أن إسحاق أول من جاء بالتخنيث في الغناء ولم يكن يعرف وإنما احتال بحذقه لمنافرة حلقه الوتر حتى صار يجيبه ببعض التخنيث فيكون أحسن له في السمع

أخبرنا جحظة قال حدثني الهشامي عن أبيه قال

كان المغنون إذا حضروا وليس إسحاق معهم غنوا هوينى وهم غير مفكرين فإذا حضر إسحاق لم يكن إلا الجد

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني إسحاق الموصلي قال

قال لي أبي وقد انصرف من دار الرشيد رأيت الأمير جعفر بن يحيى يستبطئك ويقول لست أراه ولا يغشاني فقلت إني لآتيه كثيرا فأحجب عنه ويصرفني نافذ حاجبه ويقول هو على شغل قال فبلعه أبي ذلك فقال له قل له أنكه أمه إذا فعل فأقمت أياما ثم كتبت إليه

( جُعِلتُ فداءكَ من كل سوءٍ ... إلى حُسْن رأيك أشكو أُنَاسَا )

( يَحُولون بيني وبين السلام ... فلستُ أُسلِّم إلاّ اختلاسا )

( وأنفذتُ أمرك في نافذٍ ... فما زاده ذاك إلاّ شِماسا )

 

وقد أخبرني الخبر محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه فذكر مثله وقال كان خادم يحجبه يقال له نافذ فقال إذا حجبك فنكه فلما كتبت إليه بهذه الأبيات بعث فأحضرني فلما دخلت إليه أحضر نافذا وقرأ الأبيات عليه وقال لي أفعلتها يا عدو الله فغضب نافذ حتى كاد يبكي وجعل جعفر يضحك ويصفق ثم ما عاد بعد ذلك يتعرض لي

حدثني الحسين بن أبي طالب قال حدثني عبيد الله بن المأمون وأخبرنا اليزيدي عن عمه عبيد الله عن أبيه قال

غضب المأمون على إسحاق بن إبراهيم ثم كلم فيه فرضي عنه ودعا به فلما وقف بين يديه اعتذر وقبل الأرض بين يديه واستقاله فأجابه المأمون جوابا جميلا ثم قال له في أثناء كلامه

( فلا أنتَ أعتبتَ من زَلّة ... ولا أنتَ بالغتَ في المَعْذِرهْ )

( ولا أنتَ ولّيتني أمرَها ... فأغفِر ذنبك عن مَقْدِرهْ )

هكذا في الخبر وأظنه إسحاق بن إبراهيم الطاهري لا الموصلي

أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن أبي طالب قال حدثني إسحاق قال

أنشدت أبا الأشعث الأعرابي شعرا لي فقال والذي أصوم له مخافته ورجاءه إنك لمن طراز ما رأيت بالعراق شيئا منه ولو كان شباب يشترى لأشتريته لك ولو بإحدى يدي وإن في كبرك لما زان الجليس وسره

أخبرنا الحرمي قال حدثنا الديناري قال حدثنا إسحاق قال

قالت لي زهراء الكلابية ما فعل عبد الله بن خرداذبه فقلت مات فقالت

 

غير ذميم ولا لئيم غفر الله لصداه لقد كان يحبك ويعجبه ما سرك

قال فقلت لزهراء حدثيني عن قول الشاعر

( أحِبُّك أنْ أُخْبِرتُ أنّكِ فاركٌ ... لزوجك إني مُولَعٌ بالفَوَارِكِ )

ما أعجبه من بغضها لزوجها فقالت عرفته أن في نفسها فضلة من جمال وشمخا بأنفها وأبهة فأعجبته

إسحاق يغني المعتصم

...

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثت عن غير واحد

أن إسحاق الموصلي دخل على المعتصم يوما من الأيام فرآه لقس النفس فقال له أما ترى يا أمير المؤمنين طيب هذا اليوم وحسنه فقال المعتصم ما يدعوني حسنه إلى شيء مما تريد ولا أنشط له فقال يا أمير المؤمنين إنه يوم أكل وشرب فاشرب حتى أنشطك قال أو تفعل قال نعم قال يا غلمان قدموا الطعام والشراب ومدوا الستارة وأحضروا الندماء والمغنين فأتي بالطعام فأكل و بالشراب فشرب وحضر الندماء والمغنون فغناه إسحاق

صوت

( سُقِيتَ الغيثَ يا قصرَ السلامِ ... فنِعْم محَلّهُ المَلك الهُمَامِ )

 

( لقد نَشَر الإِله عليك نُوراً ... وخصّك بالسَّلامة والسلام )

الشعر والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق

وذكر حبش أن فيه للزبير بن دحمان لحنا من الرمل بالوسطى قال فطرب المعتصم وشرب شربا كثيرا ولم يبق أحد بحضرته إلا وصله وخلع عليه وحمله وفضل إسحاق في ذلك أجمع

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن إسحاق قال

أول جائزة أخذتها من الرشيد ألف دينار في أول يوم دخلت إليه فغنيته

( عَلق القلبُ بِزَوْعا ... )

فاستحسنه واستعاده ثلاث مرات وشرب عليه ثلاثة أرطال وأمر لي بألف دينار فكان أول جائزة أجازنيها

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال

كان أبي ذات يوم عند إسحاق بن إبراهيم بن مصعب فلما جلسوا للشراب جعل الغلمان يسقون من حضر وجاء غلام قبيح الوجه إلى أبي بقدح نبيذ فلم يأخذه ورآه إسحاق فقال له لم لا تشرب فكتب إليه أبي

( اِصْبَحْ نديمَك أقداحاً يُسَلْسِلُها ... من الشَّمُول وأتْبِعْها بأقداحِ )

( من كفِّ رِيمٍ مَليح الدَّلِّ رِيقُته ... بعد الهُجُوع كمِسْك أو كتُفّاح )

 

( لا أشرب الرَّاح إلا من يديْ رَشأ ٍ ... تقبيلُ راحتِه أشهى من الرّاح )

فضحك وقال صدقت والله ثم دعا بوصيفة كأنها صورة تامة الحسن لطيفة الخصر في زي غلام عليها أقبية ومنطقة فقال لها تولي سقي أبي محمد فما زالت تسقيه حتى سكر ثم أمر بتوجيهها وكل ما لها في داره إليه فحملت معه

إسحاق وزهراء الكلابية

أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح قال

كانت امرأة من بني كلاب يقال لها زهراء تحدث إسحاق وتناشده وكانت تميل إليه وتكني عنه في عشيرتها إذا ذكرته بجمل قال فحدثني إسحاق أنها كتبت إليه وقد غابت عنه تقول

( وَجْدِي بجُمْل على أنِّي أُجَمْجِمُه ... وجدُ السَّقيم بِبُرءٍ بعد إدْنافِ )

( أو وجدُ ثَكْلَى أصاب الموتُ واحدَها ... أو وجدُ مُغتربٍ من بين أُلاّف )

قال فأجبتها

( أقْرِ السلامَ على الزَّهْراء إذ شَحَطَتْ ... وقُلْ لها قد أذَقْتِ القلبَ ما خافَا )

( أمَا رَثَيْتِ لمن خلّفتِ مكتئباً ... يُذْرِي مدامعَه سَحًّا وتَوْكافا )

( فما وَجَدْتُ على إلفٍ أُفَارقُه ... وجْدِي عليك وقد فارقتُ أُلاّفا )

 

أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال أنشدني إسحاق لنفسه

( سقَى اللهُ يوم المَاوَشانِ ومَجْلِساً ... به كان أَحْلَى عندنا من جَنَى النَّحلِ )

( غَداةَ اجتنينا اللّهوَ غَضاً ولم نُبَلْ ... حِجَابَ أبي نصر ولا غَضْبةَ الفضلِ )

( غَدَوْنا صِحاحا ثم رَحْنا كأنَنا ... أطاف بنا شرٌّ شديدٌ من الخَبلِ )

فسألته أن يكتبها ففعل فقلت له ما حديث الماوشان فضحك وقال لو لم أكتبك الأبيات لما سألت عما لا يعنيك ولم يخبرني

ابن الأعرابي يعجب بإسحاق وبشعره

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن الحارث وأبو مسلم عن ابن الأعرابي

أنه كان يصف إسحاق الموصلي ويقرظه ويثني عليه ويذكر أدبه وحفظه وعلمه وصدقه ويستحسن قوله

صوت

( هل إلى أن تنام عيني سبيلُ ... إنّ عهدي بالنوم عهد طويلُ )

 

ذلك فقلت هذا ومائة بعده خير منه لهم فقال اصنع في شعر الأخطل

( أعاذِلتيّ اليومَ وَيْحَكما مَهْلاَ ... وكُفّا الأذَى عنّي ولا تُكثِرا العَذْلاَ )

فصنعت فيه كما أمرني فلما سمعوا بذلك وما جاء بعده أذعنوا وزال عن قلب الرشيد ما كان ظنه بي

وقد ذكر غير حماد أن اللحن الذي اختبره به الرشيد قوله

( كنت صبًّا وقلبيَ اليومَ سالِ ... عن حبيبٍ يُسيء في كل حال )

وذكر أن الفضل بن الربيع قال الشعر في ذلك الوقت ودفعه إليه وأمره الرشيد أن يصنع فيه ففعل

وأخبرني بذلك محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال

أول ما سمعه الرشيد من غناء أبي

( ألم تسألْ فتُخبرَك المَغَاني ... وكيف وهنّ مُذْحِجَج ثماني )

( بَرِئتُ من المنازل غيرَ شوق ... إلى الدار التي بِلوَى أَبان )

( ديارٌ للّتي لَجْلَجْتُ فيها ... ولو أعْرَبتُ لَجَّ بها لساني )

( فكادَ يَظَلّ للعينين غربٌ ... برَبْعَيْ دِمنةٍ لا يَنْطِقان )

قال فحدثني أبي أن المغنين قالوا للرشيد هذا من صنعة أبيه انتحله بعد وفاته فقلت له أنا أدع لهم هذا ومائة صوت بعده ثم نظروا إلى ما جاء بعد ذلك فأذعنوا

 

نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء

صوت

( قِفْ نُحَيِّ المَغَانِيَا ... والطُّلولَ البَواليَا )

( وعلى أهلها فنُحْ ... وابكِ إن كنتَ باكيا )

الشعر لابن ياسين

والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى

صوت

( أمن آلِ ليلَى عَرفْتَ الطُّلولاَ ... بذي حُرُضٍ مائلات مُثولاَ )

( بَلِين وتحسَبُ آياتهنَّ ... عن فَرْط حوليْن رَقًّا مُحِيلا )

الشعر لكعب بن زهير

والغناء لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر

صوت

( أعاذِلتيَّ اليومَ وَيْحَكما مَهْلاَ ... وكُفّا الأذى عنِّي ولا تُكْثرا العَذْلا )

( دعاني تَجُدْ كفّي بمالي فإنني ... سأُصبح لا أَسْطِيع جُودا ولا بُخْلا )

( إذا وضعوا فوق الصَّفيح جنادلاً ... عليّ وخلَّفتُ المَطِيةَ والرَّحلا )

( فلا أنا مجتازٌ إذا ما نزلتُه ... ولا أنا لاق ما ثَوَيْتُ به أهلا )

الشعر للأخطل والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى

صوت

( إنّي لأَكْنِي بأجبال عَنَ اجْبُلِها ... وباسم أوديةٍ عن اسم واديها )

( عَمْداً ليَحْسَبها الواشون غانيةً ... أخرى وتحسَب أنّي لا أُباليها )

( ولا يُغَيّر وُدّي أن أهاجرَها ... ولا فراقُ نَوًى في الدار أنْويها )

 

( وللقَلُوصِ ولِي منها إذا بَعُدتْ ... بوارحُ الشَّوق تُنْضَيني وأَنضِيها )

الشعر لأعرابي والغناء لإسحاق هزج بالبنصر

حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن حمدون قال

قال إسحاق للواثق يوما الأهزاج من أملح الغناء فقال الواثق أما إذا كانت مثل صوتك

( إنّي لأَكني بأَجْبال عَنَ اجْبُلِها ... وباسم أوديةٍ عن اسم واديها )

فهي كذلك

إسحاق يغني لطلحة بن طاهر

قال أحمد بن أبي طاهر حدثني أحمد بن يحيى الرازي عن محمد ابن المثنى عن الحجاج بن قتيبة بن مسلم قال

قال إسحاق بعث إلي طلحة بن طاهر وقد انصرف من وقعة للشراة وقد أصابته ضربة في وجهه فقال لي الغلام أجب فقلت وما

 

يعمل قال يشرب فمضيت إليه فإذا هو جالس قد عصب ضربته وتقلنس بقلنسوة فقلت له سبحان الله أيها الأمير ما حملك على لبس هذا قال التبرم بغيره ثم قال غن

( إنّي لأَكْني بأَجْبال عن اجْبُلها ... )

قال فغنيته إياه فقال أحسنت والله أعد فأعدت وهو يشرب حتى صلى العتمة وأنا أغنيه فأقبل على خادم له بالحضرة وقال له كم عندك قال مقدار سبعين ألف درهم قال تحمل معه

فلما خرجت من عنده تبعني جماعة من الغلمان يسألونني فوزعت المال بينهم فرفع الخبر إليه فأغضبه ولم يوجه إلي ثلاثا فجلست ليلا وتناولت الدواة والقرطاس فقلت

( علَّمني جُودُك السّماحَ فما ... أبقيتُ شيئاً لديّ من صِلَتِكْ )

( لم أُبق شيئاً إلاّ سمحتُ به ... كأنّ لي قُدرةً كمقدرتك )

( تُتِلف في اليوم بالهباتِ وفي السّاعة ما تجتنيه في سَنتك )

( فلستُ أدري من أين تُنفق لو ... لا أنّ ربّي يَجزي على صِلتك )

فلما كان في اليوم الرابع بعث إلي فصرت إليه ودخلت عليه فسلمت فرفع بصره إلي وقال اسقوه رطلا فسقيته وأمر لي بآخر وآخر فشربت ثلاثا ثم قال لي غن

( إني لأكني بأجبال عن اجبلها ... )

فغنيته ثم أتبعته بالأبيات التي قلتها وقد كنت غنيت فيها لحنا في طريقة الصوت فقال ادن فدنوت وقال اجلس فجلست فاستعاد الصوت الذي صنعته فأعدته

فلما فهمه وعرف معنى الشعر قال لخادم له أحضرني فلانا فأحضره فقال كم قبلك من مال الضياع قال ثمانمائة

 

ألف درهم فقال احضر بها الساعة فجيء بثمانين بدرة فقال للخادم جئني بثمانين غلاما مملوكا فأحضروا فقال احملوا هذا المال ثم قال يا أبا محمد خذ المال والمماليك حتى لا تحتاج أن تعطي لأحد منهم شيئا

إسحاق ومحمد بن راشد

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن طالب قال

كان إسحاق بن إبراهيم الموصلي كثير الغشيان لإسحاق بن إبراهيم بن مصعب والحضور لسمره وكان إسحاق بن إبراهيم يرى ذلك له ويسني جوائزه ويواتر صلاته ويشاوره في بعض أموره ويسمع منه فأصيب إسحاق ببصره قبل موته بسنتين فترك زيارة إسحاق وغيره ممن كان يغشاهم ولزم بيته

وخرج إسحاق يوما إلى بستان له بباب قطربل وخرج معه ندماؤه وفيهم موسى بن صالح بن شيخ بن عميرة ومحمد بن راشد الخناق والحراني فجرى ذكر إسحاق الموصلي فتوجع له إسحاق وذكر أنسه به وتمنى حضوره وذكره القوم فأطنبوا في نشر محاسنه وشيعوا ما ذكره به

 

إسحاق بما حسن موقعه لهم عنده وذكره محمد بن راشد ذكرا لم يحمده أصحابه عليه وزجره إسحاق فأمسك عنه فلما انصرفوا من مجلسهم نمي إلى إسحاق الموصلي ما كان فيه القوم في يومهم وما جرى من ذكره فكتب إلى موسى بن صالح

( أَلا قُلْ لموسَى الخيرِ موسى بنِ صالح ... ومَنْ هو دون الخَلْق إلْفِي وخُلْصَانِي )

( ومَنْ لو سألت الناس عنه لأَجمعوا ... على أنّه أفتى مَعَدٍّ وقَحْطان )

( لعَمْرِي لئن كان الأميرُ تمنّاني ... بمجلس لذّاتٍ ونُزْهةِ بُستان )

( لقد زادني ما كان منه صَبَابةً ... وجَدّدَ لي شوقاً إليه وأبكاني )

( وما زال ممتنًّا عليّ يَخُصّني ... بما لستُ أُحصِي من أيادٍ وإحسان )

( هو السيّد القَرْم الذي ما يُرَى له ... من النّاس إن حصَّلته أبداً ثاني )

( نَمَتْه رَوَابي مُصْعَب وبَنَى له ... كريمُ المساعي في أَرُومته باني )

( يَعِزّ عليّ أن تفوزوا بقُربه ... ولستُ إليه بالقريب ولا الدّاني )

( فيا ليتَ شعري هل أَرُوحنّ مَرّةً ... إليه فيلقاني كما كان يلقاني )

( وهل أرَيَنْ يوماً غَضَارة مُلْكه ... وسلطانه لا زال في عزِّ سلطان )

( وهل أسمَعْنَ ذاك المُزاحَ الذي به ... إذا جئتُه سلَّيتُ همّي وأحزاني )

( إذا قال لي يا مَرْدَ مَيْ خَرْ وكَرّها ... عليّ وكنّاني مُزاحاً بصَفْوان )

هذا كلام بالفارسية تفسيره يا رجل اشرب النبيذ

( فيا لكَ من مَلْهىً أنيقٍ ومجلسٍ ... كريمٍ ومن مَزْح كثيرٍ بألوانِ )

( وهل يَغْمِزَنْ بي ذو الهَنَاتِ ابنُ راشد ... وذاك الكريمُ الجدِّ من آل حَرّان )

( وهل أَرَيَنْ موسى الكريم ابنَ صالح ... يُنازعني صوتاً إذا هو غنّاني )

 

يريد الغناء في

( فلم أرَ كالتّجمير مَنْظَرَ ناظرٍ ... ولا كليالي النَّفْرِ أَفْتَنَّ ذا هوى )

( إذا صاح بالتجمير ثم أعاده ... بتحقيق إعراب صحيح وتِبْيان )

( أولئك إخواني الذين أُحِبّهم ... وأُوثرهم بالودّ من بين إخواني )

( وما منهمُ إلاّ كريمٌ مهذّبٌ ... حبيبٌ إلى إخوانه غيرُ خَوّان )

فأجابه محمد بن راشد

( بعثتَ بشعر فيه أنّ رسالةً ... أتتك لموسى عن جماعة إخوانِ )

( بشوق وذكرٍ للجميل ولم يكن ... لموسى لعَمْري في سَلامته ثاني )

( ولكن نَطَقْنا بالذي أنت أهلُه ... وما تستحقّ من صديقٍ ونَدْمان )

( وموسى كريمٌ لم يُحِطْ بك خُبْره ... كخُبْرِ نَدَامَى قد بلَوْكَ وإخوانِ )

( ولو قد بلاك قال فيك كقول مَنْ ... فسَدْتَ عليه من خليل وخُلْصان )

( ولم يَعْرُه شوقٌ إليك ولم يَجِدْ ... لِفَقْدك مَسًّا عند نُزهة بستان )

( حَمدتَ النَّدامى كلَّهم غيرَ إنسان ... أَلاَ إنما يَجْنِي على نفسه الجاني )

( فلا تَعْتُبِ الإِخوانَ من بعدها فما ... تَنَقّصُ إخوانِ المودّة من شاني )

قال فأجابه إسحاق

 

( عجبتُ لمخذولٍ تَعرّض جانياً ... لِلّيْثٍ أبي شِبْلينِ من أسْدِ خَفّانِ )

( أتانا بشعر قاله مثلِ وجهه ... تَزَخْرَفَ فيه واستعان بأعوان )

( فجاء بألفاظ ضِعافٍ سخيفةٍ ... ومَضَّغها تمضيغَ أهوجَ سكران )

( دَعُوا الشعر للشيخ الذي تعرفونه ... وإلاّ وُسِمتم أو رُميتم بشُهبان )

( فإنكمُ والشعرَ إذ تدّعونه ... كمُعتسِفٍ في ظلمة الليل حَيْران )

( صَهٍ لا تعودوا للجواب فإنما ... ترومون صَعْباً من شماريخ ثَهْلان )

( أنا الأسَد الوَرْد الذي لا يِفُلّه ... تظاهُرُ أعداءٍ عليه وأقران )

( ومن قد أردتم جاهدين سِقَاطَه ... فأعياكُم في كلّ سرٍّ وإعلان )

( لَعَمْرِي لئن قلتم بما أنا أهلُه ... ليستنفدنّ القولَ تعظيمُكم شاني )

( وجَحْدُكمُ إيايَ ما تعلمونه ... وإقرارُكم عندي بذلك سيّان )

( ألاَ يزجُرُ الجُهّالَ عنّا أميرُنا ... وموسى وذاك الشيخُ من آل حَرّان )

( ولا سيّما مَنْ بان للناس شرُّه ... فما يَتَمارى في مذاهبه اثنان )

محمد بن عمر الجرجاني يثني عليه

حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قرقارة قال

قال لي محمد بن عمر الجرجاني وقد تذاكرنا إسحاق يوما بحضرته ما

 

تذكرون من إسحاق شيئا تقاربون به وصفه

كان والله إسحاق غرة في زمانه وواحدا في دهره علما وفقها وأدبا ووقارا ووفاء وجودة رأي وصحة مودة

كان والله يخرس الناطق إذا نطق ويحير السامع إذا تحدث لا يمل جليسه مجلسه ولا تمج الآذان حديثه ولا تنبو النفوس عن مطاولته

إن حدثك ألهاك وإن ناظرك أفادك وإن غناك أطربك

وما كنت ترى خصلة من الأدب ولا جنسا من العلم يتكلم فيه إسحاق فيقدم أحد على مساجلته ومباراته

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال

أمر المأمون يوما بالفرش الصيفي أن يخرج فأخرج فيما أخرج منه بساط طبري أو أصبهبذاني مكتوب في حواشيه

صوت

( لَجّ بالعين واكِفْ ... مِن هَوىً لا يُساعِفُ )

( كلّما جَفّ دمعُه ... هيّجتْه المعازِف )

( إنما الموتُ أن تفارق ... َ مَنْ أنت آلِفُ )

( لك حُبّان في الفؤاد ... تَليدٌ وطارِف )

قال فاستحسن المأمون هذه الأبيات وبعث إلى إسحاق فأحضره وأمره إن يصنع فيها لحنا ويعجل به فصنع فيها الهزج الذي يغنى به اليوم

 

قال أحمد وسمعها أبي منه فقال لو كان هذا الهزج لحكم الوادي لكان قد أحسن

يريد أن حكما كان صاحب الأهزاج

يحيى المكي يعجب به ويثني عليه

أخبرني الحسن قال حدثني يزيد بن محمد قال حدثني ابن المكي قال

تذاكرنا يوما عند أبي صنعة إسحاق وقد كنا بالأمس عند المأمون فغناه إسحاق لحنا صنعه في شعر ابن ياسين

صوت

( الطُّلول الدَّوارِسُ ... فارقتْها الأَوَانِسُ )

( أَوْحشت بعد أهلها ... فهي قَفْرٌ بَسَابِسُ )

الغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر قال فقال أبي لو لم يكن من بدائع إسحاق غير هذا لكفى الطلول الدوارس كلمتان وفارقتها الأوانس كلمتان وقد غنى فيهما استهلالا وبسيطا وصاح وسجع ورجع النغمة واستوفى ذلك كله في أربع كلمات وأتى بالباقي مثله فمن شاء فليفعل مثل هذا أو ليقاربه

ثم قال إسحاق والله في زماننا فوق ابن سريج والغريض ومعبد ولو عاشوا حتى يروه لعرفوا فضله واعترفوا له به

وأخبرني عمي عن يزيد بن محمد المهلبي أنه كان عند الواثق فغنته شجا

 

هذا الصوت فقال الواثق مثل هذا القول

والمذكور أن ابن المكي قاله فلا أدري أهذا وهم من يزيد أو اتفق أن قال فيه الواثق كما قال يحيى أو اتفقت عليه قريحتاهما

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال

أرسل إلي الفضل بن الربيع يوما وإلى الزبير بن دحمان فوافق مجيئنا شغلا كان له فصرنا إلى بعض حجره فنعست فنمت فإذا زبير يحركني فانتبهت فإذا خباز في مطبخ الفضل يضرب بالشوبق يغني

صوت

( بِدَيْر القائم الأقصَى ... غزالٌ شَفّني أحْوَى )

( بَرَى حبِّي له جسمي ... وما يَدري بما ألقَى )

( وأُخفِي حبَّه جُهْدِي ... ولا والله ما يَخْفَى )

الشعر والغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر قال فقال لي الزبير تضن بهذا وانظر من يبتذله فقلت لا أضن بغناء بعد هذا

حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب السرخسي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية بن بكر قال قال لي صالح بن الرشيد

كنا أمس عند أمير المؤمنين المأمون وعنده جماعة من المغنين فيهم إسحاق وعلويه ومخارق وعمرو بن بانة فغنى مخارق في الثقيل الأول

 

صوت

( أعاذلُّ لا آلوك إلاّ خَليقتي ... فلا تجعلي فوقي لسانَك مِبْرَدَا )

( ذَرِيني أكنْ للمالِ ربًّا ولا يكن ... ليَ المالُ ربًّا تَحْمَدِي غِبَّه غدا )

( ذَرِيني يكنْ مالي لِعْرضي وقايةً ... يَقِي المالُ عِرْضي قبل أن يتبدّدا )

( ألم تعلمي أنِّي إذا الضيفُ نابني ... وعَزَّ القِرَى أَقْرِي السَّدِيفَ المُسَرْهَدَا )

فقال له المأمون لمن هذا اللحن قال لهذا الهزبر الجالس يعني إسحاق فقال المأمون لمخارق قم فاقعد بين يدي وأعد الصوت فقام فجلس بين يديه وأعاده فأجاده وشرب المأمون عليه رطلا ثم التفت إلى إسحاق فقال له غن هذا الصوت فغناه فلم يستحسنه كما استحسنه من مخارق ثم دار الدور إلى علويه فقال له غن فغنى في الثقيل الأول أيضا

صوت

( أُرِيتُ اليومَ نارَكِ لم أُغَمِّضْ ... بَواقِصةٍ ومَشْرَبُنا بَرُودُ )

( فلم أرَ مثلَ موقِدها ولكن ... لأيّة نظرةٍ زَهَر الوَقُودُ )

( فبِتُّ بليلةٍ لا نومَ فيها ... أُكابدُها وأصحابي رُقود )

( كأنّ نجومَها رَبِطتْ بصَخْرٍ ... وأَمْراسٍ تدور وتستزيد )

 

فقال له المأمون لمن هذا الصوت فقال لهذا الجالس وأشار إلى إسحاق فقال لعلويه أعده فأعاده فشرب عليه رطلا ثم قال لإسحاق غنه فغناه فلم يطرب له طربه لعلويه

فالتفت إلي إسحاق ثم قال لي أيها الأمير لولا أنه مجلس سرور وليس مجلس لجاج وجدال لأعلمته أنه طرب على خطأ وأن الذي استحسنه إنما هو تزايد منهما يفسد قسمة اللحن وتجزئته وأن الصوت ما غنيته لا ما زادا

ثم أقبل عليهما فقال يا مخنثان قد علمت أنكما لم تريدا بما فعلتماه مدحي ولا رفعتي وأنا على مكافأتكما قادر فضحك المأمون وقال له ما كان ما رأيته من طربي لهما إلا استحسانا لأصواتهما لا تقديما لهما ولا جهلا بفضلك

إسحاق يغني المعتصم فيطرب ويجيزه

حدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثني إسحاق قال

دخلت يوما على المعتصم وقد رجع من الصيد وبين يديه ظباء مذبحة وطير ماء وغير ذلك من الصيد وهو يشرب فأمرني بالجلوس والغناء فجلست وغنيته

صوت

( اِشتهيْنا في ربيعٍ مرّةً ... زَهَمَ الوحشِ على لحم الإِبِلْ )

( فغدَونا بطُوَالٍ هَيْكَلٍ ... كَعسِيب النخل مَيَّاد خَضِلْ )

 

الشعر يقال إنه لأعشى همدان والغناء لأحمد النصبي خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق فتبسم وقال وأين رأيت لحم الإبل فغنيته

صوت

( ليس الفتى فيهم إذا ... شَرِب الشرابَ مُؤَنَّبا )

( لكن يروحُ مُرَنَّحاً ... حسنَ الثيابِ مُطَيَّبا )

( يسقونه صِرْفاً على ... لحم الظباءِ مُضَهَّبا )

فقال هذا أشبه وشرب

ثم غنيته بشعر وضاح اليمن قال والغناء لابن محرز ثقيل أول

صوت

( أَبَى القلبُ اليمانيّ الّذي ... تُحْمَدُ أخلاقُهْ )

( ويَرْفَضُّ له اللحنُ ... فما تُفْتَق أرْتاقه )

( غزالٌ أدعجُ العين ... رَبيبُ خَدَلَّج ساقه )

( رماني فسبَى قلبي ... وأرميه فأشتاقُه )

فطرب وقال هذا والله أحسن صيد وألذه وشرب عليه بقية يومه

 

وخلع علي وأمر لي بجائزة

هكذا ذكر في هذا الخبر أن الثقيل الأول لابن محرز وقد قيل ذلك

وذكر عمرو بن بانة أن الثقيل الأول بالبنصر لابن طنبورة وأن لحن ابن محرز خفيف ثقيل

حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي قال

قال لي إسحاق يوما في عرض حديثه دخلت على المعتصم ذات يوم وعليه قميص دبيقي كأنما قد من جرم الزهرة فضحكت فقال ما أضحكك فقلت من مبالغتك في الوصف فتبسم

قال الفضل وما سمعت محدثا قط ولا واصفا أبلغ منه ولا أحسن لفظا وتشبيها

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك قال

قال لي إسحاق وددت أن كل يوم قيل لي غن أو قيل لي عند ذكري المغني ضرب رأسي خمسة عشر سوطا لا أقوى على أكثر منها ولم يقل لي ذلك

أخبرنا يحيى قال حدثنا حماد قال صنع أبي لحنه في تشكى الكميت الجري على لحن أذان سمعه

أخبرنا يحيى قال حدثنا حماد قال

تذاكرنا يوما الهزج عند المأمون فقال عمرو بن بانة ما أقله في الغناء القديم فقال إسحاق ما أكثره فيه ثم غناهم ثلاثين هزجا في إصبع واحدة ومجرى واحد ما عرفوا جميعا منها إلا نحو سبعة أصوات

حدثني يحيى قال حدثني أخي قال حدثني عافية بن شبيب قال

 

قلت لزرزور ما لكم تذلون لإسحاق هذا الذل وما فيكم أحد إلا وهو أطيب صوتا منه وما في صنائعكم وصمة فقال لي لا تقل ذلك فوالله لو رأيتنا معه لرحمتنا ورأيتنا نذوب كما يذوب الرصاص في النار

حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال

لاعبت الفضل بن الربيع بالنرد فوقع بيننا خلاف فحلف وحلفت فغضب علي وهجرني فكتبت إليه

( يقول أُناسٌ شامتون وقد رأَوْا ... مُقَامِي وإغبابي الرواحَ إلى الفضلِ )

( لقد كان هذا خُصَّ بالفضل مرّةً ... فأصبح منه اليومَ مُنصرِمَ الحبل )

( ولو كان لي في ذاك ذنبٌ علِمته ... لَقَطّعتُ نفسي بالمَلامة والعذل )

وعرضت الأبيات عليه فلما قرأها ضحك وقال أشد من ذنبك أنك لا ترى لنفسك بذلك الفعل ذنبا والله لولا أني أدبتك أدب الرجل ولده وأن حسنك وقبيحك مضافان إلي لأنكرتني فأصلح الآن قلب عون وكان يحجبه فخاطبته في ذلك فكلمني بما كرهت فقلت أتدخل بيني وبين الأمير أعزه الله وكان عون يرمي بالأبنة فقلت فيه

( وذاكر أمرٍ ضاق ذرعاً بذكره ... وناسٍ لداءٍ منه مُتّسِع الخَرْقِ )

قال ثم علمت أنه لا يتم لي رضا الفضل إلا بعد أن يرضى عون فقلت فيه

( عَوْنُ يا عَوْنُ ليس مثلَك عونُ ... أنت لي عُدَّةٌ إذ كان كونُ )

( لك عندي والله إن رَضِيَ الفضل ... ُ غلامٌ يُرْضيك أو بِرْذَوْنُ )

فدخل إلى الفضل فترضاه لي فرضي ثم قال له ويلك يا عون إنه والله إنما هجاك وأنت ترى أنه قد مدحك ألا ترى إلى قوله غلام يرضيك هذا تعريض بك قال فكيف أصنع به مع محله عند الأمير

 

غنى المأمون وأطربه فأجازه

أخبرني الصولي قال حدثني عون عن إسحاق وأخبرني بعض الخبر إسماعيل بن يونس عن عمر بن شبة عن إسحاق ولفظ الخبر وسياقته للصولي قال

استدناني المأمون يوما وهو مستلق على فراش حتى صارت ركبتي على الفراش ثم قال لي يا إسحاق أشكو إليك أصحابي فعلت بفلان كذا ففعل كذا وفعلت بفلان كذا ففعل كذا حتى عدد جماعة من خواصه فقلت له أنت يا سيدي بتفضلك علي وحسن رأيك في ظننت أني ممن يشاور في مثل هذا فجاوزت بي حدي وهذا رأي يجل عني ولا يبلغه قدري فقال ولم وأنت عندي عالم عاقل ناصح فقلت هذه المنزلة عند سيدي علمتني ألا أقول إلا ما أعرف ولا أطلب إلا ما أنال فضحك وقال قد بلغني أنك في هذه الأيام صنعت لحنا في شعر الراعي ولم أسمعه منك فقلت يا سيدي ما سمعه أحد إلا جواري ولا حضرت عندك للشرب منذ صنعته فقال غنه فقلت الهيبة والصحو يمنعاني أن أؤديه كما تريد فلو آنس أمير المؤمنين عبده بشيء يطربه ويقوي به طبعه كان أجود قال صدقت ثم أمر بالغداء فتغدينا ومدت الستارة فغني من ورائها وشربنا أقداحا فقال يا إسحاق أما جاء أوان ذلك الصوت فقلت بلى يا سيدي وغنيته لحني في شعر الراعي

 

صوت

( ألم تسألْ بعارِمةَ الديارَا ... عن الحيّ المُفارِقِ أين صارا )

( بلى ساءلتها فأبتْ جواباً ... وكيف تُسائل الدِّمَنَ القِفَارا )

لحن إسحاق في هذين البيتين خفيف ثقيل بالوسطى قال فاستحسنه وما زال يشرب عليه سائر يومه وقال لي يا إسحاق لا طلب بعد وجود البغية ما أشرب بقية يومي هذا إلا على هذا الصوت ثم وصلني وخلع علي خلعة من ثيابه

حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال

كانت أعرابية تقدم علي من البادية فأفضل عليها وكانت فصيحة فقالت لي ذات يوم والذي يعلم مغزى كل ناطق لكأنك في علمك ولدت فينا ونشأت معنا

ولقد أريتني نجدا بفصاحتك وأحللتني الربيع بسماحتك فلا اطرد لي قول إلا شكرتك ولا نسمت لي ريح إلا ذكرتك

حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي عن إسحاق قال

كان أبو المجيب الربعي فصيحا عالما فقال لي يا أبا محمد قد عزمت على التزوج فأعني وقوني قال فأعطيته دنانير وثيابا فغاب عني أياما ثم عاد فقلت يا أبا مجيب ها هنا أبيات فاسمعها فقال هاتها فقلت

( يا ليتَ شعري عن أبي مُجيبِ ... إذ بات في مَجاسِدٍ وطِيبِ )

 

( معانقاً للرِّشَأ الرَّبيبِ ... أأحمدَ المِحفارُ في القَليبِ )

( أم كان رِخْواً ذابلَ القضيبِ ... )

قال فقال لي الأخير والله يا أبا محمد

حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال

كانت بيني وبين الخليل بن هشام صداقة ثم استوحشنا فمررت ببابه يوما فتذممت أن أجوزه ولا أدخل إليه فدعوت بدواة وقرطاس وكتبت إليه

( رجعنا بالصفاء إلى الخليلِ ... فليس إلى التَّهاجرُ من سبيلِ )

( عتابٌ في مُراجعةٍ وصفحٌ ... أحقُّ بنا وأشبهُ بالجميل )

قال ووجهت بالرقعة وقصدت بابه فخرج إلي حتى تلقاني ورجعنا إلى ما كنا عليه

حدثني الصولي قال حدثني عبد الله بن المعتز عن الهشامي قال

كان أهلنا يعتبرون على إسحاق ما يقوله في نسبة الغناء وأخباره بأن يجلسوا كاتبتين فهمتين خلف الستارة فتكتبان ما يقوله وتضبطانه ثم

 

يتركونه مدة حتى ينسى ما جرى ثم يعيدون تلك المسألة عليه فلا يزيد فيها ولا ينقص منها حرفا كأنه يقرأها من دفتر فعلموا حينئذ أنه لا يقول في شيء يسأل عنه إلا الحق

حدثني الصولي قال حدثني أحمد بن مزيد المهلبي قال حدثني أبي عن إسحاق قال

كنا عند المأمون فغناه علويه

صوت

( لعَبْدةَ دارٌ ما تكلِّمنا الدارُ ... تَلُوح مَغَانيها كما لاح أَسطارُ )

( أُسائل أحجاراً ونُؤْياً مُهَدَّما ... وكيف يردّ القولَ نؤيٌ وأحجارُ )

الشعر لبشار والغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق قال فقال المأمون لمن هذا اللحن فقلت لعبد أمير المؤمنين أبي وقد أخطأ فيه علويه قال فغنه أنت فغنيته فاستعادنيه مرارا وشرب عليه أقداحا ثم تمثل قول جرير

( وابنُ اللَّبون إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يستطع صَوْلَةَ البُزْلِ القَنَاعِيسِ )

ثم أمر لي بخمسين ألف درهم

ووجدت هذا الخبر بخط أبي العباس ثوابة فقال فيه حدثني أحمد بن إسماعيل أبو حاتم قال حدثني عبد الله ابن العباس الربيعي قال

 

إجتمعنا بين يدي المعتصم فغنى علويه

( لعبدةَ دارٌ ما تكلِّمنا الدار ... )

فقال له إسحاق أخطأت فيه ليس هو هكذا فقال علويه أم من أخذناه عنه هكذا زانية فقال إسحاق شتمنا قبحه الله وسكت وبان ذلك فيه وكان علويه أخذه من إبراهيم

حواره مع علويه

حدثني جحظة قال حدثني أبو العبيس بن حمدون عن أبيه عن جده قال

كان إسحاق بعد وفاة المأمون لا يغني إلا الخليفة أو ولي عهده أو رجلا من الطاهرية مثل إسحاق بن إبراهيم وطبقته فاجتمعنا عند الواثق وهو ولي عهد المعتصم فاشتهى الواثق أن يضرب بين مخارق وعلويه وإسحاق ففعل حتى تهاتروا ثم قال لإسحاق كيف هما الآن عندك فقال أما مخارق فمناد طيب الصوت وأما علويه فهو خير حماري العبادي وهو على كل حال شييء يريد تصغيره فوثب علويه مغضبا ثم قال للواثق جواريه حرائر ونساؤه طوالق لئن لم تستحلفه بحياتك وحق أبيك أن يصدق عما أسأله عنه لأتوبن عن الغناء ما عشت فقال له الواثق لا تعربد يا علي نحن نفعل ما سألت ثم حلف إسحاق أن يصدق فحلف فقال له من أحسن الناس اليوم صنعة بعدك قال أنت

قال فمن

 

أضرب الناس بعد ثقيف قال أنت

قال فمن أطيب الناس صوتا بعد مخارق قال أنت

قال علويه لإسحاق أهذا قولك في وأنت تعلم أني مصلي كل سابق فاضل وأني ثالث ثلاثة أنت أحدهم لم يكن في الدنيا مثلهم ولا يكون فما أنت وغناؤك الذي لا يسمع انخفاضا فغضب إسحاق وانتهر الواثق علويه

ثم أخذ إسحاق عودا فنقل مثناه إلى موضع ألبم وزيره إلى موضع المثلث وجعل البم والمثلث مكان الزير والمثنى وضرب وقال ليغن من شاء منكم فغنى مخارق عليه

( تَقَطّع من ظَلاّمةَ الوصلُ أجمعُ ... أخيراً على أنْ لم يكن يَتَقَطّعُ )

وضرب عليه إسحاق فلم يبن في الأوتار خلاف ولا فقد من الإيقاع شيء ولا بان فيه اختلال فعظم عجب الواثق من فعله وقام إسحاق فرقص طربا فكان والله أحسن رقصا من كبيش وعبد السلام وكانا من أرقص الناس فقال الواثق لا يكمل أحد أبدا في صناعته كمثل كمال إسحاق

حدثني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال حدثني إسحاق قال

دخلت على عبد الله بن طاهر وهو يلاعب إبراهيم بن وهب بالشطرنج فغلبه عبد الله وأومأ إلي بأن أكايده فقلت

( قد ذهبتْ منك أبا إسحاقِ ... مثلَ ذَهَابِ الشهرِ بالمُحاقِ )

فقال لي عبد الله إن فضائلك يا أبا محمد لتتكاثر عندنا كما قال الشاعر في إبله

( إذا أتاها طالبٌ يَسْتامُها ... تكاثرتْ في عينه كِرامُها )

 

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال ذكر علي بن الحسن بن عبد الأعلى عن إسحاق قال

أنشدتني أم محمد الأعرابية لنفسها هذين البيتين وأنا حاج فاستحسنتهما وصنعت فيهما لحنا غنيته الواثق فاستعاده حتى أخذه وأمر لي بثلاثين ألف درهم وهما

( عسى اللهُ يا ظَمْياءُ أن يَعكِسَ الهوَى ... فَتلْقَيْنَ ما قد كنتُ منكِ لَقِيتُ )

( ثراء فتحتاجي إليّ فتعلمي ... بأنّ به أَجْزيكِ حين غَنِيتُ )

براعة إسحاق تظهر في مجلس المعتصم

حدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن مروان قال قال لي يحيى بن معاذ

كان إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي إذا خلوا فهما أخوان وإذا التقيا عند خليفة تكاشحا أقبح تكاشح فاجتمعا يوما عند المعتصم فقال لإسحاق يا إسحاق إن إبراهيم يثلبك ويغض منك ويقول إنك تقول إن مخارقا لا يحسن شيئا ويتضاحك منك فقال إسحاق لم أقل يا أمير المؤمنين إن مخارقا لا يحسن شيئا وكيف أقول ذلك وهو تلميذ أبي وتخريجه وتخريجي ولكن قلت إن مخارقا يملك من صوته ما لا يملكه أحد فيتزايد فيه تزايدا لا يبقي عليه ويتغير في كل حال فهو أحلى الناس مسموعا وأقله نفعا لمن يأخذ عنه لقلة ثباته على شيء واحد

ولكني أفعل الساعة فعلا إن زعم إبراهيم أنه يحسنه فلست أحسن شيئا وإلا فلا ينبغي له أن يدعي ما ليس يحسنه

ثم أخذ عودا فشوش أوتاره ثم قال لإبراهيم غن على هذا أو يغني غيرك وتضرب عليه فقال المعتصم يا إبراهيم قد سمعت فما عندك قال ليفعله هو إن كان صادقا فقال له إسحاق غن حتى أضرب عليك فأبى فقال لزرزور غن فغنى وإسحاق يضرب عليه

 

حتى فرغ من الصوت ما علم أحد أن العود مشوش

ثم قال هاتوا عودا آخر فشوشه وجعل كل وتر منه في الشدة واللين على مقدار العود المشوش الأول حتى استوفى ثم قال لزرزور خذ أحدهما فأخذه ثم قال انظر إلى يدي واعمل كما أعمل واضرب ففعل وجعل إسحاق يغني ويضرب وزرزور ينظر إليه ويفعل كما يفعل فما ظن أحد أن في العودين شيئا من الفساد لصحة نغمهما جميعا إلى أن فرغ من الصوت

ثم قال لإبراهيم خذ الآن أحد العودين فاضرب به مبدأ أو عمود طريقة أو كيف شئت إن كنت تحسن شيئا فلم يفعل وانكسر انكسارا شديدا فقال له المعتصم أرأيت مثل هذا قط قال لا والله ما رأيت ولا ظننت أن مثله يكون

حدثني أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال

دعاني إسحاق يوما فمضيت إليه وعنده الزبير بن دحمان وعلويه وحسين بن الضحاك فمر لنا أحسن يوم فالتفت إلي إسحاق ثم قال يومنا هذا والله يا أبا العباس كما قال الشاعر

( أنت والله من الأيام ... لَدْنُ الطَّرَفيْنِ )

( كلَّما قلَّبتُ عيني ... ّ ففي قُرَّةِ عَيْنِ )

إسحاق والواثق

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

دخلت يوما على الواثق فقال لي يا إسحاق إني أصبحت اليوم قرما إلى غنائك فغنني فغنيته

 

( من الظباءِ ظِبَاءٌ همُّها السُّخُبُ ... ترعى القلوبَ وفي قلبي لها عُشُبُ )

( لا يَغْترِبْنَ ولا يَسْكُنَّ باديةً ... وليس يَدْرِين ما ضَرْعٌ ولا حَلَبُ )

( إذا يدٌ سَرَقتْ فالقطع يلزمها ... والقطع في سَرَقٍ بالعين لا يَجِبُ )

قال فشرب عليه بقية يومه وبعض ليلته وخلع علي خلعة من ثيابه

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

خرجت مع الواثق إلى الصالحية وهو يريد النزهة فذكرت بغداد وعيالي وأهلي وولدي بها فبكيت فقال لي بحياتي أذكرت بغداد فبكيت شوقا إليها فقلت نعم وغنيته

صوت

( وما زلت أبكي في الديار وإنما ... بكائي على الأحباب ليس على الدار )

قال فأمر لي بمائة ألف درهم وصرفني

وأخبرني محمد بن مزيد بهذا الخبر عن حماد بن إسحاق عن أبيه وحدثني به علي بن هارون عن عمه عن حماد عن أبيه وخبره أتم قال

ما وصلني أحد من الخلفاء قط بمثل ما وصلني به الواثق

ولقد انحدرت معه إلى النجف فقلت له يا أمير المؤمنين قد قلت في النجف قصيدة فقال هاتها فأنشدته

( يا راكبَ العِيسِ لا تَعْجَلْ بنا وقِفِ ... نُحَيِّ داراً لسُعْدى ثم نَنْصرِفِ )

حتى أتيت على قولي

( لم يَنزِلِ الناسُ في سهلٍ ولا جَبَلٍ ... أَصْفَى هواءً ولا أَعْذَى من النَّجَفِ )

 

( حُفَّتْ بَبرٍّ وبَحْر من جوانبها ... فالبَرُّ في طَرَفٍ والبحر في طرفِ )

( وما يَزَالُ نسيمٌ من يَمَانِيَةٍ ... يأتيك منها برَيَّا رَوْضَةٍ أُنُفِ )

فقال صدقت يا إسحاق هي كذلك

ثم أنشدته حتى أتيت على قولي في مدحه

( لا يحسَبُ الجودَ يُفْنِي مالَه أبداً ... ولا يرى بذلَ ما يَحْوِي من السَّرَف )

ومضيت فيها حتى أتممتها فطرب وقال أحسنت والله يا أبا محمد وكناني يومئذ وأمر لي بمائة ألف درهم وانحدر إلى الصالحية التي يقول فيها أبو نواس

( بالصالحيّة من أكنافِ كَلْواذِ ... )

فذكرت الصبيان وبغداد فقلت

( أتبكي على بغدادَ وهي قريبةٌ ... فكيف إذا ما ازددتَ منها غداً بُعْدَا )

( لعَمْرُك ما فارقتُ بغدادَ عن قِلىً ... لَوَ انّا وجدنا عن فِراقٍ لها بُدًّا )

( إذا ذكرتْ بغدادَ نفسي تَقطَّعتْ ... من الشوق أو كادت تموت بها وَجْدَا )

( كفى حَزَناً أن رُحْتُ لم أستطع لها ... وَدَاعاً ولم أُحْدِثْ بساكنها عهدا )

قال فقال لي يا موصلي أشتقت إلى بغداد فقلت لا والله

 

يا أمير المؤمنين ولكن من أجل الصبيان وقد حضرني بيتان فقال هاتهما فأنشدته

( حَنَنتَ إلى الأُصَيْبِيَة الصِّغار ... وشاقك منهمُ قربُ المَزَارِ )

( وأَبْرحُ ما يكون الشوقُ يوماً ... إذا دَنَتِ الدّيارُ من الديار )

فقال لي يا إسحاق صر إلى بغداد فأقم مع عيالك شهرا ثم صر إلينا وقد أمرت لك بمائة ألف درهم

أخبرنا يحيى بن علي قال أخبرني أبي قال

لما صنع الواثق لحنه في

( أيا مُنْشِرَ المَوْتَى أَقِدْني من التي ... بها نهِلتْ نفسِي سَقَاماً وعَلَّتِ )

( لقد بخَلتْ حتى لَوَ انِّي سألتُها ... قَذَى العين من سَافِي التراب لضَنَّتِ )

أعجب به إعجابا شديد فوجه بالشعر إلى إسحاق الموصلي وأمره أن يغني فيه فصنع فيه لحنه الثقيل الأول وهو من أحسن صنعة إسحاق فلما سمعه الواثق عجب منه وصغر لحنه في عينه وقال ما كان أغنانا أن نأمر إسحاق بالصنعة في هذا الشعر لأنه قد أفسد علينا لحننا

قال علي بن يحيى قال إسحاق ما كان يحضر مجلس الواثق أعلم منه بهذا الشأن

نسبة هذين الصوتين

صوت

( أيا مُنْشِرَ المَوْتَى أَقِدْنِي من التي ... بها نَهِلت نفسي سَقَاماً وعَلَّتِ )

( لقد بخِلتْ حتى لَوَ انّي سألتُها ... قَذَى العين من سافِي التراب لضَنَّتِ )

الشعر لأعرابي والغناء للواثق ثاني ثقيل في مجرى البنصر

وفيه لمخارق رمل ولعريب رمل

ومن الناس من ينسب هذا الشعر إلى كثير وهو خطأ من قائله

 

أنشدني هذه الأبيات عمي قال أنشدني هارون بن علي بن يحيى وأنشدنيها علي بن هارون عن أبيه عن جده عن إسحاق أنه أنشده لأعرابي فقال

صوت

( أَلاَ قاتل اللهُ الحمامةَ غُدْوةً ... على الغصن ماذا هيّجتْ حين غَنَّتِ )

( تَغنَّتْ بصوتٍ أعجميَّ فهَيّجتْ ... من الشوق ما كانت ضلوعي أَجَنَّتِ )

غنى في هذين البيتين عمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى

( فلو قَطَرتْ عينُ امرئ من صَبَابةٍ ... دماً قطرتْ عيني دماً فألَمَّتِ )

( فما سكتتْ حتى أَوَيْتُ لصوتها ... وقلت تُرَى هذي الحمامةُ جُنَّتِ )

( ولي زَفَراتٌ لو يَدُمْنَ قتلْنَني ... بشوق إلى نأي التي قد تولَّتِ )

( إذا قلت هذي زَفْرةُ اليوم قد مضتْ ... فمَنْ لي بأخرى في غدٍ قد أظلَّتِ )

( فيا مُحْيِيَ المَوْتَى أَقِدْني من التي ... بها نَهِلتْ نفسي سَقَاماً وعَلَّتِ )

( لقد بِخلتْ حتى لَوَ انِّي سألتُها ... قَذَى العينِ من سَافِي التراب لضَنَّتِ )

( فقلتُ ارحَلا يا صاحبيّ فليتني ... أرى كلّ نفس أُعْطِيتْ ما تمنَّتِ )

( حلفتُ لها بالله ما أُمُّ واحدٍ ... إذا ذكرتْه آخِرَ الليل حَنَّتِ )

( وما وَجْدُ أعرابيّة قذَفتْ بها ... صُرُوفُ النَّوَى من حيث لم تَكُ ظَنَّتِ )

( إذا ذكرتْ ماءَ العِضَاهِ وطِيبَه ... وبَرْد الحِمَى من بطن خَبْتٍ أَرَنَّتِ )

( بأكثرَ منّى لوعةً غيرَ أنني ... أُجَمْجِمُ أحشائي على ما أَجَنَّتِ )

وأما لحن إسحاق فإنه غنى في

 

( لقد بخِلتْ حتى لَوَ انّي سألتُها ... )

وأضاف إليه شيئا آخر وليس من ذلك الشعر وهو

( فإن بخِلتْ فالبخل منها سجيّةٌ ... وإن بذَلتْ أعطت قليلاً وأَكْدّتِ )

قال ولحنه ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى

أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن يحيى الصولي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي وحدثني به عمي عن أبي جعفر بن دهقانة النديم عن أبيه قال

كان الواثق إذا صنع صوتا قال لإسحاق هذا وقع إلينا البارحة فاسمعه فكان ربما أصلح فيه الشيء بعد الشيء

فكاده مخارق عنده وقال له إنما يستجيد صنعتك إذا حضر ليقاربك ويستخرج ما عندك فإذا فارق حضرتك قال في صنعتك غير ما تسمع قال الواثق فأنا أحب أن أقف على ذلك فقال له مخارق فأنا أغنيه أيا منشر الموتى فإنه لم يعلم أنه لك ولا سمعه من أحد قال فافعل

فلما دخل إسحاق غناه مخارق وتعمد لأن يفسده بجهده وفعل ذلك في مواضع خفية لم يعلمها الواثق من قسمته فلما غناه قال له الواثق كيف ترى هذا الصوت قال له فاسد غير مرضي فأمر به فسحب من المجلس حتى أخرج عنه وأمر بنفيه إلى بغداد

ثم جرى ذكره يوما

فقالت له فريدة يا أمير المؤمنين إنما كاده مخارف فأفسد عليه الصوت من حيث أوهمك أنه زاد فيه بحذقه نغما وجودة وإسحاق يأخذ نفسه بقول الحق من كل شيء ساءه أو سره ويفهم من غامض علل الصنعة ما لا يفهمه غيره فليحضره أمير المؤمنين ويحلفه بغليظ الأيمان أن يصدقه عما يسمع وأغنيه إياه حتى يقف على حقيقة الصوت فإن كان فاسدا فصدق عنه لم يكن عليه عتب ووافقناه عليه حتى يستوي

 

فليس يجوز أن نتركه فاسدا إذا كان فيه فساد وإن كان صحيحا قال فيه ما عنده فأمر بالكتاب بحمله فحمل وأحضر فأظهر الرضا عنه ولزمه أياما ثم أحلفه ليصدقن عما يمر في مجلسه فحلف له

ثم غنى الواثق أصواتا يسأله عنها أجمع فيخبر فيها بما عنده ثم غنته فريدة هذا الصوت وسأله الواثق عنه فرضيه واستجاده وقال له ليس على هذا سمعته في المرة الأولى وأبان عن المواضع الفاسدة وأخبر بإفساد مخارق إياها فسكن غضبه ووصل إسحاق وتنكر لمخارق مدة

إسحاق والواثق وقصة الغناء والألحان

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق الموصلي

أنه دخل على إسحاق بن إبراهيم الطاهري وقد كان تكلم له في حاجة فقضيت فقال له أعطاك الله أيها الأمير ما لم تحط به أمنية ولا تبلغه رغبة

قال فاشتهى هذا الكلام واستعاده مني فأعدته

ثم مكثنا ما شاء الله وأرسل الواثق إلى محمد بن إبراهيم يأمره بإخراجي إليه في الصوت الذي أمرني به بأن أغني فيه وهو

( لقد بَخِلتْ حتّى لَوَ أنِّي سألتُها ... )

فغنيته إياه فأمر لي بمائة ألف درهم

فخرجت وأقمت ما شاء الله ليس أحد من مغنيهم يقدر أن يأخذ هذا الغناء مني

فلما طال مقامي قلت له يا أمير المؤمنين ليس أحد من هؤلاء المغنين يقدر أن يأخذ هذا الصوت مني فقال لي ولم ويحك فقلت لأني لا أصححه ولا تسخو نفسي

 

به لهم فما فعلت الجارية التي أخذتها مني يعني شجا وهي التي كان أهداها إلى الواثق وعمل مجرد أغانيها وجنسه ونسبه إلى شعرائه ومغنيه وهو الذي في أيدي الناس إلى اليوم فقال وكيف قال لأنها تأخذه مني ويأخذونه هم منها فأمر بها فأخرجت وأخذته على المكان فأمر لي بمائة ألف درهم وأذن لي في الانصراف وكان إسحاق بن إبراهيم الطاهري حاضرا فقلت للواثق عند وداعي له أعطاك الله يا أمير المؤمنين ما لم تحط به أمنية ولم تبلغه رغبة فالتفت إلي إسحاق بن إبراهيم فقال لي أي إسحاق أتعيد الدعاء فقلت إي والله أعيده قاض أنا أو مغن

وقدمت بغداد فلما وافى إسحاق جئته مسلما عليه فقال لي ويحك يا إسحاق أتدري ما قال أمير المؤمنين بعد خروجك من عنده قلت لا أيها الأمير قال قال لي ويحك كنا أغنى الناس عن أن نبعث إسحاق على لحننا حتى أفسده علينا

قال علي بن يحيى فحدثني إسحاق قال استأذنت الواثق عدة دفعات في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي فصنعت لحنا في

( خليليّ عُوجَا من صدور الرَّوَاحِل ... )

ثم غنيته الواثق فاستحسنه وعجب من صحة قسمته ومكث صوته أياما ثم قال لي يا إسحاق قد صنعت لحنا في صوتك في إيقاعه وطريقته وأمر من وراء الستارة فغنوه فقلت قد والله يا أمير المؤمنين بغضت إلي لحني وسمجته عندي وقد كنت استأذنته في الانحدار إلى بغداد فلم يأذن لي فلما صنع هذا اللحن وقلت له ما قلت أتبعته بأن قلت له قد والله يا أمير المؤمنين اقتصصت مني في لقد بخلت وزدت فأذن لي بعد ذلك

 

نسبة هذا الصوت

صوت

( خليليّ عُوجَا من صدور الرّواحل ... بجَرْعاءِ حُزْوَى فابكيا في المنازل )

( لعلّ انحدار الدّمع يُعقب راحةً ... من الوَجْدِ أو يَشفِي نَجِيَّ البلاَبل )

الشعر لذي الرمة والغناء لإسحاق رمل بالوسطى في البيتين

وللواثق في البيت الثاني وحده رمل بالبنصر

أخبرني أحمد بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني كثير بن أبي جعفر الحزامي الكوفي عن أحمد بن جواس الحنفي عن أبي بكر بن عياش قال

كنت إذا أصابتني المصيبة تصبرت وأمسكت عن البكاء فأجد ذلك يشتد علي حتى مررت ذات يوم بالكناسة فإذا أنا بأعرابي واقف على ناقة له وهو ينشد

( خليليّ عُوجَا من صُدور الرَّواحلِ ... بجَرعاءِ حُزْوَى فابكيا في المنازلِ )

 

( لعلّ انحدار الدّمع يُعْقِب راحةً ... من الوجد أو يَشفِي نَجِيَّ البَلاَبل )

فسألت عنه فقيل لي هذا ذو الرمة فكنت بعد إذا أصابتني مصيبة بكيت فأجد لذلك راحة فقلت قاتل الله الأعرابي ما كان أعلمه وأفصح لهجته

أخبرنا يحيى بن علي عن أبيه قال

قلت لإسحاق أيما أجود لحنك في خليلي عوجا أم لحن الواثق فقال لحني أجود قسمة وأكثر عملا ولحنه أطرب لأنه جعل ردته من نفس قسمته وليس يقدر على أدائه إلا متمكن من نفسه

قال علي ابن يحيى فتأملت اللحنين بعد ذلك فوجدتهما كما ذكر إسحاق

قال وقال لي إسحاق ما كان بحضرة الواثق أعلم منه بالغناء

أخبرني علي بن هارون قال

كان عبد الله بن المعتز يحلف أن الواثق ظلم نفسه في تقديمه لحن إسحاق في لقد بخلت

قال ومن الدليل على ذلك أنه قلما غني في صوت واحد بلحنين فسقط أجودهما وشهر الدون ولا يشهر من اللحنين إلا أجودهما ولحن الواثق أشهرهما وما يروي لحن إسحاق إلا العجائز ومن كثرت روايته

حدثني جحظة عن ابن المكي المرتجل عن أبيه أحمد بن يحيى قال

كان الواثق يعرض صنعنه على إسحاق فيصلح فيها الشيء بعد الشيء

آخر صوت صنعه

أخبرنا حسين بن يحيى عن حماد

أن آخر صوت صنعه أبوه لقد بخلت ثم ما صنع شيئا حتى مات

 

أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال

دخل أعرابي من بني سليم سر من رأى وكان يكنى أبا القنافذ فحضر باب المعتصم مع الشعراء فأذن له فلما مثل بين يديه أنشده

( مِراض العيونِ خِماص البطون ... طِوال المتون قصار الخُطَا )

( عِتاق النّحوِرِ دقاق الثغورِ ... لِطاف الخصورِ خِدال الشَّوَى )

( عَطابيل من كلّ رَقْراقةٍ ... تَلُوث الإِزارَ بدِعْص النَّقَا )

( إذا هُنّ مَنّيْنَنا نائلاً ... أبَى البُخلُ منهنّ ذاك المُنَى )

( إلى النَّفَر البِيضِ أهلِ البِطاح ... وأهلِ السَّماحِ طَلَبنا النَّدَى )

( لهم سَطَواتٌ إذا هُيِّجوا ... وحلمٌ إذا الجهلُ حَلّ الحُبا )

( يَبِين لك الخيرُ في أوجهٍ ... لهم كالمصابيحِ تَجْلُوا الدُّجى )

( سَعَى الناسُ كي يُدركوا فضلَهم ... فقصَّر عن سعيهم مَنْ سَعَى )

( سعَى للخلافةِ فاقتادَهَا ... وبرَّز في السَّبْق لمّا جرى )

قال فاستحسنها المعتصم وأمرني فغنيت فيها وأمر للأعرابي بعشرين ألف درهم ولي بثلاثين ألف درهم وما خرج الناس يومئذ إلا بهذه الأبيات

حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال

 

كتبت إلى علي بن هشام أطلب منه نبيذا فبعث إلي جمان بما التمست وكتب إلي قد بعثت إليك بشراب أصلب من الصخر وأعتق من الدهر وأصفى من القطر

حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي عن أحمد المكي قال لما صنع إسحاق لحنه في الرمل

( أَمَاوِيَّ إنّ المالَ غادٍ ورائحَ ... ويبقى من المال الأحاديثُ والذِّكْرُ )

( وقد علم الأقوامُ لو أنّ حاتما ... يريد ثَراءَ المال كان له وَفْرُ )

وهو رمل نادر ابتداؤه صياح ثم لا يزال ينزل على تدريج حتى يقطعه على سجحة وكان كثير الملازمة لعبد الله بن طاهر ثم تخلف عنه مدة وذلك في أيام المأمون فقال عبد الله للميس جاريته خذي لحن إسحاق في

( أمَاوِيَّ إنّ المال غادٍ ورائحٌ ... )

فاخلعيه على

( وهبّتْ شَمَالٌ آخِرَ اللّيل قَرّةٌ ... ولا ثوبَ إلاّ بُرْدُها وردائيَا )

وألقيه على كل جارية تعلمينها واشهريه وألقيه على من يجيده من

 

جواري زبيدة وقولي أخذته من بعض عجائز المدينة ففعلت وشاع أمره حتى غني به بين يدي المأمون فقال المأمون للجارية ممن أخذت هذا فقالت من دار عبد الله بن طاهر من لميس جاريته وأخبرتني أنها أخذته من بعض عجائز المدينة

فقال المأمون لإسحاق ويلك قد صرت تسرق الغناء وتدعيه اسمع هذا الصوت فسمعه فقال هذا وحياتك لحني وقد وقع علي فيه نقب من لص حاذق وأنا أغوص عليه حتى أعرفه ثم بكر إلى عبد الله بن طاهر فقال أهذا حقي وحرمتي وخدمتي تأخذ لميس لحني في

( أماويّ إنّ المال غادٍ ورائحٌ ... )

فتغنيه في وهبت شمال وليس بي ذلك ولكن بي أنها فضحتني عند الخليفة وادعت أنها أخذته من بعض عجائز المدينة فضحك عبد الله وقال لو كنت تكثر عندنا كما كنت تفعل لم تقدم عليك لميس ولا غيرها فاعتذر فقبل عذره وقال له أي شيء تريد قال أريد أن تكذب نفسها عند من ألقته عليها حتى يعلم الخليفة بذلك قال أفعل ومضى إسحاق إلى المأمون وأخبره القصة فاستكشفها من لميس حتى وقف عليها وجعل يعبث بإسحاق بذلك مدة

إسحاق يغني محمد الأمين

حدثني جحظة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال حدثتني شهوات الصناجة التي كان إسحاق أهداها إلى الواثق

أن محمدا الأمين لما غناه إسحاق لحنه الذي صنعه في شعره وهو الثقيل الأول

 

صوت

( يأيّها القائمُ الأمين فدَتْ ... نفسَك نفسي بالمال والوَلَدِ )

( بَسَطْتَ للنَاس إذ وَلِيتَهُمُ ... يداً من الجود فوق كلّ يد )

فأمر له بألف ألف درهم فرأيتها قد وصلت إلى داره يحملها مائة فراش

حدثني جحظة ومحمد بن خلف بن المرزبان قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

غنيت الواثق

صوت

( عَفَا طَرَفُ القُرَيّةِ فالَكثِيبُ ... إلى مَلْحاءَ ليس بها عَرِيبُ )

( تأبّد رسمُها وجرى عليها ... سَوَافِي الريح والقُّربُ الغريبُ )

ولحنه ثقيل ثان قال فقال لي يا إسحاق قد أحسن ابن هرمة في البيتين فأي شيء هو أحسن فيهما من جميعهما قال قلت قوله الترب الغريب يريد أن الريح جاءت إلى الأرض بتراب ليس منها فهو غريب جاءت به من موضع بعيد فقال صدقت وأحسنت وأمر لي بخمسين ألف درهم

حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال كنا يوما عند أحمد بن المدبر فغناه مغن كان عنده لحن إسحاق

 

صوت

( فأصبحتُ كالَحْومانِ ينظُر حسرةً ... إلى الماء عطشاناً وقد مُنِع الوِرْدَا )

وقال ابن المدبر زد فيه

( وأمسيتُ كالمسلوبِ مهجةَ نفسه ... يرى الموتَ في صدّ الحبيب إذا صَدّا )

لحن إسحاق في هذا البيت من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر

حدثني الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد الأزدي قال حدثني شيخ من ولد المهلب قال

دخل مروان بن أبي حفصة يوما على إبراهيم الموصلي فجعلا يتحدثان إلى أن أنشد إسحاق بن إبراهيم مروان بن أبي حفصة لنفسه

( إذا مُضَرُ الحمراءِ كانت أَرُومَتي ... وقام بنصري خازمٌ وآبنُ خازمِ )

( عطَست بأنفٍ شامخٍ وتناولتْ ... يداي الثُّريّا قاعداً غيرَ قائمِ )

قال وجعل إبراهيم يحدث مروان وهو عنه ساه مشغول فقال له مالك لا تجيبني قال إنك والله لا تدري ما أفرغ ابنك هذا في أذني

حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني موسى بن هارون عن يعقوب بن بشر قال

كنت مع إسحاق الموصلي في نزهة فمر بنا أعرابي فوجه إسحاق خلفه بغلامه زياد الذي يقول فيه

 

( وقُولاَ لساقِينا زِيَادٍ يُرِقّها ... فقد هَدَّ بعضَ القوم سَقْيُ زِيادِ )

قال فوافانا الأعرابي فلما شرب وسمع حنين الدواليب قال

صوت

( بَكَرتْ تَحِنُّ وما به وَجْدِي ... وأَحِنُّ من وَجْدٍ إلى نَجْدِ )

( فدموعُها تَحْيا الرِّياضُ بها ... ودموعُ عَيْنِي أَقْرَحَتْ خَدّي )

( وبساكِنِي نجدٍ كَلِفْتُ وما ... يُغْنِي لهم كَلَفِي ولا وَجْدي )

( لو قِيس وجدُ العاشقين إلى ... وَجْدي لزاد عليه ما عندي )

قال فما انصرف إسحاق إلى بيته إلا محمولا سكرا وما شرب إلا على هذه الأبيات

والغناء فيها لإسحاق هزج بالبنصر

إسحاق والفضل بن الربيع وقصة البساط

أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه وأخبرني به الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن عبد الله عن إسحاق قال

دخلت على الفضل بن الربيع وهو على بساط سوسنجردي ستيني مذهب يلمع عليه مكتوب مما أمر بصنعته حماد عجرد فقال لي أتدري من حماد عجرد قلت لا قال حماد عجرد كان والي تلك

 

الناحية أفرأيت مثله قط قلت لا فسكت ثم قلت أهكذا يفعل الناس قال أي شيء يفعلونه قلت تهبه لي قال لا أفعل قلت إذا أغضب قال ما شئت افعل فخرجت متغاضبا فلما وافيت منزلي إذا برسوله قد لحقني بالبساط فكتبت إليه بيتين لحمزة بن مضر

( ولقد عدَدْتُ فلستُ أُحصِي كلَّ ما ... قد نِلْتُ منك من المتاع المُونِقِ )

( بخديعتي فأراك مُنخدعاً لها ... وفُكاهتي وتَغَضُّبي وتملُّقي )

قال ابن أبي سعد في خبره فلما دخلت عليه ضحك وقال لي البيتان خير من البساط فالفضل الآن لك علينا

أخبرني يحيى بن علي وأحمد بن جعفر جحظة عن أبي العبيس بن حمدون عن عمرو بن بانة قال

رأيت إبراهيم بن المهدي يناظر إسحاق في الغناء فتكلما بما فهماه ولم أفهم منه شيئا فقلت لهما لئن كان ما أنتما فيه من الغناء فما نحن منه في قليل ولا كثير

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق قال

قدمت على الواثق في بعض قدماتي فقال لي أما اشتقت إلي فقلت بلى والله يا أمير المؤمنين وأنشدته

( أشكو إلى الله بُعدِي عن خليفته ... وما أُعالج من سُقْمٍ ومن كِبَرِ )

( لا أستطيع رحيلاً إن هَممَتُ به ... يوماً إليه ولا أقوىَ على السّفَرِ )

( أنْوِي الرَّحيلَ إليه ثمّ يمنعني ... ما أحدَثَ الدهرُ والأيامُ في بَصَري )

قال وقال وقد أشخصه إليه قصيدته الدالية

صوت

( ضَنّتْ سعادُ غَداة البَيْن بالزادِ ... وأخلفتْكَ فما تُوفِي بميعادِ )

 

( ما أنْسَ لا أنْسَ منها إذ تُودِّعُنا ... والحزنُ منها وإن لم تُبْدِه بادي )

لإسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى يقول فيها

( لمّا أمَرتَ بإشخاصي إليك هَفَا ... قلبي حنيناً إلى أهلي وأولادي )

( ثم اعتزمتُ ولم أحْفِل بَبْينهِمُ ... وطابتِ النفسُ عن فضلٍ وحَمّاد )

( كمْ نِعمةٍ لأبيك الخيرِ أفردَني ... بها وعَمّ بأُخرَى بَعْد إفراد )

( فلو شكرتُ أياديكم وأنعُمَكم ... لمَا أحاط بها وَصْفِي وتَعْدادي )

( لأشكرنّك ما ناح الحَمَامُ وما ... حَدَا على الصبح في إثْرِ الدُّجى حادي )

قال علي بن يحيى قال لي أحمد بن إبراهيم يا أبا الحسن لو قال الخليفة لإسحاق أحضرني فضلا وحمادا أليس كان قد افتضح من دمامة خلقهما وتخلف شاهدهما

حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال

كتب أبي إلى إسحاق في شيء خالفه فيه من التجزئة والقسمة إلى من أحاكمك والناس بيننا حمير

إسحاق والرشيد في تل عزاز

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا سليمان بن أيوب قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال حدثنا إسحاق قال

كنت مع الرشيد حين خرج إلى الرقة فدخل يوما إلى النساء وخرجت فمضيت إلى تل عزاز فنزلت عند خمارة هناك فسقتني شرابا لم أر مثله حسنا وطيبا وطيب رائحة في بيت مرشوش وريحان غض وبرزت

 

بنت لها كأنها خوط بان أو جدل عنان لم أر أحسن منها قدا ولا أسيل خد ولا أعتق وجها ولا أبرع ظرفا ولا أفتن طرفا ولا أحسن كلاما ولا أتم تماما فأقمت عندها ثلاثا والرشيد يطلبني فلا يقدر علي ثم انصرفت فذهبت بي رسله فدخلت عليه وهو غضبان فلما رأيته خطرت في مشيتي ورقصت وكانت في فضلة من السكر وغنيت

صوت

( إنّ قلبي بالتَّلِّ تَلِّ عَزَازِ ... عند ظبي من الظِّباء الجَوازِي )

( شادنٍ يَسْكُنُ الشَآمَ وفيه ... مع دَلّ العِراق ظَرْفُ الحجاز )

( يا لقَومِي لبِنت قَسٍّ أصابتْ ... منك صفوَ الهوى وليست تُجازِي )

( حلفتْ بالمسيح أن تُنجز الوعد ... َ وليست تجود بالإِنجاز )

الغناء لإسحاق خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة قال إسحاق فسكن غضبه ثم قالي لي أين كنت فأخبرته فضحك وقال إن مثل هذا إذا اتفق لطيب أعد غناءك فأعدته فأعجب به وأمرني أن أعيده ليلة من أولها إلى آخرها وأخذها المغنون مني جميعا وشربنا إلى طلوع الفجر ثم انصرفنا فصليت الصبح ونمت فما استقررنا حتى أتى إلي رسول الرشيد فأمرني بالحضور فركبت ومضيت فلما دخلت وجدت ابن جامع قد طرح نفسه يتمرغ على دكان في الدار لغلبة السكر عليه ثم قال أتدري لم دعينا فقلت لا والله قال لكني أدري دعينا بسبب

 

نصرانيتك الزانية عليك وعليها لعنة الله فضحكت

فلما دخلت على الرشيد أخبرته بالقصة فضحك وقال صدق عودوا فيه فإني اشتقت إلى ما كنا فيه لما فارقتموني فعدنا فيه يومنا كله حتى انصرفنا

أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال

كان إسحاق قد أظهر التوبة وغير زيه واحتجر من حضور دار السلطان

فبلغه أن المأمون وجد عليه من ذلك وتنكر فكتب إسحاق إليه وغنى فيه بعد ذلك

صوت

( يابنَ عمِّ النبيّ سمعاً وطاعهْ ... قد خلعنا الرّداءَ والدُّرّاعهْ )

( ورجعنا إلى الصِّناعة لمّا ... كان سُخْطَ الإِمام تركُ الصِّناعه )

الغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو وقد ذكر الغلابي أن هذا الشعر لأبي العتاهية قاله لما حبسه الرشيد وأمره بأن يقول الشعر وذكر حبش أن هذا اللحن لإبراهيم

أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي قال

قال لي محمد بن الحسن بن مصعب وكان بصيرا بالغناء والنغم

 

لحن إسحاق في تشكى الكميت الجري أحسن من لحن ابن سريج ولحنه في يوم تبدي لنا قتيلة أحسن من لحن معبد وذلك من أجود صنعة معبد

قال فأخبرت إسحاق بقوله فقال قد والله أخذت بزمامي راحلتيهما وزعزعتهما وأنخت بهما فما بلغتهما

فأخبرت بذلك محمد بن الحسن فقال هو والله يعلم أنه برز عليهما ولكنه لا يدع تعصبه للقدماء

وأخبرني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق

أن رجلا سأل أباه فقال له إن الناس قد كثروا في صوتيك تشكى الكميت الجري ويوم تبدي لنا قتيلة وقالوا إنهما أجود من لحني ابن سريج ومعبد قال أبي ويحك رميت في هذه الصوتين بمعبد وابن سريج وهما هما فقربت ووقع القياس بيني وبينهما وعلى ذلك فقد والله أخذت بزمامي راحلتيهما وانتصفت منهما

تحليل غنائه في بعض الكتب

قرأت في بعض الكتب أن محمد بن الحسن أظنه ابن مصعب ذكر إسحاق الموصلي فقال

كانت صنعته محكمة الأصول ونغمته عجيبة الترتيب وقسمته معدلة الأوزان وكان يتصرف في جميع بسط الإيقاعات فأي بساط منها أراد أن يتغنى فيه صوتا قصد أقوى صوت جاء في ذلك البساط لحذاق القدماء فعارضه وقد كان يذهب مذهب الأوائل ويسلك سبيلهم ويقتحم طرقهم فيبني على الرسم فيصنعه ويحتذي على المثال فيحكيه فتأتي صنعته قوية وثيقة يجمع فيها حالتين القوة في الطبع وسهولة المسلك

 

وخنثا بين كثرة النغم وترتيبها في الصياح والإسجاح فهي بصنعة الأوائل أشبه منها بصنعة المتوسطين من الطبقات فأما المتأخرون فأحسن أحوالهم أن يرووها فيردوها

وكان حسن الطبع في صياحه حسن التلطف لتنزيله من الصياح إلى الإسجاح على ترتيب بنغم يشاكله حتى تعتدل وتتزن أعجاز الشعر في القسمة بصدوره

وكذلك أصواته كلها وأكثرها يبتدئ الصوت فيصيح فيه وذلك مذهبه في جل غنائه حتى كان كثير من المغنين يلقبونه الملسوع لأنه يبدأ بالصياح في أحسن نغمة فتح بها أحد فاه ثم يرد نغمته فيرجحها ترجيحا وينزلها تنزيلا حتى يحطها من تلك الشدة إلى ما يوازيها من اللين ثم يعود فيفعل مثل ذلك فيخرج من شدة إلى لين ومن لين إلى شدة وهذا أشد ما يأتي في الغناء وأعز ما يعرف من الصنعة

قال يحيى بن علي بن يحيى وقد ذكر إسحاق في صدر كتابه الذي ألف في أخباره وزاد في بعض ما صنعه

وكان إسحاق أعلم أهل زمانه بالغناء وأنفذهم في جميع فنونه وأضربهم بالعود وبأكثر آلات الغناء وأجودهم صنعة وقد تشبه بالقديم وزاد في بعض ما صنعه عليه وعارض ابن سريج ومعبدا فانتصف منهما وكان إبراهيم بن المهدي ينازعه في هذه الصناعة ولم يبلغه فيها ولم يكن بعد إسحاق مثله

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني إبراهيم بن علي بن هشام

قال إسحاق وذكر صوته

صوت

( كان افتتاح بلائِيَ النَّظرُ ... فالحَيْنُ سبَّب ذاك والقَدَرُ )

( قد كان بابُ الصَّبر مُفْتَتَحاً ... فاليومَ أَغْلَقَ بابَهُ النَّظرُ )

 

الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر

وفيه لأحمد بن المكي خفيف ثقيل ولعريب ثاني ثقيل جميعا عن الهشامي قال إسحاق

ما شبهت صوتي هذا إلا بإنسان أخذ الكرة على الطبطابة وأهل الميدان جميعا خلفه فلما بلغ أقصى ضربها أحجزها

قصته مع يحيى بن معاذ والأمين

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن يزيد المهلبي قال حدثني إسحاق وأخبرنا يحيى بن علي عن أبي أيوب المديني عن ابن المكي عن إسحاق قال

صنعت هذا الصوت في آخر أيام الرشيد وكان إذ ذاك يحيى بن معاذ يشرب النبيذ فلما كان في أيام محمد غنيته فاشتهاه واشتهر به وبعث إلى يحيى بن معاذ وأنا أغنيه

( اسقني وابنَ نَهِيكٍ ... وابن يحيى بنِ مُعاذِ )

فلما حضر يحيى غنيت

( فاسقني واسقِ نَهِيكاً ... واسقِ يحيى بنَ مُعاذِ )

فبعث إليه محمد فأحضره فقال لتشربن أو لأعاقبنك فلم يبرح حتى شرب قدحا وغلفه وأمر له بمال وسر بذلك محمد ووهب لي عليه مالا وانصرفت إلى البيت فجاءني رسول يحيى بن معاذ فصرت إليه فلم يزل يستحلفني ألا أعود في هذا الصوت قدام محمد أبدا وأمر لي من المال بشيء فلم أقبله ولم أعد فيه

 

نسبة هذا الصوت

صوت

( يومُنا يومُ رَذَاذِ ... واصطباحٍ والتذاذِ )

( فاسقني وابنَ نَهِيكٍ ... وابنَ يحيى بن مُعاذِ )

( من كُمَيْتٍ عُتّقت للشيخ ... ِ كِسرى بن قُبَاذِ )

( ليس للمرء من الهمّ ... سواها من مَلاذِ )

الشعر لعلي بن هشام والغناء لإسحاق ثقيل أول بالبنصر عن عمرو

أخبرني بقوله علي بن هشام والحسن بن علي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن القاسم الهاشمي قال حدثني أبو عبد الله الهلالي قال

كنت عند علي بن هشام يوما إذ رشت السماء رشا وطشت فأنشأ علي يقول

( يومُنا يومُ رذاذِ ... واصطباحٍ والتذاذِ )

وذكر الأبيات الأربعة ثم قال لغلامه اذهب إلى أحمد بن يحيى بن معاذ وقل له يقول لك أخوك هذا يوم طيب فتعال أنت وغلاماك بنان وعثعث فجاء إلى بابه الرسول وعليه غرماء له فمنعوه الدخول عليه فقال لهم كم لكم عليه قالوا مائتا ألف درهم فرجع الغلام إلى علي بن هشام فأخبره بالخبر ومبلغ ما لهم عليه من الدين فقال له احمل إليه مائتي ألف ردهم وجئ به وبغلاميه الساعة فحملها فجاء أحمد بن يحيى ومعه

 

غلاماه فقال لعلي بن هشام لم تحملت هذا لي أنا والله منتظر ما لا يجيء فأعطيهم فقال له مالي ومالك واحد

فتغديت معهما حتى جاءت الحلواء فقال أكثر من الحلواء فلست تدخل معنا في ديواننا يعني الشرب فأكلت وغسلت يدي فقال لغلامه سراج احمل مع أبي عبد الله الهلالي ثلاثين ألف درهم فانصرفت وهي معي

إسحاق يتذكر شعر الصبا ويبكي

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا سليمان المدائني عن ابن المكي عن أبيه قال حدثني إسحاق قال

تعشقت جارية فقلت فيها

( هل إلى أن تنام عيني سبيلُ ... إنّ عهدي بالنوم عهدٌ طويلُ )

( غاب عنّي مَنْ لا أُسمِّي فعَيْني ... كلَّ يوم عليه حُزْناً تَسِيل )

الشعر والغناء لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو

وفيه لعريب خفيف رمل آخر

وفيه لمحمد بن حمزة وجه القرعة خفيف ثقيل وقيل إنه لابن المكي

وفيه رمل بالوسطى ينسب إلى علويه وإلى حسين بن محرز قال إسحاق ثم ملكتها فكنت مشغوفا بها حتى كبرت واعتلت علي عيناي فذكرت هذا الصوت وأيامه المتقدمة فما زلت أبكي وأذكر دهري الذي تولى

وأخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي عن يزيد المهلبي عن إسحاق وليس هذا على التمام

أخبرني جحظة عن محمد بن أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال

دعا المأمون بإسحاق فأحضره فأمره أن يغني في هذا الصوت فغنى

 

( هل إلى أن تَنامَ عَيْني سبيلُ ... )

فغناه وكنت حاضرا فقلت أحسن والله يا أمير المؤمنين وما عدا بلحنه معنى شعره فقال المأمون فإنا نرد الحكم إلى من هو أعلم بذلك منك فبعث إلى أبي يعني يحيى المكي فجيء به فخبره بما قلت وما قال وأمر إسحاق برد الصوت فرده فقال يحيى أحسن إسحاق في غنائه وأحسن ابني في استحسانه إلا أن هذا اللحن يحتاج أن يسمع من غير حلق إسحاق فضحك المأمون وأمر لإسحاق بمال وأمر لأبي بمثله ولي بمثله

قال ولم يكن في إسحاق شيء يعاب إلا حلقه وكان يغلب الناس جميعا بطبعه وحذقه

قال وأما السبب في علة عين إسحاق وضعف بصره فأخبرني به محمد بن خلف وكيع قال حدثني به أبو أيوب المديني قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي

أن إبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف نازع إسحاق في شيء بين يدي الرشيد من الغناء فرد عليه فشتمه فرد عليه إسحاق واربى في الرد فقال له إبراهيم أترد علي وأنا مولى أمير المؤمنين فقال له اسكت فإنك من موالي العيدين فقال له الرشيد وأي شيء موالي العيدين قال يا أمير المؤمنين يشترى للخلفاء كل صانع وكل ضرب في العبيد للعتق فيكون فيهم الحجام والحائك والسائس فهو أحد هؤلاء الذين ذكرت

قال وخرج إبراهيم فوقف له على طريقه فلما جاز عليه منصرفا ضرب رأسه بمقرعة فيها معول فكان ذلك سبب ضعف بصر إسحاق

وبلغ الرشيد الخبر فأمر بأن يحجب عنه إبراهيم وحلف ألا يدخل عليه فدس إلى الرشيد من غناه

 

صوت

( مَنْ لعبدٍ أذلَّه مولاهُ ... ماله شافعٌ إليه سواهُ )

( يشتِكي ما به إليه ويخشاه ... ُ ويرجوه مثلَ ما يخشاه )

الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ابن أخي سلمة الوصيف خفيف رمل

وفيه لعريب ثقيل أول

وقيل إن لابن جامع فيه خفيف رمل آخر فلما غني الرشيد بهذه الأبيات سأل عن صاحب لحنها فعرفه فحلف ألا يرضى عنه حتى يرضى إسحاق فقال إسحاق فقال قد رضيت عنه يا سيدي رضاء حسنا وقبل الأرض بين يديه شكرا لما كان من قوله فرضي عنه وأحضر وأمره بترضي إسحاق ففعل

إسحاق وإبراهيم ابن أخي سلمة

وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال

جاء إبراهيم ابن أخي سلمة إلى الرشيد فقال له يا أمير المؤمنين إني أحب أن تشرفني بأن تكون نوبتي ونوبة إسحاق الموصلي في مكان وأن يكون دخولي إليك ودخوله في مكان فإن رأيت أن تجعل ذلك كما سألت فعلت قال قد فعلت ولم أكن حاضرا لمسألته

فلما كان يوم دخولي عليه جاءني إبراهيم فدق بابي دقا عنيفا وعرفني الغلام خبره فقلت له يدخل فأبى وقال له قل له اخرج أنت فساء ظني واغتممت فخرجت إليه فقلت له ما الخبر قال إن أمير المؤمنين يأمرك بالحضور ويأمرك ألا تدخل الدار إلا معي بعد أن أوجه إليك فتركب إلي وتمضي معي فمضيت معه على رغمي وأنا منكسر وكنت بقية يومي على تلك الحال

ثم ركبت إلى الفضل بن الربيع فشكوت ذلك إليه فقال ما أرى أمير المؤمنين يحلك هذا المحل قم بنا إليه فقمت معه فدخل إلى الرشيد فقال له يا أمير المؤمنين إسحاق وخدمته وحقوق أبيه عليك وعلى أمير المؤمنين المهدي

 

تضع مقداره أن تجعله مضموما إلى إبراهيم ابن أخي سلمة قال لا والله ما فعلت هذا قال إنه قد جاءني يبكي ويحلف إن جرى عليه هذا تاب من الغناء وتركه جملة ثم لو قتل لم يعد إليه فقال ويحك والله ما جرى من هذا شيء إلا أن إبراهيم ابن أخي سلمة جاء فقال تشرفني أن تجعل نوبتي مع نوبة إسحاق ووصولي مع وصوله ففعلت فقل له يجيء متى شاء وينفرد عنه ولا يجيء معه ولا كرامة فأخبرني فرجعت

فلما كانت نوبتي جاء إبراهيم إلي ففعل مثل فعله فقلت لغلامي اخرج إليه فقل له ولا كرامة لك يا زاني يابن الزانية لا أجيء معك ولا أدعك تجيء معي أيضا وشتمه أقبح شتم فخرج الغلام فأدى إليه الرسالة فعلم أن هذا لم يتجرأ عليه إلا بعد توثق فخجل فقال له قل له ومن أكرهك على هذا إنما أحببت أن نصطحب ونتأنس في طريقنا فإن كرهت هذا فلا تفعله وانصرف ولم يعاودني بعدها

أخبرني يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن ابن المكي عن أبيه قال

كان إسحاق إذا غنى هذا الصوت يأخذ بلحيته ويبكي

( إذا المرءُ قاسى الدهرَ وابيضّ رأسُه ... وثُلِّم تثليمَ الإِناء جوانبُهْ )

( فَللْموتُ خيرٌ من حياةٍ خَسيسةٍ ... تُباعده طوراً وطوراً تُقاربه )

الشعر لزبان بن سيار الفزاري حدثني بذلك الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه

والغناء لإسحاق رمل بالوسطى

 

أخبرنا محمد بن مزيد والحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه وأخبرنا يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق قال

أقام المأمون بعد قدومه عشرين شهرا لا يسمع حرفا من الأغاني فكان أول من تغنى بحضرته أبو عيسى بن الرشيد ثم واظب على السماع متسترا متشبها في أول أمره بالرشيد فأقام كذلك أربع حجج ثم ظهر إلى الندماء والمغنين

وكان حين أحب السماع سأل عني فجرحت بحضرته وقال الطاعن علي ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة قال المأمون ما أبقى هذا من التيه شيئا إلا استعمله

فأمسك عن ذكري وجفاني من كان يصلني لسوء رأيه الذي ظهر في فأضر ذلك بي حتى جاءني علويه يوما فقال لي أتأذن لي في ذكرك فإنا قد دعينا اليوم فقلت لا ولكن غنه بهذا الشعر فإنه سيبعثه على أن يسألك لمن هذا فإذا سألك انفتح لك ما تريد وكان الجواب أسهل عليك من الابتداء فقال هات فألقيت عليه لحني في شعري

صوت

( يا سَرْحةَ الماءِ قد سُدَّتْ مواردُه ... أمَا إليكَ طريقٌ غيرُ مسدودِ )

( لحائمٍ حامَ حتّى لا حِيامَ له ... مُحَّلأٍ عن طريق الماء مطرودِ )

الغناء لإسحاق رمل بالوسطى عنه وعن عمرو قال فمضى علويه فلما استقر به المجلس غناه بالشعر الذي أمرته فما عدا المأمون أن يسمع الغناء حتى قال ويحك يا علويه لمن هذا قال يا سيدي لعبد من عبيدك جفوته واطرحته من غير جرم فقال أإسحاق تعني قال نعم

 

قال يحضر الساعة فجاءني رسوله فصرت إليه

فلما دخلت عليه قال ادن فدنوت فرفع يديه مادهما فانكببت عليه واحتضنني بيديه وأظهر من بري وإكرامي ما لو أظهره صديق مؤانس لصديقه لبره

إسحاق يغني المعتضد

أخبرني محمد بن إبراهيم الجرجاني قريض قال قال لي أحمد بن أبي العلاء

غنيت المعتضد يوما وهو أمير

صوت

إسحاق

( يا سرحةَ الماء قد سُدَّتْ مواردُه ... أما إليكِ طريقٌ غيرُ مسدودِ )

فطرب واستعاده مرارا وقال هذا والله الغناء الذي يخالط الروح ويمازج اللحم والدم

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو العبيس بن حمدون قال أخبرني أبي قال لما غنى إسحاق في شعره هذا

صوت

( لأسماءَ رَسْمٌ عفا باللِّوَى ... أقام رَهيناً لطُول البِلَى )

( تَعاورَه الدهرُ في صَرْفِه ... بكَرِّ الجديدَيْنِ حتّى عفا )

 

الشعر لإسحاق من قصيدة مدح بها الرشيد والغناء له ثاني ثقيل بالوسطى

وفيه لسليم ثقيل أول من رواية الهشامي وذكر حبش أنه لإبراهيم ابن المهدي قال فكان الناس يتهادون الطرفة والباكورة

وقال أبو العبيس حدثني ابن مخارق أن الواثق بعث إلى أبيه مخارق لما صنع إسحاق هذا الصوت ليلقيه عليه فصادفه عليلا ولم يكن أحد يلقن عن إسحاق طرح الغناء كما يلقنه مخارق فأعاد إليه الرسول ومعه محفة لا بد أن يجيء على كل حال فتحامل وصار إليه حتى أخذ الصوت عن إسحاق ورجع

وذكر محمد بن الحسين الكاتب عن أبي حارثة الباهلي عن أخيه أبي معاوية

أن إسحاق كان يتحلى بالشجاعة والفروسية ويحب أن ينسب إليهما ويركب الخيل ويتعلم بها آفة من الآفات المعترضة على العقول

وكان قد شهد بعض مشاهد الحروب فأصابه سهم فنكص على عقبيه فقال أخوه طياب فيه

( وأنت تكلّفتَ ما لا تُطيق ... وقلتَ أنا الفارسُ المَوْصِلِي )

( فلمّا أصابتك نُشَّابةٌ ... رجعت إلى سنّك الأوّل )

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق قال

قال حمزة الزيات القارئ يا موصلي إن لي فيك رأيا أفترضى

 

مع فهمك وأدبك ورأيك أن يكون عوضك من الآخرة فضل مطعم على مطعم

حدثني علي بن سليمان الأخفش قال أنشدني أبو سعيد السكري قال أنشدني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي لعمه يقول لإسحاق

( أئنْ تَغنّيتَ للشَّربِ الكرامِ ألا ... ردّ الخليط جمالَ الحيّ فانفرقوا )

( وقيل أحسنتَ فاستدعاك ذاك إلى ... ما قلتَ ويحك لا يَذهَبْ بك الخَرَقُ )

( وقيل أنت حُسَانُ الناسِ كلِّهمُ ... وابنُ الحُسانِ فقد قالوا وقد صدَقوا )

( فما بهذا تقوم النادياتُ ولا ... يُثْنَى عليك إذا ما ضَمَّك الخِرَقُ )

قال يحيى بن علي إن هذه الأبيات تروى لابن المنذر العروضي وللأصمعي

إسحاق والأصمعي

قال مؤلف هذا الكتاب كان إسحاق يأخذ عن الأصمعي ويكثر الرواية عنه ثم فسد ما بينهما فهجاه إسحاق وثلبه وكشف للرشيد معايبه وأخبره بقلة شكره وبخله وضعة نفسه وأن الصنيعة لا تزكو عنده ووصف له أبا عبيدة معمر بن المثنى بالثقة والصدق والسماحة والعلم وفعل مثل ذلك للفضل

 

ابن الربيع واستعان به ولم يزل حتى وضع مرتبة الأصمعي وأسقطه عندهم وأنفذوا إلى أبي عبيدة من أقدمه

أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

أنشدت الفضل بن الربيع أبياتا كان الأصمعي أنشدنيها في صفة فرس

( كأنه في الجُلِّ وهو سامِي ... مُشتمِلٌ جاء من الحَمّامِ )

( يَسُور بين السَّرْج واللِّجامِ ... سَوْر القَطَامِيّ إلى اليَمامِ )

قال ودخل الأصمعي فسمعني أنشدها فقال هات بقيتها فقلت له ألم تقل إنه لم يبق منها شيء فقال ما بقي منها إلا عيونها ثم أنشد بعد هذه الأبيات ثلاثين بيتا منها فغاظني فعله فلما خرج عرفت الفضل بن الربيع قلة شكره لعارفه وبخله بما عنده ووصفت له فضل أبي عبيدة معمر ابن المثنى وعلمه ونزاهته وبذله لما عنده واشتماله على جميع علوم العرب ورغبته فيه حتى أنفذ إليه مالا جليلا واستقدمه فكنت سبب مجيئه به من البصرة

أخبرني عمي قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق قال

جاء عطاء الملك بجماعة من أهل البصرة إلى قريب أبي الأصمعي وكان نذلا من الرجال فوجده ملتفا في كسائه نائما في الشمس فركضه برجله وصاح به يا قريب قم ويلك فقال له هل لقيت أحدا من أهل

 

العلم قط أو من أهل اللغة أو من العرب أم من الفقهاء أو من المحدثين قال لا والله قال ولا سمعت شيئا ترويه لنا أو تنشدناه أو نكتبه عنك قال لا والله فقال لمن حضر هذا أبو الأصمعي فاشهدوا لي عليه وعلى ما سمعتم منه لا يقل لكم غدا أو بعده حدثني أبي أو أنشدني أبي ففضحه

قال الفضل ثم مرض الأصمعي وكان الحال بينه وبين إسحاق الموصلي انفرجت فعاده أبو ربيعة وكان يرغب في الأدب ويبر أهله فقال له الأصمعي أقرضني خمسة آلاف درهم فقال أفعل

فقال له أبو ربيعة فأي شيء تشتهي سوى هذا فقال أشتهي أن تهدي إلي فصا حسنا وسيفا قاطعا وبردا حسنا وسرجا محلى فقال أفعل وبعث بذلك إليه لما عاد إلى منزله

وبلغ ذلك إسحاق فقال

( أليس من العجائب أنّ قِرْداً ... أُصَيْمِعَ باهِليًّا يستطيلُ )

( ويزعُم أنه قد كان يُفْتي ... أبا عمروٍ ويسأله الخليلُ )

( إذا ما قال قال أبي عجبنا ... لِما يأتي به ولِما يقولُ )

( وما إن كان يَدْرِي ما دَبِيرٌ ... أبوه إن سألتَ وما قَبِيلُ )

( وجَلَّله عطاءُ المُلْكِ عاراً ... تزول الراسياتُ ولا يزولُ )

 

( نصحتُ أبا ربيعةَ فيه جُهْدِي ... وبعضُ النصح أحياناً ثقيلُ )

( فقل لأبي رَبيعةَ إذ عصاني ... وجارَ به عن القصد السبيلُ )

( لقد ضاعتْ برودُك فاحتسبْها ... وضاع الفَصُّ والسيفُ الصقيلُ )

( وسرجٌ كان للبِرذَوْنِ زَيْناً ... له في إثْره جَزَعاً صهيلُ )

( وأمّا الخمسةُ الآلافِ فاعلمْ ... بأنّك غَبْنَها لا تستقبلُ )

( وأنّ قضاءها فَتَعزَّ عنها ... سيأتي دونه زمنٌ طويلُ )

حدثني محمد بن مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال

كنت جالسا بين يدي الواثق وهو ولي عهد إذ خرجت وصيفة من القصر كأنها خوط بان أحسن من رأته عيني قط تقدم عدة وصائف بأيديهن المذاب والمناديل ونحو ذلك فنظرت إليها نظر دهش وهو يرمقني

فلما تبين إلحاح نظري قال ما لك يا أبا محمد قد انقطع كلامك وبانت الحيرة فيك فتلجلجت فقال لي رمتك والله هذه الوصيفة فأصابت قلبك فقلت غير ملوم فضحك ثم قال أنشدني في هذا المعنى فأنشدته قول المرار

( أَلِكْنِي إليها عَمْرَك اللهَ يا فتى ... بآية ما قالت متَى هو رائحُ )

 

( وآيةِ ما قالت لهنّ عَشِيَّةً ... وفي السِّتر حُرّاتُ الوجوه مَلاَئحُ )

( تَخَيَّرْنَ أَرْماكُنّ فارْمِينَ رميةً ... أخا أسدٍ إذ طرّحتْه الطوارحُ )

( فَلبَّسْنَ مِسْلاَسَ الوِشَاحِ كأنها ... مَهَاةٌ لها طِفْلٌ برُمَّانَ راشِحُ )

فقال له الواثق أحسنت بحياتي وظرفت اصنع فيها لحنا فإن جاء كما نريد وأطربنا فالوصيفة لك فصنعت فيه لحنا وغنيته إياه فاصطبح عليه وشرب بقية يومه وليلته حتى سكر ولم يقترح علي غيره وانصرفت بالجارية

يغني الواثق وهو خاثر النفس فيهش إليه

حدثني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال

دخلت على الواثق يوما وهو خاثر النفس فأخذت عودا من الخزانة ووقفت بين يديه فغنيته

( من الظباءِ ظباءٌ هَمُّها السُّخُبُ ... نرعَى القلوبَ وفي قلبي لها عُشُبُ )

( أهَوى الظباءَ اللواتي لا قُرونَ لها ... وحليها الدُّرُّ والياقوتُ والذهبُ )

( لا يَغْتَرِبْنَ ولا يسكُنَّ باديةً ... وليس يَعْرفن ما صَرٌّ ولا حَلَبُ )

 

( وفي الذين غَدَوْا نفسي الفداءُ لهم ... شمسٌ تَبَرقعُ أحياناً وتنتقبُ )

( يا حسنَ ما سَرَقتْ عيني وما انتهبتْ ... والعينُ تَسرِق أحياناً وتنتهبُ )

( إذا يدٌ سَرَقتْ فالقطعُ يلزمها ... والقطعُ في سَرَق العينين لا يجبُ )

قال فهش إلي ونشط ودعا بطعام خفيف وأكلنا واصطبح وأمر لي بمائة ألف درهم

وأخبرني به الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن علي بن الحسن عن إبراهيم بن محمد الكرخي عن إسحاق فذكر مثله وقال فيه فأمر لي بعشرة آلاف درهم

حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله بن طاهر عن أخيه محمد قال

كان إسحاق الموصلي يدخل في مبطنة وطيلسان مثل زي الفقهاء على المأمون فسأله أن يأذن له في دخول المقصورة يوم الجمعة بدراعة سوداء وطيلسان أسود فتبسم المأمون وقال له ولا كل هذا بمرة يا إسحاق ولكن قد اشترينا منك هذه المسألة بمائة ألف درهم حتى لا تغتم وأمر بحملها إليه فحملت

حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني عبيد الله بن عبد الله قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن أبي خالد الأسلمي

أنه ذكر إسحاق يوما وكان يفضله ويعظم شأنه ويقدمه في الشعر تقديما مفرطا فقال ما قولكم في رجل محدث تشبه بذي الرمة وقال على لسانه

 

شعرا وغنى فيه ونسبه إليه فلم يشكك أحد سمعه أنه له ولا فطن لما فعل أحد إلا من حصل شعر ذي الرمة كله ورواه فسئل أبو خالد عن هذا الشعر فقال

( ومَدْرَجةٍ للريح تَيْهاءَ لم تكن ... ليَجْشَمَها زُمَّيْلةٌ غيرُ حازمِ )

( يَضِلّ بها السارِي وإن كان هادياً ... وتَقْطَعُ أنفاسَ الرياح النواسم )

( تَعَسَّفتُ أَفْرِي جَوْزَها بشِمِلَّةٍ ... بعيدةِ ما بين القَرَا والمَنَاسم )

( كأَنّ شِرَارَ المَرْوِ من نَبْذِها به ... نجومٌ هَوَتْ أخرى الليالي العواتم )

حدثني عمي وأحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا فضل اليزيدي عن إسحاق قال

غنيت المأمون يوما هذين البيتين

( لأحسنُ من قَرْعِ المَثَاني ورجعِها ... تَوَاتُر صوتِ الثغر يُقرَعُ بالثغرِ )

( وسكرُ الهوى أروَى لعظمِي ومَفْصِلي ... من الشُّرب في الكاسات من عاتق الخمر )

فقال لي المأمون ألا أخبرك بأطيب من ذلك وأحسن الفراغ والشباب والجدة

حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال

 

كان لإسحاق غلام يقال له فتح يستقي الماء لأهل داره على بغلين من بغاله دائما فقال إسحاق قلت له يوما أي شيء خبرك يا فتح قال خبري أنه ليس في هذه الدار أحد أشقى مني ومنك قلت وكيف ذلك قال أنت تطعم أهل الدار الخبز وأنا أسقيهم الماء فاستظرفت قوله وضحكت منه ثم قلت له فأي شيء تحب قال تعتقني وتهب لي البغلين أستقي عليهما فقلت له قد فعلت

أخبرني أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال

كان لأبي البصير الشاعر قيان وكان يتكلم في الغناء بغير علم ولا صواب فيضحك منه فقال أبي فيه

( سكتُّ عن الغناء فما أُمارِي ... بصيراً لا ولا غيرَ البصيرِ )

( مخافةَ أن أُجنِّن فيه نفسي ... كما قد جُنَّ فيه أبو البصير )

الرشيد ينهاه عن الغناء

أخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

نهاني الرشيد أن أغني أحدا غيره ثم استوهبني جعفر بن يحيى وسأله أن يأذن لي في أن أغنيه ففعل واتفقنا يوما عند جعفر بن يحيى وعنده أخوه الفضل والرشيد يومئذ بعقب علة قد عوفي منها وليس يشرب فقال لي الفضل انصرف إلي الليلة حتى أهب لك مائة ألف درهم فقلت له إن الرشيد قد نهاني ألا أغني إلا له أو لأخيك وليس يخفى عليه خبري وأنا متهم عنده بالميل إليكم ولست أتعرض له ولا أعرضك ولم أجبه

فلما نكبهم الرشيد قال إيه يا إسحاق تركتني بالرقة وجلست ببغداد تغني للفضل بن يحيى فحلفت بحياته أني ما جالسته قط إلا على المذاكرة

 

والحديث وأنه ما سمعني قط أغني إلا عند أخيه جعفر وحلفت بتربة المهدي أن يسأل عن هذا جميع من في الدار من نسائه فسأل عنه فحدثنه بمثل ما ذكرته له وعرف خبر المائة الألف الدرهم التي بذلها لي فرددتها عليه

فلما دخلت عليه ضحك إلي ثم قال قد سألت عن أمرك فعرفت منه مثل ما عرفتني وقد أمرت لك بمائة ألف درهم عوضا مما بذله لك الفضل

حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن إسحاق أنه كان يقول الإسناد قيد الحديث فتحدث مرة بحديث لا إسناد له فسئل عن إسناده فقال هذا من المرسلات عرفا

حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون عن أبيه وحدثني عمي عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال

أنشدت الفضل بن يحيى قول أبي الحجناء نصيب مولى المهدي فيهم

صوت

( عند الملوكِ مَضَرَّةٌ ومنافعٌ ... وأرى البَرَامِكَ لا تَضُرُّ وتنفع )

( إنْ كان شرٌّ كان غيرُهم له ... أو كان خيرٌ فهو فيهم أجمع )

( إن العروقَ إذا استَسرّ بها الثَّرَى ... أشِرّ النباتُ بها وطابَ المَزْرَعُ )

( فإذا جَهِلْتَ من امرئ أعراقَه ... وقديمَه فانظر إل ما يصنع )

قال فقال كأنا والله لم نسمع هذا الشعر قط قد كنا وصلناه بثلاثين ألف درهم وإذا نجدد له الساعة صلة له ولك معه لحفظك الأبيات فوصلنا بثلاثين ألف درهم

 

المأمون يعتب عليه فيسترضيه بشعر

وأخبرني الصولي قال حدثني الحسن بن يحيى الكاتب أبو الجماز قال

عتب المأمون على إسحاق في شيء فكتب إليه رقعة وأوصلها إليه من يده ففتحها المأمون فإذا فيها قوله

( لا شيءَ أعظمُ من جُرْمي سوى أملي ... لحسن عفوك عن ذنبي وعن زَلَلي )

( فإنْ يكن ذا وذا في القَدْر قد عَظُما ... فأنت أعظمُ من جُرْمِي ومن أملي )

فضحك ثم قال يا إسحاق عذرك أعلى قدرا من جرمك وما جال بفكري ولا أخطرته بعد انقضائه على ذكري

إسحاق وابن بانة في مجلس الواثق

حدثني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال

خرجنا مع الواثق إلى القاطول للصيد ومعنا جماعة الجلساء والمغنين وفيهم عمرو بن بانة وعلويه ومخارق وعقيد وقدم إسحاق في ذلك الوقت فأخرجه معه فتصيد على القاطول ثم عاد فأكل وشرب أقداحا ثم أمر بالبكور إلى الصبوح فباكرنا واصطبحنا

فغنى عمرو بن بانة لحن إبراهيم الموصلي

صوت

( بلوتُ أمورَ الناس طُرًّا فأصبحتْ ... مُذَمَّمةً عندي بَرَاءً من الحمدِ )

 

( وأصبح عندي من وَثِقتُ بغَيْبه ... بَغِيضَ الأيادِي كلُّ إحسانه نَكْدُ )

ولحنه خفيف رمل بالوسطى فغناه على ما أخذه من إبراهيم بن المهدي وقد غيره

فقال الواثق لإسحاق أتعرف هذا اللحن فقال نعم هذا لحن أبي ولكنه مما زعم إبراهيم بن المهدي أنه جندره وأصلحه فأفسده ودمر عليه فقال له غنه أنت فغناه فأتى به على حقيقته واستحسنه الواثق جدا فغم ذلك عمرو بن بانة فقال لإسحاق أفأنت مثل إبراهيم بن المهدي حتى تقول هذا فيه قال لا والله ما أنا مثله أما على الحقيقة فأنا عبده وعبد أبيه وليس هذا مما نحن فيه وأما الغناء فما دخولك أنت بيننا فيه ما أحسنت قط أن تأخذ فضلا عن أن تغني ولا قمت بأداء غناء فضلا عن أن تميز بين المحسنين وإلا فغن أي صوت شئت مما أخذته عنه وعن غيره كائنا من كان فإن لم أوضح لك ولمن حضر أنه لا يسلم لك صوت من نقصان أجزاء وفساد صنعة فدمي به رهن فأساء عمرو الجواب وأغلظ في القول فأمضه الواثق وشتمه وأمر بإقامته عن مجلسه فأقيم

فلما كان من الغد دخل إسحاق على الواثق فأنشده

( ومجلسٍ باكرتُه بُكورا ... والطيرُ ما فارقتِ الوُكُورا )

( والصبحُ لم يِستنطقِ العُصفورا ... على غَديرٍ لم يكن دُعْثُورا )

( لم تَرَ عيني مثلَه غَديرا ... يجري حَبَابُ مائة مَسْجُورا )

( على حصًى تَحْسَبُه كافورا ... تسمع للماء به خَريرا )

( يَنْسِجُ أعلَى مَتْنِه سطورا ... نسيمُ ريحٍ قد وَنَتْ فُتورا )

( حتى تخالَ متَنه حَصيرا ... والشَّربُ قد حَفُّوا به حُضورا )

( وأمروا الساقيَ أن يُديرا ... كأسَهمُ الأصغرَ والكبيرا )

 

( وأعملوا البّمَّ معاً والزِّيرا ... وجاوبتْ عيدانُهم زَميرا )

( وقرّبوا المُغَنِّيَ النِّحْرِيرا ... مُقَدَّماً في حِذْقه مشهورا )

( فهم يطيرون به سرورا ... ولا ترى في شُربهم تقصيرا )

( ولا لِصفْو عيشهم تكديرا ... ولا لخُلْقٍ منهمُ نظيرا )

( إلاّ رُجَيْلاً منهمُ سِكِّيرا ... مُعَرْبِداً مُوَضِّحاً شِرِّيرا )

( مُدَّعِياً للعلم مستعيرا ... يروم سعياً كاذباً مغرورا )

( وأن يكون عالماً بصيرا ... مُفَضَّلاً بعلمه مذكورا )

( غَمَزْتُه ولم يكن صَبورا ... فعاذ منِّي هارباً مذعورا )

( بمعسرٍ تحسَبُهم حَميرا ... أشدّ منهم حُمُقاً كثيرا )

( لا ينطِقون الدهرَ إلا زُورا ... حتّى إذا كَسَّرتُه تكسيرا )

( كالليث لمّا ضَغَم الخِنْزِيرا ... وَلَّى انهزاماً خاسئاً مدحورا )

( معترفاً بذَلِّه مقهورا ... وكنتُ قِدْماً ضيغماً هَصُورا )

( معتلياً لقِرْنِه عَقورا ... وما أخاف الزمنَ العَثُورا )

( إذ كنتُ بالواثق مستجيرا ... قد عَزّ مَنْ كان له نصيرا )

( إمامُ عَدلٍ دَبَّر الأُمورا ... برأيه ولم يُرِدْ مُشيرا )

( ترى من الحقِّ عليه نورا ... تَقَبَّلَ المَهْدِيَّ والمنصورا )

( وَجدَّه الأدنى تُقىً وخِيرا ... وَرَّثه المعتصم التدبيرا )

( فأصبح الملك به مُنيرا ... وأصبح العدلُ به منشورا )

( قد أمِنَ الناسُ به المحظورا ... إذا علاَ المِنْبَرَ والسريرا )

( رأيت بدراً طالعاً منيرا ... بحراً ترى الغَنِيَّ والفقيرا )

( يرجون منه نائلاً غزيرا ... واللهِ لا زلتُ له شَكورا )

 

( لا جاحِدَ النُّعْمَى ولا كَفُورا ... وكنتُ بالشكر له جديرا )

حدثني الصولي قال حدثني ميمون بن هارون قال سمعت إسحاق يقول

أنشدني الأصمعي قول الأعشى

( إن تركبوا فركوبُ الخيلِ عادتُنا ... أو تنزلون فإنّا معشرٌ نُزُلُ )

ثم قلت له أي شيء تحفظ في هذا المعنى وكان مع بخله بالعلم لا يبخل بمثل هذا فأنشدني لربيعة بن مقروم الضبي

( ولقد شَهِدتُ الخيلَ يوم طِرَادِها ... بسَلِيم أوْظِفَةِ القوائم هَيْكَلِ )

( فدعَوْا نَزَالِ فكنت أوّلَ نازل ... وعلامَ أركبُه إذا لم أَنزِلِ )

حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد ابن محمد بن مروان قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال

اجتمعنا يوما إما قال في منزلي أو في منزل محمد بن الحارث بن بسخنر ودخلنا ودخل إلينا إسحاق الموصلي وعندنا ملاحظ تغنينا وقد قامت الصلاة فدخل إسحاق وهي غائبة فقال فيم كنتم ومن عندكم فأخبرناه

 

بخبرها فقال لا تعرفوها من أنا فيخرجها التصنع لي والتحفظ مني عن طبعها ولكن دعوها وهواها حتى ننتفع بها وخرجت وهي لا تعرفه وجلست كما كانت أولا وابتدأت وغنت والصنعة لفليح بن أبي العوراء ولحنه رمل

هكذا أخبرنا إسحاق أن الغناء لفليح

صوت

( إنّي تَعلَّقْتُ ظبياً شادناً خَرِقاً ... عُلِّقتُه شِقوةً منّي وما عَلِقَا )

قال فطرب إسحاق وشرب حتى والى بين خمسة أقداح من نبيذ شديد كان بين يديه وهو يستعيدها فأخذ إسحاق دواة وكتب

( سأشرب ما دامت تغنِّي ملاحظُ ... وإن كان لي في الشَّيْب عن ذاك واعِظُ )

( ملاحظُ غنِّينا بعيشك وليكن ... عليك لما استحفظتُه منك حافظ )

( فأُقسم ما غنَّى عِناءَك مُحْسِنٌ ... مُجِيدٌ ولم يَلْفِظ كلَفْظك لافظ )

( وفي بعض هذا القولِ منّي مَساءةٌ ... وغيظٌ شديد للمغنِّين غائظ )

إسحاق يحدث الرشيد عن البرامكة فيزجره

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني إسحاق قال

قال لي الرشيد يوما بأي شيء يتحدث الناس قلت يتحدثون بأنك تقبض على البرامكة وتولي الفضل بن الربيع الوزارة فغضب وصاح بي وما أنت وذاك ويلك فأمسكت

فلما كان بعد أيام دعا بنا فكان أول شيء غنيته

صوت

( إذا نحن صَدَقْنَاكَ ... فضَرّ عندك الصدقُ )

( طلبنا النفعَ الباطِل ... ِ إذ لم يَنفع الحقُّ )

 

( فلو قَدَّم صبًّا في ... هواه الصبرُ والرِّفقُ )

( لقُدّمتُ على الناس ... ولكنّ الهوى رزقُ )

في هذه الأبيات خفيف رمل بالوسطى ينسب إلى إسحاق وإلى ابن جامع والصحيح أنه لإسحاق

وقيل إن الشعر لأبي العتاهية قال

فضحك الرشيد وقال لي يا إسحاق قد صرت حقودا

أخبرني الحسن قال حدثنا يزيد بن محمد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال

دخلت على المعتصم يوما بسر من رأى فإذا الواثق بين يديه وعنده علويه ومخارق فغناه مخارق صوتا فلم ينشط له ثم غناه علويه فأطربه

فلما رأيت طربه لغناء علويه دون غناء مخارق اندفعت فغنيته لحني

صوت

( تَجَنَّبتَ ليلَى أن يَلِجَّ بك الهوى ... وهيهات كان الحبُّ قبل التجنُّبِ )

فأمر لي بألف دينار ولعلويه بخمسمائة دينار ولم يأمر لمخارق بشيء

نسبة هذا الصوت

صوت

( تَجَنَّبتَ ليلَى أن يَلِجَّ بك الهوى ... وهيهات كان الحبُّ قبل التجنُّب )

( إلا إنّما غادرتِ يا أٌمَّ مالكٍ ... صَدًى أينما تَذهَبْ به الريحُ يَذْهَبِ )

الشعر للمجنون

والغناء لإسحاق ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق

وغنى ابن جامع في هذين البيتين وبيتين آخرين أضافهما إليهما ليسا من هذا الشعر هزجا بالبنصر

والبيتان المضافان

==============================================

ج11. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

 

( بَرَى اللَّحمَ عن أحناءِ عظمي ومَنْكبِي ... هَوًى لسُلَيمى في الفؤاد المعذَّبِ )

( وإني سعيدٌ أَنْ رأتْ لكِ مرّة ... من الدّهر عيني منزلاً في بَنِي أبي )

أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال

غنى علويه بين يدي الواثق يوما

صوت

( خليلٌ لي سأهجُرُه ... لذنبٍ لستُ أذكُرُه )

( ولكنَي سأرعاه ... وأكتُمه وأستُره )

( وأُظهِرُ أنّني راضٍ ... وأَسكُتُ لا أُخَبِّرُه )

( لكي لا يعلمَ الواشي ... بما عندي فأَكسِرُه )

الشعر والغناء لإسحاق هزج بالوسطى قال فطرب الواثق طربا شديدا واستحسن اللحن وأمر لعلويه بألف دينار ثم قال أهذا اللحن لك قال لا يا أمير المؤمنين هو لهذا الهزبر يعني إسحاق قال وكان إسحاق حاضرا فضحك الواثق وقال قد ظلمناه إذا وأمر لإسحاق بثلاثين ألف درهم

أخبرنا علي بن عبد العزيز الكاتب عن عبيد الله بن عبد الله بن خرداذبه عن أبيه قال

كان إسحاق عند الفتح بن الحجاج الكرخي وعلويه حاضر فغناه علويه حاضر

صوت

( عَلِقتُكِ ناشئاً حتّى ... رأيتِ الرأسَ مُبْيَضَّا )

( على يُسْرٍ وإعسارٍ ... وفَيْض نوالِكم فَيْضا )

 

( ألاَ أحبِب بأرضٍ كنت ... ِ تحتَلِّينَها أرضا )

( وأهلَكِ حبَّذا ما هم ... وإن أَبدَوْا لِيَ البُغضَا )

الشعر لابن أذينة

والغناء لابن سريج ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق

وفيه لإسحاق هزج خفيف مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق أيضا

وفيه للأبجر ثقيل أول ولإبراهيم الموصلي رمل جميع ذلك عن الهشامي

قال فغناه إياه في الثقيل ثم غناه هزجا فقال له الفتح لمن الثقيل فقال لابن سريج قال فلمن الهزج قال لهذا الهزبر يعني إسحاق فقال له الفتح ويلك يا إسحاق أتعارض ثقيل ابن سريج بهزجك قال فقبض إسحاق على لحيته ثم قال على ذلك فوالله ما فاتني إلا بتحريكه الذقن

المعتصم يخطئ في شعر فيصوبه له

أخبرني الحسن قال حدثني يزيد بن محمد قال حدثني إسحاق قال

دخلت يوما على المعتصم وعنده إسحاق بن إبراهيم بن مصعب واستدناني فدنوت منه واستدناني فتوقفت خوفا من أن أكون موازيا في

 

المجلس لإسحاق بن إبراهيم ففطن المعتصم فقال إن إسحاق لكريم وإنك لم تستنزل ما عند الكريم بمثل إكرامه

ثم تحدثنا وأفضت بنا المذاكرة إلى قول أبي خراش الهذلي

( حَمِدتُ إلهي بعد عُرْوةَ إذ نجا ... خِراشٌ وبعضُ الشرّ أهونُ من بعض )

فأنشدها المعتصم إلى آخرها وأنشد فيها

( ولم أَدْرِ مَنْ أَلْقَى عليه رِداءَه ... سوى أنه قد حُطّ عن ماجدٍ مَحْضِ )

والرواية قد بزعن ماجد محض فغلطت وأسأت الأدب فقلت يا أمير المؤمنين هذه رواية الكتاب وما أخذ عن المعلم والصحيح بز عن ماجد محض فقال لي نعم صدقت وغمزني بعينه يحذرني من إسحاق وفطنت لغلطي فأمسكت وعلمت أنه قد أشفق علي من بادرة تبدر من إسحاق لأنه كان لا يحتمل مثل هذا في الخلفاء من أحد حتى يعظم عقوبته ويطيل حبسه كائنا من كان فنبهني رحمه الله على ذلك حتى أمسكت وتنبهت

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال قال عبيد الله بن معاوية قال عمرو ابن بانة

كنا عند المأمون فقال ما أقل الهزج في الغناء القديم وقال

 

إسحاق ما أكثره ثم غناه نحو ثلاثين صوتا في الهزج القديم

فقلت لأصحابي هذا الذي تزعمون أنه قليل الرواية

أخبرنا يحيى قال حدثنا أبي عن إسحاق قال

قال لي العباس بن جرير قاتلك الله مذكر فطنة ومؤنث طبيعة ما أمكرك

حدثنا يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يزيد بن محمد عن إسحاق قال

أنشدت بعض الأعراب شعرا لي أقول فيه

( أجَرَتْ سوابقُ دمعِك المُهْرَاقِ ... لمّا جرى لك سانحٌ بِفرَاقِ )

( إنّ الظعائنَ يومَ ناصِفةِ اللِّوَى ... هاجتْ عليك صبابةَ المُشتاق )

( لم أَنْسَ إذ ألْمَحْنَنَا في رِقْبةٍ ... منهنّ بيضَ ترائبٍ وتَرَاقِ )

( وأشَرْن إذ ودَّعْنَنا بأناملٍ ... حُمْرٍ كهُدّاب الدِّمَقْسِ رِقاقِ )

( ورَمَتْك هندٌ يوم ذاك فأقْصَدَتْ ... بأَغَرَّ عَذْبٍ باردٍ بَرّاق )

( وتنفّست لمّا رأتك صبابةً ... نَفَساً تصعَّد في حَشًى خَفَّاق )

( ولقد حَذِرتُ فما نجوت مَسَلَّما ... حتى صُرِعتُ مَصارعَ العُشَّاق )

 

( إنّ الخلافة أُثبتتْ أوتادُها ... لمّا تحمّلها أبو إسحاق )

( مَلِكٌ أعزُّ يلوح فوق جَبينه ... نورُ الخلافة ساطعَ الإِشراق )

( كُسِي الجلالَ مع الجمال وزَانَه ... هُدْيُ التُّقى ومكارمُ الأخلاق )

( صَحَّت عروقُك في الجِياد وإنما ... يجري الجرادُ بصحّة الأعراق )

( ذخَر الملوكُ فكان أكثرُ ذُخْرهم ... للمُلك ما جمعوا من الأوْراق )

( وذخَرتَ أبناءَ الحروب كأنهم ... أُسْدُ العَرينِ على مُتون عِتاق )

( كم من كريمةِ مَعْشَرٍ قد أُنكِحتْ ... بسيوفهم قَسْراً بغير صَداق )

( وعزيزةٍ في أهلها وقَطِينها ... قد فارقت بَعْلاً بغير طلاق )

قال فقال لي أفليت والله يا أبا محمد فقلت له وما أفليت قال رعيت فلاة لم يرعها أحد غيرك

إذا حضر إسحاق أصبح المغنون أقل من التراب

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثني أخي أحمد بن علي عن عافية بن شبيب قال

قلت لزرزور بن سعيد حدثني عن إسحاق كيف كان يصنع إذا حضر معكم عند الخليفة وهو منقطع ذاهب وحلوقكم ليس مثلها في الدنيا فقال كان والله لا يزال بحذقه ورفقه وتأنيه ولطفه حتى نصير معه أقل من التراب

أخبرنا يحيى قال حدثني أبي قال حدثنا إسحاق قال

دخلت على الفضل بن الربيع فقال لي يا إسحاق كثر والله شيبك فقلت أنا وذاك أصلحك الله كما قال أخو ثقيف

 

( الشيبُ إن يَظْهَرْ فإنّ وراءه ... عمراً يكون خِلالَه مُتَنَفَّسُ )

( لم يَنْتَقِصْ منّي المشيبُ قُلامةً ... ولَنَحْنُ حِين بدا ألَبُّ وأكيسُ )

قال هات يا غلام دواة وقرطاسا أكتبهما لي لأتسلى بهما

أخبرنا يحيى قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه وأخبرني الحسن بن علي عن يزيد بن محمد بن عبد الملك عن إسحاق قال

قال الفضل بن يحيى لأبي مالي لا أرى إسحاق عرفني ما خبره فقال خير

ورأى في كلامه شيئا يشكك فقال أعليل هو فقال لا ولكنه جاءك مرات فحجبه نافذ الخادم ولحقته جفوة فقال له فإن حجبه بعدها فلينكه

فجاءني أبي فقال لي القه فقد سأل عنك وخبرني بما جرى

وجئت فحجبت أيضا وخرج الفضل ليركب فوثبت إليه برقعة وقد كتبت فيها

( جُعِلتُ فداءَك من كلّ سوءٍ ... إلى حسن رأيك أشكو أُناسا )

( يحولون بيني وبين السلام ... فما إن أُسلِّم إلاّ اختلاسا )

( وأنفَذتُ أمرَك في نافذٍ ... فما زاده ذاك إلا شِمَاسا )

فلما قرأها ضحك حتى غلب ثم قال أو قد فعلتها يا فاسق فقلت لا والله يا سيدي وإنما مزحت فخجل نافذ خجلا شديدا ولم يعد بعد ذلك لمساءتي

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا أبو أيوب المديني عن محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق قال

 

ذكر المعتصم يوما بعض أصحابه وقد غاب عنه فقال تعالوا حتى نقول ما يصنع في هذا الوقت فقال قوم يلعب بالنرد وقال قوم يغني فبلغتني النوبة فقال قل يا إسحاق قلت إذا أقول وأصيب قال أتعلم الغيب قلت لا ولكني أفهم ما يصنع وأقدر على معرفته قال فإن لم تصب قلت فإن أصبت قال لك حكمك وإن لم تصب قلت لك دمي قال وجب قلت وجب قال فقل قلت يتنفس قال فإن كان ميتا قلت تحفظ الساعة التي تكلمت فيها فإن كان مات فيها أو قبلها فقد قمرتني فقال قد انصفت قلت فالحكم قال احتكم ما شئت قلت ما حكمي إلا رضاك يا أمير المؤمنين قال فإن رضاي لك و قد أمرت لك بمائة ألف درهم أترى مزيدا فقلت ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين قال فإنها مائتا ألف درهم أترى مزيدا قلت ما أحوجني إلى ذلك يا أمير المؤمنين قال فإنها ثلثمائة ألف أترى مزيدا قلت ما أولاك بذلك يا أمير المؤمنين قال يا صفيق الوجه ما نزيدك على هذا شيئا

إسحاق يمدح سفينة محمد المخلوع

أخبرنا يحيى قال حدثني أبو أيوب قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق قال

عمل محمد المخلوع سفينة فأعجب بها وركب فيها يريد الأنبار

فلما أمعن وأنا مقبل على بعض أبواب السفينة صاحوا إسحاق إسحاق

 

فوثبت فدنوت منه فقال لي كيف ترى سفينتي فقلت حسنة يا أمير المؤمنين عمرها الله ببقائك

فقام يريد الخلاء وقال لي قل فيها أبياتا فقلت وخرج فقمت في الأبيات فاشتهاها جدا وقال لي أحسنت يا إسحاق وحياتك لأهبن لك عشرة آلاف دينار قلت متى يا أمير المؤمنين إذا وسع الله عليك فضحك ودعا بها على المكان

ولم يذكر يحيى في خبره الأبيات

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

غنيت الواثق في شعر قلته وأنا عنده بسر من رأى وقد طال مقامي واشتقت إلى أهلي وهو

صوت

( يا حَبّذا ريحُ الجَنوبِ إذا بدتْ ... في الصبح وهي ضعيفةُ الأنفاسِ )

( قد حُمِّلتْ بردَ النَّدَى وتَحمّلَتْ ... عَبَقاً من الجَثْجَاثِ والبَسْبَاسِ )

فشرب عليه واستحسنه وقال لي يا أبا محمد لو قلت مكان يا حبذا ريح الجنوب يا حبذا ريح الشمال ألم يكن أرق وأعذى وأصح للأجساد وأقل وخامة وأطيب للأنفس فقلت ما ذهب علي ما قاله أمير المؤمنين ولكن التفسير فيما بعد فقال قل فقلت

( ماذا تَهِيج من الصَّبَابة والهوى ... للصَّبِّ بعد ذهوله والياسِ )

فقال الواثق إنما استطبت ما تجيء به الجنوب من نسيم أهل بغداد لا الجنوب وإليهم اشتقت لا إليها فقلت أجل يا أمير المؤمنين وقمت

 

فقبلت يده فضحك وقال قد أذنت لك بعد ثلاثة أيام فامض راشدا وأمر لي بمائة ألف درهم

لحن إسحاق هذا من الثقيل الأول

جعفر بن يحيى البرمكي وعبد الملك بن صالح الهاشمي

أخبرني يحيى بن علي قال حدثني أبي عن إسحاق قال

لم أر قط مثل جعفر بن يحيى كانت له فتوة وظرف وأدب وحسن غناء وضرب بالطبل وكان يأخذ بأجزل حظ من كل فن من الأدب والفتوة

فحضرت باب أمير المؤمنين الرشيد فقيل لي إنه نائم فانصرفت فلقيني جعفر بن يحيى فقال لي ما الخبر فقلت أمير المؤمنين نائم فقال قف مكانك ومضى إلى دار أمير المؤمنين فخرج إليه الحاجب فأعلمه أنه نائم فخرج إلي وقال لي قد نام أمير المؤمنين فسر بنا إلى المنزل حتى نخلو جميعا بقية يومنا وتغنيني وأغنيك ونأخذ في شأننا من وقتنا هذا قلت نعم فصرنا إلى منزله فطرحنا ثيابنا ودعا بالطعام فطعمنا وأمر بإخراج الجواري وقال لتبرزن فليس عندنا من تحتشمن منه

فلما وضع الشراب دعا بقميص حرير فلبسه ودعا بخلوق فتخلق به ثم دعا لي بمثل ذلك وجعل يغنيني وأغنيه ثم دعا بالحاجب فتقدم إليه وأمره بألا يأذن لأحد من الناس كلهم وإن جاء رسول أمير المؤمنين أعلمه أنه مشغول واحتاط في ذلك وتقدم فيه إلى جميع الحجاب والخدم ثم قال إن جاء عبد الملك فأذنوا له يعني رجلا كان يأنس به ويمازحه ويحضر خلواته ثم أخذنا في شأننا فوالله إني لعلى حالة سارة عجيبة إذ رفع الستر وإذا عبد الملك بن صالح الهاشمي قد أقبل وغلط الحاجب ولم يفرق بينه وبين الذي يأنس به جعفر بن يحيى

وكان عبد الملك بن صالح الهاشمي من جلالة القدر والتقشف وفي الامتناع من منادمة أمير المؤمنين على أمر جليل وكان

 

أمير المؤمنين قد اجتهد به أن يشرب معه أو عنده قدحا فلم يفعل ذلك رفعا لنفسه

فلما رأيناه مقبلا أقبل كل واحد منا ينظر إلى صاحبه وكاد جعفر أن ينشق غيظا

وفهم الرجل حالنا فأقبل نحونا حتى إذا صار إلى الرواق الذي نحن فيه نزع قلنسيته فرمى بها مع طيلسانه جانبا ثم قال أطعمونا شيئا فدعا له جعفر بالطعام وهو منتفخ غضبا وغيظا فطعم ثم دعا برطل فشربه ثم أقبل إلى المجلس الذي نحن فيه فأخذ بعضادتي الباب ثم قال اشركونا فيما أنتم فيه فقال له جعفر ادخل ثم دعا بقميص حرير وخلوق فلبس وتخلق ثم دعا برطل ورطل حتى شرب عدة أرطال ثم اندفع ليغنينا فكان والله أحسننا جميعا غناء

فلما طابت نفس جعفر وسري عنه ما كان به التفت إليه فقال له ارفع حوائجك فقال ليس هذا موضع حوائج فقال لتفعلن ولم يزل يلح عليه حتى قال له أمير المؤمنين علي واجد فأحب أن تترضاه قال فإن أمير المؤمنين قد رضي عنك فهات حوائجك فقال هذه كانت حاجتي قال ارفع حوائجك كما أقول لك قال علي دين فادح قال هذه أربعة آلاف ألف درهم فإن أحببت أن تقبضها فاقبضها من منزلي الساعة فإنه لم يمنعني من إعطائك إياها إلا أن قدرك يجل على أن يصلك مثلي ولكني ضامن لها حتى تحمل من مال أمير المؤمنين غدا فسل أيضا قال ابني تكلم أمير المؤمنين حتى ينوه باسمه قال قد ولاه أمير المؤمنين مصر وزوجه ابنته العالية ومهرها ألفي ألف درهم

قال إسحاق فقلت في نفسي قد سكر الرجل أعني جعفرا

فلما أصبحت لم تكن لي همة إلا حضور دار الرشيد وإذا جعفر ابن يحيى قد بكر ووجدت في الدار جلبة وإذا أبو يوسف القاضي ونظراؤه قد دعي بهم ثم دعي بعبد الملك بن صالح وابنه فأدخلا على الرشيد

 

فقال الرشيد لعبد الملك إن أمير المؤمنين كان واجدا عليك وقد رضي عنك وأمر لك بأربعة آلاف ألف درهم فاقبضها من جعفر بن يحيى الساعة

ثم دعا بابنه فقال اشهدوا أني قد زوجته العالية بنت أمير المؤمنين وأمهرتها عنه ألفي ألف درهم من مالي ووليته مصر

قال فلما خرج جعفر ابن يحيى سألته عن الخبر فقال بكرت على أمير المؤمنين فحكيت له ما كان منا وما كنا فيه حرفا حرفا ووصفت له دخول عبد الملك وما صنع فعجب لذلك وسر به ثم قلت له قد ضمنت له عنك يا أمير المؤمنين ضمانا فقال ما هو فأعلمته قال أوف له بضمانك وأمر بإحضاره فكان ما رأيت

أخبرني عمي قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال

لما صنعت لحني في

( هل إلى نظرة إليكِ سبيلُ ... )

ألقيته على علويه وجاءني رسول أبي بطبق فاكهة باكورة فبعثت إليه برك الله يا أبة ووصلك الساعة أبعث إليك بأحسن من هذه الباكورة فقال إني أظنه قد أتى بآبدة فلم يلبث أن دخل عليه علويه فغناه الصوت فعجب منه وأعجب به وقال قد أخبرتكم أنه قد أتى بآبدة

ثم قال لولده أنتم تلومونني على تفضيل إسحاق ومحبتي له والله لو كان ابن غيري لأحببته لفضله فكيف وهو ابني وستعلمون أنكم لا تعيشون إلا به

وقد ذكر أبو حاتم الباهلي عن أخيه أبي معاوية بن سعيد بن سلم أن هذه القصة كانت لما صنع إسحاق لحنه في

( غَيّضْنَ من عَبَراتهن وقلن لي ... )

 

وقد ذكرت ذلك مع أخبار هذا الصوت في موضعه

رأي إسحاق في إبراهيم بن المهدي

حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحيى قال

سألت إسحاق عن إبراهيم بن المهدي فقال دعني منه فليست له رواية ولا دراية ولا حكاية

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني فضل اليزيدي عن إسحاق قال

كانت هشيمة الخمارة جارتي وكانت تخصني بأطيب الشراب وجيده فماتت فقلت أرثيها

( أضحتْ هُشَيْمةُ في القبور مقيمةً ... وخلتْ منازلُها من الفِتيانِ )

( كانت إذا هجَرَ المحبَّ حبيبُه ... دَبّت له في السرّ والإِعلان )

( حتى يَلينَ لما تُريد قيادَه ... ويصيرَ سيِّئُه إلى الإِحسان )

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

سألني إدريس بن أبي حفصة حاجة فقضيتها له وزدت فيما سأل فقال لي

( إذا الرجالُ جَهِلوا المكارمَا ... كان بها ابنُ الموصليّ عالمَا )

( أبقاك ذو العرش بقاءً دائماً ... فقد جُعِلتَ للكرام خاتما )

( إسحاقُ لو كنتَ لقِيتَ حاتما ... كان نَدَاه لنَداك خادما )

قال حماد وقال لي أبي كان إدريس سخيا من بين آل أبي حفصة فنزل به ضيف فتنمرت امرأته عليه فقال لها

( مِن شرّ أيّامك اللاّتي خُلقْتِ لها ... إذا فقدتِ نَدَى صوتي وزُوّاري )

 

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال

كان علي بن هشام قد دعاني ودعا عبد الله بن محمد بن أبي عيينة فتأخرت عنه حتى اصطبحنا شديدا وتشاغلت عنه برجل من الأعراب كان يجيئني فأكتب عنه وكان فصيحا وكان عند علي بن هشام بعض ما يعاديني فسألوا ابن أبي عيينة أن يعاتبني بشعر ينسبني فيه إلى الخلف فكتب إلي

( يا مَلِيَّا بالوعد والخُلْف والمطل بَطيئاً عن دعوة الأصحابِ )

( لَهِجاً بالأعراب إنّ لدينا ... بعضَ ما تشتهي من الأعراب )

( قد عَرَفنا الذي شُغِلت به عنّا ... وإن كان غيرَ ما في الكتاب )

قال فكتبت إلى الذي حمل ابن أبي عيينة على هذه الأبيات قال حماد وأظنه إبراهيم بن المهدي

( قد فَهمتُ الكتابَ أصلحك اللّهُ وعندي عليه رَدُّ الجوابِ )

( ولعَمْري ما تُنصفون ولا كان ... الذي جاء منكُم في حسابي )

( لستُ آتِيك فاعملنَّ ولا لي ... فيك حظٌّ من بعدِ هذا الكتاب )

قال حماد قال أبي وكتبت إلى علي بن هشام وقد اعتللت أياما فلم يأتني رسوله

( أنا عليلٌ منذُ فارقتَني ... وأنت عمّن غاب لا تسألُ )

( ما هكذا كنتَ ولا هكذا ... فيما مضى كنتَ بنا تفعلُ )

فلما وصلت إليه رقعتي ركب إلي وجاءني عائدا

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال

 

لما خرج أبي إلى البصرة خرجته الأولى وعاد أنشدني في ذلك لنفسه

صوت

( ما كنتُ أعرِف ما في البين من حَزَنِ ... حتى تَنادَوْا بأن قد جِيء بالسُّفُنِ )

( قامتْ تودّعني والعينُ تَغْلِبها ... فَجَمْجَمَت بعضَ ما قالت ولم تُبِنِ )

( مالت عليّ تُفدِّيني وتَرْشُفُني ... كما يَميل نسيمُ الرّيح بالغُصُن )

( وأعرضْت ثم قالت وهي باكيةٌ ... يا ليت معرفتي إيّاك لم تكُن )

( لمّا افترقنا على كُرَهٍ لفُرقتها ... أيقنتُ أنّي رهينُ الهمِّ والحَزِنَ )

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال

أنشدني شداد بن عقبة لجميل

( قِفِي تَسْلُ عنكِ النفسُ بالخُطّةِ التي ... تُطيلين تخويفي بها ووعيدي )

( فقد طالما من غير شكوى قبيحةٍ ... رضِينا بحكمٍ منكِ غيرِ سديدِ )

قال فأنشدت الزبير بن بكار هذين البيتين فقال لو لم أنصرف من العراق إلا بهما لرأيتهما غنما

وأنشدني شداد لجميل أيضا

( بُثّيْن سَلِيني بعضَ مالي فإنما ... يُبَيَّن عند المال كلُّ بخيلِ )

( فإني وتَكراري الزيارةَ نحوَكم ... لَبَيْن يَدَيْ هَجرٍ بُثّيْن طويلِ )

قال أبي فقلت لشداد فهلا أزيدك فيهما فقال بلى فقلت

 

( فيا ليتَ شِعْرِي هل تقولين بعدنا ... إذا نحن أزْمَعنا غداً لرَحيلِ )

( ألا ليت أياماً مَضَيْنَ رواجعٌ ... وليت النَّوَى قد ساعدتْ بجميلِ )

فقال شداد أحسنت والله وإن هذا الشعر لضائع فقلت وكيف ذلك قال نفيته على نفسك بتسميتك جميلا فيه ولم يلحق بجميل فضاع بينكما جميعا

إسحاق بن إبراهيم وإسحاق المصعبي

حدثني جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال حدثني إسحاق الموصلي قال

دعاني إسحاق بن إبراهيم المصعبي وكان عبد الله بن طاهر عنده يومئذ فوجه إلي فخضرت وحضر علويه ومخارق وغيرهما من المغنين فبينا هم على شرابهم وهم أسر ما كانوا إذ وافاه رسول أمير المؤمنين فقال أجب فقال السمع والطاعة ودعا بثيابه فلبسها

ثم التفت إلى محمد بن راشد الخناق فقال لله قد بلغني أنك أحفظ الناس لما يدور في المجالس فاحفظ لي كل صوت يمر وما يشربه كل إنسان حتى إذا عدت أعدت علي الأصوات وشربت ما فاتني فقال نعم أصلح الله الأمير

ومضى إلى المأمون فأمره بالشخوص إلى بابك من غد وتقدم إليه فيما يحتاج إليه ورجع من عنده

فلما دخل ووضع ثيابه قال يا محمد ما صنعت فيما تقدمت به إليك قال قد أحكمته أعزك الله ثم أخبره بما شرب القوم وما استحسنوه من الغناء بعده فأمر أن يجمع له أكثر ما شربه واحد منهم في فدح وأن يعاد عليه صوت صوت مما حفظه له حتى يستوفى ما فاته القوم

 

به ففعل ذلك وشرب حتى استوفى النبيذ والأصوات

ثم قال لي يا أبا محمد إني قد علمته في منصرفي من عند أمير المؤمنين أبياتا فاسمعها فقلت هاتها أعز الله الأمير فأنشدني

صوت

( ألاَ مَنْ لقلبٍ مُسْلَمٍ للنوائبِ ... أحاطت به الأحزانُ من كلّ جانبِ )

( تَبَيْن يومَ البين أنّ اعتزامه ... على الصبر من بعض الظنون الكواذب )

صوت

( حرامٌ على رامي فؤادِي بسهمه ... دمٌ صبّه بين الحَشَى والترائبِ )

( أراق دماً لولا الهوى ما أراقه ... فهل بدَمِي من ثائرٍ أو مُطالِب )

قال فقلت له ما سمعت أحسن من هذا الشعر قط فقال لي فاصنع فيه فصنعت فيه لحنا وأحضرني وصيفة له فألقيته عليها حتى أخذته وقال إنما أردت أن أتسلى به في طريقي وتذكرني به الجارية أمرك إذا غنته

فكان كلما ذكر أتاني بره إلى أن قدم عدة دفعات

لم أجد لإسحاق صنعة في هذا الشعر والذي وجدت فيه لعبد الله بن طاهر خفيف رمل ذكره ابنه عبيد الله عنه

ولمخارق لحن من الرمل

ولعمرو بن بانة هزج بالوسطى

ولمخارق والطاهرية خفيف ثقيل

حدثني جحظة قال حدثني أبو عبد الله محمد بن حمدون قال

سأل المتوكل عن إسحاق الموصلي فعرف أنه قد كف وأنه في منزله ببغداد فكتب في إحضاره

فلما دخل عليه رفعه حتى أجلسه قدام السرير وأعطاه مخدة وقال له بلغني أن المعتصم دفع إليك مخدة في أول يوم جلست بين يديه وهو خليفة وقال إنه لا يستجلب ما عند حر بمثل

 

الكرامة ثم سأله هل أكل فقال نعم فأمر أن يسقى فلما شرب أقداحا قال هاتوا لأبي محمد عودا فجيء به فاندفع يغني بصوت الشعر فيه والغناء له

صوت

( ما علّةُ الشيخ عيناه بأربعةٍ ... تَغْرَوْرِقان بدَمع ثم تَنْسكِبُ )

قال أبو عبد الله فوالله ما بقي غلام من الغلمان الوقوف على الحير إلا وجدته يرقص طربا وهو لا يعلم بما يفعل فأمر له بمائة ألف درهم

ثم قال لي المتوكل يابن حمدون أتحسن أن تغنيني هذا الصوت فقلت نعم قال غنه فترنمت به فقال إسحاق من هذا الذي يحكيني فقال هذا ابن صديقك حمدون فقال وددت أنه يحسن أن يحكيني فقلت له أنت عرضتني له يا أمير المؤمنين

ثم انحدر المتوكل إلى رقة بوصرا وكان يستطيبها لكثرة تغريد الأطيار بها فغنى إسحاق

صوت

( أأن هتَفتْ وَرْقاءُ في رَوْنق الضُّحَى ... على غُصُنٍ غَضِّ الشباب من الرَّنْدِ )

( بكيتَ كما يبكي الحزين صبابةً ... وشوقا وتابعتَ الحَنِينَ إلى نجد )

فضحك المتوكل وقال له يا إسحاق هذه أخت فعلتك بالواثق لما

 

غنيته بالصالحية

( طَرِبتُ إلى الأُصَيْبِية الصِّغارِ ... وذكَّرني الهوى قربُ المزَارِ )

فكم أعطاك لما أذن لك في الانصراف قال مائة ألف درهم فأمر له بمائة ألف درهم وأذن له بالانصراف إلى بغداد

وكان هذا آخر عهدنا به لأن إسحاق توفي بعد ذلك بشهرين

حدثني جحظة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال

دخلت على الواثق أستأذنه في الانحدار إلى بغداد فوجدته مصطبحا فقال بحياتي غن

صوت

( ألا إن أهلَ الدار قد ودّعوا الدارَا ... وإن كان أهلُ الدار في الحيّ أَجْوارَا )

( وقد تركوا قلبي حزيناً متَّيماً ... بذكرهمُ لو يَستطيع لقد طارَا )

فتطيرت من اقتراحه له وغنيته إياه فشرب عليه مرارا وأمر لي بثلاثين ألف درهم وأذن لي فانصرفت ثم كان آخر عهدي به

الشعر لمطيع بن

 

إياس

والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو

حدثني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا عبد الله بن الفرج قال حدثنا أحمد بن معاوية قال

كنت في بيتي وعلويه يغنيني

صوت

( أَعْرَضْنَ من شَمَطٍ في الرأس لاح به ... فهُنّ عنه إذا أبصرْنَه حِيدُ )

( قد كُنّ يَعهَدْنَ منّي مَنظَراً حَسَناً ... وجُمَةً حَسَرتْ عنها العناقيدُ )

فوردت علي رقعة من إسحاق الموصلي يستسقيني نبيذا فبعثت إليه بدن مع غلام لي فلما توسط الغلام به الجسر زحم فكسر فرجع الغلام إلى إسحاق فأخبره الخبر وسأله مسألتي التجافي عنه فكتب إلي

( يا أحمد بن معاوَيهْ ... إنِّي رُميت بداهيَهْ )

( أشكو إليك فأَشْكِني ... كَسْرَ الغلامِ الخابيَهْ )

( يا ليتها سلمتْ وكان ... فداءَها ابنُ الزانيَهْ )

فبعثت إليه بأربعة أدنان وأعتقت الغلام بشفاعته في أمره

عجز المغنين عن أخذ صوته

أخبرني جعفر بن قدامة ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق

 

الموصلي قال قال لي حمدون بن إسماعيل رحمه الله

لما صنع أبوك رحمه الله هذا الصوت

صوت

( قِفْ بالديار التي عفا القِدَمُ ... وغيَّرتْها الأرواحُ والدِّيَمُ )

( لمّا وقَفْنا بها نُسائلها ... فاضتْ من القوم أعيُنٌ سُجُمُ )

( ذِكْراً لعيشٍ مضى إذا ذكرت ... ما فات منه فذكره سَقَمُ )

( وكلُّ عيش دامَتْ غَضَارتُه ... مُنقطِعٌ مرّةً ومُنْصَرِمُ )

ولحنه ثقيل أول أعجب به المعتصم والواثق جميعا فقال له المعتصم بحياتي اردده على مخارق وعلويه والجماعة ليأخذوه عنك وانصحهم فيه فإنهم إن أحسنوا فيه نسب إليك إحسانهم وإن أساؤوا بان فضلك عليهم فرده عليهم أكثر من مائتي مرة وكانوا يقصدون إلى منزله ويرده عليهم ومات وما أخذوا منه علم الله إلا رسمه

الشعر والغناء لإسحاق ولحنه ثقيل أول

الرشيد وإسحاق في الرقة ودير القائم

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال

خرجنا مع الرشيد يريد الرقة فلما صرنا بالموضع الذي يقال له القائم نزلنا وخرج يتصيد وخرجنا معه فأبعد في طلب الصيد ولاح

 

لي دير فقصدته وقد تعبت فأشرفت على صاحبه فقال هل لك في النزول بنا اليوم فقلت أي والله وإني إلى ذلك لمحتاج فنزل ففتح لي الباب وجلس يحدثني وكان شيخا كبيرا وقد أدرك دولة بني أمية فجعل يحدثني عمن نزل به من القوم ومواليهم وجيوشهم وعرض علي الطعام فأجبته فقدم إلي طعاما من طعام الديارات نظيفا طيبا فأكلت منه وأتاني بشراب وريحان طري فشربت منه ووكل بي جارية تخدمني راهبة لم أر أحسن وجها منها ولم أشكل فشربت حتى سكرت ونمت وانتبهت عشاء فقلت في ذلك

صوت

( بدَيرْ القائِم الأقصَى ... غزالٌ شادِنٌ أَحْوَى )

( بَرَى حُبِّي له جِسْمِي ... ولا يَعْلَمُ ما ألقَى )

( وأكتُمُ حبَّه جُهدِي ... ولا واللهِ ما يَخْفَى )

وركبت فلحقت بالمعسكر والرشيد قد جلس للشرب وطلبني فلم أوجد

وأخبرت بذلك فغنيت في الأبيات ودخلت إليه فقال لي أين كنت ويحك فأخبرته بالخبر وغنيته الصوت فطرب وشرب عليه حتى سكر وأخر الرحيل في غد ومضينا إلى الدير ونزله فرأى الشيخ واستنطقه ورأى الجارية التي كانت تخدمني بالأمس فدعا بطعام خفيف فأصاب منه ودعا بالشراب وأمر الجارية التي كانت بالأمس تخدمني أن

 

تتولى خدمته وسقيه ففعلت وشرب حتى طابت نفسه ثم أمر للدير بألف دينار وأمر باحتمال خراجه له سبع سنين فرحلنا

قال حماد فحدثني أبي قال فلما صرنا بتل عزاز من دابق خرجت أنا وأصحاب لي نتنزه في قرية من قراها فأقمنا بها أياما وطلبني الرشيد فلم يجدني

فلما رجعت أتيت الفضل بن الربيع فقال لي أين كنت طلبك أمير المؤمنين فأخبرته بنزهتنا فغضب

وخفت من الرشيد أكثر مما لقيت من الفضل فقلت

صوت

( إنّ قلبي بالتَّلِّ تلِّ عَزَازِ ... عند ظَبْيٍ من الظِّباء الجَوَازِي )

( شادِنٍ يسكُنُ الشآمَ وفيه ... مع ظَرْف العراق شِكْلُ الحجاز )

( يا لَقَوْمِي لبنت قَسٍّ أصابتْ ... منك صفوَ الهوى وليست تُجازِي )

( حَلَفتْ بالمسيح أن تُنْجِزَ الوعد ... َ وليستْ تَهُمُّ بالإِنجاز )

وغنيت فيه ثم دخلت على الرشيد وهو مغضب فقال أين كنت طلبتك فلم أجدك فاعتذرت إليه وأنشدته هذا الشعر وغنيته إياه فتبسم وقال عذر وأبيك وأي عذر وما زال يشرب عليه ويستعيدنيه ليلته جمعاء حتى انصرفنا مع طلوع الفجر

فلما وصلت إلى رحلي إذا برسول أمير المؤمنين قد أتانا يدعونا فوافيت فدخلت وإذا ابن جامع

 

يتمرغ على دكان في الدار وهو سكران يتململ فقال لي يابن الموصلي أتدري ما جاء بنا فقلت لا والله ما أدري فقال لكني والله أدري دراية صحيحة جاءت بنا نصرانيتك الزانية عليك وعليها لعنة الله

وخرج الآذن فأذن لنا فدخلنا

فلما رأيت الرشيد تبسمت فقال لي ما يضحكك فأخبرته بقول ابن جامع فقال صدق ما هو إلا أن فقدتكم فاشتقت إلى ما كنا فيه فعودوا بنا فعدنا فيه حتى انقضى مجلسنا وانصرفنا

لحن إسحاق

( بدَير القائمِ الأقصى ... )

خفيف ثقيل بالوسطى

وفيه للقاسم بن زرزور ثقيل أول

ولحنه في

( إنْ قلبي بالتَّلّ تلّ عَزَازِ ... )

خفيف رمل

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد عن أبيه قال

دخلت على الرشيد يوما في عمامة قد كورتها على رأسي فقال ما هذه العمامة كأنك من الأنبار

فلما كان من غد دعا بنا إليه فأمهلت حتى دخل المغنون جميعا قبلي ثم دخلت عليه في آخرهم وقد شددت وسطي بمشدة حرير أحمر ولبست لباسا مشتهرا وأخذت بيدي صفاقتين وأقبلت أخطر وأضرب بالصفاقتين و أغني

( اسمعْ لصوتٍ مليحٍ ... من صنعه الأنباري )

( صوتٍ خفيفٍ ظريفٍ ... يطيرُ في الأوتارِ )

فبسط يده إلي حتى كاد يقوم وجعل يقول أحسنت وحياتي

 

أحسنت أحسنت حتى جلست ثم شرب عليه بقية يومه وما استعاد غيره وأمر لي بعشرين ألف درهم

لحن إسحاق في هذا الشعر هزج

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال

كنتُ عند الفضل بن الربيع فغنى بعض من كان عنده

صوت

( كلُّ شيء منكِ في عيني حَسَنْ ... ونَصِيبي منكِ همٌّ وحَزَنْ )

( لا تَظُنِّي أنه غيَّرني ... قِدَمُ العهد ولا طولُ الزمنْ )

فقال لي أتدري لمن هذا فقلت لبعض الطنبوريين فقال لا ولكنه لذلك الشيطان إسحاق

لحن إسحاق في هذين البيتين رمل بالوسطى من مجموع أغانيه

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال

لما خرجنا مع الرشيد إلى طوس كنت معه أسايره فاستسقيت ماء من منزل نزلناه يقال له سحنة فخرجت إلينا جارية كأنها ضبية فسقتني ماء فقلت هذا الشعر

صوت

( غزالٌ يَرْتَعِي جَنَباتِ وَادِ ... بَسحْنَةَ قد تمكَّنَ في فؤادِي )

( سقاني شَرْبةً كانت شِفاءً ... لِعِلَّةِ حائِمٍ حَرّانَ صادِي )

 

وغنيته الرشيد فقال لي أتحب أن أوزجكها فقلت نعم والله يا سيدي قال فاخطبها والمهر علي وما يصلحها فخطبتها فأبى أهلها أن يخرجوها من بلدهم

لحن إسحاق في هذين البيتين ثقيل أول

وفيه لعلويه خفيف رمل

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال

قال لي أبي ما اغتممت بشيء قط مثل ما اغتممت بصوت مليح صنعته في هذا الشعر

صوت

( كان لي قلبٌ أعيشُ به ... فاكتَوَى بالنارِ فاحتَرَقَا )

( أنا لم أُرْزَقْ مَحَبّتها ... إنما للعبد ما رُزِقَا )

( مَنْ يكن ما ذاقَ طعمَ رَدًى ... ذاقه لا شكَّ إن عَشِقَا )

فإني صنعت فيه لحنا وجعلت أردده في جناح لي سحرا فأظن أن إنسانا من العامة مر بي فسمعه فأخذه فبكرت من غد إلى المعتصم لأغنيه فإذا أنا بسواط يسوط الناطف وهو يغني اللحن بعينه إلا أنه غناء فاسد

فعجبت وقلت ترى من أين لهذا السواط هذا الصوت ولعلي إذ غنيته أن يكون قد مر بي هذا فسمعني أغنيه وبقيت متحيرا ثم قلت يا فتى ممن سمعت هذا الصوت فلم يجبني والتفت إلى شريكه وقال هذا يسألني ممن سمعته هذا غنائي والله لو سمعه إسحاق الموصلي لخرئ في سراويله فبادرت والله هاربا خوف أن يمر بي إنسان فيسمع ما جرى علي فأفتضح وما علم الله أني نطقت بذلك الصوت بعدها

 

حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق قال

كتب إبراهيم بن المهدي إلى أبي أي شيء تصحيف لا يريح مثل الأسنة

فكتب إليه أبي تصحيفه لا يرث جميل إلا بثينة فكتب إليه وي منك

أخبرنا جعفر قال حدثنا حماد عن أبيه قال

دخلت يوما على جعفر بن يحيى فرأى شفتي تتحركان بشيء كنت أعمله فقال أتدعو أم تصنع ماذا فقلت بل أمدح قال قل فقلت

صوت

( وكنتُ إذا إذنٌ عليك جَرَى لنا ... تجلَّى لنا وجهٌ أَغَرُّ وِسيمُ )

( علانِيةٌ محمودةٌ وسرِيرةٌ ... وفِعلٌ يَسُرُّ المُعْتَفِينَ كريمُ )

فاحتبسني وأمر لي بمال جليل وكسوة وقال زد البيتين حسنا بأن تصنع فيهما لحنا فصنعت لحنا من الثقيل الثاني فلم يزل يشرب عليهما حتى سكر

طفيلي مقترح

أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه أنه حدثه قال غدوت يوما وأنا ضجر من ملازمة دار الخلافة والخدمة فيها فخرجت وركبت بكرة وعزمت على أن أطوف الصحراء وأتفرج فقلت لغلماني إن جاء رسول الخليفة أو غيره فعرفوه أني بكرت في بعض مهماتي وأنكم لا

 

تعرفون أين توجهت ومضيت وطفت ما بدا لي ثم عدت وقد حمي النهار فوقفت في الشارع المعروف بالمخرم في فناء ثخين الظل وجناح رحب على الطريق لأستريح

فلم ألبث أن جاء خادم يقود حمارا فارها عليه جارية راكبة تحتها منديل دبيقي وعليها من اللباس الفاخر ما لا غاية بعده ورأيت لها قواما حسنا وطرفا فاترا وشمائل حسنة فخرصت عليها أنها مغنية فدخلت الدار التي كنت واقفا عليها

ثم لم ألبث أن جاء رجلان شابان جميلان فاستأذنا فأذن لهما فنزلا ونزلت معهما ودخلت فظنا أن صاحب الدار دعاني وظن صاحب الدار أني معهما فجلسنا وأتي بالطعام فأكلنا وبالشراب فوضع وخرجت الجارية وفي يدها عود فغنت وشربنا وقمت قومة وسأل صاحب المنزل الرجلين عني فأخبراه أنهما لا يعرفاني فقال هذا طفيلي ولكنه ظريف فأجملوا عشرته

وجئت فجلست وغنت الجارية في لحن لي

( ذكَرتُكِ أن مرَّتْ بنا أُمُّ شادِنٍ ... أمامَ المطايا تَشرئِبُّ وتَسْنَحُ )

 

( من المؤلِفاتِ الرمل أَدْماءُ حُرَّةٌ ... شُعَاعُ الضحى في مَتْنِها يَتَوَضّحُ )

فأدته أداء صالحا وشربت

ثم غنت أصواتا شتى وغنت في أضعافها من صنعتي

( الطُّلُولُ الدوارِسُ ... فارقَتْها الأوانِسُ )

( أَوْحشتْ بعد أهلها ... فهي قَفْرٌ بَسَابِسُ )

فكان أمرها فيه أصلح منه في الأول

ثم غنت أصواتا من القديم والحديث وغنت في أثنائها من صنعتي

( قُل لِمنَ صَدّ عاتِبَا ... ونأَى عنكَ جانبَا )

( قد بلَغْتَ الذي أَرَدت ... َ وإن كنتَ لاعِبَا )

فكان أصلح ما غنته فاستعدته منها لأصححه لها فأقبل علي رجل من الرجلين وقال ما رأيت طفيليا أصفق وجها منك لم ترض بالتطفيل حتى اقترحت وهذا غاية المثل طفيلي مقترح فأطرقت ولم أجبه وجعل صاحبه يكفه عني فلا يكف

ثم قاموا للصلاة وتأخرت قليلا فأخذت عود الجارية ثم شددت طبقته وأصلحته إصلاحا محكما وعدت إلى موضعي فصليت وعادوا ثم أخذ ذلك الرجل في عربدته علي وأنا صامت ثم أخذت الجارية العود فجسته وأنكرت حاله وقالت من مس عودي قالوا ما مسه أحد قالت بلى والله لقد مسه حاذق متقدم وشد طبقته وأصلحه إصلاح متمكن من صناعته فقلت لها أنا أصلحته قالت فبالله خذه وأضرب به فأخذته وضربت به مبدأ صحيحا ظريفا عجيبا صعبا فيه نقرات محركة فما بقي أحد منهم إلا وثب على قدميه وجلس بين يدي ثم قالوا بالله يا سيدنا أتغني فقلت نعم وأعرفكم

 

نفسي أنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي ووالله إني لأتيه على الخليفة إذا طلبني وأنتم تسمعونني ما أكره منذ اليوم لأني تملحت معكم فوالله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى تخرجوا هذا المعربد المقيت الغث فقال له صاحبه من هذا حذرت عليك فأخذ يعتذر فقلت والله لا نطقت بحرف ولا جلست معكم حتى يخرج فأخذوا بيده فأخرجوه وعادوا

فبدأت وغنيت الأصوات التي غنتها الجارية من صنعتي فقال لي الرجل هل لك في خصلة قلت ما هي قال تقيم عندي شهرا والجارية والحمار لك مع ما عليها من حلي قلت أفعل فأقمت عنده ثلاثين يوما لا يدري أحد أين أنا والمأمون يطلبني في كل موضع فلا يعرف لي خبرا

فلما كان بعد ثلاثين يوما أسلم إلي الجارية والحمار والخادم فجئت بذلك إلى منزلي وركبت إلى المأمون من وقتي فلما رآني قال إسحاق ويحك أين تكون فأخبرته بخبري فقال علي بالرجل الساعة فدللتهم على بيته فأحضر فسأله المأمون عن القصة فأخبره فقال له أنت رجل ذو مروءة وسبيلك أن تعاون عليها وأمر له بمائة ألف درهم وقال لا تعاشرن ذلك المعربد النذل البتة وأمر لي بخمسين ألف درهم وقال أحضرني الجارية فأحضرتها فغنته فقال لي قد جعلت لها نوبة في كل يوم ثلاثاء تغنيني وراء الستارة مع الجواري وأمر لها بخمسين ألف درهم

فربحت والله بتلك الركبة وأربحت

نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني

صوت

( ذكرتِك أن مرّتْ بنا أُم شادِنِ ... أمامَ المطايا تشرئبّ وتَسْنَحُ )

( من المؤلِفاتِ الرمل أدماءُ حُرَّةٌ ... شُعَاعُ الضُّحَى في مَتنِها يَتَوضَّحُ )

الشعر لذي الرمة

والغناء لإسحاق ثقيل أول بالسبابة والوسطى عن ابن المكي

ومن أغاني إسحاق

 

صوت

( قل لمن صَدّ عاتِبَا ... ونأَى عنك جانِبَا )

( قد بلَعْتَ الذي أردت ... َ وإن كنتَ لاعِبا )

الشعر والغناء لإسحاق

وقد تقدم خبره قبل هذه الأخبار

صوت

( الطُّلُولُ الدَّوارِسُ ... فارقَتْها الأَوانِسُ )

( أَوْحشتْ بعد أهلها ... فهي قَفْرٌ بَسَابِسُ )

الشعر لابن ياسين شاعر مجهول قليل الشعر كان صديقا لإسحاق

والغناء لإسحاق خفيف ثقيل

وهذا الصوت من أوابد إسحاق وبدائعه

أخبرني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال

كنت عند الواثق فغنته شجى التي وهبها له إسحاق هذا الصوت فقال لمخارق وعلويه والله لو عاش معبد ما شق غبار إسحاق في هذا الصوت فقالا له إنه لحسن يا أمير المؤمنين فغضب وقال ليس عندكما فيه إلا هذا ثم أقبل على أحمد بن المكي فقال دعني من هذين الأحمقين أول بيت في هذا الصوت أربع كلمات الطلول كلمة والدوارس كلمة وفارقتها كلمة والأوانس كلمة فانظر هل ترك إسحاق شيئا من الصنعة يتصرف فيه المغني لم يدخله في هذه الكلمات الأربع بدأ بها نشيدا وتلاه بالبسيط وجعل فيه صياحا وإسجاحا وترجيحا للنغم واختلاسا فيها وعمل هذا كله في أربع كلمات فهل سمعت أحدا تقدم أو تأخر فعل مثل هذا أو قدر عليه فقال صدق أمير المؤمنين قد لحق من قبله وسبق من بعده

 

الواثق وإسحاق في دير مريم

أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني إسحاق قال

لما خرجت مع الواثق إلى النجف درنا بالحيرة ومررنا بدياراتها فرأيت دير مريم بالحيرة فأعجبني موقعه وحسن بنائه فقلت

( نِعمَ المحلُّ لمن يسعَى لِلّذّته ... ديرٌ لمريمَ فوقَ الظهر معمورُ )

( ظِلُّ ظليلٌ وماءٌ غيرُ ذي أَسِنٍ ... وقاصِراتٌ كأمثال الدُّمَى حُورُ )

فقال الواثق لا نصطبح والله غدا إلا فيه وأمر بأن يعد فيه ما يصلح من الليل وباكرناه فاصطبحنا فيه على هذا الصوت وأمر بمال ففرق على أهل ذلك الدير وأمر لي بجائزة

لحن إسحاق في هذين البيتين ثاني ثقيل بالبنصر

إسحاق وعبد الله بن طاهر

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال

أخرج إلي عبد الله بن طاهر يوما بيتي شعر في رقعة وقال هذان

 

البيتان وجدتهما على بساط طبري أصبهبذي أهدي إلي من طبرستان فأحب أن تغنيني فيهما فقرأتهما فإذا هما

( لَجَّ بالعين واكفُ ... مِن هَوًى لا يُساعِفُ )

( كُلّما كفَّ غَرْبُها ... هَيّجتْه المعازِفُ )

قال فغنيت فيهما وغدوت بهما إليه فأعجب بالصوت ووصلني بصلة سنية وكان يشتهيه ويقترحه وطرحته على جميع جواريه وشاع خبر إعجابه به

فبينا المعتصم يوما جالس يعرض عليه فرش الربيع إذ مر بساط ديباج في نهاية الحسن عليه هذان البيتان ومعهما

( إنما الموتُ أن تفارقَ ... مَنْ أنت آلِفُ )

( لك حُبَّانِ في الفؤاد ... تَلِيدٌ وطارِفُ )

فأمر بالبساط فحمل إلى عبد الله بن طاهر وقال للرسول قل له إني قد عرفت شغفك بالغناء في هذا الشعر فلما وقع هذا البساط أحببت أن أتم سرورك به

فشكر عبد الله ما تأذى إليه من هذه الرسالة وأعظم مقداره وقال لي والله يا أبا محمد لسروري بتمام الشعر أشد من سروري بكل شيء فألحقهما في الغناء بالبيتين الأولين فألحقتهما

 

نسبة هذا الصوت

صوت

( لجَّ بالعين واكفُ ... مِن هوًى لا يُساعِفُ )

( كلّما كفَّ غَرْبُها ... هيَّجتْه المَعازِفُ )

( إنما الموتُ أن تُفارِق ... َ مَنْ أنتَ آلِفُ )

( لك حُبَّان في الفؤاد ... تَلِيدٌ وطارِفُ )

ولم أعرف من خبر شاعره غير ما ذكرته في هذا الخبر

والغناء لإسحاق هزج بالوسطى

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني عن ابن المكي عن أبيه قال

قلت لإسحاق يوما يا أبا محمد كم تكون صنعتك فقال ما بلغت مائتين قط

مرض إسحاق ووفاته

أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال

قال لي وكيل بن الحروني قلت لأبيك إسحاق يا أبا محمد كم يكون غناؤك قال نحوا من أربعمائة صوت

قال وقال له رجل بحضرتي ما لك لا تكثر الصنعة كما يكثر الناس قال لأني إنما أنقر في صخرة

ولإسحاق أخبار كثيرة قليلة الفائدة كثيرة الحشو طرحتها لذلك وله أخبار أخر حسن ذكرها في مواضع تليق بها فأخرتها واحتبستها عليها وفيما ذكرته ها هنا منها مقنع

 

وتوفي إسحاق ببغداد في أول خلافة المتوكل

فأخبرني الصولي قال ذكر إبراهيم بن محمد الشاهيني

أن إسحاق كان يسأل الله ألا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه فرأى في منامه كأن قائلا يقول له قد أجيبت دعوتك ولست تموت بالقولنج ولكنك تموت بضده فأصابه ذرب في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين فكان يتصدق في كل يوم أمكنه أن يصومه بمائة درهم ثم ضعف عن الصوم فلم يطقه ومات في شهر رمضان

أخبرنا الحسن بن علي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال

نعي إسحاق إلى المتوكل في وسط خلافته فغمه وحزن عليه وقال ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته ثم نعي إليه بعده أحمد ابن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فقال تكافأت الحالتان وقام الفتح بوفاة أحمد وما كنت آمن وثبته علي مقام الفجيعة بإسحاق فالحمد لله على ذلك

ما رثاه به الشعراء

أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني رجل من الكتاب من أهل

 

حذف

 

قطربل قال حدثني أبي عن أبيه قال رأيت فيما يرى النائم قائلا يقول لي

( مات الحُسَان ابن الحُسَان ... ِ ومات إحسانُ الزمانِ )

فأصبحت من غد فركبت في بعض حوائجي فتلقاني خبر وفاة إسحاق الموصلي

وقال إدريس بن أبي حفصة يرثي إسحاق بن إبراهيم الموصلي

( سقى اللهُ يابنَ الموصليّ بوابِلٍ ... من الغيث قبراً أنت فيه مقيمُ )

( ذهبتَ فأوحشتَ الكرامَ فمايَنِي ... بعَبْرته يَبْكي عليك كريم )

( إلى الله أشكو فقدَ إسحاق إنّني ... وإن كنت شيخاً بالعراق يَتيم )

وقال محمد بن عمرو الجرجاني يرثيه

( على الجَدَثِ الشرقيّ عُوجَا فسلِّما ... ببغداد لمّا ضَنّ عنه عوائدُهْ )

( وقُولاَ له لو كان للموت فِدْيةٌ ... فَداك من الموت الطَّريفُ وتالِدُه )

( أاِسحاقُ لا تَبْعَدْ وإن كان قد رمَى ... بك الموتُ وِرْداً ليس يَصْدُر واردُه )

( إذا هزَل اخضرّتْ فنونُ حديثه ... ورقّتْ حَواشِيه وطابت مَشاهدُه )

( وإن جَدّ كان القول جِدّاً وأقسمتْ ... مَخَارجُه ألاّ تَلينَ مَعاقِدُه )

( فبَكَّ على ابن الموصليّ بعَبْرةٍ ... كما ارْفَضَّ من نَظْم الجُمَان فرائدُه )

وقال مصعب بن عبد الله الزبيري يرثيه نسخت ذلك من كتاب جعفر بن قدامة وذكر أن حماد بن إسحاق أنشده إياها ونسخته أيضا

 

من كتاب الحرمي بن أبي العلاء يذكر فيه عن الزبير عن عمه مصعب أنه انشده لنفسه يرثي إسحاق

( أتَدْرِي لمن تَبْكي العيونُ الذَّوارِفُ ... ويَنْهَلُّ منها واكِفٌ ثم واكِفُ )

( نعمْ لامرئ لم يبقَ في الناس مثلُه ... مفيدٌ لعلم أو صديقٌ مُلاطِفُ )

( تجهَّز إسحاقٌ إلى الله غادياً ... فللَّه ما ضُمّتْ عليه اللفائفُ )

( وما حَمل النعشَ المزجَّى عشيَّةً ... إلى القبر إلا دامعُ العين لاهِفُ )

( صدورهُم مَرْضَى عليه عَميدةٌ ... لها أَزْمةٌ من ذكره وزَفازِفُ )

( ترى كلَّ محزون تفيض جفونُه ... دموعاً على الخدّين والوجهُ شاسِفُ )

( جُزِيتَ جزاءَ المحسنين مُضاعفاً ... كما كان جَدْواك النَّدى المتضاعِف )

( فكم لك فينا من خلائقَ جَزْلةٍ ... سبقَتَ بها منها حديثٌ وسالف )

( هي الشّهدُ أو أحلى إلينا حلاوةً ... من الشهد لم يمزُج به الماءَ غارِفُ )

( ذهبتَ وخلّيتَ الصديق بعَوْلةٍ ... به أسفٌ من حزنه مترادِفُ )

( إذا خَطَراتُ الذكر عاودْنَ قلبَه ... تتابع منهنّ الشؤونُ النوازف )

( حبيبٌ إلى الإِخوان يَرْزُون مالَه ... وآتٍ لما يأتي امرؤ الصدقِ عارف )

( هو المَنّ والسَّلْوى لمن يستفيده ... وسمٌّ على من يشرب السمّ زاعِف )

( بكت دارُه من بعده وتنكّرتْ ... مَعالمُ من آفاقِها ومعارف )

( فما الدار بالدار التي كنت أعترِي ... وإنّي بها لولا افتقادِيكَ عارف )

( هي الدار إلاّ أنّها قد تخشّعتْ ... وأَظْلم منها جانبٌ فهو كاسِف )

( وبان الجمال والفَعال كلاَهما ... من الدار واستَنَّتْ عليها العواصف )

( خلت دارُه من بعده فكأنما ... بعاقبةٍ لم يُغْنِ في الدار طارف )

 

( وقد كان فيها للصديق مُعَرَّسٌ ... وملتمَسٌ إن طاف بالدار طائف )

( كرامةُ إخوانِ الصفاء وزُلفةٌ ... لمن جاء تُزْجِيه إليه الرَّواجِف )

( صَحَابتُه الغُرّ الكرام ولم يكن ... ليَصْحبَه السُّودُ اللئام المَقارِف )

( يَؤول إليه كلّ أبلجَ شامخٍ ... ملوكٌ وأبناء الملوك الغَطارف )

( فلُقِّيتَ في يمنى يديْك صحيفةً ... إذا نُشرتْ يومَ الحساب الصحائف )

( يَسُرّ الذي فيها إذا ما بدا له ... ويَفْتَرُّ منها ضاحكاً وهو واقف )

( بما كان ميموناً على كلّ صاحب ... يُعين على ما نابه ويُكانِف )

( سريعٌ إلى إخوانه برضائه ... وعن كلّ ما ساء الأخِلاّءَ صارِف )

( أرى الناسَ كالنَّسْناس لم يبق منهمُ ... خلافَك إلا حُشوةٌ وزَعانِف )

أخبرنا يحيى بن علي قال أنشدني أبو أيوب لأحمد بن إبراهيم يرثي إسحاق في قصيدة له

( لقد طاب الحِمامُ غداةَ أَلُوَى ... بنفس أبي محمدٍ الحِمامُ )

( فلو قُبِل الفِداءُ إذاً فَدَتْه ... ملوكٌ كان يألفها كرامُ )

( فلا تَبْعَد فكلُّ فتىً سيَثْوِي ... عليه التُّرْبُ يُحْثَى والرِّجَامُ )

 

قال وقال أيضا يرثيه

( لله أيُّ فتىً إلى دار البِلَى ... حمَل الرجالُ ضُحىً على الأعوادِ )

( كم من كريم ما تَجِفُّ دموعُه ... من حاضرٍ يبكي عليه وبادِ )

( أمسى يؤبِّنه ويعرف فضلَه ... من كان يَثْلِبه من الحُسّاد )

( فسقتْكَ يابنَ الموصليّ روائحٌ ... تُرْوِي صداكَ بصَوْبها وغَوَادِ )

وقد بقيت من أخبار إسحاق بقايا مثل أخباره مع بني هاشم وأخباره مع إبراهيم بن المهدي وغيرها فإنها كثيرة ولها مواضع ذكرت فيها وحسن ذكرها هنالك فأخرتها لذلك عن أخباره التي ذكرت هاهنا حسبما شرطنا في أول الكتاب

ومما في المائة المختارة من صنعة إسحاق بن إبراهيم

صوت

( ألاَ قاتلَ اللهُ اللِّوَى من مَحَلّةٍ ... وقاتلَ دُنْيانا بها كيف ذلّت )

( غَنِينا زماناً باللِّوَى ثم أصبَحتْ ... عِراصُ اللِّوَى من أهلها قد تخلَّتِ )

عروضه من الطويل

الشعر للصمة القشيري والغناء لإسحاق ولحنه المختار ثقيل أول بالوسطى في مجراها

انتهى الجزء الخامس من كتاب الأغاني ويليه الجزء السادس وأوله أخبار الصمة القشيري ونسبه

 

أخبار الصمة القشيري ونسبه

هو الصمة بن عبد الله بن الطفيل بن قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار شاعر إسلامي بدوي مقل من شعراء الدولة الأموية

ولجده قرة بن هبيرة صحبة بالنبي وهو أحد وفود العرب الوافدين عليه

أخبرني بخبره عبيد الله بن محمد الرازي وعمي قالا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي وابن دأب وغيرهما من الوراة قالوا وفد قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة إلى النبي فأسلم وقال له يا رسول الله إنا كنا نعبد الآلهة لا تنفعنا ولا تضرنا فقال له رسول الله ( نعم ذا عقلا )

رواية زواجه

وقال ابن دأب وكان من خبر الصمة أنه هوي امرأة من قومه ثم من بنات

 

عمه دنية يقال لها العامرية بنت غطيف بن حبيب بن قرة بن هبيرة فخطبها إلى أبيها فأبى أن يزوجه إياها وخطبها عامر بن بشر بن أبي براء بن مالك بن ملاعب الأسنة بن جعفر بن كلاب فزوجه إياها

وكان عامر قصيرا قبيحا فقال الصمة ابن عبدالله في ذلك

( فإِنّ تُنْكِحوها عامراً لاطّلاعكم ... إليه يُدَهْدِهْكم برجليه عامرُ )

شبهه بالجعل الذي يدهده البعرة برجليه

قال فلما بنى بها زوجها وجد الصمة بها وجدا شديدا وحزن عليها فزوجه أهله امرأة منهم يقال لها جبرة بنت وحشي بن الطفيل بن قرة بن هبيرة فأقام عليها مقاما يسيرا ثم رحل إلى الشأم غضبا على قومه وخلف امرأته فيهم وقال لها

( كُلي التمرَ حتى تَهْرَمَ النخلُ واضفِرِي ... خِطَامَكَ ما تدرين ما اليومُ من أمسِ )

وقال فيها أيضا

( لَعَمْرِي لئن كنتم على النأي والقِلَى ... بكم مثلُ ما بي إنكم لصديقُ )

( إذا زَفَراتُ الحبّ صَعَّدن في الحَشَى ... رُدِدن ولم تُنْهَجْ لهنّ طريقُ )

وقال فيها أيضاً

( إذا ما أتتنا الريحُ من نحو أرضكم ... أتتنا برَيّاكم فطاب هبُوبُها )

 

( أأتتنا بريح المسك خَالَطَ عنبراً ... وريح الخُزَامَى باكرتْها جَنُوبُها )

وقال فيها أيضا

( هل تجْزِينّي العامريّةُ موقفي ... على نسوةٍ بين الحِمَى وغَضَى الجمرِ )

( مَرَرْنَ بأسباب الصِّبا فذكَرْنَها ... فأومأْتُ إذ ما من جواب ولا نُكْرِ )

وقال ابن دأب وأخبرني جماعة من بني قشير أن الصمة خرج في غزي من المسلمين إلى بلد الديلم فمات بطبرستان

قال ابن دأب وأنشدني جماعة من بني قشير للصمة

صوت

( أَلاَ تسألانِ الله أن يَسقَى الحِمَى ... بَلَى فَسَقَى اللهُ الحِمَى والمَطَالِيَا )

( وأسألُ من لاقيتُ هل مُطِر الحِمَى ... فهل يسألنْ عنّي الحمى كيف حاليا )

الغناء في هذين البيتين لإسحاق ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى وهو

 

من مختار الأغاني ونادرها

أخبرني محمد بن خلف وكيع وعمي قالا حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال قال عبد الله بن محمد بن إسماعيل الجعفري حدثنا عبد الله بن إسحاق الجعفري عن عبد العزيز بن أبي ثابت قال حدثني رجل من أهل طبرستان كبير السن قال بينا أنا يوما أمشي في ضيعة لي فيها ألوان من الفاكهة والزعفران وغير ذلك من الأشجار إذ أنا بإنسان في البستان مطروح عليه أهدام خلقان فدنوت منه فإذا هو يتحرك ولا يتكلم فأصغيت إليه فإذا هو يقول بصوت خفي

( تَعَزَّ بصبرٍ لا وَجَدِّك لا تَرَى ... بَشَامَ الحِمَى أُخْرَى الليالي الغُوَابِرِ )

( كأنّ فؤادي من تذكُّرِه الحِمَى ... وأهلَ الحِمَى يَهْفُو به ريشُ طائر )

قال فما زال يردد هذين البيتين حتى فاضت نفسه فسألت عنه فقيل لي هذا الصمة بن عبد الله القشيري

أخبرني عمي قال حدثنا الخراز أحمد بن الحارث قال كان ابن الأعرابي يستحسن قول الصمة

 

صوت

( أمَا وجلالِ الله لو تذكُرينني ... كذِكْرِيك ما كَفْكفتِ للعين مَدْمَعَا )

( فقالت بَلَى والله ذكراً لو أنّه ... يُصَبّ على صُمِّ الصَّفَا لتصدّعا )

غنى في هذين البيتين عبيد الله بن أبي غسان ثاني ثقيل بالوسطى

وفيهما لعريب خفيف رمل

( ولمّا رأيتُ البِشْرَ قد حال بيننا ... وجالتْ بناتُ الشوق في الصدر نُزَّعَا )

( تَلَفَّتُّ نحوَ الحيّ حتى وجدتُني ... وَجِعتُ من الإِصغاء لِيتاً وأخْدَعا )

أخبرني أبو الطيب بن الوشاء قال قال لي إبراهيم بن محمد بن سليمان الأزدي لو حلف حالف أن أحسن أبيات قيلت في الجاهلية والإسلام في الغزل قول الصمة القشيري ما حنث

( حَنَنتَ إلى رَيّا ونفسُك باعدتْ ... مَزَارَك من رَيّا وشَعْباكُما مَعا )

( فما حَسَنٌ أن تأتيَ الأمرَ طائعاً ... وتجزَعَ أَنْ داعي الصبابة أسمْعا )

( بكتْ عينيَ اليُمَنى فلما زجرتُها ... عن الجهل بعد الحلم أَسْبلتا معا )

صوت

( وأذكرُ أيّامَ الحِمَى ثم أنثني ... على كَبِدي من خشيةٍ أن تَصدّعا )

( فليست عشيّاتُ الحِمَى برَوَاجع ... عليك ولكن خَلِّ عينيك تَدْمَعَا )

 

غنت في هذين البيتين قرشية الزرقاء لحنا من الثقيل الأول عن الهشامي

وهذه الأبيات التي أولها حننت إلى ريا تروى لقيس بن ذريح في أخباره وشعره بأسانيد قد ذكرت في مواضعها ويروى بعضها للمجنون في أخباره بأسانيد قد ذكرت أيضا في أخباره

والصحيح في البيتين الأولين أنهما لقيس بن ذريح وروايتهما له أثبت وقد تواترت الروايات بأنهما له من عدة طرق والأخر مشكوك فيها أهي للمجنون أم للصمة

أنشدنا محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم للصمة القشيرعمي عن الكراني عن أبي حاتم وأنشدنيهما الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن أبي حاتم

( إذا نأتْ لم تُفارِقْني عَلاقتُها ... وإن دنتْ فصدود العاتب الزّارِي )

( فحال عينيَ من يَومَيْكِ واحدةٌ ... تبكي لفَرْطِ صدودٍ أو نَوَى دارِ )

شعره في محبوبته

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبيد الله بن إسحاق بن سلام قال حدثني أبي عن شعيب بن صخر عن بعض بني عقيل قال مررت بالصمة بن عبد الله القشيري يوما وهو جالس وحده يبكي ويخاطب نفسه ويقول لا والله ما صدقتك فيما قالت فقلت من تعني ويحك

 

أجننت قال أعني التي أقول فيها

( أمَا وجلالِ اللهِ لو تذكُرينني ... كذِكْرِيكِ ما كفكفتِ للعين مدمعا )

( فقالت بلى والله ذكراً لوَ أنّه ... يُصَبّ على صُمٍّ الصَّفَا لتَصدّعا )

أسلي نفسي عنها وأُخبرها أنها لو ذكرتني كما قالت لكانت في مثل حالي

أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عيسى ابن إسماعيل العبدي عن موسى بن عبد الله التيمي قال خطب الصمة القشيري بنت عمه وكان لها محبا فاشتط عليه عمه في المهر فسأل أباه أن يعاونه وكان كثير المال فلم يعنه بشيء فسأل عشيرته فأعطوه فأتى بالإبل عمه فقال لا أقبل هذه في مهر ابنتي فاسأل أباك أن يبدلها لك فسأل أباه فأبى عليه فلما رأى ذلك من فعلهما قطع عقلها وخلاها فعاد كل بعير منها إلى ألافه

وتحمل الصمة راحلا

فقالت بنت عمه حين رأته يتحمل تالله ما رأيت كاليوم رجلا باعته عشيرته بأبعرة ومضى من وجهه حتى لحق بالثغر فقال وقد طال مقامه واشتاقها وندم على فعله

( أتبكي على رَيّا ونفسْك باعدتْ ... مزَاركَ من رَيّا وشَعْباكُما معا )

( فما حسنٌ أن تأتي الأمرَ طائعا ... وتجزَعَ أنْ داعي الصبابة أًسمعا )

وقد أخبرني بهذا الخبر جعفر بن قدامة قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي أن الصمة خطب ابنة عمه هذه إلى أبيها فقال له لا أزوجكها إلا على كذا وكذا من الإبل فذهب إلى أبيه فأعلمه بذلك وشكا إليه ما

 

يجد بها فساق الإبل عنه إلى أخيه فلما جاء بها عدها عمه فوجدها تنقص بعيرا فقال لا آخذها إلا كاملة فغضب أبوه وحلف لا يزيده على ما جاء به شيئا

ورجع إلى الصمة فقال له ما وراءك فأخبره فقال تالله ما رأيت قط ألأم منكما جميعا وإني لألأم منكما إن أقمت بينكما ثم ركب ناقته ورحل إلى ثغر من الثغور فأقام به حتى مات وقال في ذلك

( أَمِنْ ذكر دارٍ بالرَّقَاشيْن أصبحتْ ... بها عاصفاتُ الصيف بَدْءاً ورُجَّعا )

( حننتَ إلى رَيّا ونفسُك باعدت ... مزارَك من ريا وشعباكُما معا )

( فما حسنٌ أن تأتي الأمرَ طائعاً ... وتجزَع أن داعي الصبابة أسمعا )

( كأنك لم تَشهَد وَدَاعَ مُفارِق ... ولم تَرَ شَعَبىْ صاحبين تقطّعا )

( بكت عينيَ اليسرى فلما زجرتُها ... عن الجهل بعد الحلم أسبَلَتا معا )

( تحمّل أهلي من قنين وغادروا ... به أهلَ ليلى حين جِيدَ وأَمْرعا )

( ألا يا خليلىّ اللذيْن تَواصيا ... بلوميَ إلاّ أن أُطيع وأَسمعا )

( قِفا إنه لا بدّ من رَجْع نظرة ... يَمانيّة شَتَّى بها القومُ أو معا )

 

( لِمُغتَصبٍ قد عَزّه القومُ أمرَه ... حياءً يَكُفّ الدمعَ أن يتطلَعا )

( تبَرَّضُ عينيه الصَّبابةُ كلَّما ... دنا الليل أو أَوْفَى من الأرض مَيْفَعا )

( فليستْ عشيَّاتُ الحِمَى برواجعٍ ... إليكَ ولكن خَلِّ عينيْك تَدْمَعا )

صوت

من المائة المختارة من رواية يحيى بن علي

( قُلْ لأسماء أَنْجزي المِيعادا ... وانظري أن تُزوِّدي منكِ زادا )

( إن تكوني حللتِ رَبْعاً من الشأم ... وجاورتِ حِمْيراً أو مرَادا )

( أو تناءَتْ بكِ النَّوَى فلقد قُدْتِ ... فؤادي لَحَيْنه فانقادا )

( ذاك أني عَلِقتُ منكِ جَوَى الحب ... وَليداً فزدتُ سِنّاً فزادا )

الشعر لداود بن سلم

والغناء لدحمان ولحنه المختار من الثقيل الأول بالوسطى

وقد كنا وجدنا هذا الشعر في رواية علي بن يحيى عن إسحاق منسوبا إلى المرقشين المرقش وطلبناه في أشعار المرقشين جميعا فلم نجده وكنا نظنه من شاذ

 

الروايات حتى وقع إلينا في شعر داود بن سلم وفي خبر أنا ذاكره في أخبار داود وإنما نذكر ما وقع إلينا عن رواته فما وقع من غلط فوجدناه أو وقفنا على صحته أثبتناه وأبطلنا ما فرط منا غيره وما لم يجر هذا المجرى فلا ينبغي لقارىء هذا الكتاب أن يلزمنا لوم خطأ لم نتعمده ولا اخترعناه وإنما حكيناه عن رواته واجتهدنا في الإصابة

وإن عرف صوابا مخالفا لما ذكرناه وأصلحه فإن ذلك لا يضره ولا يخلو به من فضل وذكر جميل إن شاء الله

 

أخبار داود بن سلم ونسبه

داود بن سلم مولى بني تيم بن مرة بن كعب بن لؤي ثم يقول بعض الرواة إنه مولى آل أبي بكر ويقول بعضهم إنه مولى آل طلحة

وهو مخضرم من شعراء الدولتين الأموية والعباسية من ساكني المدينة يقال له داود الآدم وداود الأرمك

وكان من أقبح الناس وجها

وكان سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف يستثقله فرآه ذات يوم يخطر خطرة منكرة فدعا به وكان يتولى المدينة فضربه ضربا مبرحا وأظهر أنه إنما فعل ذلك به من أجل الخطرة التي تخايل فيها في مشيته

فقال بعض الشعراء في ذلك وأظنه ابن رهيمة

( ضرب العادلُ سعدٌ ... ابنَ سلم في السَّماجَهْ )

( فقضَى اللهُ لسعد ... من أميرٍ كلَّ حاجه )

أخبرني محمد بن سليمان الطوسي قال حدثنا الزبير بن بكار قال سألت محمد بن موسى بن طلحة عن داود بن سلم هل هو مولاهم

 

فقال كذلك يقول الناس هو مولانا أبوه رجل من النبط وأمه بنت حوط مولى عمر بن عبيد الله بن معمر فانتسب إلى ولاء أمه

وفي ذلك يقول ويمدح ابن معمر

( وإذا دعا الجاني النصيرَ لنصره ... وارتْنيَ الغُرَرُ النصيرةُ مَعْمَرُ )

( مُتَخازرِين كأن أُسْدَ خَفِيّة ... بمقامها مستبسِلاتٌ تَزْأر )

( متجاسِرين بحمل كل مُلِمَّة ... متجبرِّين على الذي يتجبرَّ )

( عُسُلُ الرِّضَا فإِذا أردتَ خصامَهم ... خلَط السِّمَامَ بفيك صابٌ مُمقر )

( لا يَطْبَعون ولا تَرى أخلاقهم ... إلاَّ تطيبُ كما يطيب العنبر )

( رَفَعوا بَنَايَ بِعْتق حَوْطٍ دِنْيّةً ... جدِّي وفضلِهم الذي لا ينْكَرِ )

بعض من أوصافه

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال

 

كان داود بن سلم مولى بني تيم بن مرة وكان يقال له الآدم لشدة سواده وكان من أبخل الناس فطرقه قوم وهو بالعقيق فصاحوا به العشاء والقرى يا بن سلم فقال لهم لا عشاء لكم عندي ولا قرى قالوا فأين قولك في قصيدتك إذ تقول فيها

( يا دار هندٍ ألاَ حُيِّيتِ من دارِ ... لم أَقْضِ منكِ لُباناتي وأوطاري )

( عُوِّدتُ فيها إذا ما الضيفُ نَّبهني ... عَقْرَ العِشَار على يُسْرِي وإعساري )

قال لستم من أولئك الذين عنيت

قال ودخل على السري بن عبد الله الهاشمي وقد أصيب بابن له فوقف بين يديه ثم أنشده

( يا من على الأرض من عُجْم ومن عَرَبٍ ... استرْجِعوا خاستِ الدّنيا بَعبّاسِ )

( فُجِعت من سبعة قد كنتُ آمُلُهم ... من ضِنْء والدهم بالسيّد الرّاس )

قال وداود بن سلم الذي يقول

( قُلْ لأسماءَ أَنْجزي الميعادا ... وانظُري أن تزوِّدي منكِ زادَا )

( إن تكوني حَلَلْتِ ربعاً مَن الشأم ... وجاورت حِميراً أو مُرادا )

( أو تناءت بك النوَى فلقد قُدْتِ ... فؤادي لحَينه فانقادا )

 

( ذاكِ أني عَلِقتُ منكِ جَوَى الحبّ ... وَليداً فزدتُ سِناً فزادا )

قال أبو زيد أنشدنيها أبو غسان محمد بن يحيى وإبراهيم بن المنذر لداود ابن سلم

نسبة ما في هذا الخبر من الشعر الذي فيه غناء

صوت

( يا دارَ هند ألاَ حُيِّيتِ من دارِ ... لم أقْضِ منك لُباناتي واوطاري )

يتم وينسب

المادح المزجور

أخبرنا الطوسي قال حدثنا الزبير قال أخبرني مصعب بن عثمان قال دعا الحسن بن زيد إسحاق بن إبراهيم بن طلحة بن عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي أيام كان بالمدينة إلى ولاية القضاء فأبى عليه فحبسه فدعا مسرقين يسرقون له مغسلا في السجن وجاء بنو طلحة فانسجنوا معه

وبلغ ذلك الحسن بن زيد فأرسل إليه فأتي به فقال إنك تلاججت علي وقد حلفت ألا أرسلك حتى تعمل لي فأبرر يميني ففعل فأرسل الحسن معه جندا حتى جلس في المسجد مجلس القضاء والجند على رأسه فجاءه داود بن سلم فوقف عليه فقال

( طلبوا الفقه والمروءةَ والحِلْمَ ... وفيك اجتمعنَ يا إسحاقُ )

فقال ادفعوه فدفعوه فنحي عنه فجلس ساعة ثم قام من مجلسه فأعفاه الحسن بن زيد من القضاء فلما سار إلى منزله أرسل إلى داود بن سلم بخمسين دينارا وقال للرسول قل له يقول لك مولاك ما حملك على أن تمدحني بشيء أكرهه استعن بهذه على أمرك

 

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير ابن بكار قال حدثني محرز بن سعيد قال بينما سعد بن إبراهيم في مسجد النبي يقضي بين الناس إذ دخل عليه زيد بن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر ومعه داود بن سلم مولى التيميين وعليهما ثياب ملونة يجرانها فأومأ أن يؤتى بهما فاشار إليه زيد أن اجلس فجلس بالقرب منه وأومأ إلى الآخر أن يجلس حيث يجلس مثله ثم قال لعون من أعوانه ادع لي نوح بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله فدعي له فجاء أحسن الناس سمتا وتشميرا ونقاء ثياب فأشار إلى فجلس ثم أقبل على زيد فقال له يابن أخي تشبه بشيخك هذا وسمته وتشميره ونقاء ثوبه ولا تعد إلى هذا اللبس قم فانصرف

ثم أقبل على ابن سلم وكان قبيحا فقال له هذا ابن جعفر أحتمل هذا له وأنت لأي شيء أحتمل هذا لك أللؤم أصلك أم لسماجة وجهك جرد يا غلام فجرد فضربه أسواطا

فقال ابن رهيمة

( جلد العادلُ سعدٌ ... إبنَ سَلْم في السَّماجَهْ )

( فقَضَى اللهُ لسعدٍ ... من أمير كلَّ حاجه )

أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني يعقوب بن حميد بن كاسب قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون عن يوسف بن الماجشون قال

 

قال لي أبي وقد عزل سعد بن إبراهيم عن القضاء يا بني تعجل بنا عسى أن نروح مع سعد بن إبراهيم فإن القاضي إذا عزل لم يزل الناس ينالون منه فخرجنا حتى جئنا دار سعد بن إبراهيم فإذا صوت عال فقال لي أي شيء هذا أرى أنه قد أعجل علي ودخلنا فإذا داود بن سلم يقول له أطال الله بقاءك يا أبا إسحاق وفعل بك وقد كان سعد جلد داود بن سلم أربعين سوطا فأقبل علي سعد وعلى أبي فقال لم تر مثل أربعين سوطا في ظهر لئيم

قال وفيه يقول الشاعر

( ضرب العادلُ سعدٌ ... إبنَ سَلْم في السماجهْ )

( فقضى اللهُ لسعدٍ ... من أميرٍ كلَّ حاجه )

الحسن بن زيد يغضب منه

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال قال الزبير بن بكار قال حدثني أبو يحيى الزهري واسمه هارون بن عبد الله قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز عن أبيه قال كان الحسن بن زيد قد عود داود بن سلم مولى بني تيم إذا جاءته غلة من الخانقين أن يصله

فلما مدح داود بن سلم جعفر بن سليمان وكان بينه وبين الحسن بن زيد تباعد شديد أغضب ذلك الحسن فقدم من حج أو عمرة ودخل عليه داود مسلما فقال له الحسن أنت القائل في جعفر

( وكنّا حديثاً قبلَ تأمير جعفرٍ ... وكان المُنَى في جعفر أن يُؤمَّرا )

 

( حَوَى المِنْبَريْن الطاهرينْ كليْهما ... إذا ما خطا عن مِنبرٍ أَمَّ مِنْبرا )

( كأن بني حَوَّاء صُفُّوا أمامه ... فَخُبِّر من أنسابهم فتَخيَّرا )

فقال داود نعم جعلني الله فداءكم فكنتم خيرة اختياره وأنا الذي أقول

( لَعْمرِي لئن عاقبتَ أوجُدْت مُنعِماً ... بعفوٍ عن الجاني وإن كان مُعْذِرَا )

( لأنتَ بما قدّمتَ أولى بِمدَحةٍ ... وأكرمُ فرعاً إن فخرتَ وعُنْصُرا )

( هو الغُرَّةُ الزَّهْراءُ من فرع هاشمٍ ... ويدعو عليَّا ذا المعالي وجعفرا )

( وزيدَ النَّدَى والسِّبْطَ سِبْطَ محمدٍ ... وعمَّك بالطَّفِّ الزَّكيَّ المطهَّرا )

( وما نال مِن ذا جعفرُ غيرَ مجلسِ ... إذا ما نفاه العزلُ عنه تأخّرا )

( بحقِّكُم نالوا ذُرَاها فأصبحوا ... يَرَوْن به عزاً عليكم ومَفْخَرا )

قال فعاد الحسن بن زيد له إلى ما كان عليه ولم يزل يصله ويحسن إليه حتى مات

قال أبو يحيى يعني بقوله وإن كان معذرا أن جعفرا أعطاه بأبياته الثلاثة ألف دينار فذكر أن له عذرا في مدحه إياه بجزالة إعطائه

أبو السائب المخزومي يعجب بشعره

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن الواقدي عن ابن أبي الزناد قال كنت ليلة عند الحسن بن زيد ببطحاء ابن أزهر على ستة أميال من المدينة حيال ذي الحليفة نصف الليل جلوسا في القمر وأبو السائب المخزومي معنا وكان ذا فضل وكان مشغوفا بالسماع والغزل وبين أيدينا طبق

 

عليه فريك فنحن نصيب منه والحسن يومئذ عامل المنصور على المدينة فأنشد الحسن قول داود بن سلم وجعل يمد به صوته ويطربه

صوت

( فعرَّسْنا ببطن عُرَيْتِناتٍ ... ليَجْمَعَنا وفاطمةَ المَسِيرُ )

( أتَنْسَى إذ تَعَرَّض وهو بادٍ ... مُقلَّدُها كما بَرَق الصَّبِير )

( ومَن يَطِع الهوى يُعْرَفْ هواه ... وقد يُنْبيك بالأمر الخبير )

( على أني زَفَرْتُ غَدَاةَ هَرْشَى ... فكاد يُريبهم منّي الزَّفير )

 

الغناء للغريض ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق

وفيه للهذلي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة وأظنه هذا اللحن قال فأخذ أبو السائب الطبق فوحش به إلى السماء فوقع الفريك على رأس الحسن بن زيد فقال له مالك ويحك أجننت فقال له أبو السائب أسألك بالله وبقرابتك من رسول الله إلا ما أعدت إنشاد هذا الصوت ومددته كما فعلت قال فما ملك الحسن نفسه ضحكا ورد الحسن الأبيات لإستحلافه إياه

قال ابن أبي الزناد فلما خرج أبو السائب قال لي يا بن أبي الزناد أما سمعت مده

( ومن يُطِع الهوا يُعْرَفْ هواه ... )

فقلت نعم قال لو علمت أنه يقبل لدفعته إليه بهذه الثلاثة الأبيات

أخبرني بخبره عبيد الله بن محمد الرازي وعمي قالا حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثتني ظبية مولاة فاطمة بنت عمر بن مصعب قالت أرسلتني مولاتي فاطمة في حاجة فمررت برحبة القضاء فإذا بضبيعة العبسي خليفة جعفر بن سليمان يقضي بين الناس فأرسل إلي فدعاني وقد كنت رطلت شعري وربطت في أطرافه من ألوان العهن فقال ما هذا فقلت شيء أتملح به فقال يا حرسي قنعها بالسوط

قالت فتناولت السوط بيدي وقلت قاتلك الله ما أبين الفرق بينك وبين سعد بن إبراهيم سعد يجلد الناس

 

في السماجة وأنت تجلدهم في الملاحة وقد قال الشاعر

( جلَد العادل سعدُ ... إبنَ سَلْم في السماجهْ )

( فقضى اللهُ لسعدٍ ... من أميرٍ كلَّ حاجه )

قالت فضحك حتى ضرب بيديه ورجليه وقال خل عنها

قالت فكان يسوم بي وكانت مولاتي تقول لا أبيعها إلا أن تهوى ذلك وأقول لا أريد بأهلي بدلا إلى أن مررت يوما بالرحبة وهو في منظرة دار مروان ينظر فأرسل إلي فدعاني فوجدته من وراء كلة وأنا لا أشعر به وحازم وجرير جالسان فقال لي حازم الأمير يريدك فقلت لا أريد بأهلي بدلا وكشفت الكلة عن جعفر بن سليمان فارتعت لذلك فقلت آه فقال مالك فقلت

( سمعتُ بذكر الناس هنداً فلم أَزَلْ ... أخا سَقَمٍ حتى نظرتُ إلى هند )

قال فأبصرت ماذا ويحك فقلت

( فأبصرتُ هنداً حُرّةً غيرَ أنها ... تَصَدَّى لقتل المسلمين على عَمْدِ )

قالت فضحك حتى استلقى وأرسل إلى مولاتي ليبتاعني فقالت لا والله لا أبيعها حتى تستبيعني فقلت والله لا أستبيعك أبدا

يذكر قثم بن عباس بجارية كان يهواها

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا يونس بن عبد الله عن داود بن سلم قال كنت يوما جالسا مع قثم بن العباس قبل أن يملكوا بفنائه فمرت بنا

 

جارية فأعجب بها قثم وتمناها فلما يمكنه ثمنها

فلما ولي قثم اليمامة اشترى الجارية إنسان يقال له صالح

قال داود بن سلم فكتبت إلى قثم

( يا صاحب العِيِس ثم راكبَها ... أبلغْ إذا ما لقيتَه قُثَمَا )

( أنّ الغزال الذي أجاز بنا ... مُعارِضاً إذ توسَّط الحَرَما )

( حَوّله صالحٌ فصار مع اْلإنْسِ ... وخَلّى الوحوش والسَّلمَا )

قال فأرسل قثم في طلب الجارية ليشتريها فوجدها قد ماتت

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الله بن محمد بن موسى بن طلحة قال حدثني زهير بن حسن مولى آل الربيع بن يونس أن داود بن سلم خرج إلى حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية فلما نزل به حط غلمانه متاع داود وحلوا عن راحلته فلما دخل عليه أنشأ يقول

( ولمّا دَفَعْتُ لأبوابهم ... ولاقيتُ حَرْباً لَقِيتُ النجاحا )

( وجدناه يَحْمده المُجْتُدون ... ويأبى على العسر إلا سَمَاحا )

( ويُغْشَوْن حتى يُرَى كلبُهم ... يَهَابُ الهَرِير ويَنْسى النُّبَاحا )

قال فأجازه بجائزة عظيمة ثم استأذنه في الخروج فأذن له وأعطاه ألف دينار فلم يعنه أحد من غلمانه ولم يقوموا إليه فظن أن حربا ساخط عليه فرجع إليه فأخبره بما رأى من غلمانه فقال له سلهم لم فعلوا بك ذلك

قال فسألهم فقالوا إننا ننزل من جاءنا ولا نرحل من خرج عنا

قال فسمع الغاضري حديثه فأتاه فحدثه فقال أنا يهودي إن لم يكن الذي قال الغلمان أحسن من شعرك

 

من شعره في الغزل

وذكر محمد بن داود بن الجراح أن عمر بن شبة أنشده ابن عائشة لداود بن سلم فقال أحسن والله داود حيث يقول

( لَجِجْتُ من حبِّيَ في تقريبه ... وعُمِّيتْ عينايَ عن عيوبهِ )

( كذاك صرفُ الدهر في تقليبه ... لا يلبَث الحبيبُ عن حبيبه )

( أو يغفرَ الأعظم من ذنوبه ... )

قال وأنشدني أحمد بن يحيى عن عبد الله بن شبيب لداود بن سلم قال

( وما ذَرّ قَرْنُ الشمسِ إلا ذكرتُها ... وأذكُرها في وقت كلّ غروبِ )

( وأذكرها ما بين ذاك وهذه ... وبالليل أحلامي وعند هُبوبي )

( وقد شَفَّني شَوْقِي وأبعدني الهوى ... وأعيا الذي بي طِبَّ كلِّ طبيب )

( وأَعْجَبُ أنّي لا أموتُ صَبَابةً ... وما كَمَدٌ من عاشقٍ بعجيب )

( وكلُّ محبٍّ قد سلا غيرَ أنني ... غريبُ الهوى يا وَيْحَ كلَّ غريب )

( وكم لام فيها من أخٍ ذي نصيحةٍ ... فقلت له أَقصِر فغيرُ مُصيب )

( أتأمر إنساناً بفُرقة قلبه ... أتصلحُ أجسامٌ بغير قلوب )

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان قال كان داود بن سلم منقطعا إلى قثم بن العباس وفيه يقول

( عَتَقْتِ من حِلِّي ومن رِحْلَتِي ... ياناقُ إن أَدْنيتنِي من قُثَمْ )

( إنكِ إن أَدْنيتِ منه غداً ... حالفني اليسر ومات العدم )

( في وجهه بدرٌ وفي كفّه ... بحرٌ وفي العِرْنين منه شَمَمْ )

 

( أصمُّ عن قِيل الخَنَا سمعُه ... وما عن الخير به من صَمَمْ )

( لم يدر ما لا وبَلَى قد دَرَى ... فعافها واعتاض منها نَعَمْ )

قال أبو إسحاق إسماعيل بن يونس قال أبو زيد عمر بن شبة قال لي إسحاق لنظم العمياء في هذه الأبيات صنعة عجيبة وكانت تجيدها ما شاءت إذا غنتها

 

أخبار دحمان ونسبه

دحمان لقب لقب به واسمه عبد الرحمن بن عمرو مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة

ويكنى أبا عمرو ويقال له دحمان الأشقر

قال إسحاق كان دحمان مع شهرته بالغناء رجلا صالحا كثير الصلاة معدل الشهادة مدمنا للحج وكان كثيرا ما يقول ما رأيت باطلا أشبه بحق من الغناء

قال إسحاق وحدثني الزبيري أن دحمان شهد عند عبد العزيز بن المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي وهو يلي القضاء لرجل من أهل المدينة على رجل من أهل العراق بشهادة فأجازها وعدله فقال له العراقي إنه دحمان قال أعرفه ولو لم أعرفه لسألت عنه قال إنه يغني ويعلم الجواري الغناء قال غفر الله لنا ولك وأينا لا يتغنى اخرج إلى الرجل عن حقه

وفي دحمان يقول أعشى بني سليم

( إذا ما هَزَّج الوادِيُّ ... أو ثَقَّل دَحْمانْ )

( سَمعتَ الشَّدْوَ من هذا ... ومن هذا بميزانْ )

( فهذا سيِّد الإنس ... وهذا سيّد الجانْ )

 

وفيه يقول أيضا

( كانوا فحولاً فصاروا عند خَلْبتهم ... لماّ انبرى لهم دَحْمانُ خِصْيانا )

( فأَبْلِغُوه عن الأعشى مقالتَه ... أعشى سُلَيم أبي عمرٍو سليمانا )

( قولوا يقول أبو عمرو لصُحْبته ... ياليت دَحْمانَ قبل الموت غَنّانا )

أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم عن إبراهيم بن المهدي أنه حدثه عن ابن جامع وزبير بن دحمان جميعا أن دحمان كان معدلا مقبول الشهادة عند القضاة بالمدينة وكان أبو سعيد مولى فائد أيضا ممن تقبل شهادته

وكان دحمان من رواة معبد وغلمانه المتقدمين

قال وكان معبد في أول أمره مقبول الشهادة فلما حضر الوليد بن يزيد وعاشره على تلك الهنات وغنى له سقطت عدالته لا لأن شيئا بان عليه من دخول في محظور ولكن لأنه اجتمع مع الوليد على ما كان يستعمله

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال قال إسحاق كان دحمان يكنى أبا عمرو مولى بني ليث واسمه عبد الرحمن وكان يخضب رأسه ولحيته بالحناء وهو من غلمان معبد

قال إسحاق وكان أبي لا يضعه بحيث يضعه الناس ويقول لو كان عبدا ما اشتريته على الغناء بأربعمائة درهم

وأشبه الناس به في الغناء ابنه عبد الله وكان يفضل الزبير ابنه تفضيلا شديدا على عبد الله أخيه وعلى دحمان أبيه

 

دحمان يحظى عند المهدي

أخبرني يحيى عن أبي أيوب عن أحمد بن المكي عن عبد الله بن دحمان قال رجع أبي من عند المهدي وفي حاصله مائة ألف دينار

أخبرنا إسماعيل بن يونس وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال بلغني أن المهدي أعطى دحمان في ليلة واحدة خمسين ألف دينار وذلك أنه غنى في شعر الأحوص

( قَطُوفُ المشْي إذ تمشِي ... تَرَى في مشيها خرقا )

فأعجبه وطرب واستخفه السرور حتى قال لدحمان سلني ما شئت فقل ضيعتان بالمدينة يقال لهما ريان وغالب فأقطعه إياهما

فلما خرج التوقيع بذلك إلى أبي عبيد الله وعمر بن بزيع راجعا المهدي فيه وقالا إن هاتين ضيعتان لم يملكهما قط إلا خليفة وقد استقطعهما ولاة العهود في أيام بني أمية فلم

 

يقطعوهما فقال والله لا أرجع فيهما إلا بعد أن يرضى فصولح عنهما على خمسين ألف دينار

نسبة هذا الصوت

سَرَى ذا الهمُّ بل طَرَقا ... فَبِتُّ مسهَّداً قَلِقا )

( كذاك الحُبّ مما يُحدِث ... التسهيد والأرقا )

( قَطُوف المشي إذ تمشي ... تَرَى في مشيها خَرَقا )

( وتُثْقِلها عَجِيزتُها ... إذا ولَّت لتنطلقا )

الشعر للأحوص والغناء لدحمان ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وذكر الهشامي أنه لإبن سريج

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق قال مر دحمان المغني وعليه رداء جيد عدني فقال له من حضر بكم اشتريت هذا يا أبا عمرو قال ب

( ما ضرَّ جيرانَنا إذ انَتَجَعُوا ... )

نسبة هذا الصوت

صوت

( ما ضَرَّ جيرانَنا إذ انتَجَعُوا ... لو أنهم قبل بيْنِهم ربعُوا )

( أَحْمَوْا على عاشقٍ زيَارتَه ... فهْو بهِجْران بينهم قُطع )

 

( وهْو كأنّ الهُيَام خالطه ... وما به غير حبِّها ذَرَع )

( كأنّ لُبْنَى صَبِيرُ غاديِةٍ ... أو دُمْيةٌ زُيِّنتْ بها البِيعَ )

( الله بيني وبين قيِّمها ... يَفِرّ عنّي بها وأتَّبع )

الوليد يكرم دحمان

أخبرني وكيع عن أبي أيوب المديني إجازة عن أبي محمد العامري الأويسي قال كان دحمان جمالا يكري إلى المواضع ويتجر وكانت له مروءة فبينا هو ذات يوم قد أكرى جماله وأخذ ماله إذ سمع رنة فقام واتبع الصوت فإذا جارية قد خرجت تبكي فقال لها أمملوكة أنت قالت نعم فقال لمن فقالت لإمرأة من قريش وسمتها له فقال أتبيعك قالت نعم ودخلت إلى مولاتها فقالت هذا إنسان يشتريني فقالت ائذني له فدخل فسامها حتى استقر أمر الثمن بينهما على مائتي دينار فنقدها إياها وانصرف بالجارية

قال دحمان فأقامت عندي مدة اطرح عليها ويطرح عليها معبد والأبجر ونظراؤهما من المغنين ثم خرجت بها بعد ذلك إلى الشأم وقد حذقت وكنت لا أزال إذا نزلنا أنزل الأكرياء ناحية وأنزل معتزلا بها ناحية في محمل وأطرح على المحمل من أعبية الجمالين وأجلس أنا وهي تحت ظلها فأخرج شيئا فنأكله ونضع ركوة فيها لنا شراب فنشرب ونتغنى حتى نرحل

ولم نزل كذلك حتى قربنا من الشأم فبينا أنا ذات يوم نازل وأنا ألقي عليها لحني

 

صوت

( لو رَدّ ذو شَفَق حِمامَ منّيةٍ ... لردَدتُ عن عبد العزيز حِمَاماَ )

( صلّى عليكَ اللهُ من مستودَعٍ ... جاورتَ بُوماً في القبور وهاما )

الشعر لكثير يرثي عبد العزيز بن مروان

وزعم بعض الرواة أن هذا الشعر ليس لكثير وأنه لعبد الصمد بن علي الهشامي يرثي إبنا له

والغناء لدحمان ولحنه من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر

قال فرددته عليها حتى أخذته واندفعت تغنيه فإذا أنا براكب قد طلع فسلم علينا فرددنا عليه السلام فقال أتأذنون لي أن أنزل تحت ظلكم هذا ساعة قلنا نعم فنزل وعرضت عليه طعامنا وشرابنا فأجاب فقدمنا إليه السفرة فأكل وشرب معنا واستعاد الصوت مرارا

ثم قال للجارية أتغنين لدحمان شيئا قالت نعم قال فغنته أصواتا من صنعتي وغمزتها ألا تعرفه أني دحمان فطرب وامتلأ سرورا وشرب أقداحا والجارية تغنيه حتى قرب وقت الرحيل فأقبل علي وقال أتبيعني هذه الجارية فقلت نعم قال بكم قلت كالعابث بعشرة آلاف دينار قال قد أخذتها بها فهلم دواة وقرطاسا فجئته بذلك فكتب إدفع إلى حامل كتابي هذا حين تقرؤه عشرة آلاف دينار واستوص به خيرا وأعلمني بمكانه وختم الكتاب ودفعه إلي ثم قال أتدفع إلي الجارية أم تمضي بها معك حتى تقبض

 

مالك فقلت بل أدفعها إليك فحملها وقال إذا جئت البخراء فسل عن فلان وادفع كتابي هذا إليه واقبض منه مالك ثم انصرف بالجارية

قال ومضيت فلما وردت البخراء سألت عن اسم الرجل فدللت عليه فإذا داره دار ملك فدخلت عليه ودفعت إليه الكتاب فقبله ووضعه على عينيه ودعا بعشرة آلاف دينار فدفعها إلي وقال هذا كتاب أمير المؤمنين وقال لي اجلس حتى أعلم أمير المؤمنين بك فقلت له حيث كنت فأنا عبدك وبين يديك وقد كان أمر لي بأنزال وكان بخيلا فاغتنمت ذلك فارتحلت وقد كنت أصبت بجملين وكانت عدة أجمالي خمسة عشر فصارت ثلاثة عشر

قال وسأل عني الوليد فلم يدر القهرمان أين يطلبني فقال له الوليد عدة جماله خمسة عشر جملا فاردده إلي فلم أوجد لأنه لم يكن في الرفقة من معه خمسة عشر جملا ولم يعرف اسمي فيسأل عني قال وأقامت الجارية عنده شهرا لا يسأل عنها ثم دعاها بعد أن استبرئت وأصلح من شأنها فظل معها يومه حتى إذا كان في آخر نهاره قال لها غنيني لدحمان فغنت وقال لها زيديني فزادت

ثم أقبلت عليه فقالت يا أمير المؤمنين أو ما سمعت غناء دحمان منه قال لا قالت بلى والله قال أقول لك لا فتقولين بلى والله فقالت بلى والله لقد سمعته قال وما ذاك ويحك قالت إن الرجل الذي اشتريتني منه هو دحمان قال أو ذلك هو قالت نعم هو هو قال فكيف لم أعلم قالت غمزني بألا أعلمك

فأمر فكتب إلى عامل المدينة بأن يحمل إليه دحمان فحمل فلم يزل عنده أثيرا

أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه

 

قال حدثنا ابن جامع قال تذاكروا يوما كبر الأيور بحضرة بعض أمراء المدينة فأطالوا القول ثم قال بعضهم إنما يكون كبر أير الرجل على قدر حر أمه فالتفت الأمير إلى دحمان فقال يا دحمان كيف أيرك فقال له أيها الأمير أنت لم ترد أن تعرف كبر أيري وإنما أردت أن تعرف مقدار حر أمي وكان دحمان طيبا ظريفا

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق قال أول ما عرف من ظرف دحمان أن رجلا مر به يوما فقال له أير حماري في حر أمك يا دحيم فلم يفهم ما قاله وفهمه رجل كان حاضرا معه فضحك فقال مم ضحكت فلم يخبره فقال له أقسمت عليك إلا أخبرتني قال إنه شتمك فلا أحب استقبالك بما قاله لك فقال والله لتخبرني كائنا ما كان فقال له قال كذا وكذا من حماري في حر أمك فضحك ثم قال أعجب والله وأغلظ علي من شتمه كنايتك عن أير حماره وتصريحك بحر أمي لا تكني

جعفر بن سليمان والمغنون

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أبو خالد يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني إسحاق الموصلي قال حدثنا عبد الله بن الربيع المديني قال حدثني الربعي المغني قال قال لنا جعفر بن سليمان وهو أمير المدينة اغدوا على قصري بالعقيق غدا وكنت أنا ودحمان وعطرد فغدوت للموعد فبدأت بمنزل دحمان وهو في جهينة

 

فإذا هو وعطرد قد اجتمعا على قدر يطبخانها وإذا السماء تبغش فأذكرتهما الموعد فقالا أما ترى يومنا هذا ما أطيبه اجلس حتى نأكل من هذه القدر ونصيب شيئا ونستمتع من هذا اليوم فقال ما كنت لأفعل مع ما تقدم الأمير به إلي فقالا لي كأنا بالأمير قد انحل عزمه وأخذك المطر إلى أن تبلغ ثم ترجع إلينا مبتلا فتقرع الباب وتعود إلى ما سألناك حينئذ

قال فلم ألتفت إلى قولهما ومضيت وإذا جعفر مشرف من قصره والمضارب تضرب والقدور تنصب فلما كنت بحيث يسمع تغنيت

( واستصحبَ الأصحابَ حتى إذا وَنَوْا ... وملُّوا من الإدْلاَج جئتكُم وَحْدِي )

قال وما ذاك فأخبرته فقال يا غلام هات مائتي دينار أو أربعمائة دينار الشك من إسحاق الموصلي فانثرها في حجر الربعي اذهب الآن فلا تحل لها عقدة حتى تريهما إياها فقلت وما في يدي من ذلك يأتيانك غدا فتلحقهما بي قال ما كنت لأفعل قلت فلا أمضي حتى تحلف لي أنك لا تفعل فحلف فمضيت إليهما فقرعت الباب فصاحا وقالا ألم نقل لك إن هذه تكون حالك فقلت كلا فأريتهما الدنانير فقالا إن الأمير لحي كريم ونأتيه غدا فنعتذر إليه فيدعوه كرمه إلى أن يلحقنا بك فقلت كذبتكما أنفسكما والله إني قد أحكمت الأمر ووكدت عليه الإيمان ألا يفعل فقالا لا وصلتك رحم

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن منصور بن أبي مزاحم قال أخبرني عبد العزيز بن الماجشون قال صلينا يوما الصبح بالمدينة فقال قوم قد سال العقيق فخرجنا من المسجد مبادرين إلى العقيق فانتهينا إلى العرصة فإذا من وراء الوادي قبالتنا

 

دحمان المغني وابن جندب مع طلوع الشمس قد تماسكا بينهما صوتا وهو

( اسكنُ البَدْوَ ما سكنْتِ ببدوٍ ... فإِذا ما حضرتِ طال الحضورُ )

وإذا أطيب

صوت

في الدنيا

قال وكان أخي يكره السماع فلما سمعه طرب طربا شديدا وتحرك وكان لغناء دحمان أشد استحسانا وحركة وارتياحا فقال لي يا أخي تسمع إلى غناء دحمان والله لكأنه يسكب على الماء زيتا

نسبة هذا الصوت

صوت

أَوْحشَ الجُنْبُذَانِ فالدَّيْرُ منها ... فقُرَاها فالمنزلُ المحظورُ )

( أسكنُ البدوَ ما أقمتِ ببدوٍ ... فإِذا ما حضرتِ طاب الحضور )

( أيُّ عيش أَلَذُّه لستِ فيه ... أوْ تُرَى نَعْمةٌ به وسُرور )

الشعر لحسان بن ثابت والغناء لإبن مسجح رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق

 

دحمان والفضل بن يحيى

أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن عبد الرحمن عن أبي عثمان البصري قال قال دحمان دخلت على الفضل بن يحيى ذات يوم فلما جلسنا قام وأومأ إلي فقمت فأخذ بيدي ومضى بي إلى منظرة له على الطريق ودعا بالطعام فأكلنا ثم صرنا إلى الشراب فبينا نحن كذلك إذ مرت بنا جارية سوداء حجازية تغني

( اهْجُريني أو صلِيني ... كيفما شئتِ فكوني )

( أنتِ والله تحبّيني ... وإن لم تُخبريني )

فطرب وقال أحسنت ادخلي فدخلت فأمر بطعام فقدم إليها فأكلت وسقاها أقداحا وسألها عن مواليها فأخبرته فبعث فاشتراها فوجدها من أحسن الناس غناء وأطيبهم صوتا وأملحهم طبعا فغلبتني عليه مدة وتناساني فكتبت إليه

( أخرجتِ السَّوداء ما كان في ... قلبك لي من شدّة الحُبِّ )

( فإن يدُم ذا منك لا دام لي ... متُّ من الإعراض والكَرْب )

قال فلما قرأ الرقعة ضحك وبعث فدعاني ووصلني وعاد إلى ما كان عليه من الأنس

قال مؤلف هذا الكتاب هكذا أخبرنا ابن المرزبان بهذا الخبر وأظنه غلطا لأن دحمان لم يدرك خلافة الرشيد وإنما أدركها ابناه زبير وعبد الله

 

فإما أن يكون الخبر لأحدهما أو يكون لدحمان مع غير الفضل بن يحيى

ومما في المائة المختارة من صنعة دحمان

صوت

من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى

( وإنّي لآتي البيتَ ما إن أُحِبُّه ... وأُكثِرُ هجرَ البيت وهو حِبِيبُ )

( وأُغْضِي على أشياءَ منكم تَسُوءني ... وأُدْعَى إلى ما سَرّكم فأجيب )

( وأحبِس عنكِ النّفسَ والنفسُ صَبّةٌ ... بقُرْبِك والمَمْشَى إليكِ قريب )

الشعر للأحوص والغناء لدحمان ثقيل أول وقد تقدمت أخبار الأحوص ودحمان فيما مضى من الكتاب

صوت

من المائة المختارة

( حَيِّيَا خَوْلَةَ منِّي بالسلامِ ... دُرّةَ البحر ومِصْباحَ الظلامَ )

( لا يكُن وَعْدُكِ برقا خُلَّبّا ... كاذباً يلمع في عُرْض الغمام )

( واذكري الوعدَ الذي واعدتنا ... ليلةَ النصف من الشّهر الحرام )

الشعر لأعشى همدان والغناء لأحمد النصبي ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وعروضه من الرمل والخلب من البرق الذي لا غيث معه ولا ينتفع بسحابه وتضرب المثل به العرب لمن أخلف وعده قال الشاعر

 

( لا يكنْ وعدك برقاً خُلّباً ... إنّ خيرَ البرق ما الغيثُ مَعَهْ )

وعرض السحابة الناحية منها

 

أخبار أعشى همدان ونسبه

اسمه عبد الرحمن بن عبد الله بن الحارث بن نظام بن جشم بن عمرو بن الحارث بن مالك بن عبد الحر بن جشم بن حاشد بن جشم بن خيران بن نوف بن همدان بن مالك بن زيد بن نزار بن أوسلة بن ربيعة بن الخيار بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان ويكنى أبا المصبح شاعر فصيح كوفي من شعراء الدولة الأموية

وكان زوج أخت الشعبي الفقيه والشعبي زوج أخته وكان أحد الفقهاء القراء ثم ترك ذلك وقال الشعر وآخى أحمد النصبي بالعشيرية والبلدية فكان إذا قال شعرا غنى فيه أحمد

وخرج مع ابن الأشعث فأتي الحجاج أسيرا في الأسرى فقتله صبرا

 

أخبرني بما أذكره من جملة أخباره الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي عن محمد بن معاوية الأسدي أنه أخذ أخباره هذه عن ابن كناسة عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وعن غيرهم من رواة الكوفيين

قال حدثنا عمر بن شبة وأبو هفان جميعا عن إسحاق الموصلي عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش الهمداني

قال الغنزي وأخذت بعضها من رواية مسعود بن بشر عن الأصمعي وما كان من غير رواية هؤلاء ذكرته مفردا

أخبرني المهلبي أبو أحمد حبيب بن نصر وعلي بن صالح قالا حدثنا عمر بن شبة وأبو هفان جميعا عن إسحاق الموصلي عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش الهمداني قال كان الشعبي عامر بن شراحيل زوج أخت أعشى همدان وكان أعشى همدان زوج أخت الشعبي فأتاه أعشى همدان يوما وكان أحد القراء للقرآن فقال له إني رأيت كأني أدخلت بيتا فيه حنطة وشعير وقيل لي خذ أيهما شئت

 

فأخذت الشعير فقال إن صدقت رؤياك تركت القرآن وقراءته وقلت الشعر فكان كما قال

ابنة الأمير تهرب معه

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي عن محمد بن معاوية الأسدي عن ابن كناسة قال العنزي وحدثني مسعود بن بشر عن أبي عبيدة والأصمعي قالا وافق روايتهم الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال كان أعشى همدان أبو المصبح ممن أغزاه الحجاج بلد الديلم ونواحي دستبى فأسر فلم يزل أسيرا في أيدي الديلم مدة

ثم إن بنتا للعلج الذي أسره هويته وصارت إليه ليلا فمكنته من نفسها فأصبح وقد واقعها ثماني مرات فقالت له الديلمية يا معشر المسلمين أهكذا تفعلون بنسائكم فقال لها هكذا نفعل كلنا فقالت له بهذا العمل نصرتم أفرأيت إن خلصتك أتصطفيني لنفسك فقال لها نعم وعاهدها

فلما كان الليل حلت قيوده وأخذت به طرقا تعرفها حتى خلصته وهربت معه

فقال شاعر من أسرى المسلمين

( فمن كان يَفْديه مِن الأَسْر مالُه ... فهَمْدانُ تَفْدِيها الغداةَ أُيورُها )

وقال الأعشى يذكر ما لحقه من أسر الديلم

 

صوت

( لمن الظَّعائنُ سيرُهنّ تَرَجُّفُ ... عَوْمَ السَّفِين إذا تقاعس مجذَفُ )

( مرَّتْ بذي خُشُب كأنّ حُمولَها ... نَخْلٌ بِيَثْرِبَ طَلْعُه مَتضعِّف )

غنى في هذين البيتين أحمد النصبي ولحنه خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن عمرو وابن المكي

وفيهما لمحمد الزف خفيف رمل بالوسطى عن عمرو

( عُولِين ديباجاً وفاخرَ سُنْدُسٍ ... وبخَزَ أكسية العراق تُحفَّفُ )

( وغدتْ بهم يومَ الفراق عَرَامِسُ ... فُتْلُ المرَافق بالهوادج دُلَّف )

( بان الخليط وفاتني برحيله ... خَوْدٌ إذا ذُكرت لقلبك يُشْغَفُ )

( تجلو بِمْسواكِ الأَرَاك مُنَظّماً ... عَذْباً إذا ضحكتْ تهلَّلَ يَنْظُف )

( وكأنّ ريقتَها على عَلَل الكَرَى ... عَسَلٌ مصفَّى في القِلاَل وقَرْقَف )

( وكأنما نظرتْ بعينيْ ظبيةٍ ... تحنو على خِشْف لها وتَعَطَّف )

 

( وإذا تنوء إلى القيام تدافعتْ ... مثلَ النَّزيف ينوء ثُمّتَ يَضْعفُ )

( ثقُلتْ روادفُها ومال بخَصْرها ... كَفَلٌ كما مال النَّقا المتقصِّف )

( ولها ذراعا بَكْرٍ رحبيّة ... ولها بَنَانٌ بالخِضاب مُطَرَّف )

( وعوارضٌ مصقولةٌ وترائبٌ ... بيضٌ وبطنٌ كالسَّبيكة مُخْطَف )

( ولها بَهَاءٌ في النساء وبَهْجةٌ ... وبها تُحلّ الشمسُ حين تُشرَّف )

( تلك التي كانت هوايَ وحاجتي ... لو أنّ داراً بالأحبّة تُسْعِف )

( وإذا تُصِبْك من الحوادث نكبةٌ ... فاصبر فكل مصيبةٍ سَتَكشَّف )

( ولئن بكيتُ من الفراق صبابةً ... إنّ الكبير إذا بكى لَيُعَنَّفُ )

( عجباً من الأيام كيف تَصَرَّفَتْ ... والدارُ تدنو مرّةً وتقذّفُ )

( أصحبتُ رَهْناً للعُداة مكبَّلاً ... أمْسي وأُصْبِح في الأَدَاهم أَرْسُف )

( بين القليسم فالقيول فحامن ... فاللهزمين ومضجعي مُتكنِّف )

هذه أسماء مواضع من بلد الديلم تكنفته الهموم بها

( فحِبَال ويمة ما تزال مُنِيفةً ... يا ليت أنّ جبال ويمة تُنسَف )

ويمة وشلبة ناحيتان من نواحي الري

( ولقد أُراني قبل ذلك ناعماً ... جَدْلاَنَ آبَى أن أَضام وآنفُ )

( واستنكرتْ ساقِي الوَثَاق وساعدِي ... وأنا أمرؤٌ بادِي الأشاجِع أَعْجف )

( ولقد تُضرِّسني الحروبُ وإِنني ... اُلَفي بكلّ مخافة أتعسّف )

 

( أتسربل الليلَ البهِيمَ وأستري ... في الخَبْت إذ لا يَسْتُرونَ وأُوجِف )

( ما إن أزال مقنَّعاً أو حاسراً ... سَلَف الكتيبة والكتيبةُ وُقَّف )

( فأصابني قومٌ فكنتُ أُصيبهم ... فالآن أصبِر للزمان وأعرف )

( إني لطَلاّبُ التِّراتِ مطلَّبٌ ... وبكل أسباب المنيّة أُشرِف )

( باقٍ على الحِدْثان غيرُ مكذَّبٍ ... لا كاسفُ بالي ولا متأسّف )

( إن نلتُ لم أفرح بشيء نِلتُه ... وإذا سُبِقتُ به فلا أتلهّف )

( إني لأحْمِي في المَضِيق فَوَارِسي ... وأكُرّ خَلْفَ المُسْتضاف وأعطِف )

( وأشُدّ إذ يكبو الجبان وأصْطَلي ... حَرَّ الأسنّة والأسنّة ترْعُف )

صوت

( فلئن أصابتْني الحربُ فربّما ... أُدْعَى إذا مُنع الرِّدافُ فأُردِفُ )

( ولربّما يَرْوَى بِكفِّي لَهْذَمٌ ... ماض ومطَّرِدُ الكُعوب مُثقٌّف )

( وأُغير غاراتٍ وأشْهَد مَشهداً ... قلبُ الجبان به يَطير ويَرجفُ )

( وأرى مغانمَ لو أشاء حويتُها ... فيصُدّني عنها غِنىً وتَعفّف )

غنى في هذه الأبيات دحمان ولحنه ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي

قال الهشامس فيها لمالك خفيف ثقيل أول بالوسطى ووافقه في هذا ابن المكي قالوا جميعا

 

خروجه مع جيش الحجاج إلى مكران

ثم ضرب البعث على جيش أهل الكوفة إلى مكران فأخرجه الحجاج معهم فخرج إليها وطال مقامه بها ومرض فاجتواها وقال في ذلك وأنشدني بعض هذه القصيدة اليزيدي عن سليمان بن أبي شيخ

( طلبتَ الصِّبا إذ علا المَكْبَر ... وشاب القَذال وما تُقصِرُ )

( وبان الشبابُ ولذاتّه ... ومثلُك في الجهل لا يُعذَر )

( وقال العواذل هل يَنْتهي ... فيَقْدَعَه الشيبُ أو يُقصِر )

( وفي أربعينَ تَوَفّيتُها ... وعَشْرٍ مضتْ لي مُستبصَر )

( وموعظَةٌ لامرئ حازمٍ ... إذا كان يَسمع أو يُبْصر )

( فلا تأسفنَّ على ما مضى ... ولا يَحزُنَنَّك ما يُدْبِر )

( فإنّ الحوادث تُبلِي الفتى ... وإنّ الزمان به يعثُر )

( فيَوْماً يُساء بما نَابه ... ويوماً يُسَرّ فَيَستَبشرُ )

( ومِنْ كلّ ذلك يَلْقى الفَتى ... ويُمْنَى له منه ما يُقدّر )

( كأنِّيَ لم أَرْتَحلْ جَسْرَةً ... ولم أُجِفْها بعدما تضمرُ )

( فأُجْشَمها كلَّ دَيْمُومةٍ ... ويَعرفها البلدُ المُقفر )

 

( ولم أشهِد البأسَ يومَ الوَغَى ... عليّ المُفَاضةُ والمِغْفَر )

( ولم أَخرِق الصَّف حتى تَميلَ ... دَارِعةَ القومِ والحُسَّر )

( وتحتيَ جَرْداءُ خَيْفانةٌ ... من الخيل أو سابحٌ مُجفَر )

( أُطاعِن بالرمح حتى اللَّبانُ ... يَجري به العَلَق الأحمرِ )

( وما كنت في الحرب إذ شَمَّرت ... كَمَنْ لا يُذيب ولا يُخْثِر )

( ولكنَّني كنتُ ذا مِرَّة ... عَطوفاً إذا هَتف المَحْجِر )

( أُجيب الصَّرِيخ إذا ما دعا ... وعند الهِيَاج أنا المِسْعَر )

( فإن أُمْسِ قد لاح فيّ المَشيبُ ... أُمَّ البنين فقد أذكرُ )

( رَخاءً منَ العيش كُنَّا بِه ... إذِ الدهرُ خالٍ لنا مُصْحِر )

( وإذ أنا في عُنفوان الشباب ... يُعجبني اللَّهو والسُّمَّر )

( أصِيد الحسانَ ويَصْطَدْنني ... وتعجبني الكاعبُ المُعصِر )

( وبيضاءُ مثلُ مَهَاة الكَثيب ... لا عَيْبَ فيها لمن ينظرُ )

( كأنّ مُقَلَّدَها إذ بدا ... به الدُّرّ والشَّذْر والجوهر )

( مُقَلَّدُ أدْمَاءَ نَجْديّةٍ ... يَعِنُّ لها شادِنٌ أحور )

 

( كأنّ جَنَى النحل والزنجبيلَ ... والفارسيَّة إذ تُعْصَر )

( يُصَبّ على بَرْد أنيابها ... مُخَالِطُه المسكُ والعنبر )

( إذا انصرفتْ وتَلوّتْ بها ... رِقاقُ المَجَاسِد والمِئزر )

( وغَصَّ السِّوارُ وجال الوِشاح ... على عُكَنٍ خَصْرُها مُضْمَر )

( وضاق عن الساق خَلْخالُها ... فكاد مُخَدَّمها يَنْدرُ )

( فَتُورُ القيام رخيمُ الكلام ... يُفْزِعها الصوتُ إذ تُزْجَر )

( وتُنْمَى إلى حسَب شامخ ... فليستْ تُكذَّب إذ تَفْخَر )

( فتلك التي شَفَّني حبُّها ... وحمَّلني فوق ما أقدِر )

( فلا تعذُلانيَ في حبِّها ... فإنّي بمعذرةٍ أجْدَر )

ومن ها هنا رواية اليزيدي

( وقُولا لذي طَرب عاشقٍ ... أشطَّ المزارُ بمن تَذْكُر )

( بكوفيّة أصلُها بالفرات ... تبدو هنالك أو تَحضُر )

( وأنت تسير إلى مُكَّران ... فقد شَحط الوِرْدُ والمَصْدَر )

( ولم تك من حاجتي مُكَّران ... ولا الغزُو فيها ولا المَتْجَر )

( وخُبِّرتُ عنها ولم آتها ... فما زِلتُ من ذكرها أُذْعَر )

( بأنّ الكثيرَ بها جائعٌ ... وأنّ القليل بها مُقْتر )

( وأنّ لِحَي الناس من حَرّها ... تطول فتُجْلَم أو تُضْفَر )

 

( ويزعُم مَنْ جاءها قَبْلَنا ... بأنّا سَنَسْهَم أو ننحر )

( أعوذ بربِّي من المُخْزيات ... فيما أُسِرّ وما أجهَر )

( وحُدِّثت أنْ ما لنا رَجْعُةٌ ... سِنينَ ومِنْ بعدها أشهر )

( إلى ذاك ما شاب أبناؤنا ... وبادَ الإخِلاَء والمَعْشر )

( وما كان بي من نشاطٍ لها ... وإنّي لذو عُدّة مُوسِر )

( ولكنْ بُعِثتُ لها كارهًا ... وقيل انطلق كالذي يُؤمر )

( فكان النَّجَاء ولم ألتفت ... إليهم وشرّهُم مُنكر )

( هو السيف جُرِّد من غمده ... فليس عن السيف مستأخَر )

( وكم من أخٍ ليَ مستأنِس ... يَظلّ به الدمعُ يَسْتحسر )

( يودّعني وانتحتْ عبرةٌ ... له كالجداول أو أغزر )

( فلستُ بلاقِيه من بعدها ... يَدَ الدهر ما هبّت الصَّرْصَر )

( وقد قيل إنكُم عابرون ... نجراً لها لم يكن يُعْبَرُ )

( إلى السّند والهند في أرضهم ... همُ الجنّ لكنَّهم أَنْكَر )

( وما رام غزواً لها قبلَنا ... أكابرُ عادٍ ولا حِمْير )

( ولا رام سابورُ غزواً لها ... ولا الشيخُ كِسْرى ولا قيصر )

( ومِنْ دونها مَعْبَرٌ واسعٌ ... وأجرّ عظيم لمن يؤجَر )

قصته مع جارية خالد الرياحي

وذكر محمد بن صالح بن النطاح أن هشام بن محمد الكلبي حدث عن أبيه أن أعشى همدان كان مع خالد بن عتاب بن ورقاء الرياحي بالري

 

ودستبي وكان الأعشى شاعر أهل اليمن بالكوفة وفارسهم فلما قدم خالد من مغزاه خرج جواريه يتلقينه وفيهن أم ولد له كانت رفيعة القدر عنده فجعل الناسُ يمرون عليها إلى أن جاز بها الأعشى وهو على فرسه يميل يمينا ويسارا من النعاس فقالت أم خالد بن عتاب لجواريها إن امرأة خالد لتفاخرني بأبيها وعمها وأخيها وهل يزيدون على أن يكونوا مثل هذا الشيخ المرتعش

وسمعها الأعشى فقال من هذه فقال له بعض الناس هذه جارية خالد فضحك وقال لها إليك عني يا لكعاء ثم أنشأ يقول

( وما يُدْرِيك ما فرسٌ جَرُورٌ ... وما يدريكَ ما حَمْلُ السّلاحِ )

( وما يدريكِ ما شيخ كبيرٌ ... عَدَاه الدهر عن سَنَن المِراح )

( فأُقْسِمُ لو ركبتِ الوَرْد يوماً ... وليلتَه إلى وَضَح الصَّباح )

( إذاً لنظرتُ منكِ إلى مكان ... كسَحْق البُرْد أو أثَرِ الجِراح )

قال فأصبحت الجارية فدخلت إلى خالد فشكت إليه الأعشى فقالت والله ما تكرم ولقد اجترئ عليك فقال لها وما ذاك فأخبرته أنها مرت برجل في وجه الصبح ووصفته له وأنه سبها فقال ذلك أعشى همدان فأي شيء قال لك فأنشدته الأبيات

فبعث إلى الأعشى فلما دخل عليه قال له ما تقول هذه زعمت أنك هجوتها فقال أساءت سمعا إنما قلت

( مررتُ بنسوة متعطِّرات ... كضوء الصبح أو بَيض الأداحِي )

 

( على شُقْر البغال فَصِدْن قلبي ... بحسن الدَّلّ والحَدَقِ المِلاح )

( فقلتُ مَنِ الظباءُ فقلن سِرْبٌ ... بدا لك من ظِباء بَنِي رِياح )

فقالت لا والله ما هكذا قال وأعادت الأبيات فقال له خالد أما إنها لولا أنها قد ولدت مني لوهتبها لك ولكني أفتدي جنايتها بمثل ثمنها فدفعه إليه وقال له أقسمت عليك يا أبا المصبح ألا تعيد في هذا المعنى شيئا بعد ما فرط منك

وذكر هذا الخبر العنزي في روايته التي قدمت ذكرها ولم يأت به على هذا الشرح

وقال هو وابن النطاح جميعا وكان خالد يقول للأعشى في بعض ما يمنيه إياه ويعده به إن وليت عملا كان لك ما دون الناس جميعا فمتى استعملت فخذ خاتمي واقض في أمور الناس كيف شئت

قال فاستعمل خالد على أصبهان وصار معه الأعشى فلما وصل إلى عمله جفاه وتناساه ففارقه الأعشى ورجع إلى الكوفة وقال فيه

( تُمنِّيني إمارتَها تَميم ... وما أمِّي بأُمّ بني تَميمَ )

( وكان أبو سليمانِ أخاً لي ... ولكنّ الشِّراكَ من الأديم )

( أتينا أصبهانَ فهزّلَتنا ... وكنّا قبلَ ذلك في نعيم )

( أتذكرنا ومُرّةَ إذ غزونا ... وأنتَ على بُغَيْلك ذي الوُشُوم )

( ويركَب رأسَه في كل وَحْل ... ويعثُر في الطريق المستقيم )

( وليس عليك إلا طَيْلَسانٌ ... نَصِيبىٌّ وإلاّ سَحْقُ نِيم )

( فقد أصبحتَ في خَزّ وقَزّ ... تَبَخْتر ما تَرى لك من حميم )

 

( وتحسب أن تلقّاها زمانا ... كذبتَ وربِّ مكة والحطيم )

هذه رواية ابن النطاح وزاد العنزي في روايته

( وكانت أصبهانُ كخير أرضٍ ... لمُغتَرِب وصُعلوكٍ عديمِ )

( ولكنّا أتيناها وفيها ... ذوو الأضغان والحقد القديم )

( فأنكرتُ الوجوهَ وأنكرتْني ... وجوهٌ ما تُخبِّر عن كريم )

( وكان سفاهة منّي وجهلا ... مَسِيري لا أسير إلى حميم )

( فلو كان ابنُ عتابٍ كريماً ... سما لرواية الأمر الجسيم )

( وكيف رجاءُ من غلَبتْ عليه ... تنائي الدارِ كالرَّحِم العقيم )

قال ابن النطاح فبعث إليه خالد من مرة هذا الذي أدعيت أني وأنت غزونا معه على بغل ذي وشوم ومتى كان ذلك ومتى رأيت علي الطيلسان والنيم اللذين وصفتهما فأرسل إليه هذا كلام أردت وصفك بظاهره فأما تفسيره فإن مرة مرارة ثمرة ما غرست عندي من القبيح

والبغل المركب الذي ارتكبته مني لا يزال يعثر بك في كل وعث وجدد ووعر وسهل

وأما الطيلسان فما ألبسك إياه من العار والذم وإن شئت راجعت الجميل فراجعته لك فقال لا بل أراجع الجميل وتراجعه فوصله بمال عظيم وترضاه

وهكذا روى من قدمت ذكره

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال لما ولي خالد بن عتاب بن ورقاء أصبهان خرج إليه أعشى همدان وكان صديقه وجاره بالكوفة فلم يجد عنده ما يحب وأعطى خالد الناس عطايا فجعله في أقلها وفضل عليه آل عطارد فبلغه عنه أنه ذمه فحبسه مدة ثم أطلقه فقال يهجوه

 

( وما كنتُ ممن ألجأَتْه خَصَاصةٌ ... إلَيك ولا ممن تَغُرّ المواعدُ )

( ولكنّها الأطماعُ وهي مُذِلّةٌ ... دنتْ بي وأنت النازح المتباعد )

( أتَحْبِسُني في غير شيء وتارةً ... تلاحظني شَزْراً وأنفُك عاقِد )

( فإنك لا كابْنَيْ فزارة فاعْلَمْن ... خُلِقْتَ ولم يُشبِههما لك والد )

( ولا مُدْرِكٌ ما قد خلا من نَدَاهما ... أبوكَ ولا حوضَيْهما أنت وارد )

( وإنك لو ساميتَ آلَ عُطَارد ... لَبذّتْك أعناقٌ لهم وسواعد )

( ومَأثُرةٌ عاديّةٌ لن تنالَها ... وبيتٌ رفيع لم تَخُنْه القواعد )

( وهل أنت إلا ثعلبٌ في ديارهم ... تُشَلُّ فَتَعْساً أو يقودُك قائد )

( أَرَى خالداً يختال مشياً كأنه ... من الكبرياء نَهْشَلٌ أو عُطَارِدُ )

( وما كان يَرْبُوع شبيهاً لدارِم ... وما عَدَلَتْ شمسَ النهار الفَرَاقد )

قالوا ولما خرج ابن الأشعث على الحجاج بن يوسف حشد معه أهل الكوفة فلم يبق من وجوههم وقرائهم أحد له بناهة إلا خرج معه لثقل وطأة الحجاج عليهم

فكان عامر الشعبي وأعشى همدان ممن خرج معه وخرج أحد النصبي أبو أسامة الهمداني المغني مع الأعشى لألفته إياه وجعل الأعشى يقول الشعر في ابن الأشعث يمدحه ولا يزال يحرض أهل الكوفة بأشعاره على القتال وكان مما قاله في ابن الأشعث يمدحه

( يأبَى الإِله وعزةُ ابن محمد ... وجدودُ مَلْك قبلَ آل ثَمودِ )

( أن تأنسوا بمذمَّمين عروقُهم ... في الناس إنْ نُسبوا عروقُ عَبيد )

( كم من أبٍ لك كان يعقِد تاجَه ... بجبين أبلج مِقْوَلِ صِنْديد )

( وإذا سألتَ المجدُ أين محلّه ... فالمجدُ بين محمد وسعيد )

 

( بين الأشجّ وبين قيسٍ باذخٌ ... بَخْ بَخْ لوالده وللمولود )

( ما قصَّرَتْ بكَ أن تَنال مَدَى العُلا ... أخلاقُ مَكْرُمةٍ وإِرثُ جدود )

( قَرْم إذا سامَى القُرُومَ ترى له ... أعراقَ مجدٍ طارفٍ وتَليد )

( وإذا دعا لعظيمةٍ حُشدتْ له ... هَمْدان تحت لوائه المعقود )

( يَمْشُون في حَلَق الحديد كأنهم ... أُسْد الإِباء سمعنَ زَأرَ أسود )

( وإذا دعوتَ بآل كِنْدة أَجْفَلوا ... بكهول صدقٍ سيِّد ومَسُود )

( وشبابِ مأسَدةٍ كأنّ سيوفَهم ... في كلّ مَلْحَمةٍ بروقُ رعود )

( ما إن ترى قيساً يقارب قيسَكم ... في المَكْرُمات ولا ترى كسعيد )

شعره عندما رده ابن الأشعث

وقال حماد الراوية في خبره كانت لأعشى همدان مع ابن الأشعث مواقف محمودة وبلاء حسن وآثار مشهورة وكان الأعشى من أخواله لأن أم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أم عمرو بنت سعيد بن قيس الهمداني

قال فلما صار ابن الأشعث إلى سجستان جبى مالا كثيرا فسأله أعشى همدان أن يعطيه منه زيادة على عطائه فمنعه فقال الأعشى في ذلك

( هل تعرف الدارَ عفا رسمُها ... بالحَضْر فالروضةِ من آمِدِ )

 

( دارٌ لخَوْدٍ طَفْلَةٍ رُودةٍ ... بانَتْ فأمسى حبُّها عامدِي )

( بيضَاءَ مثلِ الشمس رَقْرَاقةٍ ... تَبْسِم عن ذي أُشُر بارد )

( لم يُخْطِ قلبي سهمُها إذ رمتْ ... يا عجباً من سهمها القاصِد )

( يأيها القَرْمُ الهِجَانُ الذي ... يَبْطِش بطشَ الأسد اللاَّبد )

( والفاعلُ الفعلَ الشريفَ الذي ... يُنْمَى إلى الغائب والشاهد )

( كم قد أُسَدِّي لك من مِدْحةٍ ... تُرْوَى مع الصادر والوارد )

( وكم أجبنا لك من دَعوةٍ ... فاعرفْ فما العارفُ كالجاحد )

( نحن حَمَيْناك وما تَحتمي ... في الرَّوْع من مَثْنىً ولا واحِد )

( يومَ انتصرنا لك مِن عابد ... ويومَ أنجيناك من خالد )

( ووقعة الرَّيّ التي نِلْتَها ... بجَحْفلٍ من جَمْعنا عاقد )

( وكم لَقِينا لك من واترٍ ... بصرِف نابَيْ حَنِق حارد )

( ثم وَطِئْناه بأقدامنا ... وكان مثلَ الحيَّة الراصد )

( إلى بلاء حسنٍ قد مضى ... وأنتَ في ذلك كالزاهد )

( فاذكرُ أيادينا وآلاءَنا ... بعودةٍ من حِلْمك الراشد )

( ويومَ الأهواز فلا تَنْسَه ... ليس النَّثَا والقولُ بالبائد )

( إنا لنرجوك كمال نَرْتجي ... صوبَ الغمام المُبرق الراعد )

 

( فَانفَخْ بكفَّيْك وما ضَمَّتا ... وافعل فَعالَ السَّيِّد الماجد )

( ما لَك لا تُعطي وأنتَ امرؤٌ ... مُثْرٍ من الطارف والتالد )

( تَجْبي سِجِسْتانَ وما حولها ... مُتكئاً في عيشك الراغد )

( لا ترهبُ الدهرَ وأيامَه ... وتَجْرُد الأرضَ مع الجارد )

( إن يكُ مكروهٌ تَهِجْنا له ... وأنتَ في المعروف كالراقد )

( ثم تَرى أنّا سنرضى بذا ... كلاَّ وربِّ الراكع الساَّجِد )

( وحُرمةِ البيت وأستارِه ... ومَنْ به مِنْ ناسكٍ عابد )

( تلك لكم أمنيّةٌ باطلٌ ... وغفوةٌ من حُلُم الراقد )

( ما أنا إنْ هاجك مِنْ بعدها ... هَيْجٌ بآتيكَ ولا كابِد )

( ولا إذا ناطُوك في حَلْقة ... بحاملٍ عنك ولا فاقد )

( فأَعْطِ ما أعطيتَه طَيِّباً ... لا خيرَ في المَنْكود والناكد )

( نحن ولدناك فلا تَجْفُنا ... واللهُ قد وصَّاك بالوالد )

( إن تك من كِنْدةَ في بيتها ... فإن أخوالكَ من حاشد )

( شُمُّ العرانين وأهلُ الندى ... ومُنتَهى الضيِّفان والرائد )

( كم فيهمُ من فارس مُعْلَم ... وسائسٍ للجيش أو قائد )

( وراكبٍ للهَوْل يجتابُه ... مثلَ شِهاب القَبَس الواقد )

( أو ملأٍ يُشفَى بأحلامهم ... من سَفَه الجاهل والمارد )

( لم يجعلِ اللهُ بأحسابنا ... نقصاً وما الناقص كالزائد )

 

( وربّ خالٍ لك في قومه ... فرعٌ طويلُ الباع والساعد )

( يَحتضِر البأس وما يبتغي ... سوى إسار البَطَل الناجد )

( والطعنِ بالراية مستمكِناً ... في الصفّ ذي العادِية الناهد )

( فارتَحْ لأخوالك واذكرهمُ ... وأرحمهمُ للسَّلَف العائد )

( فإنّ أخوالَك لم يَبْرحوا ... يُرْبُون بالرِّفد على الرّافدِ )

( لم يَبْخَلوا يوماً ولم يجْبُنوا ... في السّلف الغازِي ولا القاعد )

( ورُبَّ خالٍ لك في قومه ... حمّال أثقال لها واجد )

( مُعْتَرفٍ للرزء في ماله ... والحقِّ للسائل والعامد )

مدحه النعمان بن بشير

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد الأزدي قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن ابن الكلبي وأخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي وذكره العنزي عن أصحابه قالوا جميعا خرج أعشى همدان إلى الشأم في ولاية مروان بن الحكم فلم ينل فيها حظا فجاء إلى النعمان بن بشير وهو عامل على حمص فشكا إليه حاله فكلم

 

له النعمان بن بشير اليمانية وقال لهم هذا شاعر اليمن ولسانها واستماحهم له فقالوا نعم يعطيه كل رجل منا دينارين من عطائه فقال لا بل أعطوه دينارا دينارا واجعلوا ذلك معجلا فقالوا أعطه إياه من بيت المال واحتسبها على كل رجل من عطائه ففعل النعمان وكانوا عشرين ألفا فأعطاه عشرين ألف دينار وأرتجعها منهم عند العطاء فقال الأعشى يمدح النعمان

( ولَمْ أرَ للحاجاتِ عند التماسها ... كنُعْمانَ نُعمانِ النَّدَى ابن بَشيرِ )

( إذا قال أَوْفَى ما يقول ولم يكن ... كمُدْلٍ إلى الأقوام حبل غُرُور )

( متى أكْفُر النعمانَ لم أُلْفَ شاكراً ... وما خيرُ من لا يقتدِي بشكُور )

( فلولا أخو الأنصار كنتُ كنازلٍ ... ثَوَى ما ثَوَى لم يَنْقَلِبْ بنَقِير )

شعره في حرب نصيبين

وقال الهيثم بن عدي في خبره حاصر المهلب بن أبي صفرة نصيبين وفيها أبو قارب يزيد بن أبي صخر ومعه الخشبية فقال المهلب يأيها الناس لا يهولنكم هؤلاء القوم فإنما هم العبيد بأيديها العصي

فحمل عليهم المهلب وأصحابه فلقوهم بالعصي فهزموهم حتى أزالوهم عن موقفهم

فدس المهلب رجلا من عبد القيس إلى يزيد بن أبي صخر ليغتاله وجعل له ذلك جعلا سنيا قال الهيثم بلغني أنه أعطاه مائتي ألف درهم قبل أن يمضي ووعده بمثلها

 

إذا عاد فاندس له العبدي فاغتاله فقتله وقتل بعده فقال أعشى همدان في ذلك

( يُسمَّوْن أصحاب العِصيّ وما أرى ... مع القوم إلا المَشْرِفيّةَ مِن عصا )

( ألا أيُّها اللّيثُ الذي جاء حاذِرا ... وألقى بنا جرمى الخيام وعرّصا )

( أتحسب غزو الشأم يوماً وحربه ... كبِيضٍ يُنظِّمن الجُمان المفصَّصا )

( وسيرِك بالأهْواز إذ أنت آمنٌ ... وشربِك ألبانَ الخَلاَيا المُقَرَّصا )

( فأقسمتُ لا تَجْبِي لك الدهر درهماً ... نَصِيبُون حتَّى تُبْتَلى وتُمَحَّصا )

( ولا أنت من أثوابِها الخُضْرِ لابسٌ ... ولكنَّ خُشباناً شِداداً ومِشْقَصا )

( فكم ردَّ من ذِي حاجةٍ لا ينالُها ... جُديْع العَتيك ردّه الله أبرَصا )

( وشيّد بنياناً وظَاهر كسوةً ... وطال جُدَيْع بعد ما كان أوْقَصا )

تصغير جدع جديع بالدال غير معجمة

والأبيات التي كانت فيها الغناء المذكور معه خبر الأعشى في هذا الكتاب يقولها في زوجة له من همدان يقال لها جزلة هكذا رواه الكوفيون وهو الصحيح

وذكر الأصمعي أنها خولة هكذا رواه في شعر الأعشى

فذكر العنزي في أخبار الأعشى المتقدم إسنادها أنها كانت عند الأعشى امرأة من قومه يقال لها أم الجلال فطالت مدتها معه وأبغضها ثم خطب إمرأة من قومه يقال لها جزلة وقال الأصمعي خولة فقالت له لا حتى تطلق أم الجلال فطلقها وقال في ذلك

( تقادَم وُدِّك أمَّ الجَلالِ ... فطاشت نبالُكِ عند النِّضالِ )

( وطال لزومُك لي حِقْبةً ... فَرثت قُوَى الحبل بعد الوِصال )

( وكان الفؤاد بها مُعجَباً ... فقد أصبح اليومَ عن ذاك سالي )

 

( صَحا لا مُسيئاً ولا ظالماً ... ولكنْ سَلاَ سَلْوةً في جمال )

( ورُضْتِ خلائقِنا كلَّها ... ورُضْنا خلائقَكم كلَّ حال )

( فأَعْيَيْتِنا في الذي بيننا ... تَسُومِينَني كلَّ أمرٍ عُضال )

( وقد تأمُرِينَ بقَطع الصديق ... وكان الصديق لنا غيرَ فالي )

( وإتيانِ ما قد تَجنَّبْتُه ... وليداً ولُمتُ عليه رجالي )

( أفَالْيَوْمَ أَركَبُه بعد ما ... عَلا الشَّيبُ منِّي صَمِيمَ القَذال )

( لعمرُ أبيكِ لقد خِلْتِني ... ضَعيفَ القُوَى أو شديدَ المِحَال )

( هلُمِّي اسألي نائلاً فانظُري ... أأحرِمُكِ الخيرَ عند السؤال )

( ألمْ تعلمي أنّني مُعْرِقُ ... نَمَانِي إلى المجد عمّي وخالي )

( وأنّي إذا ساءني منزلٌ ... عزمتُ فأوشكْتُ منه ارتحالي )

( فبعضَ العتاب فلا تَهْلِكِي ... فَلاَ لَكِ في ذَاكِ خيرٌ ولا لي )

( فلما بدا ليَ منها البَذاءُ ... صَبّحتُها بثلاثٍ عِجالِ )

( ثلاثاً خرجْنَ جميعاً بها ... فخلَّيْنها ذاتَ بيْتٍ ومال )

( إلى أهلها غيرَ مخلوعةٍ ... وما مَسّها عندنا من نَكال )

( فأمستْ تَحِنّ حنينَ اللِّقاح ... من جَزَع إِثْرَ مَن لا يُبالي )

( فحِنِّي حنينَكِ واستيقني ... بأنا أطّرَحْنَاكِ ذاتَ الشمال )

( وأن لا رجوعَ فلا تُكْذَبينَ ... ما حنَّت النِّيبُ إثْرَ الفِصَال )

 

( ولا تحسبيني بأنِّي ندمتُ ... كَلاّ وخالقنا ذي الجَلال )

فقالت له أم الجلال بئس والله بعل الحرة وقرين الزوجة المسلمة أنت ويحك أعددت طول الصحبة والحرمة ذنبا تسبني وتهجوني بها ثم دعت عليه أن يبغضه الله إلى زوجته التي اختارها وفارقته

فلما انتقلت إلى أهلها وصارت جزلة إليه ودخل بها لم يحظ عندها ففركته وتنكرت له واشتد شغفه بها ثم خرج مع ابن الأشعث فقال فيها

( حَيِّيا جَزْلة منّي بالسّلامِ ... دُرّةَ البحرِ ومصباحَ الظلام )

( لا تَصُدّى بعد وُدّ ثابتٍ ... واسمَعي يا أمَّ عيسى من كلامِي )

( إنْ تَدُوِمي لي فوَصْلي دائمٌ ... أو تَهُمِّي لي بهَجْر أو صِرام )

( أو تكوني مثلَ برقٍ خُلَّبٍ ... خادعٍ يلمَع في عُرْض الغمام )

( أو كتخييلِ سَرَاب مُعْرِضٍ ... بفَلاَة أو طُروقٍ في المنام )

( فاعلمي إن كنتِ لمّا تعلمي ... ومتى ما تفعلي ذاك تُلامي )

( بعد ما كان الذي كان فلا ... تُتْبِعي الإِحسانَ إِلا بالتمام )

( لا تَنَاسَيْ كلَّ ما أعطيْتِني ... مِنْ عهودٍ ومواثيقَ عِظام )

( واذكري الوعدَ الذي واعدْتِني ... ليلةَ النِّصف من الشهر الحرام )

( فلئن بَدّلْتِ أو خِسْتِ بنا ... وتجرَّأتِ على أمِّ صَمام )

أم صمام الغدر والحنث

( لا تُبالِين إذاً مِنْ بعدِها ... أبداً تركَ صلاةٍ أو صيام )

( راجعي الوصل ورُدِّي نظرةً ... لا تَلَجِّي في طِمَاح وأثام )

 

( وإذا أنكرتِ مني شيمةً ... ولقد يُنكَر ما ليس بذام )

( فاذكريها لي أزُلْ عنها ولا ... تُسْفِحي عينيكِ بالدمع السِّجام )

( وأرى حبلَك رَثّاً خَلَقاً ... وحبالي جُدُداً غيرَ رِمَام )

( عَجِبتْ جزلةُ منّي أن رأتْ ... لِمّتي حُفَّتْ بَشيْب كالثُّغَام )

( ورأت جسمي علاه كَبْرةٌ ... وصروفَ الدهر قد أبلتْ عظامي )

( وصَلِيتُ الحربَ حتى تركْت ... جسدي نِضْواً كأشْلاء اللِّجام )

( وهي بيضاءُ على مَنْكِبها ... قَطَطٌ جَعْدٌ ومَيَّال سُخَامُ )

( وإذا تضحك تُبدي حَبَباً ... كرُضَاب المسك في الراَّح المُدام )

( كَمَلتْ ما بين قَرْنٍ فإلى ... موضعِ الخَلْخال منها والخِدَام )

( فاراها اليومَ لي قد أحدثتْ ... خُلُقاً ليس على العهد القُدَام )

أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعيد الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي أنه أتى البصرة أيام ابن الزبير فجلس في المسجد إلى قوم من تميم فيهم الأحنف بن قيس فتذاكروا أهل الكوفة وأهل البصرة وفاخروا بينهم إلى أن قال

 

قائل من أهل البصرة وهل أهل الكوفة إلا خولنا استنقذناهم من عبيدهم يعني الخوارج

قال الشعبي فهجس في صدري أن تمثلت قول أعشى همدان

( أفخرتم أنْ قتلتمْ أَعبُداً ... وهزمتمْ مَرَّةً آلَ عَزَلْ )

( نحن سُقناهمْ إليكم عَنْوةً ... وجمعنا أمرَكم بعد فشل )

( فإذا فاخرتمونا فاذكروا ... ما فعلنا بكُم يومَ الجَمَل )

( بين شيخٍ خاضبٍ عُثْنونَه ... وفتىً أبيضَ وَضّاحٍ رِفَلّ )

( جاءنا يرفُل في سابغةٍ ... فذبحناه ضحىً ذبحَ الحَمَل )

( وعَفَونا فَنِسيتم عفونَا ... وكفرتم نعمةَ اللَّه الأجلّ )

قال فضحك الأحنف ثم قال يأهل البصرة قد فخر عليكم الشعبي وصدق وانتصف فأحسنوا مجالسته

شعره في هزيمة الزبير الخثعمي

أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثنا الرياشي عن أبي محلم عن الخليل بن عبد الحميد عن أبيه قال

 

بعث بشر بن مروان الزبير بن خزيمة الخثعمي إلى الري فلقيه الخوارج بجلولاء فقتلوا جيشه وهزموه وأبادوا عسكره وكان معه أعشي همدان فقال في ذلك

( أُمِّرتْ خَثْعمٌ على غير خَيْرِ ... ثم أوصاهُم الأميرُ بسيرِ )

( أين ما كنتُم تَعيفون للناس ... وما تزجُرون من كل طير )

( ضلّت الطيرُ عنكُم بجُلُولاءَ ... وغَرّتكُم أماني الزُّبير )

( قدرٌ ما أتيح لي من فلسطينَ ... على فالج ثَقَال وعَيْر )

( خَثْعميّ مغصّص جرجمانيْ ... محلّ غزا مع ابن نمير )

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال سألت الأصمعي عن أعشى همدان فقال هو من الفحول وهو إسلامي كثير الشعر ثم قال لي العجب من ابن دأب حين يزعم أن أعشى همدان قال

( من دعا لي غُزَيَّلي ... أربح اللَّه تجارتُه )

ثم قال سبحان الله أمثل هذا يجوز على الأعشى أن يجزم اسم الله عز و جل ويرفع تجارته وهو نصب

ثم قال لي خلف الأحمر والله لقد طمع ابن دأب في الخلافة حين ظن أن هذا يقبل منه وأن له من المحل مثل أن يجوز مثل هذا

قال ثم قال ومع ذلك أيضا إن قوله

 

( من دعا لي غزيِّلي ... )

لا يجوز إنما هو من دعا لغزيلي ومن دعا لبعير ضال

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي قال أملق أعشى همدان فأتى خالد بن عتاب بن ورقاء فأنشده

( رأيتُ ثناءَ الناس بالقول طيباً ... عليكَ وقالوا ماجدٌ وابن ماجِد )

( بَنِي الحارِث السامين للمجد إنكم ... بنيتم بناءً ذكرهُ غيرُ بائد )

( هَنيئاً لِما أعطاكُم اللَّه واعلموا ... بأني سأُطْرِي خالداً في القصائد )

( فإن يك عَتّابٌ مضى لسبيله ... فما مات من يبقى له مثلُ خالد )

فأمر له بخمسة آلاف درهم

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان قال قال عمر بن عبد العزيز يوما لسابق البربري ودخل عليه أنشدني يا سابق شيئا من شعرك تذكرني به فقال أو خيرا من شعري فقال هات قال قال أعشى همدان

( وبينما المرءُ ناعماً جذِلاً ... في أهله معجَباً بالعيش ذا أَنقَ )

 

( غِرّاً أتيح له من حَيْنه عرض ... فما تلبَّث حتى مات كالصَّعِق )

( ثُمَّتَ أضحى ضُحَّى من غبِّ ثالثة ... مقنَّعا غيرَ ذي رُوح ولا رَمَق )

( يُبكَى عليه وأَدْنَوْه لمُظْلِمة ... تُعْلَى جوانبُها بالتُّرب والفِلَقِ )

( فما تزوّد ممّا كان يَجْمعه ... إلاّ حَنُوطاً وما واراه من خِرَق )

( وغيرَ نفحةِ أعوادٍ تُشَبّ له ... وقَلّ ذلك من زادٍ لمُطلَّق )

قال فبكى عمر حتى أخضل لحيته

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال سأل أعشى همدان شجرة بن سليمان العبسي حاجة فرده عنها فقال يهجوه

( لقد كنتَ خيّاطاً فأصبحتَ فارساً ... تُعَدّ إذا عُدّ الفوارس من مُضَرْ )

( فإن كنتَ قد أنكرتَ هذا فقُلْ كذا ... وبيِّن لي الجُرحَ الذي كان قد دَثَر )

( وإصبعُكَ الوسطَى عليه شَهيدةٌ ... وما ذاك إلا وَخزُها الثوبَ بالإِبر )

قال وكان يقال إن شجرة كان خياطا وقد كان ولى للحجاج بعض أعمال السواد

فلما قدم على الحجاج قال له يا شجرة أرني إصبعك أنظر إليها قال أصلح الله الأمير وما تصنع بها قال أنظر إلى صفة الأعشى فخجل شجرة

فقال الحجاج لحاجبه مر المعطي أن يعطي الأعشى من عطاء شجرة كذا

 

وكذا يا شجرة إذا أتاك امرؤ ذو حسب ولسان فاشتر عرضك منه

الحجاج يأسره ويقتله

أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد الأزدي قال حدثنا أحمد بن عمرو الحنفي عن جماعة قال المبرد أحسب أن أحدهم مؤرج بن عمرو السدوسي قالوا لما أتي الحجاج بن يوسف الثقفي بأعشى همدان أسيرا قال الحمد لله الذي أمكن منك ألست القائل

( لمّا سَفَوْنا للكَفُور الفَتّانْ ... بالسيّد الغِطْرِيف عبد الرحمنْ )

( سار يَجْمع كالقَطَا من قَحْطان ... ومن مَعَدّ قد أتى ابن عَدْنَان )

( أأمكن ربِّي من ثَقِيف هَمْدان ... يوماً إلى الليل يُسَلّي ما كان )

( إنَ ثقيفاً منهم الكَذّابان ... كَذّابُها الماضي وكذابٌ ثان )

أولست القائل

( يابنَ الأشجّ قَريعِ كِندَةَ ... لا أُبالي فيك عَتْبَا )

( أنت الرئيسُ ابنُ الرئيس ... وأنت أعلى الناس كعبا )

 

( نُبِّئتُ حَجّاجَ بن يوسف ... خَرّ مِن زَلَقٍ فَتَبّا )

( فانهضْ فُدِيتَ لعلّه ... يجلو بك الرحمنُ كَرْبا )

( وابعث عطيّةَ في الخيول ... يَكُبّهنّ عليه كَبّا )

كلا يا عدو الله بل عبد الرحمن بن الأشعث هو الذي خر من زلق فتب وحار وانكب وما لقي ما أحب ورفع بها صوته واربد وجهه واهتز منكباه فلم يبق أحد في المجلس إلا أهمته نفسه وارتعدت فرائصه

فقال له الأعشى بل أنا القائل أيها الأمير

( أبى اللَّهُ إلا أن يتم نورَه ... ويُطفىء نارَ الفاسقين فتخمُدَا )

( ويُنزل ذُلاًّ بالعراق وأهلِه ... كما نقضوا العهدَ الوَثيق المؤكّدا )

( وما لبث الحجاجُ أن سَلّ سيفَه ... علينا فولَّى جمعُنا وتبدّدا )

( وما زاحَف الحجاجُ إلا رأيتَه ... حُساماً مُلَقّىً للحروب مُعَوَّدا )

( فكيف رأيتَ اللَّه فرّق جمعَهم ... ومزَّقهم عُرْضَ البلاد وشَرّدا )

( بما نكَثوا من بَيْعة بعد بيعة ... إذا ضَمِنوها اليوم خَاسُوا بها غدا )

( وما أحدثوا من بِدعة وعَظيمة ... من القوم لم تصعَدْ إلى الله مَصْعَدا )

( ولمّا دَلَفْنَا لإبن يوسف ضِلّة ... وأبرق منا العارضان وأرعدا )

( قطعنا إليه الخندقين وإنما )

( قطعنا وأفضينا إلى الموت مُرْصِدا ) ... ( فصادَمَنا الحجاجُ دون صفوفنا ... كِفاحاً ولم يضرب لذلك موعدا )

 

( بجُند أمير المؤمنين وخيلِه ... وسلطانه أمسى مُعاناً مؤيَّدا )

( ليهنىءْ أميرَ المؤمنين ظهورُه ... على أمة كانوا بُغاةً وحُسّدا )

( وجدنا بني مروان خيرَ أئمة ... وأعظمَ هذا الخَلْق حلماً وسُؤدُدا )

( وخيرَ قريش في قريش أَرُومَةً ... وأكرمَهم إلاّ النبيَّ محمدا )

( إذا ما تدبَّرنا عواقبَ أمرنا ... وجدنا أمير المؤمنين المُسَدَّدا )

( سيغِلب قوما غالبوا اللهَ جَهْرةً ... وإن كايدوه كان أقوى وأكيدا )

( كذاك يُضِلّ الله من كان قلبُه ... ضعيفا ومن والى النفاقَ وأَلْحدا )

( فقد تركوا الأموال والأهل خلفَهم ... وبِيضاً عليهن الجلابين خُرّدا )

( ينادينهم مستعبراتٍ إليهم ُ ... ويُذْرين دمعًا في الخدود وإثمِدا )

( وإلا تناولهنّ منك برحمة ... يكنّ سَبَبا والبُعولُة أعُبدا )

( تَعّطفْ أميرَ المؤمنين عليهم ... فقد تركوا أمرَ السفاهة والرَّدى )

( لعلهمُ أن يُحدثوا العامَ توبةً ... وتعرفَ نُصحاً منهمُ وتودُّدا )

( لقد شَمْتَ يابن الأشعث العامَ مَصرنا ... فظلّوا وما لاقوا من الطير أَسْعُدا )

( كما شاءم اللَّه النُّجَيْر وأهلَه ... بجَدِّك مَنْ قد كان أشقى وأنكدا )

فقال من حضر من أهل الشام قد أحسن أيها الأمير فخل سبيله فقال أتظنون أنه أراد المدح لا والله لكنه قال هذا أسفا لغلبتكم إياه وأراد به أن يحرض أصحابه

ثم أقبل عليه فقال له أظننت يا عدو الله أنك تخدعني بهذا الشعر وتنفلت من يدي حتى تنجو ألست القائل ويحك

 

( وإذا سألتَ المجدُ أين محلُّه ... فالمجدُ بين محمد وسعيدِ )

( بين الأغرِّ وبين قيس باذخٌ ... بَخْ بَخْ لوالِده وللمولودِ )

والله لا تبخبخ بعدها أبدا أو لست القائل

( وأصابني قومٌ وكنتُ أصيبهم ... فاليوم أصبِر للزمان وأعرف )

كذبت والله ما كنت صبورا ولا عروفا ثم قلت بعده

( وإذا تُصبْك من الحوادث نكبةٌ ... فاصبرْ فكل غَيَابة ستكشَّف )

أما والله لتكونن نكبة لا تنكشف غيابتها عنك أبدا يا حرسي اضرب عنقه فضرب عنقه

وذكر مؤرج السدوسي أن الأعشى كان شديد التحريض على الحجاج في تلك الحروب فجال أهل العراق جولة ثم عادوا فنزل عن سرجه ونزعه عن فرسه ونزع درعه فوضعها فوق السرج ثم جلس عليها فأحدث والناس يرونه ثم أقبل عليهم فقال لهم لعلكم أنكرتم ما صنعت قالوا أو ليس هذا موضع نكير قال لا كلكم قد سلح في سرجه ودرعه خوفا وفرقا ولكنكم سترتموه وأظهرته فحمي القوم وقاتلوا أشد قتال يومهم إلى الليل وشاعت فيهم الجراح والقتلى وانهزم أهل الشأم يومئذ ثم عاودوهم من غد وقد نكأتهم الحرب وجاء مدد من أهل الشأم فباكروهم القتال وهم مستريحون فكانت الهزيمة وقتل ابن الأشعث

وقد حكيت هذه الحكاية عن أبي كلدة اليشكري أنه فعلها في هذه الوقعة وذكر ذلك أبو عمرو الشيباني في أخبار أبي كلدة وقد ذكر ما حكاه مع أخباره في موضعه من هذا الكتاب

 

أخبار أحمد النصبي ونسبه

النصبي هو صاحب الأنصاب

وأول من غنى بها وعنه أخذ النصب في الغناء هو أحمد بن أسامة الهمداني من رهط الأعشى الأدنين

ولم أجد نسبه متصلا فأذكره وكان يغني بالطنبور في الإسلام

وكان فيما يقال ينادم عبيد الله بن زياد سرا ويغينه وله صنعة كثيرة حسنة لم يلحقها أحد من الطنبوريين ولا كثير ممن يغني بالعود

وذكره جحظة في كتاب الطنبوريين فأتى من ذكره بشيء ليس من جنس أخباره ولا زمانه وثلبه فيما ذكره

وكان مذهبه عفا الله عنا وعنه في هذا الكتاب أن يثلب جميع من ذكره من أهل صناعته بأقبح ما قدر عليه وكان يجب عليه ضد هذا لأن من انتسب إلى صناعنه ثم ذكر متقدمي أهلها كان الأجمل به أن يذكر محاسن أخبارهم وظريف قصصهم ومليح ما عرفه منهم لا أن يثلبهم بما لا يعلم وما يعلم

فكان فيما قرأت عليه من هذا الكتاب أخبار أحمد النصبي وبه صدر كتابه فقال أحمد النصبي أول من غنى الأنصاب على الطنبور وأظهرها وسيرها ولم يخدم خليفة ولا كان له شعر ولا أدب

وحدثني جماعة من الكوفيين أنه لم يكن بالكوفة أبخل منه مع يساره وأنه كان يقرض الناس بالربا وأنه اغتص في دعوة دعي إليها بفالوذجة حارة فبلعها فجمعت أحشاءه فمات

وهذا كله باطل أما الغناء فله منه صنعة في الثقيل الأول

 

وخفيف الثقيل والثقيل الثاني ليس لكثير أحد مثلها

ومنها الصوت الذي تقدم ذكره وهو قوله

( حيِّيا خولةَ منِّي بالسلامِ ... )

ومنها

( سَلَبتَ الجواري حَلْيَهنّ فلم تدَعْ ... سِواراً ولا طَوْقا على النحر مُذْهَبَا )

وهو من الثقيل الثاني والشعر للعديل بن الفرخ وقد ذكرت ذلك في أخباره

ومنها

( يأيها القلبُ المطيعُ الهوى ... أنَّى اعتراك الطَربُ النازحُ )

وهو أيضا من الثقيل الثاني وأصوات كثيرة نادرة تدل على تقدمه

وأما ما وصفه من بخله وقرضه للناس بالربا وموته من فالوذجة حارة أكلها فلا أدري من من الكوفيين حدثه بهذا الحديث ليس يخلو من أن يكون كاذبا أو نحل هو هذه الحكاية ووضعها هنا لأن أحمد النصبي خرج مع أعشى همدان وكان قرابته وإلفه في عسكر ابن الأشعث فقتل فيمن قتل

روى ذلك الثقات من أهل الكوفة والعلم بأخبار الناس وذلك يذكر في جملة أخباره

أخبرنا محمد بن مزيد بن أبي الأزهر والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه وذكره العنزي في أخبار أعشى همدان المذكورو عنه عن رجاله

 

المسمين قال كان أحمد النصبي مواخيا لأعشى همدان مواصلا له فأكثر غنائه في أشعاره مثل صنعته في شعره

( حيِّيا خولةَ منِّي بالسلامِ ... ) و

( لمن الظعَّائن سيرُهن ترجُّفُ ... ) و

( يأيها القلب المطيعُ الهوى ... )

وهذه الأصوات قلائد صنعته وغرر أغانيه

قال وكان سبب قوله الشعر في سليم ابن صالح بن سعد بن جابر العنبري وكان منزل سليم ساباط المدائن أن أعشى همدان وأحمد النصبي خرجا في بعض مغازيهما فنزلا على سليم فأحسن قراهما وأمر لدوابهما بعلوفة وقضيم وأقسم عليهما أن ينتقلا إلى منزله ففعلا فعرض عليهما الشراب فأنعما به وطلباه فوضعه بين أيديهما وجلسا يشربان فقال أحمد النصبي للأعشى قل في هذا الرجل الكريم شعرا تمدحه به حتى أغني فيه فقال الأعشى يمدحه

( يأيها القلبُ المطيع الهوى ... أنَّى اعتراك الطَّربُ النازِحُ )

( تذكُر جُمْلاً فإِذا ما نأتْ ... طار شعاعاً قلبُك الطامح )

( هَلاّ تناهيتَ وكنتَ امرأً ... يزجُرك المُرشِد والنَّاصح )

 

( ما لك لا تترُك جهلَ الصِّبا ... وقد علاك الشَّمِط الواضح )

( فصار من ينهاك عن حبّها ... لم تَرَ إلا أنه كاشح )

( يا جُمْل ما حُبّي لكم زائلٌ ... عنّي ولا عن كَبِدي نازح )

( حُمّلت وُدًّا لكُم خالصاً ... جِدًّا إذا ما هزَل المازح )

( ثم لقد طال طِلابِيكُم ... أسعى وخيرُ العمل النّاجح )

( إني توسّمت امرأً ماجداً ... يصدُق في مِدْحته المادح )

( ذؤابةَ العنبر فاخترتُه ... والمرء قد يُنْعِشُه الصالح )

( أَبْلَجَ بُهْلولا وظنّي به ... أنّ ثنائي عنده رابح )

( سَلِيمُ ما أنتَ بِنِكْسٍ ولا ... ذمَّك لي غادٍ ولا رائح )

( أُعطيتَ وُدّي وثنائي معا ... وخَلّةً ميزانُها راجح )

( أرعاك بالغيب وأهوى لك الرشد ... وجَيْبي فاعلمنْ ناصح ... )

( إني لِمَن سالمتَ سِلمٌ ومن ... عاديتَ أُمْسِي وله ناطح )

( في الرأس منه وعلى أنفه ... من نَقَمَاتي مِيسَمٌ لائح )

( نِعْم فتى الحيّ إذَا ليلةٌ ... لم يُورِ فيها زَندَهُ القادح )

( وراح بالشَّوْل إلى أهلها ... مغبّرةً أذقانُها كالح )

( وهَبّت الريحُ شآميةً ... فانجَحَر القابسُ والنابح )

 

( قد علم الحيّ إذا أمْحلوا ... أنك رفّادٌ لهم مانح )

( في الليلة القالِي قِراها التي ... لا عابِقٌ فيها ولا صابح )

( فالضيف معروفٌ له حقُّه ... له على أبوابكم فاتح )

( والخيلُ قد تعلم يومَ الوغى ... أنّك من جَمْرتها ناضح )

قال فغنى أحمد النصبي في بعض هذه الأبيات وجارية لسليم في السطح فسمعت الغناء فنزلت إلى مولاها وقالت إني سمعت من أضيافك شعرا ما سمعت أحسن منه فخرج معها مولاها فاستمع حتى فهم ثم نزل فدخل عليهما فقال لأحمد لمن هذا الشعر والغناء ومن أنتما فقال الشعر لهذا وهو أبو المصبح أعشى همدان والغناء لي وأنا أحمد النصبي الهمداني فانكب على رأس أعشى همدان فقبله وقال كتمتماني أنفسكما وكدتما أن تفارقاني ولم أعرفكما ولم أعلم خبركما واحتبسهما شهرا ثم حملهما على فرسين وقال خلفا عندي ما كان من دوابكما وارجعا من مغزاكما إلي

فمضيا إلى مغزاهما فأقاما حينا ثم انصرفا فلما شارفا منزله قال أحمد للأعشى إني أرى عجبا قال وما هو قال أرى فوق قصر سليم ثعلبا قال لئن كنت صادقا فما بقي في القرية أحد فدخلا القرية فوجدا سليما وجميع أهل القرية قد أصابهم الطاعون فمات أكثرهم وانتقل باقيهم

هكذا ذكر إسحاق وذكر غيره أن الحجاج طالب سليما بمال عظيم فلم يخرج منه حتى باع كل ما يملكه وخربت قريته وتفرق أهلها ثم باعه الحجاج عبدا فاشتراه بعض أشراف أهل الكوفة إما أسماء بن خارجة وإما بعض نظرائه فأعتقه

 

نسبة هذاالصوت الذي قال الأعشى شعره وصنع أحمد النصبي لحنه في سليم

صوت

( يأيها القلبُ المطيع الهوى ... أنَّى اعتراك الطربُ النازحُ )

( تذكُر جُمْلا فإذا ما نأَت ... طار شَعاعاً قلبُك الطامح )

( أُعْطِيت ودّي وثنائي معاً ... وخَلَّةً ميزانها راجح )

( إني تخيرت امرأ ماجدا ... يصدُق مِدْحته المادح )

( سلِيم ما أنت بِنِكْسٍ ولا ... ذَمَّك لي غادٍ ولا رائح )

( نِعْم فتى الحيّ إذا ليلةٌ ... لم يُورِ فيها زَنْدَه القادح )

( وراح بالشَّوْل إلى أهلها ... مُغْبَرَّةً أذقانُها كالِح )

( وهَبَّتِ الريحُ شآميةً ... فانجَحَر القابسُ والنابح )

الشعر لأعشى همدان والغناء لأحمد النصبي ولحنه ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وذكر يونس أن فيه لمالك لحنا ولسنان الكاتب لحنا آخر

صوت

من المائة المختارة

( تَنَكَّر من سُعْدَى وأقفر من هندٍ ... مُقامُهما بين الرَّغامين فالفردِ )

( محلٌّ لسُعْدى طالما سكنتْ به ... فأوحشَ ممن كان يسكنه بَعْدي )

 

الشعر لحماد الراوية والغناء لعبادل ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه خفيف ثقيل أول بالوسطى ذكر الهشامي أنه للهذلي وذكر عمرو بن بانة أنه لعبادل بن عطية

 

أخبار حماد الراوية ونسبه

هو حماد بن ميسرة فيما ذكره الهيثم بن عدي وكان صاحبه وراويته وأعلم الناس به وزعم أنه مولى بني شيبان

وذكر المدائني والقحذمي أنه حماد بن سابور وكان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها

وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتستزيره فيفد عليهم وينادمهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها ويجزلون صلته

حدثنا محمد بن العباس اليزيدي وعمي وإسماعيل العتكي قالوا حدثنا الرياشي قال قال الأصمعي كان حماد أعلم الناس إذا نصح قال وقلت لحماد ممن أنتم قال كان أبي من سبي سلمان بن ربيعة فطرحتنا سلمان لبني شيبان فولاؤنا لهم

قال وكان أبوه يسمى ميسرة ويكنى أبا ليلى قال العتكي في خبره قال الرياشي وكذلك ذكر الهيثم بن عدي في أمر حماد

أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي والهيثم بن عدي ولقيط قالوا قال الوليد بن يزيد لحماد الراوية بم استحققت هذا اللقب فقيل لك

 

الراوية فقال بأني أروي لكل شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به ثم أروي لأكثر منهم ممن تعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به ثم لا أنشد شعرا قديما ولا محدثا إلا ميزت القديم منه من المحدث فقال إن هذا لعلم وأبيك كثير فكم مقدار ما تحفظ من الشعر قال كثيرا ولكني أنشدك على كل حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام قال سأمتحنك في هذا وأمره بالإنشاد فأنشد الوليد حتى ضجر ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهليين وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم

حماد ومروان بن أبي حفصة

أخبرني يحيى بن علي المنجم قال حدثني أبي قال حدثني إسحاق الموصلي عن مروان بن أبي حفصة وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو بكر العامري عن الأثرم عن مروان بن أبي حفصة قال دخلت أنا وطريح بن إسماعيل الثقفي والحسين بن مطير الأسدي في

 

جماعة من الشعراء على الوليد بن يزيد وهو في فرش قد غاب فيها وإذا رجل عنده كلما أنشد شاعر شعرا وقف الوليد بن يزيد على بيت بيت من شعره وقال هذا أخذه من موضع كذا وكذا وهذا المعنى نقله من موضع كذا وكذا من شعر فلان حتى أتى على أكثر الشعر فقلت من هذا فقالوا حماد الراوية

فلما وقفت بين يدي الوليد أنشده قلت ما كلام هذا في مجلس أمير المؤمنين وهو لحنة لحانة فأقبل الشيخ علي وقال يابن أخي إني رجل أكلم العامة فأتكلم بكلامها فهل تروي من أشعار العرب شيئا فذهب عني الشعر كله إلا شعر ابن مقبل فقلت له نعم شعر ابن مقبل قال أنشد فأنشدته قوله

( سلِ الدارَ من جَنْبيْ حِبرٍّ فواهبٍ ... إذا ما رأى هَضْبَ القليب المُضَيَّحُ )

ثم جزت فقال لي قف فوقفت فقال لي ماذا يقول فلم أدر ما يقول فقال لي حماد يابن أخي أنا أعلم الناس بكلام العرب

يقال تراءى الموضعان إذا تقابلا

حدثني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال قلت لحماد الراوية يوما ألق علي ما شئت من الشعر أفسره لك فضحك

 

وقال لي ما معنى قول ابن مزاحم الثمالي

( تَخَوَّف السيرُ منها تامكاً قَرِداً ... كما تَخوّف عُودَ النَّبْعةِ السَّفَنُ )

فلم أدر ما أقول فقال تخوف تنقص قال الله عز و جل ( أو يأخذهم على تخوف ) أي على تنقص

قال الهيثم ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد

حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثني الكراني محمد بن سعد عن النضر بن عمرو عن الوليد بن هشام عن أبيه قال أنشدني الفرزدق وحماد الراوية حاضر

( وكنتَ كذئب السَّوْء لمّا رأى دماً ... بصاحبه يوماً أحال على الدمِ )

فقال له حماد أنت تقوله قال نعم قال ليس الأمر كذلك هذا لرجل من أهل اليمن قال ومن يعلم هذا غيرك أفأردت أن أتركه وقد نحلنيه الناس ورووه لي لأنك تعلمه وحدك ويجهله الناس جميعا غيرك

حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني الفضل قال حدثني ابن النطاح قال حدثني أبو عمرو الشيباني قال ما سألت أبا عمرو بن العلاء قط عن حماد الراوية إلا قدمه على نفسه ولا سألت حمادا عن أبي عمرو إلا قدمه على نفسه

 

حدثنا إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم وذكر عبد الله بن مسلم عن الثقفي عن إبراهيم بن عمر والعامري قالا كان بالكوفة ثلاثة نفر يقال لهم الحمادون حماد عجرد وجماد بن الزبرقان وحماد الراوية يتنادمون على الشراب ويتناشدون الأشعار ويتعاشرون معاشرة جميلة وكانوا كأنهم نفس واحدة وكانوا يرمون بالزندقة جميعا

حماد البخيل

أخبري الحسن بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال دخل مطيع بن إياس ويحيى بن زياد على حماد الراوية فإذا سراجه على ثلاث قصبات قد جمع أعلاهن وأسفلهن بطين فقال له يحيى بن زياد يا حماد إنك لمسرف مبتذل لحر المتاع فقال له مطيع ألا تبيع هذه المنارة وتشتري أقل ثمنا منها وتنفق علينا وعلى نفسك الباقي وتتسع به فقال له يحيى ما أحسن ظنك به ومن أين له مثل هذه إنما هي وديعة أو عارية فقال له مطيع أما إنه لعظيم الأمانة عند الناس قال له يحيى وعلى عظيم أمانته فما أجهل من يخرج مثل هذه من داره ويأمن عليها غيره قال مطيع ما أظنها عارية ولا وديعة ولكني أظنها مرهونة عنده على مال وإلا فمن يخرج هذه من بيته فقال لهما حماد قوما عني يا بني الزانيتين واخرجا من منزلي فشر منكما من يدخلكما بيته

 

انقطع ليزيد فجفاه هشام

حدثني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن عبيد أبو عصيدة قال حدثني محمد بن عبد الرحمن العبدي عن حميد بن محمد الكوفي عن إبراهيم بن عبد الرحمن القرشي عن محمد بن أنس وأخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وخبر حماد بن إسحاق أتم واللفظ له

قال حماد الراوية كان انقطاعي إلى يزيد بن عبد الملك فكان هشام يجفوني لذلك دون سائر أهله من بني أمية في أيام يزيد فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام خفته فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سرا فلما لم أسمع أحد يذكرني سنة أمنت فخرجت فصليت الجمعة ثم جلست عند باب الفيل فإذا للشرطين قد وقفا علي فقالا لي يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر فقلت في نفسي من هذا كنت أحذر ثم قلت للشريطيين هل لكما أن تدعاني آتي أهلي فأودعهم وداع من لا ينصرف إليهم أبدا ثم أصير معكما إليه فقالا ما إلى ذلك من سبيل فاستسلمت في أيديهما وصرت إلى يوسف بن عمر وهو في الإيوان الأحمر فسلمت عليه فرد علي السلام ورمى إلي كتابا فيه بسم الله الرحمن الرحمن الرحيم من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مروع ولا متعتع وادفع إليه خمسمائة دينار وجملا مهريا يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق

 

دمشق

فأخذت الخمسمائة الدينار ونظرت فإذا جمل مرحول فوضعت رجلي في الغرز وسرت اثنتي عشرة ليلة حتى وافيت باب هشام فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالزحام وهو في مجلس مفروش بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وحيطانه كذلك وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب خز حمر وقد تضمخ بالمسك والعنبر وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب يقلبه بيده فتفوح روائحه فسلمت فرد علي واستدناني فدنوت حتى قبلت رجله وإذا جاريتان لم أر قبلهما مثلهما في أذني كل واحدة منهما حلقتان من ذهب فيهما لؤلؤلتان تتوقدان فقال لي كيف أنت يا حماد وكيف حالك فقلت بخير يا أمير المؤمنين قال أتدري فيم بعث إليك قلت لا قا لبعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر من قاله فقلت وما هو فقال

( فدعَوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءت ... قَيْنةٌ في يمينها إبريقُ )

قلت هذا يقوله عدي بن زيد في قصيدة له قال فأنشدنيها فأنشدته

( بكَر العاذلون في وَضَح الصبح ... يقولون لي ألاَ تستفيق )

 

( ويلومون فيك يابنةَ عبد الله ... والقلب عندكم مَوْهوق )

( لست أدري إذ أكثروا العذلَ عندي ... أعدوُّ يلومني أو صديق )

( زانها حسنُها وفَرْع عَمِيم ... وأثيثٌ صَلْتُ الجبين أنيق )

( وثنايا مُفلّجات عذاب ... لا قَصارٌ تُرى ولا هُنّ رُوق )

( فدعَوْا بالصَّبُوح يوماً فجاءت ... قيْنةٌ في يمينها إبريق )

( قدّمْته على عُقار كعين الديك ... صفَّى سُلافَها الرَّاووق )

( مُرّة قبل مزجها فإذا ما ... مُزجت لذّ طعمها من يذوق )

( وطفَت فوقها فقاقيعُ كالدرّ ... صِغار يُثيرها التَّصْفيق )

( ثم كان المِزاج ماء سماء ... غير ما آجنٍ ولا مَطْروق )

قال فطرب ثم قال أحسنت والله يا حماد يا جارية أسقيه فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي

وقال أعد فأعدت فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه ثم قال للجارية الأخرى اسقيه فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي

فقلت إن سقتني الثالثة افتضحت فقال سل حوائجك فقلت كائنة ما كانت قال نعم قلت إحدى الجاريتين فقال لي هما جميعا لك بما عليهما وما لهما ثم قال للأولى اسقيه فسقتني شربة سقطت معها فلم اعقل حتى أصحبت فإذا بالجاريتين عند رأسي وإذا عدة من الخدم مع كل واحد منهم بدرة فقال لي أحدهم أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك خذ هذه فانتفع بها فأخذتها

 

والجاريتين وانصرفت

هذا لفظ حماد عن أبيه ولم يقل أحمد بن عبيد في خبره أنه سقاه شيئا ولكنه ذكر أنه طرب لإنشاده ووهب له الجاريتين لما طلب إحداهما وأنزله في دار ثم نقله من غد إلى منزل أعده له فانتقل إليه فوجد فيه الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه وأنه أقام عنده مدة فوصل إليه مائة ألف درهم وهذا هو الصحيح لأن هشاما لم يكن يشرب ولا يسقى أحد بحضرته مسكرا وكان ينكر ذلك ويعيبه ويعاقب عليه

في أبيات عدي المذكورة في هذا الخبر غناء نسبته

صوت

( بكَر العاذلون في وَضَح الصبح ... يقولون ما له لا يُفيقُ )

( ويلومون فيكِ يابنةَ عبد اللَّه ... والقلبُ عندكم مَوْهوق )

( ثم نادوْا إلى الصَّبُوح فقامت ... قَيْنة في يمينها إبريق )

( قدّمْته على عُقار كعين الديك ... صفّى سُلاَفها الراووق )

في البيتين الأولين لحن من الثقيل الأول مختلف في صانعه نسبه يحيى بن المكي إلى معبد ونسبه الهشامي إلى حنين

وفي الثالث وهو ثم نادوا والرابع لعبد الله بن العباس الربيعي رمل وفيهما خفيف رمل ينسب إلى مالك وخفيف ثقيل ذكر حبش أنه لحنين

 

أجازه يوسف بن عمر بأمر الوليد

أخبرني محمد بن مزيد والحسين بن يحيى قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الأصمعي قال قال حماد الراوية كتب الوليد بن يزيد وهو خليفة إلى يوسف بن عمر أحمل إلي حمادا الراوية على ما أحب من دواب البريد وأعطه عشرة آلاف درهم معونة له فلما أتاه الكتاب وأنا عنده نبذه إلي فقلت السمع والطاعة فقال يا دكين بن شجرة أعطه عشرة آلاف درهم فأخذتها

فلما كان اليوم الذي اردت الخروج فيه أتيت يوسف مودعا فقال يا حماد أنا بالموضع الذي قد عرفت من أمير المؤمنين ولست مستغنيا عن ثنائك فقلت أصلح الله الأمير إن العوان لا تعلم الخمرة

خرجت حتى أتيت الوليد بن يزيد وهو بالبخراء فاستأذنت فأذن لي فإذا هو على سرير ممهد وعليه ثوبان إزار ورداء يقيئان الزعفران قيئا وإذا عنده معبد ومالك وأبو كامل مولاه فتركني حتى سكن جأشي ثم قال أنشدني

( أمِن المنونِ وريْبِها تتوجّع ... ُ )

فأنشدته إياها حتى أتيت على آخرها فقال لساقيه اسقه يا سبرة أكؤسا فسقاني

 

ثلاث كؤس خدرت ما بين الذؤابة والنعل

ثم قال يا معبد غنني

( ألا هل جاءك الأظعانُ ... إذ جاوزن مُطَّلَحا )

فغناه ثم قال غنني

( أتنسى إذ تودّعنا سُلَيمى ... بفرع بَشَامةٍ سُقِيَ البَشام )

فغنى ثم قال غنني

( جَلا أُميّة عنّا كلَّ مَظْلِمة ... سهلُ الحجابِ وأوْفَى بالذي وَعَدا )

فغناه ثم قال اسقني يا غلام شاب بزب فرعون فأتاه بقدح معوج فيه طول فسقاه به عشرين قدحا

ثم أتاه الحاجب فقال أصلح الله أمير المؤمنين الرجل الذي طلبت بالباب فقال أدخله فدخل غلام شاب لم أر أحسن منه وجها في رجله فدع فقال يا سبرة اسقه كأسا فسقاه ثم قال له غنني

( وهْي إذ ذاك عليها مئزر ... ولها بيتُ جَوَار من لُعَبْ )

فغناه فنبذ إليه أحد ثوبيه ثم قال غنني

( طَرَق الخيالُ فمرحَبَا ... الفاً برؤية زينَبا )

فغضب معبد وقال يا أمير المؤمنين إنا مقبلون إليك بأقدارنا وأسناننا وإنك تتركنا بمزجر الكلب وأقبلت على هذا الصبي فقال والله يا أبا عباد ما جهلت

 

قدرك ولا سنك ولكن هذا الغلام طرحني على مثل الطياجن من حرارة غنائه فسألت عن الغلام فإذا هو ابن عائشة

طلبه المنصور فجاءه وأنشده شعرا

حدثني الحسن بن محمد المادراني الكاتب قال حدثني الرياشي عن العتبي وأخبرني به هاشم بن محمد عن الرياشي وليس خبره بتمام هذا قال طلب المنصور حمادا الراوية فطلب ببغداد فلم يوجد وسئل عنه إخوانه فعرفوا من سألهم عنه أنه بالبصرة فوجهوا إليه برسول يشخصه

قال الرسول فوجدته في حانة وهو عريان يشرب نبيذا من إجانة وعلى سوأته رأس دستجة فقلت أجب أمير المؤمنين

فما رأيت رسالة أرفع ولا حالة أوضع من تلك فأجاب فأشخصته إليه فلما مثل بين يديه قال له أنشدني شعر هفان بن همام بن نضلة يرثي أباه فأنشده

( خليليّ عُوجا إنها حاجةٌ لنا ... على قبر همّامٍ سقتْه الرواعدُ )

( على قبر منْ يُرجى نداه ويُبتغى ... جداه إذا لم يحمد الأرض رائد )

( كريم الثَّنا حلو الشمائل بينه ... وبين المزجَّى نفْنفٌ متباعد )

 

( إذا نازع القومَ الأحاديث لم يكن ... عيِيَّا ولا ثِقْلا على من يقاعد )

( صبورٌ على العِلاّت يُصبح بطنُه ... خَميصاً وآتِيه على الزاد حامد )

( وضعنا الفتى كلّ الفتى في حَفِيرة ... بحُرِّين قد راحتْ عليه العوائد )

( صريعاً كنصل السيف تضرِبُ جلوه ... ترائبَهنّ المُعْوِلاتُ الفواقد )

قال فبكى أبو جعفر حتى أخضل لحيته ثم قال هكذا كان أخي أبو العباس رضي الله عنه

أخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكردية يستخف مطيع بن إياس ويحبه وكان منقطعا إليه وله معه منزلة حسنة فذكر له حمادا الراوية وكان صديقه وكان مطرحا مجفوا في أيامهم فقال ائتنا به لنراه

فأتى مطيع حمادا فأخبره بذلك وأمره بالمسير معه إليه فقال له حماد دعني فإن دولتي كانت مع بني أمية ومالي عند هؤلاء خير فأبى مطيع إلا الذهاب إليه فاستعار حماد سوادا وسيفا ثم أتاه ثم مضى به مطيع إلى جعفر

فلما دخل عليه سلم عليه سلاما حسنا وأثنى عليه وذكر فضله فرد عليه وأمره بالجلوس فجلس فقال جعفر انشدني فقال لمن أيها الأمير ألشاعر بعينه أم لمن حضر قال بل أنشدني لجرير قال حماد فسلخ والله شعر جرير كله من قلبي إلا قوله

( بان الخليطُ برامتيْن فودَّعوا ... أو كلَّما اعتزموا لبَيْن تجزَعُ )

 

فاندفعت فأنشدته إياه حتى انتهيت إلى قوله

( وتقول بَوْزَعُ قد دَبَبْتَ على العصا ... هلاّ هَزِئتِ بغيرنا يا بوْزعُ )

قال حماد فقال لي جعفر أعد هذا البيت فأعدته فقال بوزع أي شيء هو فقلت اسم امرأة فقال أمرأة اسمها بوزع هو بريء من الله ورسوله ونفي من العباس بن عبد المطلب إن كانت بوزع إلا غولا من الغيلان تركتني والله يا هذا لا أنام الليلة من فزع بوزع يا غلمان قفاه فصفعت والله حتى لم أدر أين أنا ثم قال جروا برجله فجروا برجلي حتى أخرجت من بين يديه مسحوبا فتخرق السواد وانكسر جفن السيف ولقيت شرا عظيما مما جرى علي وكان أغلظ من ذلك كله واشد بلاء إغرامي ثمن السواد وجفن السيف فلما انصرفت أتاني مطيع يتوجع لي فقلت له ألم أخبرك أني لا أصيب منهم خيرا وأن حظي قد مضى مع بني أمية

حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال بلغني أن رجلا تحدث في مجلس حماد الراوية فقال بلغني أن المأبون له رحم كرحم المرأة قال وكان الرجل يرمى بهذا الداء فقال حماد لغلامه اكتب هذا الخبر عن الشيخ فإن خير العلم ما حمل عن أهله

قال وكتب حماد الراوية إلى بعض الأشراف الرؤساء قال

( إن لي حاجةً فرأيَك فيها ... لك نفسي فِدًى من الأوصابِ )

( وهي ليست مما يبلِّغها غيري ... ولا يستطيعها في كتاب )

( غيرَ أنّي أقولها حين ألقاك ... رُوَيْداً أُسِرُّها في حجاب )

فكتب إليه الرجل اكتب إلي بحاجتك ولا تشهرني بشعرك فكتب إليه حماد

 

( إنني عاشق لجُبّتك الدَّكْناءِ ... عشقاً قد حال دون الشرابِ )

( فاكسُنِيها فدتْك نفسي وأهلي ... أَتبَاهَى بها على الأصحاب )

( ولك الله والأمانة أن أجعلها ... عمرَها أميرَ ثيابي )

فبعث إليه بها وقد رويت هذه القصة لمطيع بن إياس

حماد والخزيمي وبعض الغلمان

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني أبو يعقوب الخزيمي قال كنت في مجلس فيه حماد عجرد وحماد الراوية ومعنا غلام أمرد فنظر إليه حماد الراوية نظرا شديدا وقال لي يا أبا يعقوب قد عزمت الليلة على أن أدب على هذا الغلام فقلت شأنك به ثم نمنا فلم أشعر بشىء إلا وحماد ينيكني وإذا أنا قد غلطت ونمت في موضع الغلام فكرهت أن أتكلم فينتبه الناس فأفتضح وأبطل عليه ما أراد فأخذت بيده فوضعتها على عيني العوراء ليعرفني فقال قد عرفت الآن فيكون ماذا وفديناه بذبح عظيم قال وما برح علم الله وأنا أعالجه جهدي فلا ينفعني حتى أنزل

قال إسحاق وأهدى حماد إلى صديق له غلاما وكتب إليه قد بعثت إليك غلاما تتعلم عليه كظم الغيظ

قال

 

واستهدى من صديق له نبيذا فأهدى إليه دسيتجة نبيذ فكتب إليه لو عرفت في العدد أقل من واحد وفي الألوان شرا من السواد لأهديته إلي

قال وسمع مغنية تغني

( عاد قلبي من الطويلة عاد ... )

فقال وثمود فإن الله عز و جل لم يفرق بينهما والشعر

( عاد قلبي من الطويلة عِيد ... )

أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا الرياشي قال حدثني أبو عثمان اللاحقي وأخبرني به محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام عن بشر بن المفضل بن لاحق قال جاء رجل إلى حماد الراوية فأنشده شعرا وقال أنا قلته فقال له أنت لا تقول مثل هذا هذا ليس لك وإن كنت صادقا فاهجني فذهب ثم عاد إليه فقال له قد قلت فيك

( سيعلم حَمّاد إذا ما هجوتُه ... أأنتحل الأشعار أم أنا شاعرُ )

( ألم تر حماداً تقدّم بطنُه ... وأُخّر عنه ما تَجنّ المآزر )

( فليس براءٍ خُصْيتيْه ولو جَثَا ... لركبته ما دام للزيت عاصر )

( فيا ليته أَمْسَى قعيدةَ بيته ... له بعلُ صدقٍ كَوْمه متواترِ )

( فحماد نعم العِرْسُ للمرء يبتغي النكاح ... وبئس المرء فيمن يفاخِر )

 

فقال حماد حسبنا عافاك الله هذا المقدار وحسبك قد علمنا أنك شاعر وأنك قائل الشعر الأول وأجود منه وأحب أن تكتم هذا العشر ولا تذيعه فتفضحني فقال له قد كنت غنيا عن هذا

وانصرف الرجل وجعل حماد يقول أسمعتم أعجب مما جررت على نفسي من البلاء

حدثني الأسدي أبو الحسن قال حدثنا الرياشي قال حدثنا أبو عبد الله الفهمي قال عاب حماد الراوية شعرا لأبي الغول فقال يهجوه

( نعم الفتى لو كان يعرف ربَّه ... ويُقيمُ وقتَ صلاته حمادُ )

( هَدَلتْ مشافرَه الدَّنَان فأنفُه ... مثل القَدُوم يَسُنّها الحدّاد )

( وابيض من شرب المدامة وجهه ... فبياضه يوم الحساب سواد )

( لا يُعجبنّك بَزُّه وثيابُه ... إن اليهود تُرَى لها أَجْلاد )

( حَمّاد يا ضبَعُاً تجُرّ جِعَارَها ... أَخْنَى لها بالقريتين جراد )

( سبعا يلاعبها ابنها وبناتها ... ولها من الخرق الكبار وساد )

قال معنى قوله

( أخنى لها القريتين جرادُ ... )

هو مثل قول العرب للضبع خامري أم عامر أبشري بجراد عظال وكمر رجل فإن الضبع تجيء إلى القتيل وقد استلقى على قفاه وانتفخ غرموله فكان

 

كالمنعظ فتحتك به وتحيض من الشهوة فيثب عليها الذئب حينئذ فتلد منه السمع وهو دابة لا يولد له مثل البغل

وفي مثل هذا المعنى يقول الشنفري الأزدي

( تضحَك الضَّبْع لقَتْلَى هُذّيْلٍ ... وترى الذئبَ لها يَسْتهلُّ )

تضحك تحيض

وقال ابن النطاح كان حماد الراوية في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص فنقب ليلة على رجل فأخذ ماله وكان فيه جزء من شعر الأنصار فقرأه حماد

 

فاستحلاه وتحفظه ثم طلب الأدب والشعر وأيام الناس ولغات العرب بعد ذلك وترك ما كان عليه فبلغ في العلم ما بلغ

حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن أبيه عن جده عن حماد الراوية قال دخلت على المهدي فقال أنشدني أحسن أبيات قيلت في السكر ولك عشرة آلاف درهم وخلعتان من كسوة الشتاء والصيف فأنشدته قول الأخطل

( تَرَى الزُّجاجَ ولم يُطْمَث يُطيف به ... كأنه من دم الأجواف مُختضَبُ )

( حتى إذا افتَضّ ماءُ المُزن عُذرَتَها ... راحَ الزجاجُ وفي ألوانه صَهَب )

( تَنْزو إذا شجّها بالماء مازجُها ... نَزْوَ الجنادب في رَمْضاءَ تلتهب )

( راحوا وهم يحسَبون الأرض في فُلُك ... إن صُرِّعوا وقَت الراحاتُ والرُّكَب )

فقال لي أحسنت وأمر لي بما شرطه ووعدني به فأخذته

مدح بلال بن أبي بردة

حدثني اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله قال حدثني سليمان بن أبي شيخ قال حدثني صالح بن سليمان قال قدم حماد الراوية على بلال بن أبي بردة البصرة وعند بلال ذو الرمة

 

فأنشده حماد شعرا مدحه به فقال بلال لذي الرمة كيف ترى هذا الشعر قال جيدا وليس له قال فمن يقوله قال لا أدري لا أنه لم يقله فلما قضى بلال حوائج حماد وأجازه قال له إن لي إليك حاجة قال هي مقضية قال أنت قلت ذلك الشعر قال لا قال فمن يقوله قال بعض شعراء الجاهلية وهو شعر قديم وما يرويه غيري قال فمن أين علم ذو الرمة أنه ليس من قولك قال عرف كلام أهل الجاهلية من كلام أهل الإسلام

قال صالح وأنشد حماد الراوية بلال بن أبي بردة ذات يوم قصيده قالها ونحلها الحطيئة يمدح أبا موسى الأشعري يقول فيها

( جَمَعْتَ من عامرٍ فيها ومن جُشَم ... ومن تَميم ومن حَاء ومن حامِ )

( مُسْتحقِبات رواياها جحافلَها ... يسمو بها أَشْعَرِيٌّ طَرْفَه سامي )

فقال له بلال قد علمت أن هذا شيء قلته أنت ونسبته إلى الحطيئة وإلا فهل كان يجوز أن يمدح الحطيئة أبا موسى بشيء لا أعرفه أنا ولا أرويه ولكن دعها تذهب في الناس وسيرها حتى تشتهر ووصله

رأي المفضل الضبي بحماد

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال سمعت أحمد بن الحارث الخراز يقول سمعت ابن الأعرابي يقول سمعت المفضل الضبي يقول

 

قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا

فقيل له وكيف ذلك أيخطىء في روايته أم يلحن قال ليته كان كذلك فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب لا ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك

أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي قال حدثني السعيدي الراوية وأبو إياد المؤدب وكان مؤدبي ثم أدب المعتصم بعد ذلك وقد تعالت سنه وحدثني بنحو من ذلك عبد الله بن مالك وسعيد بن سلم وحدثني به ابن غزالة أيضا واتفقوا عليه أنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباذ وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا المفضل الضبي الراوية فدخل فمكث مليا ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعا وقد بان في وجه حماد الإنكسار والغم وفي وجه المفضل

 

السرور والنشاط ثم خرج حسين الخادم معهما فقال يا معشر من حضر من أهل العلم إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها ووصل المفضل بخمسين ألفا لصدقه وصحة روايته فمن أراد أن يسمع شعرا جيدا محدثا فليسمع من حماد ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهدي قال للمفضل لما دعا به وحده إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال

( دع ذا وعدِّ القول في هَرِم ... )

ولم يتقدم له قبل ذلك قول فما الذي أمر نفسه بتركه فقال له المفضل ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئا إلا أني توهمته كان يفكر في قول يقوله أو يروي في أن يقول شعرا فعدل عنه إلى مدح هرم وقال دع ذا أو كان مفكرا في شيء من شأنه فتركه وقال دع ذا أي دع ما أنت فيه من الفكر وعد القول في هرم فأمسك عنه

ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل فقال ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين قال فكيف قال فأنشده

( لمن الديار بقُنّة الحَجْر ... أَقْوَيْنَ مُذْحِجَج ومُذْ دَهْرِ )

( قفر بمُندَفَع النحائت من ... ضَفْوَى أُولاَت الضَّالِ والسِّدْر )

( دع ذا وعَدِّ القول في هرم ... خيرِ الكهول وسيّد الحَضْر )

قال فأطرق المهدي ساعة ثم أقبل على حماد فقال له قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بد من استحلافك عليه ثم أستحلفه بأيمان البيعة وكل يمين محرجة

 

ليصدقنه عن كل ما يسأله عنه فحلف له بما توثق منه

قال له اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير فأقر له حينئذ أنه قائلها فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهرة أمرهما وكشفه

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا أحمد بن عبيد قال حدثنا الأصمعي قال قال حماد الراوية أرسل إلي أمير الكوفة فقال لي قد أتاني كتاب أمير المؤمنين الوليد بن يزيد يأمرني بحملك

فجملت فقدمت عليه وهو في الصيد فلما رجع أذن لي فدخلت علي وهو في بيت منجد بالأرمني أرضه وحيطانه فقال لي أنت حماد الراوية فقلت له إن الناس ليقولون ذلك قال فما بلغ من روايتك قلت أروي سبعمائة قصيدة أول كل واحدة منها بانت سعاد فقال إنها لرواية ثم دعا بشراب فأتته جارية بكأس وإبريق فصبت في الكأس ثم مزجته حتى رأيت له حبابا فقال أنشدني في مثل هذه فقلت يا أمير المؤمنين هي كما قال عدي بن زيد

( بكَر العاذلون في وَضَح الصبح ... يقولون لي ألا تستفيقُ )

( ثم ثاروا إلى الصَّبُوح فقامت ... قَيْنةٌ في يمينها إبريق )

( قدّمْته على سُلافٍ كريح المسك ... صفَّى سُلافَها الرَّاوُوق )

( فتَرى فوقَها فقاقيعَ كالياقوت ... يَجْرِي خلالها التصفيق )

قال فشربها ولم يزل يستعيدني الأبيات ويشرب عليها حتى سكر ثم قام فتناول مرفقة من تلك المرافق فجعلها على رأسه ونادى من يشتري لحوم البقر ثم قال لي يا حماد دونك ما في البيت فهو لك فكان أول مال تأثلته

حدثني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال

 

قال خلف كنت آخذ من حماد الراوية الصحيح من أشعار العرب وأعطيه المنحول فيقبل ذلك مني ويدخله في أشعارها وكان فيه حمق

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال حدثني المسور الغنزي وكان من رواة العرب وكان أسن من سماك بن حرب عن حماد قال دخلت على زياد فقال لي أنشدني فقلت من شعر من أيها الأمير قال من شعر الأعشى فأنشدته

( بكّرتْ سُميّةُ غُدْوةً أجمالُها ... )

قال فما أتمتت القصيدة حتى تبينت الغضب في وجهه وقال الحاجب للناس ارتفعوا فقاموا ثم لم أعد والله إليه

قال حماد فكنت بعد ذلك إذا استنشدني خليفة أو أمير تنبهت قبل أن أنشده لئلا يكون في القصيدة اسم أم له أو ابنة أو أخت أو زوجة

الوليد يسأله سبب تسميته بالراوية

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال قال الوليد بن يزيد لحماد الراوية لم سميت الراوية وما بلغ من حفظك حتى استحققت هذا الإسم فقال له يا أمير المؤمنين إن كلام العرب يجري على ثمانية وعشرين حرفا أنا أنشدك على كل حرف منها مائة قصيدة فقال إن هذا لحفظ هات فاندفع ينشد حتى مل الوليد ثم استخلف على الإستماع منه خليفة حتى وفاه ما قال فأحسن الوليد صلته وصرفه

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني الحسين بن محمد بن أبي طالب الديناري قال حدثني إسحاق الموصلي قال

 

قال حماد الراوية أرسل الوليد بن يزيد إلي بمائتي دينار وأمر يوسف بن عمر بحملي إليه على البريد

قال فقلت لا يسألني إلا عن طرفيه قريش وثقيف فنظرت في كتابي قريش وثقيف

فلما قدمت عليه سألني عن أشعار بلي فأنشدته منها ما استحسنه ثم قال أنشدني في الشراب وعنده وجوه من أهل الشام فأنشدته

( إِصْبَحِ القومَ قهوةً ... في أباريق تُحتذَى )

( من كُميتٍ مُدامةٍ ... حَبّذا تلك حبذا )

( يترك الأُذْنَ شربُها ... أرْجُواناً بها خُذا )

فقال أعدها فأعدتها فقال لخدمه خذوا آذان القوم فأتينا بالشراب فسقينا حتى ما درينا متى نقلنا قال ثم حملنا وطرحنا في دار الضيفان فما أيقظنا إلا حر الشمس

وجعل شيخ من أهل الشأم يشتمني ويقول فعل الله بك وفعل أنت الذي صنعت بنا هذا

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال حدثني أبو عبيدة قال حدثني يحيى بن صبيرة بن الطرماح بن حكيم عن أبيه عن جده الطرماح قال أنشدت حمادا الراوية في مسجد الكوفة وكان أذكى الناس وأحفظهم قولي

( بانَ الخليطُ بسُحْرةٍ فتبدَّدُوا ... )

وهي ستون بيتا فسكت ساعة ولا أدري ما يريد ثم أقبل علي فقال أهذه لك

 

قلت نعم قال ليس الأمر كما تقول ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين بيتا زادها فيها في وقته فقلت له ويحك إن هذا الشعر قلته منذ أيام ما اطلع عليه أحد قال قد والله قلت أنا هذا الشعر منذ عشرين سنة وإلا فعلي وعلي فقلت لله علي حجة حافيا راجلا إن جالستك بعد هذا أبدا فأخذ قبضة من حصى المسجد وقال لله علي بكل حصاة من هذا الحصى مائة حجة إن كنت أبالي فقلت أنت رجل ماجن والكلام معك ضائع ثم انصرفت

قال دماذ وكان أبو عبيدة والأصمعي ينشدان بيتي الطرماح في هذه القصيدة وهما

( مُجتاب حُلّة بُرْجدٍ لسَرَاته ... قِدَداً وأخلَف ما سراه البُرجدُ )

( يبدو وتُضمره البلاد كّأنه ... سَيفُ على شَرَفٍ يُسَلُّ ويُغمَد )

وكانا يقولان هذا أشعر الناس في هذين البيتين

 

أخبار عبادل ونسبه

عبادل بن عطية مولى قريش مكي مغن محسن متقدم من الطبقة الثانية التي منها يونس الكاتب وسياط ودحمان

وكان حسن الوجه نظيف الثياب ظريفا ولم يفارق الحجاز ولا وفد إلى ملوك بني أمية كما وفد غيره من طبقته ومن هو فوقها ويقال إنه كان مقبول الشهادة

أخبرني الحسن بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثنا حماد عن ابن أبي جناح قال كان عبادل بن عطية سريا نبيلا نظيفا ساكن الطرف حسن العشرة وكان يعاشر مشيخة قريش وجلة أحداثها فإذا أرادوا الغناء منه غنى فأحسن وأطرب وكانت له صنعة كثيرة منها

( نقول يا عَمَّتَا كُفِّي جوانبَه ... وَيْلِي بَلِيتُ وأَبْلى جِيديَ الشَّعَرُ )

ومنها

( أمِن حَذَرِ البين ما ترقُدَ ... ودمعُك يجري فيما يَجمُدُ )

ومنها

( إني أستحيتُك أن أفوه بحاجتي ... فإذا قرأت صحيفتي فتفهّمِ )

ومنها

( قُولاَ لنائلَ ما تَقْضِين في رجلٍ ... يهْوى هواكِ وما جنّبتِه اجتنبا )

 

ومنها

( علام تَرَيْن اليومَ قَتْلى لديكُم ... حلالاً بلا ذنبٍ وقتلي محرَّمُ )

قال وكانوا يقولون له ألا تكثر الصنعة فيقول بأبي أنتم إنما أنحته من صخر ومن أكثر أرذل

نسبة هذه الأصوات

صوت

( أمن حَذَرِ البَيْن ما ترقد ... ودمعُك يجري فما يجمُدُ )

( دعاني إلى الحَيْن فاقتادني ... فؤادٌ إلى شِقْوتي يَعْمِد )

( فلو أن قلبي صحا وارْعَوى ... لكان له عنكُم مَقْعَد )

( يَبِيدُ الزّمان وحُبّي لكم ... يَزيد خَبالاً وما يَنفد )

الغناء لعبادل ثقيل أول بالسبابة والوسطى عن ابن المكي وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل

ومنها

صوت

( إني أستحيتُكَ أن أفوه بحاجتي ... فإذا قرأتَ صحيفتي فتفهَّمِ )

( وعليكَ عهدُ الله إن أنبأتَه ... أهلَ السَّيَالة إن فعلتَ وإِن لَمِ )

هكذا قال ابن هرمة والمغنون يغنونه

 

( وعليكَ عهدُ الله إن أخبرتَه ... أحداً وإن أظهرته بتكلُّمِ )

الشعر لأبن هرمة والغناء لعبادل

الوشاية به

أخبرني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني عبد الله بن محمد بن إسماعيل الجعفري عن أبيه أن حسن بن حسن بن علي كان صاحب شراب وفيه يقول ابن هرمة

( إني استحيتُك أن أفوه بحاجتي ... فإذا قرأتَ صحيفتي فتفهَّمِ )

( وعليك عهد الله إن أنبأتَه ... أحداً ولا أظهرتَه بتكلّمِ )

قال عبد الله بن محمد الجعفري وكان ابن هرمة كما حدثني أبي يشرب هو وأصحاب له بشرف السيالة عند سمرة بالشرف يقال لها سمرة جرانة فنفد شرابهم فكتب إلى حسن بن حسن بن علي يطلب منه نبيذا وكتب إليه بهذين البيتين

فلما قرأ حسن رقعته قال وأنا علي عهد الله إن لم أخبر به عامل السيالة أمني يطلب الدعي الفاعل نبيذا وكتب إلى عامل السيالة أن يجيء إليه فجاء لوقته فقال له إن ابن هرمة وأصحابه السفهاء يشربون عند سمرة جرانة فاخرج فخدهم فخرج إليه العامل بأهل السيالة وأنذر بهم ابن هرمة فسبقهم هربا وتعلق هو وأصحابه بالجبل ففاتوهم وقال في حسن

( كتبتُ إليك أَسْتَهِدي نبيذاً ... وأُدْلِي بالجِوار وبالحقوقِ )

( فخبَّرتَ الأميرَ بذاك غَدْراً ... وكنتَ أخا مُفاضَحةٍ ومُوق )

 

ومنها

صوت

( علامَ تَرْين اليومَ قَتْلي لديكُم ... حلالاً بلا ذنب وقتلي مُحرَّمُ )

( لكِ النفس ما عاشت وِقَاءً من الرَّدى ... ونحن لكم فيما تَجنَّبِ أظلم )

وأما صنعته في

( قولا لنائلَ ما تَقْضين في رجلٍ ... )

فإن الشعر لمسعدة بن البختري ابن أخي المهلب بن أبي صفرة والغناء لعبادل

وقد ذكرت ذلك في موضع من هذا الكتاب مفرد لأن نائلة التي عنيت بهذا الشعر هي بنت الميلاء ولها أخبار ذكرت في موضع منفرد صلحت له

ومنها

صوت

( تقول يا عَمَّتَا كُفِّي جوانبَه ... وَيْلِي بَلِيتُ وأبْلَى جِيدِيَ الشَّعَرُ )

( مثلُ الأساوِد قد أعيا مَواشطَه ... تَضِلُّ فيه مَدَارِيها وتنكسر )

( فإن نشرْتَ على عَمْد ذوائبَها ... أبصرتَ منه فَتِيتَ المِسك يَنتشر )

الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لعبادل ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق

وفيه خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى دحمان وإلى الغريض وإلى عبادل أيضا

 

صوت

من المائة المختارة

( ليستْ نَعَمْ منكَ للعافين مُسْجَلةً ... من التخلُّق لكنْ شِيمةٌ خُلُقٌ )

( يكاد بابُك من عِلْم بصاحبه ... من دون بوَابه للناس يَنْدلِق )

لإسحاق في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول بالبنصر عن عمرو

وذكر يحيى ابن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق أن الشعر لطريح

وذكر يعقوب بن السكيت أنه لإبن هرمة والغناء في اللحن المختار لشهية مولاة العبلات خفيف رمل بالبنصر في مجراها

فمن روى هذه الأبيات لإبن هرمة ذكر أنها من قصيدة له يمدح بها عبد الواحد بن سلمان بن عبد الملك ومن ذكر أنها لطريح ذكر أنها من قصيدة له يمدح بها الوليد بن يزيد

والصحيح من القولين أن البيت الأول من البيتين لطريح والثاني لإبن هرمة

فبيت طريح من قصيدته التي مدح بها الوليد بن يزيد وهي طويلة يقول في تشبيهها

( تقول والعِيسُ قد شُدّتْ بأرحُلِها ... ألحقَّ أنّكَ منا اليوم منطلقُ )

( قلتُ نعم فاكظِمي قالت وما جَلَدِي ... ولا أظنّ اجتماعاً حين نفترق )

( فقلت إن أحْيَى لا أُطْوِل بِعادَكُم ... وكيفَ والقلبُ رهنٌ عندكم غَلَق )

( فارقتُها لا فؤادي من تذكُّرها ... سالِي الهمومِ ولا حَبْلِي لها خَلَق )

( فاضت على إثْرهم عيناكَ دمعُهما ... كما تَتَابع يجري اللؤلؤ النَّسَق )

 

صوت

( فاستبقِ عينك لا يُودي البكاءُ بها ... واكفُفْ بوادرَ دمعٍ منك تَستبق )

( ليس الشؤونُ وإن جادت بباقيةٍ ... ولا الجفونُ على هذا ولا الحَدَق )

لإسحاق في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول بالبنصر عن عمرو يقول فيها في مدح الوليد

( وما نَعَمْ منكَ للعافِين مُسْجَلة ... من التخلُّق لكنْ شِيمةٌ خُلُقُ )

( ساهمتَ فيها وفي لا فاختصصتَ بها ... وطار قومُ بلا والذمِّ فانطَلقوا )

( قوم هُم شَرَف الدنيا وسُودَدُها ... صَفْوٌ على الناس لم يُخْلَط بهم رَنَق )

( إن حاربوا وَضَعوا أو سالموا رفَعُوا ... أو عاقدوا ضَمِنوا أو حَدَّثوا صدَقوا )

وأما قصيدة إبراهيم بن هرمة التي فيها هذا الشعر فنذكر خبرها ثم نذكر موضع الغناء وما قبله وما بعده منها

ومن أبي أحمد رحمه الله سمعنا ذلك أجمع ولكنه حكى عن إسحاق في الأصوات المختارة ما قاله إسحاق

ولعله لم يتفقد ذلك أو لعل أحد الشاعرين أغار على هذا البيت فانتحله وسرقه من قائله

مدح وتعريض

أخبرني يحيى بن علي قال أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن رجل من أهل البصرة وحدثني به وكيع قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك عن حماد عن أبيه عن رجل من أهل البصرة وخبره أتم قال قال العباس بن الوليد بن عبد الملك وكان بخيلا لا يحب أن يعطي أحدا

 

شيئا ما بال الشعراء تمدح أهل بيتي أجمع ولا تمدحني فبلغ ذلك ابن هرمة وكان قد مدحه فلم يثبه فقال يعرض به ويمدح عبد الواحد بن سليمان

( ومُعجَب بمديح الشِّعر يمنعه ... من المديح ثوابُ المدح والشَّفَقُ )

( يا آبيَ المدح مِنْ قولٍ يُحبِّره ... ذو نِيقة في حواشي شعره أنَق )

( إنك والمدحَ كالعذراء يُعجبها ... مسُّ الرجال ويَثنى قَلبها الفَرَق )

( لكنْ بمَدْيَنَ من مفْضى سُوَيمرةٍ ... من لا يُذَمّ ولا يُشْنا له خُلُق )

( أهلُ المدائح تأتيه فتمدحه ... والمادحون إذا قالوا له صَدَقوا )

يعني عبد الواحد بن سليمان

( لا يستقرّ ولا تخفى علامته ... إذا القنا شالَ في أطرافها الحرق )

( في يومَ لا مالَ عند المرء ينفعه ... إلا السِّنَانُ وإِلا الرمح والدَّرَق )

( يَطعن بالرمح أحياناً ويضربهم ... بالسيف ثم يُدَانِيهم فيَعتنق )

وهذا البيت سرقه ابن هرمة من زهير ومن مهلهل جميعا فإنهما سبقا إليه قال مهلهل وهو أقدمهما

 

( أَنْبَضوا مَعْجَس القِسيّ وأبرقنا ... كما تُوعِد الفُحولُ الفحولاَ )

يعني أنهم لما أخذوا القسي ليرموهم من بعيد انتضوا سيوفهم ليخالطوهم ويكافحوهم بها

وقال زهير وهو أشرح من الأول

( يَطعنُهم ما ارتَمَوْا حتى إذا اطَعنوا ... ضارَبَ حتى إذا ما ضاربوا اعتنَقا )

فما ترك في المعنى فضلا لغيره

رجع إلى شعر ابن هرمة

( يكاد بابكُ من وجود ومن كرم ... من دون بَوّابه للناس يَنْدلقُ )

ويروى إذا أطاف به الجادون والعافون أيضا ويروى ينبلق

( إنّي لأَطْوِي رجالاً أن أزورَهُمُ ... وفيهمُ عَكرَ الأنعام والوَرَقُ )

( طيَّ الثياب التي لو كُشِّفت وُجِدتْ ... فيها المَعاوز في التفتيش والخِرَق )

( وأترك الثوبَ يوما وهْو ذو سَعة ... وألْبَس الثوب وهو الضيِّق الخَلَق )

( إكرامَ نفسي وأني لا يوافقني ... ولو ظَمِئتُ فَحُمتُ المَشْرَبُ الرَّنِقُ )

قال هارون بن الزيات في خبره فلما قال ابن هرمة هذه القصيدة أنشدها عبد الواحد بن سليمان وهو إذ ذاك أمير الحجاز فأمر له بثلثمائة دينار وخلعة موشية

 

من ثيابه وحمله على فرس وأعطاه ثلاثين لقحة ومائة شاة وسأله عما يكفيه في كل سنة ويكفي عياله من البر والتمر فأخبره به فأمر له بذلك أجمع لسنة وقال له هذا لك علي ما دمت ودمت في الدنيا واقتطعه لنفسه وأنس به وقال له لست بمحوجك إلى غيري أبدا

فلما عزل عبد الواحد بن سليمان عن المدينة تصدى للوالي مكانه وامتدحه

ولم يلبث أن ولي عبد الواحد بعد ذلك وبلغه الخبر فأمر أن يحجب عنه ابن هرمة وطرده وجفاه حتى تحمل عليه بعبد الله بن الحسن بن الحسن فاستوهبه منه فعاد له إلى ما أحبه

أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الراياشي وأخبرني به علي بن سليمان الأخفش عن أحمد بن يحيى ثعلب عن الرياشي وخبره أتم

قال الرياشي حدثني أبو سلمة الغفاري قال قال ابن ربيح راوية ابن هرمة قال حدثني ابن هرمة قال أول من رفعني في الشعر عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك فأخذ علي ألا أمدح أحدا غيره وكان واليا على المدينة وكان لا يدع بري وصلتي والقيام بمؤونتي

فلم ينشب أن عزل وولي غيره مكانه وكان الوالي من بني الحارث بن كعب فدعتني نفسي إلى مدحه طمعا أن يهب لي كما كان عبد الواحد يهب لي فمدحته فلم يصنع بي ما ظننت ثم قدم عبد الواحد المدينة فأخبر أني مدحت الذي عزل به فأمر بي فحجبت عنه ورمت الدخول عليه فمنعت فلم أدع بالمدينة وجها ولا رجلا له نباهة وقدر من قريش إلا سألته أن يشفع لي في أن يعيدني إلى منزلتي عنده فيأبى ذلك فلا يفعله

فلما أعوزتني الحيل أتيت عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعليهم فقلت يابن رسول الله إن هذا الرجل قد كان يكرمني وأخذ علي

 

ألا أمدح غيره فأعطيته بذلك عهدا ثم دعاني الشره والكد إلى أن مدحت الوالي بعده

وقصصت عليه قصتي وسألته أن يشفع لي فركب معي فأخبرني الواقف على رأس عبد الواحد أن عبد الله بن حسن لما دخل إليه قام عبد الواحد فعانقه وأجلسه إلى جنبه ثم قال أحاجة غدت بك أصلحك الله قال نعم قال كل حاجة لك مقضية إلا ابن هرمة فقال له إن رأيت ألا تستثني في حاجتي فافعل قال قد فعلت قال فحاجتي ابن هرمة قال قد رضيت عنه وأعدته إلى منزلته قال فتأذن له أن ينشدك قال تعفيني من هذه قال أسألك أن تفعل قال ائتوا به فدخلت عليه وأنشدته قولي فيه

( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناحِ )

قال فغضب عبد الله بن الحسن حتى انقطع رزه ثم وثب مغضبا وتجوزت في الإنشاد ثم لحقته فقلت له جزاك الله يابن رسول الله فقال ولكن لا جزاك الله خيرا يا ماص بظر أمه وتقول لإبن مروان

( وكان أبوك قادمةَ الجَنَاحِ ... )

بحضرتي وأنا ابن رسول الله وابن علي بن أبي طالب عليه السلام فقلت جعلني الله فداك إني قلت قولا أخدعه به طلبا لدنياه ووالله ما قست بكم أحد قط أفلم تسمعني قد قلت فيها

( وبعضُ القول يذهب بالرياحِ ... )

فضحك عبد الله وقال قاتلك الله ما أظرفك

حائية ابن هرمة

وهذه القصيدة الحائية التي مدح بها عبد الواحد من فاخر الشعر ونادر الكلام

 

ومن جيد شعر ابن هرمة خاصة وأولها

( صَرَمتَ حبائلاً من حبّ سلْمَى ... لهندٍ ما عَمِدتَ لمُستراح )

( فإنك إن تُقِم لا تلقَ هنداً ... وإن ترحل فقلبُك غيرُ صاحي )

( يَظلّ نهارَه يَهْذِي بهند ... ويأرقَ ليلَه حتى الصباح )

( أعبدَ الواحد المحمودَ إني ... أَغَصُّ حذارَ سخطك بالقَراحِ )

( فشُلَّتْ رَاحَتايَ وجال مُهْري ... فألقاني بمُشتجَر الرماح )

( وأقعدني الزمانُ فبِتّ صَفْراً ... من المال المعُزَّب والمُراح )

( إذا فَخَّمتُ غيرَك في ثنائي ... ونصحي في المَغيبة وامتداحي )

( كأنّ قصائدي لك فاصطنعني ... كرائم قد عُضِلن عن النكاح )

( فإِن أكُ قد هفوتُ إلى أمير ... فعَنْ غير التطوّع والسماح )

( ولكنْ سَقْطةُ عِيبتْ علينا ... وبعضُ القول يذهب في الرياح )

( لعمرك إنيي وبَني عَدِيٍّ ... ومَنْ يهوَى رشادي أو صلاحي )

( إذا لم تَرَض عنّي أو تَصِلْني ... لفي حَيْن أعالجه مُتاح )

( وإنك إن حططتُ إليك رحلي ... بغربيّ الشَّرَاة لذوا ارتياح )

( هششتَ لحاجة ووعدتَ أخرى ... ولم تبخل بناجزة السَّراح )

( وجَدنا غالباً خُلقتْ جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناح )

 

( إذا جعَل البخيلُ البخلَ تُرساً ... وكان سلاحَه دون السلاح )

( فإِنّ سلاحك حتى ... تفوزَ بِعْرضَ ذي شِيَمٍ صِحاح )

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني إبراهيم بن إسحاق العمري قال حدثني عبد الله بن إبراهيم الجمحي قال قلت لإبن هرمة أتمدح عبد الواحد بن سليمان بعشر ما مدحت به غيره فتقول فيه هذا البيت

( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمة الجناحِ )

ثم تقول فيها

( أعبدَ الواحد الميمون إني ... أَغَصّ حِذَارَ سخطك بالقَراحِ )

فبأي شيء استوجب ذلك منك فقال إني أخبرك بالقصة لتعذرني أصابتني أزمة بالمدينة فاسنهضتني بنت عمي للخروج فقلت لها ويحك إنه ليس عندي ما يقل جناحي فقالت أنا أنهضك بما أمكنني وكانت عندي ناب لي فنهضت عليها نهجد النوام ونؤذي السمار وليس من منزل أنزله إلا قال الناس ابن هرمة حتى دفعت إلى دمشق فأويت إلى مسجد عبد الواحد في جوف الليل فجلست فيه أنتظره إلى أن نظرت الفجر بزوغ الفجر فإذا الباب ينفلق عن رجل كأنه البدر فدنا فأذن ثم صلى ركعتين وتأملته فإذا هو عبد الواحد فقمت فدنوت منه وسلمت عليه فقال لي أبو إسحاق أهلا ومرحبا فقلت لبيك بأبي أنت وأمي وحياك الله بالسلام وقربك من رضوانه فقال أما آن لك أن تزورنا فقد طال العهد واشتد الشوق فما رواءك قلت لا تسلني بأبي أنت وأمي فإن الدهر قد أخنى علي فما وجدت مستغاثا غيرك فقال لا ترع فقد وردت على ما تحب إن

 

شاء الله

فوالله لإني لأخاطبه فإذا بثلاثة فتية قد خرجوا كأنهم الأشطان فسلموا عليه فاستدنى الأكبر منهم فهمس إليه بشىء دوني ودون أخويه فمضى إلى البيت ثم رجع فجلس إليه فكلمه بشىء دوني ثم ولى فلم يلبث أن خرج ومعه عبد ضابط يحمل عبئا من الثياب حتى ضرب به بين يدي ثم همس إليه ثانية فعاد وإذا به قد رجع ومعه مثل ذلك فضرب به بين يدي فقال لي عبد الواحد ادن يا أبا إسحاق فإني أعلم أنك لم تصر إلينا حتى تفاقم صدعك فخذ هذا وارجع إلى عيالك فوالله ماسللنا لك هذا إلا من أشداق عيالنا ودفع إلي ألف دينار وقال لي قم فارحل فأغث من وراءك فقمت إلى الباب فلما نظرت إلى ناقتي ضقت فقال لي تعال ما أرى هذه مبلغتك يا غلام قدم له جملي فلانا فوالله لقد كنت بالجمل أشد سرورا مني بكل ما نلته فهل تلومني أن أغص حذار سخط هذا بالقراح والله ما أنشدته ليلتئذ بيتا واحدا

شعره في مدح المنصور

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال حدثني عثمان بن حفص الثقفي قال حدثني محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين صلى الله عليه قال دخلت مع أبي علي على المنصور بالمدينة وهو جالس في دار مروان فلما أجتمع الناس قام ابن هرمة فقال يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك شاعرك

 

وصنيعتك إن رأيت أن تأذن لي في الإنشاد قال هات فأنشده قوله

( سَرَى ثوبَه عنك الصِّبا المتخايِلُ ... )

حتى انتهى إلى قوله

( له لَحَظَاتٌ عن خِفَافَيْ سريره ... إذا كَرّها فيها عِقابُ ونائلُ )

( فأُمُّ الذي آمنتَ آمنةُ الرَّدَى ... وأمُّ الذي خوَّفتَ بالثُّكل ثاكل )

فقال له المنصور أما لقد رأيتك في هذه الدار قائما بين يدي عبد الواحد بن سليمان تنشده قولك فيه

( وجدنا غالباً كانت جَناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجنَاحِ )

قال فقطع بإبن هرمة حتى ما قدر على الإعتذار فقال له المنصور أنت رجل شاعر طالب خير وكل ذلك يقول الشاعر وقد أمر لك أمير المؤمنين بثلثمائة دينار

فقام إليه الحسن بن زيد فقال يا أمير المؤمنين إن ابن هرمة رجل منفاق متلاف لا يليق شيئا فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر له بها يجرى عليه منها ما يكفيه ويكفي عياله ويكتب بذلك إلى أصحاب الجاري أن يرجيها عليهم فعل فقال افعلوا ذلك به

قال وإنما فعل به الحسن بن زيد هذا لأنه كان مغضبا عليه لقوله يمدح عبد الله بن حسن

( ما غَيّرتْ وجهَه أمٌّ مُهجَّنة ... إذا القَتامُ تَغَشَّى أَوْجُهَ الهُجُنِ )

حدثني يحيى بن علي بن يحيى وأخبرنا ابن أبي الأزهر وجحظة قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال يحيى بن علي في خبره عن الفضل بن يحيى ولم يقله الآخران

 

دخل ابن هرمة على المنصور وقال يا أمير المؤمنين إني قد مدحتك مديحا لم يمدح أحد أحداً بمثله قال وما عسى أن تقول في بعد قول كعب الأشقري في المهلب

( براك اللهُ حين براك بحراً ... وفَجّر منك أنهاراً غِزاراً )

فقال له قد قلت أحسن من هذا قال هات فأنشده قوله

( له لَحَظات عن حِفَافَيْ سَرِيره ... إذا كَرّها فيها عِقابٌ ونائلُ )

قال فأمر له بأربعة آلاف درهم

فقال له المهدي يا أمير المؤمنين قد تكلف في سفره إليك نحوها فقال له المنصور يا بني إني قد وهبت له ما هو أعظم من ذلك وهبت له نفسه أليس هو القائل لعبد الواحد بن سليمان

( إذا قيل مَنْ خيرُ مَنْ يُرتَجى ... لمُعترِّ فِهْرٍ ومحتاجِها )

( ومن يُعْجِل الخيلَ يومَ الوغى ... بإِلجامها قبلَ إسراجها )

( أشارت نساءُ بني غالب ... إليكَ به قَبْلَ ازواجها )

وهذه القصيدة من فاخر شعر ابن هرمة وأولها

( أجارتَنا رَوِّحي نَعْمةً ... على هائم النفس مُهتاجِها )

( ولا خيرَ في وُدِّ مُسْتكرِهٍ ... ولا حاجةٍ دون إنضاجها )

يقول فيها يمدح عبد الواحد بن سليمان

 

( كأن قِتودي على خاضبٍ ... زَفُوفٍ العَشِيّات هَدّاجِها )

( إلى مَلكٍ لا إلى سُوقة ... كسَتْه الملوك ذُرَا تاجها )

( تَحُلّ الوفود بأبوابه ... فتَلْقى الغِنى قَبْل إرتاجها )

( بقَرّاع أبواب دور الملوكِ ... عندَ التحية وَلاّجها )

( إلى دار ذي حسبٍ ماجدٍ ... حَمُول المَغارم فَرّاجها )

( رَكُودِ الجِفان غداةَ الصَّبا ... ويوم الشمال وإرهاجها )

( وقفتُ بَمَدْحِيه عند الجِمارِ ... أُنشده بين حُجَاجها )

أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثني أبو إسحاق طلحة ابن عبد الله الطلحي قال حدثني محمد بن سليمان بن المنصور قال وجه المنصور رسولا قاصدا إلى ابن هرمة ودفع إليه ألف دينار وخلعة ووصفه له وقال امض إليه فإنك تراه جالسا في موضع كذا في المسجد فانتسب له إلى بني أمية أو مواليهم وسله أن ينشدك قصيدته الحائية التي يقول فيها يمدح عبد الواحد بن سليمان

( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناحِ )

 

فإذا أنشدكها فأخرجه من المسجد واضرب عنقه وجئني برأسه وإن أنشدك قصيدته اللامية التي يمدحني بها فادفع إليه الألف الدينار والخلعة وما أراه ينشدك غيرها ولا يعترف بالحائية

قال فأتاه الرسول فوجده كما قال المنصور فجلس إليه واستنشده قصيدته في عبد الواحد فقال ما قلت هذه القصيدة قط ولا أعرفها وإنما نحلها إياي من يعاديني ولكن إن شئت أنشدتك أحسن منها قال قد شئت فهات فأنشده

( سَرى ثوبَه عنك الصِّبا المتخايلُ ... )

حتى أتى على آخرها ثم قال هات ما أمرك أمير المؤمنين بدفعه إلي فقال أي شيء تقول يا هذا وأي شيء دفع إلي فقال دع ذا عنك فوالله ما بعثك إلا أمير المؤمنين ومعك مال وكسوة لي وأمرك أن تسألني عن هذه القصيدة فإن أنشدتك إياها ضربت عنقي وحملت رأسي إليه وإن أنشدتك هذه اللامية دفعت إلي ما حملك إياه فضحك الرسول ثم قال صدقت لعمري ودفع إليه الألف الدينار والخلعة

فما سمعنا بشيء أعجب من حديثهما

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عمي عن جدي قال لما انشد ابن هرمة المنصور قصيدته اللامية التي مدحه بها أمر له بألف درهم فكلمه فيه المهدي واستقلها فقال يا بني لو رايت هذا بحيث رأيته وهو واقف بين يدي عبد الواحد بن سليمان ينشده

( وجدنا غالباً كانت جناحاً ... وكان أبوك قادمةَ الجناحِ ) لاستكثرت له ما استقللته ولرأيت أن حياته بعد ذلك القول ربح كثير

والله إني يا بني ما هممت له منذ يومئذ بخير فذكرت قوله إلا زال ما عرض بقلبي إلى ضده حتى أهم بقتله ثم أعفو عنه فأمسك المهدي

 

ما يغنى من شعره

ومما يغنى فيه من مدائح ابن هرمة في عبد الواحد بن سليمان قوله من قصيدة أنا ذاكرها بعد فراغي من ذكر الأبيات على أن المغنين قد خلطوا مع أبياته أبياتا لغيره

صوت

( ولما أنْ دنا منّا ارتحالٌ ... وقُرِّب ناجياتُ السير كُومُ )

( تَحاسَر واضحاتُ اللون زُهْر ... على ديباج أوجهها النعيم )

( أَتَيْنَ مودِّعاتٍ والمطايا ... لدَى أكوارها حوضٌ هُجوم )

( فكم من حُرة بين المُنَقَّى ... إلى أُحُدٍ إلى ما حاز رِيم )

ويروى

( فكم بين الأقارع فالمُنقَّى ... )

 

وهو أجود

( إلى الجَمّاء من خدٍّ أَسيل ... نقِّي اللون لي به كُلُوم )

( كأنّي من تذكُّر ما ألاقي ... إذا ما أظلم الليلُ البهيم )

( سَلِيمٌ مَلّ منه أقربوه ... وأسلمه المُداوي والحميم )

ذكر الزبير بن بكار أن هذا الشعر كله لأبي المنهال نفيلة الأشجعي قال وسمعت بعض أصحابنا يقول إنه لمعمر بن العنبر الهذلي

والصحيح من القول أن بعض هذه الأبيات لإبن هرمة من قصيدة له يمدح بها عبد الواحد بن سليمان مخفوضة الميم ولما غني فيها وفي أبيات نفيلة وخلط فيه ما أوجب خفض القافية غير إلى ما أوجب رفعها

فأما ما لإبن هرمة فيها فهو من قصيدته التي أولها

( أجارتَنا بذي نَفَر أقيمِي ... فما أَبكى على الدهر الذميمِ )

( أقيمي وجهَ عامك ثم سِيري ... بلا واهي الجِوار ولا مُليم )

( فكم بين الأقارع فالمُنقَّى ... إلى أُحُدٍ إلى أكناف رِيم )

( إلى الجّماء مِنْ خدٍّ أسيلٍ ... نقيّ اللون ليس بذي كُلوم )

( ومن عينٍ مكحَّلة الأماقي ... بلا كُحْل ومن كَشْح هَضيم )

( أرِقتُ وغاب عنّي من يلوم ... ولكن لم أَنَم أنا للهموم )

( أرقتُ وشفّني وَجَعٌ بقلبي ... لزينبَ أو أُميمةَ أو رَعُوم )

( أقاسي ليلة كالحَوْل حتى ... تبدَّى الصبحُ مُنقطعَ البَريم )

 

( كأنّ الصبح أبلقُ في حُجُول ... يَشُبّ ويتّقي ضربَ الشَّكيم )

( رأيتُ الشَّيب قد نزلت علينا ... روائعُه بحجة مستقيم )

( إذا ناكرتُه ناكرتُ منه ... خصومةَ لا ألدَّ ولا ظَلُوم )

( وودّعني الشباب فصَرتُ منه ... كراضٍ بالصغير من العظيم )

( فَدْع مالا يَرُدّ عليك شيئاً ... من الجارات أو دَمَن الرسوم )

( وقُلْ قولاً تُطَبِّق مِفصلَيْه ... بِمْدحه صاحب الرأي الصَّروم )

( لعبد الواحد الفَلْجُ المعلَّى ... على خُلَق النَّفُورة والخُصُومِ )

( دعته المَكْرُماتُ فناولته ... خَطَامَ المجد في سِنّ الفَطِيم )

وهي طويلة فمن الأبيات التي فيها الغناء أربعة أبيات لإبن هرمة قد مضت في هذه القصيدة وإنما غيرت حتى صارت مرفوعة فاتفقت الأبيات وغنى فيها

وأما أبيات نفيلة فما بقي من الصوت المذكور بعد أبيات ابن هرمة له

ويتلو ذلك من أبيات نفيلة قوله

( يُضيء دجى الظلام إذا تبدَّى ... كضوء الفجر منظره وَسيمُ )

( وقائلةٍ ومُثْنيةٍ علينا ... تقول وما لها فينا حميم )

( وأُخرى لُبُّها معنا ولكنْ ... تَصَبَّرُ وهي واجمةٌ كَظوم )

( تَعُدّ لنا الليالي تحتصيها ... متى هو حائنٌ منه قُدوم )

 

( متى تَرَ غفلةَ الواشين عنها ... تَجُدْ بدموعها العينُ السَّجوم )

والغناء في هذه الأبيات المذكورة المختلط فيها شعر ابن هرمة ونفيلة لمعبد ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى عن عمرو ويونس

وفيها لحن من الثقيل الثاني ينسب إلى الوابصي وفيها خفيف ثقيل ينسب إلى معبد وإلى ابن سريح

الوابصي وأخباره

وهذا الوابصي هو الصلت بن العاصي بن وابصة بن خالد بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو بن مخزوم

كان تنصر ولحق ببلاد الروم لأن عمر بن عبد العزيز فيما ذكر حده في الخمر وهو أمير الحجاز فغضب فلحق ببلاد الروم وتنصر هناك ومات هنالك نصرانيا

فأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن عبد العزيز قال أخبرني ابن العلاء أظنه أبا عمرو أو أخاه عن جويرية بن أسماء عن إسماعيل بن أبي حكيم وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا سعيد بن عامر عن جويرية بن أسماء بن أبي حكيم وقد جمعت الروايتين قال اليزيدي في خبره إن إسماعيل حدث أن عمر بن عبد العزيز بعث في الفداء

وقال عمر بن شبة إن إسماعيل حدث قال كنت عند عمر بن عبد العزيز فأتاه البريد الذي جاء من القسطنطينية فحدثه قال بينا أنا أجول في القسطنطينية إذ سمعت رجلا يغني بلسان فصيح وصوت شج

 

( فكم من حُرَّة بين المُنَقَّى ... إلى أُحدٍ إلى جَنَباتِ رِيمِ )

فسمعت غناء لم أسمع قط أحسن منه

فلما سمعت الغناء وحسنه لم أدر أهو كذلك حسن أم لغربته وغربة العربية في ذلك الموضع

فدنوت من الصوت فلما قربت منه إذا هو في غرفة فنزلت عن بغلتي فأوثقتها ثم صعدت إليه فقمت على باب الغرفة فغذا رجل مستلق على قفاه يغني هذين البيتين لا يزيد عليهما وهو واضع إحدى رجليه على الأخرى فإذا فرغ بكى فيبكي ما شاء الله ثم يعيد الغناء

ففعل ذلك مرارا فقلت السلام عليكم فوثب ورد السلام فقلت أبشر فقد فك الله أسرك أنا بريد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز إلى هذا الطاغية في فداء الأساري ثم سالته من أنت فقال أنا الوابصي أخذت فعذبت حتى دخلت في دينهم فقلت له أنت والله أحب من أفتديه إلى أمير المؤمنين وإلي إن لم تكن دخلت في الكفر فقال قد والله دخلت فيه فقلت أنشدك الله إلا أسلمت فقال أأسلم وهذان ابناي وقد تزوجت امرأة منهم وهذان ابناها وإذا دخلت المدينة قيل لي يا نصراني وقيل مثيل ذلك لولدي وأمهما لا والله لا أفعل

فقلت له قد كنت قارئا للقرآن فما بقي معك منه قال لا شيء إلا هذه الآية ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) قال فعاودته وقلت له إنك لا تغير بهذا فقال وكيف بعبادة الصليب وشرب الخمر وأكل لحم الخنزير فقلت سبحان الله أما تقرأ ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) فجعل يعيد علي قوله فكيف بما فعلت ولم يجبني إلى الرجوع

قال فرفع عمر يده وقال اللهم لا تمتني حتى تمكنني منه قال فوالله ما زلت راجيا لإجابة دعوة عمر فيه قال جويرية في حديثه وقد رأيت أخا الوابصي بالمدينة

وقال يعقوب بن السكيت في هذا الخبر أخبرني ابن الأزرق عن رجل من أهل البصرة أنسيت اسمه قال

 

نزلنا في ظل حصن من الحصون التي للروم فإذا أنا بقائل يقول من فوق الحصن

( فكم بين الأقارع فالمُنَقَّى ... إلى أُحُدٍ إلى ميقات رِيم )

( إلى الزَّوْراء من ثغر تَقِيٍّ ... عوارضه ومن دَلَّ رخيم )

( ومن عين مُكَحَّلة الأماقي ... بلا كُحْل ومن كَشْح هضيم )

وهو ينشد بلسان فصيح ويبكي فناديته أيها المنشد فأشرف فتى كأحسن الناس فقلت من الرجل وما قصتك فقال أنا رجل من الغزاة من العرب نزلت مكانك هذا فأشرفت علي جارية كأحسن الناس فعشقتها فكلمتها فقالت إن دخلت في ديني لم أخالفك فغلب علي الشيطان فدخلت في دينها فأنا كما ترى فقلت أكنت تقرأ القرآن فقال إي والله لقد حفظته قلت فما تحفظ منه اليوم قال لا شيء إلا قوله عز و جل ( ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين ) قلت فهل لك أن نعطيهم فداءك وتخرج قال ففكر ساعة ثم قال انطلق صحبك الله

ومما في الأخبار من شعر ابن هرمة

صوت

من المائة المختارة

( في حاضرٍ لَجِبٍ بالليل سامرُه ... في الصواهلُ والرايات والعَكرُ )

 

( وخُرّد كالمَهَا حُور مدامعُها ... كأنها بين كُثْبان النَّقا البَقَر )

الشعر لإبن هرمة والغناء في اللحن المختار لحنين ولحنه من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق

قال إسحاق وفيه لأبي همهمة لحن من الثقيل الأول أيضا وأبو همهمة هذا مغن أسود من أهل المدينة ليس بمشهور ولا ممن نادم الخلفاء ولا وجدت له خبرا فأذكره

صوت

من المائة المختارة

( بزينب أَلْمِمْ قبل أن يرحل الركبُ ... وقُلْ إن تَمَلِّينا فما ملَّك القلبُ )

( وقل في تَجَنِّيها لكَ الذنبَ إنما ... عتابُكَ مَنْ عاتبتَ فيما له عَتْب )

الشعر لنصيب والغناء في اللحن المختار لكردم بن معبد ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق

وفيه لمعبد لحن آخر من خفيف الثقيل عن يونس والهشامي ودنانير وفيه لإبراهيم لحن آخر من الثقيل الأول ذكره الهشامي

بعض أخبار لنصيب

وقد تقدم من أخبار نصيب ما فيه كفاية وإنما تأخر منها ما له موضع يصلح إفراده فيه مثل أخبار هذا الصوت

 

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمي الفضل عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن أبي كناسة قال قال نصيب ما توهمت أني أحسن أن أقول الشعر حتى قلت

( بزينبَ ألمْم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )

أخبرنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا إبراهيم المنذر الحزامي عن محمد بن معن الغفاري قال أخبرني ابن الربيح قال مر بنا جميل ونحن بضرية فاجتمعنا إليه فسمعته يقول لأن أكون سبقت الأسود إلى قوله

( بزينبَ ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... )

أحب إلي من كذا وكذا لشيء قاله عظيم

أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني سعيد بن عمرو عن حبيب بن شوذب الأسدي قال مر بنا جرير بن الخطفي ونحن بضرية فاجتمعنا إليه فسمعته يقول لأن أكون سبقت العبد إلى هذا البيت أحب إلي من كذا وكذا يعني قوله

( بزينبَ ألمم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق الموصلي عن ابن كناسة قال

 

اجتمع الكميت بن زيد ونصيب في الحمام فقال له الكميت أنشدني قولك

( بزينبَ ألمم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )

فقال والله ما أحفظها فقال الكميت ينشده وهو يبكي

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال ذكر ابن أبي الحويرث عن مولاة لهم وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص عن مولاة لهم قالت إنا لبمنى إذ نظرت إلى أبنية مضروبة وأثاث وأمتعة فلم أدر لمن هي حتى أنيخ بعير فنزل عنه أسود وسوداء فألقيا أنفسهما على بعض المتاع ومر راكب يتغنى غناء الركبان

( بزينبَ المم قبلَ أن يرحل الركبُ ... )

فرأيت السوداء تخبط الأسود وتقول له شهرتني وأذعت في الناس ذكري فإذا هو نصيب وزوجته قال إسحاق في خبره وكان الذي اجتاز بهم وتغنى ابن سريج

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن كناسة عن أبيه قال قال نصيب والله إني لأسير على راحلتي إذ أدركت نسوة ذوات جمال يتناشدن قولي

( بزينبَ ألمم قبل أن يرحل الركبَ ... )

وإذا معهن ابن سريج فقلن له يا أبا يحيى غننا في هذا الشعر فغناهن فأحسن فقلن وددنا والله يا أبا يحيى أن نصيبا معنا فيتم سرورنا فحركت

 

بعيري لأتعرف بهن وأنشدهن فالتفت إحداهن إلي فقالت حين رأتني والله لقد زعموا أن نصيبا يشبه هذا الأسود لا جرم فقلت والله لا أتعرف بهن سائر اليوم ومضيت وتركتهن قال وكان الذي تغنى به ابن سريج من شعري

( بزينب ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقُل إن تَملِّينا فما ملَّك القلبُ )

( وقُلْ إن تُنَلْ بالحبّ منكِ مودّةٌ ... فما مثلُ ما لُقِّيت من حبُكم حب )

( وقل في تَجَنّيها لكَ الذنبَ إنما ... عتابكَ من عاتبتَ فيما له عَتْب )

( فمن شاء رام الوصلَ أو قال ظالماً ... لذي ودّه ذنبٌ وليس له ذنبُ )

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني إبراهيم بن عبد الله السعدي عن جدته جمال بنت عون عن جدها قال قلت للنصيب أنشدني يا أبا محجن من شعرك شيئا فقال أيه تريد قلت ما شئت قال لا أنشدك أو تقترح ما تريد فقلت قولك

( بزينبَ أَلْمِمْ قبلَ أن يرحلَ الركبُ ... )

قال فتبسم وقال هذا شعر قلته وأنا غلام ثم أنشدني القصيدة قال الزبير وهي أجود ما قال

توبة نصيب عن التشهير بالنساء

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي قال حدثني أيوب بن شاس

 

ونسخت هذا الخبر من كتاب أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن أبي بكر الهذلي عن أيوب بن شاس وروايته أتم من رواية عمر بن شبة قال أيوب حدثني عبد الله بن سعيد أن النصيب دخل على عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة فقال له هيه يا أسود

( بزينب ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقلْ إن تَملِّينا فما ملَّكِ القلبُ )

أأنت الذي تشهر بالنساء وتقول فيهن فقال يا أمير المؤمنين إني قد تركت ذلك وتبت من قول الشعر وكان قد نسك فأثنى عليه القوم وقالوا فيه قولا جميلا فقال له أما إذ أثنى عليك القوم فسل حاجتك فقال يا أمير المؤمنين لي بنيات سويداوات أرغب بهن عن السودان ويرغب عنهن البيضان فإن رأيت أن تفرض لهن فافعل ففعل

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن شبيب عن محمد بن المؤمل بن طالوت عن أبيه عن عثمان بن الضحاك الحزامي قال خرجت على بعير لي أريد الحج فنزلت في فناء خيمة بالأبواء فإذا جارية قد خرجت من الخيمة ففتحت الباب بيديها فآستلهاني حسنها فتمثلت قول نصيب

( بزينبَ ألمم قبل أن يرحل الركبُ ... وقل إن تملِّينا فما ملّكِ القلبُ )

 

فقالت الجارية أتعرف قائل هذا الشعر قلت نعم ذاك نصيب قالت أفتعرف زينب هذه قلت لا قالت فأنا والله زينبه وهو اليوم الذي وعدني فيه الزيارة ولعلك لا ترحل حتى تراه

فوقفت ساعة فإذا أنا براكب قد طلع فجاء حتى أناخ قريبا منها ثم نزل فسلم عليها وسلمت عليه فقلت عاشقان التقيا ولا بد أن يكون لهما حاجة فقمت إلى راحلتي فشددت عليها فقال على رسلك أنا معك فلبث ساعة ثم رحل ورحلت معه فقال لي كأنك قلت في نفسك كذا وكذا قلت قد كان ذاك فقال لا ورب الكعبة البنية المستورة ما جلست معها مجلسا قط هو أقرب من هذا

حدثني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال لي أبو ربيعة لو لم تكن هذه القصيدة

( بزينبَ المم قبل أن يرحل الركبُ ... ) لنصيب شعر من كانت تشبه فقلت شعر إمرئ القيس لأنها جزلة الكلام جيدة قال سبحان الله قلت ما شأنك فقال سألت أباك عن هذا فقال لي مثل ما قلت فعجبت من اتفاقكما

قال هارون وحدثني حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص الثقفي عن رجل سماه قال أتاني منقذ الهلالي ليلة وضرب علي الباب فقلت من هذا فقال منقذ الهلالي فخرجت فزعا فقلت فيم السرى أي ما جاء بك تسري إلي ليلا في هذه الساعة قال خير أتاني أهلي بدجاجة مشوية بين رغيفين فتغذيت بها معهم ثم أتيت بقنينة نبيذ قد ألتقى طرفاها فشربت وذكرت قول نصيب

( بزينب ألمِمْ قبل أن يَرحلَ الرّكبُ ... )

فأنشدتها فأطربتني وفكرت في إنسان يفهم حسن ذلك ويعرف فضله فلم أجد

 

غيرك فأتيتك فقلت ما جاء بك إلا هذا قال لا وأنصرف

قال حماد معنى قوله التقى طرفاها أي قد صفت وراقت فأسفلها وأعلاها سواء في الصفاء

ومما يغني فيه من قصيدة نصيب البائية المذكورة قوله

صوت

خليليّ من كَعْبٍ ألِمّا هُدِيتُما ... بزينب لا يَفْقِدْكُمَا أبداً كعبُ )

( مِنَ اليومِ زُوراها فإِن رِكابَنا ... غداةَ غدٍ عنها وعن أهلها نُكْب )

الغناء لمالك خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو بن بانة

صوت

من المائة المختارة على رواية حجظة عن أصحابه

( والنَّشْرُ مِسكٌ والوجوهُ دنانيرٌ ... وأطرافُ الأكفّ عَنَمْ )

( والدار وَحْشٌ والرسوم كما ... رَقَّش في ظهر الأديم قَلَم )

( لستُ كأقوام خلائقُهم ... نَثُّ أحاديث وهتكُ حُرَم )

نث الحديث إشاعته والعنم شجر أحمر وقيل بل هو دود أحمر

 

كالأساريع يكون في البقل في أيام الربيع والأديم الجلد وجلد كل شيء أديمه ورقش زين الشعر لمرقش الأكبر والغناء لإبن عائشة هزج بالبنصر في مجراها

 

أخبار المرقش الأكبر ونسبه

المرقش لقب غلب عليه بقوله

( الدر وَحْشٌ والرسومُ كما ... رقَّش في ظهر الأديم قَلَمْ )

وهو أحد من قال شعرا فلقب به واسمه فيما ذكر أبو عمرو الشيباني عمرو وقال غيره عوف بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وهو أحد المتيمين

كان يهوى ابنة عمه أسماء بنت عوف بن مالك بن ضبيعة كان المرقش الأصغر ابن أخي المرقش الأكبر واسمه فيما ذكر أبو عمرو ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك

وقال غيره هو عمرو بن حرملة بن سعد بن مالك وهو أيضا أحد المتيمين كان يهوى فاطمة بنت المنذر الملك ويتشبب بها

وكان للمرقشين جميعا وقع في بكر بن وائل وحروبها مع بني تغلب وباس وشجاعة ونجدة وتقدم في المشاهد ونكاية في العدو وحسن أثر

وكان عوف بن مالك بن شبيعة عم المقرش الأكبر من فرسان بكر بن وائل

وهو القائل يوم فضة يا لبكر بن وائل أفي كل يوم فرار

 

ومحلوفي لا يمر بي رجل من بكر بن وائل منهزما إلا ضربته بسيفي

وبرك يقاتل فسمي البرك يومئذ وكان أخوه عمرو بن مالك أيضا من فرسان بكر وهو الذي أسر مهلهلا التقيا في خيلين من غير مزاحفة في بعض الغارات بين بكر وتغلب في موضع يقال له نقا الرمل فانهزمت خيل مهلهل وأدركه عمرو بن مالك فأسره فانطلق به إلى قومه وهم في نواحي هجر فأحسن إساره ومر عليه تاجر يبيع الخمر قدم بها من هجر وكان صديقا لمهلهل يشتري منه الخمر فأهدى إليه وهو أسير زق خمر فاجتمع إليه بنو مالك فنحروا عنده بكرا وشربوا عند مهلهل في بيته وقد أفرد له عمرو بيتا يكون فيه فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل فيما كان يقوله من الشعر وينوح به على كليب فسمع ذلك عمرو بن مالك فقال إنه لريان والله لا يشرب ماء حتى يرد ربيب يعني جملا كان لعمرو بن مالك وكان يتناول الدهاس من أجواف هجر فيرعى فيها غبا بعد عشر في حمارة القيظ فطلبت ركبان بني مالك ربيبا وهم حراص على ألا يقتل مهلهل

فلم يقدروا على البعير حتى مات مهلهل عطشا ونحر عمرو بن مالك يومئذ نابا فأسرج جلدها على مهلهل وأخرج رأسه

وكانت بنت خال مهلهل امرأته بنت المحلل أحد بني تغلب قد أرادت أن تأتيه وهو أسير فقال يذكرها

( ظبْيةٌ ما ابنةُ المحلِّل شنْباءُ ... لعُوب لذيذةٌ في العِناقِ )

 

فلما بلغها ما هو فيه لم تأته حتى مات

فكان هبنقه القيسي أحد بني قيس بن ثعلبة واسمه يزيد بن ثروان يقول وكان محمقا وهو الذي تضرب به العرب المثل في الحمق لا يكون لي جمل أبدا إلا سميته ربيبا يعني أن ربيبا كان مباركا لقتله مهلهلا

ذكر ذلك أجمع ابن الكلبي وغيره من الرواة والقصيدة الميمية التي فيها الغناء المذكورة بذكر أخبار المرقش يقولها في مرثية ابن عم له وفيها يقول

( بل هل شجَتْك الظُّعْن باكرةً ... كأنها النخيلُ من مَلْهَم )

عشق المرقش الأكبر

قال أبو عمرو ووافقه المفضل الضبي وكان من خبر المرقش الأكبر أنه عشق ابنة عمه أسماء بنت عوف بن مالك وهو البرك عشقها وهو غلام فخطبها إلى أبيها فقال لا أزوجك حتى تعرف بالبأس وهذا قبل أن تخرج ربيعة من أرض اليمن وكان يعده فيها المواعيد

ثم انطلق مرقش إلى ملك من الملوك فكان عنده زمانا ومدحه فأجازه

وأصاب عوفا زمان شديد فأتاه رجل من مراد أحد بني غطيف فأرغبه في المال فزوجه أسماء على مائة من الإبل ثم تنحى عن بني سعد ابن مالك

ورجع مرقش فقال اخوته لا تخبروه إلا أنها ماتت فذبحوا كبشا وأكلوا لحمه ودفنوا عظامه ولفوها في ملحفة ثم قبروها

فلما قدم مرقش عليهم أخبروه أنها ماتت وأتوا به موضع القبر فنظر إليه وصار بعد ذلك يعتاده ويزوره

فبينا هو ذات يوم مضطجع وقد تغطى بثوبه وابنا أخيه يلعبان بكعبين لهما إذ اختصما في كعب فقال أحدهما هذا كعبي أعطانيه أبي من الكبش الذي دفنوه

 

وقالوا إذا جاء مرقش أخبرناه أنه قبر أسماء

فكشف مرقش عن رأسه ودعا الغلام وكان قد ضنى ضنا شديدا فسأله عن الحديث فأخبره به وبتزويج المرادي أسماء فدعا مرقش وليدة له ولها زوج من غفيلة كان عسيفا لمرقش فأمرها بأن تدعو له زوجها فدعته وكانت له رواحل فأمره بإحضارها ليطلب المرادي عليها فأحضره إياها فركبها ومضى في طلبه فمرض في الطريق حتى ما يحمل إلا معروضا

وإنهما نزلا كهفا بأسفل نجران وهي أرض مراد ومع الغفلي امرأته وليدة مرقش فسمع مرقش زوج الوليدة يقول لها اتركيه فقد هلك سقما وهلكنا معه ضرا وجوعا

فجعلت الوليدة تبكي من ذلك فقال لها زوجها أطيعيني وإلا فإني تاركك وذاهب

قال وكان مرقش يكتب وكان أبوه دفعه وأخاه حرملة وكانا أحب ولده إليه إلى نصراني من أهل الحيرة فعلمهما الخط

فلما سمع مرقش قول الغفلي للوليدة كتب مرقش على مؤخرة الرحل هذه الأبيات

( يا صاحبيّ تلّبّثا لا تَعجَلا ... إنّ الرواح رهينُ ألاّ تفعَلا )

( فلعلّ لُبثَكما يُفرّط سيِّئا ... أو يَسبِق الإِسراعُ سَيْباً مُقْبِلا )

( يا راكِباً إمّا عرضتَ فبلِّغَنْ ... أنسَ بن سعدٍ إن لَقيتَ وحَرْمَلا )

( لله دَرُّكما ودَرُّ أبيكما ... إن أفلتَ العَبْدان حتى يُقتَلا )

( مَنْ مُبْلغُ الأقوام أنّ مرقِّشاً ... أضحى على الأصحاب عبئاً مُثْقِلا )

 

( وكأنما ترِدُ السباعُ بشِلْوه ... إذ غاب جمع بني ضُبيْعة منْهلا )

قال فانطلق الغفلي وامرأته حتى رجعا إلى أهلهما فقالا مات المرقش ونظر حرملة إلى الرحل وجعل يقلبه فقرأ الأبيات فدعاهما وخوفهما وأمرهما بأن يصدقاه ففعلا فقتلهما وقد كانا وصفا له الموضع

فركب في طلب المرقش حتى أتى المكان فسال عن خبره فعرف أن مرقشا كان في الكهف ولم يزل فيه حتى إذا هو بغنم تنزو على الغار الذي هو فيه وأقبل راعيها إليها

فلما بصر به قال له من أنت وما شأنك فقال له مرقش أنا رجل من مراد وقال للراعي من أنت قال راعي فلان وإذا هو راعي زوج أسماء

فقال له مرقش أتستطيع أن تكلم أسماء امرأة صاحبك قال لا ولا أدنو منها ولكن تأتيني جاريتها كل ليلة فأحلب لها عنزا فتأتيها بلبنها فقال له خذ خاتمي هذا فإذا حلبت فألقه في اللبن فإنها ستعرفه وإنك مصيب به خيرا لم يصبه راع قط إن أنت فعلت ذلك فأخذ الراعي الخاتم

ولما راحت الجارية بالقدح وحلب لها العنز طرح الخاتم فيه فانطلقت الجارية به وتركته بين يديها

فلما سكنت الرغوة أخذته فشربته وكذلك كانت تصنع فقرع الخاتم ثنيتها فأخذته واستضاءت بالنار فعرفته فقالت للجارية ما هذا الخاتم قالت ما لي به علم فأرسلتها إلى مولاها وهو في شرف بنجران فأقبل فزعا فقال لها لم دعوتني قالت ادع عبدك راعي غنمك فدعاه فقالت سله أين وجد هذا الخاتم قال وجدته مع رجل في كهف خبان

قال ويقال كهف جبار فقال اطرحه في اللبن الذي تشربه أسماء فإنك مصيب به خيرا وما أخبرني من هو ولقد تركته بآخر رمق

فقال لها زوجها وما هذا الخاتم قالت خاتم

 

مرقش فأعجل الساعة في طلبه

فركب فرسه وحملها على فرس آخر وسارا حتى طرقاه من ليلتهما فاحتملاه إلى أهلهما فمات عند أسماء وقال قبل أن يموت

( سَرى ليلاً خيالٌ من سُلَيْمى ... فأرّقني وأصحابي هُجودُ )

( فبِتّ أُديرأمري كلّ حالٍ ... وأذكر أهلَها وهمُ بعيد )

( على أنْ قد سما طَرْفي لنارٍ ... يُشَبّ لها بذي الأرْطى وَقود )

( حَوَاليْها مَهاً بِيضُ التّراقي ... وآرامٌ وغِزلانٌ رُقود )

( نواعمُ لا تُعالج بؤسَ عيشٍ ... أوانسُ لا تروح ولا تَرُود )

( يَرُحْن معاً بِطَاء المشي بُداً ... عليهنّ المجاسد والبُرُود )

( سَكن ببلدة وسكنتُ أخرى ... وقُطِّعتِ المواثقُ والعهود )

( فما بالي أفِي ويُخان عهدي ... وما بالي أُصَاد ولا أَصيدُ )

( ورُبّ أسيلة الخدّين بكرٍ ... مُنَعَّمَةٍ لها فرعٌ وجِيد )

( وذو أُشُرٍ شَتِيتُ النبتِ عذبٌ ... نقيُّ اللون بَرّاقٌ بَرود )

( لهوتُ بها زماناً في شبابي ... وزارتها النجائب والقَصيد )

 

( أُناسٌ كلّما أخلقت وصلاً ... عناني منهمُ وصلٌ جديد )

ثم مات عند أسماء فدفن في أرض مراد

وقال غير أبي عمرو والمفضل أتى رجل من مراد يقال له قرن الغزال وكان موسرا فخطب أسماء وخطبها المرقش وكان مملقا فزوجها أبوها من المرادي سرا فظهر على ذلك مرقش فقال لئن ظفرت به لأقتلنه

فلما أراد أن يهتديها خاف أهلها عليها وعلى بعلها من مرقش فتربصوا بها حتى عزب مرقش في إبله وبنى المرادي بأسماء واحتملها إلى بلده

فلما رجع مرقش إلى الحي رأى غلاما يتعرق عظما فقال له يا غلام ما حدث بعدي في الحي وأوجس في صدره خيفة لما كان فقال الغلام اهتدى المرادي امرأته أسماء بنت عوف

فرجع المرقش إلى حية فلبس لأمته وركب فرسه الأغر واتبع آثار القوم يريد قتل المرادي

فلما طلع لهم قالوا للمرادي هذا مرقش وإن لقيك فنفسك دون نفسه

وقالوا لأسماء إنه سيمر عليك فأطلعي راسك إليه واسفري فإنه لا يرميك ولا يضرك ويلهو بحديثك عن طلب بعلك حتى يلحقه إخوته فيردوه

وقالوا للمرادي تقدم فتقدم وجاءهم مرقش فلما حاذاهم أطلعت أسماء من خدرها ونادته فغض من فرسه وسار بقربها حتى أدركه أخواه أنس وحرملة فعذلاه ورداه عن القوم ومضى بها المرادي فألحقها بحية وضني مرقش لفراق أسماء فقال في ذلك

 

( أمِنْ آلِ أسماءَ الرسومُ الدَّوارسُ ... تُخطِّط فيها الطيرُ قَفْرٌ بَسابسُ )

وهي قصيدة طويلة وقال في أسماء ايضا

( أغالِبُكَ القلبُ اللَّجوجُ صبابةً ... وشوقاً إلى أسماءَ أم أنت غالبُهْ )

( يَهيم ولا يعيا بأسماءَ قلبُه ... كذاك الهوى إمرارهُ وعَوَاقِبُه )

( أيُلْحَى امرؤ في حبّ أسماء قد نأى ... بغَمْزٍ من الواشين وازوَرّ جانبه )

( وأسماءُ هَمُّ النفس إن كنتَ عالماً ... وبادي أحاديث الفؤادِ وغائبه )

( إذا ذكرَتْها النفسُ ظَلْتُ كأنني ... يُزعزعني قَفْقاف وِرْد وصالبُه )

وقال أبو عمرو وقع المجالد بن ريان ببني تغلب بجمران فنكى فيهم وأصاب مالا وأسرى وكان معه المرقش الأكبر فقال المرقش في ذلك

( أتتني لسانُ بني عامرٍ ... فجَلّى أحاديثُها عن بَصَرْ )

( بأنّ بني الوَخْم ساروا معا ... بجيش كضوء نجوم السَّحَر )

( بكلّ خُبُوبِ السُّرَى نَهْدَةٍ ... وكل كُمَيْتٍ طُوالٍ أغرّ )

( فما شَعَر الحيُّ حتى رأوْا ... بريق القَوَانِسِ فوقَ الغُرَر )

 

( فأقبلنَهم ثم أدربرنهم ... وأصدرنهم قبلَ حينِ الصَّدَر )

( فيا رُبَّ شِلْةٍ تًخَطْرفَنه ... كريمٍ لَدَى مَزْحَف أو مَكَرّ )

( وكائن بجُمْرانَ من مُزْعَف ... ومن رجلٍ وجهُه قد عُفِر )

 

وأما المرقش الأصغر

فهو على ما ذكر أبو عمرو ربيعة بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة

والمرقش الأكبر عم الأصغر والأصغر عم طرفة بن العبد

قال أبو عمرو والمرقش الأصغر أشعر المرقشين وأطولهما عمرا وهو الذي عشق فاطمة بنت المنذر وكانت لها وليدة يقال لها بنت عجلان وكان لها قصر بكاظمة وعليه حرس

وكان الحرس يجرون كل ليلة حوله الثياب فلا يطؤه أحد إلا بنت عجلان

وكان لبنت عجلان في كل ليلة رجل من أهل الماء يبيت عندها فقال عمرو بن جناب بن مالك لمرقش إن بنت عجلان تأخذ كل عشية رجلا ممن يعجبها فيبيت معها

وكان مرقش ترعية لا يفارق إبله فأقام بالماء وترك إبله ظمأى وكان من أجمل الناس وجها وأحسنهم شعرا وكانت فاطمة بنت المنذر تقعد فوق القصر فتنظر إلى الناس

فجاء مرقش فبات عند ابنة عجلان حتى إذا كان من الغد تجردت عند مولاتها فقالت لها ما هذا بفخذيك وإذا نكت كأنها التين وكآثار السياط من شدة حفزه إياها عند الجماع قالت اثار رجل بات معي الليلة

وقد كانت فاطمة قالت لها لقد رأيت رجلا جميلا راح نحونا بالعشية لم أره قبل ذلك قالت فإنه فتى قعد عن إبله وكان يرعاها وهو الفتى الجميل الذي

 

رأيته وهو الذي بات معي فأثر في هذه الآثار

قالت لها فاطمة فإذا كان غد وأتاك فقدمي له مجمرا ومريه أن يجلس عليه وأعطيه سواكا فإن استاك به أو رده فلا خير فيه وإن قعد على المجمر أو رده فلا خير فيه

فأتته بالمجمر فقالت له اقعد عليه فأبى وقال أدنيه مني فدخن لحيته وجمته وأبى أن يقعد عليه وأخذ السواك فقطع رأسه واستاك به

فأتت ابنة عجلان فاطمة فأخبرتها بما صنع فازدادت به عجبا وقالت أئتيني به

فتعلقت به كما كانت تتعلق فمضى معها وانصرف أصحابه

فقال القوم حين انصرفوا لشد ما علقت بنت عجلان المرقش وكان الحرس ينثرون التراب حول قبة فاطمة بنت المنذر ويجرون عليه ثوبا حين تمسي ويحرسونها فلا يدخل عليه إلا ابنة عجلان فإذا كان الغد بعث الملك بالقافة فينظرون أثر من دخل إليها ويعودون فيقولون له لم نر إلا أثر بنت عجلان

فلما كانت تلك الليلة حملت بنت عجلان مرقشا على ظهرها وحزمته إلى بطنها بثوب وأدخلته إليها فبات معها

فلما أصبح بعث الملك القافة فنظروا وعادوا إليه فقالوا نظرنا أثر بنت عجلان وهي مثقلة فلبث بذلك حينا يدخل إليها

فكان عمرو بن جناب بن عوف بن مالك يرى ما يفعل ولا يعرف مذهبه فقال له ألم تكن عاهدتني عهدا لا تكتمني شيئا ولا أكتمك ولا نتكاذب فأخبره مرقش الخبر فقال له لا أرضى عنك ولا أكلمك أبدا أو تدخلني عليها وحلف على ذلك

فانطلق المرقش إلى المكان الذي كان يواعد فيه بنت عجلان فأجلسه فيه وانصرف وأخبره كيف يصنع وكانا متشابهين غير أن عمرو بن جناب كان أشعر فأتته بنت عجلان فاحتملته وأدخلته إليها وصنع ما أمره به مرقش

فلما أراد مباشرتها وجدت شعر فخذيه فاستنكرته وإذا هو يرعد فدفعته بقدمها في صدره وقالت قبح الله سرا عند المعيدي

ودعت بنت عجلان فذهبت به وانطلق

 

إلى موضع صاحبه فلما رآه قد أسرع الكرة ولم يلبث إلا قليلا علم أنه قد افتضح فعض على إصبعه فقطعها

ثم انطلق إلى أهله وترك المال الذي كان فيه يعني الإبل التي كان مقيما فيها حياء مما صنع وقال مرقش في ذلك

( ألاَ يا اسلمى لا صُرمَ لي اليوم فاطماَ ... ولا أبداً ما دام وصلُكِ دائماَ )

( رمتكَ ابنةُ البَكْريّ عن فرع ضالّةٍ ... وهُنّ بنا خُوصٌ يُخَلْن نعائما )

( تراءت لنا يوم الرحيل بِواردٍ ... وعذبِ الثنايا لم يكن متراكما )

( سقاه حَباب المُزن في متكلل ... من الشمس رَوّاه ربابا سَوَاجِما )

( أَرَتْك بذات الضّالِ منها معاصماً ... وخدّاً أسيلا كالوذِيلة ناعما )

( صحا قلبُه عنها على أنّ ذِكرةً ... إذا خطَرت دارت به الأرضُ قائما )

( تَبَصَّرْ خليلي هل ترى من ظَعائن ... خَرجْن سِراعاً واقتعدنَ المفائما )

( تحمّلن من جوّ الوَريعة بعد ما ... تعالى النهارُ وانتجعن الصَّرائما )

( تَحلَّين ياقوتا وشَذْرا وصِيغة ... وجَزْعا ظَفارِيّاً ودُرّاً تَوَائما )

( سلكن القُرَى والجِزعَ تُحدَى جمالها ... وورّكن قَوّاً واجتزعن المخارما )

 

( ألا حبّذا وجهٌ تُريك بياضَه ... ومُنْسَدِلاتٌ كالمثاني فواحما )

( وإني لأستحيي فُطَيْمة جائعاً ... خميصاً وأستحيي فُطَيمة طاعما )

( وإني لأستحييك والخَرْق بيننا ... مخافةَ أن تَلْقَى أخاً لي صارما )

( وإني وإن كلّت قَلُوصي لَرَاجِمٌ ... بها وبنفسي يا فطَيمَ المَرَاجما )

( ألاَ يَا اسلمى بالكوكب الطَّلْق فاطماَ ... وإن لم يكن صَرْفُ النوى متلائما )

( أَلاَ يَا اسلمى ثم اعلمي أنّ حاجتي ... إليك فرُدِّي من نوالك فاطما )

( أَفاطمَ لو أنّ انساء ببلدةٍ ... وأنت بأُخرى لابتغيتك هائما )

( متى ما يشأْ ذو الودُ يَصرِمْ خليلَه ... ويَغْضَبْ عليه لا محالة ظالما )

( وآلَى جَنَابٌ حِلفةً فأطعتُه ... فنفسك ولِّ اللَّوْمَ إن كنت نادما )

( فمن يلقَ خيراً يَحمدِ الناسُ أمرَه ... ومن يَغْوِ لا يعدَم على الغَيِّ لائما )

( ألم تر أنّ المرء يَجْذِمُ كفّه ... ويَجْشَمُ من لوم الصديق المَجَاشما )

( أمن حُلُم أصبحتَ تَنكُت واجما ... وقد تعتري الأحلامُ من كان نائما )

صوت

من المائة المختارة

( إذا قلتُ تَسْلو النفسُ أو تنتهي المُنَى ... أَبَى القلبُ إلاّ حبَّ أُمِّ حَكيم )

( مُنَّعمة صَفْراء حُلْوٌ دلالُها ... أَبِيتُ بها بعدَ الهُدُوء أَهِيم )

 

( قَطُوفُ الخُطَا مَحْطوطةُ المَتْنِ زانها ... مع الحُسن خَلْقٌ في الجَمَال عَمِيم )

الشعر مختلف في قائله فمن الرواة من يرويه لصالح بن عبد الله العبشمي ومنهم من يرويه لقطري بن الفجاءة المازني ومنهم من يرويه لعبيدة بن هلال اليشكري

والغناء لسياط وله فيه لحنان أحدهما وهو المختار ثقيل أول بالوسطى والآخر خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق

ولبعض الشراة قصيدة في هذا الوزن وعلى هذه القافية وفيها ذكر لأم حكيم هذه أيضا تنسب إلى هؤلاء الشعراء الثلاثة ويختلف في قائلها كالإختلاف في قائل هذه وفيها أيضا غناء وهو في هذه الأبيات منها

( لَعَمْرُكَ إِنِّي في الحياة لزاهدٌ ... وفي العيش ما لم أَلْقَ أُمَّ حِكيم )

( ولو شهدتني يومَ دولاب أبصرَتْ ... طِعانَ فتىً في الحرب غيرِ ذَميم )

 

ذكر المبرد أن الشعر لقطري بن الفجاءة وذكر الهيثم بن عدي أنه لعمرو القنا وذكر وهب بن جرير أنه لحبيب بن سهم التميمي وذكر أبو مخنف أنه لعبيدة بن هلال اليشكري وذكر خالد بن خداش أنه لعمرو القنا أيضا

والغناء لمعبد ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق ويونس

 

خبر الوقعة التي قيل فيها هذان الشعران وهي وقعة دولاب وشيء من أخبار

هؤلاء الشراة وأنسابهم وخبر أم حكيم هذه

هذان الشعران قيلا في وقعة دولاب وهي قرية من عمل الأهواز بينها وبين الأهواز نحو من أربعة فراسخ كانت بها حرب بين الأزارقة وبين مسلم بن عبيس بن كريز خليفة عبد الله بن الحارث بن نوفل بن عبد المطلب وذلك في أيام ابن الزبير

أخبرني بخبر هذه الحرب أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة عن المدائني وأخبرني بها عبيد الله بن محمد الرازي عن الخراز عن المدائني وأخبرني الحسن بن علي عن أحمد بن زهير بن حرب عن خالد بن خداش أن نافع بن الأزرق لما تفرقت آراء الخوارج ومذاهبهم في أصول مقالتهم أقام بسوق الأهواز وأعمالها لا يعترض الناس وقد كان متشككا في ذلك

فقالت له امرأته إن كنت قد كفرت بعد إيمانك وشككت فيه فدع نحلتك ودعوتك وإن كنت قد خرجت من الكفر إلى الإيمان فاقتل الكفار حيث لقيتهم وأثخن في النساء والصبيان كما قال نوح لا تذر على الارض من الكافرين ديارا

فقبل قولها واستعرض الناس وبسط سيفه فقتل الرجال والنساء والولدان وجعل يقول إن هؤلاء إذا كبروا كانوا مثل آبائهم

وإذا وطىء بلدا فعل مثل هذا به

 

إلى أن يجيبه أهله جميعا ويدخلوا ملته فيرفع السيف ويضع الحباية فيجبى الخراج

فعظم أمره واشتدت شوكته وفشا عماله في السواد

فارتاع لذلك أهل البصرة ومشوا إلى الأحنف بن قيس فشكوا إليه أمرهم وقالوا له ليس بيننا وبين القوم إلا ليلتان وسيرتهم كما ترى فقال لهم الأحنف إن سيرتهم في مصركم إن ظفروا به مثل سيرتهم في سوادكم فخذوا في جهاد عدوكم

وحرضهم الأحنف فاجتمع إليه عشرة آلاف رجل في السلاح فأتاه عبد الله بن الحارث بن نوفل وسأله أن يؤمر عليهم أميرا فاختار لهم مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة وكان فارسا شجاعا دينا فأمره عليهم وشيعه

فلما نفذ من جسر البصرة أقبل على الناس وقال إني ما خرجت لإمتيار ذهب ولا فضة وإني لأحارب قوما إن ظفرت بهم فما رواءهم إلا سيوفهم ورماحهم

فمن كان من شأنه الجهاد فلينهض ومن أحب الحياة فليرجع فرجع نفر يسير ومضى الباقون معه فلما صاروا بدولاب خرج إليهم نافع بن الأزرق فاقتتلوا قتالا شديدا حتى تكسرت الرماح وعقرت الخيل وكثرت الجراح والقتلى وتضاربوا بالسيوف والعمد فقتل في المعركة ابن عبيس وهو على أهل البصرة وذلك في جمادى الآخرة سنة خمس وستين وقتل نافع بن الأزرق يومئذ أيضا فعجب الناس من ذلك وأن الفريقين تصابروا حتى قتل منهم خلق كثير وقتل رئيسا العسكرين والشراة يومئذ ستمائة رجل فكانت الحدة يومئذ وباس الشراة واقعا ببني تميم وبني سدوس

وأتى ابن عبيس وهو يجود بنفسه فاستخلف على الناس الربيع بن عمرو الغداني وكان يقال له الأجذم كانت يده أصيبت بكابل مع عبد الرحمن بن سمرة

واستخلف نافع بن الأزرق عبيد

 

الله بن بشير بن الماحوز أحد بني سليط بن يربوع

فكان رئيسا المسلمين والخوراج جميعا من بني يربوع رئيس المسلمين من بني غدانة بن يربوع ورئيس الشراة من بني سليط بن يربوع فاتصلت الحرب بينهم عشرين يوما

قال المدائني في خبره وادعى قتل نافع بن الأزرق رجل من باهلة يقال له سلامة وتحدث بعد ذلك قال كنت لما قتلته على برذون لورد فإذا أنا برجل ينادي وأنا واقف في خمس بني تميم فإذا به يعرض علي المبارزة فتغافلت عنه وجعل يطلبني وأنا أنتقل من خمس إلى خمس وليس يزايلني فصرت إلى رحلي ثم رجعت فدعاني إلى المبارزة فلما أكثر خرجت إليه فاختلفنا ضربتين فضربته فصرعته ونزلت فأخذت رأسه وسلبته فإذا امرأة قد رأتني حين قتلت نافعا فخرجت لتثأر به

قالوا فلما قتل نافع وابن عبيس وولي الجيش إلى ربيع بن عمرو لم يزل يقاتل الشراة نيفا وعشرين يوما ثم أصبح ذات يوم فقال لأصحابه إني مقتول لا محالة قالوا وكيف ذلك قال إني رايت البارحة كأن يدي التي أصيبت بكابل انحطت من السماء فاستشلتني

فلما كان الغد قاتل إلى الليل ثم غاداهم فقتل يومئذ قال استشلاه أخذه إليه يقال أستشلاه واشتلاه قال فلما قتل الربيع تدافع أهل البصرة الراية حتى خافوا العطب إذ لم يكن لهم رئيس

 

ثم أجمعوا على الحجاج بن باب الحميري

وقد اقتتل الناس يومئذ وقبله بيومين قتالا شديدا لم يقتتلوا مثله تطاعنوا بالرماح حتى تقصفت ثم تضاربوا بالسيوف والعمد حتى لم يبق لأحد منهم قوة وحتى كان الرجل منهم يضرب الرجل فلا يغني شيئا من الإعياء وحتى كانوا يترامون بالحجارة ويتكادمون بالأفواه

فلما تدافع القوم الراية وأبوها واتفقوا على الحجاج بن باب امتنع من أخذها فقال له كريب بن عبد الرحمن خذها فإنها مكرمة فقال إنها لراية مشؤومة ما أخذها أحد إلا قتل

فقال له كريب يا أعور تقارعت العرب على أمرها ثم صيروها إليك فتأبى خوف القتل خذ اللواء ويحك فإن حضر أجلك قتلت إن كانت معك أو لم تكن

فأخذ اللواء وناهضهم فاقتتلوا حتى انتقضت الصفوف وصاروا كراديس والخوارج أقوى عدة بالدروع والجواشن

وجعل الحجاج يغمض عينيه ويحمل حتى يغيب في الشراة ويطعن فيهم ويقتل حتى يظن أنه قد قتل ثم يرفع راسه وسيفه يقطر دما ويفتح عينيه فيرى الناس كراديس يقاتل كل قوم في ناحية

ثم التقى الحجاج بن باب وعمران بن الحارث الراسبي فاختلفا ضربتين كل واحد منهما قتل صاحبه وجال الناس بينهما جولة ثم تحاجزوا وأصبح أهل البصرة وقد هرب عامتهم وولوا حارثة بن بدر الغداني أمرهم ليس بهم طرق ولا بالخوارج

فقالت امرأة من الشراة وهي أم عمران قاتل الحجاج بن باب وقتيله ترثي ابنها عمران

( أللَّهُ أيَّد عِمْراناً وطَهَّره ... وكان عمرانُ يدعو الله في السَّحَرِ )

 

( يدعوه سِرّاً وإعلاناً ليرزقَه ... شهادةً بيدّيْ مِلْحادة غُدر )

( ولَّى صحابتُه عن حَرّ مَلْحَمةٍ ... وشدّ عِمْرانُ كالضِّرغامة الذكر )

قال فلما عقدوا لحارثة بن بدر الرياسة وسلموا إليه الراية نادى فيهم بأن يثبتوا فإذا فتح الله عليهم فللعرب زيادة فريضتين وللموالي زيادة فريضة فندب الناس فآلتقوا وليس بأحد منهم طرق وقد فشت فيهم الجراحات فلهم أنين وما تطأ الخيل إلا على القتلى

فبينما هم كذلك إذ أقبل من اليمامة جمع من الشراة يقول المكثر إنهم مائتان والمقلل إنهم أربعون فاجتموا وهم يريحون مع أصحابهم واجتمعوا كبكبة واحدة فحملوا على المسلمين

فلما رآهم حارثة بن بدر نكص برايته فانهزم وقال

( كَرْنبوا ودَوْلِبوا ... وحيثُ شئتم فاذهبُوا )

 

وقال

( أيرُ الحمار فريضةٌ لعبيدكم ... والخُصيتان فريضة الأعرابِ )

وتتابع الناس على أثره منهزمين وتبعتهم الخوارج فألقوا أنفسهم في دجيل فغرق منهم خلق كثير وسلمت بقيتهم

وكان ممن غرق دغفل بن حنظلة أحد بني عمرو بن شيبان ولحقت قطعة من الشراة خيل عبد القيس فأكبوا عليهم فعطفت عليهم خيل من بني تميم فعاونوهم وقاتلوا الشراة حتى كشفوهم وانصرفوا إلى أصحابهم

وعبرت بقية الناس فصار حارثة ومن معه بنهر تيري والشراة بالأهواز فأقاموا ثلاثة أيام وكان على الأزد يومئذ قبيصة بن أبي صفرة أخو المهلب وهو جد هزارمرد

قال وغرق يومئذ من الأزد عدد كثير فقال شاعر الأزراقة

( يَرَى مَنْ جاء ينظر من دُجَيْلٍ ... شيوخَ الأّزْد طافيةً لِحَاها )

وقال شاعر آخر منهم

( شَمِتَ ابنُ بدر والحوادث جمة ... والظالمون بنافع بن الأزرق )

( والموت حَتْمٌ لا محالةَ واقعٌ ... مَنْ لا يُصَبّحْهُ نهاراً يَطْرُق )

 

( فلئن أميرَ المؤمنين أصابه ... ريبُ المنون فَمنْ تُصِبْه يَغْلِق )

قال قطري بن الفجاءة فيما ذكر المبرد وقال المدائني في خبره إن صالح بن عبد الله العبشمي قائل ذلك وقال خالد بن خداش بل قائلها عمرو القنا قال وهب بن جرير عن أبيه فيما حدثني به أحمد بن الجعد الوشاء عن أحمد بن أبي خيثمة عن أبيه عن وهب بن جرير عن أبيه إن حبيب بن سهم قائلها

( لعمرُك إنِّي في الحياة لزاهدٌ ... وفي العيش ما لم أَلْقَ أُمَّ حَكيم )

( مِنَ الخَفَرات البِيض لم أَر مثلَها ... شِفاءً لِذِي بَيٍّ ولا لِسَقيم )

( لعمرُك إني يومَ أَلْطِمُ وجهَها ... على نائبات الدهر غيرُ حليم )

( ولو شَهِدتْني يوم دولاب أبصرتْ ... طِعانَ فتىً في الحرب غيرِ لئيم )

( غَدَاةَ طَفَتْ عَلماءِ بكرُ بن وائل ... وأُلاَّفُها مِنْ حِمِيْر وسَليم )

( ومالَ الحجازيُون نحوَ بلادهم ... وعُجْنا صدورَ الخيل نحو تَميم )

( وكان لعبد القَيْس أوّلُ جِدّها ... وولّت شيوخُ الأّزْذ فهي تَعُوم )

( فلم أَرَ يوماً كان أكثَرَ مُقْعَصاً ... يَمُجّ دماً من فائظٍ وكَلِيم )

( وضاربةً خدّاً كريماً على فتىً ... أغرَّ نجيبِ الأمهات كريم )

( أصيبَ بدُولابٍ ولم تكُ موطناً ... له أرضُ دولابٍ ودَيْرُ حَمِيم )

( فلو شَهِدتنا يومَ ذاك وخيلُنا ... تُبيح من الكُفّار كلَّ حريم )

( رأت فتيةً باعوا الإِلةً نفوسَهم ... بجنّات عَدْنٍ عنده ونَعيم )

 

حدثني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد الأرقط قال كان الشراة والمسلمون يتواقفون ويتساءلون بينهم عن أمر الدين وغير ذلك على أمان وسكون فلا يهيج بعضهم بعضا

فتوافق يوما عبيدة بن هلال اليشكري وأبو حزابة التميمي وهما في الحرب فقال عبيدة يا أبا حزابة إني سائلك عن أشياء افتصدقني في الجواب عنها قال نعم إن تضمنت لي مثل ذلك قال قد فعلت

قال سل عما بدا لك قال ما تقول في أئمتكم قال يبيحون الدم الحرام والمال الحرام والفرج الحرام

قال ويحك فكيف فعلهم في المال قال يجبونه من غير حلة وينفقونه في غير حقه قال فكيف فعلهم في اليتيم قال يظلمونه ماله ويمنعونه حقه وينيكون أمه قال ويلك يا أبا حزابة أفمثل هؤلاء تتبع قال قد أجبت فاسمع سؤالي ودع عنك عتابي على رأيي قال قل

قال أي الخمر أطيب أخمر السهل أم خمر الجبل قال ويلك أتسأل مثلي عن هذا قال قد أوجبت على نفسك أن تجيب قال أما إذ أبيت فإن خمر الجبل أقوى وأسكر وخمر السهل أحسن وأسلس

قال أبو حزابة فأي الزواني أفره أزواني رامهرمز أم زواني أرجان قال ويلك إن مثلي لا يسأل عن مثل هذا

 

قال لا بد من الجواب أو تغدر فقال أما إذ أبيت فزواني رامهرمز أرق أبشارا وزواني أرجان أحسن أبدانا

قال فأي الرجلين أشعر أجرير أم الفرزدق قال عليك وعليهما لعنة الله أيهما الذي يقول

( وطَوى الطِّرادُ مع القِياد بطونَها ... طيَّ التِّجار بحَضْرَمَوْتَ بُرُودَا )

قال جرير قال فهو أشعرهما قال وكان الناس قد تجاذبوا في أمر جرير والفرزدق حتى تواثبوا وصاروا إلى المهلب محكمين له في ذلك فقال أردتم أن أحكم بين هذين الكلبين المتهارشين فيمتضغاني ما كنت لأحكم بينهما ولكني أدلكم على من يحكم بينهما ثم يهون عليه سبابهما عليكم بالشراة فسيلوهم إذا توافقتم

فلما تواقفوا سأل أبو حزابة عبيدة بن هلال عن ذلك فأجابه بهذا الجواب

أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثت أن امرأة من الخوارج كانت مع قطري بن الفجاءة يقال لها أم حكيم وكان من أشجع الناس وأجملهم وجها وأحسنهم بدينهم تمسكا وخطبها جماعة منهم فردتهم ولم تجب إلى ذلك فأخبرني من شهدها أنها كانت تحمل على الناس وترتجز

( أحمِلُ رأساً قد سئمتُ حَمْلَهْ ... وقد مَلِلْت دَهْنَه وغسلَهْ )

( ألاَ فتىً يحمل عنّي ثِقْلَه ... )

قال وهم يفدونها بالآباء والأمهات فما رأيت قبلها ولا بعدها مثلها

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا

 

العمري عن الهيثم بن عدي قال كان عبيدة بن هلال إذا تكاف الناس ناداهم ليخرج إلي بعضكم فيخرج إليه فتيان من العسكر فيقول لهم أيما أحب إليكم أقرأ عليكم القرآن أو أنشدكم الشعر فيقولون له أما القرآن فقد عرفناه مثل معرفتك فأنشدنا فيقول لهم يا فسقة والله قد علمت أنكم تختارون الشعر على القرآن ثم لا يزال ينشدهم ويستنشدهم حتى يملوا ثم يفترقون

 

أخبار سياط ونسبه

سياط لقب غلب عليه واسمه عبد الله بن وهب ويكنى أبا وهب مكي مولى خزاغة

وكان مقدما في الغناء رواية وصنعة ومقدما في الضرب معدودا في الضراب

وهو أستاذ ابن جامع وإبراهيم الموصلي وعنه أخذا ونقلا ونقل نظراؤهما الغناء القديم وأخذه هو عن يونس الكاتب

وكان سياط زوج أم ابن جامع وفيه يقول بعض الشعراء

( ما سمعتُ الغناء إِلاّ شَجَاني ... مِنْ سياطٍ وزادَ في وَسْواسِي )

( غَنِّني يا سياطُ قد ذهب الليل ... غناءً يَطير منه نُعاسي )

( ما أُبالي إذا سمعتُ غناءً ... لسياطٍ ما فاتني للرُّؤاسي )

والرؤاسي الذي عناه هو عباس بن منقار وهو من بني رؤاس وفيه يقول محمد بن أبان الضبي

( إذا واخيتَ عبَاساً ... فكن منه على وَجل )

( فتىً لا يقبل العذرَ ... ولا يرغب في الوصلِ )

 

( وما إن يتغنّى مَنْ ... يُوَاخيه من النُّبْل )

قال حماد بن إسحاق لقب سياط هذا اللقب لأنه كان كثيرا ما يتغنى

( كأنّ مَزَاحِفَ الحيّاتِ فيه ... قُبَيلَ الصبح آثارُ السِّيَاطِ )

وأخبرني محمد بن خلف قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه وأخبرني به عبد الله بن عباس بن الفضل بن الربيع عن وسواسة الموصلي ولم أسمع أنا هذا الخبر من وسواسة عن حماد عن أبيه قالا غنى إبراهيم الموصلي يوما صوتا لسياط فقال له ابنه إسحاق لمن هذا الغناء يا أبت قال لمن لو عاش ما وجد أبوك شيئا يأكله لسياط

قال وقال المهدي يوما وهو يشرب لسلام الأبرش جئني بسياط وعقاب وحبال فارتاع كل من حضر وظن جميعهم أنه يريد الإيقاع بهم أو ببعضهم فجاءه بسياط المغني وعقاب المدني وكان الذي يوقع عليه وحبال الزامر

فجعل الجلساء يشتمونهم والمهدي يضحك

سياط وأبو ريحانة المدني

أخبرني محمد بن خلف قال حدثني أبو أيوب المدني قال حدثني حماد ابن إسحاق عن أبيه قال مر سياط على أبي ريحانة المدني في يوم بارد وهو جالس في الشمس وعليه ثوب رقيق رث فوثب إليه أبو ريحانة وقال بابي أنت يا أبا وهب غنني صوتك في شعر ابن جندب

( فؤادي رهينٌ في هواك ومهجتي ... تذوب وأجفاني عليك هُمولُ )

 

فغناه إياه فشق قميصه ورجع إلى موضعه من الشمس وقد ازداد بردا وجهدا

فقال له رجل ما أغنى عنك ما غناك من شق قميصك فقال له يا ابن أخي إن الشعر الحسن من المغني الحسن ذي الصوت المطرب أدفأ للمقرور من حمام محمى

فقال له رجل أنت عندي من الذين قال الله جل وعز ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) فقال بل أنا من الذين قال تبارك وتعالى ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ) وقد أخبرني بهذا الخبر علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه فذكر قريبا من هذا ولفظ أبي أيوب وخبره أتم

وأخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي المعروف بإبن أبي اليسع قال حدثنا عمر بن شبة أن سياطا مر بأبي ريحانة المدني فقال له بحق القبر ومن فيه غنني بلحنك في شعر ابن جندب

( لكلّ حَمامٍ أنت باكٍ إذا بكى ... ودمعُك منهلٌّ وقلبك يخفِقُق )

( مخافةَ بُعْدٍ بَعْدَ قُرْبٍ وهجرةٍ ... تكون ولمّا تأتِ والقلبُ مُشْفِق )

( ولي مهجةٌ ترفضُّ من خوف عَتْبها ... وقلبٌ بنار الحبّ يَصْلَى ويُحْرق )

( أظلُّ خَلِيعا بين أهلي ميتَّمًاً ... وقلبي لِما يرجوه منها معلّق )

فغناه إياه فلما استوفاه ضرب بيده على قميصه فشقه حتى خرج منه وغشي عليه

فقال له رجل لما أفاق يا أبا ريحانة ما أغنى عنك الغناء ثم ذكر باقي الخبر

أخبرني إسماعيل قال حدثني عمر بن شبة قال مرت جارية بأبي ريحانة يوما على ظهرها قربة وهي تغني وتقول

 

( وأَبكي فلا ليلَى بكتْ من صبابةٍ ... إليّ ولا ليلَى لذي الودّ تبذُلُ )

( وأخنع بالعُتْبَى إذا كنتُ مُذنِباً ... وإن أذنبت كنتُ الذي أتنصّل )

فقام إليها فقال يا سيدتي أعيدي فقالت مولاتي تنتظرني والقربة على ظهري فقال أنا أحملها عنك فدفعتها إليه فحملها وغنته الصوت فطرب فرمى بالقربة فشقها

فقالت له الجارية أمن حقي أن أغنيك وتشق قربتي فقال لها لا عليك تعالي معي إلى السوق فجاءت معه فباع ملحفته واشترى لها بثمنها قربة جديدة

فقال له رجل يا أبا ريحانة أنت والله كما قال الله عز و جل ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) فقال بل أنا كما قال الله يستمعون القول فيتبعون أحسنه )

أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثني أبو العيناء قال قال إسحاق الموصلي بلغني أن أبا ريحانة المدني كان جالسا في يوم شديد البرد وعليه قميص خلق رقيق فمر به سياط المغني فوثب إليه وأخذ بلجامه وقال له يا سيدي بحق القبر ومن فيه غنني صوت ابن جندب فغناه

( فؤادي رهينٌ في هَواك ومُهجتي ... تَذُوب وأجفاني عليك هُمولُ )

فشق قميصه حتى خرج منه وبقي عاريا وغشي عليه واجتمع الناس حوله وسياط واقف متعجب مما فعل

ثم أفاق وقام إليه فرحمه سياط وقال له مالك يا مشؤوم أي شيء تريد قال غنني بالله عليك

 

( وَدِّعْ أُمَامةً حان منكَ رَحِيلُ ... إنّ الوداع لمن تحبّ قليلُ )

( مثلُ القَضيب تمايلتْ أعطافُه )

( فالريح تجذِب مَتْنه فيَميل )

( إنْ كان شأنكُم الدلال فإنه ... حَسَنٌ دلالكِ يا أميمَ جَميل )

فغناه إياه فلطم وجهه ثم خرج الدم من أنفه ووقع صريعا

ومضى سياط وحمل الناس أبا ريحانة إلى الشمس فلما أفاق قيل له ويحك خرقت قميصك وليس لك غيره فقال دعوني فإن الغناء الحسن من المغني المطرب أدفأ للمقرور من حمام المهدي إذا أوقد سبعة أيام

قال ووجه له سياط بقميص وجبة وسراويل وعمامة

سياط يوصي بالمحافظة على غنائه

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال حدثني أبو أيوب المدني قال حدثني محمد بن عبد الله الخزاعي وحماد بن إسحاق جميعا عن إسحاق قال كان سياط أستاذ أبي وأستاذ ابن جامع ومن كان في ذلك العصر

فاعتل علة فجاءه أبي وابن جامع يعودانه فقال له أبي أعزز علي بعلتك أبا وهب ولو كانت مما يفتدى لفديتك منها

قال كيف كنت لكم قلنا نعم الأستاذ والسيد قال قد غنيت لنفسي ستين صوتا فأحب ألا تغيروها ولا تنتحلوها فقال له أبي أفعل ذلك يا أبا وهب ولكن أي ذلك كرهت أن يكون في غنائك فضل فأقصر عنه فيعرف فضلك علي فيه أو أن يكون فيه نقص فأحسنه فينسب إحساني إليك ويأخذه الناس عني لك قال لقد استعفيت من غير مكروه

قال الخزاعي في خبره ثم قال لي إسحاق كان سياط خزاعيا وكان له زامر يقال له حبال وضارب يقال له عقاب

قال حماد قال أبي أدركت أربعة كانوا أحسن الناس غناء سياط أحدهم قال وكان موته في أول أيام موسى الهادي

 

أخبرني يحيى قال حدثنا أبو أيوب عن مصعب قال دخل ابن جامع على سياط وقد نزل به الموت فقال له ألك حاجة فقال نعم لا تزد في غنائي شيئا ولا تنقص منه دعه رأسا برأس فإنما هو ثمانية عشر صوتا

أخبرنا محمد بن مزيد قال حدثنا حماد قال حدثني محمد بن حديد أخو النضر بن حديد أن إخوانا لسياط دعوه فأقام عندهم وبات فأصبحوا فوجدوه ميتا في منزلهم فجاؤوا إلى أمه وقالوا يا هذه إنا دعونا إبنك لنكرمه ونسر به ويأنس بقربه فمات فجأة وها نحن بين يديك فاحتكمي ما شئت ونشدناك الله ألا تعرضينا للسلطان أو تدعي فيه علينا ما لم نفعله

فقلت ما كنت لأفعل وقد صدقتم وهكذا مات أبوه فجأة قال فجاءت معنا فحملته إلى منزلها فأصلحت أمره ودفنته

وقد ذكرت هذه القصة بعينها في وفاة نبيه المغني وخبره في ذلك يذكر مع أخباره إن شاء الله تعالى

أخبرنا يحيى بن علي وعيسى بن الحسين الزيات واللفظ له قالا حدثنا أبو أيوب قال حدثنا أحمد بن المكي قال غنيت إبراهيم بن المهدي لسياط

( ضاف قلبي الهوى فأكثر سهْوِي ... )

فاستحسنه جدا وقال لي ممن أخذته قلت من جارية أبيك قرشية الزباء فقال أشعرت أنه كان لأبي ثلاث جوار محسنات كلهن تسمى قرشية منهن قرشية الزباء وقرشية السوداء وقرشية البيضاء وكانت الزباء أحسنهن غناء يعني التي

 

أخذت منها هذا الصوت قال وكنت أسمعها كثيرا تقول قد سمعت المغنين وأخذت عنهم وتقفدت أغانيهم فما رأيت فيهم مثل سياط قط

هذه الحكاية من رواية عيسى بن الحسين خاصة

نسبة هذا الصوت

صوت

( ضاف قلبي الهوى فأكْثر سهْوِي ... وجوي الحبِّ مُفظِعٌ غيرُ خُلْوِ )

( لو علا بعضُ ما علاني ثَبِيراً ... ظلَّ ضعْفاً ثبيرُ مِن ذاك يَهْوِي )

( من يكن من هوى الغواني خلِيّاً ... يا ثِقاتي فإِنني غيرُ خِلْو )

الغناء لسياط ثاني ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق

صوت

من المائة المختارة

( يا أمَّ عمرو لقد طالبتُ ودّكُم ... جُهدي وأعْذرتُ فيه كلَّ إعذارِ )

( حتى سقِمتُ وقد أصبحتِ سالمةً ... مما أُعالج من همٍّ وتَذكار )

لم يسم قائل هذا الشعر والغناء للرطاب والرطاب مدني قليل الصنعة ليس بمشهور وقيل له الرطاب لأنه كان يبيع الرطب بالمدينة ولحنه المختار هزج بالوسطى

 

صوت

من المائة المختارة

( تَصَدّع الأَنسُ الجميعُ ... أمْسَى فقلبي به صُدوعُ )

( في إثرهم وجفونُ عيني ... مُخْضَلّةٌ كلها دُموع )

لم يسم لنا قائل هذا الشعر ولا عرفناه والغناء لدكين بن يزيد الكوفي ولحنه المختار من خفيف الثقيل بالوسطى وهكذا ذكر إسحاق في الألحان المختارة للواثق

وذكر هذا الصوت في مجرد شجا فنسبه إلى دكين وجنسه في الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى

وذكر أيضا فيه لحنا من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالخصر في مجرى البنصر فزعم أنه ينسب إلى معبد وإلى الغريض وفيه بيتان آخران وهما

( فالقلبُ إن سِيمَ عنك صبراً ... كُلِّف ما ليس يستطيعُ )

( عاصٍ لمن لام في هواكمْ ... وهُوَ لكمْ سامعٌ مطيع )

صوت

من المائة المختارة

( يأيها الرجلُ الذي ... قد زان منطقَه البيانُ )

 

( لا تِعتِبنّ على الزمان ... فليس يُعْتِبك الزمانُ )

الشعر لعبد الله بن هارون العروضي والغناء لنبيه المغني ولحنه المختار ثقيل أول بالبنصر

فأما عبد الله بن هارون فما أعلم أنه وقع إلي له خبر إلا ما شهر من حاله في نفسه

وهو عبد الله بن هارون بن السميد مولى قريش من أهل البصرة وأخذ العروض من الخليل بن أحمد فكان مقدما فيه

وانقطع إلى آل سليمان بن علي وأدب أولادهم وكان يمدحهم كثيرا فأكثر شعره فيهم وهو مقل جدا

وكان يقول أوزانا من العروض غريبة في شعره ثم أخذ ذلك عنه ونحا نحوه فيه رزين العروضي فأتى فيه ببدائع جمة وجعل أكثر شعره من هذا الجنس

فأما عبد الله ابن هارون فما عرفت له خبرا ولا وقع إلي من أمره شيء غير ما ذكرته

 

ذكر نبيه وأخباره

زعم ابن خرداذبه أنه من بني تميم صليبة وأن أصله من الكوفة وأنه كان في أول أمره شاعرا لا يغني ويقول شعرا صالحا

فهوي قينة ببغداد فتعلم الغناء من أجلها وجعله سببا للدخول عليها ولم يزل يتزيد حتى جاد غناؤه وصنع فأحسن واشتهر ودون غناؤه وعد في المحسنين

فمما قاله في هذه الجارية وغنى فيه قوله

صوت

( يا ربّ إني ما جفوتُ وقد جفتْ ... فاليك أشكو ذاك يا ربّاه )

( مولاةُ سَوّسٍ ما ترِقُّ لعبدها ... نَعْم الغلامُ وبئست المولاه )

( يا ربّ إن كانت حياتي هكذا ... ضرراً عليّ فما أُريد حياه )

الغناء لنبيه ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى ومن الناس من ينسب الشعر والغناء إلى علية بنت المهدي

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال قلت لمخارق وقد غنى هذا الصوت يوما

 

( متى تجمع القلب الذكيّ وصارماً ... وأنفا حمِيَّا تجْتنِبْك المظالمُ )

فسألته لمن هو فقال هذا لنبيه التميمي وكان له أخوان يقال لهما منبه ونبهان وكان ينزل شهارسوج الهيثم في درب الريحان

قال أبو زيد وسمعت مخارقا يحدث إسحاق بن إبراهيم قال سمعت أباك إبراهيم بن ميمون يقول وقد ذكر نبيها إن عاش هذا الغلام ذهب خبرنا

قال وكنت قد غنيته صوتا أخذته عنه وهو

( شكوتُ إلى قلبي الفراقَ فقال لي ... مِن الآن فايْاس لا أغُرّك بالصبرِ )

( إذا صَدّ مَنْ أهْوَى وأسلمني العزا ... ففُرْقة من أهوى أحرُّ من الجمر )

أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهروية قال حدثني ابن أبي سعد عن محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني علي بن المفضل قال إصطبحنا يوما أنا ونبيه عند عبيد الله بن أبي غسان فغنانا نبيه لحنه

( يأيها الرجل الذي ... قد زان منطقه البيانُ )

فما سمعت أحسن منه وكان صوتنا عليه بقية يومنا

ثم أردنا الإنصراف فسألنا عبيد الله أن نبيت عنده ونصطبح من غد فأجبناه وقال لنبيه أي شيء تشتهي أن يصلح لك قال تشتري لي غزالا فتطعمني كبده كبابا وتجعل سائر ما آكله من لحمه كما تحب فقال أفعل

فلما أصبحنا جاءه بغزال فأصلحه كما أحب فلما

 

استوفى أكله استلقى لينام فحركناه فإذا هو ميت فجزعنا من ذلك وبعث عبيد الله إلى أمه فجاءت فأخبرها بخبره

فلما رأته استرجعت ثم قالت لا بأس عليكم هو رابع أربعة ولدتهم كانت هذه ميتتهم جميعا وميتة أبيهم من قبلهم فسكنا إلى ذلك

وغسل في دار عبيد الله وأصلح شأنه وصلي عليه ومضينا به إلى مقابرهم فدفن هناك

صوت

من المائة المختارة

( وقفتُ على رَبعٍ لسُعْدَى وعَبْرتي ... تَرَقْرَقُ في العينين ثم تسِيلُ )

( أسائل ربعاً قد تعفّتْ رسومُه ... عليه لأصناف الرياح ذُيول )

لم يسم لنا قائل هذا الشعر والغناء لسليم هزج خفيف بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق

 

أخبار سليم

هو سليم بن سلام الكوفي ويكنى أبا عبد الله وكان حسن الوجه حسن الصوت وقد انقطع وهو أمرد إلى إبراهيم الموصلي فمال إليه وتعشقه فعلمه وناصحه فبرع وكثرت روايته وصنع فأجاد

وكان إسحاق يهجوه ويطعن عليه واتفق له اتفاق سيء كان يخدم الرشيد فيتفق مع ابن جامع وإبراهيم وإبنه إسحاق وفليح بن العوراء وحكم الوادي فيكون بالإضافة إليهم كالساقط

وكان من أبخل الناس فلما مات خلف جملة عظيمة وافرة من المال فقبضها السلطان عنه

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه أن إسحاق قال في سليم

( سُليمُ بنُ سَلاّم على بَرْد خلْقه ... أحرُّ غِناءً من حُسينِ بنِ مُحْرِزِ )

وأخبرنا إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرنا

 

يحيى بن علي عن أبيه عن إسحاق أن الرشيد قال لبرصوما الزامر وكانت فيه لكنة ما تقول في ابن جامع قال زق من أسل يريد من عسل

قال فإبراهيم قال بستان فيه فاكهة وريحان وشوك قال فيزيد حوراء قال ما أبيد أسنانه يريد ما أبيض قال فحسين بن محرز قال ما أحسن خظامه يريد ما أحسن خضابه

قال فسليم بن سلام قال ما أنظف ثيابه

قال إسماعيل بن يونس في خبره عن عمر بن شبة عن إسحاق وغنى سليم يوما وبرصوما يزمر عليه بين يدي الرشيد فقصر سليم في موضع صيحة فأخرج برصوما الناي من فيه ثم صاح به وقال له يا أبا عبد الله صيهة أشد من هذا جهة أشد من هذا فضحك الرشيد حتى استلقى

قال وما أذكر أني ضحكت قط أكثر من ذلك اليوم

غنى الرشيد فوصله

أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال محمد بن الحسن بن مصعب إنما أخر سليما عن أصحابه في الصنعة ولعه بالأهزاج فإن ثلثي صنعته هزج وله من ذلك ما ليس لأحد منهم

قال ثم قال محمد غني سليم يوما بين

==============================================

ج12. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

 

يدي الرشيد ثلاثة أصوات من الهزج ولاء أولها

( مُتْ على من غبتَ عنه أسَفَا ... )

والثاني

( أسرفتَ في الإِعراض والهَجْر ... )

والثالث

( أصبح قلبي به نُدوبُ ... )

فأطربه وأمر له بثلاثين ألف درهم وقال له لو كنت الحكم الوادي ما زدت على هذا الإحسان في أهزاجك يعني أن الحكم كان منفردا بالهزج

نسبة هذه الأصوات

صوت

( مُتْ على من غبتَ عنه أسفاَ ... لستَ منه بمُصِيبٍ خَلَفَا )

( لن تَرَى قُرَّة عين أبداً ... أوْ ترى نحوَهمُ مُنْصرَفَا )

( قلتُ لمّا شفَّني وجدي بهم ... حَسْبِيَ اللهُ لِمَا بي وكفَى )

( بَيّن الدمعُ لمن أبصرني ... ما تضمّنتُ إذا ما ذَرَفا )

الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لسليم وله فيه لحنان أحدهما في الأول والثاني هزج بالوسطى والآخر في الثالث والرابع خفيف رمل بالبنصر مطلق

 

وفيهما لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو ومنها

صوت

( أسرفتَ في الإعراض والهجرِ ... وجُزْتَ حدّ التَّيه والكبرِ )

( الهجرُ والإِعراض من ذي الهوى ... سُلَّم ذي الغدر إلى الغدر )

( مالي وللهِجْران حَسْبي الذي ... مرّ على رأسي من الهجر )

( ودون ما جَرّبتُ فيما مضى ... ما عرّف الخيرَ من الشر )

الغناء لسيلم هزج بالبنصر ومنها

صوت

( أصبح قلبي به نُدوبُ ... أَنْدَبه الشادِنُ الرَّبيبُ )

( تَمَادِياً منه في التّصَابي ... وقد علا رأسيَ المَشِيب )

( أظنني ذائقاً حِمامي ... وأنّ إلمامَه قريب )

( إذا فؤادُ شجاه حبٌّ ... فقلَّما ينفَع الطبيب )

الشعر لأبي نواس والغناء لسليم وله فيه لحنان خفيف رمل بالبنصر عن إسحاق وهزج بالوسطى عن الهشامي وزعمت بذل أن الهزج لها

أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال كان سليم بن سلام كوفيا وكان أبوه من أصحاب أبي مسلم صاحب الدولة ودعاته وثقاته فكان يكاتب أهل العراق على يده

وكان سليم حسن الصوت

 

جهيره وكان بخيلا

قال أحمد بن أبي طاهر وحدثني أبو الحواجب الأنصاري واسمه محمد قال قال لي سليم يوما امض إلى موسى بن إسحاق الأزرق فادعه ووافياني مع الظهر فجئناه مع الظهر فأخرج إلينا ثلاثين جارية محسنة ونبيذا ولم يطعمنا شيئا ولم نكن أكلنا شيئا

فغمز موسى غلامه فذهب فاشترى لنا خبزا وبيضا فأدخله إلى الكنيف وجلسنا نأكل فدخل علينا فلما رآنا نأكل غضب وخاصمنا وقال أهكذا يفعل الناس تأكلون ولا تطعمونني وجلس معنا في الكنيف يأكل كما يأكل واحد منا حتى فني الخبز والبيض

أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني أبي قال كان سليم بن سلام صديقي وكان كثيرا ما يغشاني

فجاءني يوما وأعلمني الغلام بمجيئه فأمرت بإدخاله فدخل وقال قد جئتك في حاجة فقلت مقضية

فقال إن المهرجان بعد غد وقد أمرنا بحضور مجلس الخليفة وأريد أن أغنيه لحنا أصنعه في شعر لم يعرفه هو ولا من بحضرته فقل أبياتا أغني فيها ملاحا فقلت على أن تقيم عندي وتصنع بحضرتي اللحن قال أفعل فردوا دابته وأقام عندي وقلت

صوت

( أتيتُك عائذاً بك مِنْك ... لمّا ضاقت الحِيَلُ )

( وصيّرني هواك وبي ... لِحَيْني يضرب المثل )

( فإِن سَلِمتْ لكم نفسي ... فما لاقيتُه جَلَل )

( وإنْ قَتل الهوى رجلاً ... فإِني ذلك الرجل )

 

فغنى فيه وشربنا يومئذ عليه وغنانا عدة أصوات من غنائه فما رأيته مذ عرفته كان أنشط منه يومئذ

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قل حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثني عبد الله بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي محمد قال سمعت أبي يقول ما سرقت من الشعر قط إلا معنيين قال مسلم بن الوليد

( ذاك ظبيٌ تحيَّر الحسنُ في الأركان ... منه وجال كلَّ مكانِ )

( عرضتْ دونَه الحجالُ فما يَلْقاك ... إلا في النوم أو في الأماني )

فاستعرت معناه فقلت

صوت

( يا بعيدَ الدار موصولاً ... بقلبي ولساني )

( ربمّا باعَدَك الدهرُ ... فأذنْتك الأماني )

الغناء في هذين البيتين لسليم هزج بالبنصر عن الهشامي قال وقال مسلم أيضا

( متى ما تسمعي بقتيلِ أرض ... فإِني ذلك الرجل القتيلُ )

ويروى أصيب فإنني ذاك القتيل فقلت

( أتيتُك عائذاً بك مِنْك ... لمّا ضاقت الحِيَلُ )

( وصيّرني هواك وبي ... لِحَيْني يُضرب المثل )

( فإن سَلِمتْ لكم نفسي ... فما لاقيتُه جَلَل )

( وإن قَتل الهوى رجلاً ... فإني ذلك الرجل )

 

غنى ابن المهدي فأمر له بجائزة

وجدت في كتاب علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون بن إسماعيل ولم أسمعه من أحد أن إبراهيم المهدي سأل جماعة من إخوانه أن يصطبحوا عنده قال حمدون وكنت فيهم وكان فيمن دعا مخارق فسار إليه وهو سكران لا فضل فيه لطعام ولا لشراب فاغتم لذلك إبراهيم وعاتبه على ما صنع فقال لا والله أيها الأمير ما كان آفتي إلا سليم بن سلام فإنه مر بي فدخل علي فغناني صوتا له صنعه قريبا فشربت عليه إلى السحر حتى لم يبق في فضل وأخذته

فقال له إبراهيم فغنناه إملالا فغناه

صوت

( إذا كنتَ نَدْماني فباكْر مُدامةً ... معتَّقةً زُفّت إلى غير خاطبِ )

( إذا عُتِّقت في دَنّها العامَ أقبلتْ ... تَردّي رداءَ الحسن في عين شارب )

الغناء لسليم خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر قال فبعث إبراهيم إلى سليم فأحضره فغناه إياه وطرحه على جواريه وأمر له بجائزة وشربنا عليه بقية يومنا حتى صرنا في حالة مخارق وصار في مثل أحوالنا

صوت

من المائة المختارة

( عَتَق الفؤادُ من الصِّبا ... ومن السَّفاهة والعلاق )

( وحَطَطتُ رحلي عن قَلوص ... الحبّ في قُلُصٍ عِتاق )

( ورفعتُ فضلَ إزاريَ ... الْمجرور عن قدمي وساقي )

 

( وكففت غربَ النفس حتى ... ما تَتُوق إلى مَتاق )

لم يقع إلينا قائل هذا الشعر والغناء لإبن عباد الكاتب ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل وقيل إنه لغيره بل قيل إنه لعمرو

 

أخبار ابن عباد

هو محمد بن عباد مولى بني مخزوم وقيل إنه مولى بني جمح ويكنى أبا جعفر

مكي من كبراء المغنين من الطبقة الثانية منهم

وقد ذكره يونس الكاتب فيمن أخذ عنه الغناء متقن الصنعة كثيرها وكان أبوه من كتاب الديوان بمكة فلذلك قيل ابن عباد الكاتب

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص الثقفي عن أبي خالد الكناني عن ابن عباد الكاتب قال والله إني لأمشي بأعلى مكة في الشعب إذا أنا بمالك على حمار له ومعه فتيان من أهل المدينة فظننت أنهم قالوا له هذا ابن عباد فمال إلي فملت إليه فقال لي أنت ابن عباد قلت نعم قال مل معي ها هنا ففعلت فأدخلني شعب ابن عامر ثم أدخلني دهليز ابن عامر وقال غنني فقلت أغنيك هكذا وأنت مالك وقد كان يبلغني أنه يثلب أهل مكة ويتعصب عليهم فقال بالله إلا غنيتني صوتا من صنعتك فاندفعت فغنيته

صوت

( ألاَ يا صاحبيّ قِفَا قليلاً ... على ربع تقادمَ بالمُنيفِ )

 

( فأمستْ دراهم شِحِطَت وبانت ... وأضحى القلبُ يخفِقُ ذا وجيف )

وما غنيته إياه إلا على احتشام فلما فرغت نظر إلي وقال لي قد والله أحسنت ولكن حلقك كأنه حلق زانية

فقلت أما إذ أفلت منك بهذا فقد أفلت وهذا اللحن من صدور غناء ابن عباد ولحنه من الثقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى وعيسى بن الحسين قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني جماعة من أهل العلم أن ابن عباد الكاتب توفي ببغداد في الدولة العباسية ودفن بباب حرب وقال أبو أيوب أظنه فيمن قدم من مغني الحجاز على المهدي

صوت

من المائة المختارة

( يا طللاً غَيَّره بَعدِي ... صوبُ رَبيع صادق الرعدٍ )

( أراكَ بعد الأُنس ذا وَحْشَةٍ ... لستَ كما كنتَ على العهدِ )

( مالي أُبَكِّي طللاً كلما ... ساءلتُه عَيَّ عن الردِّ )

( كان به ذو غُنُج أهْيَفٌ ... أحْورُ مطبوعٌ على الصَّدّ )

لم يسم أبو أحمد قائل هذا الشعر والغناء ليحيى المكي ولحنه المختار من الهزج بالوسطى

 

أخبار يحيى المكي ونسبه

هو يحيى بن مرزوق مولى بني أمية وكان يكتم ذلك لخدمته الخلفاء من بني العباس خوفا من أن يجتنبوه ويحتشموه فإذا سئل عن ولائه انتمى إلى قريش ولم يذكر البطن الذي ولاؤه لهم واستعفى من سأله عن ذلك ويكنى يحيى أبا عثمان

وذكر ابن خرداذبه أنه مولى خزاعة وليس قوله مما يحصل لأنه لا يعتمد فيه على رواية ولا دراية

أخبرني عبد الله بن الربيع أبو بكر الربيعي صديقنا رحمه الله قال حدثني وسواسة بن الموصلي وقد لقيت وسواسة هذا وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم وكان معلما ولم أسمع هذا منه فكتبته وأشياء أخر عن أبي بكر رحمه الله قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال لي أبي سألت يحيى المكي عن ولائه فانتمى إلى قريش فاستزدته في الشرح فسألني أن أعفيه

أخبرني عيسى بن الحسين الوراق ويحيى بن علي بن يحيى قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال كان يحيى المكي يكنى أبا عثمان وهو مولى بني أمية وكان يكتم ذلك ويقول أنا مولى قريش

ولما قال أعشى بني سليم يمدح دحمان

( كانوا فحولاً فصاروا عند حَلْبتهم ... لمّا انبرى لهمُ دَحْمان خِصياناَ )

( فأَبلِغوه عن الأعشىَ مقالَته ... أعشى سُلَيم أبي عمرو سُليمانا )

 

( قولوا يقول أبو عمرو لصُحْبَته ... ياليت دحمانَ قبل الموت غنّانا )

قال أبان بن عبد الحميد اللاحقي ويقال إن ابنه حمدان بن أبان قالها والأشبه عندي أنها لأبان وما أظن ابنه أدرك يحيى

( يا مَنْ يُفضّل دحماناً ويمدحه ... على المغنين طُرًّا قلتَ بهتانَا )

( لو كنتَ جالستَ يحيى أو سمعتَ به ... لم تمتدح أبداً ما عشتَ إنساناَ )

( ولم تقُل سَفَهاً في مُنيةٍ عَرَضتْ ... ياليت دحمان قبل الموت غنّانا )

( لقد عجبتُ لدحمان ومادِحه ... لا كان مادحُ دحمانٍ ولا كانا )

( ما كان كابن صغير العين إذ جَرَيا ... بل قام في غاية المجرى وما دانَى )

( بذّ الجيادَ أبو بكر وصيرها ... من بعد ما قَرِحتْ جُذْعاً وثُنيانا )

يعني بأبي بكر ابن صغير العين وهو من مغني مكة وله أخبار تذكر في موضعها إن شاء الله تعالى

منزلته في الغناء

وعمر يحيى المكي مائة وعشرين سنة وأصاب بالغناء ما لم يصبه أحد من نظرائه ومات وهو صحيح السمع والبصر والعقل

وكان قدم مع الحجازيين الذين قدموا على المهدي في أول خلافته فخرج أكثرهم وبقي يحيى بالعراق هو وولده يخدمون الخلفاء إلى أن انقرضوا

وكان آخرهم محمد بن أحمد بن يحيى المكي وكان يغني مرتجلا ويحضر مجلس المعتمد مع المغنين فيوقع بقضيب على دواة

ولقيه جماعة من أصحابنا وأخذ عنه جماعة ممن أدركنا من عجائز المغنيات منهم قمرية العمرية وكانت أم ولد عمرو بن بانة

وممن أدركه من أصحابنا جحظة

 

وكتبنا عنه عن ابن المكي هذا حكايات حسنة من أخبار أهله

وكان ابن جامع وإبراهيم الموصلي وفليح يفزعون إليه في الغناء القديم ويأخذونه عنه ويعايي بعضهم بعضا بما يأخذه منه ويغرب به على أصحابه فإذا خرجت لهم الجوائز أخذوا منها ووفروا نصيبه

وله صنعة عجيبة نادرة متقدمة وله كتاب في الأغاني ونسبها وأخبارها وأجناسها كبير جليل مشهور إلا أنه كان كالمطرح عند الرواة لكثرة تخليطه في رواياته

والعمل على كتاب ابنه أحمد فإنه صحح كثيرا مما أفسده أبوه وأزال ما عرفه من تخاليط أبيه وحقق ما نسبه من الأغاني إلى صانعه وهو يشتمل على نحو ثلاثة آلاف صوت

ألف كتابا في الأغاني وأهداه لعبد الله بن طاهر

أخبرني عبد الله بن الربيع قال حدثني وسواسة بن الموصلي قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال عمل جدي كتابا في الأغاني وأهداه إلى عبد الله بن طاهر وهو يومئذ شاب حديث السن فاستحسنه وسر به ثم عرضه على إسحاق فعرفه عوارا كثيرا في نسبه لأن جدي كان لا يصحح لأحد نسبة صوت البتة وينسب صنعته إلى المتقدمين وينحل بعضهم صنعة بعض ضنا بذلك على غيره فسقط من عين عبد الله وبقي في خزانته ثم وقع إلى محمد بن عبد الله فدعا أبي وكان إليه محسنا وعليه مفضلا فعرضه عليه فقال له إن في هذه النسب تخليطا كثيرا خلطها أبي لضنه بهذه الشأن على الناس ولكني أعمل لك كتابا أصحح هذا وغيره فيه

فعمل له كتابا فيه اثنا عشر ألف صوت وأهداه إليه فوصله محمد بثلاثين ألف درهم وصحح له الكتاب الأول أيضا فهو في أيدي الناس

قال وسواسة وحدثني حماد أن أباه إسحاق كان يقدم يحيى المكي تقديما كثيرا ويفضله ويناضل أباه وابن جامع فيه ويقول ليس يخلو يحيى فيما يرويه من الغناء الذي لا يعرفه أحد منكم من

 

أحد أمرين إما أن يكون محقا فيه كما يقول فقد علم ما جهلتم أو يكون من صنعته وقد نحله المتقدمون كما تقولن فهو أفضل له وأوضح لتقدمه عليكم

قال وكان أبي يقول لولا ما أفسد به يحيى المكي نفسه من تخليطه في رواية الغناء على المتقدمين وإضافته إليهم ما ليس لهم وقلة ثباته على ما يحكيه من ذلك لما تقدمه أحد

وقال محمد بن الحسن الكاتب كان يحيى يخلط في نسب الغناء تخليطا كثيرا ولا يزال يصنع الصوت بعد الصوت يتشبه فيه بالغريض مرة وبمعبد أخرى وبإبن سريج وابن محرز ويجتهد في إحكامه وإتقانه حتى يشتبه على سامعه فإذا حضر مجالس الخلفاء غناه على ما أحدث فيه من ذلك فيأتي بأحسن صنعة وأتقنها وليس أحد يعرفها فيسأل عن ذلك فيقول أخذته عن فلان وأخذه فلان عن يونس أو عن نظرائه من رواة الأوائل فلا يشك في قوله ولا يثبت لمباراته أحد ولا يقوم لمعارضته ولا يفي بها حتى نشأ إسحاق فضبط الغناء وأخذه من مظانه ودونه وكشف عوار يحيى في منحولاته وبينها للناس

إسحاق يظهر غلطه

أخبرني عمي قال سمعت عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يذكر عن أحمد ابن سعيد المالكي وكان مغنيا منقطعا إلى طاهر وولده وكان من القواد قال حضرت يحيى المكي يوما وقد غنى صوتا فسئل عنه فقال هذا لمالك ولم يحفظ أحمد بن سعيد الصوت ثم غنى لحنا لمالك فسئل عن صانعه فقال هذا لي فقال له إسحاق قلت ماذا فديتك وتضاحك به

فسئل عن

 

صانعه فأخبر به ثم غنى الصوت فخجل يحيى حتى أمسك عنه ثم غنى بعد ساعة في الثقيل الأول واللحن

صوت

( إنّ الخَليطَ أَجَدّ فاحَتَمَلا ... واراد غيظَك بالذي فعلا )

( فظلِلْتَ تأمُل قربَ أَوْبَتهم ... والنفسُ مما تأمُل الأملا )

فسئل عنه فنسبه إلى الغريض فقال له إسحاق يا أبا عثمان ليس هذا من نمط الغريض ولا طريقته في الغناء ولو شئت لأخذت ما لك وتركت للغريض ما له ولم تتعب

ُفاستحيا يحيى ولم ينتفع بنفسه بقية يومه فلما انصرف بعث إلى إسحاق بألطاف كثيرة وبرواسع وكتب إليه يعاتبه ويستكف شره ويقول له لست من أقرانك فتضادني ولا أنا ممن يتصدى لمباغضتك ومباراتك فتكايدني ولأنت إلى أن أفيدك وأعطيك ما تعلم أنك لا تجده عند غيري فتسمو به على أكفائك أحوج منك إلى أن تباغضني فأعطي غيرك سلاحا إذا حمله عليك لم تقم له وأنت أولى وما تختار

فعرف إسحاق صدق يحيى فكتب إليه يعتذر ورد الألطاف التي حملها إليه وحلف لا يعارضه بعدها وشرط عليه الوفاء بما وعده به من الفوائد فوفى له بها وأخذ منه كل ما أراد من غناء المتقدمين

وكان إذا حز به مر في شيء منها فزع إليه فأفاده وعاونه ونصحه وما عاود إسحاق معارضته بعد ذلك

وحذره يحيى فكان إذا سئل بحضرته عن شيء صدق فيه وإذا غاب إسحاق خلط فيما يسأل عنه قال وكان يحيى إذا صار إليه إسحاق يطلب منه شيئا أعطاه إياه وأفاده وناصحه ويقول لإبنه أحمد تعال حتى تأخذ مع أبي محمد ما الله يعلم أني كنت أبخل به عليك فضلا عن غيرك فيأخذه أحمد عن أبيه مع

 

إسحاق قال وكان إسحاق بعد ذلك يتعصب ليحيى تعصبا شديدا ويصفه ويقدمه ويعترف برياسته وكذلك كان في وصف أحمد ابنه وتقريظه

عدد أصواته التي صنعها

قال أحمد بن سعيد والإختلاف الواقع في كتب الأغاني إلى الآن من بقايا تخليط يحيى قال أحمد بن سعيد وكانت صنعة يحيى ثلاثة آلاف صوت منها زهاء ألف صوت لم يقاربه فيها أحد والباقي متوسط

وذكر بعض أصحاب أحمد بن يحيى المكي عنه أنه سئل عن صنعة أبيه فقال الذي صح عندي منها ألف وثلثمائة صوت منها مائة وسبعون صوتا غلب فيها على الناس جميعا من تقدم منهم ومن تأخر فلم يقم له فيها أحد

وقال حماد بن إسحاق قال لي أبي كان يحيى المكي يسأل عن الصوت وهو يعلم لمن هو فينسبه إلى غير صانعه فيحمل ذلك عنه كذلك ثم يسأله آخرون فينسبه غير تلك النسبة حتى طال ذلك وكثر منه وقل تحفظه فظهر عواره ولولا ذلك لما قاومه أحد

وقال أحمد بن سعيد المالكي في خبره قال إسحاق يوما للرشيد قبل أن تصلح الحال بينه وبين يحيى المكي أتحب يا أمير المؤمنين أن أظهر لك كذب يحيى فيما ينسبه من الغناء قال نعم قال أعطني أي شعر شئت حتى أصنع فيه واسألني بحضرة يحيى عن نسبته فإني سأنسبه إلى رجل لا أصل له واسأل يحيى عنه إذا غنيته فإنه لا يمتنع من أن يدعي معرفته

فأعطاه شعرا فصنع فيه لحنا وغناه الرشيد ثم قال له يسألني أمير المؤمنين عن نسبته بين يديه

فلما حضر يحيى غناه إسحاق فسأله الرشيد

 

لمن هذا اللحن فقال له إسحاق لغناديس المديني فأقبل الرشيد على يحيى فقال له أكنت لقيت غناديس المديني قال نعم لقيته وأخذت عنه صوتين ثم غنى صوتا وقال هذا أحدهما

فلما خرج حلف إسحاق بالطلاق ثلاثا وعتق جواريه أن الله ما خلق أحدا اسمه غناديس ولا سمع في المغنين ولاغيرهم وأنه وضع ذلك الإسم في وقته ذلك لينكشف أمره

حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل قال غني جدي يوما بين يدي الرشيد

صوت

( هل هَيّجَتك مَغَانِي الحيّ والدُّورُ ... فاشتقْتَ إن الغريبَ الدارِ معذورُ )

( وهل يَحُلّ بنا إذ عيشُنا أَنِقُ ... بِيضُ أوانسُ أمثالُ الدُّمَى حُور )

والصنعة له خفيف ثقيل فسار إليه إسحاق وسأله أن يعيده إياه فقال نعم حبا وكرامة لك يابن أخي ولو غيرك يروم ذلك لبعد عليه وأعاده حتى أخذه إسحاق

فلما انصرف بعث إلى جدي بتخت ثياب وخاتم ياقوت نفيس

حدثني جحظة قال حدثني القاسم بن زرزور عن أبيه عن مولاه علي بن المارقي قال قال لي إبراهيم بن المهدي ويلك يا مارقي إن يحيى المكي غنى البارحة

 

بحضرة أمير المؤمنين صوتا فيه ذكر زينب وقد كان النبيذ أخذ مني فأنسيت شعره واستعدته إياه فلم يعده فاحتل لي عليه حتى تأخذه لي منه ولك علي سبق

فقال لي المارقي وأنا يومئذ غلامه اذهب إليه فقل له إني أسأله أن يكون اليوم عندي فمضيت إليه فجئته به

فلما تغدوا وضع النبيذ فقال له المارقي إني كنت سمعتك تغني صوتا فيه زينب وأنا أحب أن آخذه منك وكان يحيى يوفي هذا الشأن حقه من الأستقصاء فلا يخرج عنه إلا بحذر ولا يدع الطلب والمسألة ولا يلقي صوتا إلا بعوض

قال لي جحظة في هذا الفصل هذا فديتك فعل يحيى مع ما أفاده من المال ومع كرم من عاشره وخدمه من الخلفاء مثل الرشيد والبرامكة وسائر الناس لا يلام ولا يعاب ونحن مع هؤلاء السفل إن جئناهم نكارمهم تغافلوا عنا وإن أعطونا التزر اليسير منوا به علينا وعابونا فمن يلومني أن أشتمهم فقلت ما عليك لوم

قال فقال له يحيى وأي شيء العوض إذا ألقيت عليك هذا الصوت قال ما تريد قال هذه الزربية الأرمينية كم تقعد عليها أما آن لك أن تملها قال بلى وهي لك

قال وهذه الظباء الحرمية وأنا مكي لا أنت وأنا أولى بها قال هي لك وأمر بحملها معه فلما حصلت له قال المارقي يا غلام هات العود قال يحيى والميزان والدراهم وكان لا يغني أو يأخذ خمسين درهما فأعطاه إياه فألقى عليه قوله

( بزينبَ ألمم قبلَ أن يَرْحَلَ الركبُ ... وقُلْ إن تَمَلِّينا فما ملّكِ القلبُ )

ولحنه لكردم ثقيل أول فلم يشك المارقي أنه قد أخذ الصوت الذي طلبه إبراهيم وأدرك حاجته

فبكر إلى إبراهيم وقد أخذ الصوت فقال له قد جئتك

 

بالحاجة فدعا بالعود فغناه إياه فقال له لا والله ما هو هذا وقد خدعك فعاود الإحتيال عليه

فبعثني إليه وبعث معي خمسين درهما فلما دخل إليه وأكلا وشربا قال له يحيى قد واليت بين دعواتك لي ولم تكن برا ولا وصولا فما هذا قالا شيء والله إلا محبتي للأخذ عنك والإقتباس منك فقال سرك الله فمه

قال تذكرت الصوت الذي سألتك إياه فإذا ليس هو الذي ألقيت علي قال فتريد ماذا قال تذكر الصوت قال أفعل ثم اندفع فغناه

( أَلْمِمْ بزينبَ إنّ البينَ قد أَفدَا ... قَلّ الثَواءُ لئن كان الرحيلُ غدا )

والغناء لمعبد ثقيل أول فقال له نعم فديتك يا أبا عثمان هذا هو ألقه علي قال العوض قال ما شئت قال هذا المطرف الأسود قال هو لك فأخذه وألقى عليه هذا الصوت حتى استوى له وبكر إلى إبراهيم فقال له ما وراءك قال قد فضيت الحاجة فدعا له بعود فغناه فقال خدعك والله ليس هذا هو فعاود الإحتيال عليه وكل ما تعطيه إياه ففي ذمتي

فلما كان اليوم الثالث بعث بي إليه فدعوته وفعلنا مثل فعلنا بالأمس فقال له يحيى فمالك أيضا قال له يا أبا عثمان ليس هذا الصوت هو الذي أردت فقال له لست أعلم ما في نفسك فأذكره وإنما علي أن أذكر ما فيه زينب من الغناء كما التمست حتى لا يبقى عندي زينب البتة إلا أحضرتها فقال هات على اسم الله فقال اذكر العوض قلت ما شئت قال هذه الدراعة الوشي التي عليك قال فخذها والخمسين الدرهم فأحضرها فألقى عليه والغناء لمعبد ثقيل أول

( لزينبَ طيفُ تعتريني طوارقُه ... هدوءاً إذا النجمُ ارجحنّت لواحقُه )

 

فأخذه منه ومضى إلى إبراهيم فصادفه يشرب مع الحرم فقال له حاجبه هو متشاغل فقال قل له قد جئتك بحاجتك فدخل فأعلمه فقال يدخل فيغنيه في الدار وهو قائم فإن كان هو وإلا فليخرج ففعل فقال لا والله ما هو هذا ولقد خدعك فعاود الإحتيال عليه ففعل مثل ذلك بيحيى فقال له يحيى وهو يضحك أما ظفرت بزينبك بعد فقال لا والله يا أبا عثمان وما أشك في أنك تعتمدني بالمنع مما أريده وقد أخذت كل شيء عندي معابثة

فضحك يحيى وقال قد استحييت منك الآن وأنا ناصحك على شريطة قال نعم لك الشريطة قال لا تلمني في أن أعابثك لأنك أخذت في معابثتي والمطلوب إليه أقدر من الطالب فلا تعاود أن تحتال علي فإنك تظفر مني بما تريد إنما دسك إبراهيم بن المهدي علي لتأخذ مني صوتا غنيته فسألني إعادته فمنعته بخلا عليه لأنه لا يلحقني منه خير ولا بركة ويريد أن يأخذ غنائي باطلا وطمع بموضعك أن تأخذ الصوت بلا ثمن ولا حمد ولا والله إلا بأوفر ثمن وبعد اعترافك وإلا فلا تطمع في الصوت

فقال له أما إذ فطنت فالأمر والله على ما قلت فتغنيه الآن بعينه على شرط أنه إن كان هو هو وإلا فعليك إعادته ولو غنيتني كل شيء تعرفه لم أحتسب لك إلا به قال اشتره فتساوما طويلا وماكسه حتى بلغ الصوت ألف درهم فدفعها إليه وألقى عليه

صوت

( طَرَقْتك زينبُ والمزَار بعيدُ ... بمنى ونحن مُعرِّسون هجودُ )

 

( فكأنما طَرَقتْ بريّا روضةٍ ... أُنُفِ تُسَحْسِح مُزنَها وتَجُود )

لحنه خفيف ثقيل قال وهو صوت كثير العمل حلو النغم محكم الصنعة صحيح القسمة حسن المقاطع فأخذه وبكر إلى إبراهيم بن المهدي فقال له قد أفقرني هذا الصوت وأعراني وأبلاني بوجه يحيى المكي وشحه وطلبه وشرهه وحدثه بالقصة فضحك إبراهيم وغناه إياه فقال هذا وأبيك هو بعينه

فألقاه عليه حتى أخذه وأخلف عليه كل شيء أخذه يحيى منه وزاده خمسة آلاف درهم وحمله على برذون أشهب فاره بسرجه ولجامه

فقال له يا سيدي فغلامك زرزور المسكين قد تردد عليه حتى ظلع هب له شيئا فأمر له بألف درهم

غناؤه للأمين وللرشيد

حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال حدثني ريق وشارية جميعا قالتا كان مولانا تعنيان أبي في مجلس محمد الأمين يوما والمغنون حضور

 

فغنى يحيى المكي واللحن له خفيف ثقيل

صوت

( خليلٌ لي أهيمُ به ... فما كافا ولا شَكَرَا )

( بلى يُدْعَى له باسمي ... إذا ما رِيع أو عثَرا )

فاسترده سيدنا وأحب أن يأخذه فجعل يحيى يفسده وفطن الأمين بذلك فأمر له بعشرين ألف درهم وأمره برده وترك التخليط فدعا له وقبل الأرض بين يديه ورد الصوت وجوده ثم استعاده فقال له يحيى ليست تطيب لك نفسي به إلا بعوض من مالك ولا أنصحك والله فيه فهذا مال مولاي أخذته فلم تأخذ أنت غنائي فضحك الأمين وحكم على إبراهيم بعشرة آلاف درهم فأحضرها فقبل يحيى يده وأعاد الصوت وجوده فنظر إلى مخارق وعلويه يتطلعان لأخذه فقطع الصوت ثم أقبل عليهما وقال قطعة من خصية الشيخ تغطي أستاه عدة صبيان والله لا أعدته بحضرتكما

ثم أقبل على مولانا تعنيان إبراهيم بن المهدي فقال يا سيدي إني أصير إليك حتى تأخذه عني متمكنا ولا يشركك فيه أحد فصار إليه فأعاده حتى أخذه عنه وأخذناه معه

أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال

 

أرسل إلي هارون الرشيد فدخلت إليه وهو جالس على كرسي بتل دارا فقال يا يحيى غنني

( متى تلتقي الأُلاّفُ والعيسُ كلَّما ... تَصعَّدْنَ من وادٍ هبطن إلى واد )

فلم أزل أغنيه إياه ويتناول قدحا إلى أن أمسى فعددت عشر مرات استعاد فيها الصوت وشرب عشرة أقداح ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم وأمرني بالإنصراف

وقال محمد بن أحمد بن يحيى المكي في خبره حدثني أبي أحمد بن يحيى قال قال لي إسحاق يا أبا جعفر لأبيك مائة وسعبون صوتا من أخذها عنه بمائة وسبعين ألف درهم فهو الرابح فقلت لأبي أي شيء تعرف منها فقال لحنه في شعر الأخطل

صوت

( خَفّ القَطِينُ فراحوا منكَ وابتكروا ... وأزعجتْهم نَوىً في صَرْفِها غِيَرُ )

 

( كأنني شاربُ يومَ استُبِدّ بهم ... من قَهْوةٍ عتّقتها حِمْص أو جَدَر )

لحن يحيى المكي في هذين البيتين ثقيل أول هكذا في الخبر ولإبراهيم فيهما ثقيل أول آخر ولابن سريج رمل قال ومنهما

صوت

( بانَ الخليطُ فما أؤَمِّله ... وعفا من الرَّوْحاء منزلُهُ )

( ما ظَبيةٌ أدماءُ عاطلة ... تحنو على طِفْل تُطَفِّله )

لحن يحيى في هذا الشعر ثاني ثقيل بالبنصر قال أحمد قال لي إسحاق وددت أن هذا الصوت لي أو لأبي وأني مغرم عشرة آلاف درهم

ثم قال هل سمعتم بأحسن من قوله على طفل تطفله قال ومنها

صوت

( وكفّ كُعوّاذ النقا لا يضيرها ... إذا برزتْ ألاّ يكون خِضابُ )

 

( أنامل فُتْخُ لا تَرى بأصولها ... ضُموراً ولم تَظْهَر لهن كِعابُ )

ولحنه من الثقيل الثاني قال ومنها

صوت

( صَادتْك هندُ وتلك عادتها ... فالقلب مما يَشُفّه كَمِدُ )

( كم تشتكي الشوقَ من صبابتها ... ولا تبالي هندُ بما تَجد )

ولحنه من خفيف الثقيل قال ومنها

صوت

( أَعَسيتَ مِنَ سَلْمى هواكَ ... اليوم محتلاًّ جديداَ )

( ومَرَابِطَ الخيلِ الجِيادِ ... ومنزلاً خَلَقاً هَمُودا )

ولحنه خفيف ثقيل أيضا قال ومنها

صوت

( ألاَ مرحباً بخيالٍ ألمّ ... وإن هاج للقلب طولَ الأَلَمْ )

 

( خيالُ لأسماءَ يَعتادني ... إذا الليلُ مَدَّ رِواقَ الظُّلَم )

ولحنه ثقيل أول قال ومنها

صوت

( كم ليلةٍ ظلماءَ فيكِ سَرَيْتُها ... أَتْعبتُ فيها صُحْبتي وركابي )

( لا يُبصر الكلبُ السَّرُوق خِباءها ... ومواضعَ الأوتاد والأَطناب )

لحنه ثاني ثقيل بالوسطى وفيه خفيف ثقيل بالوسطى للغريض قال ابن المكي غنى أبي الرشيد ليلة هذا الصوت فأطربه ثم قال له ثم يا يحيى فخذ ما في ذلك البيت فظنه فرشا أو ثيابا فإذا فيه أكياس فيها عين وورق فحملت بين يديه فكانت خمسين ألف درهم مع قيمة العين قال ومنها

صوت

( إني امرؤٌ مالي يِقي عِرْضي ... ويَبيت جاري آمناً جَهْلِي )

( وأرى الذّمامة للرَّفيق إذا ... ألقَى رِحالَتْه إلى رَحْلي )

ولحنه خفيف ثقيل قال ابن المكي غنى ابن جامع الرشيد يوما البيت الأول من هذين البيتين ولم يزد عليه شيئا فأعجب به الرشيد واسترده مرارا وأسكت لإبن جامع المغنين جميعا

وجعل يسمعه ويشرب عليه ثم أمر له بعشرة آلاف

 

درهم وعشرة خواتيم وعشر خلع وانصرف

فمضى إبراهيم من وجهه إلى يحيى المكي فأستأذن عليه فأذن له فأخبره بالذي كان من أمر ابن جامع واستغاث به

فقال له يحيى أفزاد على البيت الأول شيئا قال لا قال أفرأيت إن زدتك بيتا ثانيا لم يعرفه إسماعيل أو عرفه ثم أنسيه وطرحته عليك حتى تأخذه ما تجعل لي قال النصف مما يصل إلي بهذا السبب قال والله فأخذ بذلك عليه عهدا وشرطا واستحلفه عليه أيمانا مؤكدة ثم زاده البيت الثاني وألقاه عليه حتى أخذه وانصرف

فلما حضر المغنون من غد ودعي به كان أول صوت غناه إبراهيم هذا الصوت وجاء بالبيت الثاني وتحفظ فيه فأصاب وأحسن كل الإحسان وشرب عليه الرشيد واستعاده حتى سكر وأمر لإبراهيم بعشرة آلاف درهم وعشرة خواتيم وعشر خلع فحمل ذلك كله وانصرف من وجهه ذلك إلى يحيى فقاسمه ومضى إلى منزله

وانصرف ابن جامع إليه من دار الرشيد وكان يحيى في بقايا علة فاحتجب عنه فدفع ابن جامع في صدر بوابه ودخل إليه فقال له إيه يا يحيى كيف صنعت ألقيت الصوت على الجرمقاني لا دفع الله صرعتك ولا وهب لك العافية وتشاتما ساعة ثم خرج ابن جامع من عنده وهو مدوخ

إسحاق الموصلي يمدحه في جمع المغنين

حدثني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال قال لي إسحاق كنت أنا وأبوك وابن جامع وفليح بن أبي العوراء وزبير بن دحمان يوما عند الفضل بن الربيع فانبرى زبير بن دحمان لأبيك يعني يحيى فجعلا يغنيان

 

ويباري كل واحد منهما صاحبه وذلك يعجب الفضل وكان يتعصب لأبيك ويعجب به

فلما طال الأمر بينهما قال له الزبير أنت تنتحل غناء الناس وتدعيه وتنحلهم ما ليس لهم فأقبل الفضل علي وقال احكم أيها الحاكم بينهما فلم يخف عليك ما هما فيه فقلت لئن كان ما يرويه يحيى ويغنيه شيئا لغيره فلقد روى ما لم يرووه وما لم نروه وعلم ما جهلناه وجهلوه ولئن كان من صنعته إنه لأحسن الناس صنعة وما أعرف أحدا أروى منه ولا أصح أداء للغناء كان ما يغنيه له أو لغيره فسر بذلك الفضل وأعجبه وما زال أبوك يشكره لي

صوت

من المائة المختارة

( أهاجتْك الظعائنُ يوم بانوا ... بذي الزِّيّ الجميل من الأثاثِ )

( ظعائنُ أُسلِكتْ نَقْب المُنَقَّى ... تَحَثّ إذا ونتْ أيَّ احتثاث )

الشعر للنميري والغناء للغريض ولحنه المختار ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر

 

أخبار النميري ونسبه

هو محمد بن عبد الله بن نمير بن خرشة بن ربيعة بن حبيب بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي وقسي هو ثقيف شاعر غزل مولد ومنشؤه بالطائف من شعراء الدولة الأموية وكان يهوى زينب بنت يوسف بن الحكم أخت الحجاج بن يوسف وله فيها أشعار يتشبب بها

حدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثنا العمري عن لقيط بن بكير المحاربي وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عمر بن شبة أن النميري كان يهوى زينب بنت يوسف أخت الحجاج بن يوسف بن الحكم لأبيه وأمه

وأمهما الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي وكانت عند المغيرة بن شعبة فرآها بكرة وهي تتخلل فقال لها والله لئن كان من

 

غداء لقد جشعت ولئن كان من عشاء لقد أنتنت وطلقها

فقالت أبعدك الله فبئس بعل المرأة الحرة أنت والله ما هو إلا من شظية من سواكي استمسكت بين سنين من أسناني قال حبيب بن نصر خاصة في خبره قال عمر بن شبة حدثنا بذلك أبو عاصم النبيل

أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة عن يعقوب بن داود الثقفي وحدثنا به ابن عمار والجوهري عن عمر بن شبة ولم يذكرا فيه يعقوب بن داود قالوا جميعا

قال مسلم بن جندب الهذلي وكان قاضي الجماعة بالمدينة إني لمع محمد بن عبد الله بن نمير بنعمان وغلام يسير خلفه يشتمه أقبح الشتيمة فقلت من هذا فقال هذا الحجاج بن يوسف فإني ذكرت أخته في شعري فأحفظه ذلك

قال عمر بن شبة في خبره وولدت الفارعة أم الحجاج من المغيرة بن شعبة بنتا فماتت فنازع الحجاج عروة بن المغيرة إلى ابن زياد في ميراثها فأغلظ الحجاج لعروة فأمر به ابن زياد فضرب أسواطا على رأسه وقال لأبي عبد الله تقول هذه المقالة وكان الحجاج حاقدا على آل زياد ينفيهم من آل أبي سفيان ويقول آل أبي سفيان سته حمش وآل زياد رسح حدل

 

وكان يوسف بن الحكم اعتل علة فطالت عليه فنذرت زينب إن عوفي أن تمشي إلى البيت فعوفي فخرجت في نسوة فقطعن بطن وج وهو ثلثمائة ذراع في يوم جعلته مرحلة لثقل بدنها ولم تقطع ما بين مكة والطائف إلا في شهر

فبينا هي تسير إذ لقيها إبراهيم بن عبد الله النميري أخو محمد بن عبد الله منصرفا من العمرة فلما قدم الطائف أتى محمدا يسلم عليه فقال له ألك علم بزينب قال نعم لقيتها بالهماء في بطن نعمان فقال ما أحسبك إلا وقد قلت شيئا قال نعم قلت بيتا واحدا وتناسيته كراهة أن ينشب بيننا وبين إخواننا شر فقال محمد هذه القصيدة وهي أول ما قاله

صوت

شعره في زينب

( تَضَوّع مسكاً بطنُ نَعْمان إذ مشتْ ... به زينبٌ في نسوة عَطِرات )

( فأصبح ما بين الهَمَاء فحزوة ... إلى الماء ماء الجِزْع ذي العُشَرات )

( له أَرَجٌ من مِجْمَر الهند ساطع ... تَطلعُ رَيّاه من الكَفِرات )

 

( تهادَين ما بين المُحَصَّب من مِنىً ... وأقبلن لا شُعْثاً ولا غَبِرات )

( أعان الذي فوق السموات عرشُه ... مواشي بالبَطْحاء مُؤْتجِرات )

( مَرَرْن بَفَخٍّ ثم رُحْن عشيةً ... يُلبِّين للرحمن معتمِرات )

( يُخبِّئن أطرافَ البنان من التقى ... ويقتلن بالألحاظ مقتدرات )

( تَقَسّمن لُبّي يوم نَعْمانَ إنني ... رأيتُ فؤادي عارِم النظرات )

( جَلَوْنَ وجوهاً لم تَلُحْها سمائمٌ ... حَرُورٌ ولم يُشْفَعْن بالسَّبَرات )

( فقلتُ يَعافِيرُ الظباءِ تناولتْ ... نِياعَ غصون المَرْد مُهْتَصِرات )

 

( ولما رأتْ ركبَ النُّمَيري راعَها ... وكنّ مِنَ أنْ يَلْقَيْنَه حذِراتَ )

( فأدْنين حتى جاوز الركبُ دونها ... حجاباً من القسِّيّ والحِبرات )

( فكدتُ اشتياقاً نحوَها وصَبابةً ... تَقَطّعُ نفسي إثْرها حَسَرات )

( فراجعتُ نفسي والحفيظةَ بعدما ... بَلَلتُ رداء العصْب بالعَبرات )

غنى ابن سريج في الأول وبعده مررن بفخ وبعده يخمرن أطراف البنان ولحنه ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق قال أبو زيد فبلغت هذه القصيدة عبد الملك بن مروان فكتب إلى الحجاج قد بلغني قول الخبيث في زينب فاله عنه وأعرض عن ذكره فإنك إن أدنيته أو عاتبته أطمعته وإن عاقبته صدقته

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو سلمة الغفاري قال هرب النميري من الحجاج إلى عبد الملك واستجار به فقال له عبد الملك أنشدني ما قلت في زينب فأنشده فلما انتهى إلى قوله

( ولما رأتْ ركبَ النميريّ أعرضتْ ... وكُنَّ مِنَ أن يَلْقَيْنه حَذِراتِ )

قال له عبد الملك وما كان ركبك يا نميري قال أربعة أحمرة لي كنت أجلب عليها القطران وثلاثة أحمرة صحبتي تحمل البعر فضحك عبد الملك حتى

 

استغرب ضحكا ثم قال لقد عظمت أمرك وأمر ركبك وكتب له إلى الحجاج أن لا سبيل له عليه

فلما أتاه بالكتاب وضعه ولم يقرأه ثم أقبل على يزيد بن أبي مسلم فقال له أنا بريء من بيعة أمير المؤمنين لئن لم ينشدني ما قال في زينب لآتين على نفسه ولئن أنشدني لأعفون عنه وهو إذا أنشدني آمن فقال له يزيد ويلك أنشده فأنشده قوله

( تَضوّعَ مسكاً بطنُ نَعْمان إذ مشتْ ... به زينبٌ في نسوة خَفِراتِ )

فقال كذبت والله ما كانت تتعطر إذا خرجت من منزلها ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله

( ولما رأت ركبَ النُّمَيري راعها ... وكنّ مِنَ أن يلقينه حَذِراتِ )

قال له حق لها أن ترتاع لأنها من نسوة خفرات صالحات ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله

( مَرَرْن بفَخّ رائحاتٍ عشيةً ... يُلبّين للرحمن معتمِرات )

فقال صدقت لقد كانت حجاجة صوامة ما علمتها ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله

( يُخمِّرن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن جنحَ الليل مُعْتِجراتِ )

فقال له صدقت هكذا كانت تفعل وهكذا المرأة الحرة المسلمة ثم قاله له ويحك إني أرى ارتياعك ارتياع مريب وقولك قول بريء وقد أمنتك ولم يعرض له

قال أبو زيد وقيل إنه طالب عريفه به وأقسم لئن لم يجئه به ليضربن عنقه فجاءه به بعد هرب طويل منه فخاطبه بهذه المخاطبة

 

قال أبو زيد وقال النميري في زينب أيضا

صوت

( طَرِبتَ وشاقتك المنازلُ من جَفْن ... ألاَ ربما يعتادك الشوقُ بالحُزْنِ )

( نظرت إلى أظعان زينبَ باللِّوى ... فأعولْتها لو كان إعوالُها يُغني )

( فوالله لا أنساك زينبُ مادعتْ ... مُطوَّقةٌ ورقاءُ شجواً على غُصن )

( فإِنّ احتمال الحيّ يومَ تحمّلوا ... عَناك وهل يَعنيك إلا الذي يَعني )

( ومُرْسلة في السّر أن قد فضحتَني ... وصرّحتَ بإسمي في النَّسيب فماتَكْني )

( وأشمتَّ بي أهلي وجُلَّ عشيرتي ... ليَهْنِئْك ما تهواه إن كان ذا يَهْني )

( وقد لامني فيها ابنُ عمّي ناصحاً ... فقلتُ له خذ لي فؤاديَ أو دَعْني )

غنى ابن سريج في الأول والثاني والخامس والسادس من هذه الأبيات لحنا من الرمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق قال أبو زيد فيقال إنه بلغ زينب بنت يوسف قوله هذا فبكت فقالت لها خادمتها ما يبكيك فقالت أخشى أن يسمع بقوله هذا جاهل بي لا يعرفني ولا يعلم مذهبي فيراه حقا

قال وقال النميري فيها أيضا

( أهاجتْك الظعائنُ يوم بانوا ... بذي الزِّيّ الجميل من الأثاثِ )

( ظعائنُ أُسلكتْ نَقْبَ المُنَقَّى ... تُحَثّ إذا ونتْ أيَّ احتثاث )

( تُؤّمَّل أن تُلاقِيَ أهلَ بُصْرى ... فيالك من لقاءْ مستراث )

 

( كأنّ على الحدائج يوم بانوا ... نِعاجاً ترتعي بَقْل البرِاث )

( يُهَيِّجني الحمام إذا تَداعَى ... كما سجَع النوائحُ بالمَراثي )

( كأن عيونَهنّ من التبكّي ... فصوصُ الجَزْع أو يُنْع الكَباث )

( أَلاَقٍ أنت في الحَجِج البواقي ... كما لاقيتَ في الحِجج الثلاث )

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق قال قرأت على أبي حدثنا عثمان بن حفص وغيره أن يوسف بن الحكم قام إلى عبد الملك بن مروان لما بعث بالحجاج لحرب ابن الزبير وقال له يا أمير المؤمنين إن غلاما منا قال في ابنتي زينب ما لا يزال الرجل يقول مثله في بنت عمه وإن هذا يعني ابنه الحجاج لم يزل يتتوق إليه ويهم به وأنت الآن تبعثه إلى ما هناك وما آمنه عليه

فدعا بالحجاج فقال له إن محمدا النميري جاري ولا سلطان لك عليه فلا تعرض له

قال إسحاق فحدثني يعقوب بن داود الثقفي قال قال لي مسلم بن جندب الهذلي

 

كنت مع النميري وقد قتل الحجاج عبد الله بن الزبير وجلس يدعو الناس للبيعة فتأخر النميري حتى كان في آخرهم فدعا به ثم قال له إن مكانك لم يخف علي ادن فبايع

ثم قال له أنشدني ما قلت في زينب قال ما قلت إلا خيرا قال لتنشدني فأنشده قوله

( تَضوّع مسكاً بطنُ نَعْمانَ إذ مشتْ ... به زينتُ في نسوة عَطِرات )

( أعان الذي فوقَ السموات عرشُه ... مَواشيَ بالبَطْحاء مؤتجِرات )

( يخمِّرن أطرافَ الأكُفّ من التُّقَى ... ويخرُجْن جُنْحَ الليل معتجرات )

فما ذكرت أيها الأمير إلا كرما وخيرا وطيبا قال فأنشد كلمتك كلها فأنت آمن فأنشده حتى بلغ إلى قوله

( ولمّا رأتْ ركبَ النُّمَيريّ راعها ... وكُنّ منَ أن يَلْقَيْنه حَذِراتِ )

فقال له وما كان ركبك قال والله ما كان إلا أربعة أحمرة تحمل القطران فضحك الحجاج وأمره بالإنصراف ولم يعرض له

هربه من الحجاج

أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن الخليل بن أسد عن العمري عن عطاء عن عاصم بن الحدثان قال كان ابن نمير الثقفي يشبب بزينب بنت يوسف بن الحكم فكان الحجاج يتهدده ويقول لولا أن يقول قائل صدق لقطعت لسانه

فهرب إلى اليمن ثم ركب بحر عدن وقال في هربه

 

( أَتَتْني عن الحَجّاج والبحرُ بيننا ... عقاربُ تَسْرِي والعيونُ هواجعُ )

( فضِقْتُ بها ذَرْعاً وأجهشتُ خِيفةً ... ولم آمَنِ الحَجَاجَ والأمرُ فاظع )

( وحلَّ بي الخطبُ الذي جاءني به ... سميعُ فليستْ تستقرّ الأضالع )

( فبِتُّ أُدير الأمرَ والرأيَ ليلتي ... وقد أخضلتْ خدِّي الدموعُ التوابع )

( ولم أر خيراً لي من الصبر إنه ... أعفُّ وخيرٌ إذ عَرَتْني الفواجع )

( وما أَمِنتْ نفسي الذي خفتُ شرَّه ... ولا طاب لي مما خَشِيتُ المضاجع )

( إلى أن بدا لي رأس إسْبِيلَ طالعاً ... وإسبيلُ حصن لم تَنَلْه الأصابع )

( فلي عن ثَقيفٍ إن هممتُ بنَجْوة ... مَهامِهُ تَهْوِي بينهنّ الهَجارع )

( وفي الأرض ذات العَرْض عنك ابن يوسف ... إذا شئتُ مَنْأىً لا أبا لكَ واسع )

( فإن نِلْتَني حَجّاجُ فاشتفِ جاهداً ... فإنّ الذي لا يحفظ اللَّهُ ضائع )

فطلبه الحجاج فلم يقدر عليه وطال على النميري مقامه هاربا واشتاق إلى وطنه فجاء حتى وقف على رأس الحجاج فقال له إيه يا نميري أنت القائل

 

( فإن نلتَني حَجَّاجُ فاشْتَفِ جاهداً ... )

فقال بل أنا الذي أقول

( أخاف من الحَجّاج ما لستُ حائفاً ... من الأسد العِرْباض لم يَثْنِه ذُعْرُ )

( أخاف يدَيْه أن تنالا مَقاتلي ... بأبيضَ عَضْبٍ ليس من دونه سِتْر )

وأنا الذي أقول

( فهأنذا طَوَّفْتُ شَرْقاً ومَغْرِباً ... وأُبْتُ وقد دَوّخت كلَّ مكان )

( فلو كانت العَنْقَاء منكَ تَطير بي ... لخِلْتك إلا أن تَصُدّ تراني )

قال فتبسم الحجاج وأمنه وقال له لا تعاود ما تعلم وخلى سبيله

زواج زينب أخت الحجاج

رجع الخبر إلى رواية حماد بن إسحاق

قال حماد فحدثني أبي قال ذكر المدائني وغيره أن الحجاج عرض على زينب أن يزوجها محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل وهو ابن سبع عشرة سنة وهو يومئذ أشرف ثقفي في زمانه

 

أو الحكم بن أيوب بن أبي الحكم بن عقيل وهو شيخ كبير فاختارت الحكم فزوجها إياه فأخرجها إلى الشام

وكان محمد بن رياط كريها وهو يومئذ يكري

فلما ولي الحجاج العراق استعمل الحكم بن أيوب على البصرة فكلمته زينب في محمد بن رياط فولاه شرطته بالبصرة

فكتب إليه الحجاج إنك وليت أعرابيا جافيا شرطتك وقد أجزنا ذلك لكلام من سألك فيه قال ثم أنكر الحكم بعض تعجرفه فعزله

ثم استعمل الحجاج الحكم بن سعد العذري على البصرة وعزل الحكم بن أيوب عنها واستقدمه لبعض الأمر ثم رده بعد ذلك إلى البصرة وجهزه من ماله

فلما قدم البصرة هيأت له زينب طعاما وخرجت متنزهة إلى بعض البساتين ومعها نسوة فقيل لها إن فيهن امرأة لم ير أحسن ساقا منها فقالت لها زينب أريني ساقك فقالت لا إلا بخلوة فقالت ذاك لك فكشفته لها فأعطتها ثلاثين دينارا وقالت اتخذي منها خلخالا

قال وكان الحجاج وجه بزينب مع حرمه إلى الشام لما خرج ابن الأشعث خوفا عليهن فلما قتل ابن الأشعث كتب إلى عبد الملك بن مروان بالفتح وكتب مع الرسول كتابا إلى زينب يخبرها الخبر فأعطاها الكتاب وهي راكبة على بغلة في هودج فنشرته تقرؤه وسمعت البغلة قعقعة الكتاب فنفرت وسقطت زينب عنها فاندق عضداها وتهرا جوفها فماتت

وعاد إليه الرسول الذي نفذ بالفتح بوفاة زينب فقال النميري يرثيها

صوت

( لزينبَ طَيفٌ تَعتريني طوارقُه ... هُدوءاً إذا النجم ارْجَحنّتْ لواحقُهْ )

( سَيبكيكِ مِرْنانُ العشيّ يُجيبه ... لَطيفُ بنان الكفِّ دُرْمٌ مَرافقه )

 

( إذا ما بِساطُ اللهو مُد وأُلقيتْ ... لِلّذّاته أنماطُه ونمارقُه )

غناه معبد ولحنه ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق وما بقي من شعره من الأغاني في نسيب النميري لم نذكر طريقته وصانعه لنذكر أخباره معه

صوت

( تَضوع مسكاً بطنُ نَعْمان أنْ مشتْ ... به زينبٌ في نسوة خَفِراتِ )

( مَرَرْن بفَخٍّ رائحاتٍ عشيةً ... يُلبِّين للرحمن مُعتمِرات )

الغناء لإبن سريج ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق

أخبرني الحسين بن يحيى ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني عن عبد الله بن مسلم الفهري قال خرج عبد الله بن جعفر متنزها فصادف ابن سريج وعزة الميلاء متنزهين

 

فأناخ ابن جعفر راحلته وقال لعزة غنيني فغنته ثم قال لإبن سريج غنني يا أبا يحيى فغناه لحنه في شعر النميري

( تَضَوّع مسكاً بطنُ نَعْمان أن مشتْ ... )

فأمر براحلته فنحرت وشق حلته فألقى نصفها على عزة والنصف الآخر على ابن سريج فباع ابن سريج النصف الذي صار إليه بمائة وخمسين دينارا

وكانت عزة إذا جلست في يوم زينة أو مباهاة ألقت النصف الآخر عليها تتجمل به

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني الحسن بن علي بن منصور قال أخبرني أبو عتاب عن إبراهيم بن محمد بن العباس المطلبي أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحربي يتغنى في دار العاص بن وائل

( تَضوّع مسكاً بطنُ نعمانَ إذ مشت ... به زينبٌ في نسوة خَفِراتِ )

فضرب برجله وقال هذا والله مما يلذ استماعه ثم قال

( وليست كأخرى أوسعت جيبَ دِرْعِها ... وأبدت بنانَ الكفّ للجَمَراتِ )

 

( وعَلّت بَنان المسك وَحْفاً مرجَّلا ... على مثل بَدْرٍ لاح في الظلمات )

( وقامتْ تَرَاءى يومَ جَمْعِ فَأَفْتنتْ ... برؤيتها مَنْ راح من عَرَفاتِ )

قال فكانوا يرون أن هذا الشعر لسعيد بن المسيب

عائشة بنت طلحة تستنشده شعره في زينب

أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله أخي الأصمعي عن عبد الله بن عمران الهروي وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثني محمد بن عبد الوهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن عمران الهروي قال لما تأيمت عائشة بنت طلحة كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة

 

وتخرج إلى مال لها عظيم بالطائف وقصر كان لها هناك فتتنزه فيه وتجلس بالعشيات فيتناضل بين يديها الرماة

فمر بها النميري الشاعر فسألت عنه فنسب لها فقالت ائتوني به فأتوها به فقالت له أنشدني مما قلت في زينب فامتنع عليها وقال تلك ابنة عمي وقد صارت عظاما بالية قالت أقسمت عليك بالله إلا فعلت فأنشدها قوله

( تضوّع مسكاً بطنُ نعمان أنْ مشتْ ... )

الأبيات فقالت والله ما قلت إلا جميلا ولا ذكرت إلا كرما وطيبا ولا وصفت إلا دينا وتقى أعطوه ألف درهم

فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها فقالت علي به فأحضر فقالت له أنشدني من شعرك في زينب فقال لها أو أنشدك من شعر الحارث بن خالد فيك فوثب مواليها إليه فقالت دعوه فإنه أراد أن يستقيد لبنت عمه هات مما قال الحارث في فأنشدها

( ظَعَن الأميرُ بأحسن الخَلْقِ ... وغَدَوْا بلبّك مَطْلَع الشَّرْقِ )

فقالت والله ما ذكر إلا جميلا ذكر أني إذا صبحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطلق وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق وأني أحسن الخلق في البيت ذي الحسب الرفيع أعطوه ألف درهم واكسوه حلتين ولا تعد لإتياننا بعد هذا يا نميري

أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه

 

أن الرشيد غضب على إبراهيم أبيه بالرقة فحبسه مدة ثم اصطبح يوما فبينا هو على حاله إذ تذكره فقال لو كان الموصلي حاضرا لانتظم أمرنا وتم سرورنا

قالوا يا أمير المؤمنين فجىء به فما له كبير ذنب فبعث فجيء به فلما دخل أطرق الرشيد فلم ينظر إليه وأومأ إليه من حضر بأن يغني فاندفع فغنى

( تَضَوّعَ مسكاً بطنُ نَعْمان أن مشتْ ... به زينبٌ في نِسْوة خَفِراتِ )

فما تمالك الرشيد أن حرك رأسه مرارا واهتز طربا ثم نظر إليه وقال أحسنت والله يا إبراهيم حلوا قيوده وغطوه بالخلع ففعل ذلك

فقال يا سيدي رضاك أولا قال لو لم أرض ما فعلت هذا وأمر له بثلاثين ألف درهم

ومما قاله النميري في زينب وغني فيه

صوت

( تَشْتو بمكة نَعْمةً ... ومَصِيفُها بالطائِف )

( أَحْبِبْ بتلك مواقفاً ... وبزينبٍ مِنْ واقف )

( وعَزيزة لم يَغْدُها ... بؤسٌ وجفوةُ حائف )

( غَرَّاء يَحْكيها الغزالُ ... بمُقلةٍ وسَوَالف )

الغناء ليحيى المكي خفيف رمل عن الهشامي وذكر عمرو بن بانة أنه لإبن سريج وأنه بالبنصر ورغم الهشامي أن فيه لإبن المكي أيضا لحنا من الثقيل الأول

ومن الغناء في أشعاره في زينب

 

صوت

( ألاَ مَنْ لقلبٍ مُعَنّىً غَزِلْ ... يُحِبّ المُحِلَّةَ أختَ المُحِلّ )

( تراءتْ لنا يومَ فرع الاراك ... بين العِشاء وبين الأُصُل )

( كأنّ القَرَنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ ... وريحَ الخُزَامَى وذوْبَ العسل )

( يُعَلّ به بَرْدُ أَنْيَابِها ... إذا ما صفا الكوكبُ المعتدل )

الغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر يونس لمالك فيه لحنا في

( كأن القرَنْقُلَ وَالزَّنْجبيل ... )

والبيت الذي بعده وبيتين آخرين وهما

( وقالت لجارتها هل رأيتِ ... إذْ أعرَض الركبُ فِعْلَ الرجلْ )

( وأنّ تَبَسُّمَه ضاحكاً ... أجَدّ اشتياقاً لقلب غَزِل )

وذكر حماد عن أبيه أن فيها للهذلي لحنا ولم يذكر طريقته

المحل الذي عناه النميري ها هنا الحجاج بن يوسف سمي بذلك لإحلاله الكعبة وكان أهل الحجاز يسمونه بذلك

ويسمي أهل الشأم عبد الله بن الزبير المحل لأنه أحل الكعبة زعموا أنه بمقامه فيها وكان أصحابه أحرقوها بنار إستضاؤوا بها

فأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي وبلغني أن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس تزوج أسماء بنت يعقوب امرأة من ولد عبد الله بن الزبير فزفت إليه من المدينة وهو بفارس فمرت

 

بالأهواز على السيد الحميري فسأله عنها فنسبت له فقال فيها قوله

( مرّتْ تُزَفّ على بغلة ... وفوق رِحالتها قُبّهْ )

( زُبيريّةٌ من بنات الذي ... أحلّ الحرامَ من الكعبة )

( تُزفّ إلى ملكٍ ماجدٍ ... فلا اجتمعا وبها الوَجْبه )

وقد قيل بأن الأبيات اللامية التي أولها

( ألاَ مَنْ لقلبٍ معنىً غَزِل ... ) لخالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير وقيل إنها لأبي شجرة السلمي

 

حدثني الحسين بن الطيب البلخي لالشاعر قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا أبو بكر بن شعيب بن الحبحاب المعولي قال كنت عند ابن سيرين فجاءه إنسان يسأله عن شيء من الشعر قبل صلاة العصر فأنشده ابن سيرين

( كأنّ المُدامةَ والزنجبيلَ ... وريحَ الخُزامَى وذُوْبَ العَسلْ )

( يُعَلّ به بَرْدُ أنيابها ... إذا النجم وَسْطَ السماء اعتدا )

وقال الله أكبر ودخل في الصلاة

صوت

من المائة المختارة

( يا قلبُ ويحكَ لا يذهبْ بك الخُرُق ... إنّ الأُلىَ كنتَ تَهْواهم قد انطلقوا )

ويروى يذهب بك الحرق

( ما بالهم لم يُبالوا إذ هجَرْتَهُمُ ... وأنت من هجرتهم قد كدتَ تحترقُ )

الشعر لوضاح اليمن والغناء لصباح الخياط ولحنه المختار ثقيل أول بالوسطى في مجراها

وفي أبيات من هذه القصيدة ألحان عدة فجماعة من المغنين قد خلطوا معها غيرها من شعر الحارث بن خالد ومن شعر ابن هرمة فأخرت ذكرها

 

إلى أن تنقضي أخبار وضاح ثم أذكرها بعد ذلك إن شاء الله تعالى

 

أخبار وضاح اليمن ونسبه

وضاح لقب غلب عليه لجماله وبهائه واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كلال بن داذ بن أبي جمد

ثم يختلف في تحقيق نسبه فيقول قوم إنه من أولاد الفرس الذين قدموا اليمن مع وهرز لنصرة سيف بن ذي يزن على الحبشة

ويزعم آخرون أنه من آل خولان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب وهو المرعف بن قحطان

فممن ذكر أنه من حمير خالد بن كلثوم قال كان وضاح اليمن من أجمل العرب وكان أبوه إسماعيل بن داذ بن ابي جمد من آل خولان بن عمرو بن معاوية الحميري

فمات أبوه وهو طفل فانتقلت أمه إلى أهلها وانقضت عدتها فتزوجت رجلا من أهلها من أولاد الفرس

وشب وضاح في حجر زوج أمه فجاء عمه وجدته أم أبيه ومعهم جماعة من أهل بيته من حمير ثم من آل ذي قيفان ثم من آل ذي جدن يطلبونه فادعى زوج أمه أنه ولده

فحاكموه فيه وأقاموا البينة أنه ولد على

 

فراش إسماعيل بن عبد كلال أبيه فحكم به الحاكم لهم وقد كان اجتمع الحميريون والأبناء في أمره وحضر معهم

فلما حكم به الحاكم للحميريين مسح يده على رأسه وأعجبه جماله وقال له إذهب فأنت وضاح اليمن لا من أتباع ذي يزن يعني الفرس الذين قدم بهم ابن ذي يزن لنصرته فعلقت به هذه الكلمة منذ يومئذ فلقب وضاح اليمن

قال خالد وكانت أم داذ بن أبي جمد جدة وضاح كندية فذلك حيث يقول في بنات عمه

( إن قلبي مُعَلَّق بنساء ... واضحاتِ الخدود لَسْن بُهْجنِ )

( مِنْ بنات الكريم داذَ وفي كندَةَ ... يُنسبن من أُباة اللَّعْن )

وقال أيضا يفتخر بجده أبي جمد

( بَنَى ليَ إسماعيلُ مجداً مُؤثَّلاً ... وعبدُ كُلال بعده وأبو جَمَدْ )

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال

 

كان وضاح اليمن والمقنع الكندي وأبو زبيد الطائي يردون مواسم العرب مقنعين يسترون وجوههم خوفا من العين وحذرا على أنفسهم من النساء لجمالهم

قال خالد بن كلثوم فحدثت بهذا الحديث مرة وأبو عبيدة معمر بن المثنى حاضر ذلك وكان يزعم أن وضاحا من الأبناء فقال أبو عبيدة داذ اسم فارسي

فقلت له عبد كلال اسم يمان وأبو جمد كنية يمانية والعجم لا تكتني وفي اليمن جماعة قد تسموا بأبرهة وهو اسم حبشي فينبغي أن تنسبهم إلى الحبشة وأي شيء يكون إذا سمي عربي بإسم فارسي وليس كل من كني أبا بكر هو الصديق ولا من سمي عمرا هو الفاروق وإنما الأسماء علامات ودلالات لا توجب نسبا ولا تدفعه قال فوجم أبو عبيدة وأفحم فما أجاب

وممن زعم أنه من أبناء الفرس ابن الكلبي ومحمد بن زياد الكلابي

وقال خالد بن كلثوم إن أم إسماعيل أبي الوضاح بنت ذي جدن وأم أبيه بنت فرعان ذي الدروع الكندي من بني الحارث بن عمرو

شعره في حبيبته روضة

وكان وضاح يهوى امرأة من أهل اليمن يقال لها روضة أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال

 

ذكر هشام بن الكلبي أنها روضة بنت عمرو من ولد فرعان ذي الدروع الكندي

أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن سعيد الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش أن وضاحا هوي امرأة من بنات الفرس يقال لها روضة فذهبت به كل مذهب

وخطبها فامتنع قومها من تزويجه إياها وعاتبه أهله وعشيرته فقال في ذلك

صوت

( يأيها القلبُ بعضَ ما تجِدُ ... قد يعشَق المرءُ ثم يتَئَّدُ )

( قد يكتم المرءُ حبَّه حِقَباً ... وهُوَ عَميدٌ وقلبُه كَمِد )

( ماذا تريدين من فتىً غَزِلٍ ... قد شَفّه السُّقْمُ فيكِ والسَّهَد )

( يهدِّدوني كيما أخافَهُم ... هيهات أَنّي يُهَدَّد الأسد )

الغناء لإبن محرز خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيها لحن لإبن عباد من كتاب إبراهيم غير مجنس

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني سالم بن زيد قال أخبرني التوزي قال حدثنا الأصمعي عن الخليل بن أحمد قال كان وضاح يهوى امرأة من كندة يقال لها روضة فلما اشتهر أمره معها خطبها فلم يزوجها وزوجت غيره فمكثت مدة طويلة

ثم أتاه رجل من بلدها فأسر إليه شيئا فبكى

فقال له أصحابه مالك تبكي وما خبرك فقال أخبرني هذا أن روضة قد جذمت وأنه رآها قد ألقيت مع المجذومين

ولم نجد لهما

 

خبرا يرويه أهل العلم إلا لمعا يسيرة وأشياء تدل على ذلك من شعره فأما خبر متصل فلم أجده إلا في كتاب مصنوع غث الحديث والشعر لا يذكر مثله

وأصابها الجذام بعد ذلك فانقطع ما بينهما ثم شبب بأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان زوجة الوليد بن عبد الملك فقتله الوليد لذلك

وأخبارهما تذكر في موضعها بعقب هذه الحكاية

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا مصعب بن عبد الله قال كان وضاح اليمن يهوى امرأة يقال لها روضة ويشبب بها في شعره وهي امرأة من أهل اليمن وفيها يقول

صوت

( يا رَوْضة الوضّاح قد ... عَنّيتِ وضّاحَ اليمنْ )

( فاسقي خليلَك مِنْ شرابٍ ... لم يُكدِّره الدَّرَن )

( الريحُ ريح سَفَرْجَلٍ ... والطعمُ طعم سُلاَفٍ دَنّ )

( إني تُهيِّجني إليكِ ... حمامتان على فَنَن )

قال مصعب فحدثني بعض أهل العلم ممن كان يعرف خبر وضاح مع روضة من أهل اليمن أن وضاحا كان في سفر مع أصحابه فبينا هو يسير إذ استوقفهم وعدل عنهم ساعة ثم عاد إليهم وهو يبكي

فسألوه عن حاله فقال عدلت إلى روضة وكانت قد جذمت فجعلت مع المجذومين وأخرجت من بلدها فأصلحت من شأنها وأعطيتها صدرا من نفقتي وجعل يبكي غما بها

الغناء في الأبيات المذكورة في هذا الخبر ينسب مع تمام الأبيات فإن في جميعها غناء

 

ومما قاله وضاح في روضة المذكورة وفيه غناء وأنشدنا حرمي عن الزبير عن عمه

صوت

( أيا روضةَ الوَضّاح يا خيرَ رَوْضةٍ ... لأهلكِ لو جادوا علينا بمنزلِ )

( رهينُك وَضّاحٌ ذهبتِ بعقله ... فإن شئتِ فاحييه وإن شئت فاقتلي )

( وتُوقد حِيناً باليَلَنْجُوج نارَها ... وتوقِد أحياناً بمسك ومَنْدَل )

والأبيات الأول النونية فيها زيادة على ما رواه مصعب وفي سائرها غناء وتمامها بعد قوله

( إني تُهيّجني إليكِ ... حمامتان على فَنَن )

( الزوج يدعو إلفَه ... فتطاعما حُبَّ السكنْ )

( لا خيرَ في نَثّ الحديث ... ولا الجليس إذا فَطَن )

( فاعْصِي الوُشاةَ فإِنما ... قول الوشاة هو الغَبَن )

( إنّ الوُشاة إذا أتوكِ ... تَنَصّحوا ونَهَوْكِ عَنّ )

( دَسّت حُبَيبةُ مَوْهِناً ... إني وعيشكِ يا سَكَن )

( أبلغتُ عنكِ تبدُّلاً ... وأتى بذلك مُؤتَمَن )

( وظننتُ أنكِ قد فعلت ... فكِدْتُ من حَزَن أُجنّ )

 

( ذَرَفتْ دموعي ثم قلت ... بمَنْ يبادلني بمن )

( أُسكُتْ فلستَ مُصدَّقاً ... ما كان يفعل ذا أظن )

( إني وجَدِّكَ لو رأيت ... خليلَنا ذاك الحسن )

( يجفوه ثم يحبنا ... والله مِتُّ من الحَزَن )

( أَخبرْه إمّا جئتَه ... أنّ الفؤاد به يُجَنّ )

( أَبغضت فيه أحبّتي ... وقَلَيْت أهلِي والوطن )

( أتركتَني حتى إذا ... عُلِّقت أبيض كالشَّطَن )

( أنشأتَ تطلب وَصْلَنا ... في الصيف ضَيَّعت اللبن )

هكذا قال وغيره يرويه في الصيف ضيحت اللبن أي مذقته قال

( لو قيل يا وضّاح قم ... فاختر لنفسك أو تَمَنّ )

( لم أعْدُ رَوْضةَ والذي ... ساق الحجيج له البُدُن )

 

الغناء في الأول من القصيدة وهو يا روضة الوضاح ينسب إن شاء الله وله في روضة هذه أشعار كثيرة في أكثرها صنعة وبعضها لم يقع إلي أنه صنع فيه فمن قوله فيها

صوت

( يا روضُ جيرانكم الباكرُ ... فالقلبُ لا لاهٍ ولا صابرُ )

( قالت ألا لا تَلِجَنْ دارَنا ... إنّ أبانا رجلٌ غائر )

( قلت فإني طالبٌ غِرّةً ... منه وسَيفي صارمٌ باتر )

( قالت فإن القَصْرَ مِنْ دوننا ... قلتُ فإِني فوقه ظاهر )

( قالت فإن البحرَ مِنْ دوننا ... قلت فإِني سابحٌ ماهر )

( قالت فَحَوْلي إخوةٌ سبعةٌ ... قلت فإِني غالبٌ قاهر )

( قالت فليثٌ رابضٌ بيننا ... قلت فإِني أسدٌ عاقر )

( قالت فإِن الله من فوقنا ... قلت فربّي راحمٌ غافر )

( قالت لقد أعييتَنا حُجّةً ... فَأْتِ إذا ما هَجع السامر )

( فاسقُط علينا كسقوط النَّدَى ... ليلَةَ لا ناهٍ ولا زاجز )

الغناء في هذه الأبيات هزج يمني وذكر يحيى المكي أنه له

وقال في روضة وهو بالشام

( أَبَتْ بالشام نفسي أن تطيبَا ... تذكَرتُ المنازلَ والحبيبَا )

( تذكّرتُ المنازلَ من شَعُوب ... وحَيّاً أصبحوا قُطِعوا شُعوبا )

 

( سَبَوا قلبي فَحلّ بحيث حَلُّوا ... ويُعظم إن دَعَوْا ألاّ يُجيبا )

( ألاى ليت الرياحَ لنا رسولٌ ... إليكم إنْ شَمَالاً أو جَنُوبا )

( فتأتِيَكم بما قلنا سريعاً ... ويبلُغَنا الذي قلتم قريبا )

( ألاَ يا رَوْض قد عَذّبتِ قلبي ... فأصبح من تذكُّركم كئيبا )

( ورقّقني هواكِ وكنتُ جَلْداً ... وأَبْدَى في مَفارِقَيَ المَشيبا )

( أمَا يُنسيكَ روضةَ شحطُ دارٍ ... ولا قربٌ إذا كانت قريبا )

ومما قال فيها أيضا

( طَرِب الفؤاد لطَيْفِ روضةَ غاشِي ... والقومُ بين أباطِحٍ وعِشَاشِ )

( أَنَّى اهتديتِ ودون أرضِك سَبْسبٌ ... قَفْرٌ وحَزْنٌ في دُجىً ورِشاَش )

( قالت تكاليفُ المحبّ كَلِفْتُها ... إنّ المُحبّ إذا أُخيف لمَاشي )

( أدعوكِ روضة رحب واسمك غيرُه ... شَفَقاً وأخشى أن يَشِي بِك واشي )

( قالت فُزُرْنا قلتُ كيف أزورُكم ... وأنا امرؤ لخُروج سرّك خاشي )

( قالت فكُنْ لعمومتي سَلِماً معاً ... والطُفْ لإِخوتيَ الذين تُماشي )

( فتزورنا معهم زيارةَ آمنٍ ... والسرُّ يا وضّاح ليس بفاشي )

( ولَقِيتُها تمشي بأبطَحَ مرّة ... بخلاخلٍ وبحُلَةًٍ أكْباش )

( فظلْلِتُ معمودًا وبت مُسَهَّدًا ... ودموع عيني في الرداء غَواشي )

 

( يا روض حبُّك سَلّ جسمي وانتحى ... في العظم حتى قد بلغتِ مُشاشي )

ومما قال فيها أيضا

( طَرَق الخيالُ فمرحباً سهلاَ ... بخيال مَنْ أهدى لنا الوصْلاَ )

( وسَرى إليّ ودون منزله ... خمسٌ دوائمُ تُعمِل الإِبْلا )

( يا حبّذا مَنْ زار معتسفاً ... حَزْنَ البلاد إليّ والسَّهْلا )

( حتى ألمّ بنا فبِتُّ به ... أَغْنَى الخلائق كلِّهم شَمْلا )

( يا حبذا هي حسبك قدك في ... والله ما أبقيت لي عقلا )

( والله ما لي عنكِ مُنْصَرَفٌ ... إلا إليكِ فأَجْمِلي الفِعْلا )

رأته أم البنين فهويته

أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا القاسم بن الحسن المروزي قال حدثنا العمري عن لقيط والهيثم بن عدي أن أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان استأذنت الوليد بن عبد الملك في الحج فأذن لها وهو يومئذ خليفة وهي زوجته

فقدمت مكة ومعها من الجواري ما لم ير مثله حسنا

وكتب الوليد يتوعد الشعراء جميعا إن ذكرها أحد منهم أو ذكر أحدا ممن تبعها وقدمت فتراءت للناس وتصدى لها أهل الغزل والشعر ووقعت عينها على وضاح اليمن فهويته

 

فحدثنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير ابن بكار قال حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن محمد بن جعفر مولى أبي هريرة عن أبيه عن بديح قال قدمت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي عند الوليد بن عبد الملك حاجة والوليد يومئذ خليفة

فبعثت إلى كثير وإلى وضاح اليمن أن انسبا بي فأما وضاح اليمن فإنه ذكرها وصرح بالنسيب بها فوجد الوليد عليه السبيل فقتله وأما كثير فعدل عن ذكرها ونسب بجاريتها غاضرة فقال

صوت

( شجا أَظْعانُ غاضرةَ الغَوَادي ... بغير مَشُورة عَرَضاً فؤادِي )

( أغاضر لو شهدتِ غداةَ بِنْتم ... حُنُوَّ العائدات على وِسادي )

( أَوَيْتِ لعاشق لم تشكُميه ... بواقدةٍ تلذِّعُ كالزناد )

الغناء في هذه الأبيات لإبن محرز ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وحبش قال بديح فكنت لما حجت أم البنين لا تشاء أن ترى وجها حسنا إلا رأيته معها

فقلت لعبيد الله بن قيس الرقيات بمن تشبب من هذا القطين فقال لي

 

( وما تصنع بالسرّ ... إذا لم تك مجنوناَ )

( إذا عالجتَ ثِقْل الحبّ ... عالجت ألأمَرِّينا )

( وقد بُحتَ بأمرٍ كان ... في قلبيَ مكنونا )

( وقد هِجْتَ بما حاولْتَ ... أمراً كان مدفونا )

قال ثم خلا بي فقال لي اكتم علي فإنك موضع للأمانة وأنشدني

صوت

( أصحوتَ عن أمّ البنينَ ... وذكرِها وعنَائها )

( وهجرتَها هجرَ امرئ ... لم يَقْلُ صفوَ صفائها )

( قُرشيّةٌ كالشمس أشرق ... نورُها ببهائها )

( زادتْ على البِيض الحِسان ... بحسنها ونقائها )

( لمَا اسبكَّرتْ للشباب ... وقُنّعت بردائها )

( لم تلتفت لِلداتها ... ومضتْ على غُلوائها )

( لولا هَوَى أمِّ البنينَ ... وحاجتي للقائها )

( قد قرّبت لي بغلةً ... محبوسة لنَجائها )

قال بديح فلما قتل الوليد وضاح اليمن حجت بعد ذلك أم البنين محتجبة لا تكلم أحدا وشخصت كذلك فلقيني ابن قيس الرقيات فقال يا بديح

صوت

( بان الحبيبُ الذي به تَثِقُ ... وإشتدّ دون الحبيبةَ القَلَقُ )

 

( يا من لصَفْراء في مفاصلها ... لِينٌ وفي بعض بطشها خُرُق )

وهي قصيدة قد ذكرت مع أخبار ابن قيس الرقيات

الغناء في الأبيات الأول التي أولها

( أصحوتَ عن أُمّ البنين ... )

ينسب في موضع آخر إن شاء الله

أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة قال حدثني كثير قال حججت مع أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي زوجة الوليد بن عبد الملك فأرسلت إلي وإلى وضاح اليمن أن انسبا بي فهبت ذلك ونسبت بجاريتها غاضرة فقلت

( شجا أظعانُ غاضرة الغَوَادِي ... بغير مَشُورة عَرَضاً فؤادي )

( أغاضر لو شهدت غداةَ بِنْتم ... حُنُوّ العائدات على وسادي )

( أَوَيْتِ لعاشقٍ لم تشكُميه ... بواقدةٍ تلذِّع كالزناد )

وأما وضاح فنسب بها فبلغ ذلك الوليد فطلبه فقتله

أخبرني عمي قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثني أبو عمر العمري عن العتبي قال مدح وضاح اليمن الوليد بن عبد الملك وهو يومئذ خليفة ووعدته أم

 

البنين بنت عبد العزيز بن مروان أن ترفده عنده وتقوي أمره فقدم عليه وضاح وأنشده قوله فيه

صوت

( صبا قَلبي ومال إليكِ مَيْلاَ ... وأرّقني خيالُكِ يا أُثيْلا )

( يُمانَيةٌ تُلِمّ بنا فُتْبدِي ... دقيقَ محاسنٍ وتُكنّ غَيْلا )

( دَعِينا ما أممتُ بنات نَعْشٍ ... من الطَّيْف الذي يَنتاب ليلا )

( ولكنْ إن أردتِ فَصبِّحينا ... إذا أمَّتْ ركائبنُا سُهيلا )

( فإِنك لو رأيتِ الخيل تعدو ... سِرَاعا يتخذن النَّقْع ذَيْلا )

( إِذاً لرأيتِ فوقَ الخيل أُسْداً ... تُفيد مغانماً وتُفيت نَيْلا )

( إِذا سار الوليدُ بنا وسِرْنا ... خيل نَلُفّ بهنّ خَيْلا )

( ونَدخل بالسرور ديارَ قوم ... ونُعِقب آخرين أذىً ووَيْلا )

فأحسن الوليد رفده وأجزل صلته ومدحه بعدة قصائد ثم نمي إليه أنه شبب بأم البنين فجفاه وأمر بأن يحجب عنه ودبر في قتله

ومدحه وضاح بقوله أيضا

( ما بال عينكَ لا تَنام كأنما ... طلب الطبيبُ بها قَذىً فأضلَّهُ )

 

( بل ما لقلبك لا يزال كأنه ... نَشوانُ أَنْهله النديمُ وعَلَّه )

( ما كنت أحسَب أنْ أبيتَ ببلدةٍ ... وأَخي بأُخْرى لا أحُلُّ مَحلُّه )

( كنّا لعَمْرُك ناعمين بغبطةٍ ... مع ما نُحبّ مَبِيتَه ومَظَلَّه )

( فأَرى الذي كنّا وكان بغِرّة ... نلهوا بِغرّته ونهوىَ دَلّه )

( كالطيف وافق ذا هوىً فلَها به ... حتى إِذا ذهب الرقاد أضلّه )

( قل للذي شَعف البلاءُ فؤادَه ... لا تهلكنّ أخاً فربّ أخ له )

( والقَ ابن مَروان الذي قد هزّه ... عِرق المكارم والنّدى فأقلّه )

( واشْكُ الذي لاقيته من دونه ... وانشُرْ إليه داءَ قلبك كلَّه )

( فعلى ابن مَرْوان السلامُ من امرئ ... أمسى يذوق منَ الرُّقاد أقلّه )

( شوقاً إليك فما تنالك حالُه ... وإذا يَحُلّ البابَ لم يُؤذن له )

( فإِليك أعملتُ المطايا ضُمَّراً ... وقطعتُ أَرْواحَ الشتاء وظِلّه )

( وليالياً لو أنّ حاضرَ بَثّها ... طرف القضيب أصابه لأشلّه )

فلم يزل مجفوا حتى وجد الوليد له غرة فبعث إليه من اختلسه ليلا فجاءه به فقتله ودفنه في داره فلم يوقف له على خبر

الوليد يدفنه حيا

وقال خالد بن كلثوم في خبره كان وضاح قد شبب بأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إمرأة الوليد بن عبد الملك وهي أم ابنة عبد العزيز بن الوليد والشرف فيهم

فبلغ الوليد تشببه بها فأمر بطلبه فأبى به فأمر بقتله فقال له ابنه عبد العزيز لا تفعل يا أمير المؤمنين فتحقق قوله ولكن افعل به كما فعل معاوية بأبي دهبل فإنه لما شبب بإبنته

 

شكاه يزيد وسأله أن يقتله فقال إذاتحقق قوله ولكن تبره وتحسن إليه فيستحي ويكف ويكذب نفسه

فلم يقبل منه وجعله في صندوق ودفنه حيا

فوقع بين رجل من زنادقة الشعوبية وبين رجل من ولد الوليد فخار خرجا فيه إلى أن أغلظا المسابة وذلك في دولة بني العباس فوضع الشعوبي عليهم كتابا زعم فيه أن أم البنين عشقت وضاحا فكانت تدخله صندوقا عندها

فوقف على ذلك خادم الوليد فأنهاه إليه وأراه الصندوق فدفنه هكذا ذكر خالد بن كلثوم والزبير بن بكار جميعا

وأخبرني علي بن سليمان الأخفش في كتاب المغتالين قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب عن ابن الكلبي قال عشقت أم البنين وضاحا فكانت ترسل إليه فيدخل إليها ويقيم عندها فإذا خافت وارته في صندوق وأقفلت عليه

فأهدي للوليد جوهر له قيمة فأعجبه واستحسنه فدعا خادما له فبعث به معه إلى أم البنين وقال قل لها إن هذا الجوهر أعجبني فآثرتك به

فدخل الخادم عليها مفاجأة ووضاح عندها فأدخلته الصندوق وهو يرى فأدى إليها رسالة الوليد ودفع إليها الجوهر ثم قال يا مولاتي هبيني منه حجرا فقالت لا يابن اللخناء ولا كرامة

فرجع إلى الوليد فأخبره فقال كذبت يابن اللخناء وأمر به فوجئت عنقه ثم لبس نعليه ودخل على أم البنين وهي جالسة في ذلك البيت تمتشط وقد وصف له الخادم الصندوق الذي أدخلته فيه فجلس عليه ثم قال لها يا أم البنين ما أحب إليك هذا البيت

 

من بين بيوتك فلم تختارينه فقالت أجلس فيه وأختاره لأنه يجمع حوائجي كلها فأتناولها منه كما أريد من قرب

فقال لها هبي لي صندوقا من هذه الصناديق قالت كلها لك يا أمير المؤمنين قال ما أريدها كلها وإنما أريد واحدا منها فقالت له خذ أيها شئت قال هذا الذي جلست عليه قالت خذ غيره فإن لي في أشياء أحتاج إليها قال ما أريد غيره قالت خذه يا أمير المؤمنين

فدعا بالخدم وأمرهم بحمله فحمله حتى انتهى به إلى مجلسه فوضعه فيه ثم دعا عبيدا له فأمرهم فحفروا بئرا في المجلس عميقة فنحى البساط وحفرت إلى الماء

ثم دعا بالصندوق فقال يا هذا إنه بلغنا شيء إن كان حقا فقد كفناك ودفناك ودفنا ذكرك وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر وإن كان باطلا فإنا دفنا الخشب وما أهون ذلك ثم قذف به في البئر وعليه عليه التراب وسويت الأرض ورد البساط إلى حاله وجلس الوليد عليه ثم ما رئي بعد ذلك اليوم لوضاح أثر في الدنيا إلى هذا اليوم قال ما رأت أم البنين لذلك أثرا في وجه الوليد حتى فرق الموت بينهما

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب بن عبد الله قال مرضت أم البنين ووضاح مقيم بدمشق وكان نازلا عليها فقال في علتها

صوت

( حتّامَ نَكْتُم حزنَنا حتَاما ... وعَلاَم نستبقي الدموعَ علاماَ )

( إن الذي بي قد تفاقم واعتلى ... ونما وزاد وأَوْرّث الأسقاما )

( قد أصبحت أمُّ البنين مريضةً ... نَخشى ونُشفق أن يكون حِماما )

 

( يا ربّ أَمْتِعْنِي بطول بقائها ... واجبرُ بها الأرمال والأيتاما )

( واجبر بها الرجلَ الغريب بأرضها ... قد فارق الأخوالَ والأعماما )

( كم راغبين وراهبين وبُؤّسٍ ... عُصموا بقرب جَنابها إعصاما )

( بجناب ظاهرة الثَّنَا محمودةٍ ... لا يُستطاع كلامُها إعظاما )

الغناء في الأول والثاني والثالث والرابع والخامس لحكم الوادي خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وعبد الله بن موسى

ومما وجد في روايتي هارون بن الزيات وابن المكي في الرابع ثم الخامس ثم الأول والثاني لعمر الوادي خفيف رمل من رواية الهشامي

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب قال بلغ الوليد بن عبد الملك تشبب وضاح بأم البنين فهم بقتله

فسأله عبد العزيز ابنه فيه وقال له إن قتلته فضحتني وحققت قوله وتوهم الناس أن بينه وبين أمي ريبة

فأمسك عنه على غيظ وحنق حتى بلغ الوليد أنه قد تعدى أم البنين إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك وكانت زوجة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وقال فيها

( بنتُ الخليفة والخليفة جَدُّها ... أختُ الخليفة والخليفة بعلُها )

( فَرِحتْ قوابلُها بها وتباشرتْ ... وكذاك كانوا في المَسرّة أهلُها )

فأحنق واشتد غيظه وقال أما لهذا الكلب مزدجر عن ذكر نسائنا وأخواتنا ولا

 

له عنا مذهب ثم دعا به فأحضر وأمر ببئر فحفرت ودفنه فيها حيا

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون قال أنشدت محمد بن المنكدر قول وضاح

( فما نوّلتْ حتى تَضَرّعتُ عندها ... وأعلمتُها ما رخَّص اللهُ في اللَّمَمْ )

قال فضحك وقال إن كان وضاح إلا مفتيا لنفسه وتمام هذه الأبيات

( ترجلّ وَضّاح وأَسْبل بعدما ... تَكَهّل حيناً في الكهول وما احتَلْم )

( وعُلَّق بيضاءَ العوارض طَفْلةً ... مُخضَّبة الأطراف طيِبّة النَّسَمْ )

( إذا قلتُ يوماً نَوّليني تبسّمتْ ... وقالت مَعَاذَ الله مِن فِعْل ما حَرُم )

( فما نَوّلتْ حتى تضرّعتُ عندها ... وأعلمتُها ما رَخّص اللهُ في اللَّمَم )

وضاح يرثي أباه وأخاه

أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي في خبره الأول المذكور من أخبار وضاح مع أم البنين قال

 

كان وضاح مقيما عند أم البنين فورد عليه نعي أخيه وأبيه فقال يرثيهما

( أَراعك طائرٌ بعد الخُفُوقِ ... بفاجعةٍ مُشنَّعة الطُّروقِ )

( نعمْ ولَهَاً على رجل عَميد ... أَظَلُّ كأنني شرِق بريقي )

( كأني إذ علمتُ بها هُدُوّاً ... هوتْ بي عاصفٌ من رأس نِيق )

( أُعَلُّ بَزفْرة من بَعْد أُخرى ... لها في القلب حَرٌّ كالحريق )

( وتَردُف عَبْرةٌ تَهتانَ أُخرى ... كفائض غَرْب نَضّاح فَتيق )

( كأني إذا أُكِفْكِفُ دمع عيني ... وأَنْهاها أقول لها هَريقي )

( ألاَ تلك الحوادث غِبْتُ عنها ... بأرض الشام كالفرد الغريق )

( فما أنفكُّ أنظر في كتاب ... تُداري النفسُ عنه هوَى زَهوق )

( يُخبِّر عن وفاة أخٍ كريم ... بعيدِ الغور نَفّاع طَليق )

( وقَرْمٍ يُعرض الخُصْمانُ عنه ... كما حاد البِكارُ عَنِ الفَنِيق )

( كريم يملأ الشِّيزَى ويَقْرِي ... إذا ما قلّ إيماضُ البُروقِ )

 

( وأعظم ما رُميتُ بهِ فَجُوعاً ... كتابٌ جاء من فَخٍّ عميق )

( يُخبِّر عن وفاة أخٍ فصبراً ... تَنجَّزْ وعدَ مَنّان صَدوق )

( سأصبر للقضاء فكل حيّ ... سيلقى سَكرة الموت المَذوق )

( فما الدنيا بقائمةٍ وفيها ... من الأحياء ذو عين رَموق )

( وللأحياء أيَامٌ تَقَضَّى ... يَلُفّ ختامُها سُوقاً بسُوق )

( فأغناهم كأعدمهم إذا ما ... تقضّتْ مُدّةُ العيش الرقيق )

( كذلك يُبعثون وهم فُرَادَى ... ليوم فيه تَوْفيةُ الحُقوق )

( أَبعدَ هُمَام قومك ذي الأيادي ... أَبى الوضّاح رَتَاق الفُتوق )

( وبعد عُبيدة المحمودِ فيهم ... وبَعد سَمَاعَة العَوْد العَتيق )

( وبعد ابن المفضَّل وابن كافٍ ... هما أخواك في الزمن الأنيق )

( تؤمَّل أن تعيش قرير عينٍ ... وأين أَمامَ طَلاَّبٍ لحُوق )

( ودنياك التي أمسيتَ فيها ... مزايلةُ الشقيق عن الشقيق )

ومما قاله في مرثية أهله وذكر الموت وغنى فيه وإنما نذكر منها ما فيه غناء لأنها طويلة

صوت

( مالكَ وَضَّاحُ دائمَ الغَزَلِ ... ألستَ تخشى تقَارُبَ الأجلِ )

( صلِّ لذي العرش واتَّخِذْ قَدَماً ... تُنجيك يوم العِثار والزلَّل )

( يا موت ما إن تزال معترضاً ... لآملٍ دون منتهىَ الأَمل )

( لو كان مَنْ فرَّ منك منفلتاً ... إذاً لأسرعتُ رحلةَ الجَمل )

( لكنّ كفَّيْك نال طولُهما ... ما كَلَّ عنه نجائبُ الإِبل )

 

( تنال كفَّاك كلَّ مُسْهِلة ... وحُوتَ بحر ومَعْقِلَ الوَعِل )

( لولا حِذاري من الحُتُوف فقد ... أصبحتُ من خوفها على وَجَل )

( لكنتُ للقلبِ في الهوى تَبَعاً ... إنّ هواه ربائبُ الحَجَل )

( حِرْميّة تسكن الحجازَ لها ... شيخٌ غَيور يعتلّ بالعِلل )

( عُلّق قلبي ربيبَ بيت ملوكٍ ... ذاتَ قُرطين وَعْثَةَ الكَفَل )

( تَفْتَرُّ عن مَنْطِقٍ تَضَنّ به ... يَجري رُضاباً كذائب العسل )

وضاح يشبب بحبابة وبروضة

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني سليمان بن أبي أيوب عن مصعب قال قال وضاح اليمن في حبابة جارية يزيد بن عبد الملك وشاهدها بالحجاز قبل أن يشتريها يزيد وتصير إليه وسمع غناءها فأعجب بها إعجابا شديدا

صوت

( يا مَنْ لقلبٍ لا يُطيع ... الزاجرين ولا يُفيقْ )

( تسلو قلوبُ ذوي الهوى ... وهو المكلَّف والمَشوقْ )

 

( تَبَلت حَبَابةُ قلبَه ... بالدَّلّ والشكل الأَنيقْ )

( وبعين أحورَ يرتعي ... سَقْط الكثيب من العقيقْ )

( مكحولة بالسحر تُنْشِي ... نشوةَ الخمر العَتيق )

( هيفاء إن هي أقبلتْ ... لاحت كطالعة الشروق )

( والردفُ مثلُ نقاً تلبّد ... فهوْ زُحلوق زَلُوق )

( في درّة الأصداف معتنقاً ... بها رَدْع الخَلوق )

( دَاوِي هوايَ وأَطْفِئي ... ما في الفؤاد من الحريق )

( وترفَّقي أَملي فقد ... كلّفتِني مالا أُطيق )

( في القلب منك جَوى المُحبّ ... وراحةٌ الصبّ الشفيق )

( هذا يقود برْمُتي ... قوداً إليك وذا يسوق )

( يا نفسُ قد كلّفتِني ... تَعَب الهوى منها فذوق )

( إن كنتِ تائقةً ... لحرّ ... صبابة منها فَتُوق )

ومما قاله في روضة وفيه عناء قوله

صوت

( يا لَقومي لِكثرة العذّال ... ولطيفٍ سرى مليحِ الدَّلالِ )

 

( زائر في قصور صنعاءَ يَسْري ... كلَّ أرض مخوفةٍ وجبالِ )

والغناء لإبن عباد عن الهشامي رمل وهذه الأبيات من قصيدة له في روضة طويلة جيدة يقول فيها

( يقطع الحَزْن والمَهَامهَ والبِيد ... ومِنْ دونه ثَمانُ ليالِي )

( عاتبٌ في المنام أحْبِبْ بعُتْباه ... إلينا وقولِه مِنْ مَقال )

( قلت أهلاً ومرحباً عَدَدَ القَطْر ... وسهلاً بَطيف هذا الخَيال )

( حبّذا مَنْ إذا خلونا نَجِيّاً ... قال أهلي لك الفِداء ومالي )

( وهي الهمّ والمُنى وهوى النفْس ... إذا اعتلّ ذو هوىً باعتلال )

( قِسْتُ ما كان قبلنا من هوى الناس ... فما قِسْتُ حبَّها بمثال )

( لم أجد حبَّها يُشاكله الحبّ ... ولا وَجْدنا كوَجْد الرجال )

( كل حبٍّ إذا استطال سيبلَى ... وهوَى روضةِ المُنى غيرُ بالي )

( لم يَزِدْه تقادُمُ العهد إلاّ ... جِدّةً عندنا وحسنَ احتلال )

( أيها العاذلون كيف عتابي ... بعد ما شاب مَفْرِقي وقَذالي )

( كيف عَذْلي على التي هي منّي ... بمكان اليمَين أُختِ الشِّمال )

( والذي أَحْرموا لَه وأحلّوا ... بمنىً صُبْحَ عاشرات الليالي )

( ما ملكتُ الهوى ولا النفسَ منّي ... مُنذ عُلَّقُتها فكيف احتالي )

( إن نأتْ كان نأيُها الموتَ صِرْفاً ... أو دنتْ لي فثَمّ يبدو خَبَالي )

 

( يابنة المالكيّ يا بَهْجة النفس ... أفي حبّكم يَحِلُّ أقتتالي )

( أيّ ذنب عليّ إن قلتُ إني ... لأُحِبّ الحجازَ حبَّ الزُّلال )

( لأُحِبّ الحجازَ مِنْ حبّ مَنْ فيه ... وأهوى حِلالَه من حِلال )

صوت

ومما فيه غناء من شعر وضاح

( أيها النَّاعِبُ ماذا تقولُ ... فكلانا سائلٌ ومَسولُ )

( لا كساك الله ما عشتَ ريشاً ... وبخوفٍ بتَّ ثم تَقيل )

( ثم لا أَنْفَقْتَ في العُشّ فرخاً ... أبداً إلا عليك دليل )

( حين تُنبي أنّ هنداً قريبٌ ... يبلغُ الحاجاتِ منها الرسول )

( ونأت هند فَخَبَّرتَ عنها ... أن عهد الودّ سوف يزول )

ومنها

صوت

( حتيِّ التي أَقْصَى فؤادِكَ حَلّتِ ... علمتْ بأنك عاشقٌ فأدلّتِ )

( وإذا رأتك تقلقتْ أحشاؤُها ... شوقاً إليك فأكثرتْ وأَقَلَّت )

( وإِذا دخلتَ فأُغلِقتْ أبوابُها ... عزم الغيورُ حجابَها فاعتلّت )

( وإِذا خرجتَ بكتْ عليكَ صبابةً ... حتى تَبُلّ دموعُها ما بَلّت )

( إن كنتَ يا وضاحَ زرتَ فمرحباً ... رَحُبَت عليك بلادُنا وأظلّت )

الغناء لإبن سريج رمل بالوسطى عن عمرو وفيها ليحيى المكي ثاني ثقيل

 

بالوسطى من كتابه ولإبنه أحمد فيها هزج وذكر حبش أن ليحيى فيها أيضا خفيف ثقيل

ومنها

صوت

( أتعرف أطلالاً بَمَيْسرة اللِّوى ... إلى أَرْعب قد حالفتك به الصَّبَا )

( فأهلاً وسهلاً بالتي حلّ حبُّها ... فؤادي وحلّت دارَ شَحْط من النَّوى )

الغناء فيه هزج يمني بالبنصر عن ابن المكي وهذه أبيات يقولها لأخيه سماعة وقد عتب عليه في بعض الأمور وفيها يقول

( أُبادر دُرْنوكَ الأمير وقُرْبَه ... لأُذْكَرَ في أهْل الكرامة والنُّهى )

( وأَتّبِع القُصّاصَ كلَّ عشيّةٍ ... رجاءَ ثواب الله في عَدد الخُطا )

( وأمستْ بقصر يضرب الماءُ سورَه ... وأصبحتُ في صنعاءَ ألتمس النَّدى )

( فمن مُبْلِغٌ عنّى سماعةَ ناهياً ... فإِن شئتَ فاقطعنا كما يُقْطَع السَّلَى )

( وإن شئتَ وصل الرِّحمْ في غير حيلة ... فعلنا وقُلْنا للذي تشتهي بَلى )

( وإن شئتَ صُرْماً للتفرُّق والنّوى ... فبُعْداً أدام الله تفرقةَ النّوى )

ومنها

صوت

( طرَق الخيالُ فمرحباً ألفاَ ... بالشاغفات قلوبَنا شَغْفاَ )

 

( ولقد يقول ليَ الطبيبُ وما ... نَبّأتُه من شأننا حَرفا )

( إني لأحسب أنّ داءَك ذا ... مِن ذي دَمَالَج يخضِب الكفّا )

( إني أنا الوضّاح إنْ تَصِلي ... أُحسِنْ بك التشبيبَ والوَصْفا )

( شطّتْ فشفّ القلبَ ذِكْركَها ... ودنتْ فما بذلتْ لنا عُرْفا )

ومنها

صوت

ويروى لبشار

( يا مرحباً ألفاً وألفاَ ... بالكاسراتِ إليّ طَرْفَا )

( رُجُح الرَّوادف كالظِّبا ... تعرّضت حُوّاً ووُطْفا )

( أنكرنَ مركبيَ الحِما ... رَوكنّ لا يُنكرن طِرفْا )

( وسألنني أينَ الشبابُ ... فقلتُ بَانَ وكان حِلْفا )

( أَفْنَى شبابي فانقضى ... حِلْفُ النساء تِبِعن حِلْفا )

( أعطيتهنّ مودّتي ... فجزينَني كذباً وخُلْفا )

( وقصائدٌ مثلُ الرُّقَى ... أرسلتُهن فكنّ شَغْفا )

( أوجعن كلَّ مُغازِلٍ ... وعَصَفْن بالغَيران عَصْفا )

( من كل لّذات الفتى ... قد نلتُ مائلةً وعُرْفا )

( صِعدت الأوانَس كالدُّمى ... وسقيتُهنّ الخمرَ صِرْفا )

 

ومنها وهذه القصيدة تجمع نسيبه بمن ذكر وفخره بأبيه وجده أبي جمد

صوت

( أغنّي على بيضاءَ تَنْكلّ عن بَرَدْ ... وتمشي على هَوْنٍ كمِشيْه ذي الحَرَدْ )

( وتلبس من بَزَ العراق مَنَاصِفاً ... وأبرادَ عَصْب من مُهَلْهَلَةٍ الجَبَد )

( إذا قلت يوماً نَوَّليني تبسّمتْ ... وقالت لعمرُ الله لو أنه اقتصد )

( سموتُ إليها بعدَ ما نام بعلُها ... وقد وسّدتْه الكفّ في ليلة الصَّرّد )

( أشارت بطرف العين أهلاً ومرحباً ... ستُعطَى الذي تهوَى على رغم مَنْ حسد )

 

( ألستَ ترى مَنْ حولنا مِنْ عدوِّنا ... وكل غلام شامخ الأنف قد مَرَد )

( فقلت لها إني امرؤ فاعلمِنَّه ... إذا ما أخذتُ السيفَ لم أحفِل العَدَد )

( بَنَى ليَ إسماعيلُ مجداً مُؤثّلاً ... وعبدُ كُلالٍ قبله وأبو جَمَد )

تُطيف علينا قهوةٌ في زجاجةٍ ... تُريك جبانَ القوم أمضى من الأسد )

ومنها

صوت

( يأيها القلبُ بعضَ ما تجدُ ... قد يعشَق القلبُ ثم يَتَّئِدُ )

( قد يكتُم المرءُ حبَّه حِقَباً ... وهو عَميدٌ وقلبُه كَمِد )

( ماذا تُراعون من فتًى غَزِلٍ ... قد تيّمْته خَمْصانةٌ رُؤدٌ )

( يهدّدوني كما أخافَهمُ ... هيهاتَ أنَّى يُهدَّد الأسد )

ومنها

صوت

( صدَع البَيْنُ والتفرُّقُ قلبي ... وتولَّت أمُّ البنين بِلُبِّي )

( ثَوتِ النفسُ في الحُمول لديها ... وتولَّى بالجسم منّيَ صَحْبي )

( ولقد قلتُ والمدامعُ تجري ... بدموع كأنها فَيْضُ غَرْب )

( جزعاً للفراق يوم تولّت ... حَسْبِيَ الله ذو المَعارج حسبي )

ومنها

 

صوت

( يابنة الواحد جودي فما ... إن تَصْرِميني فَبِما أو لِمَا )

( جُودِي علينا اليومَ أو بَيِّني ... فِيمَ قتلتِ الرجلَ المُسلِما )

( إني وأيدي قُلُصٍ ضُمَّرٍ ... وكلِّ خِرْق وَرَد المَوْسما )

( ما عُلّق القلبُ كتعليقها ... واضعةً كفّاً عَلتْ مِعْصما )

( رَبَّةُ محرابٍ إذا جئتُها ... لم ألقَها أو أرتقي سُلَّما )

( إخوتُها أربعة كلُّهم ... ينفون عنها الفارسَ المُعلَما )

( كيف أُرجِّيها ومِنْ دونها ... بَوّابُ سوء يُعجل المَشْتما )

( أسودُ هَتّاك لأعراضِ مَنْ ... مرّ على الأبواب أو سَلّما )

( لا مِنّةً أَعْلَمُ كانت لها ... عندي ولا تطلُب فينا دما )

( بل هي لمّا أن رأت عاشقاً ... صبًّا رمتْه اليوم فيمن رَمى )

( لمّا ارتمينا ورأت أنّها ... قد أثبتتْ في قلبه أسهُما )

( أعجبها ذاك فأبْدت له ... سُنَّتَها البيضاءَ والمِعْصَما )

( قامت تراءى لي على قَصْرها ... بين جَوارٍ خُرَّد كالدُّمى )

( وتَعقِد المِرْط على جَسْرةٍ ... مثلِ كَثيب الرمل أو أَعْظَما )

 

ومنها

صوت

( دعاكَ من شوقك الدَّواعي ... وأنت وضّاحُ ذو اتباعِ )

( دعتْك مَيّالةٌ لَعُوبٌ ... أَسيلة الخد باللمّاع )

( دلالُكِ الحُلْو والمشهِّي ... وليس سرِّيك بالمُضاع )

( لا أمنع النفسَ عن هواها ... وكلُ شيء إلى انقطاع )

ومنها

صوت

( ألاَ يالَقومي أَطْلِقوا غُلَّ مرتَهَنْ ... ومُنّوا على مُستشعرِ الهمّ والحَزَنْ )

( تذكَّر سَلْمى وَهْي نازحةٌ فَحْنّ ... وهل تنفع الذكرى إذا اغترب الوطنْ )

( ألم تَرَها صفراءَ رُؤْداً شبابِها ... أسيلَة مجرى الدمع كالشَّادن الأغَنّ )

( وأبصرتُ سَلْمى بين بُرْدَيْ مَراجِلٍ ... وأبراد عَصْب من مُهلهَلة اليمن )

( فقلتُ لها لا تَرَتقي السطحَ إنني ... أخاف عليكم كلَّ ذي لِمَّة حَسَن )

والغناء لإبن سريج وله في هذا الشعر لحنان ثقيل أول بالبنصر عن عمرو ورمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وأول الرمل قوله

( ألا يا لَقومي أطلقوا غلَّ مرتهنَ ... )

 

وأول الثقيل الأول تذكر سلمى وفي هذه الأبيات هزج يمني بالبنصر ومنها

صوت

( أغدوتَ أمْ في الرائحين تَرُوحُ ... أم أنت من ذِكْر الحسان صحيحُ )

( إذا قالت الحسناءُ ما لصديقنا ... رثَّ الثياب وإنه لمليح )

( لا تسألِنّ عن الثياب فإِنني ... يومَ اللقاء على الكُماة مُشيح )

( أَرْمِي وأطعنَ ثم أُتبِع ضربةً ... تَدَعُ النساءَ على الرجال تنوح )

صوت

من المائة المختارة

( يا صاح إني قد حَججتُ ... وزُرت بيتَ المَقْدسِ )

( وأتيت لُدّاً عامداً ... في عيد مَرْيَا سَرْجس )

( فرأيتُ فيه نِسوةً ... مثلَ الظباء الكُنّس )

الشعر والغناء للمعلى بن طريف مولى المهدي ولحنه المختار خفيف رمل بالبنصر وكان المعلى بن طريف وأخوه ليث مملوكين مولدين من مولدي الكوفة لرجل من أهلها فاشتراهما علي بن سليمان وأهداهما إلى المنصور فوهبهما

 

المنصور للمهدي فأعتقهما

ونهر المعلى وربض المعلى ببغداد منسوب إلى المعلى هكذا ذكر ذلك ابن خرداذبه وكان ضاربا محسنا طيب الصوت حسن الأداء صالح الصنعة أخذ الغناء عن إبراهيم وابن جامع وحكم الوادي

وولي أخوه ليث السند وولي هو الطراز والبريد بخراسان وقاتل يوسف البرم فهزمه ثم ولي الأهواز بعد ذلك

فقال فيه بعض الشعراء يمدحه ويمدح أخاه الليث ويهجو علي بن صالح صاحب المصلى

( يا عليَّ بنَ صالح ذا المصلَّى ... أنت تَفْدي لَيْثاً وتفدي المعلَّى )

( سَدّ ليثٌ ثغراً ووُليّت فاخْتَنْتَ ... فبئس المَولي وبئس المولَّى )

وعلي بن سليمان هذا الذي أهدى المعلى وأخاه إلى المهدي هو الذي يقول فيه أبو دلامة زند بن الجون الأسدي وكان خرج مع المهدي إلى الصيد فرمى المهدي وعلي بن سليمان ظبيا سنح لهما وقد أرسلت عليه الكلاب بسهمين فأصاب المهدي الظبي وأصاب علي بن سليمان الكلب فقتلاهما

فقال أبو دلامة

( قد رمى المهديُّ ظباً ... شكّ بالسهم فؤادَه )

( وعليُّ بنُ سُليمانٍ ... رَمى كَلْباً فصاده )

( فهنيئاً لهما كلّ ... إمرىء يأكل زادَه )

حدثنا بذلك الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن مصعب وعن أحمد بن سعيد

 

عن الزبير بن بكار عن عمه

صوت

من المائة المختارة

( ألاَ طَرَد الهوى عنّي رُقَادِي ... فحسبي ما لَقِيتُ من السُّهادِ )

( لعبدةَ إنّ عبدةّ تَيّمتْني ... وحلّت من فؤادي في السّواد )

الشعر لبشار والغناء المختار في هذين البيتين هزج خفيف بالبنصر ذكر يحيى بن علي أنه يمني وذكر الهشامي أنه لسليم

 

أخبار بشار وعبدة خاصة إذ كانت أخباره سوى هذه تقدمت

حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أبو أيوب المديني عمن حدثه عن الأصمعي هكذا قال وأخبرني به عمي عن عبد الله بن أبي سعد عن علي بن مسرور عن الأصمعي قال كان لبشار مجلس يجلس فيه يقال له البردان فبينا هو في مجلسه ذات يوم وكان النساء يحضرنه إذ سمع كلام امرأة يقال لها عبدة في المجلس فدعا غلامه فقال إني قد علقت امرأة فإذا تكلمت فانظر من هي واعرفها فإذا انقضى المجلس وانصرف أهله فاتبعها وكلمها وأعلمها أني لها محب وأنشدها هذه الأبيات وعرفها أني قلتها فيها

صوت

قالوا بمَنْ لا ترى تَهْذِي فقلتُ لهم ... الأذْنُ كالعين تُوفِي القلبَ ما كاناَ )

( ما كنتُ أوّلَ مشغوف بجارية ... يَلْقَى بِلُقْيانها رَوْحا ورَيْحانا )

 

ويروى هل من دواء لمشغوف بجارية

( يا قوم أُذْني لبعض الحيّ عاشقةٌ ... والأذْن تعشق قبل العين أحيانا )

غنى إبراهيم في هذه الأبيات ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق

وفيها لسياط ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيها لإسحاق هزج من جامع أغانيه قال فأبلغها الغلام الأبيات فهشت لها وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها فيأكلن عنده ويشربن وينصرفن بعد أن يحدثها وينشدها ولا تطمعه في نفسها قال وقال فيها

( قالت عُقَيل بنُ كعب إذ تعلّقها ... قلبي فأضحَى به من حبّها أثر )

( أنَّى ولم ترها تَهذِي فقلتُ لهم ... إن الفؤادَ يَرَى ما لا يرى البصر )

( أصبحتُ كالحائم الحَرّان مُجتَنباً ... لم يَقضِ ورْدا ولا يُرجَى له صَدَر )

قال وقال فيها أيضا وهو من جيد ما قال فيها

( يُزَهَّدني في حبّ عبدةَ معشرٌ ... قلوبُهُمُ فيها مخالفةٌ قلبي )

( فقلتُ دَعُوا قلبي وما اختار وارتضَى ... فبالقلب لا بالعين يُبصِر ذو الحبّ )

( فما تُبصر العينان في موضع الهوى ... ولا تسمع الأذْنان إِلاّ من القلب )

( وما الحسْنُ إلا كلّ حُسْنٍ دعا الصِّبَا ... وألّف بين العشق والعاشقِ الصبّ )

قال وقال فيها

( يا قلبُ مالي أراك لا تَقِرُ ... إياكَ أَعْنِي وعندك الخبرُ )

( أَضِعْتَ بين الأُلى مَضَوْا حُرَقاً ... أم ضاع ما استودعوك إذ بَكَروا )

( فقال بعضُ الحديث يَشْغَفُني ... والقلبُ راءٍ ما لا يَرى البصر )

 

هجوه الحسن البصري

وأخبرني بهذا الخبر أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا خالد بن يزيد بن وهب عن جرير عن أبيه بمثل هذه القصة وزاد فيها أن عبدة جاءت إليه في نسوة خمس قد مات لإحداهن قريب فسألنه أن يقول شعرا ينحن عليه به فوافينه وقد احتجم وكان له مجلسان مجلس يجلس فيه غدوة يسميه البردان ومجلس فيه عشية يسميه الرقيق وهو جالس في البردان وقد قال لغلامه أمسك علي بابي واطبخ لي وهيء طعامي وطيبه وصف نبيذي

قال فإنه لكذلك إذا قرع الباب عليه قرعا عنيفا فقال ويحك يا غلام انظر من يدق الباب دق الشرط فنظر الغلام وجاءه فقال خمس نسوة بالباب يسألنك أن تقول شعرا ينحن فيه فقال أدخلهن

فلما دخلن نظرن إلى النبيذ مصفى في قنانيه في جانب بيته فقالت إحداهن خمر وقالت الأخرى زبيب وقالت الأخرى معسل فقال لست بقائل لكن حرفا أو تطعمن من طعامي وتشربن من شرابي

فتماسكن ساعة وقالت إحداهن فما عليكن من ذلك هذا أعمى كلن من طعامه واشربن من شرابه وخذن شعره ففعلن

وبلغ ذلك الحسن البصري فعابه وهتف به فبلغ ذلك بشارا وكان الحسن يلقب القس فقال فيه بشار

( لَمّا طلعنَ من الرَّقيق ... عليّ بالبَرَدّان خَمْساَ )

 

( وكأنهن أَهلّة ... تحت الثياب زَفَفن شمسا )

( باكرْنَ طِيبَ لَطيمةٍ ... وعُمِس في الجاديّ عَمسا )

( فسألنني مَنْ في البيوت ... فقلتُ ما يحوين إِنْسا )

( ليت العيونَ الناظراتِ ... طُمِسن عنّا اليوم طَمْسا )

( فأصبن من طَرَف الحديث ... لذاذةً وخرجن مُلْسا )

( لولا تَعَرُّضهن لي ... يا قَسُّ كنتُ كأنت قَسّا )

أخبرني الأسدي ويحيى بن علي بن يحيى ومحمد بن عمران الصيرفي قالوا حدثنا العنزي قال حدثنا علي بن محمد عن جعفر بن محمد النوفلي قال أتيت بشارا ذات يوم فقال لي ما شعرت منذ أيام إلا بقارع يقرع بابي مع الصبح فقلت يا جارية انظري من هذا فقالت مالك بن دينار فقلت مالي ولمالك بن دينار ما هو من أشكالي إئذني له

فدخل فقال لي يا أبا معاذ أتشتم أعراض الناس وتشبب بنسائهم فلم يكن عندي إلا دفعه عن نفسي بأن قلت لا أعاود فخرج من عندي وقلت في إثره

( غدا مالكٌ بِمَلاماته ... عليّ وما بات من باليَهْ )

( فقلتُ دَعِ اللومَ في حُبِّها ... فقبلكَ أعييتُ عُذّالِيهْ )

( وإِنّي لأَكتُمهم سِرَّها ... غداةَ تقول لها الجالية )

( أعبدةَ مالكِ مَسْلوبةً ... وكنتِ مُقرطَقةً حاليه )

( فقالت على رِقْبةٍ إنني ... رهنتُ المرعَّث خَلْخاليه )

( بمجلسِ يومِ سأُوفِي به ... وإن أنكر الناسُ أحواليه )

أخبرني وكيع قال حدثني عمرو بن محمد بن عبد الملك قال حدثني

 

الحسن بن جهور قال حدثني هشام بن الأحنف راوية بشار قال إني لعند بشار ذات يوم إذ أتته امرأة فقالت يا أبا معاذ عبدة تقرئك السلام وتقول لك قد اشتد شوقنا إليك ولم نرك منذ أيام فقال عن غير مقلية والله كان ذاك

ثم قال لراويته يا هشام خذ الرقعة واكتب فيها ما أقول لك ثم ادفعه للرسول

قال هشام فأملى علي

( عبد إِنّي إليكِ بالأشواقِ ... لِتَلاقٍ وكيف لي بالتلاقي )

( أنا والله أشتهي سحرَ عينيْك ... وأخشى مَصَارعَ العشّاق )

( وأهاب الحَرْسيّ مُحتسِبَ الجُنْد ... يَلُفّ البريءَ بالفُسّاق )

ومما يغني فيه من شعر بشار في عبدة قوله

صوت

( لعبدة دارٌ تكلَّمنا الدارُ ... تَلُوح مَغانيها كما لاح أسطارُ )

( أُسائل أحجاراً ونُؤْياً مُهَدَّماً ... وكيف يُجيب القولَ نؤيٌ وأحجار )

( وما كلّمْتني دارهُا إذ سألتُها ... وفي كبدي كالنِّفْط شُبَّت به النار )

( وعند مَغَانِي دارها لو تكلّمت ... لمِكتئبٍ بادِي الصَّبابة أخبار )

الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لإبن جامع ثقيل أول عن الهشامي ومن هذه القصيدة

صوت

( تحمَّل جيراني فعيني لبَيْنهم ... تَفيض بتَهْتَانٍ إذا لاحتِ الدارُ )

 

( بكيتُ على من كنت أحظى بقربه ... وحقَّ الذي حاذرتُ بالأمس إذ ساروا )

الغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالبنصر

ومن الأغاني في شعره في عبدة

صوت

( مَسّني من صدود عبدة ضُرّ ... فبنات الفؤاد ما تستقرُّ )

( ذاك شيء في القلب من حبّ عبدةَ ... بادٍ وباطنٌ يسْتسِرَ )

الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق

وفيه لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو وفيه لحكم ثقيل أول بالوسطى من جامع غنائه في كتاب إبراهيم وفيه لفريدة خفيف ثقيل عن إسحاق وفيه ليحيى المكي ثقيل أول من كتابه وفيه لحسين بن محرز رمل عن الهشامي

ومنها

صوت

( يا عبد إني قد ظُلمت وإنني ... مُبْدٍ مقالة راغبٍ أو راهبِ )

( وأتوبُ مما تَكْرَهين لِتَقْبَلي ... واللهُ يقبل حُسن فعل التائب )

الغناء لحكم خفيف ثقيل عن إسحاق وفيه ليحيى المكي ثقيل أول من كتابه وفيه لحسين بن محرز رمل عن الهشامي

ومنها

صوت

( يا عبد حبُّك شفَّني شَفّا ... والحبُّ داءٌ يُورث الحَتْفَا )

 

( والحبُّ يُخفيه المحبّ لكي ... لا يُستراب به وما يخفَى )

الغناء لسياط خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق

ومنها

صوت

( يا عبد بالله فَرِّجي كُرَبِي ... فقد براني وشفَّني نَصَبي )

( وضِقْتُ ذَرْعاً بما كَلِفْتُ به ... من حُبّكم والمحبُّ في تعب )

( ففرِّجي كُرْبةً شَجِيتُ بها ... وحَرَّ حُزْنٍ في الصدر كاللَّهب )

( ولا تَظُنِّي ما أشتكي لَعِباً ... هيهات قد جلّ ذا عن اللعب )

غناه سياط ثقيلا أول بالبنصر عن عمرو

ومنها

صوت

( يا عبد زُوريني تَكُنْ مِنّةً ... لله عندي يومَ ألْقاكِ )

( واللَّهِ ثُمّ اللَّهِ فاستيقني ... إني لأرجوكِ وأخشاك )

( يا عبد إني هالكٌ مُدْنَفٌ ... إنْ لم أذُقْ بَرْد ثناياك )

( فلا تَرُدِّي عاشقاً مُدْنَفاً ... يَرضى بهذا القدر من ذاك )

الغناء لحكم هزج خفيف بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق

ومنها

صوت

( يا عبد قد طال المِطالُ فانْعِمي ... واشفِي فؤاد فتى بهيم مُتيَّمِ )

 

الغناء ليزيد حوراء غير مجنس عن إبراهيم ومنها

صوت

( يا عبد هلْ لِلّقاء مِنْ سببِ ... أوْ لا فأدعو بالويل والحَربِ )

الغناء ليزيد حوراء غير مجنس ومنها

صوت

( يا عبد هلْ لي منكُمُ مِنْ عائِد ... أمْ هل لديكِ صلاحُ قلبٍ فاسدِ )

الغناء لإبن عباد عن إبراهيم غير مجنس ومنها

صوت

( يا عبد حيِّي عن قريب ... وتأمَّلي عين الرقيبِ )

( وارعَيْ وِدادي غائباً ... فلقد رعيتَكِ في المَغيب )

( أشكو إليكِ وإنّما ... يشكو المُحبّ إلى الحبيب )

( غَرَضِي إليك من الهوى ... غرض المريض إلى الطبيب )

الغناء لحكم مطلق في مجرى البنصر ومنها

 

صوت

( يا عبد باللَّه ارْحمي عَبْدِكِ ... وعَلَّليه بمُنَى وَعْدِكِ )

( يُصبح مكروباً ويُمسي به ... وَليس يَدرِي ما له عندك )

( ماذا تقولين لربّ العُلا ... إذا تخلّيتِ به وحدك )

الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو وفيه لإسحاق هزج من جامع أغانيه وفيه ليزيد حوراء لحن ذكره إبراهيم ولم يجنسه وذكر حبش أن الثقيل الثاني لسياط

ومنها

صوت

( يا عَبْد جَلِّي كروبي ... وأَسْعِفي وأثيبِي )

( فقد تَطَاول هَمّي ... وزَفْرتي ونَحيبي )

الغناء لإبن سكرة عن إبراهيم ولم يجنسه ومنها

صوت

( يا عبد أنَتِ ذخيرتي ... نفسي فَدَتْكِ وجِيرتي )

( اللَّهُ يعلم فيكُمُ ... يا عبد حسنَ سريرتي )

( نفسي لنفسِك خُلَّةٌ ... وكذاك أنت أميرتي )

الغناء لحكم الوادي خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو ومنها

 

صوت

( يا عبد حُبِّي لكِ مستورُ ... وكلّ حبّ غيره زُورُ )

( إنْ كان هجري سَرَّكم فاهجروا ... إنّي بما سَرّك مسرور )

الغناء لحكم هزج بالوسطى عن ابن المكي ومنها

صوت

( لم يَطُلْ لَيْلي ولكنْ لم أنمْ ... ونَفَى عنّي الكَرَى طيفٌ ألَمّ )

( وإذا قلتُ لها جُودي لنا ... خرجتْ بالصمت عن لا ونعم )

( رَفِّهي يا عَبْد عنّي واعلمي ... أنّني يا عبد من لحم ودم )

( إن في بُرْدي جسماً ناحلاً ... لو توكأتِ عليه لانهدم )

( خَتَم الحبُّ لها في عنقي ... موضعَ الخاتم من أهل الذمم )

الغناء لحكم هزج بالسبابة والوسطى عن ابن المكي وذكره إسحاق في هذه الطريقة فلم ينسبه إلى أحد

وفيه لعثعث الأسود خفيف رمل في الأول والخامس وكان بشار ينكر هذا البيت الأخير وهو

( خَتَم الحب لها في عُنْقي ... )

أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني أبو حاتم السجستاني قال حدثني من أنشد بشارا قوله

( لم يَطُل لَيْلي ولكنْ لم أَنَم ... )

 

حتى بلغ إلى قوله

( ختم الحبُّ لها في عُنقي ... موضع الخاتَم مِنْ أهل الذممْ )

فقال بشار عمن أخذت هذا قلت عن راويتك فلان فقال قبحه الله والله ما قلت هذا البيت قط أما ترى إلى أثره فيه ما أقبحه وأشد تميزه عني فقال له بعض من حضر نعم هو ألحقه بالأبيات

ومنها

صوت

( عَبْد إنّي قد اعترفتُ بذَنْبي ... فاغفري واعْرُكِي خَطايَ بجَنْبِ )

( عبد لا صبر لي ولستُ فمهلاً ... قائلاً قد عَتَبتِ في غير عَتْب )

( ولقد قلتُ حين أَنْصبني الحب ... فأَبْلَى جِسْمي وعذب قلبي )

( ربّ لا صبرَ لي على الهجر حَسْبِي ... أَقِلْني حَسْبي لَكَ الحمدُ حسبي )

الغناء لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لسليم هزج من كتاب ابن المكي ومنها

صوت

( عبد مُنّى وأَنِعمي ... قد مَلَكْتم قِيادَيْه )

( شابَ رأسي ولم تَشبْ ... أبَلاَئي لِدَاتِيه )

 

الغناء لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لعريب هزج ومنها

صوت

( عبدُ يا هِمّتي عليك السلامُ ... فيم يُجْفَى حبيبُك المستهامُ )

( نزل الحبّ منزلاً في فؤادي ... وله فيه مجلسٌ ومقام )

الغناء لأبي زكار خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لعريب هزج ومنها

صوت

( عبد ياقُرّة عيني ... أنصفي رُوحي فداكِ )

( عاشق ليس له ذِكر ... ولا همٌّ سواكِ )

الغناء لعريب هزج وفيه لحن ليزيد حوراء غير مجنس ومنها

صوت

( يا عَبْد يا جافيةً قاطعه ... أما رحِمتِ المُقْلة الدامعهْ )

( يا عبد خافِي اللهَ في عاشقٍ ... يهواكِ حتى تقع الواقعة )

الغناء لأبي زكار هزج بالبنصر عن عمرو

صوت

من المائة المختارة

( أرْسلْتْ أمُّ جعفر لا تزورُ ... ليت شعري بالغيب منْ ذا دهاها )

( أأتاها محرِّش بنَميمٍ ... كاذبٌ ما أراد إلاّ رداها )

 

عروضه من الخفيف الشعر للأحوص والغناء لأم جعفر المدنية مولاة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب

ولحنه من الثقيل الأول في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أن فيه لحنا من الثقيل الأول بالبنصر فلا أعلم أهذا يعني أم غيره

وفيه لإبن سريج ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها عن يحيى المكي وإسحاق وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو والهشامي

 

أخبار الأحوص مع أم جعفر

وقد ذكرت أخبار الأحوص متقدما إلا أخباره مع أم جعفر التي قال فيها هذا الشعر فإنها أخرت إلى هذا الموضع

وأم جعفر هذه امرأة من الأنصار من بني خطمة وهي أم جعفر بنت عبد الله بن عرفطة بن قتادة بن معد بن غياث بن رزاح بن عامر بن عبد الله بن خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس

وله فيها أشعار كثيرة

أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني يعقوب بن القاسم ومحمد بن يحيى الطلحي عن عبد العزيز بن أبي ثابت وأخبرني عمي قال حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثني أحمد بن زهير عن مصعب وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله عن المحرز بن جعفر الدوسي قالوا جميعا لما أكثر الأحوص التشبيب بأم جعفر وشاع ذكره فيها توعده أخوها أيمن وهدده فلم ينته فاستعدى عليه والي المدينة وقال الزبير في خبره فاستعدى عليه عمر بن عبد العزيز فربطهما في حبل ودفع إليهما سوطين وقال لهما تجالدا فتجالدا فغلب أخوها

وقال غير الزبير في خبره وسلح الأحوص في ثيابه وهرب

 

وتبعه أخوها حتى فاته الأحوص هربا

وقد كان الأحوص قال فيها

( لقد منعتْ معروفَها أمُّ جعفرٍ ... وإِنِّي إلى معروفها لفقيرُ )

( وقد أنكرتْ بعدَ اعترافٍ زيارتي ... وقد وَغِرتْ فيها عليّ صدور )

( أَدُورُ ولولا أنْ أرى أمَّ جعفرٍ ... بأبياتكم ما درتُ حيث أدور )

( أزور البيوتَ اللاصقاتِ ببيتها ... وقلبي إلى البيت الذي لا أَزور )

( وما كنتُ زَوّارا ولكنّ ذا الهوى ... إذا لم يُزُرْ لا بدّ أن سيزور )

( أزور على أن لست أنفكُّ كلَّما ... أتيتُ عدوّاً بالبنان يُشير )

فقال السائب بن عمرو أحد بني عمرو بن عوف يعارض الأحوص في هذه الأبيات ويعيره بفراره

( لقد منع المعروفَ من أم جعفر ... أخو ثقةٍ عند الجلاد صَبورُ )

( عَلاك بمَتْن السوطِ حتى اتّقيتَه ... بأصفرَ من ماء الصِّفاق يفور )

فقال الأحوص

( إذا أنا لم أغفِر لأَيْمَنَ ذنَبه ... فمن ذا الذي يعفو له ذنبَه بعدي )

( أريد انتقامَ الذنب ثم تَرُدّني ... يدٌ لأَدانيه مباركةٌ عندي )

وقال الزبير في خبره خاصة وإنما أعطاهما عمر بن عبد العزيز السوطين وأمرهما

 

أن يتضاربا بهما اقتداء بعثمان بن عفان فإنه كان لما تهاجى سالم بن دارة ومرة ابن واقع الغطفاني الفزاري لزهما عثمان بحبل وأعطاهما سوطين فتجالدا بهما

وقال عمر بن شبة في خبره وقال الأحوص فيها أيضا وقد أنشدني علي بن سليمان الأخفش هذه الأبيات وزاد فيها على رواية عمر بن شبة بيتين فأضفتهما إليها

( وإني ليدعوني هوى أُمِّ جعفر ... وجاراتها من ساعةٍ فأجيبُ )

( وإني لآتي البيتَ ما إن أحبُّه ... وأُكثر هجرَ البيت وهو حبيب )

( وأُغْضِي على أشياء منكم تسوؤني ... وأُدَعى إلى ما سَرّكم فأجيب )

( هَبِيني أمرأً إما بريئاً ظلمتِه ... وإِمّا مُسيئاً مذنباً فيتوب )

( فلا تتركي نفسي شَعاعاً فإِنها ... من الحزن قد كادت عليك تذوب )

( لك اللهُ إني واصلٌ ما وصلتِني ... ومُثنٍ بما أوليتِني ومُثيب )

( وأخُذُ ما أعطيتِ عفواً وإنني ... لأَزْوَرُ عما تكرهين هَيوب )

هكذا ذكره الأخفش في هذه الأبيات الأخيرة وهي مروية للمجنون في عدة

 

روايات وهي بشعره أشبه وفي هذه الأشعار التي مضت أغان نسبتها

صوت

( أَدور ولولا أن أرى أمِّ جعفر ... بأبياتكم ما درتُ حيث أدورُ )

( أدور على أن لست أنفكّ كلما ... أتيتُ عدوَّا بالبَنان يُشير )

الغناء لمعبد وله فيه لحنان ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن عمرو ولإسحاق فيهما وفي قوله

( أزور البيوتَ الّلاصقات ببتها ... )

وبعده

( أدور ولولا أن أرى أمَّ جعفر ... )

لحن من الرمل وفي البيتين اللذين فيهما غناء معبد للغريض ثقيل أول عن الهشامي ولإبراهيم خفيف ثقيل وفيه لحن لشاريه عن ابن المعتز ولم يذكر طريقته

( إذا أنا لم أغفِر لأَيْمَنَ ذنبَه ... فَمَنْ ذا الذي يعفو له ذنبَه بعدي )

( أُريد مكافأةً له وتَصُدّني ... يدٌ لأَدانيه مباركةٌ عندي )

الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي وذكر غيره أنه منحول يحيى إلى معبد وفيه ثقيل أول ينسب إلى عريب ورونق

ومنها وهو

 

صوت

من المائة المختارة

( وإني لآتِي البيتَ ما إن أُحِبُّه ... وأُكثر هجر البيت وهو حبيبُ )

( وأُغضي على أشياءَ منكم تسوؤني ... وأُدعَى إلى ما سرّكم فأُجيب )

( وما زلتُ من ذكراكِ حتى كأنني ... أُمِيمٌ بأفْياء الديار سَلِيب )

( أبُثُّك ما ألقَى وفي النفس حاجةُ ... لها بين جِلْدي والعظام دَبيب )

( لكِ اللهُ إِنّي واصلٌ ما وصلتِني ... ومُثْنٍ بما أوليتِني ومُثيب )

( وآخُذ ما أعطيتِ عفواً وإنني ... لأزْوَر عما تكرهين هَيوب )

( فلا تتركي نفسي شَعاعاً فإِنها ... من الحزن قد كادت عليك تذوب )

الشعر للأحوص ومن الناس من ينسب البيت الخامس وما بعده إلى المجنون

والغناء في اللحن المختار لدحمان وهو ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر وذكر الهشامي أن في الأبيات الأربعة لإبن سريج لحنا من الثقيل الأول فلا أعلم ألحن دحمان عنى أم ثقيلا آخر وفي

( لكِ الله إني واصلٌ ما وصلتِني ... ومُثْنٍ بما أوليتِني ومُثيب )

لإسحاق ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وفيها لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى

أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن حسن قال الزبير وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن محرز

 

أن أم جعفر لما أكثر الأحوص في ذكرها جاءت منتقبة فوقفت عليه في مجلس قومه ولا يعرفها وكانت امرأة عفيفة فقالت له اقض ثمن الغنم التي ابتعتها مني فقال ما ابتعت منك شيئا

فأظهرت كتابا قد وضعته عليه وبكت وشكت حاجة وضرا وفاقة وقالت يا قوم كلموه فلامه قومه وقالوا اقض المرأة حقها فجعل يحلف أنه ما رآها قط ولا يعرفها

فكشفت وجهها وقالت ويحك أما تعرفني فجعل يحلف مجتهدا أنه ما يعرفها ولا رآها قط حتى إذا استفاض قولها وقوله واجتمع الناس وكثروا وسمعوا ما دار وكثر لغطهم وأقوالهم قامت ثم قالت أيها الناس اسكتوا

ثم أقبلت عليه وقالت يا عدو الله صدقت والله مالي عليك حق ولا تعرفني وقد حلفت على ذلك وأنت صادق وأنا أم جعفر وأنت تقول قلت لأم جعفر وقالت لي أم جعفر في شعرك فخجل الأحوص وانكسر عن ذلك وبرئت عندهم

أبو السائب المخزومي يطرب لشعره

أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير وأخبرني به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا ثعلب قال حدثنا الزبير عن عبد الملك بن عبد العزيز قال أنشدت أبا السائب المخزومي قول الأحوص

( لقد منعتْ معروفَها أمُّ جعفر ... وإنِّي إلى معروفها لفقيرُ )

فلما انتهيت إلى قوله

( أزور على أن لست أنفكُّ كلَّما ... أتيتُ عدوّا بالبنان يُشير )

 

أعجبه ذلك وطرب وقال أتدري يابن أخي كيف كانوا يقولون اساعة دخل الساعة خرج الساعة مر الساعة رجع وجعل يومئ بإبهاميه إلى وراء منكبيه وبسبابته إلى حيال وجهه ويقلبها يحكي ذهابه ورجوعه

صوت

من المائة المختارة

( صاحِ قد لُمْتَ ظالماَ ... فانظرِ أن كنتَ لائماَ )

( هل ترى مثلَ ظَبْية ... قَلَّدوها التمائما )

الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء في اللحن المختار لمالك خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق

وأخبرني ذكاء وجه الرزة أن فيه لعريب رملا بالبنصر وهو الذي فيه سجحة وفيه لإبن المكي خفيف ثقيل آخر بالوسطى

وزعم الهشامي أن فيه خفيف رمل بالوسطى لإبن سريج وقد سمعها ممن يغينه

وذكر حبش أن فيه رملا آخر للغريض ولعاتكة بنت شهدة فيه خفيف ثقيل وهو من جيد صنعتها وذكر جحظة عن أصحابه أن لحنها الرمل هو اللحن المختار وأن إسحاق كان يقدمها ويستجيدها ويزعم أنه أخذه عنها

وقال ابن المعتز حدثني أبو عبد الله الهشامي أن عريب صنعت فيه لحنها الرمل بعد أن أفضت الخلافة إلى المعتصم فأعجبه وأمرها أن تطرحه على جواريه ولم أسمع بشرا قط غناه أحسن من خشف الواضحية

وكل أخبار هؤلاء المغنين قد ذكرت أولها موضع تذكر فيه إلا عاتكة بنت شهدة فإن أخبارها تذكر ها هنا لأنه ليس لها شيء أعرفه من الصنعة فأذكره غير هذا

وقد ذكر جحظة عن أصحابه أن لحنها هو المختار فوجب أن نذكر أخبارها معه أسوة غيرها

 

عاتكة بنت شهدة وشيء من أخبارها

كانت عاتكة بنت شهدة مدنية وأمها شهدة جارية الوليد بن يزيد وهو الصحيح وكانت شهدة مغنية أيضا

حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا العلاء قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي عن بعض المغنين قال كنا ليلة عند الرشيد ومعنا ابن جامع والموصلي وغيرهما وعنده في تلك الليلة محمد بن داود بن إسماعيل بن علي فتغنى المغنون ثم اندفع محمد بن داود فغناه بين أضعافهم

صوت

( أمَّ الوليد سَلَبْتِني حِلْمي ... وقتلتِني فتخوّفي إِثمي )

( بالله يا أمَّ الوليد أمَا ... تخشَيْن فيّ عواقبَ الظلم )

( وتركتِني أبغي الطبيبَ وما ... لطبيبنا بالداء من عِلْم )

( خافي إِلهِك في ابن عمِّكِ قد ... زوّدتِه سُقْماً على سُقم )

قال فاستحسن الرشيد الصوت واستحسنه جميع من حضره وطربوا له فقال له الرشيد ياحبيبي لمن هذا الصوت فقال يا أمير المؤمنين سل هؤلاء المغنين لمن هو فقالوا والله ما ندري وإنه لغريب فقال بحياتي لمن هو فقال وحياتك ما أدري إلا أني أخذته من شهدة جارية الوليد أم عاتكة بنت شهدة

هذا الشعر المذكور لإبن قيس الرقيات والغناء لإبن محرز وله فيه لحنان أحدهما ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو

وفيه لسليم خفيف رمل بالبنصر ولحسين بن محرز ثقيل أول عن الهشامي وحبش

 

أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه أنه ذكر عاتكة بنت شهدة يوما فقال كانت أضرب من رأيت بالعود ولقد مكثت سبع سنين أختلف إليها في كل يوم فتضار بني ضربا أو ضربين ووصل إليها مني ومن أبي أكثر من ثلاثين ألف درهم بسببي دراهم وهدايا

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق قال كانت عاتكة بنت شهدة أحسن خلق الله غناء وأرواهم وماتت بالبصرة

وأمها شهدة نائحة من أهل مكة وكان ابن جامع يلوذ منها بكثرة الترجيع

فكان إذا أخذ يتزايد في غنائه قالت له إلى أين يا أبا القاسم ما هذا الترجيع الذي لا معنى له عد بنا إلى معظم الغناء ودع من جنونك

فأضجرته يوما بين يدي الرشيد فقال لها إني أشتهي علم الله أن تحتك شعرتي بشعرتك فقالت أخسأ قطع الله ظهرك ولم تعد لأذاه بعدها

أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال قال لي علي ابن جعفر بن محمد دخلت على جواري المرواني المغنيات بمكة وعاتكة بنت شهدة تطارحهن لحنها

( يا صاحبيّ دَعَا الملامةَ واعلمَا ... أنّ الهوى يَدَع الكِرامَ عَبيداَ )

فجعلت واحدة منهن تقول يدع الرجال عبيدا فصاحت بها عاتكة بنت شهدة ويلك بندار الزيات العاض بظر أمه رجل أفمن الكرام هو قال فكنت إذا مر بي بندار أو رأيته غلبني الضحك فأستحي منه وأخذ بيده وأجعل ذلك بشاشة حتى أورث هذا بيني وبينه مقاربة فكان يقول أبو الحسن علي بن جعفر صديق لي

 

وكان مخارق مملوكا لعاتكة وهي علمته الغناء ووضعت يده على العود ثم باعته فانتقل من ملك رجل إلى ملك آخر حتى صار إلى الرشيد

وقد ذكر ذلك في أخباره

صوت

من المائة المختارة

( ولو أنّ ما عندَ ابنِ بُجْرَةَ عندها ... من الخمر لم تَبْلُلْ لَهَاتي بناطِلِ )

( لعمري لأنتَ البيتُ أُكرِمُ أهلَه ... وأقعدُ في أفيائه بالأصائل )

عروضه من الطويل الشعر لأبي ذؤيب الهذلي والغناء لحكم الوادي ولحنه المختار من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها

ابن بجرة هذا فيما ذكره الأصمعي رجل كان يبيع الخمر بالطائف وزعم أن الناطل كوز تكال به الخمر وقال ابن الأعرابي ليس هذا بشيء وزعم أن الناطل الشيء يقال ما في الإناء ناطل أي شيء

وقال أبو عمرو الشيباني سمعت الأعراب يقولون الناطل الجرعة من الماء واللبن والنبيذ انتهى

 

ذكر أبي ذؤيب وخبره ونسبه

هو خويلد بن خالد بن محرث بن زبيد بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث نميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار

وهو أحد المخضرمين ممن أدرك الجاهلية والإسلام وأسلم فحسن إسلامه

ومات في غزاة إفريقية

أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال كان أبو ذؤيب شاعرا فحلا لا غميزة فيه ولا وهن

وقال ابن سلام قال أبو عمرو بن العلاء سئل حسان بن ثابت من أشعر الناس قال أحيا أم رجلا قالوا حيا قال أشعر الناس حيا هذيل وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب قال ابن سلام ليس هذا من قول أبي عمرو ونحن نقوله أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني محمد بن معاذ العمري قال في التوراة أبو ذؤيب مؤلف زورا وكان اسم الشاعر بالسريانية مؤلف

 

زورا

فأخبرت بذلك بعض أصحاب العربية وهو كثير بن إسحاق فعجب منه وقال قد بلغني ذاك وكان فصيحا كثير الغريب متمكنا في الشعر

قال أبو زيد عمر بن شبة تقدم أبو ذؤيب جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية التي يرثي فيها بنيه يعني قوله

( أمِن المَنون ورَيْبة تتوجّع ... والدهر ليس بُمعْتِب من يَجْزَعُ )

وهذه يقولها في بنين له خمسة أصيبوا في عام واحد بالطاعون ورثاهم فيها وسنذكر جميع ما يغنى فيه منها على أثر أخباره هذه

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن مصعب الزبيري وأخبرني حرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال كان أبو ذؤيب الهذلي خرج في جند عبد الله بن سعد بن أبي سرج أحد

 

بني عامر بن لؤي إلى أفريقية سنة ست وعشرين غازيا إفرنجة في زمن عثمان

فلما فتح عبد الله بن سعد إفريقية وما والاها بعث عبد الله بن الزبير وكان في جنده بشيرا إلى عثمان بن عفان وبعث معه نفرا فيهم أبو ذؤيب ففي عبد الله يقول أبو ذؤيب

( فصاحب صدقٍ كسِيدِ الضَّرا ... ينْهض في الغزو نهضا نجيحا )

في قصيدة له

فلما قدموا مصر مات أبو ذؤيب بها وقدم ابن الزبير على عثمان وهو يومئذ في قول ابن الزبير ابن ست وعشرين سنة وفي قول الواقدي ابن أربع وعشرين سنة

وبشر عبد الله عند مقدمه بخبيب بن عبد الله بن الزبير وبأخيه عروة بن الزبير وكانا ولدا في ذلك العام وخبيب أكبرهما

قال مصعب فسمعت أبي والزبير بن خبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير يقولان قال عبد الله بن الزبير أحاط بنا جرجير صاحب إفريقية وهو ملك إفرنجة في عشرين ألفا ومائة ألف ونحن في عشرين ألفا فضاق بالمسلمين أمرهم واختلفوا في الرأي فدخل عبد الله بن سعد فسطاطه يخلو ويفكر قال عبد الله بن الزبير فرأيت عورة من جرجير والناس على مصافهم رأيته على برذون أشهب خلف أصحابه منقطعا منهم معه جاريتان له تظلانه من الشمس بريش الطواويس

فجئت فسطاط عبد الله فطلبت الإذن عليه من حاجبه فقال إنه في شأنكم وإنه قد أمرني أن أمسك

 

الناس عنه

قال فدرت فأتيت مؤخر فسطاطه فرفعته ودخلت عليه فإذا هو مستلق على فراشه ففزع وقال ما الذي أدخلك علي يابن الزبير فقلت إيه وإيه كل أزب نفور إني رأيت عورة من عدونا فرجوت الفرصة فيه وخشيت فواتها فاخرج فاندب الناس إلي قال وما هي فأخبرته فقال عورة لعمري ثم خرج فرأى ما رأيت فقال أيها الناس انتدبوا مع ابن الزبير إلى عدوكم

فاخترت ثلاثين فارسا وقلت إني حامل فاضربوا عن ظهري فإني سأكفيكم من ألقى إن شاء الله تعالى

فحملت في الوجه الذي هو فيه وحملوا فذبوا عني حتى خرقتهم إلى أرض خالية وتبينته فصمدت صمدة فوالله ما حسب إلا إني رسول ولا ظن أكثر أصحابه إلا ذاك حتى رأى ما بي من أثر السلاح فثنى برذونه هاربا فأدركته فطعنته فسقط ورميت بنفسي عليه واتقت جاريتاه عنه السيف فقطعت يد إحداهما

وأجهزت عليه ثم رفعت رأسه في رمحي وجال أصحابه وحمل المسلمون في ناحيتي وكبروا فقتلوهم كيف شاؤوا وكانت الهزيمة

فقال لي عبد الله بن سعد ما أحد أحق بالبشارة منك فبعثني إلى عثمان

وقدم مروان بعدي على عثمان حين اطمأنوا وباعوا المغنم وقسموه

وكان مروان قد صفق على

 

الخمس بخمسمائة ألف فوضعها عنه عثمان فكان ذلك مما تكلم فيه بسببه

فقال عبد الرحمن بن حنبل بن مليل وكان هو وأخوه كلدة أخوي صفوان بن أمية بن خلف لأمه وهي صفية بنت معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وكان أبوهما ممن سقط من اليمن إلى مكة

( أَحْلِف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله أمراً سُدَى )

( ولكنْ خُلقتَ لنا فتنةً ... لكي نُبتلىَ فيكَ أو تُبتلى )

( دعوتَ الطَّريدَ فأدنيتَه ... خلافاً لسنّة منْ قد مضى )

( وأعطيتَ مَرْوان خُمس العباد ... ظلماً لهم وحَمْيت الحمَى )

( ومالاً أتاكَ به الأشعريّ ... من الفيء أعطيتَه مَنْ دنا )

 

( وإن الأمينَيْن قد بَيّنا ... منارَ الطريق عليه الهدى )

( فما أخذا درهماً غِيلةً ... ولا قسما درهماً في هوى )

قال والمال الذي ذكر أن الأشعري جاء به مال كان أبو موسى قدم به على عثمان من العراق فأعطى عبد الله بن أسيد بن أبي العيص منه مائة ألف درهم وقيل ثلثمائة ألف درهم فأنكر الناس ذلك

ذكره ابن بجرة

أخبرني أحمد بن عبيد الله قال حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن يحيى عن عبد العزيز أظنه ابن الدراوردي قال ابن بجرة الذي ذكره أبو ذؤيب رجل من بني عبيد بن عويج بن عدي بن كعب من قريش ولم يسكنوا مكة ولا المدينة قط وبالمدينة منهم امرأة ولهم موال أشهر منهم يقال لهم بنو سجفان

وكان ابن بجرة هذا خمارا وهذا الصوت الذي ذكرناه من لحن حكم الوادي المختار من قصيدة لأبي ذؤيب طويلة فمما يغنى فيه منها

صوت

( أساءلتَ رَسْمَ الدار أم لم تُسائل ... عن الحيّ أم عن عهده بالأوائل )

( عفا غيرَ رسم الدار ما إن تُبينه ... وعفْرِ ظباءٍ قد ثُوَتْ في المنازل )

( فلو أنّ ما عند ابنُ بُجْرةَ عندها ... من الخمر لم تَبْلُل لهاتي بناطل )

( فتلك التي لا يَذهبُ الدهر حُبُّها ... ولا ذِكرُها ما أَرْزَمَتْ أمُّ حائِلِ )

غناه الغريض ثقيلا أول بالوسطى ويقال إن لمعبد فيه أيضا لحنا

 

قوله أساءلت يخاطب نفسه ويروي عن السكن أو عن أهله والسكن الذي كانوا فيه وقال الأصمعي السكن سكن الدار والسكن المنزل أيضا ويروى عفا غير نؤي الدار والنؤي حاجز يجعل حول بيوت الأعراب لئلا يصل المطر إليها ويروى وهو الصحيح

( وأقطاع طُفْي قد عفَتْ في المعاقلِ ... )

والطفي خوص المنقل والمعاقل حيث نزلوا فامتنعوا واحدها معقل وواحد الطفي طفية وأرزمت حنت والحائل الأنثى والسقب الذكر ومنها

صوت

( وإنّ حديثاً منكِ لو تَبْذُلينه ... جنى النحلِ في ألبان عُوذٍ مطافلِ )

( مَطافل أَبْكار حَدِيث نِتاجها ... تُشاب بماءٍ مثلِ ماء المفاصل )

غناه ابن سريج رملا بالوسطى جنى النحل العسل والعوذ جمع عائذ الناقة حين تضع فهي عائذ فإذا تبعها ولدها قيل لها مطفل والمفاصل منفصل السهل من الجبل حيث يكون الرضراض والماء الذي يستنقع فيها أطيب المياه وتشاب تخلط

وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي

 

أن أبا ذؤيب إنما عنى بقوله مطافل أبكار أن لبن الأبكار أطيب الألبان وهو لبنها لأول بطن وضعت قال وكذلك العسل فإن أطيبه ما كان من بكر النحل قال وحدثني كردين قال كتب الحجاج إلى عامله على فارس ابعث إلي بعسل من عسل خلار من النحل الأبكار من الدستفشار الذي لم تمسه النار

بعض من قصيدته العينية الشهيرة

فأما قصيدته العينية التي فضل بها فمما يغنى به منها

صوت

( أَمِنَ المَنون وريبها تتوجّع ... والدهرُ ليس بمُعْتِبٍ من يَجْزَعُ )

( قالت أمامة ما لجسمك شاحباً ... منذُ ابتُذلتَ ومثلُ مالك يَنْفع )

( أم ما لجنبك لا يُلائم مضجعاً ... إلا أَقضّ عليك ذاك المضجعَ )

( فأجبتُها أنْ ما لجسمي أنّه ... أودى بَنيّ من البلاد فودَعوا )

عروضه من الكامل غناه ابن محرز ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها قال الأصمعي سميت المنون منونا لأنها تذهب بمنة كل شيء وهي قوته

وروى الأصمعي وريبه فذكر المنون والشاحب المغير المهزول يقال شحب يشحب ابتذلت امتهنت نفسك وكرهت الدعة والزينة ولزمت العمل والسفر ومثل مالك يغنيك عن هذا فاشتر لنفسك من يكفيك ذلك ويقوم لك به ويلائم يوافق أقض عليك أي خشن فلم تستطع أن تضطجع عليه والقضض الرمل والحصى قال الراجز

 

( إنّ أُحيحاً مات من غير مَرَضْ ... ووُجْدَ في مَرْمَضَه حيث ارتَمضْ )

( عَسَاقلُ وجِبَأٌ فيها قَضَض ... )

وودعوا ذهبوا استعمل ذلك في الذهاب لأن من عادة المفارق أن يودع

أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن عمر النحوي قال حدثني أبي عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال لما مات جعفر بن المنصور الأكبر مشى المنصور في جنازته من المدينة إلى مقابر قريش ومشى الناس أجمعون معه حتى دفنه ثم انصرف إلى قصره ثم أقبل على الربيع فقال يا ربيع أنظر من في أهلي ينشدني

( أمِن المنون ورَيْبها تتوجّع ... )

حتى أتسلى عن مصيبتي قال الربيع فخرجت إلى بني هاشم وهم بأجمعهم حضور فسألتهم عنها فلم يكن فيهم أحد يحفظها فرجعت فأخبرته فقال والله لمصيبتي بأهل بيتي ألا يكون فيهم أحد يحفظ هذا لقلة رغبتهم في الأدب أعظم وأشد علي من مصيبتي بابني ثم قال أنظر هل في القواد والعوام من الجند من يعرفها فإني أحب أن أسمعها من إنسان ينشدها

فخرجت فاعترضت الناس فلم أجد أحدا ينشدها ألا شيخا كبيرا مؤدبا قد انصرف من موضع تأديبه فسألته

 

هل تحفظ شيئا من شعره فقال نعم شعر أبي ذؤيب فقلت أنشدني فابتدأ هذه القصيدة العينية فقلت له أنت بغيتي ثم أوصلته إلى المنصور فاستنشده إياها فلما قال

( والدهرُ ليس بمُعتِب مَنْ يَجْزَعُ ... )

قال صدق والله فأنشدني هذا البيت مائة مرة ليتردد هذا المصراع علي فأنشده ثم مر فيها فلما انتهى إلى قوله

( والدهر لا يَبْقى على حَدَثانه ... جَوْنُ السَّراة له جدائدٌ أربعُ )

قال سلا أبو ذؤيب عند هذا القول ثم أمر الشيخ بالإنصراف فاتبعته فقلت له أأمر لك أمير المؤمنين بشيء فأراني صرة في يده فيها مائة درهم

الخيانة مشتركة

حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال كان أبو ذؤيب الهذلي يهوى امرأة يقال لها أم عمرو وكان يرسل إليها خالد بن زهير فخانه فيها وكذلك كان أبو ذؤيب فعل برجل يقال له عويم بن مالك بن عويمر وكان رسوله إليها

فلما علم أبو ذؤيب بما فعل خالد صرمها فأرسلت تترضاه فلم يفعل وقال فيها

( تُريدين كيما تجمعيني وخالداً ... وهل يُجَمع السيفانِ وَيْحِك في غِمْد )

( أخالدُ ما راعيتَ مِنِّي قرابةً ... فتحفَظَني بالغيب أوْ بعض ما تُبدي )

( دعاكَ إليها مُقْلتاها وجيدُها ... فمِلتَ كما مال المُحبّ على عَمْد )

 

( وكنتَ كَرقْراق السَّراب إذا بدا ... لقوم وقد بات المطيُّ بهم يَخْدي )

( فآليتُ لا أنفكّ أَحْدو قصيدةً ... تكون وإياها بها مثلاً بعدي )

غناه ابن سريج خفيف رمل بالبنصر الغيب السر والرقراق الجاري ويروي أحذو قصيدة فمن قال أحذو بالذال المعجمة أراد أصنع ومن قال أحدو أراد أغني

وقال أبو ذؤيب في ذلك

( وما حُمِّل البُخْتِيُّ عامَ غِياره ... عليه الوُسوقُ بُرُّها وشِعيرُها )

( أتىَ قريةً كانت كثيراً طعامُها ... كَرَفْغ التراب كلُّ شيءٍ يميرها )

الرفع من التراب الكثير اللين

( فقيل تحمَّلْ فوق طوقك إنّها ... مُطَبَّعة منْ يَأتها لا يضِيرُها )

( بأعظم مما كنتُ حَمَّلتُ خالداً ... وبعضُ أمانات الرجال غُرورها )

( ولو أنني حمّلتُه البُزْل ما مشتْ ... به البزلُ حتى تَتْلَئِبَّ صدورها )

تتلئب تستقيم وتنتصب وتمتد وتتابع

( خليلِي الذي دلَّى لغيٍّ خليلتي ... جِهاراً فكلٌّ قد أصاب عُرورها )

يقال عرة بكذا أي أصابه به

( فشأنكها إني أمينٌ وإننّي ... إذا ما تحالى مثلُها لا أطُورها )

 

تحالى من الحلاوة أطورها أقربها

( أُحاذر يوماً أن تَبِين قَرينتي ... ويُسْلمها أَحْرازُها ونَصيرها )

الأحراز الحصون قرينتي نفسي

( وما أَنفُس الفتيان إلا قرائنٌ ... تَبين ويبقَى هامُها وقُبورها )

( فنفسَك فاحفظْها ولا تُفشِ للعِدا ... من السرّ ما يُطَوى عليه ضَميرُها )

( وما يَحْفظُ المكتومَ من سرّ أهله ... إذا عُقَدُ الأسرار ضاع كبيرُها )

( مِنَ القوم إلا ذو عَفاف يُعينه ... على ذاك منهُ صِدْقُ نفس وخِيرُها )

( رَعَى خالدٌ سرّى لياليَ نفسُه ... تَوالَى على قَصْد السبيل أُمورُها )

( فلما تراماه الشبابُ وغَيُّه ... وفي النفس منه فِتْنَةٌ وفُجورها )

( لوى رأسَه عنّي ومال بودّه ... أغانيجُ خَوْد كان فينا يَزُورها )

( تَعلَّقه منها دَلالٌ ومُقلة ... تَظَلّ لأصحاب الشَّقاء تُديرها )

( فإِن حراماً أَنْ أخون أمانَةً ... وآمَنَ نفساً ليس عندي ضميرها )

فأجابه خالد بن زهير

( لا يُبعدنّ الله لُبَّك إذ غَزَا ... وسافَر والأحلامُ جَمٌّ عُثُورُها )

غزا وسافر لبك ذهب عنك والعثور من العثار وهو الخطأ

 

( وكنتَ إماماً للعشيرة تنتهي ... إليك إذا ضاقتْ بأمرٍ صُدورها )

( لعلك إمّا أمُّ عمرو تبدّلت ... سِواكَ خليلاً شاتِمي تَسْتخيرها )

الإستخارة الإستعطاف

( فإِنّ التي فينا زعمتَ ومثلَها ... لَفِيكَ ولكنّي أراك تَجُورها )

تجورها تعرض عنها

( ألم تَنْتقذها من عويم بن مالك ... وأنت صفيُّ نفسه وسجيرُها )

( فلا تَجْزَعَنْ من سُنّةٍ أنت سِرْتَها ... فأوّلُ راضٍ سُنّةً منْ يسيرها )

ويروى قد أسرتها أي جعلتها سائرة ومن رواه هكذا روى يسيرها لأن مستقبل أفعل أسارها يسيرها ويسيرها مستقبل سار السيرة يسيرها

( فإِن كنتَ تشكو من خليلٍ مخانَةً ... فتلك الجوازي عَقْبها ونُصُورها )

عقبها يريد عاقبتها ونصورها أي تنصر عليك الواحد نصر

( وإن كنتَ تبْغِي للظُّلامة مرْكباً ... ذَلُولا فإِني ليس عندي بَعيرها )

( نشأتُ عَسيراً لا تلِين عريكتي ... ولم يعْلُ يوماً فوق ظهري كُورها )

( متى ما تشأْ أحمِلْك والرأسُ مائلٌ ... على صعْبةٍ حَرْفٍ وشِيكٍ طُمورها )

( فلا تكُ كالثور الذي دُفنتْ له ... حديدةُ حتْفٍ ثم أمسى يُثيرها )

 

( يُطيل ثَواءً عندها ليَرُدَّها ... وهيهات منه دارها وقُصورها )

( وقاسمها بالله جَهْداً لأنتمُ ... الذُّ من السَّلْوَى إذا ما نَشُورها )

نشورها نجتنيها السلوى ها هنا العسل

( فلم يُغن عنه خَدْعُه يوم أَزْمَعتْ ... صَريمتَها والنفسُ مُرٌّ ضميرُها )

( ولم يُلْفَ جَلْداً حازماً ذا عَزيمة ... وذَا قوّة يَنفِي بها من يَزورها )

( فأَقْصِرْ ولم تأخذْك منّي سحابةٌ ... يُنَفِّر شاءَ المُقْلِعين خَرِيرُها )

المقلعين الذين أصابهم القلع وهو السحاب

( ولا تَسْبِقنّ الناس منّي بخَمْطةٍ ... مِنَ السمّ مَذْرُورٍ عليها ذَرُورها )

أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا السكن بن سعيد قال حدثنا العباس بن هشام قال حدثني أبو عمرو عبد الله بن الحارث الهذلي من أهل المدينة قال خرج أبو ذؤيب مع ابنه وابن أخ له يقال له ابو عبيد حتى قدموا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له أي العمل افضل يا أمير المؤمنين قال الإيمان بالله ورسوله

قال قد فعلت فأيه أفضل بعده الجهاد في سبيل الله قال ذلك كان علي وإني لا أرجو جنة ولا أخاف نارا

ثم خرج فغزا أرض الروم مع المسلمين فلما قفلوا أخذه الموت فاراد ابنه وابن أخيه أن يتخلفا عليه جميعا فمنعهما صاحب الساقة وقال ليتخلف عليه أحدكما وليعلم أنه مقتول

فقال لهما أبو ذؤيب اقترعا فطارت القرعة لأبي عبيد فتخلف عليه ومضى ابنه مع

 

الناس

فكان أبو عبيد يحدث قال قال لي أبو ذؤيب يا أبا عبيد احفر ذلك الجرف برمحك ثم اعضد من الشجر بسيفك ثم اجررني إلى هذا النهر فإنك لا تفرغ حتى أفرغ فآغسلني وكفني ثم اجعلني في حفيري وإنثل علي الجرف برمحك وألق علي الغصون والشجر ثم اتبع الناس فإن لهم رهجة تراها في الأفق إذا مشيت كأنها جهامة قال فما أخطأ مما قال شيئا ولولا نعته لم أهتد لأثر الجيش وقال وهو يجود بنفسه

( أبا عُبَيد رُفع الكتابُ ... واقترب الموعد والحسابُ )

( وعند رَحْلي جملٌ نُجاب ... أحمرُ في حاركه انصباب )

ثم مضيت حتى لحقت الناس فكان يقال إن أهل الإسلام ابعدوا الأثر في بلد الروم فما كان وراء قبر أبي ذؤيب قبر يعرف لأحد من المسلمين

 

ذكر حكم الوادي وخبره ونسبه

هو الحكم بن ميمون مولى الوليد بن عبد الملك وكان أبوه حلاقا يحلق رأس الوليد فاشتراه فأعتقه

وكان حكم طويلا أحول يكري الجمال ينقل عليها الزيت من الشام إلى المدينة ويكنى أبا يحيى

وقال مصعب بن عبد الله بن الزبير هو حكم بن يحيى بن ميمون وكان أصله من الفرس وكان جمالا ينقل الزيت من وادي القرى إلى المدينة

وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أنه كان شيخا طويلا أحول أجنأ يخضب بالحناء وكان جمالا يحمل الزيت من جدة إلى المدينة وكان واحد دهره في الحذق وكان ينقر بالدف ويغني مرتجلا وعمر عمرا طويلا وغني الوليد بن عبد الملك وغنى الرشيد ومات في الشطر من خلافته وذكر أنه أخذ الغناء من عمر الوادي

قال وكان بوادي القرى جماعة من المغنين فيهم عمر بن زاذان وقال ابن داود بن زاذان وهو الذي كان يسميه الوليد جامع لذتي وحكم بن يحيى وسليمان وخليد بن عتيك وقيل ابن عبيد ويعقوب

 

الوادي وكل هؤلاء كان يصنع فيحسن

أخبرني يحيى بن علي قال حدثني حماد قال قال لي أبي أحذق من رأيت من المغنين أربعة جدك وحكم وفليح بن العوراء وسياط قلت وما بلغ من حذقهم قال كانوا يصنعون فيحسنون ويؤدون غناء غيرهم فيحسنون

قال إسحاق وقال لي أبي ما في هؤلاء الذين تراهم من المغنين أطبع من حكم وابن جامع وفليح أدرى منهما بما خرج من رأسه

وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات أن أحمد بن المكي حدثه عن أبيه قال حدثني حكم الوادي وأخبرني به محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي عن حماد بن إسحاق عن أحمد بن المكي عن أبيه عن حكم الوادي قال أدخلني عمر الوادي على الوليد بن يزيد وهو على حمار وعليه جبة وشي ورداء وشي وخف وشي وفي يده عقد جوهر وفي كمه شيء لا أدري ما هو فقال من غناني ما أشتهي فله ما في كمي وما علي وما تحتي فغنوه كلهم فلم يطرب فقال لي غن يا غلام فغنيت

صوت

( إكليلُها ألوانُ ... ووجههُا فَتّانُ )

( وخالُها فريدٌ ... ليبس له جيران )

( إذا مشتْ تَثنّت ... كأنها ثعبان )

الشعر لمطيع بن إياس والغناء لحكم الوادي هزج بالوسطى وفيه لإبراهيم رمل خفيف بالوسطى فطرب وأخرج ما كان في كمه وإذا كيس فيه ألف

 

دينار فرمى به إلي مع عقد الجوهر فلما دخل بعث إلي بالحمار وجميع ما كان عليه

وهذا الخبر يذكر من عدة وجوه في أخبار مطيع بن إياس

وفي حكم الوادي يقول رجل من قريش

صوت

( أبو يحيى أخو الغَزَل المغنِّي ... بَصيرٌ بالثِّقال وبالخفَافِ )

( على العيدان يُحسِن ما يُغنِّي ... ويحسُن ما يقول على الدِّفاف )

غناه حكم الوادي هزجا بالبنصر

قال هارون بن عبد الملك قال أبو يحيى العبادي قال حدثني أحمد البارد قال دخلت على حكم يوما فقال لي يا قصافي إن رجلا من قريش قال في هذا الشعر

( أبو يحيى أخو الغَزَل المغنِّي ... )

وقد غنيت فيه فخذ العود حتى تسمعه مني فأخذت العود فضربت عليه وغنانيه فكنت أول من أخذ من حكم الوادي هذا الصوت

قال أبو يحيى وقال إسحاق سمعت حكما الوادي يغني صوتا فاعجبني فسألته لمن هو فقال ولمن يكون هذا إلا لي

وقال مصعب حدثني شيخ أنه سمع حكما الوادي يغني فقال له أحسنت فألقى الدف وقال للرجل قبحك الله تراني مع المغنين منذ ستين سنة وتقول لي أحسنت

وقال لي هارون حدثني مدرك بن يزيد قال قال لي فليح بعث إلي يحيى بن خالد وإلى حكم الوادي وابن جامع معنا فأتيناه

 

فقلت لحكم الوادي أو قال لي إن ابن جامع معنا فعاوني عليه لنكسره

فلما صرنا إلى الغناء غنى حكم فصحت وقلت هكذا والله يكون الغناء ثم غنيت ففعل بي حكم مثل ذلك وغنى ابن جامع فما كنا معه في شيء

فلما كان العشي أرسل إلى جاريته دنانير إن أصحابك عندنا فهل لك أن تخرجي إلينا فخرجت وخرج معها وصائف لها فأقبل عليها يقول لها من حيث يظن أنا لا نسمع ليس في القوم أنزه نفسا من فليح ثم أشار إلى غلام له إن ائت كل إنسان بألفي درهم فجاء بها فدفع إلى ابن جامع ألفين فأخذها فطرحها في كمه ولحكم مثل ذلك فطرحها في كمه ودفع إلي الفين

فقلت لدنانير قد بلغ مني النبيذ فاحتبسيها لي عندك فأخذت الدراهم مني وبعثت بها إلي من الغد وقد زادت عليها مثلها وأرسلت إلي قد بعثت إليك بوديعتك وبشيء أحببت أن تفرقه على أخواتي تعني جواري

شهرته في الهزج

قال هارون بن محمد قال حماد بن إسحاق قال أبي أربعة بلغوا في أربعة أجناس من الغناء مبلغا قصر عنه غيرهم معبد في الثقيل وابن سريج في الرمل وحكم في الهزج وإبراهيم في الماخوري

قال هارون وحدثني أبي قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي عن أبيه قال

 

زاد حكم الوادي الرشيد فبره ووصله بثلثمائة ألف درهم وسأله عمن يختار أن يكتب له بها إليه فقال اكتب لي بها إلى إبراهيم بن المهدي وكان عاملا له بالشام قال إبراهيم فقدم علي حكم بكتاب الرشيد فدفعت إليه ما كتب به ووصلته بمثل ما وصله إلا أني نقصته ألفا من الثلثمائة وقلت له لا أصلك بمثل صلة أمير المؤمنين

فأقام عندي ثلاثين يوما أخذت منه فيها ثلثمائة صوت كل صوت منها أحب إلي من الثلثمائة الألف التي وهبتها له

وأخبرني علي بن عبد العزيز عن عبيد الله بن خرداذبة قال قال مصعب بن عبد الله بينا حكم الوادي بالمدينة إذ سمع قوما يقولون لو ذهبنا إلى جارية ابن شقران فإنها حسنة الغناء فمضوا إليها وتبعهم حكم وعليه فروة فدخلوا ودخل معهم وصاحب المنزل يظن أنه معهم وهم يظنون أنه من قبل صاحب المنزل ولا يعرفونه

فغنت الجارية أصواتا ثم غنت صوتا ثم صوتا فقال حكم الوادي أحسنت والله وصاح

فقال له رب البيت يا ماص كذا وكذا من أمه وما يدريك ما الغناء فوثب عليه يتعتعه وأراد ضربه فقال له حكم يا عبدالله دخلت بسلام وأخرج كما دخلت وقام ليخرج فقال له رب البيت لا أو أضربك

فقال حكم على رسلك أنا أعلم بالغناء منك ومنها وقال شدي موضع كذا وأصلحي موضع كذا وإندفع يغني فقالت الجارية إنه والله أبو يحيى فقال رب المنزل جعلت فداك المعذرة إلى الله وإليك لم أعرفك فقام حكم ليخرج فأبى الرجل فقال والله لأخرجن فسأعود إليها لكرامتها لا لكرامتك

وذكر أحمد بن المكي عن أبيه أن حكما لم يشهر بالغناء ويذهب له

 

الصوت به حتى صار الأمر إلى بني العباس فانقطع إلى محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين وذلك في خلافة المنصور فأعجب به واختاره على المغنين وأعجبته أهزاجه

وكان يقال إنه من أهزج الناس

ويقال إنه غنى الأهزاج في آخر عمره وإن ابنه لامه على ذلك وقال له أبعد الكبر تغني غناء المخنثين فقال له اسكت فإنك جاهل غنيت الثقيل ستين سنة فلم أنل إلا القوت وغنيت الأهزاج منذ سنيات فأكسبتك ما لم تر مثله قط

قال هارون بن محمد وقال يحيى بن خالد ما رأينا فيمن يأتينا من المغنين أحدا أجود أداء من حكم

وليس أحد يسمع غناء ثم يغنيه بعد ذلك إلا وهو يغيره ويزيد فيه وينقص إلا حكما

فقيل لحكم ذلك فقال إني لست أشرب وغيري يشرب فإذا شرب تغير غناؤه

أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال كان خبر حكم الوادي يتناهى إلى المنصور ويبلغه ما يصله به بنو سليمان بن علي فيعجب لذلك ويستسرفه ويقول هل هو إلا أن حسن شعرا بصوته وطرب مستمعيه فماذا يكون وعلام يعطونه هذه العطايا المسرفة إلى أن جلس يوما في مستشرف له وقد كان حكم دخل إلى رجل من قواده أراه قال علي بن يقطين أو أبوه وهو يراه ثم خرج عشيا وقد حمله على بغلة له يعرفها المنصور وخلع عليه ثيابا يعرفها له

فلما رآه المنصور قال من هذا فقيل حكم الوادي فحرك رأسه عليا ثم قال الآن علمت أن هذا يستحق ما يعطاه قيل وكيف ذلك يا

 

أمير المؤمنين وأنت تنكر ما يبلغك منه قال لأن فلانا لا يعطي شيئا من ماله باطلا ولا يضعه إلا في حقه

المهدي يجيزه والهادي يعطيه

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي عن الأصمعي قال رأيت حكما الوادي حين مضى المهدي إلى بيت المقدس وقد عارضه في الطريق وأخرج دفه ونقر فيه وله شعيرات على راسه وقال أنا والله يا أمير المؤمنين القائل

( ومتى تَخرج العروس ... فقد طال حبسُها )

فتسرع إليه الحرس فقال دعوه وسأل عنه فأخبر أنه حكم الوادي فوصله وأحسن إليه

لحن حكم في هذا الشعر المذكور هزج بالبنصر وفيه ألحان لغيره وقد ذكرت في أخبار الوليد بن يزيد

أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن صالح الأضجم عن حكم الوادي قال كان الهادي يشتهي من الغناء ما توسط وقل ترجيعه ولم يبلغ أن يستخف جدا فأخرج ليلة ثلاث بدر وقال من أطربني فهي له

فغناه ابن جامع وإبراهيم الموصلي والزبير بن دحمان فلم يصنعوا شيئا وعرفت ما أراد فغنيته لإبن سريج

 

صوت

( غَرّاءُ كالليلة المباركة الْقَمْراء ... تَهْدي أوائلَ الظُّلَمِ )

( أَكْنِي بغير اسمها وقد علم ... الله خَفِيّاتِ كلِّ مُكتتِم )

( كأن فاها إذا تُنُسِّم عن ... طيب مَشَمٍّ وحسن مُبْتَسَم )

( يُسَنُّ بالضَّرْو من بَرَاقِشَ أو ... هَيْلانَ أو يانعِ من العُتُم )

الشعر في هذا الغناء للنابغة الجعدي والصنعة لإبن سريج رمل بالبنصر فوثب عن فراشه طربا وقال أحسنت أحسنت والله اسقوني فسقي

ووثقت بأن البدر لي فقمت فجلست عليها فأحسن ابن جامع المحضر وقال أحسن والله كما قال أمير المؤمنين وإنه لمحسن مجمل

فلما سكن أمر الفراشين بحملها معي فقلت لإبن جامع مثلك يفعل ما فعلت في شرفك ونسبك فإن رأيت أن تشرفني بقبول إحداها فعلت

فقال لا والله لا فعلت والله لوددت أن الله زادك وأسأل الله أن يهنيك ما رزقك

ولحقني الموصلي فقال آخذ يا حكم من

 

هذا فقلت لا والله ولا درهما واحدا لأنك لم تحسن المحضر

موته وشعر الدارمي فيه

ومات حكم الوادي من قرحة أصابته في صدره فقال الدارمي فيه قبل وفاته

صوت

( إنّ أبا يحيى اشتكَى عِلّةً ... أَصْبحَ منها بين عُوّادِ )

( فقلت والقلبُ به مُوجَعٌ ... يا رَبّ عافِ الحَكَم الوادي )

( فرُبّ بِيضٍ قادةٍ سادةٍ ... كأنصُلٍ سُلّت مِنَ اغْماد )

( نادَمهم في مجلس لاهياً ... فَأَصْمتَ المُنشِدَ والشادي )

غنى فيه حكم الوادي هزجا بالبنصر

صوت

من المائة المختارة

( أمعارِفَ الدِّمَن القَفَار تَوَهّمُ ... ولقد مضى حولٌ لهنَ مُجَرَّمُ )

( ولقد وقفتُ على الديار لعلَّها ... بجواب رَجْع تحيّة تتكلمّ )

( عن عِلْم ما فعل الخليطُ فما دَرَتْ ... أنَّى توجّه بالخليط المَوْسِم )

( ولقد عهِدتُ بها سُعادَ وإنها ... بالله جاهدةَ اليمين لتُقسِم )

( إني لأَوْجَهُ مَنْ تكلّم عندها ... بأَلِيَّةٍ ومخالفٌ مَن يَزْعُم )

( فلها لدينا بالذي بذَلتْ لنا ... وُدٌّ يطول له العَناء ويَعْظُم )

عروضه من الكامل الشعر لنصيب من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن

 

مروان والغناء لإبن جامع له فيه لحنان ذكرهما إسحاق أحدهما ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى

ولإبراهيم في البيتين الأولين ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى ولإسحاق وسياط فيهما ثقيل بالبنصر عن عمرو

 

ذكر ابن جامع وخبره ونسبه

هو إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب

أخبرني الطوسي عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب وأخبرنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق قالا جميعا مات ضبيرة السهمي وله مائة سنة ولم يظهر في رأسه ولا لحيته شيب فقال بعض شعراء قريش يرثيه

( حُجّاجَ بيت الله إنّ ... ضُبيرةَ السَّهْمِيّ ماتَا )

( سبَقتْ منّيتُه المَشيبَ ... وكان مِيتتُه افتلاتا )

( فتزوّدوا لا تَهْلِكوا ... من دون أهلكُم خُفاتا )

قال وأسر أبو وداعة كافرا يوم بدر ففداه ابنه المطلب وكان المطلب رجل صدق

 

وقد روى عن النبي الحديث

ويكنى ابن جامع أبا القاسم وأمه امرأة من بني سهم وتزوجت بعد أبيه رجلا من أهل اليمن

فذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن حماد عن أبيه عن بعض أصحابه عن عون حاجب معن بن زائدة قال رايت أم ابن جامع وابن جامع معها عند معن بن زائدة وهو ضعيف يتبعها ويطأ ذيلها وكانت من قريش ومعن يومئذ على اليمن

فقالت أصلح الله الأمير إن عمي زوجني زوجا ليس بكفء ففرق بيني وبينه

قال من هو قالت ابن ذي مناجب قال علي به قال فدخل أقبح من خلق الله وأشوهه خلقا قال من هذه منك قال امرأتي قال خل سبيلها ففعل فأطرق معن ساعة ثم رفع رأسه فقال

( لعمري لقد أصبحتَ غيرَ محبِّب ... ولا حَسَنٍ في عينها ذا مناجِب )

( فما لمتُها لمّا تبينّتُ وجهَه ... وعيناً له حَوْصاءَ من تحت حاجب )

( وأنفاً كأنف البَكْر يقطُر دائباً ... على لِحيْة عَصْلاءَ شابتْ وشارِب )

( أتيتَ بهامثلَ المَهاة تسوقها ... فياحُسْن مجلوب ويا قُبح جالب )

وأمر لها بمائتي دينار وقال لها تجهزي بها إلى بلادك

 

أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني حماد عن أبيه أن الرشيد سأل ابن جامع يوما عن نسله وقال له أي بني الإنس ولدك يا إسماعيل قال لا أدري ولكن سل ابن أخي يعني إسحاق وكان يماظ إبراهيم الموصلي ويميل إلى ابنه إسحاق قال إسحاق ثم التفت إلي ابن جامع فقال أخبره يابن أخي بنسب عمك

فقال له الرشيد قبحك الله شيخا من قريش تجهل نسبك حتى يخبرك به غيرك وهو رجل من العجم

بعض من ورعه وتقواه

قال هارون حدثني عبد الله بن عمرو قال حدثني أبو هشام محمد بن عبد الملك المخزومي قال أخبرني محمد بن عبد الله بن أبي فروة بن أبي قراد المخزومي قال كان ابن جامع من أحفظ خلق الله لكتاب الله وأعلمه بما يحتاج إليه كان يخرج من منزله مع الفجر يوم الجمعة فيصلي الصبح ثم يصف قديمه حتى تطلع الشمس ولا يصلي الناس الجمعة حتى يختم القرآن ثم ينصرف إلى منزله

قال هارون وحدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني صالح بن علي بن عطية وغيره من رجال أهل العسكر قالوا قدم ابن جامع قدمة له من مكة على الرشيد وكان ابن جامع حسن السمت كثير الصلاة قد أخذ السجود جبهته وكان يعتم بعمامة سوداء على قلنسوة طويلة ويلبس لباس الفقهاء ويركب حمارا مريسيا في زي أهل الحجاز فبينا

 

هو واقف على باب يحيى بن خالد يلتمس الإذن عليه فوقف على ما كان يقف الناس عليه في القديم حتى يأذن لهم أو يصرفهم أقبل أبو يوسف القاضي بأصحابه أهل القلانس فلما هجم على الباب نظر إلى رجل يقف إلى جانبه ويحادثه فوقعت عينه على ابن جامع فرأى سمته وحلاوة هيئته فجاء فوقف إلى جانبه ثم قال له أمتع الله بك توسمت فيك الحجازية والقرشية قال أصبت قال فمن أي قريش أنت قال من بني سهم قال فأي الحرمين منزلك قال مكة قال ومن لقيت من فقهائهم قال سل عمن شئت ففاتحه الفقه والحديث فوجد عنده ما أحب فأعجب به

ونظر الناس إليهما فقالوا هذا القاضي قد اقبل على المغني وأبو يوسف لا يعلم أنه ابن جامع فقال أصحابه لو أخبرناه عنه ثم قالوا لا لعله لا يعود إلى مواقفته بعد اليوم فلم نغمه

فلما كان الإذن الثاني ليحيى غدا عليه الناس وغدا عليه أبو يوسف فنظر يطلب ابن جامع فرآه فذهب فوقف إلى جانبه فحادثه طويلا كما فعل في المرة الأولى فلما انصرف قال له بعض أصحابه أيها القاضي أتعرف هذا الذي تواقف وتحادث قال نعم رجل من قريش من أهل مكة من الفقهاء قالوا هذا ابن جامع المغني قال إنا لله

قالوا إن الناس قد شهروك بمواقفته وأنكروا ذلك من فعلك فلما كان الإذن الثالث جاء أبو يوسف ونظر إليه فتنكبه وعرف ابن جامع أنه قد أنذر به فجاء فوقف فسلم عليه فرد السلام عليه أبو يوسف بغير ذلك الوجه الذي كان يلقاه به ثم أنحرف عنه

فدنا منه ابن جامع وعرف الناس القصة وكان ابن جامع جهيرا فرفع صوته ثم قال يا أبا يوسف مالك تنحرف عني أي شيء أنكرت قالوا لك إني ابن جامع المغني فكرهت مواقفتي لك أسألك عن مسألة ثم اصنع ما شئت ومال الناس فأقبلوا نحوهما يستمعون فقال يا أبا يوسف لو أن أعرابيا جلفا وقف بين يديك فأنشدك بجفاء وغلظة من لسانه وقال

 

( يا دار مَيَّة بالعَلْياء فالسَّنَد ... أَقَوتْ وطالَ عليها سالفُ الأبدِ )

أكنت ترى بذلك بأسا قالا لا قد روي عن النبي في الشعر قول وروي في الحديث

قال ابن جامع فإن قلت أنا هكذا ثم اندفع يتغنى فيه حتى أتى عليه ثم قال يا أبا يوسف رأيتني زدت فيه أو نقصت منه قال عافاك الله أعفنا من ذلك قال يا أبا يوسف أنت صاحب فتيا ما زدته على أن حسنته بألفاظي فحسن في السماع ووصل إلى القلب ثم تنحى عنه ابن جامع

قال وحدثني عبد الله بن شبيب قال حدثني إبراهيم بن المنذر عن سفيان ابن عيينة ومر به ابن جامع يسحب الخز فقال لبعض أصحابه بلغني أن هذا القرشي أصاب مالا من بعض الخلفاء فبأي شيء أصابه قالوا بالغناء قال فمن منكم يذكر بعض ذلك فأنشد بعض أصحابه ما يغني فيه

( وأَصحَب بالليل أهلَ الطَّواف ... وأرفع من مِئزَرِي المُسْبَلِ )

قال أحسن هيه قال

( وأسجدُ بالليل حتى الصباح ... واتلو من المُحْكَم المُنْزَل )

قال أحسن هيه قال

( عَسَى فارجُ الكرب عن يوسفٍ ... يُسخِّر لي رَبّة المَحْمِل )

قال أما هذا فدعه

طريقته في الغناء

وحدثني محمد بن الحسن العتابي قال حدثني جعفر بن محمد الكاتب قال

 

حدثني طيب بن عبد الرحمن قال كان ابن جامع يعد صيحة الصوت قبل أن يصنع عمود اللحن

وحدث محمد بن الحسن قال حدثني أبو حارثة بن عبد الرحمن بن سعيد بن سلم عن أخيه أبي معاوية بن عبد الرحمن قال قال لي ابن جامع لولا أن القمار وحب الكلاب قد شغلاني لتركت المغنين لا يأكلون الخبز

أخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال أهدى رجل إلى ابن جامع كلبا فقال ما اسمه فقال لا أدري فدعا بدفتر فيه أسماء الكلاب فجعل يدعوه بكل اسم فيه حتى أجابه الكلب

قال هارون بن محمد حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثتني حولاء مولاة ابن جامع قالت انتبه مولاي يوما من قائلته فقال علي بهشام يعني ابنه ادعوه لي عجلوه فجاء مسرعا فقال أي بني خذ العود فإن رجلا من الجن ألقى علي في قائلتي صوتا فأخاف أن أنساه

فأخذ هشام العود وتغنى ابن جامع عليه رملا لم أسمع له رملا أحسن منه وهو

صوت

( أمستْ رُسوم الديار غيَّرها ... هوجُ الرِّياح الزَّعازعِ العُصُف )

( وكلُّ حَنّانة لها زَجَلٌ ... مثلُ حَنين الرَّوائم الشُّغُف )

فأخذه عنه هشام فكان بعد ذلك يتغناه وينسبه إلى الجن وفي هذا الصوت

 

للهذلي لحن من الثقيل الثاني بالخنصر في مجرى الوسطى

وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو وقيل إن هذا اللحن لعبادل وفيه لإبن جامع الرمل المذكور

قال هارون وحدثني أحمد بن بشر بن عبد الوهاب قال حدثني محمد بن موسى بن فليح الخزاعي قال حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد المكي قال قال لي ابن جامع أخذت من هارون ببيتن غنيته بهما عشرة آلاف دينار

صوت

( لا بدّ للعاشق من وَقْفةٍ ... تكون بين الوَصْل والصرّمِ )

( يَعْتِب أحياناً وفي عَتْبة ... إظهارُ ما يُخْفِي من السُّقْم )

( إشفاقُه داعٍ إلى ظَنّه ... وظنُّه داعٍ إلى الظلم )

( حتى إذا ما مَضّه هجره ... راجَع مَنْ يَهْوَى على رَغْم )

هكذا رويته الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لإبن جامع ثاني ثقيل بالوسطى وذكر ابن بانة أن هذا اللحن لسيلم وفيه لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى قال ثم قال لي ابن جامع فمتى تصيب أنت بالمروءة شيئا

وقال هارون حدثني أحمد بن زهير قال حدثني مصعب بن عبد الله قال خرج ابن أبي عمرو الغفاري وعبد الرحمن بن أبي قباحة وغيرهما من القرشيين عمارا يريدون مكة فلما كانوا بفخ نزلوا على البئر التي هناك

 

ليغتسلوا فيها

قال فبينما نحن نغتسل إذ سمعنا

صوت

غناء فقلنا لو ذهبنا إلى هؤلاء فسمعنا غناءهم فأتيناهم فإذا ابن جامع وأصحاب له يغنون وعندهم فضيخ لهم يشربون منه فقالوا تقدموا يا فتيان فتقدم ابن أبي عمرو فجلس مع القوم وكان رأسهم فجلسنا نشرب وطرب ابن أبي قباحة فغنى فقال ابن جامع وابأبي وأمي ابن أبي قباحة وإلا فهو ابن الفاعلة

فقام ابن أبي عمرو فأخرج من وسطه هميانا فيه ثلثمائة درهم فنثرها على ابن أبي قباحة فقال ابن جامع امضوا بنا إلى المنزل فمضنيا فأقمنا عنده شهرا ما نبرح ونحن على إحرامنا ذلك

قال هارون بن محمد بن عبد الملك حدثني علي بن سليمان عن محمد بن أحمد النوفلي عن جارية ابن جامع الحولاء قال وكانت تتبناني فتغنت يوما وطربت وقالت يا بني ألا أغنيك هزجا لسيدي في عشيقة له سوداء قلت بلى فتغنت هزجا ما سمعت أحسن منه وهو

صوت

( اَشْبَهِك المسكُ وأشبهتِه ... قائمةً في لونه قاعده )

( لا شكّ إذ لونُكما واحدٌ ... أنّكما من طينةٍ واحدهْ )

وقد روي هذا الشعر لأبي حفص الشطرنجي يقوله في دنانير مولاة البرامكة ونسب هذا الهزج إلى إبراهيم وابن جامع وغيرهما

 

قال عبد الله بن عمرو حدثنا أحمد بن عمر بن إسماعيل الزهري قال حدثني محمد بن جعفر بن عمر بن علي بن ابي طالب عليه السلام وكان يلقب الأبله قال قال برصوما الزامر وذكر إبراهيم الموصلي وابن جامع فقال الموصلي بستان تجد فيه الحلو والحامض وطريا لم ينضح فتأكل منه من ذا وذا

وابن جامع زق عسل إن فتحت فمه خرج عسل حلو وإن خرقت جنبه خرج عسل حلو وإن فتحت يده خرج عسل حلو كله جيد

غنى عند الرشيد فأخطأ ثم أجاد

أخبرنا يحيى بن علي عن أبيه وحماد عن إبراهيم بن المهدي وكان إبراهيم يفضل ابن جامع ولا يقدم عليه أحدا وابن جامع يميل إليه قال كنا في مجلس الرشيد وقد غلب على ابن جامع النبيذ فغنى صوتا فأخطأ في أقسامه فالتفت إلي إبراهيم الموصلي فقال قد خري فيه وفهمت صدقه قال فقلت لإبن جامع يا أبا القاسم أعد الصوت وتحفظ فيه فانتبه وأعاده فأصاب

فقال إبراهيم

( أُعلِّمُه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ ... فلمّا اشْتَدّ ساعدُه رماني )

وتنكر لميلي مع ابن جامع عليه فقلت للرشيد بعد أيام إن لي حاجة إليك قال وما هي قلت تسأل إبراهيم الموصلي أن يرضى غني ويعود إلى ما كان عليه

فقال إنما هو عبدك وقال له قم إليه فقبل رأسه فقلت لا ينفعني رضاه في الظاهر دون الباطن فسله أن يصحح الرضا فقام إلي ليقبل راسي كما أمر فقال لي وقد أكب علي ليقبل رأسي أتعود قلت لا قال قد رضيت عنك رضا صحيحا وعاد إلى ما كان عليه

وقال حماد عن أبي يحيى العبادي قال قدم حوراء غلام حماد الشعراني وكان أحد المغنين المجيدين قال حدثني بعض أصحابنا قال كنا في دار أمير المؤمنين الرشيد فصاح بالمغنين من فيكم يعرف

 

( وكَعْبَةُ نَجْران حَتّمٌ عليكِ ... حتى تُناخِي بأبوابها )

الشعر للأعشى فبدرهم إبراهيم الموصلي فقال أنا أغنيه وغناه فجاء بشىء عجيب فغضب ابن جامع وقال لزلزل دع العود أنا من جحاش وجرة لا أحتاج إلى بيطار ثم غنى الصوت فصاح إليه مسرور أحسنت يا أبا القاسم ثلاث مرات

نسبة هذا الصوت

صوت

( وكعبةُ نَجْرانَ حتمٌ عليكِ ... حتى تُناخِي بأبوابِها )

( نَزور يزيدَ وعبدَ المَسيح ... وقيساً هُمُ خيرُ أربابها )

( وشاهدُنا الجُلّ واليَاسِمينُ ... والمُسْمِعاتُ بقُصّابها )

( وبَرْبطنا دائمٌ مُعْمَل ... فأيُّ الثلاثةِ أَزْرَى بها )

( فلما التقينا على آلةٍ ... ومَدّتْ إليّ بأسبابها )

 

الشعر للأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة وهؤلاء الذين ذكرهم أساقفة نجران وكان يزورهم ويمدحهم ويمدح العاقب والسيد وهما ملكا نجران ويقيم عندهما ما شاء يسقونه الخمر ويسمعونه الغناء الرومي فإذا انصرف أجزلوا صلته

أخبرنا بذلك محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وله أخبار كثيرة معهم تذكر في مواضعها إن شاء الله

والغناء لحنين الحيري خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق في الأربعة الأول وذكر عمرو أنه لإبن محرز

وذكر يونس أن فيها لحنا لمالك ولم يجنسه وذكر الهشامي أن في الخامس والسادس ثم الأول والثاني خفيف رمل بالوسطى ليحيى المكي

استحضره الفضل بن الربيع لما ولي الهادي

وقال حماد عن مصعب بن عبد الله قال حدثني الطراز وكان بريد الفضل بن الربيع قال لما مات المهدي وملك موسى الهادي أعطاني الفضل دنانير وقال إلحق بمكة فأتني بابن جامع واحمله في قبة ولا تعلمن بذا أحدا ففعلت فأنزلته عندي واشتريت له جارية له وكان ابن جامع صاحب نساء

فذكره موسى ذات ليلة وكان

 

هو والحراني منقطعين إلى موسى أيام المهدي فضربهما المهدي وطردهما فقال لجلسائه أما فيكم أحد يرسل إلى ابن جامع وقد علمتم موقعة مني فقال له الفضل بن الربيع هو والله عندي يا أمير المؤمنين وقد فعلت الذي أردت وبعث إليه فأتي به في الليل

فوصل الفضل تلك الليلة بعشرة آلاف دينار وولاه حجابته

قال إسحاق عن بعض أصحابه كنا عند أمير المؤمنين الرشيد يوما فقال الغلام الذي على الستارة يابن جامع تغن ببيت السعدي

( فلو سألتْ سَراةَ الحيِّ سَلْمى ... على أن قد تَلوّن بي زماني )

( لخبَّرها ذوو الأحساب عنِّي ... وأعدائي فكلٌّ قد بَلاني )

( بذبِّي الذمَّ عن حسبي بمالي ... وزَبُّوناتِ أَشْوسَ تَيْحان )

( وأني لا أزال أخا حروبٍ ... إذا لم أَجْن كنتُ مِجَنَّ جاني )

قال فحرك ابن جامع رأسه وكان إذا اقترح عليه الخليفة شيئا قد أحسنه وأكمله طار فرحا فغنى به فأربد وجه إبراهيم لما سمعه منه وكذا كان ابن جامع أيضا يفعل فقال له صاحب الستارة أحسنت والله يا أميري أعد فأعاد فقال أنت في حلبة لا يلحقك أحد فيها أبدا

ثم قال صاحب الستارة لإبراهيم تغن بهذا

 

الشعر فتغنى فلما فرغ قال مرعى ولا كالسعدان أخطأت في موضع كذا وفي موضع كذا فقال نفي إبراهيم من أبيه إن كان يا أمير المؤمنين أخطأ حرفا وقد علمت أني أغفلت في هذين الموضعين

قال إبراهيم فلما انصرفنا قلت لإبن جامع والله ما أعلم أن أحدا بقي في الأرض يعرف هذا الغناء معرفة أمير المؤمنين قال حق والله لهو إنسان يسمع الغناء منذ عشرين سنة مع هذا الذكاء الذي فيه

قال إسحاق كان ابن جامع إذا تغنى في هذا الشعر

صوت

( مَنْ كان يَبْكي لِمَا بي ... مِنْ طول سُقْمٍ رَسيسِ )

( فالآنَ من قبل موتي ... لا عِطْرَ بعد عَرُوس )

 

( بنيْتُم في فؤادي ... أوكار طيرِ النُحوس )

( قلبي فريسُ المنايا ... يا ويحه من فرِيس )

الشعر لرجل من قريش والغناء لإبن جامع في طريقة الرمل لم يتغن في ذلك المجلس بغيره

وكان إذا أراد أن يتغنى سأل أن يزمر عليه برصوما فلما كثر ذلك سألوه فيه فقال لا والله ولكنه إذا ابتدأت فغنيت في الشعر عرف الغرض الذي يصلح فما يجاوزه وكنت معه في راحة وذلك أن المغني إذاتغنى بزمر زامر فأكثر العمل على الزامر لأنه لا يقفو الأثر فإذا زمر برصوما فأنا في راحة وهو في تعب وإذا زمر علي غيره فهو في راحة وأنا في تعب

فإن شككتم فاسألوا برصوما ومنصور زلزل فسألوهما عما قال فقالا صدق

قال وحدثني علي بن أحمد الباهلي قال سمعت مصعب بن عبد الله يقول بلغ المهدي أن ابن جامع والموصلي يأتيان موسى فبعث إليهما فجيء بهما فضرب الموصلي ضربا مبرحا وقال له ابن جامع ارحم أمي فرق له وقال

 

له قبحك الله رجل من قريش يغني وطرده

فلما قام موسى وجه الفضل خلفه بريدا حتى جاء به فقال له موسى ما كان ليفعل هذا غيرك

قال وحدثني الزبير بن بكار قال قال لي فلفلة تمنى يوما موسى أمير المؤمنين ابن جامع فدفع إلي الفضل بن الربيع خمسمائة دينار وقال امض حتى تحمل ابن جامع وبعث إليه بما يصلحه فمضيت فحملته

فلما دخلنا أدخله الفضل الحمام وأصلح من شأنه ودخل على موسى فغناه فلم يعجبه

فلما خرج قال له الفضل تركت الخفيف وغنيت الثقيل قال فأدخلني عليه أخرى فأدخله فغنى الخفيف فقال حاجتك فأعطاه ثلاثين ألف دينار

قال وحدثني عبد الرحمن بن أيوب قال حدثنا أبو يحيى العبادي قال حدثني ابن أبي الرجال قال حدثني زلزل قال أبطأ إبراهيم الموصلي عن الرشيد فأمر مسرورا الخادم يسأل عنه وكان أمير المؤمنين قد صير أمر المغنين إليه فقيل له لم يأت بعد

ثم جاء في آخر النهار فقعد بيني وبين برصوما فغنى صوتا له فأطربه وأطرب والله كل من كان في المجلس قال فقام ابن جامع من مجلسه فقعد بيني وبين برصوما ثم قال أما والله يا نبطي ما أحسن إبراهيم وما أحسن غيركما

قال ثم غنى فنسينا أنفسنا والله لكأن العود كان في يده

إبراهيم الموصلي يشهد له بجودة الإيقاع

قال وحدثني عمر بن شبة قال حدثني يحيى بن إبراهيم بن عثمان بن نهيك قال دعا أبي الرشيد يوما فأتاه ومعه جعفر بن يحيى فأقاما عنده وأتاهما ابن جامع فغناهما يومهما

فلما كان الغد انصرف الرشيد وأقام جعفر قال فدخل

 

عليهم إبراهيم الموصلي فسال جعفرا عن يومهم فأخبره وقال له لم يزل ابن جامع يغنينا إلا أنه كان يخرج من الإيقاع وهو في قوله يريد أن يطيب نفس إبراهيم الموصلي قال فقال له إبراهيم أتريد أن تطيب نفسي بما لا تطيب به لا والله ما ضرط ابن جامع منذ ثلاثين سنة إلا بإيقاع فكيف يخرج من الإيقاع

قال وحدثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق قال حدثني أبي قال كان سبب عزل العثماني أن ابن جامع سأل الرشيد أن يأذن له في المهارشة بالديوك والكلاب ولا يحد في النبيذ فأذن له وكتب له بذلك كتابا إلى العثماني فلما وصل الكتاب قال كذبت أمير المؤمنين لا يحل ما حرم الله وهذا كتاب مزور

والله لئن ثقفتك على حال من هذه الأحوال لأؤدبنك أدبك قال فحذره ابن جامع

ووقع بين العثماني وحماد اليزيدي وهو على البريد ما يقع بين العمال فلما حج هارون قال حماد لإبن جامع أعني عليه حتى أعزله قال أفعل قال فابدأ أنت وقل إنه ظالم فاجر واستشهدني فقال له ابن جامع هذا لا يقبل في العثماني ويفهم أمير المؤمنين كذبنا ولكني أحتال من جهة ألطف من هذه قال فسأله هارون ابتداء فقال له يابن جامع كيف أميركم العثماني قال خير أمير وأعدله وأفضله وأقومه بحق لولا ضعف في عقله قال

 

وما ضعفه قال قد أفنى الكلاب قال وما دعاه إلى إفنائها قال زعم أن كلبا دنا من عثمان بن عفان يوم ألقي على الكناس فأكل وجهه فغضب على الكلاب فهو يقتلها فقال هذا ضعيف اعزلوه فكان سبب عزله

قال هارون بن محمد وحدثني الحسن بن محمد الغياثي قال حدثني أبي عن القطراني قال كان ابن جامع بارا بوالدته وكانت مقيمة بالمدينة وبمكة

فدعاه إبراهيم بن المهدي وأظهر له كتابا إلى أمير المؤمنين فيه نعي والدته قال فجزع لذلك جزعا شديدا وجعل أصحابه يعزونه ويؤنسونه ثم جاؤوا بالطعام فلم يتركوه حتى طعم وشرب وسألوه الغناء فامتنع

فقال له إبراهيم بن المهدي إنك ستبذل هذا لأمير المؤمنين فابذله لإخوانك فاندفع يغني

صوت

( كم بالدُّروب وأرض الروم مِنْ قَدَم ... ومِنْ جماجم صَرْعَى ما بها قُبِرُوا )

( بقُنْدُهَارَ ومَنْ تُقْدَر منيّته ... بقُنْدُهَار يُرَجَّم دونه الخبر )

الشعر ليزيد بن مفرغ الحميري والغناء لإبن جامع رمل وفيه لإبن سريج

 

خفيف رمل جميعا عن الهشامي قال وجعل إبراهيم يسترده حتى صلح له ثم قال لا والله ما كان مما خبرناك شيء إنما مزحنا بك

قال ثم قال له رد الصوت فغناه فلم يكن من الغناء الأول في شيء فقال له إبراهيم خذه الآن علي فأداه إبراهيم على السماع الأول

فقال له ابن جامع أحب أن تطرحه أنت على كذا

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الحسن الشيباني عن أحمد بن يحيى المكي قال كان أبي بين يدي الرشيد وابن جامع معه يغني بين يدي الرشيد فغناه

( خليفةٌ لا يخيبُ سائلُه ... عليه تاجُ الوقار مُعْتَدلُ )

قال وغنى من يتلوه وهوم ابن جامع سكرا ونعاسا فلما دار الغناء على أصحابه وصارت النوبة إليه حركه من بجنبه لنوبته فانتبه وهو يغني

( اِسْلمْ وحُيِّيت أيّها الطَّلَلُ ... وإن عَفَتْك الرياح والسَّبلُ )

 

قال وهو يتلو البيت الأول فعجب أهل المجلس من ذكائه وفهمه وأعجب ذلك الرشيد

نسبة هذا الصوت

صوت

( اِسلم وحُيِّيت أيها الطللُ ... وإن عفتْك الرياح والسَّبَلُ )

( خليفةٌ لا يخيب سائلُه ... عليه تاجُ الوقار مُعْتَدل )

الشعر لأشجع أو لسلم الخاسر يمدح به موسى الهادي والغناء لإبن جامع ثقيل أول بالوسطى من رواية الهشامي وأحمد بن يحيى المكي

الرشيد يخبره بموت أمه كذبا ليحسن غناؤه

قال هارون وقد حدثني بهذا الخبر عبد الرحمن بن أيوب قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال كان ابن جامع أحسن ما يكون غناء إذا حزن صوته

فأحب الرشيد أن يسمع ذلك على تلك الحال فقال للفضل بن الربيع ابعث خريطة فيها نعي أم ابن جامع وكان بارا بأمه ففعل

فوردت الخريطة على أمير المؤمنين وهو في مجلس

 

لهوه فقال يابن جامع جاء في هذه الخريطة نعي أمك فاندفع ابن جامع يغني بتلك الحرقة والحزن الذي في قلبه

( كم بالدّروب وأرض السِّند من قدم ... ومن جماجم صرْعى ما بها قُبِروا )

( بقُنْدُهار ومن تُكتب منِيّته ... بقُنْدُهار يُرجَّم دونه الخبر )

قال فوالله ما ملكنا أنفسنا وأريت الغلمان يضربون برؤوسهم الحيطان والأساطين

قال هارون لا أشك أن ابن المكي قد حدث به عن رجل حضر ذلك فأغفله عبد الرحمن بن أيوب قال ثم غنى بعد ذلك

( يا صاحب القبر الغريب ... )

وهو لحن قديم وفيه لحن لإبن المكي فقال له الرشيد أحسنت وأمر له بعشرة آلاف دينار

نسبة هذا الصوت الأخير

صوت

( يا صاحب القبر الغريب ... بالشام في طرف الكثِيب )

( بالحِجْر بين صفائح ... صُمٍّ تُرصَّف بالجبُوب )

( رصْفا ولحدٍ مُمْكِنٍ ... تحت العجاجة في القليب )

 

( فإذا ذكرتُ أنينَهُ ... ومغيبَه تحت المغيب )

( هاجتْ لواعجُ عَبْرة ... في الصدر دائمة الدَّبيب )

( أسفاً لحسن بلائه ... ولمصرع الشيخ الغريب )

( أقبلتُ أطلبُ طِبَّه ... والموت يُعْضِل بالطبيب )

الشعر لمكين العذري يرثي أباه وقيل إنه لرجل خرج بإبنه إلى الشأم هربا به من جارية هويها فمات هناك

والغناء لحكم الوادي رمل في مجرى البنصر وقيل إن الشعر لسلامة ترثي الوليد بن يزيد

ابن جامع وأم جعفر

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني الحسن بن محمد قال حدثنا أحمد بن الخليل بن مالك قال حدثني عبد الله بن علي بن عيسى بن ماهان قال سمعت يزيد يحدث أن أم جعفر بلغها أن الرشيد جالس وحده ليس معه أحد من الندماء ولا المسامرين فأرسلت إليه يا أمير المؤمنين إني لم أرك منذ ثلاث وهذا اليوم الرابع

فأرسل إليها عندي ابن جامع فأرسلت إليه أنت تعلم أني لا أتهنأ بشرب ولا سماع ولا غيرهما إلا أن تشركني فيه فما كان عليك أن أشركك في الذي أنت فيه فأرسل إليها إني سائر إليك الساعة

ثم قام وأخذ بيد ابن جامع وقال لحسين الخادم امض إليها فأعلمها أني قد جئت وأقبل الرشيد فلما نظر

 

إلى الخدم والوصائف قد استقبلوه علم أنها قد قامت تستقبله فوجه إليها إن معي ابن جامع فعدلت إلى بعض المقاصير

وجاء الرشيد وصير ابن جامع في بعض المواضع التي يسمع منه فيها ولا يكون حاضرا معهم

وجاءت أم جعفر فدخلت على الرشيد وأهوت لتنكب على يده فأجلسها إلى جانبه فاعتنقها واعتنقته ثم أمر ابن جامع أن يغني فاندفع فغنى

صوت

( ما رَعَدَتْ رَعْدَةً ولا بَرَقتْ ... لكنّها أُنشئت لنا خلقه )

( الماء يجري على نظامٍ له ... لو يجِدُ الماءُ مخْرِقا خرقه )

( بتنا وباتتْ على نَمارقها ... حتى بدا الصبحُ عيْنُها أرقه )

( أنْ قيل إِنّ الرحيل بعد غدٍ ... والدارُ بعد الجميع مُفترِقه )

الشعر لعبيد بن الأبرص والغناء لإبن جامع ثاني ثقيل من أصوات قليلات الأشباه عن إسحاق

وفيه لإبن محرز ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة وذكر يونس أن فيه لحنا لمعبد ولم يجنسه

وفي لحكم هزج بالوسطى عن عمرو والهشامي ولمخارق في هذه الأبيات رمل بالبنصر عن الهشامي

وذكر حبش أن الثقيل الأول للغريض وذكر الهشامي أن لمتيم فيها ثاني ثقيل بالوسطى قال فقالت أم جعفر للرشيد ما أحسن ما اشتهيت والله يا أمير المؤمنين ثم قالت

 

لمسلم خادمها ادفع إلى ابن جامع لكل بيت مائة ألف درهم

فقال الرشيد غلبتنا يا بنت أبي الفضل وسبقتنا إلى بر ضيفنا وجليسنا فلما خرج حمل إليها مكان كل درهم دينارا

يشتري الصوت بثلاثة دراهم ويعوضها بثلاثة آلاف

أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال أخبرني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدثني محمد بن ضوين الصلصال التيمي قال حدثني إسماعيل بن جامع السهمي قال ضمني الدهر ضما شديدا بمكة فانتقلت منها بعيالي إلى المدينة فأصبحت يوما وما أملك إلا ثلاثة دراهم فهي في كمي إذا أنا بجارية حميراء على رقتبها جرة تريد الركي تسعى بين يدي وترنم بصوت شجي تقول

( شكونا إلى أحبابنا طولَ ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصرَ الليلَ عندنا )

( وذاك لأنّ النوم يَغْشَى عيونَهم ... سِراعاً وما يغشى لنا النومُ أَعْيُنا )

( إذا ما دنا الليلُ المُضِرّ لذي الهوى ... جَزِعْنا وهم يَستبشرون إذا دنا )

( فلو أنهم كانوا يلاقون مثلَ ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلَنا )

قال فأخذ الغناء بقلبي ولم يدر لي منه حرف فقلت يا جارية ما أدري أوجهك أحسن أم غناؤك فلو شئت أعدت قالت حبا وكرامة

ثم أسندت ظهرها إلى جدار قرب منها ورفعت إحدى رجليها فوضعتها على الأخرى ووضعت الجرة على ساقيها ثم انبعثت تغنيه فوالله ما دار لي منه حرف فقلت أحسنت فلو شئت أعدتيه مرة أخرى ففطنت وكلحت وقالت ما أعجب أمركم أحدكم لا يزال يجيء إلى الجارية عليها الضريبة فيشغلها فضربت بيدي إلى الثلاثة الدراهم فدفعتها إليها وقلت أقيمي بها وجهك اليوم إلى أن نلتقي قال فأخذتها

 

كالكارهة وقالت أنت الآن تريد أن تأخذ مني صوتا أحسبك ستأخذ به ألف دينار وألف دينار وألف دينار

قال وانبعثت تغني فأعملت فكري في غنائها حتى دار لي الصوت وفهمته وانصرفت مسرورا إلى منزلي أردده حتى خف على لساني ثم إني خرجت أريد بغداد فدخلتها فنزل بي المكاري على باب محول فبقيت لا أدري أين أتوجه ولا من أقصد فذهبت أمشي مع الناس حتى أتيت الجسر فعبرت معهم ثم انتهيت إلى شارع المدينة فرأيت مسجدا بالقرب من دار الفضل بن الربيع مرتفعا فقلت مسجد قوم سراة فدخلته وحضرت صلاة المغرب وأقمت بمكاني حتى صليت العشاء الأخرة على جوع وتعب

وانصرف أهل المسجد وبقي رجل يصلي خلفه جماعة خدم وخول ينتظرون فراغه فصلى مليا ثم انصرف فراني فقال أحسبك غريبا قلت أجل قال فمتى كنت في هذه المدينة قلت دخلتها آنفا وليس لي بها منزل ولا معرفة وليست صناعتي من الصنائع التي يمت بها إلى أهل الخير قال وما صناعتك قلت أتغنى قال فوثب مبادرا ووكل بي بعض من معه

فسألت الموكل بي عنه فقال هذا سلام الأبرش قال وإذا رسول قد جاء في طلبي فانتهى بي إلى قصر من قصور الخلافة وجاوز بي مقصورة إلى مقصورة ثم أدخلت مقصورة في آخر الدهليز ودعا بطعام فأتيت بمائدة عليها من طعام الملوك فأكلت حتى امتلأت فإني لكذلك إذ سمعت ركضا في الدهليز وقائلا يقول أين الرجل قيل هو هذا

قال ادعوا له بغسول وخلعة وطيب ففعل ذلك بي فحملت على دابة إلى دار

 

الخلافة وعرفتها بالحرس والتكبير والنيران فجاوزت مقاصير عدة حتى صرت إلى دار قوراء فيها أسرة في وسطها قد أضيف بعضها إلى بعض

فأمرني الرجل بالصعود فصعدت وإذا رجل جالس عن يمينه ثلاث جوار في حجورهن العيدان وفي حجر الرجل عود

فرحب الرجل بي وإذا مجالس حياله كان فيها قوم قد قاموا عنها فلم ألبث أن خرج خادم من وراء الستر فقال للرجل تغن فانبعث يغني بصوت لي وهو

( لم تَمْشِ مِيلاً ولم تركب على قَتَب ... ولم تَرَ الشمسَ إلا دونها الكِلَلُ )

( تمشي الهُوَيْنَى كأن الريح تَرْجِعها ... مَشْيَ اليَعافير في جيآتها الوَهَلُ )

فغنى بغير إصابة وأوتار مختلفة ودساتين مختلفة ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تلي الرجل فقال لها تغني فغنت أيضا بصوت لي كانت فيه أحسن حالا من الرجل وهو قوله

 

( يا دار أَضحتْ خلاءً لا أنيسَ بها ... إلا الظباءُ وإلا النّاشط الفَرِدُ )

( أين الذين إذا ما زرتُهم جَذِلوا ... وطار عن قلبيَ التَّشْواق والكَمَد )

ثم عاد إلى الثانية وأحسبه أغفلها وما تغنت به ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تليها فانبعثت تغني بصوت الحكم الوادي وهو

( فوالله ما أدري أيَغلبني الهوَى ... إذا جدّ وَشْكُ البَيْن أم أنا غالبُهْ )

( فإن أستطع أغِلبْ وإن يغلب الهوى ... فمثلُ الذي لاقيتُ يُغْلَب صاحبه )

قال ثم عاد الخادم إلى الجارية الثالثة فغنت بصوت لحنين وهو قوله

( مَرَرْنا على قَيْسيّة عامريّة ... لها بَشَرٌ صافي الأديم هِجانِ )

( فقالت وألقتْ جانبَ السِّتر دونها ... مِنَ آيّة أرض أو مَنِ الرجلان )

( فقلتُ لها أَمّا تميم فأُسرتي ... هُديتِ وأما صاحبي فيمَان )

( رفيقان ضَمّ السَّفْرُ بيني وبينه ... وقد يَلْتَقِي الشتَّى فيأتلفان )

ثم عاد إلى الرجل فغنى صوتا فشبه فيه والشعر لعمر بن أبي ربيعة وهو قوله

( أَمسى بأسماء هذا القلبُ معمودَا ... إذا أقول صحا يعتاده عِيدَا )

( كأنّ أحورَ من غِزْلان ذي بَقَر ... أَعارها شَبَهَ العينين والجيدا )

( بمُشْرِقٍ كشُعاع الشمس بهجتُه ... ومُسْبَكِرٍّ على لَبّاتها سودا )

 

ثم عاد إلى الجارية فتغنت بصوت لحكم الوادي

( تُعيِّرنا أنّا قليلٌ عَدِيدُنا ... فقلتُ لها إن الكرم قليلُ )

( وما ضَرّنا أنّا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجارُ الأكثرين ذليل )

( وإنّا لقومٌ ما نرى القتلَ سُبَّةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسَلول )

( يُقرّب حبُّ الموت آجالَنا لنا ... وتَكرهه آجالُهم فتطول )

وتغنت الثانية

( وَدِدْتُكِ لما كان ودُكُّ خالصاً ... وأعرضتُ لما صِرْتِ نهباً مُقَسَّمَا )

( ولا يَلبث الحوضُ الجديدُ بناؤُه ... إذا كَثُر الوُرّاد أن يَتهدّما )

وتغنت الثالثة بشعر الخنساء

( وما كَرّ إلا كان أوّلَ طاعنٍ ... ولا أبصرتْه الخيلُ إلا اقشعرّتِ )

( فيُدرك ثأراً وهو لم يُخْطِه الغنى ... فمثلُ أخي يوماً به العين قَرّت )

( فلستُ أُرَزَّا بعده برزيّة ... فأذكرَه إلا سَلَتْ وتجلّت )

وغنى الرجل في الدور الثالث

( لَحَى الله صُعلوكاً مُناه وهمّه ... من الدهر أن يلقى لَبُوساً ومطعماَ )

 

( ينام الضحى حتى إذا ليلُه انتهى ... تنبه مثلوج الفؤاد مُورّما )

( ولكنّ صعلوكا يساور همّه ... ويمضي على الهيجاء ليثا مقدّما )

( فذلك إن يلْق الكريهة يلْقها ... كريما وإن يستغن يوما فربّما )

قال وتغنت الجارية

( إذا كنت ربّا للقلوص فلا يكن ... رفيقُك يمشي خلفها غير راكب )

( أنِخْها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العِقابُ فعاقِب )

قال وتغنت الجارية بشعر عمرو بن معد يكرب

( ألم تر لمّا ضمّني البلدُ القفْرُ ... سمعتُ نداء يصدع القلب يا عمرو )

( اغِثْنا فإنا عُصْبة مذْحِجيّة ... نُزار على وفْر وليس لنا وفْر )

قال وتغنت الثالثة بشعر عمر بن أبي ربيعة

( فلما تواقفْنا وسلّمتُ اسْفرتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنُ أن تنقنعا )

( تبالهْن بالعرفان لمّا عرفْنني ... وقُلْن امرؤٌ باغ اكلّ وأوْضعا )

( ولما تنازعن الأحاديث قُلْن لي ... أخِفْت علينا أن نُغرّ ونُخدّعا )

 

قال وتوقعت مجيء الخادم إلي فقلت للرجل بأبي أنت خذ العود فشد وتر كذا وارفع الطبقة وحط دستان كذ ففعل ما أمرته

وخرج الخادم فقال لي تغن عافاك الله فتغنيت بصوت الرجل الأول على غير ما غناه فإذا جماعة من الخدم يحضرون حتى استندوا إلى الأسرة وقالوا ويحك لمن هذا الغناء قلت لي فانصرفوا عني بتلك السرعة وخرج إلي الخادم وقال كذبت هذا الغناء لإبن جامع

ودار الدور فلما انتهى الغناء إلي قلت للجارية التي تلي الرجل خذي العود فعلمت ما أريد فسوت العود على غنائها للصوت الثاني فتغنيت به

فخرجت إلي الجماعة الأولى من الخدم فقالوا ويحك لمن هذا قلت لي فرجعوا وخرج الخادم فتغنيت بصوت لي فلا يعرف إلا بي وسقوني فتزيدت وهو

( عُوجي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... فيمَ الصدود وأنتُم سَفْرُ )

( ما نلتقي إلا ثلاثَ مِنىً ... حتى يُفرّق بيننا الدهر )

قال فتزلزلت والله الدار عليهم وخرج الخادم فقال ويحك لمن هذا الغناء قلت لي فرجع ثم خرج فقال كذبت هذا غناء ابن جامع فقلت فأنا إسماعيل بن جامع

فما شعرت إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم

فقال لي الفضل بن الربيع هذا أمير المؤمنين قد أقبل إليك فلما صعد السرير وثبت قائما فقال لي أبن جامع قلت ابن جامع جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين قال ويحك متى كنت في هذه البلدة قلت آنفا دخلتها في الوقت الذي علم بي أمير المؤمنين

قال اجلس ويحك يابن جامع ومضى هو وجعفر فجلسا في بعض تلك المجالس وقال لي أبشر وابسط أملك فدعوت له ثم قال غنني يابن جامع

فخطر بقلبي صوت الجارية الحميراء فأمرت الرجل بإصلاح العود على ما أردت من الطبقة فعرف ما أردت فوزن العود وزنا وتعاهده حتى استقامت الأوتار وأخذت الدساتين مواضعها وانبعثت أغني بصوت الجارية الحميراء فنظر الرشيد إلى جعفر وقال

 

أسمعت كذا قط فقال لا والله ما خرق مسامعي قط مثله

فرفع الرشيد رأسه إلى خادم بالقرب منه فدعا بكيس فيه ألف دينار فجاء به فرمى به إلي فصيرته تحت فخذي ودعوت لأمير المؤمنين فقال يابن جامع رد على أمير المؤمنين هذا الصوت فرددته وتزيدت فيه

فقال له جعفر يا سيدي أما تراه كيف يتزيد في الغناء هذا خلاف ما سمعناه أولا وإن كان الأمر في اللحن واحدا

قال فرفع الرشيد رأسه إلى ذلك الخادم فدعا بكيس آخر فيه ألف دينار فجاءني به فصيرته تحت فخذي

وقال تغن يا إسماعيل ما حضرك فجعلت أقصد الصوت بعد الصوت مما كان يبلغني أنه يشتري عليه الجواري فأغنيه فلم أزل أفعل ذلك إلى أن عسعس الليل فقال أتعبناك يا إسماعيل هذه الليلة بغنائك فاعد على أمير المؤمنين الصوت يعني صوت الجارية فتغنيت

فدعا الخادم وأمره فأحضر كيسا ثالثا فيه ألف دينار قال فذكرت ما كانت الجارية قالت لي فتبسمت ولحظني فقال يابن الفاعلة مم تبسمت فجثوت على ركبتي وقلت يا أمير المؤمنين الصدق منجاة فقال لي بانتهار قل فقصصت عليه خبر الجارية

فلما استوعبه قال صدقت قد يكون هذا وقام ونزلت من السرير ولا أدري أين أقصد فابتدرني فراشان فصارا بي إلى دار قد أمر بها أمير المؤمنين ففرشت وأعد فيها جميع ما يكون في مثلها من ألة جلساء الملوك وندمائهم من الخدم ومن كل ألة وخول إلى جوار ووصفاء فدخلتها فقيرا وأصبحت من جلة أهلها ومياسيرهم

وذكر لي هذا الخبر عبد الله بن الربيع عن أبي حفص الشيباني عن محمد بن القاسم عن إسماعيل بن جامع قال ضمني الدهر بمكة ضما شديدا فانتقلت إلى المدينة فبينا أنا يوما جالس مع بعض أهلها نتحدث إذ قال لي رجل حضرنا والله لقد بلغنا يابن جامع أن

 

الخليفة قد ذكرك وأنت في هذا البلد ضائع فقلت والله ما بي نهوض

قال بعضهم فنحن ننهضك فاحتلت في شيء وشخصت إلى العراق فقدمت بغداد ونزلت عن بغل كنت أكتريته

ثم ذكر باقي الحديث نحو الذي قبله في المعاني ولم يذكر خبر السوداء التي أخذ الصوت عنها

وأحسبه غلط في إدخاله هذه الحكاية ها هنا ولتلك خبر آخر نذكره ها هنا

قال في هذا الخبر إن الدور دار مرة أخرى حتى صار إلي فخرج الخادم فقال غن أيها الرجل فقلت ما أنتظر الآن ثم اندفعت أغني بصوت لي وهو

( فلو كان لي قلبان عِشْتُ بواحد ... وخَلّفْتُ قلباً في هواكِ يُعذَّبُ )

( ولكنما أحيا بقلب مُروَّع ... فلا العيشُ يصفوا لي ولا الموتُ يقرُب )

( تعلّمت أسبابَ الرضا خوفَ سُخْطها ... وعلمها حبّي لها كيف تغضب )

( ولي ألف وجهٍ قد عرفتُ مكانه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب )

فخرج الرشيد حينئذ

نسبة ما في هذه الأصوات من الأغاني

صوت

( شكونا إلى أحبابنا طولَ ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليلَ عندنا )

( وذاك لأنّ النومَ يَغْشى عيونَهم ... سِراعاً وما يغشى لنا النومُ أعينَا )

( إذا ما دنا الليلُ المضرّ بذي الهوى ... جَزِعْنا وهم يستبشرون إذا دنا )

( فلو أنهم كانوا يُلاقون مثلَ ما ... نُلاقي لكانوا في المضاجع مثلَنا )

عروضه من الطويل وذكر الهشامي أن الغناء لإبن جامع هزج بالوسطى وفي

 

الخبر أنه أخذه عن سوداء لقيها بمكة ومنها

صوت

( يا دار أضحت خلاءً لا أنيسَ بها ... إلا الظباءُ وإلا النّاشط الفَرِدُ )

( أين الذين إذا مازرتُهم جذِلوا ... وطار عن قلبي التشواق والكمد )

في هذا الصوت لحن لإبن سريج خفيف ثقيل أول بالوسطى من رواية حبش ولحن ابن جامع رمل ومنها

صوت

( لم تَمْشِ مِيلاً ولم تركب على جمَل ... ولم تَرَ الشمسَ إلا دونها الكِلَلُ )

( أقول للركب في دُرْنا وقد ثَمِلوا ... شِيموا وكيف يَشيم الشارب الثَّمِل )

الشعر للأعشى والغناء لإبن سريج رمل بالبنصر وقد كتب فيما يغني فيه من قصيدة الأعشى التي أولها

( وَدِّعْ هْرَيْرَة إن الركبَ مُرْتحلُ ... )

ومنها

صوت

( مَرَرْنا على قَيْسيّةٍ عامريّةٍ ... لها بَشَرٌ صافي الأديم هِجانِ )

 

( فقالت وألقت جانبَ السترِ دونها ... مِنَ آيّة أرض أو مَنِ الرجلان )

( فقلت لها أمّا تميمٌ فأسرتي ... هُديتِ وأمّا صاحبي فيماني )

( رفيقان ضمّ السَّفْرُ بيني وبينه ... وقد يَلْتقي الشتّى فيأتلفان )

غناه ابن سريج خفيف رمل بالبنصر ومنها

صوت

( أمسى بأسماءَ هذا القلبُ معمودَا ... إذا أقول صحا يعتاده عِيدَا )

( أَجْرِي على موعد منها فتُخلفني ... فما أَمَلّ ولا تُوفي المواعيدا )

( كأنني حين أُمْسِي لا تكلّمني ... ذو بِغيْة يَبتغي ما ليس موجودا )

الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى وله فيه ثقيل أول بالبنصر وذكر عمرو بن بانة أن لمعبد فيه ثقيلا أول بالوسطى على مذهب إسحاق ومنها

صوت

( فوالله ما أدري أيغلِبني الهوى ... إذا جدّ وَشْكُ البين أم أنا غالبُهْ )

( فإِن أستطع أغلِبْ وإن يَغْلِبِ الهوى ... فمثلُ الذي لاقيتُ يُغْلَب صاحبه )

عروضه من الطويل الشعر لإبن ميادة والغناء للحجبي خفيف ثقيل بالبنصر من رواية حبش

ومنها

صوت

( تُعيِّرنا أنا قليلٌ عديدُنا ... فقلتُ لها إنّ الكرام قليلُ )

 

( وما ضَرّنا أنّا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجارُ الأكثرين ذليلُ )

( وإنّا لقومٌ ما نرى القتلَ سُبّةً ... إذا ما رأتْه عامرٌ وسَلُول )

( يقرِّب حبُّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالُهم فتطول )

عروضه من مقبوض الطويل والشعر للسموءل بن عادياء اليهودي والغناء لحكم الوادي

ومنها

صوت

( وَدِدْتُكِ لمّا كان ودّكِ خالصا ... وأعرضتُ لما صار نَهْباً مقسَّمَا )

( ولن يلبَثَ الحوضُ الجديد بناؤه ... على كثرة الوّاربد أن يتهدّما )

عروضه من الطويل وفيه خفيف ثقيل قديم لأهل مكة وفيه لعريب ثقيل أول ومنها

صوت

( وما كَرّ إلاّ كان أوّلَ طاعن ... ولا أبصرتْه الخيلُ إلا اقشعرّتِ )

( فيُدرك ثأراً ثم لم يُخْطِه الغِنى ... فمثلُ أخي يوماً به العين قرّت )

( فإِن طلبوا وِتراً بَدَا بِتراتهم ... ويَصبر يحميهم إذا الخيل وَلّت )

 

عروضه من الطويل الشعر للخنساء والغناء لإبن سريج ثقيل أول بالبنصر وذكر علي بن يحيى أنه لمعبد في هذه الطريقة ومنها

صوت

( لحا الله صُعلوكاً مُناه وهَمُّه ... من الدهر أن يلقَى لَبوساً ومَطْعما )

( ينام الضحى حتى إذا ليلهُ انتهى ... تنبّه مثلوجَ الفؤاد مُوَرَّما )

( ولكن صعلوكاً يُساور هَمَّه ... ويَمضي على الهَيْجاء ليثاً مصمِّما )

( فذلك إن يلقَ الكريهةَ يلقَها ... كريماً وإن يَستغن يوماً فربَّما )

عروضه من الطويل الشعر يقال إنه لعروة بن الورد ويقال إنه لحاتم الطائي وهو الصحيح والغناء لطويس خفيف رمل بالبنصر ومنها

 

صوت

( إذا كنتَ ربّاً للقَلوص فلا يكن ... رفيقُك يَمْشي خلفَها غيرَ راكبِ )

( أنِخْها فأَردفه فإِنْ حملتْكما ... فذاك وإن كان العِقاب فعاقب )

عروضه من الطويل والشعر لحاتم طيء ومنها

صوت

( ألم تَرَ لمّا ضَمّني البلد القَفْرُ ... سمعتُ نداءً يصدع القلبَ يا عمروُ )

( أغِثنا فإِنا عُصْبة مَذْحِجيّة ... نُزار على وَفْر وليس لنا وَفْر )

عروضه من الطويل الشعر لعمرو بن معد يكرب والغناء لحنين رمل بالوسطى عن حبش ومنها

صوت

( فلما تواقفْنا وسلّمتُ أقبلتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنُ أن تتقنّعا )

( تَبالَهْنَ بالعِرفان لما رأيْنَني ... وقُلْنَ امرؤ باغٍ أَكَلّ وأَوْضعا )

( ولما تَنازعن الأحاديثَ قلن لي ... أخِفْتَ علينا أن نُغَرّ ونُخْدَعَا )

( وقرّبن أسبابَ الهوى لمتيَّم ... يَقيس ذراعاً كلما قِسْن إصبعا )

عروضه من الطويل الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لإبن سريج والغريض ومالك ومعبد وابن جامع في عدة ألحان قد كتبت مع الخبر في موضع غير هذا ومنها

صوت

( عُوجي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... فيم الصدودُ وأنتم سَفْرُ )

 

( ما نلتقِي إلا ثلاث مِنىً ... حتى يفرِّق بيننا النَّفْر )

( الحول ثم الحول يتبعه ... ما الدهر إلا الحول والشهر )

الشر للعرجي والغناء للأبجر ثقيل أول عن الهشامي ويقال إنه لإبن محرز ويقال بل لحنه فيه غير لحن الأبجر وفيه رمل يقال إنه لإبن جامع وهو القول الصحيح وذكر حبش أنه لإبن سريج وأن لحن ابن جامع خفيف رمل ومنها

صوت

( فلو كان لي قلبان عشتُ بواحد ... وخلّفتُ قلباً في هواك يعذَّبُ )

( ولكنما أَحيا بقلب مروّع ... فلا العيش يصفو لي ولا الموت يقرُب )

( تعلّمتُ أسباب الرِّضا خوفَ هجرها ... وعلّمها حبي لها كيف تعضب )

( ولي ألف وجه قد عرفت مكانَه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب )

عروضه من الطويل الشعر لعمرو الوراق والغناء لإبن جامع خفيف

 

رمل ويقال إنه لعبد الله بن العباس

وفيه لعريب ثقيل أول وفيه لرذاذ خفيف ثقيل وفيه هزج يقال إنه لعريب ويقال إنه لنمرة ويقال إنه لأبي فارة ويقال إنه لإبن جامع

حدثني مصعب الزبيري قال قدم علينا ابن جامع المدينة قدمة في أيام الرشيد فسمعته يوما يغني في بعض بساتين المدينة

( وماليَ لا أبكي وأندبُ ناقتي ... إذا صَدَر الرُّعيانُ وِردَ المناهلِ )

( وكنتُ إذا ما اشتدّ شوقي رَحَلْتُها ... فسارت بمحزون كثير البَلابل )

وكان رجلا صيتا فكاد صوته يذهب بي كل مذهب وما سمعت قبله ولا بعده مثله

نسبة هذا الصوت

صوت

( ومالي لا أبكي وأندبُ ناقتي ... إذا صَدَر الرُّعيانُ وِرْدَ المناهلِ )

( وكنت إذا ما اشتدّ شوقي رحلتها ... فسارتْ بمحزون كثير البلابل )

الغناء لإبن جامع خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن الهشامي وابن المكي

أخبرني وكيع قال حدثني هارون بن محمد الزيات قال حدثني حماد بن

 

إسحاق عن أبيه عن الفضل بن الربيع عن أبيه قال كنت في خمسين وصيفا أهدوا للمنصور ففرقنا في خدمته فصرت إلى ياسر صاحب وضوئه

فكنت أراه يفعل شيئا أعلم أنه خطأ يعطيه الإبريق في آخر المستراح ويقف مكانه لا يبرح

وقال لي يوما كن مكاني في آخر المستراح فكنت أعطيه الإبريق وأخرج مبادرا فإذا سمعت حركته بادرت إليه

فقال لي ما أخفك على قلبي يا غلام ويحك ثم دخل قصرا من تلك القصور فرأى حيطانه مملوءة من الشعر المكتوب عليها

فبينا هو يقرأ ما فيه إذا هو بكتاب مفرد فقرأه فإذا هو

( وماليَ لا أبكي وأندُب ناقتي ... إذا صدَر الرّعيانُ نحَو المنَاهِلِ )

( وكنتُ إذا ما اشتدّ شوقي رَحَلْتُها ... فسارتْ بمحزون طويل البلابل )

وتحته مكتوب آه آه فلم يدر ما هو وفطنت له فقلت يا أمير المؤمنين قد عرفت ما هو فقال قل فقلت قال الشعر ثم تأوه فقال آه آه فكتب تأوهه وتنفسه وتأسفه فقال مالك قاتلك الله قد أعتقتك ووليتك مكان ياسر

ذكر أخبار هذه الأصوات المتفرقة في الأخبار وإنما افردتها عنها لئلا

تنقطع

خبر

( أمسىَ بأسماءَ هذا القلبُ مَعْمودَا ... )

أخبرني الحسين بن يحيى قال حماد قرأت على أبي وذكر جعفر بن سعيد عن عبد الرحمن بن سليمان المكي قال حدثني المخزومي يعني الحارث بن خالد قال بلغني أن الغريض خرج مع نسوة من أهل مكة من أهل الشرف ليلا إلى

 

بعض المتحدثات من نواحي مكة وكانت ليلة مقمرة فاشتقت إليهن وإلى مجالستهن وإلى حديثهن وخفت على نفسي لجناية كنت أطالب بها وكان عمر مهيبا معظما لا يقدم عليه سلطان ولا غيره وكان مني قريبا فأتيته فقلت له إن فلانة وفلانة وفلانة حتى سميتهن كلهن قد بعثنني وهن يقرأن عليك السلام وقلن تشوقن إليك في ليلتنا هذه لصوت أنشدناه فويسقك الغريض وكان الغريض يغني هذا الصوت فيجيده وكان ابن أبي ربيعة به معجبا وكان كثيرا ما يسأل الغريض أن يغنيه وهو قوله

( أَمْسى بأسماءَ هذا القلبُ مَعْمودَا ... إذا أقول صَحا يعتاده عِيدَا )

( كأنّ أحورَ من غِزّلان ذي نفر ... أَهْدي لها شَبَه العينين والجِيدا )

( قامت تراءَى وقد جدّ الرحيلُ بنا ... لتنكأَ القرح من قلب قد اصطيدا ) (

كأنني يومَ أمسي لا تكلّمني ... ذو بِغْية يبتغي ما ليس مَوْجودا )

( أجري على موعد منها فتُخلفني ... فما أَمَلُّ وما تُوفي المواعيدا )

( قد طال مَطْلي لوَ أنّ اليأسَ يَنْفعني ... أَوْ أن أُصادِفَ من تِلْقائها جُودا )

( فليس تَبْذُل لي عفواً وأُكرمُها ... من أن ترى عندنا في الحرص تشديدا )

فلما أخبرته الخبر قال لقد أزعجتني في وقت كانت الدعة أحب فيه إلي ولكن صوت الغريض وحديث النسوة ليس له مترك ولا عنه محيص

فدعا بثيابه فلبسها وقال امض فمضينا نمشي العجل حتى قربنا منهن فقال لي عمر خفض عليك مشيك ففعلت حتى وقفنا عليهن وهن في أطيب حديث وأحسن مجلس فسلمنا فتهيبننا وتخفرن منا

فقال الغريض لا عليكن هذا ابن أبي ربيعة والحارث بن خالد جاءا متشوقين إلى حديثكن وغنائي

فقالت فلانة

 

وعليك السلام يا بن أبي ربيعة والله ما تم مجلسنا إلا بك فجلسنا غير بعيد وأخذن عليهن جلابيهن وتقنعن بأخمرتهن وأقبلن علينا بوجوههن وقلن لعمر كيف أحسست بنا وقد أخفينا أمرنا فقال هذا الفاسق جاءني برسالتكن وكنت وقيذا من علة وجدتها فأسرعت الإجابة ورجوت منكن على ذلك حسن الإثابة

فرددن عليه قد وجب أجرك ولم يخب سعيك ووافق منا الحارث إرادة فحدثهن بما قلت له من قصة غناء الغريض فقال النسوة والله ما كان ذلك كذلك ولقد نبهتنا على

صوت

حسن يا غريض هاته فاندفع الغريض يغني ويقول

( أمسى بأسْماء هذا القلبُ مَعْمودَا ... إذا أقولُ صَحا يَعْتاده عِيدَا )

حتى أتى على الشعر كله إلى آخره فكل استحسنه

وأقبل علي ابن أبي ربيعة فجزاني الخير وكذلك النسوة فلم نزل بأنعم ليلة وأطيبها حتى بدأ القمر يغيب فقمنا جيمعا وأخذ النسوة طريقا ونحن طريقا وأخذ الغريض معنا

وقال عمر في ذلك

صوت

( هل عند رَسْم برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياء تَنتظرُ )

( قد ذكَّرتْني الديارُ إذ دَرَستْ ... والشوقُ ممّا يَهِيجه الذِّكَر )

( مَمْشَى رسولٍ إليّ يُخْبرني ... عنهم عِشاءً ببعض ما ائتمروا )

( ومجلسَ النِّسوة الثلاث لدى الْخَيْمات ... حتى تَبلَّج السَّحَر )

( فيهنّ هِنْدٌ والهَمُّ ذكْرتُها ... تلك التي لا يُرى لها خَطَر )

 

( ثم انطلقنا وعندنا ولنا ... فيهنّ لو طال ليلُنا وطر )

( وقولَها للفتاة إذ أزِف البينُ ... أغادٍ أم رائحُ عُمَر )

( عَجْلانَ لم يَقْضِ بعضَ حاجته ... هلا تأنَّى يوماً فينتظرُ )

( اللهُ جارٌ له وإن نَزَحَتْ ... دارٌ به أو بدا له سفر )

غناه الغريض ثقيلا أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وفيه لإبن سريج رمل بالوسطى وفيه لعبد الرحيم الدفاف ثقيل أول بالبنصر في البيتين الأولين وبعدهما

( هل من رَسول إليّ يُخبرني ... بعد عشاءٍ ببعض ما ائتمروا )

( يومَ ظَلِلْنا وعندنا ولنا ... فيهنّ لو طال يومُنا وَطَرُ )

فلما كانت الليلة القابلة بعث إلي عمر فأتيته وإذا الغريض عنده فقال له عمر هات فاندفع يغني

( هل عند رَسْمٍ برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياءِ تنتظرُ )

( ومجلسَ النّسوة الثلاثِ لدى الْخيمات ... حتى تبلّج السحر )

فقلت في نفسي هذا والله صفة ما كنا فيه فسكت حتى فرغ الغريض من الشعر كله فقلت يا أبا الخطاب جعلت فداك هذا والله صفة ما كنا فيه البارحة مع النسوة فقال إن ذلك ليقال

وذكر أحمد بن الحارث عن المدائني عن علي بن مجاهد قال إن موسى بن مصعب كان على الموصل فاستعمل رجلا من أهل حران

 

على كورة باهذرا وهي أجل كور الموصل فابطأ عليه الخراج فكتب إليه

( هل عند رسمٍ برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياء تنتظرُ )

احمل ما عندك يا ماص بظر أمه وإلا فقد أمرت رسولي بشدك وثاقا ويأتي بك

فخرج الرجل وأخذ ما كان معه من الخراج فلحق بحران وكتب إليه يا عاض بظر أمه إلي تكتب بمثل هذا

( وإذا أهلُ بلدةٍ أنكروني ... عرفتْني الدَّوِّيّة المَلْساء )

فلما قرأ موسى كتابه ضحك وقال أحسن يعلم الله الجواب ولا والله لا أطلبه أبدا وفي غير هذه الرواية أنه كتب إليه في آخر رقعة

( إن الخليط الأُولى تهوىَ قد أئتمروا ... للبَيْن ثم أجَدّوا السيرَ فانشمروا )

يا بن الزانية والسلام ثم هرب فلم يطلبه

أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد قال قال أبي غناني رجل من أهل المدينة لحن الغريض

( هل عند رَسْمٍ برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياء تنتظرُ )

فسألته أن يلقيه علي فقال لا إلا بألف درهم فلم أسمح له بذلك ومضى فلم ألقه

فوالله يا بني ما ندمت على شيء قط ندمي على ذلك ولوددت أني وجدته الآن فأخذته منه كما سمعته وأخذ مني ألف دينار مكان الألف درهم

 

خبر

( تُعيّرنا أنّا قليلُ عديدُنا ... )

الشعر لشريح بن السموءل بن عادياء ويقال إن للسموءل وكان من يهود يثرب وهو الذي يضرب به المثل في الوفاء فيقال أوفي في السموءل

وكان السبب في ذلك فيما ذكر ابن الكلبي وأبو عبيدة وحدثني به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن السائب الكلبي قال

وفاء السموءل

كان امرؤ القيس بن حجر أودع السموءل بن عادياء أدراعا فأتاه الحارث بن ظالم ويقال الحارث بن أبي شمر الغساني ليأخذها منه فتحصن منه السموءل فأخذ ابنا له غلاما وناداه إما أن تسلم الأدراع وإما أن قتلت ابنك فأبى السموءل أن يسلم الأدراع إليه فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه أثنين فقال السموءل

( وفَيْتُ بأَدْرُع الكْندِيّ إِنِّي ... إذا ما خان أقوامٌ وَفيْتُ )

( وأوصى عادِياً يوماً بألاّ ... تُهدِّمَ يا سموءلُ ما بنيتُ )

( بَنَى لي عادِياً حصناً حصيناً ... وماءً كلّما شئتُ استقيتُ )

وفي هذه القصيدة يقول

صوت

( أعاذِلتي أَلاَ لا تَعذُلِيني ... فكَمْ مِنْ أَمْر عاذلةٍ عَصَيْتُ )

 

( دَعيني وارْشُدِي إن كنتُ أَغْوَى ... ولا تَغْوَيْ زعمت كما غَويْتُ )

( أعاذَل قد طلبتِ اللّومَ حتى ... لَوَ أني مُنْتَهٍ لقد انتهيتُ )

( وصفراءِ المعاصم قد دَعَتني ... إلى وَصْلِ فقلتُ لها أَبَيْتُ )

( وزِقٍّ قد جَرَرْتُ إلى النَّدامَى ... وزقٍّ قد شربتُ وقد سقيتُ )

( وحتى لو يكون فتى أُناسٍ ... بكى من عذل عاذلة بكيتُ )

عروضه من الوافر والشعر للسموءل بن عادياء والغناء لإبن محرز في الأول والثاني والرابع والخامس خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى

وغنى فيها مالك خفيف ثقيل بالبنصر في الأول والثاني وغنى دحمان ايضا في الأول والثاني والرابع والخامس رملا بالوسطى

وغنى عبد الرحيم الدفاف في الأول والثاني رملا بالبنصر وفي هذه الأبيات لإبن سريج لحن في الرابع وما بعده ثم في سائر الأبيات لحن ذكره يونس ولم ينسبه ولإبراهيم الموصلي فيها لحن غير منسوب أيضا

حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني سليمان بن ابي شيخ قال حدثنا يحيى بن سعيد الأموي قال حدثني محمد بن السائب الكلبي قال هجا الأعشى رجلا من كلب فقال

( بنو الشهرِ الحرامِ فلستَ منهم ... ولست من الكرام بني عُبَيْدِ )

( ولا من رهط جبّار بن قُرْط ... ولا من رهط حارثةَ بن زيد )

قال وهؤلاء كلهم من كلب فقال الكلبي أنا لا أبالك أشرف من هؤلاء قال فسبه الناس بعد بهجاء الأعشى وكان متغيظا عليه

فأغار الكلبي على قوم قد بات بهم الأعشى فأسر منهم نفرا وأسرا الأعشى وهو لا يعرفه فجاء حتى نزل بشريح بن السموءل بن عادياء الغساني صاحب تيماء بحصنه الذي يقال

 

له الأبلق فمر شريح بالأعشى فنادى به الأعشى بقوله

( شُرَيْحُ لا تَتْرُكَنِّي بعد ما عَلِقتْ ... حبالَك اليومَ بعد القِدّ أظفارِي )

( قد جُلْتُ ما بين بانِقيا إلى عَدَنٍ ... فطال في العُجْم تَرْدادي وتَسيْاري )

( فكان أكرمَهم عهداً وأوثقَهم ... عَقْدا أبوك بُعرف غير إنكار )

( كالغيث ما استمطروه جادَ وابلُهْ ... وفي الشدائد كالمستأسِد الضَّاري )

( كُنْ كالسموءل إذ طاف الهمامُ به ... في جَحْفَل كسواد الليل جَرَّار )

( إذ سامه خُطَّتَيْ خَسْفٍ فقال له ... قُلْ ما تشاء فإِنيّ سامعٌ حار )

( فقال غدْرٌ وثُكْلٌ أنت بينهما ... فأختَرْ وما فيهما حظٌّ لمختار )

( فشكَّ غيرَ طويلٍ ثم قال له ... أُقْتُل أسيرَك إني مانعٌ جاري )

( وسوف يُعْقِبُنيه إن ظفِرتَ به ... ربٌّ كريمٌ وبيضٌ ذاتُ أطهار )

( لاسِرُّهنّ لدينا ذاهبٌ هَدَراً ... وحافظات إذا استُوْدِعن أسراري )

( فاختار أدراعه كي لا يُسَبَّ بها ... ولم يكن وعدهُ فيها بَختَّار )

قال فجاء شريح إلى الكلبي فقال له هب لي هذا الأسير المضرور فقال هو لك فأطلقه وقال له أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك فقال له الأعشى إن من تمام صنيعك إلي أن تعطيني ناقة ناجية وتخليني الساعة قال فأعطاه ناقة

 

فركبها ومضى من ساعته وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى فأرسل إلى شريح ابعث إلي بالأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه فقال قد مضى فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه

وأما خبر

( وما كرّ إلا كان أوّلَ طاعنٍ ... )

والشعر للخنساء فإنه خبر يطول لذكر ما فيه من الوقائع وهو يأتي فيما بعد هذا مفردا عن المائة الصوت المختارة في أخبار الخنساء

رجع الخبر إلى قصة ابن جامع

وأما خبر الجارية التي أخذ عنها ابن جامع الصوت وما حكيناه من أنه وقع في حكاية محمد بن ضوين الصلصال فيها خطأ فأخبرنا بخبرها الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي محمد العامري قال حدثني عكاشة اليزيدي بجرجان قال حدثني إسماعيل بن جامع قال بينا أنا في غرفة لي باليمن وأنا مشرف على مشرعة إذ أقبلت أمة سوداء على ظهرها قربة فملأتها ووضعتها على المشرعة لتستريح وجلست فغنت

صوت

( فَرُدّي مُصابَ القلب أنتِ قَتَلتِه ... ولا تُبْعِدي فيما تجشّمتِ كُلْثُمَا )

ويروى ولا تتركيه هائم القلب مغرما

( إلى الله أشكو بخلّها وسماحتي ... لها عسلٌ منّي وتبذُل عَلْقَما )

 

( أبى اللهُ أن أُمسي ولا تذكُرينَني ... وعَيْناي من ذكراك قد ذَرَفَتْ دَمَا )

( أَبيتُ فما تَنفَكّ لي منكِ حاجةٌ ... رمي الله بالحبّ الذي كان أظْلَما )

غناه سياط ثقيل أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمر بن بانة قال ثم أخذت قربتها لتمضي

فاستفزني من شهوة الصوت ما لا قوام لي به فنزلت إليها فقلت لها أعيديه فقالت أنا عنك في شغل بخراجي قلت وكم هو قالت درهمان في كل يوم قلت فهذان درهمان ورديه علي حتى آخذه منك وأعطيتها درهمين فقالت أما الآن فنعم

فجلست فلم تبرح حتى أخذته منها وانصرفت فلهوت يومي به وأصحبت من غد لا أذكر منه حرفا فإذا أنا بالسوداء قد طلعت ففعلت كفعلها بالأمس

فلما وضعت القربة تغنت غيره فعدوت في أثرها وقلت يا جارية بحقي عليك ردي علي الصوت فقد ذهبت عني منه نغمة

فقالت لا والله ما مثلك تذهب عنه نغمة أنت تقيس أوله على آخره ولكنك قد أنسيته ولست أفعل إلا بدرهمين آخرين فدفعتهما إليها وأعادته علي حتى أخذته ثانية

ثم قالت إنك تستكثر فيه أربعة دراهم وكأني بك قد أصبت به أربعة آلاف دينار فكنت عند هارون يوما وهو على سريره فقال من غناني فأطربني فله ألف دينار وقدامه أكياس في كل كيس ألف دينار

فغنى القوم وغنيت فلم يطرب حتى دار الغناء إلي ثانية فغنيت صوت السوداء فرمى إلي بكيس فيه ألف دينار ثم قال أعده فغنيته فرمى إلي بثان ثم قال أعده فرمى إلي بثالث وأمسك

فضحكت فقال ما يضحكك فقلت لهذا الصوت حديث عجيب يا أمير المؤمنين فقال وما هو فحدثته به وقصصت عليه القصة فرمى إلي برابع وقال لا نكذب قولها

خبر

( عُوجِي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... )

الشعر للعرجي وقد ذكرنا نسبة الصوت

 

عمر بن عبد العزيز وأحد المخنثين

أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الواقدي عن ابن أبي الزناد قال حدثني محمد بن إسحاق قال قيل لعمر بن عبد العزيز إن بالمدينة مخنثا قد أفسد نساءها

فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحمله فأدخل عليه فإذا خضيب اللحية والأطراف معتجر بسبنية قد حمل دفا في خريطته

فلما وقف بين يدي عمر صعد بصره فيه وصوبه وقال سوأة لهذه الشيبة وهذه القامة أتحفظ القرآن قال لا والله يا أبانا قال قبحك الله وأشار إليه من حضره فقالوا اسكت فسكت فقال له عمر أتقرأ من المفصل شيئا قال وما المفصل قال ويلك أتقرأ من القرآن شيئا قل نعم أقرأ ( الحمدلله ) وأخطىء فيها في موضعين أو ثلاثة وأقرأ ( قل أعوذ برب الناس ) وأخطىء فيها وأقرأ ( قل هو الله أحد ) مثل الماء الجاري

قال ضعوه في الحبس ووكلوا به معلما يعلمه القرآن وما يجب عليه من حدود الطهارة والصلاة وأجروا عليه في كل يوم ثلاثة دراهم وعلى معلمه ثلاثة دراهم أخر ولا يخرج من الحبس حتى يحفظ القرآن أجمع

فكان كلما علم سورة نسي التي قبلها فبعث رسولا إلى عمر يا أمير المؤمنين وجه إلي من يحمل إليك ما أتعلمه أولا فأولا فإني لا أقدر على حمله جملة واحدة

فيئس عمر من فلاحه وقال ما أرى هذه الدراهم إلا ضائعة ولو أطعمناها جائعا أو أعطيناها محتاجا أو كسوناها عريانا لكان أصلح

ثم دعا به فلما وقف بين يديه قال له اقرأ ( قل يأيها الكافرون ) قال أسأل الله العافية أدخلت يدك في الجراب فأخرجت شر ما فيه وأصعبه فأمر

 

به فوجئت عنقه ونفاه فاندفع يغني وقد توجهوا به

( عُوجِي عليَّ فَسَلِّمي جَبْرُ ... فيم الوقوفُ وأنتُم سَفْرٌ )

( ما نَلْتقي إلا ثلاثَ منىً ... حتى يفرِّق بيننا النَّفْر )

فلما سمع الموكلون به حسن ترنمه خلوه وقالوا له اذهب حيث شئت مصاحبا بعد استماعهم منه طرائف غنائه سائر يومهم وليلتهم

أخبرني الحسين قال قال حماد قرأت على أبي عن المدائني قال أحج خالد بن عبد الله ابنه محمدا وأصحبه رزاما مولاه وأعطاه مالا وقال إذا دخلت المدينة فاصرفه فيما أحببت

فلما صرنا بالمدينة سأل محمد عن جارية حاذقة فقيل عند محمد بن عمران التيمي القاضي

فصلينا الظهر في المسجد ثم ملنا إليه فاستأذنا عليه فأذن لنا وقد انصرف من المسجد وهو قاعد على لبد ونعلاه في آخر اللبد فسلمنا عليه فرد ونسب محمدا فانتسب له فقال خيرا ثم قال هل من حاجة فلجلج فقال كأنك ذكرت فلانة يا جارية اخرجي فخرجت فإذا أحسن الناس ثم تغنت فإذا أحذق الناس فجعل الشيخ يذهب مع حركاتها ويجيء إلى أن غنت قوله

( عوجِي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... )

فلما بلغت

( حتى يفرِّق بيننا النَّفْر ... )

وثب الشيخ إلى نعله فعلقها في أذنه وجثا على ركبتيه وأخذ بطرف أذنه والنعل فيها

 

وجعل يقول أهدوني أنا بدنة أهدوني أنا بدنة

ثم أقبل عليهم فقال كم قيل لكم إنها تساوي قالوا ستمائة دينار قال هي وحق القبر خير من ستة آلاف دينار والله لا يملكها علي أحد أبدا فانصرفوا إذا شئتم

أخبرنا وسواسة بن الموصلي وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي قال حدثني حماد بن إسحاق قال وجدت في كتب أبي عن عثمان بن حفص الثقفي عن أبن عم لعمارة بن حمزة قال حدثني سليم الحساب عن داود المكي قال كنا في حلقة ابن جريج وهو يحدثنا وعنده ابن المبارك وجماعة من العراقيين إذ مر به ابن تيزن قال حماد ويقال ابن بيرن وقد ائتزر بمئزرة على صدره وهي إزرة الشطار عندنا

فدعاه ابن جريج فقال له إني مستعجل وقد وعدت أصحابا لي فلا أقدر أن أحتبس عنهم

فأقسم عليه حتى أتاه فجلس وقال له ما تريد قال أحب أن تسمعني قال أنا أجيئك إلى المنزل فلم تجلسني مع هؤلاء الثقلاء قال أسألك أن تفعل قال امرأته طالق إن غناك فوق ثلاثة أصوات

قال ويحك ما أعجلك باليمين قال أكره أن أحتبس عن أصحابي فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال إعقلوا رحمكم الله ثم قال له

 

غنني الصوت الذي أخبرتني أن ابن سريج غناه في اليوم الثالث من أيام منى على جمرة العقبة فقطع الطريق على الذاهب والجائي حتى تكسرت المحامل فغناه

( عوجِي عليّ فسلِّمي جبرُ ... )

فقال ابن جريج أحسنت والله ثلاث مرات ويحك أعده قال أمن الثلاثة فإني قد حلفت قال أعده فأعاده فقال أحسنت أعده من الثلاثة فأعاده وقام فمضى

فقال ابن جريج لأصحابه لعلكم أنكرتم ما فعلت قالوا إنا لننكره بالعراق قال فما تقولون في الرجر يعني الحداء قالوا لا بأس به قال فما الفرق بينهما

أحسن الناس حلوقا في الغناء

وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك عن أبي أيوب المديني قال ثلاثة من المغنين كانوا أحسن الناس حلوقا ابن تيزن وابن عائشة وابن أبي الكنات

 

صوت

من المائة المختارة

( سَقَاني فَروَّانِي كُمَيْتاً مُدامةً ... على ظمأٍ مني سَلامٌ بن مِشْكَمِ )

( تخيّرتُه أهلَ المدينة واحداً ... سِواهمْ فلم أُغْبَن ولم أَتَنَدّمِ )

عروضه من الطويل والشعر لأبي سفيان بن حرب والغناء لسليمان أخي بابويه الكوفي مولى الأشاعثة خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى

 

ذكر ابي سفيان وأخباره ونسبه

هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأم حرب بن أمية بنت أبي همهمة بن عبد العزى بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وأم أبي سفيان صفية بنت حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة وهي عمة ميمونة أم المؤمنين وأم الفضل بنت الحارث بن حزن أم بني العباس بن عبد المطلب

وقد مضى ذكر أكثر أخبار ولد أمية والفرق بين الأعياص والعنابس منهم وجمل من أخبارهم في أول هذا الكتاب

وكان حرب بن أمية قائد بني أمية ومن مالأهم في يوم عكاظ ويقال إن سبب وفاته أن الجن قتلته وقتلت مرداس بن أبي عامر السلمي لإحراقهما شجر القرية وازدراعهما إياها

وهذا شيء قد ذكرته العرب في أشعارها وتواترت الروايات بذكره فذكرته والله أعلم

أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال

 

حدثني عمي مصعب وأخبرنا محمد بن الحسين بن دريد عن عمه عن العباس بن هشام عن أبيه وذكره أبو عبيدة وأبو عمرو الشيباني أن حرب بن أمية لما انصرف من حرب عكاظ هو وإخوته مر بالقريه وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام

فقال له مرداس بن أبي عامر أما ترى هذا الموضع قال بلى قال نعم المزدرع هو فهل لك أن نكون شريكين فيه ونحرق هذه الغيضة ثم نزدرعه بعد ذلك قال نعم فأضرما النار في الغيضة

فلما استطارت وعلا لهبها سمع من الغيضة أنين وضجيج كثير ثم ظهرت منها حيات بيض تطير حتى قطعتها وخرجت منها

وقال مرداس بن أبي عامر في ذلك

( إني انتخبتُ لها حرباً وإخوتَه ... إنّي بحَبْلٍ وثيقٍ العَقْد دسّاسُ )

( إني أُقَوِّمُ قبل الأمر حُجَّتَه ... كيما يقالَ وليُّ الأمر مِرداسُ )

قال فسمعوا هاتفا يقول لما احترقت الغيضة

( ويلٌ لحربٍ فارساَ ... مُطاعِناً مُخَالِسَا )

( ويل لعمرو فارسا ... إذ لبسوا القَوَانِسا )

( لَنَقْتُلَن بقتله ... جَحاجحاً عنابِسا )

ولم يلبث حرب بن أمية ومرداس بن أبي عامر أن ماتا فأما مرداس فدفن بالقربة

ثم ادعاها بعد ذلك كليب بن أبي عهمة السلمي ثم الظفري فقال في ذلك عباس بن مرداس

( أكليبُ مالكَ كلَّ يوم ظالماً ... والظلمُ أنكدُ وجهُه ملعونٌ ... قد كان قومُك يحسبونك سيِّداً ... وإخال أنك سيّدٌ معيون )

المعيون الذي أصابته العين وقيل المعيون الحسن المنظر فيما تراه العين ولا عقل له

 

( فإذا رجَعتَ إلى نسائك فادَّهِنْ ... إن المُسالِمَ رأسُه مدهونُ )

( وافعل بقومك ما أراد بوائلٍ ... يومَ الغدير سميُّك المطعون )

( وإخال أنك سوف تلقى مثلَها ... في صَفْحَتَيْك سِنانُها المسنون )

( إن القُرَيّةَ قد تبيّن أمرُها ... إن كان ينفع عندك التَّبيين )

( حيث انطلقتَ تخطُّها لي ظالماً ... وأبو يزيدَ بجوِّها مدفون )

أبو يزيد مرداس بن أبي عامر

منزلته في قريش

وكان أبو سفيان سيدا من سادات قريش في الجاهلية ورأسا من رؤوس الأحزاب وعلى رسول الله في حياته وكهفا للمنافقين في أيامه وأسلم يوم الفتح

وله في إسلامه أخبار نذكرها هنا

وكان تاجرا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى أرض العجم وشهد مع رسول الله مشاهدة الفتح وفقئت عينه يوم الطائف فلم يزل أعور إلى يوم اليرموك ففقئت عينه الأخرى يومئذ فعمي

أخبرنا الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب عن إسحاق بن يحيى المكي عن أبي الهيثم عمن أخبره أنه سمع أبا سفيان يمازح رسول الله في بيت بنته أم حبيبة ويقول والله إن هو إلا أن تركتك فتركتك العرب فما انتطحت جماء ولا ذات قرن ورسول

 

الله يضحك ويقول أنت تقول ذاك يا أبا حنظلة

قال الزبير وحدثني عمي مصعب أن رسول الله تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان وأبو سفيان يومئذ مشرك يحارب رسول الله وقيل له إن محمدا قد نكح ابنتك فقال ذلك الفحل لا يقدع أنفه واسم أم حبيبة رملة وقيل هند والصحيح رملة

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخزاز قال حدثنا المدائني عن مسلمة بن محارب عن عثمان بن عبد الرحمن بن جوشن قال أذن رسول الله يوما للناس فأبطأ بإذن أبي سفيان فلما دخل قال يا رسول الله ما أذنت لي حتى كدت تأذن للحجارة فقال له يا أبا سفيان كل الصيد في جوف الفرا

حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال حدثنا عطاء بن مصعب قال حدثني سفيان بن عيينة عن جعفر بن يحيى البرمكي قال أذن رسول الله للناس فكان آخر من دخل عليه أبا سفيان بن حرب فقال يارسول الله لقد أذنت للناس قبلي حتى ظننت أن حجارة الخندمة ليؤذن

 

لها قبلي فقال رسول الله أما والله إنك والناس لكما قال الأول كل الصيد في بطن الفرا أي كل شيء لهؤلاء من المنزلة فإن لك وحدك مثل ما لهم كلهم

عند هرقل

حدثني عمر بن إسماعيل بن أبي غيلان الثقفي قال حدثنا داود بن عمرو الضبي قال حدثنا المثنى بن زرعة أبو راشد عن محمد بن إسحاق قال حدثني الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن عتبة عن ابن عباس قال حدثني أبو سفيان بن حرب قال كنا قوما تجارا وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا

فلما كانت الهدنة هدنة الحديبية بيننا وبين رسول الله خرجت في نفر من قريش إلى الشأم وكان وجه متجرنا منه غزة فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من الفرس فأخرجهم منها وانتزع منهم صليبه الأعظم وكانوا قد استلبوه إياه

فلما بلغه ذلك منهم وبلغه أن صليبه قد استنقذ منهم وكانت حمص منزله خرج منها يمشي على قدميه شكرا لله حين رد عليه ما رد ليصلي في بيت المقدس تبسط له البسط وتلقى عليها الرياحين

فلما انتهى إلى إيلياء فقضى فيها صلاته وكان معه بطارقته وأشراف الروم أصبح ذات غدوة مهموما يقلب طرفه إلى السماء

فقال له بطارقته والله لكأنك أصبحت الغداة مهموما فقال أجل رأيت البارحة أن ملك الختان ظاهر فقالوا أيها الملك ما نعمل أمة تختتن إلا اليهود وهم في سلطانك وتحت يدك فابعث إلى كل من

 

لك عليه سلطان في بلادك فمره فليضرب أعناق من تحت يدك منهم من يهود واسترح من هذا الهم فوالله إنهم لفي ذلك من رأيهم يدبرونه إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب يقوده وكانت الملوك تتهادى الأخبار بينهم فقال أيها الملك إن هذا رجل من العرب من أهل الشاء والإبل يحدث عن أمر حدث فاسأله فلما انتهى به إلى هرقل رسول صاحب بصرى قال هرقل لمن جاء به سله عن هذا الحديث الذي كان ببلده فسأله فقال خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي وقد اتبعه ناس فصدقوه وخالفه آخرون وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة وتركتهم على ذلك

فلما أخبره الخبر قال جردوه فإذا هو مختون فقال هذا والله النبي الذي الذي رأيت لا ما تقولون أعطوه ثيابه وينطلق

ثم دعا صاحب شرطته فقال له اقلب الشأم ظهرا لبطن حتى تأتيني برجل من قولم هذا الرجل فإنا لبغزة إذ هجم علينا صاحب شرطته فقال أنتم من قوم الحجاز قلنا نعم قال انطلقوا إلى الملك فانطلقوا بنا فلما انتهينا إليه قال أنتم من رهط هذا الرجل الذي بالحجاز قلنا نعم قال فأيكم أمس به رحما قال قلت أنا قال أبو سفيان وايم الله ما رأيت رجلا أرى أنه أنكر من ذلك الأغلف يعني هرقل ثم قال أدنه فأقعدني بين يديه وأقعد أصحابي خلفي وقال إني سأسأله فإن كذب فردوا عليه

قال فوالله لقد علمت أن لو كذبت ما ردوا علي ولكني كنت أمرأ سيدا أتبرم عن الكذب وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوه علي ثم يحدثوا به عني فلم أكذبه قال أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم

 

يدعي ما يدعي

فجعلت أزهد له شأنه وأصغر له أموره وأقول له أيها الملك ما يهمك من شأنه إن أمره دون ما بلغك فجعل لا يلتفت إلى ذلك مني ثم قال أنبئني فيما أسألك عنه من شأنه

قال قلت سل عما بدا لك قال كيف نسبه فيكم قلت محض هو أوسطنا نسبا قال أخبرن هل كان أحد من أهل بيته يقول ما يقول فهو يتشبه به قال قلت لا قال هل كان له فيكم ملك فسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه قال قلت لا قال أخبرني عن أتباعه منكم من هم قال قلت الضعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان والنساء فأما ذوو الأسنان من الأشراف من قومه فلم يتبعه منهم أحد قال فأخبرني عمن يتبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه قال قلت قلما يتبعه أحد فيفارقه قال فأخبرني كيف الحرب بينكم وبينه قال قلت سجال يدال علينا وندال عليه قال فأخبرني هل يغدر فلم أجد شيئا سألني عنه أغتمز فيه غيرها قال قلت لا ونحن منه في مدة ولا نأمن غدره قال فوالله ما التفت إليها مني ثم كرر علي الحديث فقال سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه محض من أوسطكم نسبا فكذلك يأخذ الله النبي لا يأخذه إلا من أوسط قومه نسبا وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل قوله فهو يتشبه به فزعمت أن لا وسألتك هل كان له ملك فيكم فسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث يطلب ملكه فزعمت أن لا وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الضعفاء والأحداث والمساكين والنساء وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه فزعمت أنه لا يتبعه أحد فيفارقه فكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلب رجل فتخرج منه وسألتك عن الحرب بينكم وبينه فزعمت أنها سجال تدالون عليه ويدال عليكم وكذلك حرب الأنبياء ولهم تكون العاقبة وسألتك هل يغدر فزعمت أن لا فلئن كنت صدقتني عنه فليغلبن علي ما تحت قدمي هاتين ولوددت أني عنده

 

فأغسل قدميه انطلق لشأنك

فقمت من عنده وأنا أضرب بإحدى يدي على الأخرى وأقول يالعباد الله لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أصبحت ملوك بني الأصفر يهابونه في ملكهم وسلطانهم

كتاب النبي إلى هرقل

قال ابن إسحاق فقدم عليه كتاب رسول الله مع دحية ابن خليفة الكلبي فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن تتول فإن إثم الأكابر عليك )

قال ابن شهاب فأخبرني أسقف النصارى في زمن عبد الملك زعم أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله وأمر هرقل وعقله قال فلما قدم عليه كتاب رسول الله من قبل دحية بن خليفة أخذه هرقل فجعله بين فخذيه وخاصرته ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ العبرانية ما تقرأونه فذكر له أمره ووصف له شأنه وأخبره بما جاء به منه

فكتب إليه صاحب رومية إنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه فاتبعه وصدقه قال فأمر هرقل ببطارقة الروم فجمعوا له في دسكرة

 

ملكه وأمر بها فأغلقت عليهم أبوابها ثم اطلع عليهم من علية وخافهم على نفسه فقال يا معشر الروم قد جمعتكم لخبر أتاني كتاب هذا الرجل يدعو إلى دينه فوالله إنه النبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا فهلم فلنبايعه ولنصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا

قال فنخرت الروم نخرة رجل واحد وابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا فوجدوها قد أغلقت دونهم فقال كروهم علي وخافهم على نفسه فكروهم عليه فقال يا معشر الروم إنما قلت لكم المقالة التي قلت لأنظر كيف صلابتكم في دينكم في هذا الأمر الذي قد حدث فقد رأيت منكم الذي أسر به فخروا سجدا وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم فانطلقوا

أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني أبو بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال لي العباس خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب منهم أبو سفيان بن حرب فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما وأنصرف بأبي سفيان وبالنفر ويصنع أبو سفيان يوما فيفعل مثل ذلك فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه هل لك يا ابا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلي غدائك فقلت نعم فانصرفت أنا والنفر إلى بيته وأرسلت إلى الغداء

فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني فقال لي هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله قلت وأي بني أخي قال أبو سفيان إياي تكتم واي بني أخيك ينبغي له أن يقول هذا إلا رجل واحد قلت وأيهم هو على ذلك قال محمد بن عبد الله قلت ما فعل قال بلى قد فعل ثم أخرج إلي كتابا من ابنه حنظلة بن أبي سفيان إني أخبرك أن محمدا قام بالأبطح

 

غدوة فقال أنا رسول الله أدعوكم إلى الله قال قلت يا أبا حنظلة لعله صادق قال مهلا يا أبا الفضل فوالله ما أحب أن تقول مثل هذا وإني لأخشى أن تكون على بصر من هذا الأمر وقال الحسن بن علي في روايته على بصيرة من هذا الحديث ثم قال يا بني عبد المطلب إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم يمنة وشؤمة كل واحدة منهما عامة فنشدتك الله يا أبا الفضل هل سمعت ذلك قلت نعم قال فهذه والله إذا شؤمتكم قلت فلعلها يمنتنا

فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد الله بن حذافة السهمي بالخبر وهو مؤمن ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن يتحدث به فيها

وكان أبو سفيان يجلس إلى حبر من أحبار اليمن فقال له اليهودي ما هذا الخبر الذي بلغني قال هو ما سمعت قال أين فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال قال أبو سفيان صدقوا وأنا عمه قال اليهودي أأخو أبيه قال نعم قال حدثني عنه قال لا تسألني فما كنت أحسب أن يدعي هذا الأمر أبدا وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه قال اليهودي فليس به أذى ولا بأس على يهود وتوراة موسى منه

قال العباس فتأدى إلي الخبر فحميت وخرجت حتى أجلس إلى ذلك المجلس من غد وفيه أبو سفيان والحبر فقلت للحبر بلغني أنك سألت ابن عمي هذا عن رجل منا يزعم أنه رسول الله فأخبرك أنه عمه وليس بعمه ولكنه ابن عمه وأنا عمه أخو أبيه فقال أأخو أبيه قلت أخو أبيه فأقبل على أبي سفيان فقال أصدق قال نعم صدق قال فقلت سلني عنه فإن كذبت فليردد علي فأقبل علي فقال أنشدك الله هل فشت لإبن أخيك صبوة أو سفهة قال قلت لا وإله عبد المطلب ولا كذب ولا خان وإن كان اسمه عند قريش الأمين قال فهل كتب بيده قال عباس فظننت أنه

 

خير له أن يكتب بيده فأردت أن أقولها ثم ذكرت مكان أبي سفيان وأنه مكذبي وراد علي فقلت لا يكتب فذهب الحبر وترك رداءه وجعل يصيح ذبحت يهود قتلت يهود

قال العباس فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن اليهودي لفزع من ابن أخيك قال قلت قد رأيت ما رأيت فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به فإن إن حقا كنت قد سبقت وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك قال لا والله ما أومن به حتى أرى تطلع من كداء وهو جبل بمكة

قال قلت ما تقول قال كلمة والله جاءت على فمي ما ألقيت لها بالا إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع من كداء قال العباس فلما فتح رسول الله مكة ونظرنا إلى الخيل قد طلعت من كداء قلت يا أبا سفيان أتذكر الكلمة قال لي والله إني لذاكرها فالحمد لله الذي هداني للإسلام

إسلامه في غزاة الفتح

حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا البغوي قال حدثنا الغلابي أبو كريب محمد بن العلاء قال حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال حدثني الحسين بن عبيد الله بن العباس عن عكرمة عن ابن عباس قال لما نزل رسول الله مر الظهران يعني في غزاة الفتح قال العباس بن عبد المطلب وقد خرج رسول الله من المدينة يا صباح قريش والله لئن

 

بغتها رسول الله إنها لهلاك قريش آخر الدهر

فجلس على بغلة رسول الله البيضاء وقال أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطابا أو صاحب لبن أو داخلا يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله فيستأمنونه

فوالله إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الخبر عن رسول الله فسمعت أبا سفيان وهو يقول والله ما رأيت كالليلة قط نيرانا

فقال بديل بن ورقاء هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب فقال أبو سفيان خزاعة ألأم من ذلك وأذل فعرفت صوته فقلت أبا حنظلة فقال أبا الفضل قلت نعم فقال لبيك فداؤك أبي وأمي فما وراءك فقلت هذا رسول الله قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين قال فما تأمرني فقلت تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله نحو رسول الله فكلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إلي قالوا عم رسول الله على بغلة رسول الله حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال أبو سفيان الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم اشتد نحو النبي وركضت البغلة وقد أردفت أبا سفيان قال العباس حتى اقتحمت على باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة

 

الرجل البطيء فدخل عمر على رسول الله فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه

قلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله وأخذت برأسه وقلت والله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلما أكثر فيه عمر قلت مهلا يا عمر فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من عبد مناف ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا قال مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وذلك لأني أعلم أن إسلامك أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول الله ( اذهب فقد أمناه حتى تغدو به علي الغداة ) فرجع به إلى منزله فلما أصبح غدا به على رسول الله

فلما رآه قال ( ويحك أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ) فقال بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا فقال ( ويحك تشهد بشهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك ) قال فتشهد فقال رسول الله للعباس من حين تشهد أبو سفيان ( انصرف يا عباس فاحتبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى يمر عليه جنود الله ) فقلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا يكون في قومه فقال ( نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن )

فخرجت به حتى أجلسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي فمرت عليه القبائل فجعل يقول من هؤلاء فأقول سليم فيقول ما لي ولسليم ثم تمر به قبيلة فيقول من هؤلاء فأقول أسلم فيقول ما لي ولأسلم وتمر به جهينة فيقول من هؤلاء فأقول جهينة فيقول ما لي ولجهينة حتى مر رسول الله في الخضراء كتيبة رسول الله من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال من هؤلاء يا أبا الفضل فقلت هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار فقال يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما فقلت ويحك إنها النبوة قال نعم إذا فقلت الحق الآن بقومك فحذرهم

فخرج سريعا حتى أتى مكة فصرخ في المسجد يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به قالوا فمه قال من دخل داري فهو آمن فقالوا

 

ويحك ما تغني عنا دارك قال ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن

عدم إخلاصه الإسلام

حدثنا محمد بن جرير وأحمد بن الجعد قالا حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن يحى بن عباد عن عبد الله بن الزبير قال لما كان يوم اليرموك خلفني أبي فأخذت فرسا له وخرجت فرأيت جماعة من الخلفاء فيهم أبو سفيان بن حرب فوقفت معه فكانت الروم إذا هزمت المسلمين قال أبو سفيان إيه بني الأصفر فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان

( وبَنُو الأصفر الكرامُ ملوكُ الرّوم ... لم يبق منهمُ مَذْكورُ )

فلما فتح الله على المسلمين حدثت أبي فقال قاتله الله يأبى إلا نفاقا أولسنا خيرا له من بني الأصفر ثم كان يأخذ بيدي فيطوف على أصحاب رسول الله يقول حدثهم فأحدثهم فيعجبون من نفاقه

حدثني أحمد بن الجعد قال حدثني ابن حميد قال حدثنا جرير عن عمرو بن ثابت عن الحسن قال دخل أبو سفيان على عثمان بعد أن كف بصره فقال هل علينا من عين فقال له عثمان لا فقال يا عثمان إن الأمر أمر عالمية والملك ملك جاهلية فاجعل أوتاد الأرض بني أمية

حدثني محمد بن حيان الباهلي قال حدثنا عمر بن علي الفلاس قال حدثنا سهل بن يوسف عن مالك بن مغول عن أشعث بن أبي الشعثاء عن ميسرة الهمداني عن أبي الأبجر الأكبر قال جاء أبو سفيان إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا أبا الحسن

 

ما بال هذا الأمر في أضعف قريش وأقلها فوالله لئن شئت لأملأنها عليهم خيلا ورجلا فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه يا أبا سفيان طالما عاديت الله ورسوله فما ضرهم ذلك شيئا إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا

أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال أنشدني ابن عائشة لأبي سفيان بن حرب لما ولي أبو بكر قال

( وأضحت قريش بعد عزّ ومَنْعةٍ ... خُضُوعاً لتَيْمٍ لا بضربِ القواضبِ )

( فيا لهف نفسي للذي ظَفِرتْ به ... وما زال منها فائزاً بالغرّائب )

وحدثني أحمد بن الجعد قال حدثني محمد بن حميد قال حدثنا جرير عن عمرو بن ثابت عن الحسن قال لما ولي عثمان الخلافة دخل عليه أبو سفيان فقال يا معشر بني أمية إن الخلافة صارت في تيم وعدي حتى طمعت فيها وقد صارت إليكم فتلقفوها بينكم تلقف الكرة فوالله ما من جنة ولا نار هذا أو نحوه فصاح به عثمان قم عني فعل الله بك وفعل

ولأبي سفيان أخبار من هذا الجنس ونحوه كثيرة يطول ذكرها وفيما ذكرت منها مقنع

والأبيات التي فيها الغناء يقولها في سلام بن مشكم اليهودي ويكنى أبا غنم وكان نزل عليه في غزوة السويق فقراه وأحسن ضيافته فقال أبو سفيان فيه

( سقاني فَرَوَّاني كُمَيْتاً مُدامةً ... على ظمَأٍ منّي سَلاَمُ بن مِشْكَمِ )

 

( تخيَّرتُه أهلَ المدينة واحداً ... سواهم فلم أُغْبَن ولم أتَنَدَّم )

( فلمّا تقضّى الليلُ قلتُ ولم أكن ... لأُفْرِحَه أبْشِرْ بعُرف ومَغْنَم )

( وإنّ أبا غُنْم يجود ودارُه ... بِيَثْرِبَ مأوى كلّ أبيضَ خِضْرمِ )

 

ذكر الخبر عن غزوة السويق ونزول أبي سفيان على سلام بن مشكم

كانت هذه الغزاة بعد وقعة بدر وذلك أن أبا سفيان نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة ولا يشرب خمرا حتى يغزو رسول الله

فخرج في عدة من قومه ولم يصنع شيئا فعيرته قريش بذلك وقالوا إنما خرجتم تشربون السويق فسميت غزوة السويق

حدثنا محمد بن جرير قرأته عليه قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير ويزيد بن رومان عن عبيد الله بن كعب بن مالك وكان من أعلم الأنصار قال كان أبو سفيان حين رجع إلى مكة ورجع قبل قريش من بدر نذر ألا يمس ماء من جنابة حتى يغزو محمدا

فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له تيت من المدينة على بريد أو نحوه ثم خرج من الليل حتى أتى بني النضير تحت الليل فأتى حيي بن أخطب بيثرب فدق عليه بابه فأبى أن يفتح له وخافه وانصرف إلى سلام بن

 

مشكم وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه ونظر له خبر الناس

ثم خرج في عقب ليلته حتى جاء أصحابه فبعث رجالا من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها يقال لها العريض فحرقوا في أصوار من نخل لها أتوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين

فنذر بهم الناس فخرج رسول الله في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدر ثم انصرف راجعا وقد فاته أبو سفيان وأصحابه وقد رأوا من مزاود القوم ما قد طرحوه في الحرث يتخففون منه للنجاء

فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله أنطمع أن تكون غزوة قال نعم

وقد كان أبو سفيان قال وهو يتجهز خارجا من مكة إلى المدينة أبياتا من شعر يحرض فيها قريشا فقال

( كُرّوا على يَثْرِبٍ وجمعِهمُ ... فإِنّ ما جمَّعوا لكم نَفَلُ )

( إن يك يومُ القَلِيب كان لهم ... فإن ما بعده لكم دوَلُ )

( آليتُ لا أقرَبُ النساءَ ولا ... يَمسّ رأسي وجلديَ الغُسُل )

 

( حتى تُبِيدوا قبائلَ الأَوْسِ والخَزْرَجِ ... إن الفؤاد مُشْتعِلُ )

فأجابه كعب بن مالك

( يا لَهْفَ أمّ المسبِّحِينَ على ... جيش ابن حرب بالحَرّة الفَشِلِ )

( أتطرحون الرجال من سَنَم الظَّهر ... تَرَقَّى في قُنّة الجَبَل )

( جاؤوا بجَمْعٍ لو قِيس منزلُه ... ما كان إلا كمُعْرَس الدُّئِل )

( عارٍ من النصر والثراءِ ومِنْ ... نَجْدة أهل البَطْحاء والأَسَلِ )

أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا سليمان بن سعد عن الواقدي أن غزوة السويق كانت في ذي القعدة من سنة ثنتين من الهجرة

حدثني عمي قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا ابن سعد عن الواقدي عن أبي الزناد عن عبد الله بن الحارث قال شرب حسان بن ثابت يوما مع سلام بن مشكم وكان له نديما معهم كعب بن أسد وعبد الله بن أبي وقيس بن الخطيم فأسرع الشراب فيهم

 

وكانوا في موادعة وقد وضعت الحرب أوزارها بينهم

فقال قيس بن الخطيم لحسان تعال أشاربك فتشاربا في إناء عظيم فأبقى حسان من الإناء شيئا فقال له قيس اشرب فقال حسان وعرف الشر في وجهه أو خيرا من ذلك أجعل لك الغلبة قال لا إلا أن تشربه فأبى حسان وقال له سلام بن مشكم يا أبا يزيد لا تكرهه على ما لا يشتهي إنما دعوته لإكرامه ولم تدعه لتستخف به وتسيء مجالسته فقال له قيس أفتدعوني أنت على أن تسيء مجالستي فقال له سلام ما في هذا سوء مجالسة وما حملت عليك إلا لأنك مني وأني حليفك وليست عليك غضاضة في هذا وهذا رجل من الخزرج قد أكرمته وأدخلته منزلي فيجب أن تكرم لي من أكرمته ولعمري إن في الصحو لما تكتفون به من حروبكم فافترقوا وآلى سلام بن مشكم على نفسه ألا يشرب سنة وقد بلغ هذا من نديمه وكان كريما

صوت

من المائة المختارة

( مَنْ مُبلغ عنّي أبا كاملِ ... أنِّي إذا ما غاب كالهامِل )

( قد زادني شوقاً إلى قربه ... مَعْ ما بدا من رأيه الفاضِل )

الشعر للوليد بن يزيد والغناء لأبي كامل ولحنه المختار من الثقيل الأول

 

بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر حبش أن لأبي كامل فيه أيضا لحنا من خفيف الثقيل الثاني بالوسطى

 

أخبار الوليد بن يزيد ونسبه

هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ويكنى أبا العباس وأمّه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي وهي بنت أخي الحجّاج وفيه يقول أبو نخيلة

( بين أبي العاصِي وبين الحَجّاجْ ... يا لَكُمَا نُورَا سَراجٍ وَهَّاجْ )

( عليه بعد عَمِّه عُقِد التَّاجْ ... )

وأم يزيد بن عبد الملك عاتكةُ بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أُمية وأمها أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر وأم عبد الله بن عامر أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم ولذلك قال الوليد بن يزيد

( نَبِيُّ الهُدَى خالي ومن يَكُ خالُه ... نبيَّ الهدى يَقْهَرْ به من يُفاخرُ )

 

وكان الوليد بن يزيد من فتيان بني أمية وظرفائهم وشعرائهم وأجوادهم ونسبائهم وكان فاسقا خليعاً متهما في دينه مرميا بالزندقة وشاع ذلك من أمره وظهر حتى أنكره الناس فقتل

وله أشعار كثيرة تدل على خبثه وكفره ومن الناس من ينفي ذلك عنه وينكره ويقول إنه نحله وأُلصق إليه والأغلب الأشهر غير ذلك

ضعف الوليد أمام مكر هشام

أخبرني الحسن بن علي وأحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن إسحاق بن أيّوب القرشي وجُويرية بن أسماء وعامر بن الأسود والمِنهال بن عبد الملك وأبي عمرو بن المبارك وسُحيم بن حفص وغيرهم أن يزيد بن عبد الملك لما وجه الجيوش إلى يزيد بن المهلَّب وعقَد لمَسلمة بن عبد الملك على الجيش وبعث العباس بن الوليد بن عبد الملك وعقد له على أهل دمشق قال له العباس يا أمير المؤمنين إن

 

أهل العراق أهل غدر وإرجافٍ وقد وجهتنا محاربين والأحداث تحدث ولا آمن أن يرجف أهل العراق ويقولوا مات أمير المؤمنين ولم يعهد فيفت ذلك في أعضاد أهل الشام فلو عهدت عهدا لعبد العزيز بن الوليد قال غداً

وبلغ ذلك مسلمة بن عبد الملك فأتى يزيد فقال يا أمير المؤمنين أيما أحب إليك ولد عبد الملك أو ولد الوليد فقال بل ولد عبد الملك قال أفأخوك أحقّ بالخلافة أم ابن أخيك قال إذا لم تكن في ولدي فأخي أحق بها من ابن أخي

قال فابنك لم يبلغ فبايع لهشام ثم لابنك بعد هشام قال والوليد يومئذ ابن إحدى عشرة سنة قال غدا أبايع له

فلما أصبح فعل ذلك وبايع لهشام وأخذ العهد عليه ألا يخلع الوليد بعده ولا يغير عهده ولا يحتال عليه

فلما أدرك الوليد ندم أبوه فكان ينظر إليه ويقول الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك

وتوفي يزيد سنة خمس ومائة وابنه الوليد ابن خمس عشرة سنة

قالوا فلم يزل الوليد مكرما عند هشام رفيع المنزلة مدة ثم طمع في خلعه وعقد العهد بعده لابنه مسلمة بن هشام فجعل يذكر الوليد بن يزيد وتهتّكه وإدمانه على الشراب ويذكر ذلك في مجلسه ويقوم ويقعد به وولاه الحج ليظهر ذلك منه بالحرمين فيسقط فحج وظهر منه فعل كثير مذموم وتشاغل بالمغنين وبالشراب وأمر مولى له فحج بالناس

فلما حج طالبه هشام بأن يخلع نفسه فأبى ذلك فحرمه العطاء وحرم سائر مواليه وأسبابه وجفاه جفاء شديدا

فخرج متبديا وخرج معه عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدبه وكان يرمى بالزندقة

ودعا هشام الناس إلى خلعه والبيعة لمسلمة بن هشام وأمه أم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاصي

وكان مسلمة يكنى أبا شاكر كني بذلك لمولى كان لمروان يكنى أبا

 

شاكر كان ذا رأي وفضل وكانوا يعظمونه ويتبركون به فأجابه إلى خلع الوليد والبيعة لمسلمة بن هشام محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزومي والوليد وعبد العزيز وخالد بن القعقاع بن خُويلد العبسي وغيرهم من خاصة هشام

وكتب إلى الوليد ما تدع شيئاً من المنكر إلا أتيته وارتكبته غير متحاشٍ ولا مستتر فليت شعري ما دينك أعلى الإسلام أنت أم لا فكتب إليه الوليد بن يزيد ويقال بل قال ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى ونحله إياه

صوت

( يا أيُّها السائلُ عن دِيننا ... نحن على دين أبي شاكرِ )

( نشرَبُها صِرْفاً وممزوجةً ... بالسُّخْنِ أحياناً وبالفاتِرِ )

غناه عمر الوادي رملا بالبنصر فغضب هشام على ابنه مسلمة وقال يعيرني بك الوليد وأنا أرشِّحك للخلافة فالزم الأدب وأحضر الصلوات

وولاه الموسم سنة سبع عشرة ومائة فأظهر النّسك وقسم بمكة والمدينة أموالا

فقال رجل من موالي أهل المدينة

( يا أيُّها السائلُ عن دِيننا ... نحن على دين أبي شاكرِ )

( الواهبِ البُزْلَ بأَرْسانها ... ليس بزنديقٍ ولا كافرِ )

 

قال المدائني وبلغ خالدا القسري ما عزم عليه هشام فقال أنا بريء من خليفة يُكنى أبا شاكر فبلغت هشاما عنه هذه فكان ذلك سبب إيقاعه به

الوليد العابث

أخبرني محمد بن الحسن الكندي المؤدب قال حدثني أبي عن العباس ابن هشام قال دخل الوليد بن يزيد يوما مجلس هشام بن عبد الملك وقد كان في ذكره قبل أن يدخل فحمقه من حضر من بني أمية فلما جلس قال له العباس بن الوليد وعمر بن الوليد كيف حبك يا وليد للروميات فإن أباك كان بهن مشغوفا قال إني لأحبهن وكيف لا أحبهن ولن تزال الواحدة منهن قد جاءت بالهجين مثلك وكانت أم العباس رومية قال اسكت فليس الفحل يأتي عسبه بمثلي فقال له الوليد اسكت يابن البظراء قال

 

أتفخر علي بما قطع من بظر أمك

وأقبل هشام على الوليد فقال له ما شرابك قال شرابك يا أمير المؤمنين وقام مغضبا فخرج فقال هشام أهذا الذي تزعمون أنه أحمق ما هو أحمق ولكني لا أظنّه على الملة

أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائني قال دخل الوليد بن يزيد مجلس هشام بن عبد الملك وفيه سعيد بن هشام بن عبد الملك وأبو الزبير مولى مروان وليس هشام حاضرا فجلس الوليد مجلس هشام ثم أقبل على سعيد بن هشام فقال له من أنت وهو به عارف قال سعيد ابن أمير المؤمنين قال مرحبا بك

ثم نظر إلى أبي الزبير فقال من أنت قال أبو الزبيرمولاك أيها الأمير قال أنسطاسُ أنت مرحبا بك

ثم قال لإبراهيم بن هشام من أنت قال إبراهيم بن هشام قال من إبراهيم بن هشام وهو يعرفه قال إبراهيم بن هشام بن إسماعيل قال من إسماعيل وهو يعرفه قال إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة قال من الوليد بن المغيرة قال الذي لم يكن جدّك يرى أنه في شيء حتى زوّجه أبي وهو بعض ولد ابنته قال يابن اللخناء أتقول هذا

 

وائتخذا

وأقبل هشام فقيل لهما قد جاء أمير المؤمنين فجلسا وكفا ودخل هشام فما كاد الوليد يتنحّى له عن صدر مجلسه إلا أنه زحل له قليلا فجلس هشام وقال له كيف أنت يا وليد قال صالح قال ما فعلت بَرابطك قال معملة أو مستعملة

قال فما فعل ندماؤك قال صالحون ولعنهم الله إن كانوا شرا ممّن حضرك وقام فقال له هشام يابن اللخناء جؤوا عنقه فلم يفعلوا ودفعوه رويدا فقال الوليد

( أنا ابن أبي العاصِي وعثمانُ والدي ... ومروانُ جَدِّي ذو الفَعَال وعامرُ )

( أنا ابنُ عظيم القريتين وعِزُّها ... ثَقِيفٌ وفِهْرٌ والعُصَاةُ الأكابر )

( نَبِيُّ الهدى خالي ومن يَكُ خالُه ... نبيَّ الهُدَى يَقْهَر به من يُفاخرُ )

الوليد يرثي مسلمة بن عبد الملك

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال كان هشام بن عبد الملك يكثر تنقص الوليد بن يزيد فكان مسلمة يعاتب هشاما ويكفه فمات مسلمة فغم الوليد ورثاه فقال

 

صوت

( أتانا بَرِيدانِ من واسِطٍ ... يَخُبَّانِ بالكُتُب المُعْجَمَهْ )

( أقول وما البعدُ إلاّ الرَّدَى ... أمَسْلَمُ لا تَبْعَدَنْ مَسْلَمَهْ )

( فقد كنتَ نوراً لنا في البلاد ... تُضِيء فقد أصبحتْ مُظْلِمَهْ )

( كتَمْنا نَعِيَّك نَخْشَى اليقين ... فجَلَّى اليقينُ عن الجَمْجَمَهْ )

( وكم من يَتيم تلافيتَه ... بأرض العدوّ وكم أيِّمَهْ )

( وكنتَ إذا الحربُ دَرَّتْ دَماً ... نصَبْتَ لها رايةً مُعْلَمَهْ )

غنى في هذه الأبيات التي أولها

( أقول وما البعدُ إلا الرَّدَى ... )

يونس خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو

وذكر الهشاميّ أن فيه ثقيلا أول ينسب إلى أبي كامل وعمر الوادي

وذكر حبش أن ليونس فيه رملا بالبنصر

 

أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني موسى بن زهير بن مضرس بن منظور بن زبان بن سيار عن أبيه قال رأيت هشام بن عبد الملك وأنا في عسكره يوم توفي مسلمة بن عبد الملك وهشام في شرطته إذ طلع الوليد بن يزيد على الناس وهو نشوان يجر مطرف خز عليه فوقف على هشام فقال يا أمير المؤمنين إن عقبى من بقي لحوق من مضى وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن يرى واختل الثغر فوهى وعلى أثر من سلف يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى فأعرض عنه هشام ولم يرد جوابا ووجم الناس فما همس أحد بشيء قال فمضى الوليد وهو يقول

( أَهيْنَمَةٌ حديثُ القوم أم هُمْ ... سُكُوتٌ بعد ما مَتَع النهارُ )

( عريزٌ كان بينهمُ نبيًّا ... فقولُ القومِ وَحْيٌ لا يُحار )

( كأنّا بعد مَسْلَمَةَ المُرجَّى ... شُرُوبٌ طوَّحتْ بهمُ عُقَار )

( أوُ آلاَّفٌ هِجَانٌ في قيودٍ ... تَلفَّتُ كلّما حَنّتْ ظُؤارُ )

 

( فليتَك لم تَمُتْ وفَدَاك قومٌ ... تُرِيح غبيَّهم عنّا الدِّيَارُ )

( سقيمُ الصَّدْر أو شَكِسٌ نَكِيدٌ ... وآخرُ لا يَزُور ولا يُزارُ )

يعني بالسقيم الصدر يزيد بن الوليد ويعني بالشكس هشاما والذي لا يزور ولا يزار مروان بن محمد

قال الزبير وحدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال أراد هشام أن يخلع الوليد ويجعل العهد لولده فقال الوليد

( كفرتَ يداً من مُنْعِمٍ لو شكرتَها ... جَزَاك بها الرحمنُ ذو الفَضْل والمَنّ )

( رأيتك تَبْنِي جاهداً في قَطِيعتي ... ولو كنتَ ذا حَزْم لهدّمتَ ما تَبْني )

( أراك على الباقين تَجْنِي ضَغِينةً ... فياوَيْحَهم إن مُتَّ من شَرِّ ما تَجْنِي )

( كأنِّي بهم يوماً وأكثرُ قولِهم ... أيا ليتَ أنّا حين يا ليت لا تُغْني )

أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال عتب هشام على الوليد وخاصته

فخرج الوليد ومعه قوم من خاصته ومواليه فنزل بالأبرق بين أرض بلقين وفزارة على ماء يقال له الأغدف وخلّف بالرصافة كاتبه عياض بن مسلم مولى عبد الملك ليكاتبه بما يحدث وأخرج معه عبد الصمد بن عبد الأعلى

فشربوا يوما فقال له الوليد يا أبا وهب قل أبياتا تغني فيها فقال أبياتاً وأمر عمر الوادي فغنى فيها وهي

صوت

( ألَمْ تَرَ للنَّجْم إذ سَبَّعا ... يُبَادِر في بُرْجِه المَرْجِعَا )

 

( تحيَّر عن قَصْد مَجْراتِه ... إلى الغَوْرِ والتمس المَطْلَعَا )

( فقلتُ وأعجبني شأنُه ... وقد لاح إذ لاح لي مُطمِعا )

( لعلَّ الوليدَ دنا ملكُه ... فأمسى إليه قد اْستجمعَا )

( وكنّا نؤمِّل في مُلْكه ... كتأميل ذي الجَدْب أن يُمْرِعا )

( عَقَدْنا مُحكَماتِ الأمور ... طَوْعاً وكان لها مَوْضِعا )

فروي هذا الشعر وبلغ هشاما فقطع عن الوليد ما كان يجري عليه وعلى أصحابه وحرمهم وكتب إلى الوليد قد بلغني أنك اتخذت عبد الصمد خدنا ومحدثا ونديما وقد حقق ذلك ما بلغني عنك ولن أبرئك من سوء فأخرج عبد الصمد مذموما قال فأخرجه الوليد وقال

( لقد قذَفوا أبا وَهْبٍ بأمر ... كبيرٍ بل يزيد على الكبيرِ )

( وأشهَد أنهم كذَبوا عليه ... شهادَةَ عالمٍ بهمُ خبيرِ )

فكتب الوليد إلى هشام بأنه قد أخرج عبد الصمد واعتذر إليه من منادمته وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه وكان من خاصة الوليد فضرب هشام ابن سهيل ونفاه وسيره وكان ابن سهيل من أهل النباهة وقد ولي الولايات ولي دمشق مرارا وولي غيرها وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد فضربه ضربا مبرحا وألبسه المسوح وقيده وحبسه فغم ذلك الوليد فقال من يثق بالناس ومن يصنع المعروف هذا الأحول المشؤوم قدمه أبي على ولده وأهل بيته وولاّه وهو يصنع بي ما ترون ولا يعلم أن لي في أحد ==

المكتبة الشاملة

1. العقيدة796 2. الفرق والردود151 3. التفسير270 4. علوم القرآن وأصول التفسير308 5. التجويد والقراءات148 6. كتب السنة1228 7. شروح الحدي...