ج13ةوج14وج15.كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
يدي الرشيد ثلاثة أصوات من الهزج ولاء أولها
( مُتْ على من غبتَ عنه أسَفَا ... )
والثاني
( أسرفتَ في الإِعراض والهَجْر ... )
والثالث
( أصبح قلبي به نُدوبُ ... )
فأطربه وأمر له بثلاثين ألف درهم وقال له لو كنت الحكم الوادي ما زدت على هذا الإحسان في أهزاجك يعني أن الحكم كان منفردا بالهزج
نسبة هذه الأصوات
صوت ( مُتْ على من غبتَ عنه أسفاَ ... لستَ منه بمُصِيبٍ خَلَفَا )
( لن تَرَى قُرَّة عين أبداً ... أوْ ترى نحوَهمُ مُنْصرَفَا )
( قلتُ لمّا شفَّني وجدي بهم ... حَسْبِيَ اللهُ لِمَا بي وكفَى )
( بَيّن الدمعُ لمن أبصرني ... ما تضمّنتُ إذا ما ذَرَفا )
الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لسليم وله فيه لحنان أحدهما في الأول والثاني هزج بالوسطى والآخر في الثالث والرابع خفيف رمل بالبنصر مطلق
وفيهما لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو ومنها
صوت ( أسرفتَ في الإعراض والهجرِ ... وجُزْتَ حدّ التَّيه والكبرِ )
( الهجرُ والإِعراض من ذي الهوى ... سُلَّم ذي الغدر إلى الغدر )
( مالي وللهِجْران حَسْبي الذي ... مرّ على رأسي من الهجر )
( ودون ما جَرّبتُ فيما مضى ... ما عرّف الخيرَ من الشر )
الغناء لسيلم هزج بالبنصر ومنها
صوت
( أصبح قلبي به نُدوبُ ... أَنْدَبه الشادِنُ الرَّبيبُ )
( تَمَادِياً منه في التّصَابي ... وقد علا رأسيَ المَشِيب )
( أظنني ذائقاً حِمامي ... وأنّ إلمامَه قريب )
( إذا فؤادُ شجاه حبٌّ ... فقلَّما ينفَع الطبيب )
الشعر لأبي نواس والغناء لسليم وله فيه لحنان خفيف رمل بالبنصر عن إسحاق وهزج بالوسطى عن الهشامي وزعمت بذل أن الهزج لها
أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال كان سليم بن سلام كوفيا وكان أبوه من أصحاب أبي مسلم صاحب الدولة ودعاته وثقاته فكان يكاتب أهل العراق على يده
وكان سليم حسن الصوت
جهيره وكان بخيلا
قال أحمد بن أبي طاهر وحدثني أبو الحواجب الأنصاري واسمه محمد قال قال لي سليم يوما امض إلى موسى بن إسحاق الأزرق فادعه ووافياني مع الظهر فجئناه مع الظهر فأخرج إلينا ثلاثين جارية محسنة ونبيذا ولم يطعمنا شيئا ولم نكن أكلنا شيئا
فغمز موسى غلامه فذهب فاشترى لنا خبزا وبيضا فأدخله إلى الكنيف وجلسنا نأكل فدخل علينا فلما رآنا نأكل غضب وخاصمنا وقال أهكذا يفعل الناس تأكلون ولا تطعمونني وجلس معنا في الكنيف يأكل كما يأكل واحد منا حتى فني الخبز والبيض
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثني أبي قال كان سليم بن سلام صديقي وكان كثيرا ما يغشاني
فجاءني يوما وأعلمني الغلام بمجيئه فأمرت بإدخاله فدخل وقال قد جئتك في حاجة فقلت مقضية
فقال إن المهرجان بعد غد وقد أمرنا بحضور مجلس الخليفة وأريد أن أغنيه لحنا أصنعه في شعر لم يعرفه هو ولا من بحضرته فقل أبياتا أغني فيها ملاحا فقلت على أن تقيم عندي وتصنع بحضرتي اللحن قال أفعل فردوا دابته وأقام عندي وقلت
صوت
( أتيتُك عائذاً بك مِنْك ... لمّا ضاقت الحِيَلُ )
( وصيّرني هواك وبي ... لِحَيْني يضرب المثل )
( فإِن سَلِمتْ لكم نفسي ... فما لاقيتُه جَلَل )
( وإنْ قَتل الهوى رجلاً ... فإِني ذلك الرجل )
فغنى فيه وشربنا يومئذ عليه وغنانا عدة أصوات من غنائه فما رأيته مذ عرفته كان أنشط منه يومئذ
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قل حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثني عبد الله بن محمد اليزيدي قال حدثني أخي محمد قال سمعت أبي يقول ما سرقت من الشعر قط إلا معنيين قال مسلم بن الوليد
( ذاك ظبيٌ تحيَّر الحسنُ في الأركان ... منه وجال كلَّ مكانِ )
( عرضتْ دونَه الحجالُ فما يَلْقاك ... إلا في النوم أو في الأماني )
فاستعرت معناه فقلت
صوت ( يا بعيدَ الدار موصولاً ... بقلبي ولساني )
( ربمّا باعَدَك الدهرُ ... فأذنْتك الأماني )
الغناء في هذين البيتين لسليم هزج بالبنصر عن الهشامي قال وقال مسلم أيضا
( متى ما تسمعي بقتيلِ أرض ... فإِني ذلك الرجل القتيلُ )
ويروى أصيب فإنني ذاك القتيل فقلت
( أتيتُك عائذاً بك مِنْك ... لمّا ضاقت الحِيَلُ )
( وصيّرني هواك وبي ... لِحَيْني يُضرب المثل )
( فإن سَلِمتْ لكم نفسي ... فما لاقيتُه جَلَل )
( وإن قَتل الهوى رجلاً ... فإني ذلك الرجل )
غنى ابن المهدي فأمر له بجائزة وجدت في كتاب علي بن محمد بن نصر عن جده حمدون بن إسماعيل ولم أسمعه من أحد أن إبراهيم المهدي سأل جماعة من إخوانه أن يصطبحوا عنده قال حمدون وكنت فيهم وكان فيمن دعا مخارق فسار إليه وهو سكران لا فضل فيه لطعام ولا لشراب فاغتم لذلك إبراهيم وعاتبه على ما صنع فقال لا والله أيها الأمير ما كان آفتي إلا سليم بن سلام فإنه مر بي فدخل علي فغناني صوتا له صنعه قريبا فشربت عليه إلى السحر حتى لم يبق في فضل وأخذته
فقال له إبراهيم فغنناه إملالا فغناه
صوت ( إذا كنتَ نَدْماني فباكْر مُدامةً ... معتَّقةً زُفّت إلى غير خاطبِ )
( إذا عُتِّقت في دَنّها العامَ أقبلتْ ... تَردّي رداءَ الحسن في عين شارب )
الغناء لسليم خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر قال فبعث إبراهيم إلى سليم فأحضره فغناه إياه وطرحه على جواريه وأمر له بجائزة وشربنا عليه بقية يومنا حتى صرنا في حالة مخارق وصار في مثل أحوالنا
صوت
من المائة المختارة ( عَتَق الفؤادُ من الصِّبا ... ومن السَّفاهة والعلاق )
( وحَطَطتُ رحلي عن قَلوص ... الحبّ في قُلُصٍ عِتاق )
( ورفعتُ فضلَ إزاريَ ... الْمجرور عن قدمي وساقي )
( وكففت غربَ النفس حتى ... ما تَتُوق إلى مَتاق )
لم يقع إلينا قائل هذا الشعر والغناء لإبن عباد الكاتب ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل وقيل إنه لغيره بل قيل إنه لعمرو
أخبار ابن عباد هو محمد بن عباد مولى بني مخزوم وقيل إنه مولى بني جمح ويكنى أبا جعفر
مكي من كبراء المغنين من الطبقة الثانية منهم
وقد ذكره يونس الكاتب فيمن أخذ عنه الغناء متقن الصنعة كثيرها وكان أبوه من كتاب الديوان بمكة فلذلك قيل ابن عباد الكاتب
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن عثمان بن حفص الثقفي عن أبي خالد الكناني عن ابن عباد الكاتب قال والله إني لأمشي بأعلى مكة في الشعب إذا أنا بمالك على حمار له ومعه فتيان من أهل المدينة فظننت أنهم قالوا له هذا ابن عباد فمال إلي فملت إليه فقال لي أنت ابن عباد قلت نعم قال مل معي ها هنا ففعلت فأدخلني شعب ابن عامر ثم أدخلني دهليز ابن عامر وقال غنني فقلت أغنيك هكذا وأنت مالك وقد كان يبلغني أنه يثلب أهل مكة ويتعصب عليهم فقال بالله إلا غنيتني صوتا من صنعتك فاندفعت فغنيته
صوت ( ألاَ يا صاحبيّ قِفَا قليلاً ... على ربع تقادمَ بالمُنيفِ )
( فأمستْ دراهم شِحِطَت وبانت ... وأضحى القلبُ يخفِقُ ذا وجيف )
وما غنيته إياه إلا على احتشام فلما فرغت نظر إلي وقال لي قد والله أحسنت ولكن حلقك كأنه حلق زانية
فقلت أما إذ أفلت منك بهذا فقد أفلت وهذا اللحن من صدور غناء ابن عباد ولحنه من الثقيل الثاني بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى وعيسى بن الحسين قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني جماعة من أهل العلم أن ابن عباد الكاتب توفي ببغداد في الدولة العباسية ودفن بباب حرب وقال أبو أيوب أظنه فيمن قدم من مغني الحجاز على المهدي
صوت
من المائة المختارة ( يا طللاً غَيَّره بَعدِي ... صوبُ رَبيع صادق الرعدٍ )
( أراكَ بعد الأُنس ذا وَحْشَةٍ ... لستَ كما كنتَ على العهدِ )
( مالي أُبَكِّي طللاً كلما ... ساءلتُه عَيَّ عن الردِّ )
( كان به ذو غُنُج أهْيَفٌ ... أحْورُ مطبوعٌ على الصَّدّ )
لم يسم أبو أحمد قائل هذا الشعر والغناء ليحيى المكي ولحنه المختار من الهزج بالوسطى
أخبار يحيى المكي ونسبه هو يحيى بن مرزوق مولى بني أمية وكان يكتم ذلك لخدمته الخلفاء من بني العباس خوفا من أن يجتنبوه ويحتشموه فإذا سئل عن ولائه انتمى إلى قريش ولم يذكر البطن الذي ولاؤه لهم واستعفى من سأله عن ذلك ويكنى يحيى أبا عثمان
وذكر ابن خرداذبه أنه مولى خزاعة وليس قوله مما يحصل لأنه لا يعتمد فيه على رواية ولا دراية
أخبرني عبد الله بن الربيع أبو بكر الربيعي صديقنا رحمه الله قال حدثني وسواسة بن الموصلي وقد لقيت وسواسة هذا وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم وكان معلما ولم أسمع هذا منه فكتبته وأشياء أخر عن أبي بكر رحمه الله قال حدثني حماد بن إسحاق قال قال لي أبي سألت يحيى المكي عن ولائه فانتمى إلى قريش فاستزدته في الشرح فسألني أن أعفيه
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق ويحيى بن علي بن يحيى قالا حدثنا أبو أيوب المديني قال كان يحيى المكي يكنى أبا عثمان وهو مولى بني أمية وكان يكتم ذلك ويقول أنا مولى قريش
ولما قال أعشى بني سليم يمدح دحمان
( كانوا فحولاً فصاروا عند حَلْبتهم ... لمّا انبرى لهمُ دَحْمان خِصياناَ )
( فأَبلِغوه عن الأعشىَ مقالَته ... أعشى سُلَيم أبي عمرو سُليمانا )
( قولوا يقول أبو عمرو لصُحْبَته ... ياليت دحمانَ قبل الموت غنّانا )
قال أبان بن عبد الحميد اللاحقي ويقال إن ابنه حمدان بن أبان قالها والأشبه عندي أنها لأبان وما أظن ابنه أدرك يحيى
( يا مَنْ يُفضّل دحماناً ويمدحه ... على المغنين طُرًّا قلتَ بهتانَا )
( لو كنتَ جالستَ يحيى أو سمعتَ به ... لم تمتدح أبداً ما عشتَ إنساناَ )
( ولم تقُل سَفَهاً في مُنيةٍ عَرَضتْ ... ياليت دحمان قبل الموت غنّانا )
( لقد عجبتُ لدحمان ومادِحه ... لا كان مادحُ دحمانٍ ولا كانا )
( ما كان كابن صغير العين إذ جَرَيا ... بل قام في غاية المجرى وما دانَى )
( بذّ الجيادَ أبو بكر وصيرها ... من بعد ما قَرِحتْ جُذْعاً وثُنيانا )
يعني بأبي بكر ابن صغير العين وهو من مغني مكة وله أخبار تذكر في موضعها إن شاء الله تعالى
منزلته في الغناء وعمر يحيى المكي مائة وعشرين سنة وأصاب بالغناء ما لم يصبه أحد من نظرائه ومات وهو صحيح السمع والبصر والعقل
وكان قدم مع الحجازيين الذين قدموا على المهدي في أول خلافته فخرج أكثرهم وبقي يحيى بالعراق هو وولده يخدمون الخلفاء إلى أن انقرضوا
وكان آخرهم محمد بن أحمد بن يحيى المكي وكان يغني مرتجلا ويحضر مجلس المعتمد مع المغنين فيوقع بقضيب على دواة
ولقيه جماعة من أصحابنا وأخذ عنه جماعة ممن أدركنا من عجائز المغنيات منهم قمرية العمرية وكانت أم ولد عمرو بن بانة
وممن أدركه من أصحابنا جحظة
وكتبنا عنه عن ابن المكي هذا حكايات حسنة من أخبار أهله
وكان ابن جامع وإبراهيم الموصلي وفليح يفزعون إليه في الغناء القديم ويأخذونه عنه ويعايي بعضهم بعضا بما يأخذه منه ويغرب به على أصحابه فإذا خرجت لهم الجوائز أخذوا منها ووفروا نصيبه
وله صنعة عجيبة نادرة متقدمة وله كتاب في الأغاني ونسبها وأخبارها وأجناسها كبير جليل مشهور إلا أنه كان كالمطرح عند الرواة لكثرة تخليطه في رواياته
والعمل على كتاب ابنه أحمد فإنه صحح كثيرا مما أفسده أبوه وأزال ما عرفه من تخاليط أبيه وحقق ما نسبه من الأغاني إلى صانعه وهو يشتمل على نحو ثلاثة آلاف صوت
ألف كتابا في الأغاني وأهداه لعبد الله بن طاهر أخبرني عبد الله بن الربيع قال حدثني وسواسة بن الموصلي قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي قال عمل جدي كتابا في الأغاني وأهداه إلى عبد الله بن طاهر وهو يومئذ شاب حديث السن فاستحسنه وسر به ثم عرضه على إسحاق فعرفه عوارا كثيرا في نسبه لأن جدي كان لا يصحح لأحد نسبة صوت البتة وينسب صنعته إلى المتقدمين وينحل بعضهم صنعة بعض ضنا بذلك على غيره فسقط من عين عبد الله وبقي في خزانته ثم وقع إلى محمد بن عبد الله فدعا أبي وكان إليه محسنا وعليه مفضلا فعرضه عليه فقال له إن في هذه النسب تخليطا كثيرا خلطها أبي لضنه بهذه الشأن على الناس ولكني أعمل لك كتابا أصحح هذا وغيره فيه
فعمل له كتابا فيه اثنا عشر ألف صوت وأهداه إليه فوصله محمد بثلاثين ألف درهم وصحح له الكتاب الأول أيضا فهو في أيدي الناس
قال وسواسة وحدثني حماد أن أباه إسحاق كان يقدم يحيى المكي تقديما كثيرا ويفضله ويناضل أباه وابن جامع فيه ويقول ليس يخلو يحيى فيما يرويه من الغناء الذي لا يعرفه أحد منكم من
أحد أمرين إما أن يكون محقا فيه كما يقول فقد علم ما جهلتم أو يكون من صنعته وقد نحله المتقدمون كما تقولن فهو أفضل له وأوضح لتقدمه عليكم
قال وكان أبي يقول لولا ما أفسد به يحيى المكي نفسه من تخليطه في رواية الغناء على المتقدمين وإضافته إليهم ما ليس لهم وقلة ثباته على ما يحكيه من ذلك لما تقدمه أحد
وقال محمد بن الحسن الكاتب كان يحيى يخلط في نسب الغناء تخليطا كثيرا ولا يزال يصنع الصوت بعد الصوت يتشبه فيه بالغريض مرة وبمعبد أخرى وبإبن سريج وابن محرز ويجتهد في إحكامه وإتقانه حتى يشتبه على سامعه فإذا حضر مجالس الخلفاء غناه على ما أحدث فيه من ذلك فيأتي بأحسن صنعة وأتقنها وليس أحد يعرفها فيسأل عن ذلك فيقول أخذته عن فلان وأخذه فلان عن يونس أو عن نظرائه من رواة الأوائل فلا يشك في قوله ولا يثبت لمباراته أحد ولا يقوم لمعارضته ولا يفي بها حتى نشأ إسحاق فضبط الغناء وأخذه من مظانه ودونه وكشف عوار يحيى في منحولاته وبينها للناس
إسحاق يظهر غلطه أخبرني عمي قال سمعت عبيد الله بن عبد الله بن طاهر يذكر عن أحمد ابن سعيد المالكي وكان مغنيا منقطعا إلى طاهر وولده وكان من القواد قال حضرت يحيى المكي يوما وقد غنى صوتا فسئل عنه فقال هذا لمالك ولم يحفظ أحمد بن سعيد الصوت ثم غنى لحنا لمالك فسئل عن صانعه فقال هذا لي فقال له إسحاق قلت ماذا فديتك وتضاحك به
فسئل عن
صانعه فأخبر به ثم غنى الصوت فخجل يحيى حتى أمسك عنه ثم غنى بعد ساعة في الثقيل الأول واللحن
صوت ( إنّ الخَليطَ أَجَدّ فاحَتَمَلا ... واراد غيظَك بالذي فعلا )
( فظلِلْتَ تأمُل قربَ أَوْبَتهم ... والنفسُ مما تأمُل الأملا )
فسئل عنه فنسبه إلى الغريض فقال له إسحاق يا أبا عثمان ليس هذا من نمط الغريض ولا طريقته في الغناء ولو شئت لأخذت ما لك وتركت للغريض ما له ولم تتعب
ُفاستحيا يحيى ولم ينتفع بنفسه بقية يومه فلما انصرف بعث إلى إسحاق بألطاف كثيرة وبرواسع وكتب إليه يعاتبه ويستكف شره ويقول له لست من أقرانك فتضادني ولا أنا ممن يتصدى لمباغضتك ومباراتك فتكايدني ولأنت إلى أن أفيدك وأعطيك ما تعلم أنك لا تجده عند غيري فتسمو به على أكفائك أحوج منك إلى أن تباغضني فأعطي غيرك سلاحا إذا حمله عليك لم تقم له وأنت أولى وما تختار
فعرف إسحاق صدق يحيى فكتب إليه يعتذر ورد الألطاف التي حملها إليه وحلف لا يعارضه بعدها وشرط عليه الوفاء بما وعده به من الفوائد فوفى له بها وأخذ منه كل ما أراد من غناء المتقدمين
وكان إذا حز به مر في شيء منها فزع إليه فأفاده وعاونه ونصحه وما عاود إسحاق معارضته بعد ذلك
وحذره يحيى فكان إذا سئل بحضرته عن شيء صدق فيه وإذا غاب إسحاق خلط فيما يسأل عنه قال وكان يحيى إذا صار إليه إسحاق يطلب منه شيئا أعطاه إياه وأفاده وناصحه ويقول لإبنه أحمد تعال حتى تأخذ مع أبي محمد ما الله يعلم أني كنت أبخل به عليك فضلا عن غيرك فيأخذه أحمد عن أبيه مع
إسحاق قال وكان إسحاق بعد ذلك يتعصب ليحيى تعصبا شديدا ويصفه ويقدمه ويعترف برياسته وكذلك كان في وصف أحمد ابنه وتقريظه
عدد أصواته التي صنعها قال أحمد بن سعيد والإختلاف الواقع في كتب الأغاني إلى الآن من بقايا تخليط يحيى قال أحمد بن سعيد وكانت صنعة يحيى ثلاثة آلاف صوت منها زهاء ألف صوت لم يقاربه فيها أحد والباقي متوسط
وذكر بعض أصحاب أحمد بن يحيى المكي عنه أنه سئل عن صنعة أبيه فقال الذي صح عندي منها ألف وثلثمائة صوت منها مائة وسبعون صوتا غلب فيها على الناس جميعا من تقدم منهم ومن تأخر فلم يقم له فيها أحد
وقال حماد بن إسحاق قال لي أبي كان يحيى المكي يسأل عن الصوت وهو يعلم لمن هو فينسبه إلى غير صانعه فيحمل ذلك عنه كذلك ثم يسأله آخرون فينسبه غير تلك النسبة حتى طال ذلك وكثر منه وقل تحفظه فظهر عواره ولولا ذلك لما قاومه أحد
وقال أحمد بن سعيد المالكي في خبره قال إسحاق يوما للرشيد قبل أن تصلح الحال بينه وبين يحيى المكي أتحب يا أمير المؤمنين أن أظهر لك كذب يحيى فيما ينسبه من الغناء قال نعم قال أعطني أي شعر شئت حتى أصنع فيه واسألني بحضرة يحيى عن نسبته فإني سأنسبه إلى رجل لا أصل له واسأل يحيى عنه إذا غنيته فإنه لا يمتنع من أن يدعي معرفته
فأعطاه شعرا فصنع فيه لحنا وغناه الرشيد ثم قال له يسألني أمير المؤمنين عن نسبته بين يديه
فلما حضر يحيى غناه إسحاق فسأله الرشيد
لمن هذا اللحن فقال له إسحاق لغناديس المديني فأقبل الرشيد على يحيى فقال له أكنت لقيت غناديس المديني قال نعم لقيته وأخذت عنه صوتين ثم غنى صوتا وقال هذا أحدهما
فلما خرج حلف إسحاق بالطلاق ثلاثا وعتق جواريه أن الله ما خلق أحدا اسمه غناديس ولا سمع في المغنين ولاغيرهم وأنه وضع ذلك الإسم في وقته ذلك لينكشف أمره
حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي المرتجل قال غني جدي يوما بين يدي الرشيد
صوت ( هل هَيّجَتك مَغَانِي الحيّ والدُّورُ ... فاشتقْتَ إن الغريبَ الدارِ معذورُ )
( وهل يَحُلّ بنا إذ عيشُنا أَنِقُ ... بِيضُ أوانسُ أمثالُ الدُّمَى حُور )
والصنعة له خفيف ثقيل فسار إليه إسحاق وسأله أن يعيده إياه فقال نعم حبا وكرامة لك يابن أخي ولو غيرك يروم ذلك لبعد عليه وأعاده حتى أخذه إسحاق
فلما انصرف بعث إلى جدي بتخت ثياب وخاتم ياقوت نفيس
حدثني جحظة قال حدثني القاسم بن زرزور عن أبيه عن مولاه علي بن المارقي قال قال لي إبراهيم بن المهدي ويلك يا مارقي إن يحيى المكي غنى البارحة
بحضرة أمير المؤمنين صوتا فيه ذكر زينب وقد كان النبيذ أخذ مني فأنسيت شعره واستعدته إياه فلم يعده فاحتل لي عليه حتى تأخذه لي منه ولك علي سبق
فقال لي المارقي وأنا يومئذ غلامه اذهب إليه فقل له إني أسأله أن يكون اليوم عندي فمضيت إليه فجئته به
فلما تغدوا وضع النبيذ فقال له المارقي إني كنت سمعتك تغني صوتا فيه زينب وأنا أحب أن آخذه منك وكان يحيى يوفي هذا الشأن حقه من الأستقصاء فلا يخرج عنه إلا بحذر ولا يدع الطلب والمسألة ولا يلقي صوتا إلا بعوض
قال لي جحظة في هذا الفصل هذا فديتك فعل يحيى مع ما أفاده من المال ومع كرم من عاشره وخدمه من الخلفاء مثل الرشيد والبرامكة وسائر الناس لا يلام ولا يعاب ونحن مع هؤلاء السفل إن جئناهم نكارمهم تغافلوا عنا وإن أعطونا التزر اليسير منوا به علينا وعابونا فمن يلومني أن أشتمهم فقلت ما عليك لوم
قال فقال له يحيى وأي شيء العوض إذا ألقيت عليك هذا الصوت قال ما تريد قال هذه الزربية الأرمينية كم تقعد عليها أما آن لك أن تملها قال بلى وهي لك
قال وهذه الظباء الحرمية وأنا مكي لا أنت وأنا أولى بها قال هي لك وأمر بحملها معه فلما حصلت له قال المارقي يا غلام هات العود قال يحيى والميزان والدراهم وكان لا يغني أو يأخذ خمسين درهما فأعطاه إياه فألقى عليه قوله
( بزينبَ ألمم قبلَ أن يَرْحَلَ الركبُ ... وقُلْ إن تَمَلِّينا فما ملّكِ القلبُ )
ولحنه لكردم ثقيل أول فلم يشك المارقي أنه قد أخذ الصوت الذي طلبه إبراهيم وأدرك حاجته
فبكر إلى إبراهيم وقد أخذ الصوت فقال له قد جئتك
بالحاجة فدعا بالعود فغناه إياه فقال له لا والله ما هو هذا وقد خدعك فعاود الإحتيال عليه
فبعثني إليه وبعث معي خمسين درهما فلما دخل إليه وأكلا وشربا قال له يحيى قد واليت بين دعواتك لي ولم تكن برا ولا وصولا فما هذا قالا شيء والله إلا محبتي للأخذ عنك والإقتباس منك فقال سرك الله فمه
قال تذكرت الصوت الذي سألتك إياه فإذا ليس هو الذي ألقيت علي قال فتريد ماذا قال تذكر الصوت قال أفعل ثم اندفع فغناه
( أَلْمِمْ بزينبَ إنّ البينَ قد أَفدَا ... قَلّ الثَواءُ لئن كان الرحيلُ غدا )
والغناء لمعبد ثقيل أول فقال له نعم فديتك يا أبا عثمان هذا هو ألقه علي قال العوض قال ما شئت قال هذا المطرف الأسود قال هو لك فأخذه وألقى عليه هذا الصوت حتى استوى له وبكر إلى إبراهيم فقال له ما وراءك قال قد فضيت الحاجة فدعا له بعود فغناه فقال خدعك والله ليس هذا هو فعاود الإحتيال عليه وكل ما تعطيه إياه ففي ذمتي
فلما كان اليوم الثالث بعث بي إليه فدعوته وفعلنا مثل فعلنا بالأمس فقال له يحيى فمالك أيضا قال له يا أبا عثمان ليس هذا الصوت هو الذي أردت فقال له لست أعلم ما في نفسك فأذكره وإنما علي أن أذكر ما فيه زينب من الغناء كما التمست حتى لا يبقى عندي زينب البتة إلا أحضرتها فقال هات على اسم الله فقال اذكر العوض قلت ما شئت قال هذه الدراعة الوشي التي عليك قال فخذها والخمسين الدرهم فأحضرها فألقى عليه والغناء لمعبد ثقيل أول
( لزينبَ طيفُ تعتريني طوارقُه ... هدوءاً إذا النجمُ ارجحنّت لواحقُه )
فأخذه منه ومضى إلى إبراهيم فصادفه يشرب مع الحرم فقال له حاجبه هو متشاغل فقال قل له قد جئتك بحاجتك فدخل فأعلمه فقال يدخل فيغنيه في الدار وهو قائم فإن كان هو وإلا فليخرج ففعل فقال لا والله ما هو هذا ولقد خدعك فعاود الإحتيال عليه ففعل مثل ذلك بيحيى فقال له يحيى وهو يضحك أما ظفرت بزينبك بعد فقال لا والله يا أبا عثمان وما أشك في أنك تعتمدني بالمنع مما أريده وقد أخذت كل شيء عندي معابثة
فضحك يحيى وقال قد استحييت منك الآن وأنا ناصحك على شريطة قال نعم لك الشريطة قال لا تلمني في أن أعابثك لأنك أخذت في معابثتي والمطلوب إليه أقدر من الطالب فلا تعاود أن تحتال علي فإنك تظفر مني بما تريد إنما دسك إبراهيم بن المهدي علي لتأخذ مني صوتا غنيته فسألني إعادته فمنعته بخلا عليه لأنه لا يلحقني منه خير ولا بركة ويريد أن يأخذ غنائي باطلا وطمع بموضعك أن تأخذ الصوت بلا ثمن ولا حمد ولا والله إلا بأوفر ثمن وبعد اعترافك وإلا فلا تطمع في الصوت
فقال له أما إذ فطنت فالأمر والله على ما قلت فتغنيه الآن بعينه على شرط أنه إن كان هو هو وإلا فعليك إعادته ولو غنيتني كل شيء تعرفه لم أحتسب لك إلا به قال اشتره فتساوما طويلا وماكسه حتى بلغ الصوت ألف درهم فدفعها إليه وألقى عليه
صوت
( طَرَقْتك زينبُ والمزَار بعيدُ ... بمنى ونحن مُعرِّسون هجودُ )
( فكأنما طَرَقتْ بريّا روضةٍ ... أُنُفِ تُسَحْسِح مُزنَها وتَجُود )
لحنه خفيف ثقيل قال وهو صوت كثير العمل حلو النغم محكم الصنعة صحيح القسمة حسن المقاطع فأخذه وبكر إلى إبراهيم بن المهدي فقال له قد أفقرني هذا الصوت وأعراني وأبلاني بوجه يحيى المكي وشحه وطلبه وشرهه وحدثه بالقصة فضحك إبراهيم وغناه إياه فقال هذا وأبيك هو بعينه
فألقاه عليه حتى أخذه وأخلف عليه كل شيء أخذه يحيى منه وزاده خمسة آلاف درهم وحمله على برذون أشهب فاره بسرجه ولجامه
فقال له يا سيدي فغلامك زرزور المسكين قد تردد عليه حتى ظلع هب له شيئا فأمر له بألف درهم
غناؤه للأمين وللرشيد حدثني جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال حدثني ريق وشارية جميعا قالتا كان مولانا تعنيان أبي في مجلس محمد الأمين يوما والمغنون حضور
فغنى يحيى المكي واللحن له خفيف ثقيل
صوت ( خليلٌ لي أهيمُ به ... فما كافا ولا شَكَرَا )
( بلى يُدْعَى له باسمي ... إذا ما رِيع أو عثَرا )
فاسترده سيدنا وأحب أن يأخذه فجعل يحيى يفسده وفطن الأمين بذلك فأمر له بعشرين ألف درهم وأمره برده وترك التخليط فدعا له وقبل الأرض بين يديه ورد الصوت وجوده ثم استعاده فقال له يحيى ليست تطيب لك نفسي به إلا بعوض من مالك ولا أنصحك والله فيه فهذا مال مولاي أخذته فلم تأخذ أنت غنائي فضحك الأمين وحكم على إبراهيم بعشرة آلاف درهم فأحضرها فقبل يحيى يده وأعاد الصوت وجوده فنظر إلى مخارق وعلويه يتطلعان لأخذه فقطع الصوت ثم أقبل عليهما وقال قطعة من خصية الشيخ تغطي أستاه عدة صبيان والله لا أعدته بحضرتكما
ثم أقبل على مولانا تعنيان إبراهيم بن المهدي فقال يا سيدي إني أصير إليك حتى تأخذه عني متمكنا ولا يشركك فيه أحد فصار إليه فأعاده حتى أخذه عنه وأخذناه معه
أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال
أرسل إلي هارون الرشيد فدخلت إليه وهو جالس على كرسي بتل دارا فقال يا يحيى غنني
( متى تلتقي الأُلاّفُ والعيسُ كلَّما ... تَصعَّدْنَ من وادٍ هبطن إلى واد )
فلم أزل أغنيه إياه ويتناول قدحا إلى أن أمسى فعددت عشر مرات استعاد فيها الصوت وشرب عشرة أقداح ثم أمر لي بعشرة آلاف درهم وأمرني بالإنصراف
وقال محمد بن أحمد بن يحيى المكي في خبره حدثني أبي أحمد بن يحيى قال قال لي إسحاق يا أبا جعفر لأبيك مائة وسعبون صوتا من أخذها عنه بمائة وسبعين ألف درهم فهو الرابح فقلت لأبي أي شيء تعرف منها فقال لحنه في شعر الأخطل
صوت
( خَفّ القَطِينُ فراحوا منكَ وابتكروا ... وأزعجتْهم نَوىً في صَرْفِها غِيَرُ )
( كأنني شاربُ يومَ استُبِدّ بهم ... من قَهْوةٍ عتّقتها حِمْص أو جَدَر )
لحن يحيى المكي في هذين البيتين ثقيل أول هكذا في الخبر ولإبراهيم فيهما ثقيل أول آخر ولابن سريج رمل قال ومنهما
صوت ( بانَ الخليطُ فما أؤَمِّله ... وعفا من الرَّوْحاء منزلُهُ )
( ما ظَبيةٌ أدماءُ عاطلة ... تحنو على طِفْل تُطَفِّله )
لحن يحيى في هذا الشعر ثاني ثقيل بالبنصر قال أحمد قال لي إسحاق وددت أن هذا الصوت لي أو لأبي وأني مغرم عشرة آلاف درهم
ثم قال هل سمعتم بأحسن من قوله على طفل تطفله قال ومنها
صوت
( وكفّ كُعوّاذ النقا لا يضيرها ... إذا برزتْ ألاّ يكون خِضابُ )
( أنامل فُتْخُ لا تَرى بأصولها ... ضُموراً ولم تَظْهَر لهن كِعابُ )
ولحنه من الثقيل الثاني قال ومنها
صوت ( صَادتْك هندُ وتلك عادتها ... فالقلب مما يَشُفّه كَمِدُ )
( كم تشتكي الشوقَ من صبابتها ... ولا تبالي هندُ بما تَجد )
ولحنه من خفيف الثقيل قال ومنها
صوت ( أَعَسيتَ مِنَ سَلْمى هواكَ ... اليوم محتلاًّ جديداَ )
( ومَرَابِطَ الخيلِ الجِيادِ ... ومنزلاً خَلَقاً هَمُودا )
ولحنه خفيف ثقيل أيضا قال ومنها
صوت
( ألاَ مرحباً بخيالٍ ألمّ ... وإن هاج للقلب طولَ الأَلَمْ )
( خيالُ لأسماءَ يَعتادني ... إذا الليلُ مَدَّ رِواقَ الظُّلَم )
ولحنه ثقيل أول قال ومنها
صوت ( كم ليلةٍ ظلماءَ فيكِ سَرَيْتُها ... أَتْعبتُ فيها صُحْبتي وركابي )
( لا يُبصر الكلبُ السَّرُوق خِباءها ... ومواضعَ الأوتاد والأَطناب )
لحنه ثاني ثقيل بالوسطى وفيه خفيف ثقيل بالوسطى للغريض قال ابن المكي غنى أبي الرشيد ليلة هذا الصوت فأطربه ثم قال له ثم يا يحيى فخذ ما في ذلك البيت فظنه فرشا أو ثيابا فإذا فيه أكياس فيها عين وورق فحملت بين يديه فكانت خمسين ألف درهم مع قيمة العين قال ومنها
صوت
( إني امرؤٌ مالي يِقي عِرْضي ... ويَبيت جاري آمناً جَهْلِي )
( وأرى الذّمامة للرَّفيق إذا ... ألقَى رِحالَتْه إلى رَحْلي )
ولحنه خفيف ثقيل قال ابن المكي غنى ابن جامع الرشيد يوما البيت الأول من هذين البيتين ولم يزد عليه شيئا فأعجب به الرشيد واسترده مرارا وأسكت لإبن جامع المغنين جميعا
وجعل يسمعه ويشرب عليه ثم أمر له بعشرة آلاف
درهم وعشرة خواتيم وعشر خلع وانصرف
فمضى إبراهيم من وجهه إلى يحيى المكي فأستأذن عليه فأذن له فأخبره بالذي كان من أمر ابن جامع واستغاث به
فقال له يحيى أفزاد على البيت الأول شيئا قال لا قال أفرأيت إن زدتك بيتا ثانيا لم يعرفه إسماعيل أو عرفه ثم أنسيه وطرحته عليك حتى تأخذه ما تجعل لي قال النصف مما يصل إلي بهذا السبب قال والله فأخذ بذلك عليه عهدا وشرطا واستحلفه عليه أيمانا مؤكدة ثم زاده البيت الثاني وألقاه عليه حتى أخذه وانصرف
فلما حضر المغنون من غد ودعي به كان أول صوت غناه إبراهيم هذا الصوت وجاء بالبيت الثاني وتحفظ فيه فأصاب وأحسن كل الإحسان وشرب عليه الرشيد واستعاده حتى سكر وأمر لإبراهيم بعشرة آلاف درهم وعشرة خواتيم وعشر خلع فحمل ذلك كله وانصرف من وجهه ذلك إلى يحيى فقاسمه ومضى إلى منزله
وانصرف ابن جامع إليه من دار الرشيد وكان يحيى في بقايا علة فاحتجب عنه فدفع ابن جامع في صدر بوابه ودخل إليه فقال له إيه يا يحيى كيف صنعت ألقيت الصوت على الجرمقاني لا دفع الله صرعتك ولا وهب لك العافية وتشاتما ساعة ثم خرج ابن جامع من عنده وهو مدوخ
إسحاق الموصلي يمدحه في جمع المغنين حدثني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني محمد بن أحمد بن يحيى المكي عن أبيه قال قال لي إسحاق كنت أنا وأبوك وابن جامع وفليح بن أبي العوراء وزبير بن دحمان يوما عند الفضل بن الربيع فانبرى زبير بن دحمان لأبيك يعني يحيى فجعلا يغنيان
ويباري كل واحد منهما صاحبه وذلك يعجب الفضل وكان يتعصب لأبيك ويعجب به
فلما طال الأمر بينهما قال له الزبير أنت تنتحل غناء الناس وتدعيه وتنحلهم ما ليس لهم فأقبل الفضل علي وقال احكم أيها الحاكم بينهما فلم يخف عليك ما هما فيه فقلت لئن كان ما يرويه يحيى ويغنيه شيئا لغيره فلقد روى ما لم يرووه وما لم نروه وعلم ما جهلناه وجهلوه ولئن كان من صنعته إنه لأحسن الناس صنعة وما أعرف أحدا أروى منه ولا أصح أداء للغناء كان ما يغنيه له أو لغيره فسر بذلك الفضل وأعجبه وما زال أبوك يشكره لي
صوت
من المائة المختارة ( أهاجتْك الظعائنُ يوم بانوا ... بذي الزِّيّ الجميل من الأثاثِ )
( ظعائنُ أُسلِكتْ نَقْب المُنَقَّى ... تَحَثّ إذا ونتْ أيَّ احتثاث )
الشعر للنميري والغناء للغريض ولحنه المختار ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر
أخبار النميري ونسبه هو محمد بن عبد الله بن نمير بن خرشة بن ربيعة بن حبيب بن الحارث بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي وقسي هو ثقيف شاعر غزل مولد ومنشؤه بالطائف من شعراء الدولة الأموية وكان يهوى زينب بنت يوسف بن الحكم أخت الحجاج بن يوسف وله فيها أشعار يتشبب بها
حدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثنا العمري عن لقيط بن بكير المحاربي وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عمر بن شبة أن النميري كان يهوى زينب بنت يوسف أخت الحجاج بن يوسف بن الحكم لأبيه وأمه
وأمهما الفارعة بنت همام بن عروة بن مسعود الثقفي وكانت عند المغيرة بن شعبة فرآها بكرة وهي تتخلل فقال لها والله لئن كان من
غداء لقد جشعت ولئن كان من عشاء لقد أنتنت وطلقها
فقالت أبعدك الله فبئس بعل المرأة الحرة أنت والله ما هو إلا من شظية من سواكي استمسكت بين سنين من أسناني قال حبيب بن نصر خاصة في خبره قال عمر بن شبة حدثنا بذلك أبو عاصم النبيل
أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عمر بن شبة عن يعقوب بن داود الثقفي وحدثنا به ابن عمار والجوهري عن عمر بن شبة ولم يذكرا فيه يعقوب بن داود قالوا جميعا
قال مسلم بن جندب الهذلي وكان قاضي الجماعة بالمدينة إني لمع محمد بن عبد الله بن نمير بنعمان وغلام يسير خلفه يشتمه أقبح الشتيمة فقلت من هذا فقال هذا الحجاج بن يوسف فإني ذكرت أخته في شعري فأحفظه ذلك
قال عمر بن شبة في خبره وولدت الفارعة أم الحجاج من المغيرة بن شعبة بنتا فماتت فنازع الحجاج عروة بن المغيرة إلى ابن زياد في ميراثها فأغلظ الحجاج لعروة فأمر به ابن زياد فضرب أسواطا على رأسه وقال لأبي عبد الله تقول هذه المقالة وكان الحجاج حاقدا على آل زياد ينفيهم من آل أبي سفيان ويقول آل أبي سفيان سته حمش وآل زياد رسح حدل
وكان يوسف بن الحكم اعتل علة فطالت عليه فنذرت زينب إن عوفي أن تمشي إلى البيت فعوفي فخرجت في نسوة فقطعن بطن وج وهو ثلثمائة ذراع في يوم جعلته مرحلة لثقل بدنها ولم تقطع ما بين مكة والطائف إلا في شهر
فبينا هي تسير إذ لقيها إبراهيم بن عبد الله النميري أخو محمد بن عبد الله منصرفا من العمرة فلما قدم الطائف أتى محمدا يسلم عليه فقال له ألك علم بزينب قال نعم لقيتها بالهماء في بطن نعمان فقال ما أحسبك إلا وقد قلت شيئا قال نعم قلت بيتا واحدا وتناسيته كراهة أن ينشب بيننا وبين إخواننا شر فقال محمد هذه القصيدة وهي أول ما قاله
صوت
شعره في زينب ( تَضَوّع مسكاً بطنُ نَعْمان إذ مشتْ ... به زينبٌ في نسوة عَطِرات )
( فأصبح ما بين الهَمَاء فحزوة ... إلى الماء ماء الجِزْع ذي العُشَرات )
( له أَرَجٌ من مِجْمَر الهند ساطع ... تَطلعُ رَيّاه من الكَفِرات )
( تهادَين ما بين المُحَصَّب من مِنىً ... وأقبلن لا شُعْثاً ولا غَبِرات )
( أعان الذي فوق السموات عرشُه ... مواشي بالبَطْحاء مُؤْتجِرات )
( مَرَرْن بَفَخٍّ ثم رُحْن عشيةً ... يُلبِّين للرحمن معتمِرات )
( يُخبِّئن أطرافَ البنان من التقى ... ويقتلن بالألحاظ مقتدرات )
( تَقَسّمن لُبّي يوم نَعْمانَ إنني ... رأيتُ فؤادي عارِم النظرات )
( جَلَوْنَ وجوهاً لم تَلُحْها سمائمٌ ... حَرُورٌ ولم يُشْفَعْن بالسَّبَرات )
( فقلتُ يَعافِيرُ الظباءِ تناولتْ ... نِياعَ غصون المَرْد مُهْتَصِرات )
( ولما رأتْ ركبَ النُّمَيري راعَها ... وكنّ مِنَ أنْ يَلْقَيْنَه حذِراتَ )
( فأدْنين حتى جاوز الركبُ دونها ... حجاباً من القسِّيّ والحِبرات )
( فكدتُ اشتياقاً نحوَها وصَبابةً ... تَقَطّعُ نفسي إثْرها حَسَرات )
( فراجعتُ نفسي والحفيظةَ بعدما ... بَلَلتُ رداء العصْب بالعَبرات )
غنى ابن سريج في الأول وبعده مررن بفخ وبعده يخمرن أطراف البنان ولحنه ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق قال أبو زيد فبلغت هذه القصيدة عبد الملك بن مروان فكتب إلى الحجاج قد بلغني قول الخبيث في زينب فاله عنه وأعرض عن ذكره فإنك إن أدنيته أو عاتبته أطمعته وإن عاقبته صدقته
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو سلمة الغفاري قال هرب النميري من الحجاج إلى عبد الملك واستجار به فقال له عبد الملك أنشدني ما قلت في زينب فأنشده فلما انتهى إلى قوله
( ولما رأتْ ركبَ النميريّ أعرضتْ ... وكُنَّ مِنَ أن يَلْقَيْنه حَذِراتِ )
قال له عبد الملك وما كان ركبك يا نميري قال أربعة أحمرة لي كنت أجلب عليها القطران وثلاثة أحمرة صحبتي تحمل البعر فضحك عبد الملك حتى
استغرب ضحكا ثم قال لقد عظمت أمرك وأمر ركبك وكتب له إلى الحجاج أن لا سبيل له عليه
فلما أتاه بالكتاب وضعه ولم يقرأه ثم أقبل على يزيد بن أبي مسلم فقال له أنا بريء من بيعة أمير المؤمنين لئن لم ينشدني ما قال في زينب لآتين على نفسه ولئن أنشدني لأعفون عنه وهو إذا أنشدني آمن فقال له يزيد ويلك أنشده فأنشده قوله
( تَضوّعَ مسكاً بطنُ نَعْمان إذ مشتْ ... به زينبٌ في نسوة خَفِراتِ )
فقال كذبت والله ما كانت تتعطر إذا خرجت من منزلها ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله
( ولما رأت ركبَ النُّمَيري راعها ... وكنّ مِنَ أن يلقينه حَذِراتِ )
قال له حق لها أن ترتاع لأنها من نسوة خفرات صالحات ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله
( مَرَرْن بفَخّ رائحاتٍ عشيةً ... يُلبّين للرحمن معتمِرات )
فقال صدقت لقد كانت حجاجة صوامة ما علمتها ثم أنشده حتى بلغ إلى قوله
( يُخمِّرن أطراف البنان من التقى ... ويخرجن جنحَ الليل مُعْتِجراتِ )
فقال له صدقت هكذا كانت تفعل وهكذا المرأة الحرة المسلمة ثم قاله له ويحك إني أرى ارتياعك ارتياع مريب وقولك قول بريء وقد أمنتك ولم يعرض له
قال أبو زيد وقيل إنه طالب عريفه به وأقسم لئن لم يجئه به ليضربن عنقه فجاءه به بعد هرب طويل منه فخاطبه بهذه المخاطبة
قال أبو زيد وقال النميري في زينب أيضا
صوت ( طَرِبتَ وشاقتك المنازلُ من جَفْن ... ألاَ ربما يعتادك الشوقُ بالحُزْنِ )
( نظرت إلى أظعان زينبَ باللِّوى ... فأعولْتها لو كان إعوالُها يُغني )
( فوالله لا أنساك زينبُ مادعتْ ... مُطوَّقةٌ ورقاءُ شجواً على غُصن )
( فإِنّ احتمال الحيّ يومَ تحمّلوا ... عَناك وهل يَعنيك إلا الذي يَعني )
( ومُرْسلة في السّر أن قد فضحتَني ... وصرّحتَ بإسمي في النَّسيب فماتَكْني )
( وأشمتَّ بي أهلي وجُلَّ عشيرتي ... ليَهْنِئْك ما تهواه إن كان ذا يَهْني )
( وقد لامني فيها ابنُ عمّي ناصحاً ... فقلتُ له خذ لي فؤاديَ أو دَعْني )
غنى ابن سريج في الأول والثاني والخامس والسادس من هذه الأبيات لحنا من الرمل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق قال أبو زيد فيقال إنه بلغ زينب بنت يوسف قوله هذا فبكت فقالت لها خادمتها ما يبكيك فقالت أخشى أن يسمع بقوله هذا جاهل بي لا يعرفني ولا يعلم مذهبي فيراه حقا
قال وقال النميري فيها أيضا
( أهاجتْك الظعائنُ يوم بانوا ... بذي الزِّيّ الجميل من الأثاثِ )
( ظعائنُ أُسلكتْ نَقْبَ المُنَقَّى ... تُحَثّ إذا ونتْ أيَّ احتثاث )
( تُؤّمَّل أن تُلاقِيَ أهلَ بُصْرى ... فيالك من لقاءْ مستراث )
( كأنّ على الحدائج يوم بانوا ... نِعاجاً ترتعي بَقْل البرِاث )
( يُهَيِّجني الحمام إذا تَداعَى ... كما سجَع النوائحُ بالمَراثي )
( كأن عيونَهنّ من التبكّي ... فصوصُ الجَزْع أو يُنْع الكَباث )
( أَلاَقٍ أنت في الحَجِج البواقي ... كما لاقيتَ في الحِجج الثلاث )
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق قال قرأت على أبي حدثنا عثمان بن حفص وغيره أن يوسف بن الحكم قام إلى عبد الملك بن مروان لما بعث بالحجاج لحرب ابن الزبير وقال له يا أمير المؤمنين إن غلاما منا قال في ابنتي زينب ما لا يزال الرجل يقول مثله في بنت عمه وإن هذا يعني ابنه الحجاج لم يزل يتتوق إليه ويهم به وأنت الآن تبعثه إلى ما هناك وما آمنه عليه
فدعا بالحجاج فقال له إن محمدا النميري جاري ولا سلطان لك عليه فلا تعرض له
قال إسحاق فحدثني يعقوب بن داود الثقفي قال قال لي مسلم بن جندب الهذلي
كنت مع النميري وقد قتل الحجاج عبد الله بن الزبير وجلس يدعو الناس للبيعة فتأخر النميري حتى كان في آخرهم فدعا به ثم قال له إن مكانك لم يخف علي ادن فبايع
ثم قال له أنشدني ما قلت في زينب قال ما قلت إلا خيرا قال لتنشدني فأنشده قوله
( تَضوّع مسكاً بطنُ نَعْمانَ إذ مشتْ ... به زينتُ في نسوة عَطِرات )
( أعان الذي فوقَ السموات عرشُه ... مَواشيَ بالبَطْحاء مؤتجِرات )
( يخمِّرن أطرافَ الأكُفّ من التُّقَى ... ويخرُجْن جُنْحَ الليل معتجرات )
فما ذكرت أيها الأمير إلا كرما وخيرا وطيبا قال فأنشد كلمتك كلها فأنت آمن فأنشده حتى بلغ إلى قوله
( ولمّا رأتْ ركبَ النُّمَيريّ راعها ... وكُنّ منَ أن يَلْقَيْنه حَذِراتِ )
فقال له وما كان ركبك قال والله ما كان إلا أربعة أحمرة تحمل القطران فضحك الحجاج وأمره بالإنصراف ولم يعرض له
هربه من الحجاج أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن الخليل بن أسد عن العمري عن عطاء عن عاصم بن الحدثان قال كان ابن نمير الثقفي يشبب بزينب بنت يوسف بن الحكم فكان الحجاج يتهدده ويقول لولا أن يقول قائل صدق لقطعت لسانه
فهرب إلى اليمن ثم ركب بحر عدن وقال في هربه
( أَتَتْني عن الحَجّاج والبحرُ بيننا ... عقاربُ تَسْرِي والعيونُ هواجعُ )
( فضِقْتُ بها ذَرْعاً وأجهشتُ خِيفةً ... ولم آمَنِ الحَجَاجَ والأمرُ فاظع )
( وحلَّ بي الخطبُ الذي جاءني به ... سميعُ فليستْ تستقرّ الأضالع )
( فبِتُّ أُدير الأمرَ والرأيَ ليلتي ... وقد أخضلتْ خدِّي الدموعُ التوابع )
( ولم أر خيراً لي من الصبر إنه ... أعفُّ وخيرٌ إذ عَرَتْني الفواجع )
( وما أَمِنتْ نفسي الذي خفتُ شرَّه ... ولا طاب لي مما خَشِيتُ المضاجع )
( إلى أن بدا لي رأس إسْبِيلَ طالعاً ... وإسبيلُ حصن لم تَنَلْه الأصابع )
( فلي عن ثَقيفٍ إن هممتُ بنَجْوة ... مَهامِهُ تَهْوِي بينهنّ الهَجارع )
( وفي الأرض ذات العَرْض عنك ابن يوسف ... إذا شئتُ مَنْأىً لا أبا لكَ واسع )
( فإن نِلْتَني حَجّاجُ فاشتفِ جاهداً ... فإنّ الذي لا يحفظ اللَّهُ ضائع )
فطلبه الحجاج فلم يقدر عليه وطال على النميري مقامه هاربا واشتاق إلى وطنه فجاء حتى وقف على رأس الحجاج فقال له إيه يا نميري أنت القائل
( فإن نلتَني حَجَّاجُ فاشْتَفِ جاهداً ... )
فقال بل أنا الذي أقول
( أخاف من الحَجّاج ما لستُ حائفاً ... من الأسد العِرْباض لم يَثْنِه ذُعْرُ )
( أخاف يدَيْه أن تنالا مَقاتلي ... بأبيضَ عَضْبٍ ليس من دونه سِتْر )
وأنا الذي أقول
( فهأنذا طَوَّفْتُ شَرْقاً ومَغْرِباً ... وأُبْتُ وقد دَوّخت كلَّ مكان )
( فلو كانت العَنْقَاء منكَ تَطير بي ... لخِلْتك إلا أن تَصُدّ تراني )
قال فتبسم الحجاج وأمنه وقال له لا تعاود ما تعلم وخلى سبيله
زواج زينب أخت الحجاج
رجع الخبر إلى رواية حماد بن إسحاق قال حماد فحدثني أبي قال ذكر المدائني وغيره أن الحجاج عرض على زينب أن يزوجها محمد بن القاسم بن محمد بن الحكم بن أبي عقيل وهو ابن سبع عشرة سنة وهو يومئذ أشرف ثقفي في زمانه
أو الحكم بن أيوب بن أبي الحكم بن عقيل وهو شيخ كبير فاختارت الحكم فزوجها إياه فأخرجها إلى الشام
وكان محمد بن رياط كريها وهو يومئذ يكري
فلما ولي الحجاج العراق استعمل الحكم بن أيوب على البصرة فكلمته زينب في محمد بن رياط فولاه شرطته بالبصرة
فكتب إليه الحجاج إنك وليت أعرابيا جافيا شرطتك وقد أجزنا ذلك لكلام من سألك فيه قال ثم أنكر الحكم بعض تعجرفه فعزله
ثم استعمل الحجاج الحكم بن سعد العذري على البصرة وعزل الحكم بن أيوب عنها واستقدمه لبعض الأمر ثم رده بعد ذلك إلى البصرة وجهزه من ماله
فلما قدم البصرة هيأت له زينب طعاما وخرجت متنزهة إلى بعض البساتين ومعها نسوة فقيل لها إن فيهن امرأة لم ير أحسن ساقا منها فقالت لها زينب أريني ساقك فقالت لا إلا بخلوة فقالت ذاك لك فكشفته لها فأعطتها ثلاثين دينارا وقالت اتخذي منها خلخالا
قال وكان الحجاج وجه بزينب مع حرمه إلى الشام لما خرج ابن الأشعث خوفا عليهن فلما قتل ابن الأشعث كتب إلى عبد الملك بن مروان بالفتح وكتب مع الرسول كتابا إلى زينب يخبرها الخبر فأعطاها الكتاب وهي راكبة على بغلة في هودج فنشرته تقرؤه وسمعت البغلة قعقعة الكتاب فنفرت وسقطت زينب عنها فاندق عضداها وتهرا جوفها فماتت
وعاد إليه الرسول الذي نفذ بالفتح بوفاة زينب فقال النميري يرثيها
صوت ( لزينبَ طَيفٌ تَعتريني طوارقُه ... هُدوءاً إذا النجم ارْجَحنّتْ لواحقُهْ )
( سَيبكيكِ مِرْنانُ العشيّ يُجيبه ... لَطيفُ بنان الكفِّ دُرْمٌ مَرافقه )
( إذا ما بِساطُ اللهو مُد وأُلقيتْ ... لِلّذّاته أنماطُه ونمارقُه )
غناه معبد ولحنه ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق وما بقي من شعره من الأغاني في نسيب النميري لم نذكر طريقته وصانعه لنذكر أخباره معه
صوت
( تَضوع مسكاً بطنُ نَعْمان أنْ مشتْ ... به زينبٌ في نسوة خَفِراتِ )
( مَرَرْن بفَخٍّ رائحاتٍ عشيةً ... يُلبِّين للرحمن مُعتمِرات )
الغناء لإبن سريج ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق
أخبرني الحسين بن يحيى ومحمد بن مزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن المدائني عن عبد الله بن مسلم الفهري قال خرج عبد الله بن جعفر متنزها فصادف ابن سريج وعزة الميلاء متنزهين
فأناخ ابن جعفر راحلته وقال لعزة غنيني فغنته ثم قال لإبن سريج غنني يا أبا يحيى فغناه لحنه في شعر النميري
( تَضَوّع مسكاً بطنُ نَعْمان أن مشتْ ... )
فأمر براحلته فنحرت وشق حلته فألقى نصفها على عزة والنصف الآخر على ابن سريج فباع ابن سريج النصف الذي صار إليه بمائة وخمسين دينارا
وكانت عزة إذا جلست في يوم زينة أو مباهاة ألقت النصف الآخر عليها تتجمل به
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني الحسن بن علي بن منصور قال أخبرني أبو عتاب عن إبراهيم بن محمد بن العباس المطلبي أن سعيد بن المسيب مر في بعض أزقة مكة فسمع الأخضر الحربي يتغنى في دار العاص بن وائل
( تَضوّع مسكاً بطنُ نعمانَ إذ مشت ... به زينبٌ في نسوة خَفِراتِ )
فضرب برجله وقال هذا والله مما يلذ استماعه ثم قال
( وليست كأخرى أوسعت جيبَ دِرْعِها ... وأبدت بنانَ الكفّ للجَمَراتِ )
( وعَلّت بَنان المسك وَحْفاً مرجَّلا ... على مثل بَدْرٍ لاح في الظلمات )
( وقامتْ تَرَاءى يومَ جَمْعِ فَأَفْتنتْ ... برؤيتها مَنْ راح من عَرَفاتِ )
قال فكانوا يرون أن هذا الشعر لسعيد بن المسيب
عائشة بنت طلحة تستنشده شعره في زينب أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله أخي الأصمعي عن عبد الله بن عمران الهروي وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثني محمد بن عبد الوهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله عن عبد الله بن عمران الهروي قال لما تأيمت عائشة بنت طلحة كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة
وتخرج إلى مال لها عظيم بالطائف وقصر كان لها هناك فتتنزه فيه وتجلس بالعشيات فيتناضل بين يديها الرماة
فمر بها النميري الشاعر فسألت عنه فنسب لها فقالت ائتوني به فأتوها به فقالت له أنشدني مما قلت في زينب فامتنع عليها وقال تلك ابنة عمي وقد صارت عظاما بالية قالت أقسمت عليك بالله إلا فعلت فأنشدها قوله
( تضوّع مسكاً بطنُ نعمان أنْ مشتْ ... )
الأبيات فقالت والله ما قلت إلا جميلا ولا ذكرت إلا كرما وطيبا ولا وصفت إلا دينا وتقى أعطوه ألف درهم
فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها فقالت علي به فأحضر فقالت له أنشدني من شعرك في زينب فقال لها أو أنشدك من شعر الحارث بن خالد فيك فوثب مواليها إليه فقالت دعوه فإنه أراد أن يستقيد لبنت عمه هات مما قال الحارث في فأنشدها
( ظَعَن الأميرُ بأحسن الخَلْقِ ... وغَدَوْا بلبّك مَطْلَع الشَّرْقِ )
فقالت والله ما ذكر إلا جميلا ذكر أني إذا صبحت زوجا بوجهي غدا بكواكب الطلق وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق وأني أحسن الخلق في البيت ذي الحسب الرفيع أعطوه ألف درهم واكسوه حلتين ولا تعد لإتياننا بعد هذا يا نميري
أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه
أن الرشيد غضب على إبراهيم أبيه بالرقة فحبسه مدة ثم اصطبح يوما فبينا هو على حاله إذ تذكره فقال لو كان الموصلي حاضرا لانتظم أمرنا وتم سرورنا
قالوا يا أمير المؤمنين فجىء به فما له كبير ذنب فبعث فجيء به فلما دخل أطرق الرشيد فلم ينظر إليه وأومأ إليه من حضر بأن يغني فاندفع فغنى
( تَضَوّعَ مسكاً بطنُ نَعْمان أن مشتْ ... به زينبٌ في نِسْوة خَفِراتِ )
فما تمالك الرشيد أن حرك رأسه مرارا واهتز طربا ثم نظر إليه وقال أحسنت والله يا إبراهيم حلوا قيوده وغطوه بالخلع ففعل ذلك
فقال يا سيدي رضاك أولا قال لو لم أرض ما فعلت هذا وأمر له بثلاثين ألف درهم
ومما قاله النميري في زينب وغني فيه
صوت ( تَشْتو بمكة نَعْمةً ... ومَصِيفُها بالطائِف )
( أَحْبِبْ بتلك مواقفاً ... وبزينبٍ مِنْ واقف )
( وعَزيزة لم يَغْدُها ... بؤسٌ وجفوةُ حائف )
( غَرَّاء يَحْكيها الغزالُ ... بمُقلةٍ وسَوَالف )
الغناء ليحيى المكي خفيف رمل عن الهشامي وذكر عمرو بن بانة أنه لإبن سريج وأنه بالبنصر ورغم الهشامي أن فيه لإبن المكي أيضا لحنا من الثقيل الأول
ومن الغناء في أشعاره في زينب
صوت
( ألاَ مَنْ لقلبٍ مُعَنّىً غَزِلْ ... يُحِبّ المُحِلَّةَ أختَ المُحِلّ )
( تراءتْ لنا يومَ فرع الاراك ... بين العِشاء وبين الأُصُل )
( كأنّ القَرَنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ ... وريحَ الخُزَامَى وذوْبَ العسل )
( يُعَلّ به بَرْدُ أَنْيَابِها ... إذا ما صفا الكوكبُ المعتدل )
الغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر يونس لمالك فيه لحنا في
( كأن القرَنْقُلَ وَالزَّنْجبيل ... )
والبيت الذي بعده وبيتين آخرين وهما
( وقالت لجارتها هل رأيتِ ... إذْ أعرَض الركبُ فِعْلَ الرجلْ )
( وأنّ تَبَسُّمَه ضاحكاً ... أجَدّ اشتياقاً لقلب غَزِل )
وذكر حماد عن أبيه أن فيها للهذلي لحنا ولم يذكر طريقته
المحل الذي عناه النميري ها هنا الحجاج بن يوسف سمي بذلك لإحلاله الكعبة وكان أهل الحجاز يسمونه بذلك
ويسمي أهل الشأم عبد الله بن الزبير المحل لأنه أحل الكعبة زعموا أنه بمقامه فيها وكان أصحابه أحرقوها بنار إستضاؤوا بها
فأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي وبلغني أن إسماعيل بن علي بن عبد الله بن عباس تزوج أسماء بنت يعقوب امرأة من ولد عبد الله بن الزبير فزفت إليه من المدينة وهو بفارس فمرت
بالأهواز على السيد الحميري فسأله عنها فنسبت له فقال فيها قوله
( مرّتْ تُزَفّ على بغلة ... وفوق رِحالتها قُبّهْ )
( زُبيريّةٌ من بنات الذي ... أحلّ الحرامَ من الكعبة )
( تُزفّ إلى ملكٍ ماجدٍ ... فلا اجتمعا وبها الوَجْبه )
وقد قيل بأن الأبيات اللامية التي أولها
( ألاَ مَنْ لقلبٍ معنىً غَزِل ... ) لخالد بن يزيد بن معاوية في زوجته رملة بنت الزبير وقيل إنها لأبي شجرة السلمي
حدثني الحسين بن الطيب البلخي لالشاعر قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا أبو بكر بن شعيب بن الحبحاب المعولي قال كنت عند ابن سيرين فجاءه إنسان يسأله عن شيء من الشعر قبل صلاة العصر فأنشده ابن سيرين
( كأنّ المُدامةَ والزنجبيلَ ... وريحَ الخُزامَى وذُوْبَ العَسلْ )
( يُعَلّ به بَرْدُ أنيابها ... إذا النجم وَسْطَ السماء اعتدا )
وقال الله أكبر ودخل في الصلاة
صوت
من المائة المختارة ( يا قلبُ ويحكَ لا يذهبْ بك الخُرُق ... إنّ الأُلىَ كنتَ تَهْواهم قد انطلقوا )
ويروى يذهب بك الحرق
( ما بالهم لم يُبالوا إذ هجَرْتَهُمُ ... وأنت من هجرتهم قد كدتَ تحترقُ )
الشعر لوضاح اليمن والغناء لصباح الخياط ولحنه المختار ثقيل أول بالوسطى في مجراها
وفي أبيات من هذه القصيدة ألحان عدة فجماعة من المغنين قد خلطوا معها غيرها من شعر الحارث بن خالد ومن شعر ابن هرمة فأخرت ذكرها
إلى أن تنقضي أخبار وضاح ثم أذكرها بعد ذلك إن شاء الله تعالى
أخبار وضاح اليمن ونسبه وضاح لقب غلب عليه لجماله وبهائه واسمه عبد الرحمن بن إسماعيل بن عبد كلال بن داذ بن أبي جمد
ثم يختلف في تحقيق نسبه فيقول قوم إنه من أولاد الفرس الذين قدموا اليمن مع وهرز لنصرة سيف بن ذي يزن على الحبشة
ويزعم آخرون أنه من آل خولان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب وهو المرعف بن قحطان
فممن ذكر أنه من حمير خالد بن كلثوم قال كان وضاح اليمن من أجمل العرب وكان أبوه إسماعيل بن داذ بن ابي جمد من آل خولان بن عمرو بن معاوية الحميري
فمات أبوه وهو طفل فانتقلت أمه إلى أهلها وانقضت عدتها فتزوجت رجلا من أهلها من أولاد الفرس
وشب وضاح في حجر زوج أمه فجاء عمه وجدته أم أبيه ومعهم جماعة من أهل بيته من حمير ثم من آل ذي قيفان ثم من آل ذي جدن يطلبونه فادعى زوج أمه أنه ولده
فحاكموه فيه وأقاموا البينة أنه ولد على
فراش إسماعيل بن عبد كلال أبيه فحكم به الحاكم لهم وقد كان اجتمع الحميريون والأبناء في أمره وحضر معهم
فلما حكم به الحاكم للحميريين مسح يده على رأسه وأعجبه جماله وقال له إذهب فأنت وضاح اليمن لا من أتباع ذي يزن يعني الفرس الذين قدم بهم ابن ذي يزن لنصرته فعلقت به هذه الكلمة منذ يومئذ فلقب وضاح اليمن
قال خالد وكانت أم داذ بن أبي جمد جدة وضاح كندية فذلك حيث يقول في بنات عمه
( إن قلبي مُعَلَّق بنساء ... واضحاتِ الخدود لَسْن بُهْجنِ )
( مِنْ بنات الكريم داذَ وفي كندَةَ ... يُنسبن من أُباة اللَّعْن )
وقال أيضا يفتخر بجده أبي جمد
( بَنَى ليَ إسماعيلُ مجداً مُؤثَّلاً ... وعبدُ كُلال بعده وأبو جَمَدْ )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال
كان وضاح اليمن والمقنع الكندي وأبو زبيد الطائي يردون مواسم العرب مقنعين يسترون وجوههم خوفا من العين وحذرا على أنفسهم من النساء لجمالهم
قال خالد بن كلثوم فحدثت بهذا الحديث مرة وأبو عبيدة معمر بن المثنى حاضر ذلك وكان يزعم أن وضاحا من الأبناء فقال أبو عبيدة داذ اسم فارسي
فقلت له عبد كلال اسم يمان وأبو جمد كنية يمانية والعجم لا تكتني وفي اليمن جماعة قد تسموا بأبرهة وهو اسم حبشي فينبغي أن تنسبهم إلى الحبشة وأي شيء يكون إذا سمي عربي بإسم فارسي وليس كل من كني أبا بكر هو الصديق ولا من سمي عمرا هو الفاروق وإنما الأسماء علامات ودلالات لا توجب نسبا ولا تدفعه قال فوجم أبو عبيدة وأفحم فما أجاب
وممن زعم أنه من أبناء الفرس ابن الكلبي ومحمد بن زياد الكلابي
وقال خالد بن كلثوم إن أم إسماعيل أبي الوضاح بنت ذي جدن وأم أبيه بنت فرعان ذي الدروع الكندي من بني الحارث بن عمرو
شعره في حبيبته روضة وكان وضاح يهوى امرأة من أهل اليمن يقال لها روضة أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال
ذكر هشام بن الكلبي أنها روضة بنت عمرو من ولد فرعان ذي الدروع الكندي
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن سعيد الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش أن وضاحا هوي امرأة من بنات الفرس يقال لها روضة فذهبت به كل مذهب
وخطبها فامتنع قومها من تزويجه إياها وعاتبه أهله وعشيرته فقال في ذلك
صوت ( يأيها القلبُ بعضَ ما تجِدُ ... قد يعشَق المرءُ ثم يتَئَّدُ )
( قد يكتم المرءُ حبَّه حِقَباً ... وهُوَ عَميدٌ وقلبُه كَمِد )
( ماذا تريدين من فتىً غَزِلٍ ... قد شَفّه السُّقْمُ فيكِ والسَّهَد )
( يهدِّدوني كيما أخافَهُم ... هيهات أَنّي يُهَدَّد الأسد )
الغناء لإبن محرز خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيها لحن لإبن عباد من كتاب إبراهيم غير مجنس
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني سالم بن زيد قال أخبرني التوزي قال حدثنا الأصمعي عن الخليل بن أحمد قال كان وضاح يهوى امرأة من كندة يقال لها روضة فلما اشتهر أمره معها خطبها فلم يزوجها وزوجت غيره فمكثت مدة طويلة
ثم أتاه رجل من بلدها فأسر إليه شيئا فبكى
فقال له أصحابه مالك تبكي وما خبرك فقال أخبرني هذا أن روضة قد جذمت وأنه رآها قد ألقيت مع المجذومين
ولم نجد لهما
خبرا يرويه أهل العلم إلا لمعا يسيرة وأشياء تدل على ذلك من شعره فأما خبر متصل فلم أجده إلا في كتاب مصنوع غث الحديث والشعر لا يذكر مثله
وأصابها الجذام بعد ذلك فانقطع ما بينهما ثم شبب بأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان زوجة الوليد بن عبد الملك فقتله الوليد لذلك
وأخبارهما تذكر في موضعها بعقب هذه الحكاية
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال حدثنا مصعب بن عبد الله قال كان وضاح اليمن يهوى امرأة يقال لها روضة ويشبب بها في شعره وهي امرأة من أهل اليمن وفيها يقول
صوت
( يا رَوْضة الوضّاح قد ... عَنّيتِ وضّاحَ اليمنْ )
( فاسقي خليلَك مِنْ شرابٍ ... لم يُكدِّره الدَّرَن )
( الريحُ ريح سَفَرْجَلٍ ... والطعمُ طعم سُلاَفٍ دَنّ )
( إني تُهيِّجني إليكِ ... حمامتان على فَنَن )
قال مصعب فحدثني بعض أهل العلم ممن كان يعرف خبر وضاح مع روضة من أهل اليمن أن وضاحا كان في سفر مع أصحابه فبينا هو يسير إذ استوقفهم وعدل عنهم ساعة ثم عاد إليهم وهو يبكي
فسألوه عن حاله فقال عدلت إلى روضة وكانت قد جذمت فجعلت مع المجذومين وأخرجت من بلدها فأصلحت من شأنها وأعطيتها صدرا من نفقتي وجعل يبكي غما بها
الغناء في الأبيات المذكورة في هذا الخبر ينسب مع تمام الأبيات فإن في جميعها غناء
ومما قاله وضاح في روضة المذكورة وفيه غناء وأنشدنا حرمي عن الزبير عن عمه
صوت ( أيا روضةَ الوَضّاح يا خيرَ رَوْضةٍ ... لأهلكِ لو جادوا علينا بمنزلِ )
( رهينُك وَضّاحٌ ذهبتِ بعقله ... فإن شئتِ فاحييه وإن شئت فاقتلي )
( وتُوقد حِيناً باليَلَنْجُوج نارَها ... وتوقِد أحياناً بمسك ومَنْدَل )
والأبيات الأول النونية فيها زيادة على ما رواه مصعب وفي سائرها غناء وتمامها بعد قوله
( إني تُهيّجني إليكِ ... حمامتان على فَنَن )
( الزوج يدعو إلفَه ... فتطاعما حُبَّ السكنْ )
( لا خيرَ في نَثّ الحديث ... ولا الجليس إذا فَطَن )
( فاعْصِي الوُشاةَ فإِنما ... قول الوشاة هو الغَبَن )
( إنّ الوُشاة إذا أتوكِ ... تَنَصّحوا ونَهَوْكِ عَنّ )
( دَسّت حُبَيبةُ مَوْهِناً ... إني وعيشكِ يا سَكَن )
( أبلغتُ عنكِ تبدُّلاً ... وأتى بذلك مُؤتَمَن )
( وظننتُ أنكِ قد فعلت ... فكِدْتُ من حَزَن أُجنّ )
( ذَرَفتْ دموعي ثم قلت ... بمَنْ يبادلني بمن )
( أُسكُتْ فلستَ مُصدَّقاً ... ما كان يفعل ذا أظن )
( إني وجَدِّكَ لو رأيت ... خليلَنا ذاك الحسن )
( يجفوه ثم يحبنا ... والله مِتُّ من الحَزَن )
( أَخبرْه إمّا جئتَه ... أنّ الفؤاد به يُجَنّ )
( أَبغضت فيه أحبّتي ... وقَلَيْت أهلِي والوطن )
( أتركتَني حتى إذا ... عُلِّقت أبيض كالشَّطَن )
( أنشأتَ تطلب وَصْلَنا ... في الصيف ضَيَّعت اللبن )
هكذا قال وغيره يرويه في الصيف ضيحت اللبن أي مذقته قال
( لو قيل يا وضّاح قم ... فاختر لنفسك أو تَمَنّ )
( لم أعْدُ رَوْضةَ والذي ... ساق الحجيج له البُدُن )
الغناء في الأول من القصيدة وهو يا روضة الوضاح ينسب إن شاء الله وله في روضة هذه أشعار كثيرة في أكثرها صنعة وبعضها لم يقع إلي أنه صنع فيه فمن قوله فيها
صوت
( يا روضُ جيرانكم الباكرُ ... فالقلبُ لا لاهٍ ولا صابرُ )
( قالت ألا لا تَلِجَنْ دارَنا ... إنّ أبانا رجلٌ غائر )
( قلت فإني طالبٌ غِرّةً ... منه وسَيفي صارمٌ باتر )
( قالت فإن القَصْرَ مِنْ دوننا ... قلتُ فإِني فوقه ظاهر )
( قالت فإن البحرَ مِنْ دوننا ... قلت فإِني سابحٌ ماهر )
( قالت فَحَوْلي إخوةٌ سبعةٌ ... قلت فإِني غالبٌ قاهر )
( قالت فليثٌ رابضٌ بيننا ... قلت فإِني أسدٌ عاقر )
( قالت فإِن الله من فوقنا ... قلت فربّي راحمٌ غافر )
( قالت لقد أعييتَنا حُجّةً ... فَأْتِ إذا ما هَجع السامر )
( فاسقُط علينا كسقوط النَّدَى ... ليلَةَ لا ناهٍ ولا زاجز )
الغناء في هذه الأبيات هزج يمني وذكر يحيى المكي أنه له
وقال في روضة وهو بالشام
( أَبَتْ بالشام نفسي أن تطيبَا ... تذكَرتُ المنازلَ والحبيبَا )
( تذكّرتُ المنازلَ من شَعُوب ... وحَيّاً أصبحوا قُطِعوا شُعوبا )
( سَبَوا قلبي فَحلّ بحيث حَلُّوا ... ويُعظم إن دَعَوْا ألاّ يُجيبا )
( ألاى ليت الرياحَ لنا رسولٌ ... إليكم إنْ شَمَالاً أو جَنُوبا )
( فتأتِيَكم بما قلنا سريعاً ... ويبلُغَنا الذي قلتم قريبا )
( ألاَ يا رَوْض قد عَذّبتِ قلبي ... فأصبح من تذكُّركم كئيبا )
( ورقّقني هواكِ وكنتُ جَلْداً ... وأَبْدَى في مَفارِقَيَ المَشيبا )
( أمَا يُنسيكَ روضةَ شحطُ دارٍ ... ولا قربٌ إذا كانت قريبا )
ومما قال فيها أيضا
( طَرِب الفؤاد لطَيْفِ روضةَ غاشِي ... والقومُ بين أباطِحٍ وعِشَاشِ )
( أَنَّى اهتديتِ ودون أرضِك سَبْسبٌ ... قَفْرٌ وحَزْنٌ في دُجىً ورِشاَش )
( قالت تكاليفُ المحبّ كَلِفْتُها ... إنّ المُحبّ إذا أُخيف لمَاشي )
( أدعوكِ روضة رحب واسمك غيرُه ... شَفَقاً وأخشى أن يَشِي بِك واشي )
( قالت فُزُرْنا قلتُ كيف أزورُكم ... وأنا امرؤ لخُروج سرّك خاشي )
( قالت فكُنْ لعمومتي سَلِماً معاً ... والطُفْ لإِخوتيَ الذين تُماشي )
( فتزورنا معهم زيارةَ آمنٍ ... والسرُّ يا وضّاح ليس بفاشي )
( ولَقِيتُها تمشي بأبطَحَ مرّة ... بخلاخلٍ وبحُلَةًٍ أكْباش )
( فظلْلِتُ معمودًا وبت مُسَهَّدًا ... ودموع عيني في الرداء غَواشي )
( يا روض حبُّك سَلّ جسمي وانتحى ... في العظم حتى قد بلغتِ مُشاشي )
ومما قال فيها أيضا
( طَرَق الخيالُ فمرحباً سهلاَ ... بخيال مَنْ أهدى لنا الوصْلاَ )
( وسَرى إليّ ودون منزله ... خمسٌ دوائمُ تُعمِل الإِبْلا )
( يا حبّذا مَنْ زار معتسفاً ... حَزْنَ البلاد إليّ والسَّهْلا )
( حتى ألمّ بنا فبِتُّ به ... أَغْنَى الخلائق كلِّهم شَمْلا )
( يا حبذا هي حسبك قدك في ... والله ما أبقيت لي عقلا )
( والله ما لي عنكِ مُنْصَرَفٌ ... إلا إليكِ فأَجْمِلي الفِعْلا )
رأته أم البنين فهويته أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا القاسم بن الحسن المروزي قال حدثنا العمري عن لقيط والهيثم بن عدي أن أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان استأذنت الوليد بن عبد الملك في الحج فأذن لها وهو يومئذ خليفة وهي زوجته
فقدمت مكة ومعها من الجواري ما لم ير مثله حسنا
وكتب الوليد يتوعد الشعراء جميعا إن ذكرها أحد منهم أو ذكر أحدا ممن تبعها وقدمت فتراءت للناس وتصدى لها أهل الغزل والشعر ووقعت عينها على وضاح اليمن فهويته
فحدثنا الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير ابن بكار قال حدثني إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز الزهري عن محمد بن جعفر مولى أبي هريرة عن أبيه عن بديح قال قدمت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي عند الوليد بن عبد الملك حاجة والوليد يومئذ خليفة
فبعثت إلى كثير وإلى وضاح اليمن أن انسبا بي فأما وضاح اليمن فإنه ذكرها وصرح بالنسيب بها فوجد الوليد عليه السبيل فقتله وأما كثير فعدل عن ذكرها ونسب بجاريتها غاضرة فقال
صوت ( شجا أَظْعانُ غاضرةَ الغَوَادي ... بغير مَشُورة عَرَضاً فؤادِي )
( أغاضر لو شهدتِ غداةَ بِنْتم ... حُنُوَّ العائدات على وِسادي )
( أَوَيْتِ لعاشق لم تشكُميه ... بواقدةٍ تلذِّعُ كالزناد )
الغناء في هذه الأبيات لإبن محرز ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وحبش قال بديح فكنت لما حجت أم البنين لا تشاء أن ترى وجها حسنا إلا رأيته معها
فقلت لعبيد الله بن قيس الرقيات بمن تشبب من هذا القطين فقال لي
( وما تصنع بالسرّ ... إذا لم تك مجنوناَ )
( إذا عالجتَ ثِقْل الحبّ ... عالجت ألأمَرِّينا )
( وقد بُحتَ بأمرٍ كان ... في قلبيَ مكنونا )
( وقد هِجْتَ بما حاولْتَ ... أمراً كان مدفونا )
قال ثم خلا بي فقال لي اكتم علي فإنك موضع للأمانة وأنشدني
صوت ( أصحوتَ عن أمّ البنينَ ... وذكرِها وعنَائها )
( وهجرتَها هجرَ امرئ ... لم يَقْلُ صفوَ صفائها )
( قُرشيّةٌ كالشمس أشرق ... نورُها ببهائها )
( زادتْ على البِيض الحِسان ... بحسنها ونقائها )
( لمَا اسبكَّرتْ للشباب ... وقُنّعت بردائها )
( لم تلتفت لِلداتها ... ومضتْ على غُلوائها )
( لولا هَوَى أمِّ البنينَ ... وحاجتي للقائها )
( قد قرّبت لي بغلةً ... محبوسة لنَجائها )
قال بديح فلما قتل الوليد وضاح اليمن حجت بعد ذلك أم البنين محتجبة لا تكلم أحدا وشخصت كذلك فلقيني ابن قيس الرقيات فقال يا بديح
صوت
( بان الحبيبُ الذي به تَثِقُ ... وإشتدّ دون الحبيبةَ القَلَقُ )
( يا من لصَفْراء في مفاصلها ... لِينٌ وفي بعض بطشها خُرُق )
وهي قصيدة قد ذكرت مع أخبار ابن قيس الرقيات
الغناء في الأبيات الأول التي أولها
( أصحوتَ عن أُمّ البنين ... )
ينسب في موضع آخر إن شاء الله
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي عن عبد الله بن أبي عبيدة قال حدثني كثير قال حججت مع أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان وهي زوجة الوليد بن عبد الملك فأرسلت إلي وإلى وضاح اليمن أن انسبا بي فهبت ذلك ونسبت بجاريتها غاضرة فقلت
( شجا أظعانُ غاضرة الغَوَادِي ... بغير مَشُورة عَرَضاً فؤادي )
( أغاضر لو شهدت غداةَ بِنْتم ... حُنُوّ العائدات على وسادي )
( أَوَيْتِ لعاشقٍ لم تشكُميه ... بواقدةٍ تلذِّع كالزناد )
وأما وضاح فنسب بها فبلغ ذلك الوليد فطلبه فقتله
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن سعد الكراني قال حدثني أبو عمر العمري عن العتبي قال مدح وضاح اليمن الوليد بن عبد الملك وهو يومئذ خليفة ووعدته أم
البنين بنت عبد العزيز بن مروان أن ترفده عنده وتقوي أمره فقدم عليه وضاح وأنشده قوله فيه
صوت
( صبا قَلبي ومال إليكِ مَيْلاَ ... وأرّقني خيالُكِ يا أُثيْلا )
( يُمانَيةٌ تُلِمّ بنا فُتْبدِي ... دقيقَ محاسنٍ وتُكنّ غَيْلا )
( دَعِينا ما أممتُ بنات نَعْشٍ ... من الطَّيْف الذي يَنتاب ليلا )
( ولكنْ إن أردتِ فَصبِّحينا ... إذا أمَّتْ ركائبنُا سُهيلا )
( فإِنك لو رأيتِ الخيل تعدو ... سِرَاعا يتخذن النَّقْع ذَيْلا )
( إِذاً لرأيتِ فوقَ الخيل أُسْداً ... تُفيد مغانماً وتُفيت نَيْلا )
( إِذا سار الوليدُ بنا وسِرْنا ... خيل نَلُفّ بهنّ خَيْلا )
( ونَدخل بالسرور ديارَ قوم ... ونُعِقب آخرين أذىً ووَيْلا )
فأحسن الوليد رفده وأجزل صلته ومدحه بعدة قصائد ثم نمي إليه أنه شبب بأم البنين فجفاه وأمر بأن يحجب عنه ودبر في قتله
ومدحه وضاح بقوله أيضا
( ما بال عينكَ لا تَنام كأنما ... طلب الطبيبُ بها قَذىً فأضلَّهُ )
( بل ما لقلبك لا يزال كأنه ... نَشوانُ أَنْهله النديمُ وعَلَّه )
( ما كنت أحسَب أنْ أبيتَ ببلدةٍ ... وأَخي بأُخْرى لا أحُلُّ مَحلُّه )
( كنّا لعَمْرُك ناعمين بغبطةٍ ... مع ما نُحبّ مَبِيتَه ومَظَلَّه )
( فأَرى الذي كنّا وكان بغِرّة ... نلهوا بِغرّته ونهوىَ دَلّه )
( كالطيف وافق ذا هوىً فلَها به ... حتى إِذا ذهب الرقاد أضلّه )
( قل للذي شَعف البلاءُ فؤادَه ... لا تهلكنّ أخاً فربّ أخ له )
( والقَ ابن مَروان الذي قد هزّه ... عِرق المكارم والنّدى فأقلّه )
( واشْكُ الذي لاقيته من دونه ... وانشُرْ إليه داءَ قلبك كلَّه )
( فعلى ابن مَرْوان السلامُ من امرئ ... أمسى يذوق منَ الرُّقاد أقلّه )
( شوقاً إليك فما تنالك حالُه ... وإذا يَحُلّ البابَ لم يُؤذن له )
( فإِليك أعملتُ المطايا ضُمَّراً ... وقطعتُ أَرْواحَ الشتاء وظِلّه )
( وليالياً لو أنّ حاضرَ بَثّها ... طرف القضيب أصابه لأشلّه )
فلم يزل مجفوا حتى وجد الوليد له غرة فبعث إليه من اختلسه ليلا فجاءه به فقتله ودفنه في داره فلم يوقف له على خبر
الوليد يدفنه حيا وقال خالد بن كلثوم في خبره كان وضاح قد شبب بأم البنين بنت عبد العزيز بن مروان إمرأة الوليد بن عبد الملك وهي أم ابنة عبد العزيز بن الوليد والشرف فيهم
فبلغ الوليد تشببه بها فأمر بطلبه فأبى به فأمر بقتله فقال له ابنه عبد العزيز لا تفعل يا أمير المؤمنين فتحقق قوله ولكن افعل به كما فعل معاوية بأبي دهبل فإنه لما شبب بإبنته
شكاه يزيد وسأله أن يقتله فقال إذاتحقق قوله ولكن تبره وتحسن إليه فيستحي ويكف ويكذب نفسه
فلم يقبل منه وجعله في صندوق ودفنه حيا
فوقع بين رجل من زنادقة الشعوبية وبين رجل من ولد الوليد فخار خرجا فيه إلى أن أغلظا المسابة وذلك في دولة بني العباس فوضع الشعوبي عليهم كتابا زعم فيه أن أم البنين عشقت وضاحا فكانت تدخله صندوقا عندها
فوقف على ذلك خادم الوليد فأنهاه إليه وأراه الصندوق فدفنه هكذا ذكر خالد بن كلثوم والزبير بن بكار جميعا
وأخبرني علي بن سليمان الأخفش في كتاب المغتالين قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب عن ابن الكلبي قال عشقت أم البنين وضاحا فكانت ترسل إليه فيدخل إليها ويقيم عندها فإذا خافت وارته في صندوق وأقفلت عليه
فأهدي للوليد جوهر له قيمة فأعجبه واستحسنه فدعا خادما له فبعث به معه إلى أم البنين وقال قل لها إن هذا الجوهر أعجبني فآثرتك به
فدخل الخادم عليها مفاجأة ووضاح عندها فأدخلته الصندوق وهو يرى فأدى إليها رسالة الوليد ودفع إليها الجوهر ثم قال يا مولاتي هبيني منه حجرا فقالت لا يابن اللخناء ولا كرامة
فرجع إلى الوليد فأخبره فقال كذبت يابن اللخناء وأمر به فوجئت عنقه ثم لبس نعليه ودخل على أم البنين وهي جالسة في ذلك البيت تمتشط وقد وصف له الخادم الصندوق الذي أدخلته فيه فجلس عليه ثم قال لها يا أم البنين ما أحب إليك هذا البيت
من بين بيوتك فلم تختارينه فقالت أجلس فيه وأختاره لأنه يجمع حوائجي كلها فأتناولها منه كما أريد من قرب
فقال لها هبي لي صندوقا من هذه الصناديق قالت كلها لك يا أمير المؤمنين قال ما أريدها كلها وإنما أريد واحدا منها فقالت له خذ أيها شئت قال هذا الذي جلست عليه قالت خذ غيره فإن لي في أشياء أحتاج إليها قال ما أريد غيره قالت خذه يا أمير المؤمنين
فدعا بالخدم وأمرهم بحمله فحمله حتى انتهى به إلى مجلسه فوضعه فيه ثم دعا عبيدا له فأمرهم فحفروا بئرا في المجلس عميقة فنحى البساط وحفرت إلى الماء
ثم دعا بالصندوق فقال يا هذا إنه بلغنا شيء إن كان حقا فقد كفناك ودفناك ودفنا ذكرك وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر وإن كان باطلا فإنا دفنا الخشب وما أهون ذلك ثم قذف به في البئر وعليه عليه التراب وسويت الأرض ورد البساط إلى حاله وجلس الوليد عليه ثم ما رئي بعد ذلك اليوم لوضاح أثر في الدنيا إلى هذا اليوم قال ما رأت أم البنين لذلك أثرا في وجه الوليد حتى فرق الموت بينهما
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب بن عبد الله قال مرضت أم البنين ووضاح مقيم بدمشق وكان نازلا عليها فقال في علتها
صوت ( حتّامَ نَكْتُم حزنَنا حتَاما ... وعَلاَم نستبقي الدموعَ علاماَ )
( إن الذي بي قد تفاقم واعتلى ... ونما وزاد وأَوْرّث الأسقاما )
( قد أصبحت أمُّ البنين مريضةً ... نَخشى ونُشفق أن يكون حِماما )
( يا ربّ أَمْتِعْنِي بطول بقائها ... واجبرُ بها الأرمال والأيتاما )
( واجبر بها الرجلَ الغريب بأرضها ... قد فارق الأخوالَ والأعماما )
( كم راغبين وراهبين وبُؤّسٍ ... عُصموا بقرب جَنابها إعصاما )
( بجناب ظاهرة الثَّنَا محمودةٍ ... لا يُستطاع كلامُها إعظاما )
الغناء في الأول والثاني والثالث والرابع والخامس لحكم الوادي خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وعبد الله بن موسى
ومما وجد في روايتي هارون بن الزيات وابن المكي في الرابع ثم الخامس ثم الأول والثاني لعمر الوادي خفيف رمل من رواية الهشامي
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب قال بلغ الوليد بن عبد الملك تشبب وضاح بأم البنين فهم بقتله
فسأله عبد العزيز ابنه فيه وقال له إن قتلته فضحتني وحققت قوله وتوهم الناس أن بينه وبين أمي ريبة
فأمسك عنه على غيظ وحنق حتى بلغ الوليد أنه قد تعدى أم البنين إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك وكانت زوجة عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه وقال فيها
( بنتُ الخليفة والخليفة جَدُّها ... أختُ الخليفة والخليفة بعلُها )
( فَرِحتْ قوابلُها بها وتباشرتْ ... وكذاك كانوا في المَسرّة أهلُها )
فأحنق واشتد غيظه وقال أما لهذا الكلب مزدجر عن ذكر نسائنا وأخواتنا ولا
له عنا مذهب ثم دعا به فأحضر وأمر ببئر فحفرت ودفنه فيها حيا
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال أخبرني عبد الملك بن عبد العزيز عن يوسف بن الماجشون قال أنشدت محمد بن المنكدر قول وضاح
( فما نوّلتْ حتى تَضَرّعتُ عندها ... وأعلمتُها ما رخَّص اللهُ في اللَّمَمْ )
قال فضحك وقال إن كان وضاح إلا مفتيا لنفسه وتمام هذه الأبيات
( ترجلّ وَضّاح وأَسْبل بعدما ... تَكَهّل حيناً في الكهول وما احتَلْم )
( وعُلَّق بيضاءَ العوارض طَفْلةً ... مُخضَّبة الأطراف طيِبّة النَّسَمْ )
( إذا قلتُ يوماً نَوّليني تبسّمتْ ... وقالت مَعَاذَ الله مِن فِعْل ما حَرُم )
( فما نَوّلتْ حتى تضرّعتُ عندها ... وأعلمتُها ما رَخّص اللهُ في اللَّمَم )
وضاح يرثي أباه وأخاه أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي في خبره الأول المذكور من أخبار وضاح مع أم البنين قال
كان وضاح مقيما عند أم البنين فورد عليه نعي أخيه وأبيه فقال يرثيهما
( أَراعك طائرٌ بعد الخُفُوقِ ... بفاجعةٍ مُشنَّعة الطُّروقِ )
( نعمْ ولَهَاً على رجل عَميد ... أَظَلُّ كأنني شرِق بريقي )
( كأني إذ علمتُ بها هُدُوّاً ... هوتْ بي عاصفٌ من رأس نِيق )
( أُعَلُّ بَزفْرة من بَعْد أُخرى ... لها في القلب حَرٌّ كالحريق )
( وتَردُف عَبْرةٌ تَهتانَ أُخرى ... كفائض غَرْب نَضّاح فَتيق )
( كأني إذا أُكِفْكِفُ دمع عيني ... وأَنْهاها أقول لها هَريقي )
( ألاَ تلك الحوادث غِبْتُ عنها ... بأرض الشام كالفرد الغريق )
( فما أنفكُّ أنظر في كتاب ... تُداري النفسُ عنه هوَى زَهوق )
( يُخبِّر عن وفاة أخٍ كريم ... بعيدِ الغور نَفّاع طَليق )
( وقَرْمٍ يُعرض الخُصْمانُ عنه ... كما حاد البِكارُ عَنِ الفَنِيق )
( كريم يملأ الشِّيزَى ويَقْرِي ... إذا ما قلّ إيماضُ البُروقِ )
( وأعظم ما رُميتُ بهِ فَجُوعاً ... كتابٌ جاء من فَخٍّ عميق )
( يُخبِّر عن وفاة أخٍ فصبراً ... تَنجَّزْ وعدَ مَنّان صَدوق )
( سأصبر للقضاء فكل حيّ ... سيلقى سَكرة الموت المَذوق )
( فما الدنيا بقائمةٍ وفيها ... من الأحياء ذو عين رَموق )
( وللأحياء أيَامٌ تَقَضَّى ... يَلُفّ ختامُها سُوقاً بسُوق )
( فأغناهم كأعدمهم إذا ما ... تقضّتْ مُدّةُ العيش الرقيق )
( كذلك يُبعثون وهم فُرَادَى ... ليوم فيه تَوْفيةُ الحُقوق )
( أَبعدَ هُمَام قومك ذي الأيادي ... أَبى الوضّاح رَتَاق الفُتوق )
( وبعد عُبيدة المحمودِ فيهم ... وبَعد سَمَاعَة العَوْد العَتيق )
( وبعد ابن المفضَّل وابن كافٍ ... هما أخواك في الزمن الأنيق )
( تؤمَّل أن تعيش قرير عينٍ ... وأين أَمامَ طَلاَّبٍ لحُوق )
( ودنياك التي أمسيتَ فيها ... مزايلةُ الشقيق عن الشقيق )
ومما قاله في مرثية أهله وذكر الموت وغنى فيه وإنما نذكر منها ما فيه غناء لأنها طويلة
صوت ( مالكَ وَضَّاحُ دائمَ الغَزَلِ ... ألستَ تخشى تقَارُبَ الأجلِ )
( صلِّ لذي العرش واتَّخِذْ قَدَماً ... تُنجيك يوم العِثار والزلَّل )
( يا موت ما إن تزال معترضاً ... لآملٍ دون منتهىَ الأَمل )
( لو كان مَنْ فرَّ منك منفلتاً ... إذاً لأسرعتُ رحلةَ الجَمل )
( لكنّ كفَّيْك نال طولُهما ... ما كَلَّ عنه نجائبُ الإِبل )
( تنال كفَّاك كلَّ مُسْهِلة ... وحُوتَ بحر ومَعْقِلَ الوَعِل )
( لولا حِذاري من الحُتُوف فقد ... أصبحتُ من خوفها على وَجَل )
( لكنتُ للقلبِ في الهوى تَبَعاً ... إنّ هواه ربائبُ الحَجَل )
( حِرْميّة تسكن الحجازَ لها ... شيخٌ غَيور يعتلّ بالعِلل )
( عُلّق قلبي ربيبَ بيت ملوكٍ ... ذاتَ قُرطين وَعْثَةَ الكَفَل )
( تَفْتَرُّ عن مَنْطِقٍ تَضَنّ به ... يَجري رُضاباً كذائب العسل )
وضاح يشبب بحبابة وبروضة أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني سليمان بن أبي أيوب عن مصعب قال قال وضاح اليمن في حبابة جارية يزيد بن عبد الملك وشاهدها بالحجاز قبل أن يشتريها يزيد وتصير إليه وسمع غناءها فأعجب بها إعجابا شديدا
صوت ( يا مَنْ لقلبٍ لا يُطيع ... الزاجرين ولا يُفيقْ )
( تسلو قلوبُ ذوي الهوى ... وهو المكلَّف والمَشوقْ )
( تَبَلت حَبَابةُ قلبَه ... بالدَّلّ والشكل الأَنيقْ )
( وبعين أحورَ يرتعي ... سَقْط الكثيب من العقيقْ )
( مكحولة بالسحر تُنْشِي ... نشوةَ الخمر العَتيق )
( هيفاء إن هي أقبلتْ ... لاحت كطالعة الشروق )
( والردفُ مثلُ نقاً تلبّد ... فهوْ زُحلوق زَلُوق )
( في درّة الأصداف معتنقاً ... بها رَدْع الخَلوق )
( دَاوِي هوايَ وأَطْفِئي ... ما في الفؤاد من الحريق )
( وترفَّقي أَملي فقد ... كلّفتِني مالا أُطيق )
( في القلب منك جَوى المُحبّ ... وراحةٌ الصبّ الشفيق )
( هذا يقود برْمُتي ... قوداً إليك وذا يسوق )
( يا نفسُ قد كلّفتِني ... تَعَب الهوى منها فذوق )
( إن كنتِ تائقةً ... لحرّ ... صبابة منها فَتُوق )
ومما قاله في روضة وفيه عناء قوله
صوت
( يا لَقومي لِكثرة العذّال ... ولطيفٍ سرى مليحِ الدَّلالِ )
( زائر في قصور صنعاءَ يَسْري ... كلَّ أرض مخوفةٍ وجبالِ )
والغناء لإبن عباد عن الهشامي رمل وهذه الأبيات من قصيدة له في روضة طويلة جيدة يقول فيها
( يقطع الحَزْن والمَهَامهَ والبِيد ... ومِنْ دونه ثَمانُ ليالِي )
( عاتبٌ في المنام أحْبِبْ بعُتْباه ... إلينا وقولِه مِنْ مَقال )
( قلت أهلاً ومرحباً عَدَدَ القَطْر ... وسهلاً بَطيف هذا الخَيال )
( حبّذا مَنْ إذا خلونا نَجِيّاً ... قال أهلي لك الفِداء ومالي )
( وهي الهمّ والمُنى وهوى النفْس ... إذا اعتلّ ذو هوىً باعتلال )
( قِسْتُ ما كان قبلنا من هوى الناس ... فما قِسْتُ حبَّها بمثال )
( لم أجد حبَّها يُشاكله الحبّ ... ولا وَجْدنا كوَجْد الرجال )
( كل حبٍّ إذا استطال سيبلَى ... وهوَى روضةِ المُنى غيرُ بالي )
( لم يَزِدْه تقادُمُ العهد إلاّ ... جِدّةً عندنا وحسنَ احتلال )
( أيها العاذلون كيف عتابي ... بعد ما شاب مَفْرِقي وقَذالي )
( كيف عَذْلي على التي هي منّي ... بمكان اليمَين أُختِ الشِّمال )
( والذي أَحْرموا لَه وأحلّوا ... بمنىً صُبْحَ عاشرات الليالي )
( ما ملكتُ الهوى ولا النفسَ منّي ... مُنذ عُلَّقُتها فكيف احتالي )
( إن نأتْ كان نأيُها الموتَ صِرْفاً ... أو دنتْ لي فثَمّ يبدو خَبَالي )
( يابنة المالكيّ يا بَهْجة النفس ... أفي حبّكم يَحِلُّ أقتتالي )
( أيّ ذنب عليّ إن قلتُ إني ... لأُحِبّ الحجازَ حبَّ الزُّلال )
( لأُحِبّ الحجازَ مِنْ حبّ مَنْ فيه ... وأهوى حِلالَه من حِلال )
صوت ومما فيه غناء من شعر وضاح
( أيها النَّاعِبُ ماذا تقولُ ... فكلانا سائلٌ ومَسولُ )
( لا كساك الله ما عشتَ ريشاً ... وبخوفٍ بتَّ ثم تَقيل )
( ثم لا أَنْفَقْتَ في العُشّ فرخاً ... أبداً إلا عليك دليل )
( حين تُنبي أنّ هنداً قريبٌ ... يبلغُ الحاجاتِ منها الرسول )
( ونأت هند فَخَبَّرتَ عنها ... أن عهد الودّ سوف يزول )
ومنها
صوت
( حتيِّ التي أَقْصَى فؤادِكَ حَلّتِ ... علمتْ بأنك عاشقٌ فأدلّتِ )
( وإذا رأتك تقلقتْ أحشاؤُها ... شوقاً إليك فأكثرتْ وأَقَلَّت )
( وإِذا دخلتَ فأُغلِقتْ أبوابُها ... عزم الغيورُ حجابَها فاعتلّت )
( وإِذا خرجتَ بكتْ عليكَ صبابةً ... حتى تَبُلّ دموعُها ما بَلّت )
( إن كنتَ يا وضاحَ زرتَ فمرحباً ... رَحُبَت عليك بلادُنا وأظلّت )
الغناء لإبن سريج رمل بالوسطى عن عمرو وفيها ليحيى المكي ثاني ثقيل
بالوسطى من كتابه ولإبنه أحمد فيها هزج وذكر حبش أن ليحيى فيها أيضا خفيف ثقيل
ومنها
صوت ( أتعرف أطلالاً بَمَيْسرة اللِّوى ... إلى أَرْعب قد حالفتك به الصَّبَا )
( فأهلاً وسهلاً بالتي حلّ حبُّها ... فؤادي وحلّت دارَ شَحْط من النَّوى )
الغناء فيه هزج يمني بالبنصر عن ابن المكي وهذه أبيات يقولها لأخيه سماعة وقد عتب عليه في بعض الأمور وفيها يقول
( أُبادر دُرْنوكَ الأمير وقُرْبَه ... لأُذْكَرَ في أهْل الكرامة والنُّهى )
( وأَتّبِع القُصّاصَ كلَّ عشيّةٍ ... رجاءَ ثواب الله في عَدد الخُطا )
( وأمستْ بقصر يضرب الماءُ سورَه ... وأصبحتُ في صنعاءَ ألتمس النَّدى )
( فمن مُبْلِغٌ عنّى سماعةَ ناهياً ... فإِن شئتَ فاقطعنا كما يُقْطَع السَّلَى )
( وإن شئتَ وصل الرِّحمْ في غير حيلة ... فعلنا وقُلْنا للذي تشتهي بَلى )
( وإن شئتَ صُرْماً للتفرُّق والنّوى ... فبُعْداً أدام الله تفرقةَ النّوى )
ومنها
صوت
( طرَق الخيالُ فمرحباً ألفاَ ... بالشاغفات قلوبَنا شَغْفاَ )
( ولقد يقول ليَ الطبيبُ وما ... نَبّأتُه من شأننا حَرفا )
( إني لأحسب أنّ داءَك ذا ... مِن ذي دَمَالَج يخضِب الكفّا )
( إني أنا الوضّاح إنْ تَصِلي ... أُحسِنْ بك التشبيبَ والوَصْفا )
( شطّتْ فشفّ القلبَ ذِكْركَها ... ودنتْ فما بذلتْ لنا عُرْفا )
ومنها
صوت ويروى لبشار
( يا مرحباً ألفاً وألفاَ ... بالكاسراتِ إليّ طَرْفَا )
( رُجُح الرَّوادف كالظِّبا ... تعرّضت حُوّاً ووُطْفا )
( أنكرنَ مركبيَ الحِما ... رَوكنّ لا يُنكرن طِرفْا )
( وسألنني أينَ الشبابُ ... فقلتُ بَانَ وكان حِلْفا )
( أَفْنَى شبابي فانقضى ... حِلْفُ النساء تِبِعن حِلْفا )
( أعطيتهنّ مودّتي ... فجزينَني كذباً وخُلْفا )
( وقصائدٌ مثلُ الرُّقَى ... أرسلتُهن فكنّ شَغْفا )
( أوجعن كلَّ مُغازِلٍ ... وعَصَفْن بالغَيران عَصْفا )
( من كل لّذات الفتى ... قد نلتُ مائلةً وعُرْفا )
( صِعدت الأوانَس كالدُّمى ... وسقيتُهنّ الخمرَ صِرْفا )
ومنها وهذه القصيدة تجمع نسيبه بمن ذكر وفخره بأبيه وجده أبي جمد
صوت
( أغنّي على بيضاءَ تَنْكلّ عن بَرَدْ ... وتمشي على هَوْنٍ كمِشيْه ذي الحَرَدْ )
( وتلبس من بَزَ العراق مَنَاصِفاً ... وأبرادَ عَصْب من مُهَلْهَلَةٍ الجَبَد )
( إذا قلت يوماً نَوَّليني تبسّمتْ ... وقالت لعمرُ الله لو أنه اقتصد )
( سموتُ إليها بعدَ ما نام بعلُها ... وقد وسّدتْه الكفّ في ليلة الصَّرّد )
( أشارت بطرف العين أهلاً ومرحباً ... ستُعطَى الذي تهوَى على رغم مَنْ حسد )
( ألستَ ترى مَنْ حولنا مِنْ عدوِّنا ... وكل غلام شامخ الأنف قد مَرَد )
( فقلت لها إني امرؤ فاعلمِنَّه ... إذا ما أخذتُ السيفَ لم أحفِل العَدَد )
( بَنَى ليَ إسماعيلُ مجداً مُؤثّلاً ... وعبدُ كُلالٍ قبله وأبو جَمَد )
تُطيف علينا قهوةٌ في زجاجةٍ ... تُريك جبانَ القوم أمضى من الأسد )
ومنها
صوت ( يأيها القلبُ بعضَ ما تجدُ ... قد يعشَق القلبُ ثم يَتَّئِدُ )
( قد يكتُم المرءُ حبَّه حِقَباً ... وهو عَميدٌ وقلبُه كَمِد )
( ماذا تُراعون من فتًى غَزِلٍ ... قد تيّمْته خَمْصانةٌ رُؤدٌ )
( يهدّدوني كما أخافَهمُ ... هيهاتَ أنَّى يُهدَّد الأسد )
ومنها
صوت
( صدَع البَيْنُ والتفرُّقُ قلبي ... وتولَّت أمُّ البنين بِلُبِّي )
( ثَوتِ النفسُ في الحُمول لديها ... وتولَّى بالجسم منّيَ صَحْبي )
( ولقد قلتُ والمدامعُ تجري ... بدموع كأنها فَيْضُ غَرْب )
( جزعاً للفراق يوم تولّت ... حَسْبِيَ الله ذو المَعارج حسبي )
ومنها
صوت ( يابنة الواحد جودي فما ... إن تَصْرِميني فَبِما أو لِمَا )
( جُودِي علينا اليومَ أو بَيِّني ... فِيمَ قتلتِ الرجلَ المُسلِما )
( إني وأيدي قُلُصٍ ضُمَّرٍ ... وكلِّ خِرْق وَرَد المَوْسما )
( ما عُلّق القلبُ كتعليقها ... واضعةً كفّاً عَلتْ مِعْصما )
( رَبَّةُ محرابٍ إذا جئتُها ... لم ألقَها أو أرتقي سُلَّما )
( إخوتُها أربعة كلُّهم ... ينفون عنها الفارسَ المُعلَما )
( كيف أُرجِّيها ومِنْ دونها ... بَوّابُ سوء يُعجل المَشْتما )
( أسودُ هَتّاك لأعراضِ مَنْ ... مرّ على الأبواب أو سَلّما )
( لا مِنّةً أَعْلَمُ كانت لها ... عندي ولا تطلُب فينا دما )
( بل هي لمّا أن رأت عاشقاً ... صبًّا رمتْه اليوم فيمن رَمى )
( لمّا ارتمينا ورأت أنّها ... قد أثبتتْ في قلبه أسهُما )
( أعجبها ذاك فأبْدت له ... سُنَّتَها البيضاءَ والمِعْصَما )
( قامت تراءى لي على قَصْرها ... بين جَوارٍ خُرَّد كالدُّمى )
( وتَعقِد المِرْط على جَسْرةٍ ... مثلِ كَثيب الرمل أو أَعْظَما )
ومنها
صوت ( دعاكَ من شوقك الدَّواعي ... وأنت وضّاحُ ذو اتباعِ )
( دعتْك مَيّالةٌ لَعُوبٌ ... أَسيلة الخد باللمّاع )
( دلالُكِ الحُلْو والمشهِّي ... وليس سرِّيك بالمُضاع )
( لا أمنع النفسَ عن هواها ... وكلُ شيء إلى انقطاع )
ومنها
صوت
( ألاَ يالَقومي أَطْلِقوا غُلَّ مرتَهَنْ ... ومُنّوا على مُستشعرِ الهمّ والحَزَنْ )
( تذكَّر سَلْمى وَهْي نازحةٌ فَحْنّ ... وهل تنفع الذكرى إذا اغترب الوطنْ )
( ألم تَرَها صفراءَ رُؤْداً شبابِها ... أسيلَة مجرى الدمع كالشَّادن الأغَنّ )
( وأبصرتُ سَلْمى بين بُرْدَيْ مَراجِلٍ ... وأبراد عَصْب من مُهلهَلة اليمن )
( فقلتُ لها لا تَرَتقي السطحَ إنني ... أخاف عليكم كلَّ ذي لِمَّة حَسَن )
والغناء لإبن سريج وله في هذا الشعر لحنان ثقيل أول بالبنصر عن عمرو ورمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وأول الرمل قوله
( ألا يا لَقومي أطلقوا غلَّ مرتهنَ ... )
وأول الثقيل الأول تذكر سلمى وفي هذه الأبيات هزج يمني بالبنصر ومنها
صوت ( أغدوتَ أمْ في الرائحين تَرُوحُ ... أم أنت من ذِكْر الحسان صحيحُ )
( إذا قالت الحسناءُ ما لصديقنا ... رثَّ الثياب وإنه لمليح )
( لا تسألِنّ عن الثياب فإِنني ... يومَ اللقاء على الكُماة مُشيح )
( أَرْمِي وأطعنَ ثم أُتبِع ضربةً ... تَدَعُ النساءَ على الرجال تنوح )
صوت
من المائة المختارة ( يا صاح إني قد حَججتُ ... وزُرت بيتَ المَقْدسِ )
( وأتيت لُدّاً عامداً ... في عيد مَرْيَا سَرْجس )
( فرأيتُ فيه نِسوةً ... مثلَ الظباء الكُنّس )
الشعر والغناء للمعلى بن طريف مولى المهدي ولحنه المختار خفيف رمل بالبنصر وكان المعلى بن طريف وأخوه ليث مملوكين مولدين من مولدي الكوفة لرجل من أهلها فاشتراهما علي بن سليمان وأهداهما إلى المنصور فوهبهما
المنصور للمهدي فأعتقهما
ونهر المعلى وربض المعلى ببغداد منسوب إلى المعلى هكذا ذكر ذلك ابن خرداذبه وكان ضاربا محسنا طيب الصوت حسن الأداء صالح الصنعة أخذ الغناء عن إبراهيم وابن جامع وحكم الوادي
وولي أخوه ليث السند وولي هو الطراز والبريد بخراسان وقاتل يوسف البرم فهزمه ثم ولي الأهواز بعد ذلك
فقال فيه بعض الشعراء يمدحه ويمدح أخاه الليث ويهجو علي بن صالح صاحب المصلى
( يا عليَّ بنَ صالح ذا المصلَّى ... أنت تَفْدي لَيْثاً وتفدي المعلَّى )
( سَدّ ليثٌ ثغراً ووُليّت فاخْتَنْتَ ... فبئس المَولي وبئس المولَّى )
وعلي بن سليمان هذا الذي أهدى المعلى وأخاه إلى المهدي هو الذي يقول فيه أبو دلامة زند بن الجون الأسدي وكان خرج مع المهدي إلى الصيد فرمى المهدي وعلي بن سليمان ظبيا سنح لهما وقد أرسلت عليه الكلاب بسهمين فأصاب المهدي الظبي وأصاب علي بن سليمان الكلب فقتلاهما
فقال أبو دلامة
( قد رمى المهديُّ ظباً ... شكّ بالسهم فؤادَه )
( وعليُّ بنُ سُليمانٍ ... رَمى كَلْباً فصاده )
( فهنيئاً لهما كلّ ... إمرىء يأكل زادَه )
حدثنا بذلك الحسن بن علي عن أحمد بن زهير عن مصعب وعن أحمد بن سعيد
عن الزبير بن بكار عن عمه
صوت
من المائة المختارة ( ألاَ طَرَد الهوى عنّي رُقَادِي ... فحسبي ما لَقِيتُ من السُّهادِ )
( لعبدةَ إنّ عبدةّ تَيّمتْني ... وحلّت من فؤادي في السّواد )
الشعر لبشار والغناء المختار في هذين البيتين هزج خفيف بالبنصر ذكر يحيى بن علي أنه يمني وذكر الهشامي أنه لسليم
أخبار بشار وعبدة خاصة إذ كانت أخباره سوى هذه تقدمت حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أبو أيوب المديني عمن حدثه عن الأصمعي هكذا قال وأخبرني به عمي عن عبد الله بن أبي سعد عن علي بن مسرور عن الأصمعي قال كان لبشار مجلس يجلس فيه يقال له البردان فبينا هو في مجلسه ذات يوم وكان النساء يحضرنه إذ سمع كلام امرأة يقال لها عبدة في المجلس فدعا غلامه فقال إني قد علقت امرأة فإذا تكلمت فانظر من هي واعرفها فإذا انقضى المجلس وانصرف أهله فاتبعها وكلمها وأعلمها أني لها محب وأنشدها هذه الأبيات وعرفها أني قلتها فيها
صوت قالوا بمَنْ لا ترى تَهْذِي فقلتُ لهم ... الأذْنُ كالعين تُوفِي القلبَ ما كاناَ )
( ما كنتُ أوّلَ مشغوف بجارية ... يَلْقَى بِلُقْيانها رَوْحا ورَيْحانا )
ويروى هل من دواء لمشغوف بجارية
( يا قوم أُذْني لبعض الحيّ عاشقةٌ ... والأذْن تعشق قبل العين أحيانا )
غنى إبراهيم في هذه الأبيات ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق
وفيها لسياط ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيها لإسحاق هزج من جامع أغانيه قال فأبلغها الغلام الأبيات فهشت لها وكانت تزوره مع نسوة يصحبنها فيأكلن عنده ويشربن وينصرفن بعد أن يحدثها وينشدها ولا تطمعه في نفسها قال وقال فيها
( قالت عُقَيل بنُ كعب إذ تعلّقها ... قلبي فأضحَى به من حبّها أثر )
( أنَّى ولم ترها تَهذِي فقلتُ لهم ... إن الفؤادَ يَرَى ما لا يرى البصر )
( أصبحتُ كالحائم الحَرّان مُجتَنباً ... لم يَقضِ ورْدا ولا يُرجَى له صَدَر )
قال وقال فيها أيضا وهو من جيد ما قال فيها
( يُزَهَّدني في حبّ عبدةَ معشرٌ ... قلوبُهُمُ فيها مخالفةٌ قلبي )
( فقلتُ دَعُوا قلبي وما اختار وارتضَى ... فبالقلب لا بالعين يُبصِر ذو الحبّ )
( فما تُبصر العينان في موضع الهوى ... ولا تسمع الأذْنان إِلاّ من القلب )
( وما الحسْنُ إلا كلّ حُسْنٍ دعا الصِّبَا ... وألّف بين العشق والعاشقِ الصبّ )
قال وقال فيها
( يا قلبُ مالي أراك لا تَقِرُ ... إياكَ أَعْنِي وعندك الخبرُ )
( أَضِعْتَ بين الأُلى مَضَوْا حُرَقاً ... أم ضاع ما استودعوك إذ بَكَروا )
( فقال بعضُ الحديث يَشْغَفُني ... والقلبُ راءٍ ما لا يَرى البصر )
هجوه الحسن البصري وأخبرني بهذا الخبر أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا خالد بن يزيد بن وهب عن جرير عن أبيه بمثل هذه القصة وزاد فيها أن عبدة جاءت إليه في نسوة خمس قد مات لإحداهن قريب فسألنه أن يقول شعرا ينحن عليه به فوافينه وقد احتجم وكان له مجلسان مجلس يجلس فيه غدوة يسميه البردان ومجلس فيه عشية يسميه الرقيق وهو جالس في البردان وقد قال لغلامه أمسك علي بابي واطبخ لي وهيء طعامي وطيبه وصف نبيذي
قال فإنه لكذلك إذا قرع الباب عليه قرعا عنيفا فقال ويحك يا غلام انظر من يدق الباب دق الشرط فنظر الغلام وجاءه فقال خمس نسوة بالباب يسألنك أن تقول شعرا ينحن فيه فقال أدخلهن
فلما دخلن نظرن إلى النبيذ مصفى في قنانيه في جانب بيته فقالت إحداهن خمر وقالت الأخرى زبيب وقالت الأخرى معسل فقال لست بقائل لكن حرفا أو تطعمن من طعامي وتشربن من شرابي
فتماسكن ساعة وقالت إحداهن فما عليكن من ذلك هذا أعمى كلن من طعامه واشربن من شرابه وخذن شعره ففعلن
وبلغ ذلك الحسن البصري فعابه وهتف به فبلغ ذلك بشارا وكان الحسن يلقب القس فقال فيه بشار
( لَمّا طلعنَ من الرَّقيق ... عليّ بالبَرَدّان خَمْساَ )
( وكأنهن أَهلّة ... تحت الثياب زَفَفن شمسا )
( باكرْنَ طِيبَ لَطيمةٍ ... وعُمِس في الجاديّ عَمسا )
( فسألنني مَنْ في البيوت ... فقلتُ ما يحوين إِنْسا )
( ليت العيونَ الناظراتِ ... طُمِسن عنّا اليوم طَمْسا )
( فأصبن من طَرَف الحديث ... لذاذةً وخرجن مُلْسا )
( لولا تَعَرُّضهن لي ... يا قَسُّ كنتُ كأنت قَسّا )
أخبرني الأسدي ويحيى بن علي بن يحيى ومحمد بن عمران الصيرفي قالوا حدثنا العنزي قال حدثنا علي بن محمد عن جعفر بن محمد النوفلي قال أتيت بشارا ذات يوم فقال لي ما شعرت منذ أيام إلا بقارع يقرع بابي مع الصبح فقلت يا جارية انظري من هذا فقالت مالك بن دينار فقلت مالي ولمالك بن دينار ما هو من أشكالي إئذني له
فدخل فقال لي يا أبا معاذ أتشتم أعراض الناس وتشبب بنسائهم فلم يكن عندي إلا دفعه عن نفسي بأن قلت لا أعاود فخرج من عندي وقلت في إثره
( غدا مالكٌ بِمَلاماته ... عليّ وما بات من باليَهْ )
( فقلتُ دَعِ اللومَ في حُبِّها ... فقبلكَ أعييتُ عُذّالِيهْ )
( وإِنّي لأَكتُمهم سِرَّها ... غداةَ تقول لها الجالية )
( أعبدةَ مالكِ مَسْلوبةً ... وكنتِ مُقرطَقةً حاليه )
( فقالت على رِقْبةٍ إنني ... رهنتُ المرعَّث خَلْخاليه )
( بمجلسِ يومِ سأُوفِي به ... وإن أنكر الناسُ أحواليه )
أخبرني وكيع قال حدثني عمرو بن محمد بن عبد الملك قال حدثني
الحسن بن جهور قال حدثني هشام بن الأحنف راوية بشار قال إني لعند بشار ذات يوم إذ أتته امرأة فقالت يا أبا معاذ عبدة تقرئك السلام وتقول لك قد اشتد شوقنا إليك ولم نرك منذ أيام فقال عن غير مقلية والله كان ذاك
ثم قال لراويته يا هشام خذ الرقعة واكتب فيها ما أقول لك ثم ادفعه للرسول
قال هشام فأملى علي
( عبد إِنّي إليكِ بالأشواقِ ... لِتَلاقٍ وكيف لي بالتلاقي )
( أنا والله أشتهي سحرَ عينيْك ... وأخشى مَصَارعَ العشّاق )
( وأهاب الحَرْسيّ مُحتسِبَ الجُنْد ... يَلُفّ البريءَ بالفُسّاق )
ومما يغني فيه من شعر بشار في عبدة قوله
صوت ( لعبدة دارٌ تكلَّمنا الدارُ ... تَلُوح مَغانيها كما لاح أسطارُ )
( أُسائل أحجاراً ونُؤْياً مُهَدَّماً ... وكيف يُجيب القولَ نؤيٌ وأحجار )
( وما كلّمْتني دارهُا إذ سألتُها ... وفي كبدي كالنِّفْط شُبَّت به النار )
( وعند مَغَانِي دارها لو تكلّمت ... لمِكتئبٍ بادِي الصَّبابة أخبار )
الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لإبن جامع ثقيل أول عن الهشامي ومن هذه القصيدة
صوت
( تحمَّل جيراني فعيني لبَيْنهم ... تَفيض بتَهْتَانٍ إذا لاحتِ الدارُ )
( بكيتُ على من كنت أحظى بقربه ... وحقَّ الذي حاذرتُ بالأمس إذ ساروا )
الغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالبنصر
ومن الأغاني في شعره في عبدة
صوت ( مَسّني من صدود عبدة ضُرّ ... فبنات الفؤاد ما تستقرُّ )
( ذاك شيء في القلب من حبّ عبدةَ ... بادٍ وباطنٌ يسْتسِرَ )
الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق
وفيه لإسحاق رمل بالبنصر عن عمرو وفيه لحكم ثقيل أول بالوسطى من جامع غنائه في كتاب إبراهيم وفيه لفريدة خفيف ثقيل عن إسحاق وفيه ليحيى المكي ثقيل أول من كتابه وفيه لحسين بن محرز رمل عن الهشامي
ومنها
صوت ( يا عبد إني قد ظُلمت وإنني ... مُبْدٍ مقالة راغبٍ أو راهبِ )
( وأتوبُ مما تَكْرَهين لِتَقْبَلي ... واللهُ يقبل حُسن فعل التائب )
الغناء لحكم خفيف ثقيل عن إسحاق وفيه ليحيى المكي ثقيل أول من كتابه وفيه لحسين بن محرز رمل عن الهشامي
ومنها
صوت
( يا عبد حبُّك شفَّني شَفّا ... والحبُّ داءٌ يُورث الحَتْفَا )
( والحبُّ يُخفيه المحبّ لكي ... لا يُستراب به وما يخفَى )
الغناء لسياط خفيف رمل مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق
ومنها
صوت ( يا عبد بالله فَرِّجي كُرَبِي ... فقد براني وشفَّني نَصَبي )
( وضِقْتُ ذَرْعاً بما كَلِفْتُ به ... من حُبّكم والمحبُّ في تعب )
( ففرِّجي كُرْبةً شَجِيتُ بها ... وحَرَّ حُزْنٍ في الصدر كاللَّهب )
( ولا تَظُنِّي ما أشتكي لَعِباً ... هيهات قد جلّ ذا عن اللعب )
غناه سياط ثقيلا أول بالبنصر عن عمرو
ومنها
صوت
( يا عبد زُوريني تَكُنْ مِنّةً ... لله عندي يومَ ألْقاكِ )
( واللَّهِ ثُمّ اللَّهِ فاستيقني ... إني لأرجوكِ وأخشاك )
( يا عبد إني هالكٌ مُدْنَفٌ ... إنْ لم أذُقْ بَرْد ثناياك )
( فلا تَرُدِّي عاشقاً مُدْنَفاً ... يَرضى بهذا القدر من ذاك )
الغناء لحكم هزج خفيف بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
ومنها
صوت
( يا عبد قد طال المِطالُ فانْعِمي ... واشفِي فؤاد فتى بهيم مُتيَّمِ )
الغناء ليزيد حوراء غير مجنس عن إبراهيم ومنها
صوت ( يا عبد هلْ لِلّقاء مِنْ سببِ ... أوْ لا فأدعو بالويل والحَربِ )
الغناء ليزيد حوراء غير مجنس ومنها
صوت ( يا عبد هلْ لي منكُمُ مِنْ عائِد ... أمْ هل لديكِ صلاحُ قلبٍ فاسدِ )
الغناء لإبن عباد عن إبراهيم غير مجنس ومنها
صوت
( يا عبد حيِّي عن قريب ... وتأمَّلي عين الرقيبِ )
( وارعَيْ وِدادي غائباً ... فلقد رعيتَكِ في المَغيب )
( أشكو إليكِ وإنّما ... يشكو المُحبّ إلى الحبيب )
( غَرَضِي إليك من الهوى ... غرض المريض إلى الطبيب )
الغناء لحكم مطلق في مجرى البنصر ومنها
صوت ( يا عبد باللَّه ارْحمي عَبْدِكِ ... وعَلَّليه بمُنَى وَعْدِكِ )
( يُصبح مكروباً ويُمسي به ... وَليس يَدرِي ما له عندك )
( ماذا تقولين لربّ العُلا ... إذا تخلّيتِ به وحدك )
الغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو وفيه لإسحاق هزج من جامع أغانيه وفيه ليزيد حوراء لحن ذكره إبراهيم ولم يجنسه وذكر حبش أن الثقيل الثاني لسياط
ومنها
صوت
( يا عَبْد جَلِّي كروبي ... وأَسْعِفي وأثيبِي )
( فقد تَطَاول هَمّي ... وزَفْرتي ونَحيبي )
الغناء لإبن سكرة عن إبراهيم ولم يجنسه ومنها
صوت
( يا عبد أنَتِ ذخيرتي ... نفسي فَدَتْكِ وجِيرتي )
( اللَّهُ يعلم فيكُمُ ... يا عبد حسنَ سريرتي )
( نفسي لنفسِك خُلَّةٌ ... وكذاك أنت أميرتي )
الغناء لحكم الوادي خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو ومنها
صوت ( يا عبد حُبِّي لكِ مستورُ ... وكلّ حبّ غيره زُورُ )
( إنْ كان هجري سَرَّكم فاهجروا ... إنّي بما سَرّك مسرور )
الغناء لحكم هزج بالوسطى عن ابن المكي ومنها
صوت
( لم يَطُلْ لَيْلي ولكنْ لم أنمْ ... ونَفَى عنّي الكَرَى طيفٌ ألَمّ )
( وإذا قلتُ لها جُودي لنا ... خرجتْ بالصمت عن لا ونعم )
( رَفِّهي يا عَبْد عنّي واعلمي ... أنّني يا عبد من لحم ودم )
( إن في بُرْدي جسماً ناحلاً ... لو توكأتِ عليه لانهدم )
( خَتَم الحبُّ لها في عنقي ... موضعَ الخاتم من أهل الذمم )
الغناء لحكم هزج بالسبابة والوسطى عن ابن المكي وذكره إسحاق في هذه الطريقة فلم ينسبه إلى أحد
وفيه لعثعث الأسود خفيف رمل في الأول والخامس وكان بشار ينكر هذا البيت الأخير وهو
( خَتَم الحب لها في عُنْقي ... )
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني أبو حاتم السجستاني قال حدثني من أنشد بشارا قوله
( لم يَطُل لَيْلي ولكنْ لم أَنَم ... )
حتى بلغ إلى قوله
( ختم الحبُّ لها في عُنقي ... موضع الخاتَم مِنْ أهل الذممْ )
فقال بشار عمن أخذت هذا قلت عن راويتك فلان فقال قبحه الله والله ما قلت هذا البيت قط أما ترى إلى أثره فيه ما أقبحه وأشد تميزه عني فقال له بعض من حضر نعم هو ألحقه بالأبيات
ومنها
صوت ( عَبْد إنّي قد اعترفتُ بذَنْبي ... فاغفري واعْرُكِي خَطايَ بجَنْبِ )
( عبد لا صبر لي ولستُ فمهلاً ... قائلاً قد عَتَبتِ في غير عَتْب )
( ولقد قلتُ حين أَنْصبني الحب ... فأَبْلَى جِسْمي وعذب قلبي )
( ربّ لا صبرَ لي على الهجر حَسْبِي ... أَقِلْني حَسْبي لَكَ الحمدُ حسبي )
الغناء لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لسليم هزج من كتاب ابن المكي ومنها
صوت
( عبد مُنّى وأَنِعمي ... قد مَلَكْتم قِيادَيْه )
( شابَ رأسي ولم تَشبْ ... أبَلاَئي لِدَاتِيه )
الغناء لسياط خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لعريب هزج ومنها
صوت ( عبدُ يا هِمّتي عليك السلامُ ... فيم يُجْفَى حبيبُك المستهامُ )
( نزل الحبّ منزلاً في فؤادي ... وله فيه مجلسٌ ومقام )
الغناء لأبي زكار خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لعريب هزج ومنها
صوت ( عبد ياقُرّة عيني ... أنصفي رُوحي فداكِ )
( عاشق ليس له ذِكر ... ولا همٌّ سواكِ )
الغناء لعريب هزج وفيه لحن ليزيد حوراء غير مجنس ومنها
صوت
( يا عَبْد يا جافيةً قاطعه ... أما رحِمتِ المُقْلة الدامعهْ )
( يا عبد خافِي اللهَ في عاشقٍ ... يهواكِ حتى تقع الواقعة )
الغناء لأبي زكار هزج بالبنصر عن عمرو
صوت
من المائة المختارة ( أرْسلْتْ أمُّ جعفر لا تزورُ ... ليت شعري بالغيب منْ ذا دهاها )
( أأتاها محرِّش بنَميمٍ ... كاذبٌ ما أراد إلاّ رداها )
عروضه من الخفيف الشعر للأحوص والغناء لأم جعفر المدنية مولاة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب
ولحنه من الثقيل الأول في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أن فيه لحنا من الثقيل الأول بالبنصر فلا أعلم أهذا يعني أم غيره
وفيه لإبن سريج ثاني ثقيل بالبنصر في مجراها عن يحيى المكي وإسحاق وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو والهشامي
أخبار الأحوص مع أم جعفر وقد ذكرت أخبار الأحوص متقدما إلا أخباره مع أم جعفر التي قال فيها هذا الشعر فإنها أخرت إلى هذا الموضع
وأم جعفر هذه امرأة من الأنصار من بني خطمة وهي أم جعفر بنت عبد الله بن عرفطة بن قتادة بن معد بن غياث بن رزاح بن عامر بن عبد الله بن خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس
وله فيها أشعار كثيرة
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني يعقوب بن القاسم ومحمد بن يحيى الطلحي عن عبد العزيز بن أبي ثابت وأخبرني عمي قال حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثني أحمد بن زهير عن مصعب وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله عن المحرز بن جعفر الدوسي قالوا جميعا لما أكثر الأحوص التشبيب بأم جعفر وشاع ذكره فيها توعده أخوها أيمن وهدده فلم ينته فاستعدى عليه والي المدينة وقال الزبير في خبره فاستعدى عليه عمر بن عبد العزيز فربطهما في حبل ودفع إليهما سوطين وقال لهما تجالدا فتجالدا فغلب أخوها
وقال غير الزبير في خبره وسلح الأحوص في ثيابه وهرب
وتبعه أخوها حتى فاته الأحوص هربا
وقد كان الأحوص قال فيها
( لقد منعتْ معروفَها أمُّ جعفرٍ ... وإِنِّي إلى معروفها لفقيرُ )
( وقد أنكرتْ بعدَ اعترافٍ زيارتي ... وقد وَغِرتْ فيها عليّ صدور )
( أَدُورُ ولولا أنْ أرى أمَّ جعفرٍ ... بأبياتكم ما درتُ حيث أدور )
( أزور البيوتَ اللاصقاتِ ببيتها ... وقلبي إلى البيت الذي لا أَزور )
( وما كنتُ زَوّارا ولكنّ ذا الهوى ... إذا لم يُزُرْ لا بدّ أن سيزور )
( أزور على أن لست أنفكُّ كلَّما ... أتيتُ عدوّاً بالبنان يُشير )
فقال السائب بن عمرو أحد بني عمرو بن عوف يعارض الأحوص في هذه الأبيات ويعيره بفراره
( لقد منع المعروفَ من أم جعفر ... أخو ثقةٍ عند الجلاد صَبورُ )
( عَلاك بمَتْن السوطِ حتى اتّقيتَه ... بأصفرَ من ماء الصِّفاق يفور )
فقال الأحوص
( إذا أنا لم أغفِر لأَيْمَنَ ذنَبه ... فمن ذا الذي يعفو له ذنبَه بعدي )
( أريد انتقامَ الذنب ثم تَرُدّني ... يدٌ لأَدانيه مباركةٌ عندي )
وقال الزبير في خبره خاصة وإنما أعطاهما عمر بن عبد العزيز السوطين وأمرهما
أن يتضاربا بهما اقتداء بعثمان بن عفان فإنه كان لما تهاجى سالم بن دارة ومرة ابن واقع الغطفاني الفزاري لزهما عثمان بحبل وأعطاهما سوطين فتجالدا بهما
وقال عمر بن شبة في خبره وقال الأحوص فيها أيضا وقد أنشدني علي بن سليمان الأخفش هذه الأبيات وزاد فيها على رواية عمر بن شبة بيتين فأضفتهما إليها
( وإني ليدعوني هوى أُمِّ جعفر ... وجاراتها من ساعةٍ فأجيبُ )
( وإني لآتي البيتَ ما إن أحبُّه ... وأُكثر هجرَ البيت وهو حبيب )
( وأُغْضِي على أشياء منكم تسوؤني ... وأُدَعى إلى ما سَرّكم فأجيب )
( هَبِيني أمرأً إما بريئاً ظلمتِه ... وإِمّا مُسيئاً مذنباً فيتوب )
( فلا تتركي نفسي شَعاعاً فإِنها ... من الحزن قد كادت عليك تذوب )
( لك اللهُ إني واصلٌ ما وصلتِني ... ومُثنٍ بما أوليتِني ومُثيب )
( وأخُذُ ما أعطيتِ عفواً وإنني ... لأَزْوَرُ عما تكرهين هَيوب )
هكذا ذكره الأخفش في هذه الأبيات الأخيرة وهي مروية للمجنون في عدة
روايات وهي بشعره أشبه وفي هذه الأشعار التي مضت أغان نسبتها
صوت ( أَدور ولولا أن أرى أمِّ جعفر ... بأبياتكم ما درتُ حيث أدورُ )
( أدور على أن لست أنفكّ كلما ... أتيتُ عدوَّا بالبَنان يُشير )
الغناء لمعبد وله فيه لحنان ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن عمرو ولإسحاق فيهما وفي قوله
( أزور البيوتَ الّلاصقات ببتها ... )
وبعده
( أدور ولولا أن أرى أمَّ جعفر ... )
لحن من الرمل وفي البيتين اللذين فيهما غناء معبد للغريض ثقيل أول عن الهشامي ولإبراهيم خفيف ثقيل وفيه لحن لشاريه عن ابن المعتز ولم يذكر طريقته
( إذا أنا لم أغفِر لأَيْمَنَ ذنبَه ... فَمَنْ ذا الذي يعفو له ذنبَه بعدي )
( أُريد مكافأةً له وتَصُدّني ... يدٌ لأَدانيه مباركةٌ عندي )
الغناء لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى عن يحيى المكي وذكر غيره أنه منحول يحيى إلى معبد وفيه ثقيل أول ينسب إلى عريب ورونق
ومنها وهو
صوت
من المائة المختارة ( وإني لآتِي البيتَ ما إن أُحِبُّه ... وأُكثر هجر البيت وهو حبيبُ )
( وأُغضي على أشياءَ منكم تسوؤني ... وأُدعَى إلى ما سرّكم فأُجيب )
( وما زلتُ من ذكراكِ حتى كأنني ... أُمِيمٌ بأفْياء الديار سَلِيب )
( أبُثُّك ما ألقَى وفي النفس حاجةُ ... لها بين جِلْدي والعظام دَبيب )
( لكِ اللهُ إِنّي واصلٌ ما وصلتِني ... ومُثْنٍ بما أوليتِني ومُثيب )
( وآخُذ ما أعطيتِ عفواً وإنني ... لأزْوَر عما تكرهين هَيوب )
( فلا تتركي نفسي شَعاعاً فإِنها ... من الحزن قد كادت عليك تذوب )
الشعر للأحوص ومن الناس من ينسب البيت الخامس وما بعده إلى المجنون
والغناء في اللحن المختار لدحمان وهو ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر وذكر الهشامي أن في الأبيات الأربعة لإبن سريج لحنا من الثقيل الأول فلا أعلم ألحن دحمان عنى أم ثقيلا آخر وفي
( لكِ الله إني واصلٌ ما وصلتِني ... ومُثْنٍ بما أوليتِني ومُثيب )
لإسحاق ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وفيها لإبراهيم خفيف رمل بالوسطى
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني محمد بن حسن قال الزبير وحدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري عن محرز
أن أم جعفر لما أكثر الأحوص في ذكرها جاءت منتقبة فوقفت عليه في مجلس قومه ولا يعرفها وكانت امرأة عفيفة فقالت له اقض ثمن الغنم التي ابتعتها مني فقال ما ابتعت منك شيئا
فأظهرت كتابا قد وضعته عليه وبكت وشكت حاجة وضرا وفاقة وقالت يا قوم كلموه فلامه قومه وقالوا اقض المرأة حقها فجعل يحلف أنه ما رآها قط ولا يعرفها
فكشفت وجهها وقالت ويحك أما تعرفني فجعل يحلف مجتهدا أنه ما يعرفها ولا رآها قط حتى إذا استفاض قولها وقوله واجتمع الناس وكثروا وسمعوا ما دار وكثر لغطهم وأقوالهم قامت ثم قالت أيها الناس اسكتوا
ثم أقبلت عليه وقالت يا عدو الله صدقت والله مالي عليك حق ولا تعرفني وقد حلفت على ذلك وأنت صادق وأنا أم جعفر وأنت تقول قلت لأم جعفر وقالت لي أم جعفر في شعرك فخجل الأحوص وانكسر عن ذلك وبرئت عندهم
أبو السائب المخزومي يطرب لشعره أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير وأخبرني به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا ثعلب قال حدثنا الزبير عن عبد الملك بن عبد العزيز قال أنشدت أبا السائب المخزومي قول الأحوص
( لقد منعتْ معروفَها أمُّ جعفر ... وإنِّي إلى معروفها لفقيرُ )
فلما انتهيت إلى قوله
( أزور على أن لست أنفكُّ كلَّما ... أتيتُ عدوّا بالبنان يُشير )
أعجبه ذلك وطرب وقال أتدري يابن أخي كيف كانوا يقولون اساعة دخل الساعة خرج الساعة مر الساعة رجع وجعل يومئ بإبهاميه إلى وراء منكبيه وبسبابته إلى حيال وجهه ويقلبها يحكي ذهابه ورجوعه
صوت
من المائة المختارة ( صاحِ قد لُمْتَ ظالماَ ... فانظرِ أن كنتَ لائماَ )
( هل ترى مثلَ ظَبْية ... قَلَّدوها التمائما )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء في اللحن المختار لمالك خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق
وأخبرني ذكاء وجه الرزة أن فيه لعريب رملا بالبنصر وهو الذي فيه سجحة وفيه لإبن المكي خفيف ثقيل آخر بالوسطى
وزعم الهشامي أن فيه خفيف رمل بالوسطى لإبن سريج وقد سمعها ممن يغينه
وذكر حبش أن فيه رملا آخر للغريض ولعاتكة بنت شهدة فيه خفيف ثقيل وهو من جيد صنعتها وذكر جحظة عن أصحابه أن لحنها الرمل هو اللحن المختار وأن إسحاق كان يقدمها ويستجيدها ويزعم أنه أخذه عنها
وقال ابن المعتز حدثني أبو عبد الله الهشامي أن عريب صنعت فيه لحنها الرمل بعد أن أفضت الخلافة إلى المعتصم فأعجبه وأمرها أن تطرحه على جواريه ولم أسمع بشرا قط غناه أحسن من خشف الواضحية
وكل أخبار هؤلاء المغنين قد ذكرت أولها موضع تذكر فيه إلا عاتكة بنت شهدة فإن أخبارها تذكر ها هنا لأنه ليس لها شيء أعرفه من الصنعة فأذكره غير هذا
وقد ذكر جحظة عن أصحابه أن لحنها هو المختار فوجب أن نذكر أخبارها معه أسوة غيرها
عاتكة بنت شهدة وشيء من أخبارها كانت عاتكة بنت شهدة مدنية وأمها شهدة جارية الوليد بن يزيد وهو الصحيح وكانت شهدة مغنية أيضا
حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا العلاء قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي عن بعض المغنين قال كنا ليلة عند الرشيد ومعنا ابن جامع والموصلي وغيرهما وعنده في تلك الليلة محمد بن داود بن إسماعيل بن علي فتغنى المغنون ثم اندفع محمد بن داود فغناه بين أضعافهم
صوت ( أمَّ الوليد سَلَبْتِني حِلْمي ... وقتلتِني فتخوّفي إِثمي )
( بالله يا أمَّ الوليد أمَا ... تخشَيْن فيّ عواقبَ الظلم )
( وتركتِني أبغي الطبيبَ وما ... لطبيبنا بالداء من عِلْم )
( خافي إِلهِك في ابن عمِّكِ قد ... زوّدتِه سُقْماً على سُقم )
قال فاستحسن الرشيد الصوت واستحسنه جميع من حضره وطربوا له فقال له الرشيد ياحبيبي لمن هذا الصوت فقال يا أمير المؤمنين سل هؤلاء المغنين لمن هو فقالوا والله ما ندري وإنه لغريب فقال بحياتي لمن هو فقال وحياتك ما أدري إلا أني أخذته من شهدة جارية الوليد أم عاتكة بنت شهدة
هذا الشعر المذكور لإبن قيس الرقيات والغناء لإبن محرز وله فيه لحنان أحدهما ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو
وفيه لسليم خفيف رمل بالبنصر ولحسين بن محرز ثقيل أول عن الهشامي وحبش
أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق عن أبيه أنه ذكر عاتكة بنت شهدة يوما فقال كانت أضرب من رأيت بالعود ولقد مكثت سبع سنين أختلف إليها في كل يوم فتضار بني ضربا أو ضربين ووصل إليها مني ومن أبي أكثر من ثلاثين ألف درهم بسببي دراهم وهدايا
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه عن إسحاق قال كانت عاتكة بنت شهدة أحسن خلق الله غناء وأرواهم وماتت بالبصرة
وأمها شهدة نائحة من أهل مكة وكان ابن جامع يلوذ منها بكثرة الترجيع
فكان إذا أخذ يتزايد في غنائه قالت له إلى أين يا أبا القاسم ما هذا الترجيع الذي لا معنى له عد بنا إلى معظم الغناء ودع من جنونك
فأضجرته يوما بين يدي الرشيد فقال لها إني أشتهي علم الله أن تحتك شعرتي بشعرتك فقالت أخسأ قطع الله ظهرك ولم تعد لأذاه بعدها
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار قال قال لي علي ابن جعفر بن محمد دخلت على جواري المرواني المغنيات بمكة وعاتكة بنت شهدة تطارحهن لحنها
( يا صاحبيّ دَعَا الملامةَ واعلمَا ... أنّ الهوى يَدَع الكِرامَ عَبيداَ )
فجعلت واحدة منهن تقول يدع الرجال عبيدا فصاحت بها عاتكة بنت شهدة ويلك بندار الزيات العاض بظر أمه رجل أفمن الكرام هو قال فكنت إذا مر بي بندار أو رأيته غلبني الضحك فأستحي منه وأخذ بيده وأجعل ذلك بشاشة حتى أورث هذا بيني وبينه مقاربة فكان يقول أبو الحسن علي بن جعفر صديق لي
وكان مخارق مملوكا لعاتكة وهي علمته الغناء ووضعت يده على العود ثم باعته فانتقل من ملك رجل إلى ملك آخر حتى صار إلى الرشيد
وقد ذكر ذلك في أخباره
صوت
من المائة المختارة ( ولو أنّ ما عندَ ابنِ بُجْرَةَ عندها ... من الخمر لم تَبْلُلْ لَهَاتي بناطِلِ )
( لعمري لأنتَ البيتُ أُكرِمُ أهلَه ... وأقعدُ في أفيائه بالأصائل )
عروضه من الطويل الشعر لأبي ذؤيب الهذلي والغناء لحكم الوادي ولحنه المختار من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها
ابن بجرة هذا فيما ذكره الأصمعي رجل كان يبيع الخمر بالطائف وزعم أن الناطل كوز تكال به الخمر وقال ابن الأعرابي ليس هذا بشيء وزعم أن الناطل الشيء يقال ما في الإناء ناطل أي شيء
وقال أبو عمرو الشيباني سمعت الأعراب يقولون الناطل الجرعة من الماء واللبن والنبيذ انتهى
ذكر أبي ذؤيب وخبره ونسبه هو خويلد بن خالد بن محرث بن زبيد بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث نميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار
وهو أحد المخضرمين ممن أدرك الجاهلية والإسلام وأسلم فحسن إسلامه
ومات في غزاة إفريقية
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال كان أبو ذؤيب شاعرا فحلا لا غميزة فيه ولا وهن
وقال ابن سلام قال أبو عمرو بن العلاء سئل حسان بن ثابت من أشعر الناس قال أحيا أم رجلا قالوا حيا قال أشعر الناس حيا هذيل وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب قال ابن سلام ليس هذا من قول أبي عمرو ونحن نقوله أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني محمد بن معاذ العمري قال في التوراة أبو ذؤيب مؤلف زورا وكان اسم الشاعر بالسريانية مؤلف
زورا
فأخبرت بذلك بعض أصحاب العربية وهو كثير بن إسحاق فعجب منه وقال قد بلغني ذاك وكان فصيحا كثير الغريب متمكنا في الشعر
قال أبو زيد عمر بن شبة تقدم أبو ذؤيب جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية التي يرثي فيها بنيه يعني قوله
( أمِن المَنون ورَيْبة تتوجّع ... والدهر ليس بُمعْتِب من يَجْزَعُ )
وهذه يقولها في بنين له خمسة أصيبوا في عام واحد بالطاعون ورثاهم فيها وسنذكر جميع ما يغنى فيه منها على أثر أخباره هذه
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن مصعب الزبيري وأخبرني حرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال كان أبو ذؤيب الهذلي خرج في جند عبد الله بن سعد بن أبي سرج أحد
بني عامر بن لؤي إلى أفريقية سنة ست وعشرين غازيا إفرنجة في زمن عثمان
فلما فتح عبد الله بن سعد إفريقية وما والاها بعث عبد الله بن الزبير وكان في جنده بشيرا إلى عثمان بن عفان وبعث معه نفرا فيهم أبو ذؤيب ففي عبد الله يقول أبو ذؤيب
( فصاحب صدقٍ كسِيدِ الضَّرا ... ينْهض في الغزو نهضا نجيحا )
في قصيدة له
فلما قدموا مصر مات أبو ذؤيب بها وقدم ابن الزبير على عثمان وهو يومئذ في قول ابن الزبير ابن ست وعشرين سنة وفي قول الواقدي ابن أربع وعشرين سنة
وبشر عبد الله عند مقدمه بخبيب بن عبد الله بن الزبير وبأخيه عروة بن الزبير وكانا ولدا في ذلك العام وخبيب أكبرهما
قال مصعب فسمعت أبي والزبير بن خبيب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير يقولان قال عبد الله بن الزبير أحاط بنا جرجير صاحب إفريقية وهو ملك إفرنجة في عشرين ألفا ومائة ألف ونحن في عشرين ألفا فضاق بالمسلمين أمرهم واختلفوا في الرأي فدخل عبد الله بن سعد فسطاطه يخلو ويفكر قال عبد الله بن الزبير فرأيت عورة من جرجير والناس على مصافهم رأيته على برذون أشهب خلف أصحابه منقطعا منهم معه جاريتان له تظلانه من الشمس بريش الطواويس
فجئت فسطاط عبد الله فطلبت الإذن عليه من حاجبه فقال إنه في شأنكم وإنه قد أمرني أن أمسك
الناس عنه
قال فدرت فأتيت مؤخر فسطاطه فرفعته ودخلت عليه فإذا هو مستلق على فراشه ففزع وقال ما الذي أدخلك علي يابن الزبير فقلت إيه وإيه كل أزب نفور إني رأيت عورة من عدونا فرجوت الفرصة فيه وخشيت فواتها فاخرج فاندب الناس إلي قال وما هي فأخبرته فقال عورة لعمري ثم خرج فرأى ما رأيت فقال أيها الناس انتدبوا مع ابن الزبير إلى عدوكم
فاخترت ثلاثين فارسا وقلت إني حامل فاضربوا عن ظهري فإني سأكفيكم من ألقى إن شاء الله تعالى
فحملت في الوجه الذي هو فيه وحملوا فذبوا عني حتى خرقتهم إلى أرض خالية وتبينته فصمدت صمدة فوالله ما حسب إلا إني رسول ولا ظن أكثر أصحابه إلا ذاك حتى رأى ما بي من أثر السلاح فثنى برذونه هاربا فأدركته فطعنته فسقط ورميت بنفسي عليه واتقت جاريتاه عنه السيف فقطعت يد إحداهما
وأجهزت عليه ثم رفعت رأسه في رمحي وجال أصحابه وحمل المسلمون في ناحيتي وكبروا فقتلوهم كيف شاؤوا وكانت الهزيمة
فقال لي عبد الله بن سعد ما أحد أحق بالبشارة منك فبعثني إلى عثمان
وقدم مروان بعدي على عثمان حين اطمأنوا وباعوا المغنم وقسموه
وكان مروان قد صفق على
الخمس بخمسمائة ألف فوضعها عنه عثمان فكان ذلك مما تكلم فيه بسببه
فقال عبد الرحمن بن حنبل بن مليل وكان هو وأخوه كلدة أخوي صفوان بن أمية بن خلف لأمه وهي صفية بنت معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح وكان أبوهما ممن سقط من اليمن إلى مكة
( أَحْلِف بالله جهد اليمين ... ما ترك الله أمراً سُدَى )
( ولكنْ خُلقتَ لنا فتنةً ... لكي نُبتلىَ فيكَ أو تُبتلى )
( دعوتَ الطَّريدَ فأدنيتَه ... خلافاً لسنّة منْ قد مضى )
( وأعطيتَ مَرْوان خُمس العباد ... ظلماً لهم وحَمْيت الحمَى )
( ومالاً أتاكَ به الأشعريّ ... من الفيء أعطيتَه مَنْ دنا )
( وإن الأمينَيْن قد بَيّنا ... منارَ الطريق عليه الهدى )
( فما أخذا درهماً غِيلةً ... ولا قسما درهماً في هوى )
قال والمال الذي ذكر أن الأشعري جاء به مال كان أبو موسى قدم به على عثمان من العراق فأعطى عبد الله بن أسيد بن أبي العيص منه مائة ألف درهم وقيل ثلثمائة ألف درهم فأنكر الناس ذلك
ذكره ابن بجرة أخبرني أحمد بن عبيد الله قال حدثنا عمر بن شبة عن محمد بن يحيى عن عبد العزيز أظنه ابن الدراوردي قال ابن بجرة الذي ذكره أبو ذؤيب رجل من بني عبيد بن عويج بن عدي بن كعب من قريش ولم يسكنوا مكة ولا المدينة قط وبالمدينة منهم امرأة ولهم موال أشهر منهم يقال لهم بنو سجفان
وكان ابن بجرة هذا خمارا وهذا الصوت الذي ذكرناه من لحن حكم الوادي المختار من قصيدة لأبي ذؤيب طويلة فمما يغنى فيه منها
صوت ( أساءلتَ رَسْمَ الدار أم لم تُسائل ... عن الحيّ أم عن عهده بالأوائل )
( عفا غيرَ رسم الدار ما إن تُبينه ... وعفْرِ ظباءٍ قد ثُوَتْ في المنازل )
( فلو أنّ ما عند ابنُ بُجْرةَ عندها ... من الخمر لم تَبْلُل لهاتي بناطل )
( فتلك التي لا يَذهبُ الدهر حُبُّها ... ولا ذِكرُها ما أَرْزَمَتْ أمُّ حائِلِ )
غناه الغريض ثقيلا أول بالوسطى ويقال إن لمعبد فيه أيضا لحنا
قوله أساءلت يخاطب نفسه ويروي عن السكن أو عن أهله والسكن الذي كانوا فيه وقال الأصمعي السكن سكن الدار والسكن المنزل أيضا ويروى عفا غير نؤي الدار والنؤي حاجز يجعل حول بيوت الأعراب لئلا يصل المطر إليها ويروى وهو الصحيح
( وأقطاع طُفْي قد عفَتْ في المعاقلِ ... )
والطفي خوص المنقل والمعاقل حيث نزلوا فامتنعوا واحدها معقل وواحد الطفي طفية وأرزمت حنت والحائل الأنثى والسقب الذكر ومنها
صوت
( وإنّ حديثاً منكِ لو تَبْذُلينه ... جنى النحلِ في ألبان عُوذٍ مطافلِ )
( مَطافل أَبْكار حَدِيث نِتاجها ... تُشاب بماءٍ مثلِ ماء المفاصل )
غناه ابن سريج رملا بالوسطى جنى النحل العسل والعوذ جمع عائذ الناقة حين تضع فهي عائذ فإذا تبعها ولدها قيل لها مطفل والمفاصل منفصل السهل من الجبل حيث يكون الرضراض والماء الذي يستنقع فيها أطيب المياه وتشاب تخلط
وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي
أن أبا ذؤيب إنما عنى بقوله مطافل أبكار أن لبن الأبكار أطيب الألبان وهو لبنها لأول بطن وضعت قال وكذلك العسل فإن أطيبه ما كان من بكر النحل قال وحدثني كردين قال كتب الحجاج إلى عامله على فارس ابعث إلي بعسل من عسل خلار من النحل الأبكار من الدستفشار الذي لم تمسه النار
بعض من قصيدته العينية الشهيرة فأما قصيدته العينية التي فضل بها فمما يغنى به منها
صوت ( أَمِنَ المَنون وريبها تتوجّع ... والدهرُ ليس بمُعْتِبٍ من يَجْزَعُ )
( قالت أمامة ما لجسمك شاحباً ... منذُ ابتُذلتَ ومثلُ مالك يَنْفع )
( أم ما لجنبك لا يُلائم مضجعاً ... إلا أَقضّ عليك ذاك المضجعَ )
( فأجبتُها أنْ ما لجسمي أنّه ... أودى بَنيّ من البلاد فودَعوا )
عروضه من الكامل غناه ابن محرز ولحنه من القدر الأوسط من الثقيل الأول بالبنصر في مجراها قال الأصمعي سميت المنون منونا لأنها تذهب بمنة كل شيء وهي قوته
وروى الأصمعي وريبه فذكر المنون والشاحب المغير المهزول يقال شحب يشحب ابتذلت امتهنت نفسك وكرهت الدعة والزينة ولزمت العمل والسفر ومثل مالك يغنيك عن هذا فاشتر لنفسك من يكفيك ذلك ويقوم لك به ويلائم يوافق أقض عليك أي خشن فلم تستطع أن تضطجع عليه والقضض الرمل والحصى قال الراجز
( إنّ أُحيحاً مات من غير مَرَضْ ... ووُجْدَ في مَرْمَضَه حيث ارتَمضْ )
( عَسَاقلُ وجِبَأٌ فيها قَضَض ... )
وودعوا ذهبوا استعمل ذلك في الذهاب لأن من عادة المفارق أن يودع
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن عمر النحوي قال حدثني أبي عن الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال لما مات جعفر بن المنصور الأكبر مشى المنصور في جنازته من المدينة إلى مقابر قريش ومشى الناس أجمعون معه حتى دفنه ثم انصرف إلى قصره ثم أقبل على الربيع فقال يا ربيع أنظر من في أهلي ينشدني
( أمِن المنون ورَيْبها تتوجّع ... )
حتى أتسلى عن مصيبتي قال الربيع فخرجت إلى بني هاشم وهم بأجمعهم حضور فسألتهم عنها فلم يكن فيهم أحد يحفظها فرجعت فأخبرته فقال والله لمصيبتي بأهل بيتي ألا يكون فيهم أحد يحفظ هذا لقلة رغبتهم في الأدب أعظم وأشد علي من مصيبتي بابني ثم قال أنظر هل في القواد والعوام من الجند من يعرفها فإني أحب أن أسمعها من إنسان ينشدها
فخرجت فاعترضت الناس فلم أجد أحدا ينشدها ألا شيخا كبيرا مؤدبا قد انصرف من موضع تأديبه فسألته
هل تحفظ شيئا من شعره فقال نعم شعر أبي ذؤيب فقلت أنشدني فابتدأ هذه القصيدة العينية فقلت له أنت بغيتي ثم أوصلته إلى المنصور فاستنشده إياها فلما قال
( والدهرُ ليس بمُعتِب مَنْ يَجْزَعُ ... )
قال صدق والله فأنشدني هذا البيت مائة مرة ليتردد هذا المصراع علي فأنشده ثم مر فيها فلما انتهى إلى قوله
( والدهر لا يَبْقى على حَدَثانه ... جَوْنُ السَّراة له جدائدٌ أربعُ )
قال سلا أبو ذؤيب عند هذا القول ثم أمر الشيخ بالإنصراف فاتبعته فقلت له أأمر لك أمير المؤمنين بشيء فأراني صرة في يده فيها مائة درهم
الخيانة مشتركة حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال كان أبو ذؤيب الهذلي يهوى امرأة يقال لها أم عمرو وكان يرسل إليها خالد بن زهير فخانه فيها وكذلك كان أبو ذؤيب فعل برجل يقال له عويم بن مالك بن عويمر وكان رسوله إليها
فلما علم أبو ذؤيب بما فعل خالد صرمها فأرسلت تترضاه فلم يفعل وقال فيها
( تُريدين كيما تجمعيني وخالداً ... وهل يُجَمع السيفانِ وَيْحِك في غِمْد )
( أخالدُ ما راعيتَ مِنِّي قرابةً ... فتحفَظَني بالغيب أوْ بعض ما تُبدي )
( دعاكَ إليها مُقْلتاها وجيدُها ... فمِلتَ كما مال المُحبّ على عَمْد )
( وكنتَ كَرقْراق السَّراب إذا بدا ... لقوم وقد بات المطيُّ بهم يَخْدي )
( فآليتُ لا أنفكّ أَحْدو قصيدةً ... تكون وإياها بها مثلاً بعدي )
غناه ابن سريج خفيف رمل بالبنصر الغيب السر والرقراق الجاري ويروي أحذو قصيدة فمن قال أحذو بالذال المعجمة أراد أصنع ومن قال أحدو أراد أغني
وقال أبو ذؤيب في ذلك
( وما حُمِّل البُخْتِيُّ عامَ غِياره ... عليه الوُسوقُ بُرُّها وشِعيرُها )
( أتىَ قريةً كانت كثيراً طعامُها ... كَرَفْغ التراب كلُّ شيءٍ يميرها )
الرفع من التراب الكثير اللين
( فقيل تحمَّلْ فوق طوقك إنّها ... مُطَبَّعة منْ يَأتها لا يضِيرُها )
( بأعظم مما كنتُ حَمَّلتُ خالداً ... وبعضُ أمانات الرجال غُرورها )
( ولو أنني حمّلتُه البُزْل ما مشتْ ... به البزلُ حتى تَتْلَئِبَّ صدورها )
تتلئب تستقيم وتنتصب وتمتد وتتابع
( خليلِي الذي دلَّى لغيٍّ خليلتي ... جِهاراً فكلٌّ قد أصاب عُرورها )
يقال عرة بكذا أي أصابه به
( فشأنكها إني أمينٌ وإننّي ... إذا ما تحالى مثلُها لا أطُورها )
تحالى من الحلاوة أطورها أقربها
( أُحاذر يوماً أن تَبِين قَرينتي ... ويُسْلمها أَحْرازُها ونَصيرها )
الأحراز الحصون قرينتي نفسي
( وما أَنفُس الفتيان إلا قرائنٌ ... تَبين ويبقَى هامُها وقُبورها )
( فنفسَك فاحفظْها ولا تُفشِ للعِدا ... من السرّ ما يُطَوى عليه ضَميرُها )
( وما يَحْفظُ المكتومَ من سرّ أهله ... إذا عُقَدُ الأسرار ضاع كبيرُها )
( مِنَ القوم إلا ذو عَفاف يُعينه ... على ذاك منهُ صِدْقُ نفس وخِيرُها )
( رَعَى خالدٌ سرّى لياليَ نفسُه ... تَوالَى على قَصْد السبيل أُمورُها )
( فلما تراماه الشبابُ وغَيُّه ... وفي النفس منه فِتْنَةٌ وفُجورها )
( لوى رأسَه عنّي ومال بودّه ... أغانيجُ خَوْد كان فينا يَزُورها )
( تَعلَّقه منها دَلالٌ ومُقلة ... تَظَلّ لأصحاب الشَّقاء تُديرها )
( فإِن حراماً أَنْ أخون أمانَةً ... وآمَنَ نفساً ليس عندي ضميرها )
فأجابه خالد بن زهير
( لا يُبعدنّ الله لُبَّك إذ غَزَا ... وسافَر والأحلامُ جَمٌّ عُثُورُها )
غزا وسافر لبك ذهب عنك والعثور من العثار وهو الخطأ
( وكنتَ إماماً للعشيرة تنتهي ... إليك إذا ضاقتْ بأمرٍ صُدورها )
( لعلك إمّا أمُّ عمرو تبدّلت ... سِواكَ خليلاً شاتِمي تَسْتخيرها )
الإستخارة الإستعطاف
( فإِنّ التي فينا زعمتَ ومثلَها ... لَفِيكَ ولكنّي أراك تَجُورها )
تجورها تعرض عنها
( ألم تَنْتقذها من عويم بن مالك ... وأنت صفيُّ نفسه وسجيرُها )
( فلا تَجْزَعَنْ من سُنّةٍ أنت سِرْتَها ... فأوّلُ راضٍ سُنّةً منْ يسيرها )
ويروى قد أسرتها أي جعلتها سائرة ومن رواه هكذا روى يسيرها لأن مستقبل أفعل أسارها يسيرها ويسيرها مستقبل سار السيرة يسيرها
( فإِن كنتَ تشكو من خليلٍ مخانَةً ... فتلك الجوازي عَقْبها ونُصُورها )
عقبها يريد عاقبتها ونصورها أي تنصر عليك الواحد نصر
( وإن كنتَ تبْغِي للظُّلامة مرْكباً ... ذَلُولا فإِني ليس عندي بَعيرها )
( نشأتُ عَسيراً لا تلِين عريكتي ... ولم يعْلُ يوماً فوق ظهري كُورها )
( متى ما تشأْ أحمِلْك والرأسُ مائلٌ ... على صعْبةٍ حَرْفٍ وشِيكٍ طُمورها )
( فلا تكُ كالثور الذي دُفنتْ له ... حديدةُ حتْفٍ ثم أمسى يُثيرها )
( يُطيل ثَواءً عندها ليَرُدَّها ... وهيهات منه دارها وقُصورها )
( وقاسمها بالله جَهْداً لأنتمُ ... الذُّ من السَّلْوَى إذا ما نَشُورها )
نشورها نجتنيها السلوى ها هنا العسل
( فلم يُغن عنه خَدْعُه يوم أَزْمَعتْ ... صَريمتَها والنفسُ مُرٌّ ضميرُها )
( ولم يُلْفَ جَلْداً حازماً ذا عَزيمة ... وذَا قوّة يَنفِي بها من يَزورها )
( فأَقْصِرْ ولم تأخذْك منّي سحابةٌ ... يُنَفِّر شاءَ المُقْلِعين خَرِيرُها )
المقلعين الذين أصابهم القلع وهو السحاب
( ولا تَسْبِقنّ الناس منّي بخَمْطةٍ ... مِنَ السمّ مَذْرُورٍ عليها ذَرُورها )
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا السكن بن سعيد قال حدثنا العباس بن هشام قال حدثني أبو عمرو عبد الله بن الحارث الهذلي من أهل المدينة قال خرج أبو ذؤيب مع ابنه وابن أخ له يقال له ابو عبيد حتى قدموا على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له أي العمل افضل يا أمير المؤمنين قال الإيمان بالله ورسوله
قال قد فعلت فأيه أفضل بعده الجهاد في سبيل الله قال ذلك كان علي وإني لا أرجو جنة ولا أخاف نارا
ثم خرج فغزا أرض الروم مع المسلمين فلما قفلوا أخذه الموت فاراد ابنه وابن أخيه أن يتخلفا عليه جميعا فمنعهما صاحب الساقة وقال ليتخلف عليه أحدكما وليعلم أنه مقتول
فقال لهما أبو ذؤيب اقترعا فطارت القرعة لأبي عبيد فتخلف عليه ومضى ابنه مع
الناس
فكان أبو عبيد يحدث قال قال لي أبو ذؤيب يا أبا عبيد احفر ذلك الجرف برمحك ثم اعضد من الشجر بسيفك ثم اجررني إلى هذا النهر فإنك لا تفرغ حتى أفرغ فآغسلني وكفني ثم اجعلني في حفيري وإنثل علي الجرف برمحك وألق علي الغصون والشجر ثم اتبع الناس فإن لهم رهجة تراها في الأفق إذا مشيت كأنها جهامة قال فما أخطأ مما قال شيئا ولولا نعته لم أهتد لأثر الجيش وقال وهو يجود بنفسه
( أبا عُبَيد رُفع الكتابُ ... واقترب الموعد والحسابُ )
( وعند رَحْلي جملٌ نُجاب ... أحمرُ في حاركه انصباب )
ثم مضيت حتى لحقت الناس فكان يقال إن أهل الإسلام ابعدوا الأثر في بلد الروم فما كان وراء قبر أبي ذؤيب قبر يعرف لأحد من المسلمين
ذكر حكم الوادي وخبره ونسبه هو الحكم بن ميمون مولى الوليد بن عبد الملك وكان أبوه حلاقا يحلق رأس الوليد فاشتراه فأعتقه
وكان حكم طويلا أحول يكري الجمال ينقل عليها الزيت من الشام إلى المدينة ويكنى أبا يحيى
وقال مصعب بن عبد الله بن الزبير هو حكم بن يحيى بن ميمون وكان أصله من الفرس وكان جمالا ينقل الزيت من وادي القرى إلى المدينة
وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أنه كان شيخا طويلا أحول أجنأ يخضب بالحناء وكان جمالا يحمل الزيت من جدة إلى المدينة وكان واحد دهره في الحذق وكان ينقر بالدف ويغني مرتجلا وعمر عمرا طويلا وغني الوليد بن عبد الملك وغنى الرشيد ومات في الشطر من خلافته وذكر أنه أخذ الغناء من عمر الوادي
قال وكان بوادي القرى جماعة من المغنين فيهم عمر بن زاذان وقال ابن داود بن زاذان وهو الذي كان يسميه الوليد جامع لذتي وحكم بن يحيى وسليمان وخليد بن عتيك وقيل ابن عبيد ويعقوب
الوادي وكل هؤلاء كان يصنع فيحسن
أخبرني يحيى بن علي قال حدثني حماد قال قال لي أبي أحذق من رأيت من المغنين أربعة جدك وحكم وفليح بن العوراء وسياط قلت وما بلغ من حذقهم قال كانوا يصنعون فيحسنون ويؤدون غناء غيرهم فيحسنون
قال إسحاق وقال لي أبي ما في هؤلاء الذين تراهم من المغنين أطبع من حكم وابن جامع وفليح أدرى منهما بما خرج من رأسه
وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات أن أحمد بن المكي حدثه عن أبيه قال حدثني حكم الوادي وأخبرني به محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي عن حماد بن إسحاق عن أحمد بن المكي عن أبيه عن حكم الوادي قال أدخلني عمر الوادي على الوليد بن يزيد وهو على حمار وعليه جبة وشي ورداء وشي وخف وشي وفي يده عقد جوهر وفي كمه شيء لا أدري ما هو فقال من غناني ما أشتهي فله ما في كمي وما علي وما تحتي فغنوه كلهم فلم يطرب فقال لي غن يا غلام فغنيت
صوت ( إكليلُها ألوانُ ... ووجههُا فَتّانُ )
( وخالُها فريدٌ ... ليبس له جيران )
( إذا مشتْ تَثنّت ... كأنها ثعبان )
الشعر لمطيع بن إياس والغناء لحكم الوادي هزج بالوسطى وفيه لإبراهيم رمل خفيف بالوسطى فطرب وأخرج ما كان في كمه وإذا كيس فيه ألف
دينار فرمى به إلي مع عقد الجوهر فلما دخل بعث إلي بالحمار وجميع ما كان عليه
وهذا الخبر يذكر من عدة وجوه في أخبار مطيع بن إياس
وفي حكم الوادي يقول رجل من قريش
صوت
( أبو يحيى أخو الغَزَل المغنِّي ... بَصيرٌ بالثِّقال وبالخفَافِ )
( على العيدان يُحسِن ما يُغنِّي ... ويحسُن ما يقول على الدِّفاف )
غناه حكم الوادي هزجا بالبنصر
قال هارون بن عبد الملك قال أبو يحيى العبادي قال حدثني أحمد البارد قال دخلت على حكم يوما فقال لي يا قصافي إن رجلا من قريش قال في هذا الشعر
( أبو يحيى أخو الغَزَل المغنِّي ... )
وقد غنيت فيه فخذ العود حتى تسمعه مني فأخذت العود فضربت عليه وغنانيه فكنت أول من أخذ من حكم الوادي هذا الصوت
قال أبو يحيى وقال إسحاق سمعت حكما الوادي يغني صوتا فاعجبني فسألته لمن هو فقال ولمن يكون هذا إلا لي
وقال مصعب حدثني شيخ أنه سمع حكما الوادي يغني فقال له أحسنت فألقى الدف وقال للرجل قبحك الله تراني مع المغنين منذ ستين سنة وتقول لي أحسنت
وقال لي هارون حدثني مدرك بن يزيد قال قال لي فليح بعث إلي يحيى بن خالد وإلى حكم الوادي وابن جامع معنا فأتيناه
فقلت لحكم الوادي أو قال لي إن ابن جامع معنا فعاوني عليه لنكسره
فلما صرنا إلى الغناء غنى حكم فصحت وقلت هكذا والله يكون الغناء ثم غنيت ففعل بي حكم مثل ذلك وغنى ابن جامع فما كنا معه في شيء
فلما كان العشي أرسل إلى جاريته دنانير إن أصحابك عندنا فهل لك أن تخرجي إلينا فخرجت وخرج معها وصائف لها فأقبل عليها يقول لها من حيث يظن أنا لا نسمع ليس في القوم أنزه نفسا من فليح ثم أشار إلى غلام له إن ائت كل إنسان بألفي درهم فجاء بها فدفع إلى ابن جامع ألفين فأخذها فطرحها في كمه ولحكم مثل ذلك فطرحها في كمه ودفع إلي الفين
فقلت لدنانير قد بلغ مني النبيذ فاحتبسيها لي عندك فأخذت الدراهم مني وبعثت بها إلي من الغد وقد زادت عليها مثلها وأرسلت إلي قد بعثت إليك بوديعتك وبشيء أحببت أن تفرقه على أخواتي تعني جواري
شهرته في الهزج قال هارون بن محمد قال حماد بن إسحاق قال أبي أربعة بلغوا في أربعة أجناس من الغناء مبلغا قصر عنه غيرهم معبد في الثقيل وابن سريج في الرمل وحكم في الهزج وإبراهيم في الماخوري
قال هارون وحدثني أبي قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي عن أبيه قال
زاد حكم الوادي الرشيد فبره ووصله بثلثمائة ألف درهم وسأله عمن يختار أن يكتب له بها إليه فقال اكتب لي بها إلى إبراهيم بن المهدي وكان عاملا له بالشام قال إبراهيم فقدم علي حكم بكتاب الرشيد فدفعت إليه ما كتب به ووصلته بمثل ما وصله إلا أني نقصته ألفا من الثلثمائة وقلت له لا أصلك بمثل صلة أمير المؤمنين
فأقام عندي ثلاثين يوما أخذت منه فيها ثلثمائة صوت كل صوت منها أحب إلي من الثلثمائة الألف التي وهبتها له
وأخبرني علي بن عبد العزيز عن عبيد الله بن خرداذبة قال قال مصعب بن عبد الله بينا حكم الوادي بالمدينة إذ سمع قوما يقولون لو ذهبنا إلى جارية ابن شقران فإنها حسنة الغناء فمضوا إليها وتبعهم حكم وعليه فروة فدخلوا ودخل معهم وصاحب المنزل يظن أنه معهم وهم يظنون أنه من قبل صاحب المنزل ولا يعرفونه
فغنت الجارية أصواتا ثم غنت صوتا ثم صوتا فقال حكم الوادي أحسنت والله وصاح
فقال له رب البيت يا ماص كذا وكذا من أمه وما يدريك ما الغناء فوثب عليه يتعتعه وأراد ضربه فقال له حكم يا عبدالله دخلت بسلام وأخرج كما دخلت وقام ليخرج فقال له رب البيت لا أو أضربك
فقال حكم على رسلك أنا أعلم بالغناء منك ومنها وقال شدي موضع كذا وأصلحي موضع كذا وإندفع يغني فقالت الجارية إنه والله أبو يحيى فقال رب المنزل جعلت فداك المعذرة إلى الله وإليك لم أعرفك فقام حكم ليخرج فأبى الرجل فقال والله لأخرجن فسأعود إليها لكرامتها لا لكرامتك
وذكر أحمد بن المكي عن أبيه أن حكما لم يشهر بالغناء ويذهب له
الصوت به حتى صار الأمر إلى بني العباس فانقطع إلى محمد بن أبي العباس أمير المؤمنين وذلك في خلافة المنصور فأعجب به واختاره على المغنين وأعجبته أهزاجه
وكان يقال إنه من أهزج الناس
ويقال إنه غنى الأهزاج في آخر عمره وإن ابنه لامه على ذلك وقال له أبعد الكبر تغني غناء المخنثين فقال له اسكت فإنك جاهل غنيت الثقيل ستين سنة فلم أنل إلا القوت وغنيت الأهزاج منذ سنيات فأكسبتك ما لم تر مثله قط
قال هارون بن محمد وقال يحيى بن خالد ما رأينا فيمن يأتينا من المغنين أحدا أجود أداء من حكم
وليس أحد يسمع غناء ثم يغنيه بعد ذلك إلا وهو يغيره ويزيد فيه وينقص إلا حكما
فقيل لحكم ذلك فقال إني لست أشرب وغيري يشرب فإذا شرب تغير غناؤه
أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال كان خبر حكم الوادي يتناهى إلى المنصور ويبلغه ما يصله به بنو سليمان بن علي فيعجب لذلك ويستسرفه ويقول هل هو إلا أن حسن شعرا بصوته وطرب مستمعيه فماذا يكون وعلام يعطونه هذه العطايا المسرفة إلى أن جلس يوما في مستشرف له وقد كان حكم دخل إلى رجل من قواده أراه قال علي بن يقطين أو أبوه وهو يراه ثم خرج عشيا وقد حمله على بغلة له يعرفها المنصور وخلع عليه ثيابا يعرفها له
فلما رآه المنصور قال من هذا فقيل حكم الوادي فحرك رأسه عليا ثم قال الآن علمت أن هذا يستحق ما يعطاه قيل وكيف ذلك يا
أمير المؤمنين وأنت تنكر ما يبلغك منه قال لأن فلانا لا يعطي شيئا من ماله باطلا ولا يضعه إلا في حقه
المهدي يجيزه والهادي يعطيه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا قعنب بن المحرز الباهلي عن الأصمعي قال رأيت حكما الوادي حين مضى المهدي إلى بيت المقدس وقد عارضه في الطريق وأخرج دفه ونقر فيه وله شعيرات على راسه وقال أنا والله يا أمير المؤمنين القائل
( ومتى تَخرج العروس ... فقد طال حبسُها )
فتسرع إليه الحرس فقال دعوه وسأل عنه فأخبر أنه حكم الوادي فوصله وأحسن إليه
لحن حكم في هذا الشعر المذكور هزج بالبنصر وفيه ألحان لغيره وقد ذكرت في أخبار الوليد بن يزيد
أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا علي بن محمد النوفلي عن صالح الأضجم عن حكم الوادي قال كان الهادي يشتهي من الغناء ما توسط وقل ترجيعه ولم يبلغ أن يستخف جدا فأخرج ليلة ثلاث بدر وقال من أطربني فهي له
فغناه ابن جامع وإبراهيم الموصلي والزبير بن دحمان فلم يصنعوا شيئا وعرفت ما أراد فغنيته لإبن سريج
صوت ( غَرّاءُ كالليلة المباركة الْقَمْراء ... تَهْدي أوائلَ الظُّلَمِ )
( أَكْنِي بغير اسمها وقد علم ... الله خَفِيّاتِ كلِّ مُكتتِم )
( كأن فاها إذا تُنُسِّم عن ... طيب مَشَمٍّ وحسن مُبْتَسَم )
( يُسَنُّ بالضَّرْو من بَرَاقِشَ أو ... هَيْلانَ أو يانعِ من العُتُم )
الشعر في هذا الغناء للنابغة الجعدي والصنعة لإبن سريج رمل بالبنصر فوثب عن فراشه طربا وقال أحسنت أحسنت والله اسقوني فسقي
ووثقت بأن البدر لي فقمت فجلست عليها فأحسن ابن جامع المحضر وقال أحسن والله كما قال أمير المؤمنين وإنه لمحسن مجمل
فلما سكن أمر الفراشين بحملها معي فقلت لإبن جامع مثلك يفعل ما فعلت في شرفك ونسبك فإن رأيت أن تشرفني بقبول إحداها فعلت
فقال لا والله لا فعلت والله لوددت أن الله زادك وأسأل الله أن يهنيك ما رزقك
ولحقني الموصلي فقال آخذ يا حكم من
هذا فقلت لا والله ولا درهما واحدا لأنك لم تحسن المحضر
موته وشعر الدارمي فيه ومات حكم الوادي من قرحة أصابته في صدره فقال الدارمي فيه قبل وفاته
صوت ( إنّ أبا يحيى اشتكَى عِلّةً ... أَصْبحَ منها بين عُوّادِ )
( فقلت والقلبُ به مُوجَعٌ ... يا رَبّ عافِ الحَكَم الوادي )
( فرُبّ بِيضٍ قادةٍ سادةٍ ... كأنصُلٍ سُلّت مِنَ اغْماد )
( نادَمهم في مجلس لاهياً ... فَأَصْمتَ المُنشِدَ والشادي )
غنى فيه حكم الوادي هزجا بالبنصر
صوت
من المائة المختارة ( أمعارِفَ الدِّمَن القَفَار تَوَهّمُ ... ولقد مضى حولٌ لهنَ مُجَرَّمُ )
( ولقد وقفتُ على الديار لعلَّها ... بجواب رَجْع تحيّة تتكلمّ )
( عن عِلْم ما فعل الخليطُ فما دَرَتْ ... أنَّى توجّه بالخليط المَوْسِم )
( ولقد عهِدتُ بها سُعادَ وإنها ... بالله جاهدةَ اليمين لتُقسِم )
( إني لأَوْجَهُ مَنْ تكلّم عندها ... بأَلِيَّةٍ ومخالفٌ مَن يَزْعُم )
( فلها لدينا بالذي بذَلتْ لنا ... وُدٌّ يطول له العَناء ويَعْظُم )
عروضه من الكامل الشعر لنصيب من قصيدة يمدح بها عبد الملك بن
مروان والغناء لإبن جامع له فيه لحنان ذكرهما إسحاق أحدهما ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
ولإبراهيم في البيتين الأولين ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى ولإسحاق وسياط فيهما ثقيل بالبنصر عن عمرو
ذكر ابن جامع وخبره ونسبه هو إسماعيل بن جامع بن إسماعيل بن عبد الله بن المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة بن سعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب
أخبرني الطوسي عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب وأخبرنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا محمد بن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق قالا جميعا مات ضبيرة السهمي وله مائة سنة ولم يظهر في رأسه ولا لحيته شيب فقال بعض شعراء قريش يرثيه
( حُجّاجَ بيت الله إنّ ... ضُبيرةَ السَّهْمِيّ ماتَا )
( سبَقتْ منّيتُه المَشيبَ ... وكان مِيتتُه افتلاتا )
( فتزوّدوا لا تَهْلِكوا ... من دون أهلكُم خُفاتا )
قال وأسر أبو وداعة كافرا يوم بدر ففداه ابنه المطلب وكان المطلب رجل صدق
وقد روى عن النبي الحديث
ويكنى ابن جامع أبا القاسم وأمه امرأة من بني سهم وتزوجت بعد أبيه رجلا من أهل اليمن
فذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن حماد عن أبيه عن بعض أصحابه عن عون حاجب معن بن زائدة قال رايت أم ابن جامع وابن جامع معها عند معن بن زائدة وهو ضعيف يتبعها ويطأ ذيلها وكانت من قريش ومعن يومئذ على اليمن
فقالت أصلح الله الأمير إن عمي زوجني زوجا ليس بكفء ففرق بيني وبينه
قال من هو قالت ابن ذي مناجب قال علي به قال فدخل أقبح من خلق الله وأشوهه خلقا قال من هذه منك قال امرأتي قال خل سبيلها ففعل فأطرق معن ساعة ثم رفع رأسه فقال
( لعمري لقد أصبحتَ غيرَ محبِّب ... ولا حَسَنٍ في عينها ذا مناجِب )
( فما لمتُها لمّا تبينّتُ وجهَه ... وعيناً له حَوْصاءَ من تحت حاجب )
( وأنفاً كأنف البَكْر يقطُر دائباً ... على لِحيْة عَصْلاءَ شابتْ وشارِب )
( أتيتَ بهامثلَ المَهاة تسوقها ... فياحُسْن مجلوب ويا قُبح جالب )
وأمر لها بمائتي دينار وقال لها تجهزي بها إلى بلادك
أخبرني يحيى بن علي بن يحيى قال أخبرني حماد عن أبيه أن الرشيد سأل ابن جامع يوما عن نسله وقال له أي بني الإنس ولدك يا إسماعيل قال لا أدري ولكن سل ابن أخي يعني إسحاق وكان يماظ إبراهيم الموصلي ويميل إلى ابنه إسحاق قال إسحاق ثم التفت إلي ابن جامع فقال أخبره يابن أخي بنسب عمك
فقال له الرشيد قبحك الله شيخا من قريش تجهل نسبك حتى يخبرك به غيرك وهو رجل من العجم
بعض من ورعه وتقواه قال هارون حدثني عبد الله بن عمرو قال حدثني أبو هشام محمد بن عبد الملك المخزومي قال أخبرني محمد بن عبد الله بن أبي فروة بن أبي قراد المخزومي قال كان ابن جامع من أحفظ خلق الله لكتاب الله وأعلمه بما يحتاج إليه كان يخرج من منزله مع الفجر يوم الجمعة فيصلي الصبح ثم يصف قديمه حتى تطلع الشمس ولا يصلي الناس الجمعة حتى يختم القرآن ثم ينصرف إلى منزله
قال هارون وحدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني صالح بن علي بن عطية وغيره من رجال أهل العسكر قالوا قدم ابن جامع قدمة له من مكة على الرشيد وكان ابن جامع حسن السمت كثير الصلاة قد أخذ السجود جبهته وكان يعتم بعمامة سوداء على قلنسوة طويلة ويلبس لباس الفقهاء ويركب حمارا مريسيا في زي أهل الحجاز فبينا
هو واقف على باب يحيى بن خالد يلتمس الإذن عليه فوقف على ما كان يقف الناس عليه في القديم حتى يأذن لهم أو يصرفهم أقبل أبو يوسف القاضي بأصحابه أهل القلانس فلما هجم على الباب نظر إلى رجل يقف إلى جانبه ويحادثه فوقعت عينه على ابن جامع فرأى سمته وحلاوة هيئته فجاء فوقف إلى جانبه ثم قال له أمتع الله بك توسمت فيك الحجازية والقرشية قال أصبت قال فمن أي قريش أنت قال من بني سهم قال فأي الحرمين منزلك قال مكة قال ومن لقيت من فقهائهم قال سل عمن شئت ففاتحه الفقه والحديث فوجد عنده ما أحب فأعجب به
ونظر الناس إليهما فقالوا هذا القاضي قد اقبل على المغني وأبو يوسف لا يعلم أنه ابن جامع فقال أصحابه لو أخبرناه عنه ثم قالوا لا لعله لا يعود إلى مواقفته بعد اليوم فلم نغمه
فلما كان الإذن الثاني ليحيى غدا عليه الناس وغدا عليه أبو يوسف فنظر يطلب ابن جامع فرآه فذهب فوقف إلى جانبه فحادثه طويلا كما فعل في المرة الأولى فلما انصرف قال له بعض أصحابه أيها القاضي أتعرف هذا الذي تواقف وتحادث قال نعم رجل من قريش من أهل مكة من الفقهاء قالوا هذا ابن جامع المغني قال إنا لله
قالوا إن الناس قد شهروك بمواقفته وأنكروا ذلك من فعلك فلما كان الإذن الثالث جاء أبو يوسف ونظر إليه فتنكبه وعرف ابن جامع أنه قد أنذر به فجاء فوقف فسلم عليه فرد السلام عليه أبو يوسف بغير ذلك الوجه الذي كان يلقاه به ثم أنحرف عنه
فدنا منه ابن جامع وعرف الناس القصة وكان ابن جامع جهيرا فرفع صوته ثم قال يا أبا يوسف مالك تنحرف عني أي شيء أنكرت قالوا لك إني ابن جامع المغني فكرهت مواقفتي لك أسألك عن مسألة ثم اصنع ما شئت ومال الناس فأقبلوا نحوهما يستمعون فقال يا أبا يوسف لو أن أعرابيا جلفا وقف بين يديك فأنشدك بجفاء وغلظة من لسانه وقال
( يا دار مَيَّة بالعَلْياء فالسَّنَد ... أَقَوتْ وطالَ عليها سالفُ الأبدِ )
أكنت ترى بذلك بأسا قالا لا قد روي عن النبي في الشعر قول وروي في الحديث
قال ابن جامع فإن قلت أنا هكذا ثم اندفع يتغنى فيه حتى أتى عليه ثم قال يا أبا يوسف رأيتني زدت فيه أو نقصت منه قال عافاك الله أعفنا من ذلك قال يا أبا يوسف أنت صاحب فتيا ما زدته على أن حسنته بألفاظي فحسن في السماع ووصل إلى القلب ثم تنحى عنه ابن جامع
قال وحدثني عبد الله بن شبيب قال حدثني إبراهيم بن المنذر عن سفيان ابن عيينة ومر به ابن جامع يسحب الخز فقال لبعض أصحابه بلغني أن هذا القرشي أصاب مالا من بعض الخلفاء فبأي شيء أصابه قالوا بالغناء قال فمن منكم يذكر بعض ذلك فأنشد بعض أصحابه ما يغني فيه
( وأَصحَب بالليل أهلَ الطَّواف ... وأرفع من مِئزَرِي المُسْبَلِ )
قال أحسن هيه قال
( وأسجدُ بالليل حتى الصباح ... واتلو من المُحْكَم المُنْزَل )
قال أحسن هيه قال
( عَسَى فارجُ الكرب عن يوسفٍ ... يُسخِّر لي رَبّة المَحْمِل )
قال أما هذا فدعه
طريقته في الغناء وحدثني محمد بن الحسن العتابي قال حدثني جعفر بن محمد الكاتب قال
حدثني طيب بن عبد الرحمن قال كان ابن جامع يعد صيحة الصوت قبل أن يصنع عمود اللحن
وحدث محمد بن الحسن قال حدثني أبو حارثة بن عبد الرحمن بن سعيد بن سلم عن أخيه أبي معاوية بن عبد الرحمن قال قال لي ابن جامع لولا أن القمار وحب الكلاب قد شغلاني لتركت المغنين لا يأكلون الخبز
أخبرني علي بن عبد العزيز عن ابن خرداذبه قال أهدى رجل إلى ابن جامع كلبا فقال ما اسمه فقال لا أدري فدعا بدفتر فيه أسماء الكلاب فجعل يدعوه بكل اسم فيه حتى أجابه الكلب
قال هارون بن محمد حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني محمد بن أحمد المكي قال حدثتني حولاء مولاة ابن جامع قالت انتبه مولاي يوما من قائلته فقال علي بهشام يعني ابنه ادعوه لي عجلوه فجاء مسرعا فقال أي بني خذ العود فإن رجلا من الجن ألقى علي في قائلتي صوتا فأخاف أن أنساه
فأخذ هشام العود وتغنى ابن جامع عليه رملا لم أسمع له رملا أحسن منه وهو
صوت ( أمستْ رُسوم الديار غيَّرها ... هوجُ الرِّياح الزَّعازعِ العُصُف )
( وكلُّ حَنّانة لها زَجَلٌ ... مثلُ حَنين الرَّوائم الشُّغُف )
فأخذه عنه هشام فكان بعد ذلك يتغناه وينسبه إلى الجن وفي هذا الصوت
للهذلي لحن من الثقيل الثاني بالخنصر في مجرى الوسطى
وفيه للغريض ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو وقيل إن هذا اللحن لعبادل وفيه لإبن جامع الرمل المذكور
قال هارون وحدثني أحمد بن بشر بن عبد الوهاب قال حدثني محمد بن موسى بن فليح الخزاعي قال حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد المكي قال قال لي ابن جامع أخذت من هارون ببيتن غنيته بهما عشرة آلاف دينار
صوت
( لا بدّ للعاشق من وَقْفةٍ ... تكون بين الوَصْل والصرّمِ )
( يَعْتِب أحياناً وفي عَتْبة ... إظهارُ ما يُخْفِي من السُّقْم )
( إشفاقُه داعٍ إلى ظَنّه ... وظنُّه داعٍ إلى الظلم )
( حتى إذا ما مَضّه هجره ... راجَع مَنْ يَهْوَى على رَغْم )
هكذا رويته الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لإبن جامع ثاني ثقيل بالوسطى وذكر ابن بانة أن هذا اللحن لسيلم وفيه لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى قال ثم قال لي ابن جامع فمتى تصيب أنت بالمروءة شيئا
وقال هارون حدثني أحمد بن زهير قال حدثني مصعب بن عبد الله قال خرج ابن أبي عمرو الغفاري وعبد الرحمن بن أبي قباحة وغيرهما من القرشيين عمارا يريدون مكة فلما كانوا بفخ نزلوا على البئر التي هناك
ليغتسلوا فيها
قال فبينما نحن نغتسل إذ سمعنا
صوت غناء فقلنا لو ذهبنا إلى هؤلاء فسمعنا غناءهم فأتيناهم فإذا ابن جامع وأصحاب له يغنون وعندهم فضيخ لهم يشربون منه فقالوا تقدموا يا فتيان فتقدم ابن أبي عمرو فجلس مع القوم وكان رأسهم فجلسنا نشرب وطرب ابن أبي قباحة فغنى فقال ابن جامع وابأبي وأمي ابن أبي قباحة وإلا فهو ابن الفاعلة
فقام ابن أبي عمرو فأخرج من وسطه هميانا فيه ثلثمائة درهم فنثرها على ابن أبي قباحة فقال ابن جامع امضوا بنا إلى المنزل فمضنيا فأقمنا عنده شهرا ما نبرح ونحن على إحرامنا ذلك
قال هارون بن محمد بن عبد الملك حدثني علي بن سليمان عن محمد بن أحمد النوفلي عن جارية ابن جامع الحولاء قال وكانت تتبناني فتغنت يوما وطربت وقالت يا بني ألا أغنيك هزجا لسيدي في عشيقة له سوداء قلت بلى فتغنت هزجا ما سمعت أحسن منه وهو
صوت
( اَشْبَهِك المسكُ وأشبهتِه ... قائمةً في لونه قاعده )
( لا شكّ إذ لونُكما واحدٌ ... أنّكما من طينةٍ واحدهْ )
وقد روي هذا الشعر لأبي حفص الشطرنجي يقوله في دنانير مولاة البرامكة ونسب هذا الهزج إلى إبراهيم وابن جامع وغيرهما
قال عبد الله بن عمرو حدثنا أحمد بن عمر بن إسماعيل الزهري قال حدثني محمد بن جعفر بن عمر بن علي بن ابي طالب عليه السلام وكان يلقب الأبله قال قال برصوما الزامر وذكر إبراهيم الموصلي وابن جامع فقال الموصلي بستان تجد فيه الحلو والحامض وطريا لم ينضح فتأكل منه من ذا وذا
وابن جامع زق عسل إن فتحت فمه خرج عسل حلو وإن خرقت جنبه خرج عسل حلو وإن فتحت يده خرج عسل حلو كله جيد
غنى عند الرشيد فأخطأ ثم أجاد أخبرنا يحيى بن علي عن أبيه وحماد عن إبراهيم بن المهدي وكان إبراهيم يفضل ابن جامع ولا يقدم عليه أحدا وابن جامع يميل إليه قال كنا في مجلس الرشيد وقد غلب على ابن جامع النبيذ فغنى صوتا فأخطأ في أقسامه فالتفت إلي إبراهيم الموصلي فقال قد خري فيه وفهمت صدقه قال فقلت لإبن جامع يا أبا القاسم أعد الصوت وتحفظ فيه فانتبه وأعاده فأصاب
فقال إبراهيم
( أُعلِّمُه الرِّمايةَ كلَّ يومٍ ... فلمّا اشْتَدّ ساعدُه رماني )
وتنكر لميلي مع ابن جامع عليه فقلت للرشيد بعد أيام إن لي حاجة إليك قال وما هي قلت تسأل إبراهيم الموصلي أن يرضى غني ويعود إلى ما كان عليه
فقال إنما هو عبدك وقال له قم إليه فقبل رأسه فقلت لا ينفعني رضاه في الظاهر دون الباطن فسله أن يصحح الرضا فقام إلي ليقبل راسي كما أمر فقال لي وقد أكب علي ليقبل رأسي أتعود قلت لا قال قد رضيت عنك رضا صحيحا وعاد إلى ما كان عليه
وقال حماد عن أبي يحيى العبادي قال قدم حوراء غلام حماد الشعراني وكان أحد المغنين المجيدين قال حدثني بعض أصحابنا قال كنا في دار أمير المؤمنين الرشيد فصاح بالمغنين من فيكم يعرف
( وكَعْبَةُ نَجْران حَتّمٌ عليكِ ... حتى تُناخِي بأبوابها )
الشعر للأعشى فبدرهم إبراهيم الموصلي فقال أنا أغنيه وغناه فجاء بشىء عجيب فغضب ابن جامع وقال لزلزل دع العود أنا من جحاش وجرة لا أحتاج إلى بيطار ثم غنى الصوت فصاح إليه مسرور أحسنت يا أبا القاسم ثلاث مرات
نسبة هذا الصوت
صوت ( وكعبةُ نَجْرانَ حتمٌ عليكِ ... حتى تُناخِي بأبوابِها )
( نَزور يزيدَ وعبدَ المَسيح ... وقيساً هُمُ خيرُ أربابها )
( وشاهدُنا الجُلّ واليَاسِمينُ ... والمُسْمِعاتُ بقُصّابها )
( وبَرْبطنا دائمٌ مُعْمَل ... فأيُّ الثلاثةِ أَزْرَى بها )
( فلما التقينا على آلةٍ ... ومَدّتْ إليّ بأسبابها )
الشعر للأعشى أعشى بني قيس بن ثعلبة وهؤلاء الذين ذكرهم أساقفة نجران وكان يزورهم ويمدحهم ويمدح العاقب والسيد وهما ملكا نجران ويقيم عندهما ما شاء يسقونه الخمر ويسمعونه الغناء الرومي فإذا انصرف أجزلوا صلته
أخبرنا بذلك محمد بن العباس اليزيدي عن عمه عبيد الله عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وله أخبار كثيرة معهم تذكر في مواضعها إن شاء الله
والغناء لحنين الحيري خفيف ثقيل بالوسطى في مجراها عن إسحاق في الأربعة الأول وذكر عمرو أنه لإبن محرز
وذكر يونس أن فيها لحنا لمالك ولم يجنسه وذكر الهشامي أن في الخامس والسادس ثم الأول والثاني خفيف رمل بالوسطى ليحيى المكي
استحضره الفضل بن الربيع لما ولي الهادي وقال حماد عن مصعب بن عبد الله قال حدثني الطراز وكان بريد الفضل بن الربيع قال لما مات المهدي وملك موسى الهادي أعطاني الفضل دنانير وقال إلحق بمكة فأتني بابن جامع واحمله في قبة ولا تعلمن بذا أحدا ففعلت فأنزلته عندي واشتريت له جارية له وكان ابن جامع صاحب نساء
فذكره موسى ذات ليلة وكان
هو والحراني منقطعين إلى موسى أيام المهدي فضربهما المهدي وطردهما فقال لجلسائه أما فيكم أحد يرسل إلى ابن جامع وقد علمتم موقعة مني فقال له الفضل بن الربيع هو والله عندي يا أمير المؤمنين وقد فعلت الذي أردت وبعث إليه فأتي به في الليل
فوصل الفضل تلك الليلة بعشرة آلاف دينار وولاه حجابته
قال إسحاق عن بعض أصحابه كنا عند أمير المؤمنين الرشيد يوما فقال الغلام الذي على الستارة يابن جامع تغن ببيت السعدي
( فلو سألتْ سَراةَ الحيِّ سَلْمى ... على أن قد تَلوّن بي زماني )
( لخبَّرها ذوو الأحساب عنِّي ... وأعدائي فكلٌّ قد بَلاني )
( بذبِّي الذمَّ عن حسبي بمالي ... وزَبُّوناتِ أَشْوسَ تَيْحان )
( وأني لا أزال أخا حروبٍ ... إذا لم أَجْن كنتُ مِجَنَّ جاني )
قال فحرك ابن جامع رأسه وكان إذا اقترح عليه الخليفة شيئا قد أحسنه وأكمله طار فرحا فغنى به فأربد وجه إبراهيم لما سمعه منه وكذا كان ابن جامع أيضا يفعل فقال له صاحب الستارة أحسنت والله يا أميري أعد فأعاد فقال أنت في حلبة لا يلحقك أحد فيها أبدا
ثم قال صاحب الستارة لإبراهيم تغن بهذا
الشعر فتغنى فلما فرغ قال مرعى ولا كالسعدان أخطأت في موضع كذا وفي موضع كذا فقال نفي إبراهيم من أبيه إن كان يا أمير المؤمنين أخطأ حرفا وقد علمت أني أغفلت في هذين الموضعين
قال إبراهيم فلما انصرفنا قلت لإبن جامع والله ما أعلم أن أحدا بقي في الأرض يعرف هذا الغناء معرفة أمير المؤمنين قال حق والله لهو إنسان يسمع الغناء منذ عشرين سنة مع هذا الذكاء الذي فيه
قال إسحاق كان ابن جامع إذا تغنى في هذا الشعر
صوت ( مَنْ كان يَبْكي لِمَا بي ... مِنْ طول سُقْمٍ رَسيسِ )
( فالآنَ من قبل موتي ... لا عِطْرَ بعد عَرُوس )
( بنيْتُم في فؤادي ... أوكار طيرِ النُحوس )
( قلبي فريسُ المنايا ... يا ويحه من فرِيس )
الشعر لرجل من قريش والغناء لإبن جامع في طريقة الرمل لم يتغن في ذلك المجلس بغيره
وكان إذا أراد أن يتغنى سأل أن يزمر عليه برصوما فلما كثر ذلك سألوه فيه فقال لا والله ولكنه إذا ابتدأت فغنيت في الشعر عرف الغرض الذي يصلح فما يجاوزه وكنت معه في راحة وذلك أن المغني إذاتغنى بزمر زامر فأكثر العمل على الزامر لأنه لا يقفو الأثر فإذا زمر برصوما فأنا في راحة وهو في تعب وإذا زمر علي غيره فهو في راحة وأنا في تعب
فإن شككتم فاسألوا برصوما ومنصور زلزل فسألوهما عما قال فقالا صدق
قال وحدثني علي بن أحمد الباهلي قال سمعت مصعب بن عبد الله يقول بلغ المهدي أن ابن جامع والموصلي يأتيان موسى فبعث إليهما فجيء بهما فضرب الموصلي ضربا مبرحا وقال له ابن جامع ارحم أمي فرق له وقال
له قبحك الله رجل من قريش يغني وطرده
فلما قام موسى وجه الفضل خلفه بريدا حتى جاء به فقال له موسى ما كان ليفعل هذا غيرك
قال وحدثني الزبير بن بكار قال قال لي فلفلة تمنى يوما موسى أمير المؤمنين ابن جامع فدفع إلي الفضل بن الربيع خمسمائة دينار وقال امض حتى تحمل ابن جامع وبعث إليه بما يصلحه فمضيت فحملته
فلما دخلنا أدخله الفضل الحمام وأصلح من شأنه ودخل على موسى فغناه فلم يعجبه
فلما خرج قال له الفضل تركت الخفيف وغنيت الثقيل قال فأدخلني عليه أخرى فأدخله فغنى الخفيف فقال حاجتك فأعطاه ثلاثين ألف دينار
قال وحدثني عبد الرحمن بن أيوب قال حدثنا أبو يحيى العبادي قال حدثني ابن أبي الرجال قال حدثني زلزل قال أبطأ إبراهيم الموصلي عن الرشيد فأمر مسرورا الخادم يسأل عنه وكان أمير المؤمنين قد صير أمر المغنين إليه فقيل له لم يأت بعد
ثم جاء في آخر النهار فقعد بيني وبين برصوما فغنى صوتا له فأطربه وأطرب والله كل من كان في المجلس قال فقام ابن جامع من مجلسه فقعد بيني وبين برصوما ثم قال أما والله يا نبطي ما أحسن إبراهيم وما أحسن غيركما
قال ثم غنى فنسينا أنفسنا والله لكأن العود كان في يده
إبراهيم الموصلي يشهد له بجودة الإيقاع قال وحدثني عمر بن شبة قال حدثني يحيى بن إبراهيم بن عثمان بن نهيك قال دعا أبي الرشيد يوما فأتاه ومعه جعفر بن يحيى فأقاما عنده وأتاهما ابن جامع فغناهما يومهما
فلما كان الغد انصرف الرشيد وأقام جعفر قال فدخل
عليهم إبراهيم الموصلي فسال جعفرا عن يومهم فأخبره وقال له لم يزل ابن جامع يغنينا إلا أنه كان يخرج من الإيقاع وهو في قوله يريد أن يطيب نفس إبراهيم الموصلي قال فقال له إبراهيم أتريد أن تطيب نفسي بما لا تطيب به لا والله ما ضرط ابن جامع منذ ثلاثين سنة إلا بإيقاع فكيف يخرج من الإيقاع
قال وحدثني يحيى بن الحسن بن عبد الخالق قال حدثني أبي قال كان سبب عزل العثماني أن ابن جامع سأل الرشيد أن يأذن له في المهارشة بالديوك والكلاب ولا يحد في النبيذ فأذن له وكتب له بذلك كتابا إلى العثماني فلما وصل الكتاب قال كذبت أمير المؤمنين لا يحل ما حرم الله وهذا كتاب مزور
والله لئن ثقفتك على حال من هذه الأحوال لأؤدبنك أدبك قال فحذره ابن جامع
ووقع بين العثماني وحماد اليزيدي وهو على البريد ما يقع بين العمال فلما حج هارون قال حماد لإبن جامع أعني عليه حتى أعزله قال أفعل قال فابدأ أنت وقل إنه ظالم فاجر واستشهدني فقال له ابن جامع هذا لا يقبل في العثماني ويفهم أمير المؤمنين كذبنا ولكني أحتال من جهة ألطف من هذه قال فسأله هارون ابتداء فقال له يابن جامع كيف أميركم العثماني قال خير أمير وأعدله وأفضله وأقومه بحق لولا ضعف في عقله قال
وما ضعفه قال قد أفنى الكلاب قال وما دعاه إلى إفنائها قال زعم أن كلبا دنا من عثمان بن عفان يوم ألقي على الكناس فأكل وجهه فغضب على الكلاب فهو يقتلها فقال هذا ضعيف اعزلوه فكان سبب عزله
قال هارون بن محمد وحدثني الحسن بن محمد الغياثي قال حدثني أبي عن القطراني قال كان ابن جامع بارا بوالدته وكانت مقيمة بالمدينة وبمكة
فدعاه إبراهيم بن المهدي وأظهر له كتابا إلى أمير المؤمنين فيه نعي والدته قال فجزع لذلك جزعا شديدا وجعل أصحابه يعزونه ويؤنسونه ثم جاؤوا بالطعام فلم يتركوه حتى طعم وشرب وسألوه الغناء فامتنع
فقال له إبراهيم بن المهدي إنك ستبذل هذا لأمير المؤمنين فابذله لإخوانك فاندفع يغني
صوت ( كم بالدُّروب وأرض الروم مِنْ قَدَم ... ومِنْ جماجم صَرْعَى ما بها قُبِرُوا )
( بقُنْدُهَارَ ومَنْ تُقْدَر منيّته ... بقُنْدُهَار يُرَجَّم دونه الخبر )
الشعر ليزيد بن مفرغ الحميري والغناء لإبن جامع رمل وفيه لإبن سريج
خفيف رمل جميعا عن الهشامي قال وجعل إبراهيم يسترده حتى صلح له ثم قال لا والله ما كان مما خبرناك شيء إنما مزحنا بك
قال ثم قال له رد الصوت فغناه فلم يكن من الغناء الأول في شيء فقال له إبراهيم خذه الآن علي فأداه إبراهيم على السماع الأول
فقال له ابن جامع أحب أن تطرحه أنت على كذا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الحسن الشيباني عن أحمد بن يحيى المكي قال كان أبي بين يدي الرشيد وابن جامع معه يغني بين يدي الرشيد فغناه
( خليفةٌ لا يخيبُ سائلُه ... عليه تاجُ الوقار مُعْتَدلُ )
قال وغنى من يتلوه وهوم ابن جامع سكرا ونعاسا فلما دار الغناء على أصحابه وصارت النوبة إليه حركه من بجنبه لنوبته فانتبه وهو يغني
( اِسْلمْ وحُيِّيت أيّها الطَّلَلُ ... وإن عَفَتْك الرياح والسَّبلُ )
قال وهو يتلو البيت الأول فعجب أهل المجلس من ذكائه وفهمه وأعجب ذلك الرشيد
نسبة هذا الصوت
صوت ( اِسلم وحُيِّيت أيها الطللُ ... وإن عفتْك الرياح والسَّبَلُ )
( خليفةٌ لا يخيب سائلُه ... عليه تاجُ الوقار مُعْتَدل )
الشعر لأشجع أو لسلم الخاسر يمدح به موسى الهادي والغناء لإبن جامع ثقيل أول بالوسطى من رواية الهشامي وأحمد بن يحيى المكي
الرشيد يخبره بموت أمه كذبا ليحسن غناؤه قال هارون وقد حدثني بهذا الخبر عبد الرحمن بن أيوب قال حدثني أحمد بن يحيى المكي قال كان ابن جامع أحسن ما يكون غناء إذا حزن صوته
فأحب الرشيد أن يسمع ذلك على تلك الحال فقال للفضل بن الربيع ابعث خريطة فيها نعي أم ابن جامع وكان بارا بأمه ففعل
فوردت الخريطة على أمير المؤمنين وهو في مجلس
لهوه فقال يابن جامع جاء في هذه الخريطة نعي أمك فاندفع ابن جامع يغني بتلك الحرقة والحزن الذي في قلبه
( كم بالدّروب وأرض السِّند من قدم ... ومن جماجم صرْعى ما بها قُبِروا )
( بقُنْدُهار ومن تُكتب منِيّته ... بقُنْدُهار يُرجَّم دونه الخبر )
قال فوالله ما ملكنا أنفسنا وأريت الغلمان يضربون برؤوسهم الحيطان والأساطين
قال هارون لا أشك أن ابن المكي قد حدث به عن رجل حضر ذلك فأغفله عبد الرحمن بن أيوب قال ثم غنى بعد ذلك
( يا صاحب القبر الغريب ... )
وهو لحن قديم وفيه لحن لإبن المكي فقال له الرشيد أحسنت وأمر له بعشرة آلاف دينار
نسبة هذا الصوت الأخير
صوت ( يا صاحب القبر الغريب ... بالشام في طرف الكثِيب )
( بالحِجْر بين صفائح ... صُمٍّ تُرصَّف بالجبُوب )
( رصْفا ولحدٍ مُمْكِنٍ ... تحت العجاجة في القليب )
( فإذا ذكرتُ أنينَهُ ... ومغيبَه تحت المغيب )
( هاجتْ لواعجُ عَبْرة ... في الصدر دائمة الدَّبيب )
( أسفاً لحسن بلائه ... ولمصرع الشيخ الغريب )
( أقبلتُ أطلبُ طِبَّه ... والموت يُعْضِل بالطبيب )
الشعر لمكين العذري يرثي أباه وقيل إنه لرجل خرج بإبنه إلى الشأم هربا به من جارية هويها فمات هناك
والغناء لحكم الوادي رمل في مجرى البنصر وقيل إن الشعر لسلامة ترثي الوليد بن يزيد
ابن جامع وأم جعفر أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني الحسن بن محمد قال حدثنا أحمد بن الخليل بن مالك قال حدثني عبد الله بن علي بن عيسى بن ماهان قال سمعت يزيد يحدث أن أم جعفر بلغها أن الرشيد جالس وحده ليس معه أحد من الندماء ولا المسامرين فأرسلت إليه يا أمير المؤمنين إني لم أرك منذ ثلاث وهذا اليوم الرابع
فأرسل إليها عندي ابن جامع فأرسلت إليه أنت تعلم أني لا أتهنأ بشرب ولا سماع ولا غيرهما إلا أن تشركني فيه فما كان عليك أن أشركك في الذي أنت فيه فأرسل إليها إني سائر إليك الساعة
ثم قام وأخذ بيد ابن جامع وقال لحسين الخادم امض إليها فأعلمها أني قد جئت وأقبل الرشيد فلما نظر
إلى الخدم والوصائف قد استقبلوه علم أنها قد قامت تستقبله فوجه إليها إن معي ابن جامع فعدلت إلى بعض المقاصير
وجاء الرشيد وصير ابن جامع في بعض المواضع التي يسمع منه فيها ولا يكون حاضرا معهم
وجاءت أم جعفر فدخلت على الرشيد وأهوت لتنكب على يده فأجلسها إلى جانبه فاعتنقها واعتنقته ثم أمر ابن جامع أن يغني فاندفع فغنى
صوت ( ما رَعَدَتْ رَعْدَةً ولا بَرَقتْ ... لكنّها أُنشئت لنا خلقه )
( الماء يجري على نظامٍ له ... لو يجِدُ الماءُ مخْرِقا خرقه )
( بتنا وباتتْ على نَمارقها ... حتى بدا الصبحُ عيْنُها أرقه )
( أنْ قيل إِنّ الرحيل بعد غدٍ ... والدارُ بعد الجميع مُفترِقه )
الشعر لعبيد بن الأبرص والغناء لإبن جامع ثاني ثقيل من أصوات قليلات الأشباه عن إسحاق
وفيه لإبن محرز ثقيل أول بالبنصر عن عمرو بن بانة وذكر يونس أن فيه لحنا لمعبد ولم يجنسه
وفي لحكم هزج بالوسطى عن عمرو والهشامي ولمخارق في هذه الأبيات رمل بالبنصر عن الهشامي
وذكر حبش أن الثقيل الأول للغريض وذكر الهشامي أن لمتيم فيها ثاني ثقيل بالوسطى قال فقالت أم جعفر للرشيد ما أحسن ما اشتهيت والله يا أمير المؤمنين ثم قالت
لمسلم خادمها ادفع إلى ابن جامع لكل بيت مائة ألف درهم
فقال الرشيد غلبتنا يا بنت أبي الفضل وسبقتنا إلى بر ضيفنا وجليسنا فلما خرج حمل إليها مكان كل درهم دينارا
يشتري الصوت بثلاثة دراهم ويعوضها بثلاثة آلاف أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال أخبرني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدثني محمد بن ضوين الصلصال التيمي قال حدثني إسماعيل بن جامع السهمي قال ضمني الدهر ضما شديدا بمكة فانتقلت منها بعيالي إلى المدينة فأصبحت يوما وما أملك إلا ثلاثة دراهم فهي في كمي إذا أنا بجارية حميراء على رقتبها جرة تريد الركي تسعى بين يدي وترنم بصوت شجي تقول
( شكونا إلى أحبابنا طولَ ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصرَ الليلَ عندنا )
( وذاك لأنّ النوم يَغْشَى عيونَهم ... سِراعاً وما يغشى لنا النومُ أَعْيُنا )
( إذا ما دنا الليلُ المُضِرّ لذي الهوى ... جَزِعْنا وهم يَستبشرون إذا دنا )
( فلو أنهم كانوا يلاقون مثلَ ما ... نلاقي لكانوا في المضاجع مثلَنا )
قال فأخذ الغناء بقلبي ولم يدر لي منه حرف فقلت يا جارية ما أدري أوجهك أحسن أم غناؤك فلو شئت أعدت قالت حبا وكرامة
ثم أسندت ظهرها إلى جدار قرب منها ورفعت إحدى رجليها فوضعتها على الأخرى ووضعت الجرة على ساقيها ثم انبعثت تغنيه فوالله ما دار لي منه حرف فقلت أحسنت فلو شئت أعدتيه مرة أخرى ففطنت وكلحت وقالت ما أعجب أمركم أحدكم لا يزال يجيء إلى الجارية عليها الضريبة فيشغلها فضربت بيدي إلى الثلاثة الدراهم فدفعتها إليها وقلت أقيمي بها وجهك اليوم إلى أن نلتقي قال فأخذتها
كالكارهة وقالت أنت الآن تريد أن تأخذ مني صوتا أحسبك ستأخذ به ألف دينار وألف دينار وألف دينار
قال وانبعثت تغني فأعملت فكري في غنائها حتى دار لي الصوت وفهمته وانصرفت مسرورا إلى منزلي أردده حتى خف على لساني ثم إني خرجت أريد بغداد فدخلتها فنزل بي المكاري على باب محول فبقيت لا أدري أين أتوجه ولا من أقصد فذهبت أمشي مع الناس حتى أتيت الجسر فعبرت معهم ثم انتهيت إلى شارع المدينة فرأيت مسجدا بالقرب من دار الفضل بن الربيع مرتفعا فقلت مسجد قوم سراة فدخلته وحضرت صلاة المغرب وأقمت بمكاني حتى صليت العشاء الأخرة على جوع وتعب
وانصرف أهل المسجد وبقي رجل يصلي خلفه جماعة خدم وخول ينتظرون فراغه فصلى مليا ثم انصرف فراني فقال أحسبك غريبا قلت أجل قال فمتى كنت في هذه المدينة قلت دخلتها آنفا وليس لي بها منزل ولا معرفة وليست صناعتي من الصنائع التي يمت بها إلى أهل الخير قال وما صناعتك قلت أتغنى قال فوثب مبادرا ووكل بي بعض من معه
فسألت الموكل بي عنه فقال هذا سلام الأبرش قال وإذا رسول قد جاء في طلبي فانتهى بي إلى قصر من قصور الخلافة وجاوز بي مقصورة إلى مقصورة ثم أدخلت مقصورة في آخر الدهليز ودعا بطعام فأتيت بمائدة عليها من طعام الملوك فأكلت حتى امتلأت فإني لكذلك إذ سمعت ركضا في الدهليز وقائلا يقول أين الرجل قيل هو هذا
قال ادعوا له بغسول وخلعة وطيب ففعل ذلك بي فحملت على دابة إلى دار
الخلافة وعرفتها بالحرس والتكبير والنيران فجاوزت مقاصير عدة حتى صرت إلى دار قوراء فيها أسرة في وسطها قد أضيف بعضها إلى بعض
فأمرني الرجل بالصعود فصعدت وإذا رجل جالس عن يمينه ثلاث جوار في حجورهن العيدان وفي حجر الرجل عود
فرحب الرجل بي وإذا مجالس حياله كان فيها قوم قد قاموا عنها فلم ألبث أن خرج خادم من وراء الستر فقال للرجل تغن فانبعث يغني بصوت لي وهو
( لم تَمْشِ مِيلاً ولم تركب على قَتَب ... ولم تَرَ الشمسَ إلا دونها الكِلَلُ )
( تمشي الهُوَيْنَى كأن الريح تَرْجِعها ... مَشْيَ اليَعافير في جيآتها الوَهَلُ )
فغنى بغير إصابة وأوتار مختلفة ودساتين مختلفة ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تلي الرجل فقال لها تغني فغنت أيضا بصوت لي كانت فيه أحسن حالا من الرجل وهو قوله
( يا دار أَضحتْ خلاءً لا أنيسَ بها ... إلا الظباءُ وإلا النّاشط الفَرِدُ )
( أين الذين إذا ما زرتُهم جَذِلوا ... وطار عن قلبيَ التَّشْواق والكَمَد )
ثم عاد إلى الثانية وأحسبه أغفلها وما تغنت به ثم عاد الخادم إلى الجارية التي تليها فانبعثت تغني بصوت الحكم الوادي وهو
( فوالله ما أدري أيَغلبني الهوَى ... إذا جدّ وَشْكُ البَيْن أم أنا غالبُهْ )
( فإن أستطع أغِلبْ وإن يغلب الهوى ... فمثلُ الذي لاقيتُ يُغْلَب صاحبه )
قال ثم عاد الخادم إلى الجارية الثالثة فغنت بصوت لحنين وهو قوله
( مَرَرْنا على قَيْسيّة عامريّة ... لها بَشَرٌ صافي الأديم هِجانِ )
( فقالت وألقتْ جانبَ السِّتر دونها ... مِنَ آيّة أرض أو مَنِ الرجلان )
( فقلتُ لها أَمّا تميم فأُسرتي ... هُديتِ وأما صاحبي فيمَان )
( رفيقان ضَمّ السَّفْرُ بيني وبينه ... وقد يَلْتَقِي الشتَّى فيأتلفان )
ثم عاد إلى الرجل فغنى صوتا فشبه فيه والشعر لعمر بن أبي ربيعة وهو قوله
( أَمسى بأسماء هذا القلبُ معمودَا ... إذا أقول صحا يعتاده عِيدَا )
( كأنّ أحورَ من غِزْلان ذي بَقَر ... أَعارها شَبَهَ العينين والجيدا )
( بمُشْرِقٍ كشُعاع الشمس بهجتُه ... ومُسْبَكِرٍّ على لَبّاتها سودا )
ثم عاد إلى الجارية فتغنت بصوت لحكم الوادي
( تُعيِّرنا أنّا قليلٌ عَدِيدُنا ... فقلتُ لها إن الكرم قليلُ )
( وما ضَرّنا أنّا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجارُ الأكثرين ذليل )
( وإنّا لقومٌ ما نرى القتلَ سُبَّةً ... إذا ما رأته عامرٌ وسَلول )
( يُقرّب حبُّ الموت آجالَنا لنا ... وتَكرهه آجالُهم فتطول )
وتغنت الثانية
( وَدِدْتُكِ لما كان ودُكُّ خالصاً ... وأعرضتُ لما صِرْتِ نهباً مُقَسَّمَا )
( ولا يَلبث الحوضُ الجديدُ بناؤُه ... إذا كَثُر الوُرّاد أن يَتهدّما )
وتغنت الثالثة بشعر الخنساء
( وما كَرّ إلا كان أوّلَ طاعنٍ ... ولا أبصرتْه الخيلُ إلا اقشعرّتِ )
( فيُدرك ثأراً وهو لم يُخْطِه الغنى ... فمثلُ أخي يوماً به العين قَرّت )
( فلستُ أُرَزَّا بعده برزيّة ... فأذكرَه إلا سَلَتْ وتجلّت )
وغنى الرجل في الدور الثالث
( لَحَى الله صُعلوكاً مُناه وهمّه ... من الدهر أن يلقى لَبُوساً ومطعماَ )
( ينام الضحى حتى إذا ليلُه انتهى ... تنبه مثلوج الفؤاد مُورّما )
( ولكنّ صعلوكا يساور همّه ... ويمضي على الهيجاء ليثا مقدّما )
( فذلك إن يلْق الكريهة يلْقها ... كريما وإن يستغن يوما فربّما )
قال وتغنت الجارية
( إذا كنت ربّا للقلوص فلا يكن ... رفيقُك يمشي خلفها غير راكب )
( أنِخْها فأردفه فإن حملتكما ... فذاك وإن كان العِقابُ فعاقِب )
قال وتغنت الجارية بشعر عمرو بن معد يكرب
( ألم تر لمّا ضمّني البلدُ القفْرُ ... سمعتُ نداء يصدع القلب يا عمرو )
( اغِثْنا فإنا عُصْبة مذْحِجيّة ... نُزار على وفْر وليس لنا وفْر )
قال وتغنت الثالثة بشعر عمر بن أبي ربيعة
( فلما تواقفْنا وسلّمتُ اسْفرتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنُ أن تنقنعا )
( تبالهْن بالعرفان لمّا عرفْنني ... وقُلْن امرؤٌ باغ اكلّ وأوْضعا )
( ولما تنازعن الأحاديث قُلْن لي ... أخِفْت علينا أن نُغرّ ونُخدّعا )
قال وتوقعت مجيء الخادم إلي فقلت للرجل بأبي أنت خذ العود فشد وتر كذا وارفع الطبقة وحط دستان كذ ففعل ما أمرته
وخرج الخادم فقال لي تغن عافاك الله فتغنيت بصوت الرجل الأول على غير ما غناه فإذا جماعة من الخدم يحضرون حتى استندوا إلى الأسرة وقالوا ويحك لمن هذا الغناء قلت لي فانصرفوا عني بتلك السرعة وخرج إلي الخادم وقال كذبت هذا الغناء لإبن جامع
ودار الدور فلما انتهى الغناء إلي قلت للجارية التي تلي الرجل خذي العود فعلمت ما أريد فسوت العود على غنائها للصوت الثاني فتغنيت به
فخرجت إلي الجماعة الأولى من الخدم فقالوا ويحك لمن هذا قلت لي فرجعوا وخرج الخادم فتغنيت بصوت لي فلا يعرف إلا بي وسقوني فتزيدت وهو
( عُوجي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... فيمَ الصدود وأنتُم سَفْرُ )
( ما نلتقي إلا ثلاثَ مِنىً ... حتى يُفرّق بيننا الدهر )
قال فتزلزلت والله الدار عليهم وخرج الخادم فقال ويحك لمن هذا الغناء قلت لي فرجع ثم خرج فقال كذبت هذا غناء ابن جامع فقلت فأنا إسماعيل بن جامع
فما شعرت إلا وأمير المؤمنين وجعفر بن يحيى قد أقبلا من وراء الستر الذي كان يخرج منه الخادم
فقال لي الفضل بن الربيع هذا أمير المؤمنين قد أقبل إليك فلما صعد السرير وثبت قائما فقال لي أبن جامع قلت ابن جامع جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين قال ويحك متى كنت في هذه البلدة قلت آنفا دخلتها في الوقت الذي علم بي أمير المؤمنين
قال اجلس ويحك يابن جامع ومضى هو وجعفر فجلسا في بعض تلك المجالس وقال لي أبشر وابسط أملك فدعوت له ثم قال غنني يابن جامع
فخطر بقلبي صوت الجارية الحميراء فأمرت الرجل بإصلاح العود على ما أردت من الطبقة فعرف ما أردت فوزن العود وزنا وتعاهده حتى استقامت الأوتار وأخذت الدساتين مواضعها وانبعثت أغني بصوت الجارية الحميراء فنظر الرشيد إلى جعفر وقال
أسمعت كذا قط فقال لا والله ما خرق مسامعي قط مثله
فرفع الرشيد رأسه إلى خادم بالقرب منه فدعا بكيس فيه ألف دينار فجاء به فرمى به إلي فصيرته تحت فخذي ودعوت لأمير المؤمنين فقال يابن جامع رد على أمير المؤمنين هذا الصوت فرددته وتزيدت فيه
فقال له جعفر يا سيدي أما تراه كيف يتزيد في الغناء هذا خلاف ما سمعناه أولا وإن كان الأمر في اللحن واحدا
قال فرفع الرشيد رأسه إلى ذلك الخادم فدعا بكيس آخر فيه ألف دينار فجاءني به فصيرته تحت فخذي
وقال تغن يا إسماعيل ما حضرك فجعلت أقصد الصوت بعد الصوت مما كان يبلغني أنه يشتري عليه الجواري فأغنيه فلم أزل أفعل ذلك إلى أن عسعس الليل فقال أتعبناك يا إسماعيل هذه الليلة بغنائك فاعد على أمير المؤمنين الصوت يعني صوت الجارية فتغنيت
فدعا الخادم وأمره فأحضر كيسا ثالثا فيه ألف دينار قال فذكرت ما كانت الجارية قالت لي فتبسمت ولحظني فقال يابن الفاعلة مم تبسمت فجثوت على ركبتي وقلت يا أمير المؤمنين الصدق منجاة فقال لي بانتهار قل فقصصت عليه خبر الجارية
فلما استوعبه قال صدقت قد يكون هذا وقام ونزلت من السرير ولا أدري أين أقصد فابتدرني فراشان فصارا بي إلى دار قد أمر بها أمير المؤمنين ففرشت وأعد فيها جميع ما يكون في مثلها من ألة جلساء الملوك وندمائهم من الخدم ومن كل ألة وخول إلى جوار ووصفاء فدخلتها فقيرا وأصبحت من جلة أهلها ومياسيرهم
وذكر لي هذا الخبر عبد الله بن الربيع عن أبي حفص الشيباني عن محمد بن القاسم عن إسماعيل بن جامع قال ضمني الدهر بمكة ضما شديدا فانتقلت إلى المدينة فبينا أنا يوما جالس مع بعض أهلها نتحدث إذ قال لي رجل حضرنا والله لقد بلغنا يابن جامع أن
الخليفة قد ذكرك وأنت في هذا البلد ضائع فقلت والله ما بي نهوض
قال بعضهم فنحن ننهضك فاحتلت في شيء وشخصت إلى العراق فقدمت بغداد ونزلت عن بغل كنت أكتريته
ثم ذكر باقي الحديث نحو الذي قبله في المعاني ولم يذكر خبر السوداء التي أخذ الصوت عنها
وأحسبه غلط في إدخاله هذه الحكاية ها هنا ولتلك خبر آخر نذكره ها هنا
قال في هذا الخبر إن الدور دار مرة أخرى حتى صار إلي فخرج الخادم فقال غن أيها الرجل فقلت ما أنتظر الآن ثم اندفعت أغني بصوت لي وهو
( فلو كان لي قلبان عِشْتُ بواحد ... وخَلّفْتُ قلباً في هواكِ يُعذَّبُ )
( ولكنما أحيا بقلب مُروَّع ... فلا العيشُ يصفوا لي ولا الموتُ يقرُب )
( تعلّمت أسبابَ الرضا خوفَ سُخْطها ... وعلمها حبّي لها كيف تغضب )
( ولي ألف وجهٍ قد عرفتُ مكانه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب )
فخرج الرشيد حينئذ
نسبة ما في هذه الأصوات من الأغاني
صوت ( شكونا إلى أحبابنا طولَ ليلنا ... فقالوا لنا ما أقصر الليلَ عندنا )
( وذاك لأنّ النومَ يَغْشى عيونَهم ... سِراعاً وما يغشى لنا النومُ أعينَا )
( إذا ما دنا الليلُ المضرّ بذي الهوى ... جَزِعْنا وهم يستبشرون إذا دنا )
( فلو أنهم كانوا يُلاقون مثلَ ما ... نُلاقي لكانوا في المضاجع مثلَنا )
عروضه من الطويل وذكر الهشامي أن الغناء لإبن جامع هزج بالوسطى وفي
الخبر أنه أخذه عن سوداء لقيها بمكة ومنها
صوت ( يا دار أضحت خلاءً لا أنيسَ بها ... إلا الظباءُ وإلا النّاشط الفَرِدُ )
( أين الذين إذا مازرتُهم جذِلوا ... وطار عن قلبي التشواق والكمد )
في هذا الصوت لحن لإبن سريج خفيف ثقيل أول بالوسطى من رواية حبش ولحن ابن جامع رمل ومنها
صوت
( لم تَمْشِ مِيلاً ولم تركب على جمَل ... ولم تَرَ الشمسَ إلا دونها الكِلَلُ )
( أقول للركب في دُرْنا وقد ثَمِلوا ... شِيموا وكيف يَشيم الشارب الثَّمِل )
الشعر للأعشى والغناء لإبن سريج رمل بالبنصر وقد كتب فيما يغني فيه من قصيدة الأعشى التي أولها
( وَدِّعْ هْرَيْرَة إن الركبَ مُرْتحلُ ... )
ومنها
صوت
( مَرَرْنا على قَيْسيّةٍ عامريّةٍ ... لها بَشَرٌ صافي الأديم هِجانِ )
( فقالت وألقت جانبَ السترِ دونها ... مِنَ آيّة أرض أو مَنِ الرجلان )
( فقلت لها أمّا تميمٌ فأسرتي ... هُديتِ وأمّا صاحبي فيماني )
( رفيقان ضمّ السَّفْرُ بيني وبينه ... وقد يَلْتقي الشتّى فيأتلفان )
غناه ابن سريج خفيف رمل بالبنصر ومنها
صوت ( أمسى بأسماءَ هذا القلبُ معمودَا ... إذا أقول صحا يعتاده عِيدَا )
( أَجْرِي على موعد منها فتُخلفني ... فما أَمَلّ ولا تُوفي المواعيدا )
( كأنني حين أُمْسِي لا تكلّمني ... ذو بِغيْة يَبتغي ما ليس موجودا )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض خفيف ثقيل أول بالوسطى وله فيه ثقيل أول بالبنصر وذكر عمرو بن بانة أن لمعبد فيه ثقيلا أول بالوسطى على مذهب إسحاق ومنها
صوت ( فوالله ما أدري أيغلِبني الهوى ... إذا جدّ وَشْكُ البين أم أنا غالبُهْ )
( فإِن أستطع أغلِبْ وإن يَغْلِبِ الهوى ... فمثلُ الذي لاقيتُ يُغْلَب صاحبه )
عروضه من الطويل الشعر لإبن ميادة والغناء للحجبي خفيف ثقيل بالبنصر من رواية حبش
ومنها
صوت
( تُعيِّرنا أنا قليلٌ عديدُنا ... فقلتُ لها إنّ الكرام قليلُ )
( وما ضَرّنا أنّا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجارُ الأكثرين ذليلُ )
( وإنّا لقومٌ ما نرى القتلَ سُبّةً ... إذا ما رأتْه عامرٌ وسَلُول )
( يقرِّب حبُّ الموت آجالنا لنا ... وتكرهه آجالُهم فتطول )
عروضه من مقبوض الطويل والشعر للسموءل بن عادياء اليهودي والغناء لحكم الوادي
ومنها
صوت ( وَدِدْتُكِ لمّا كان ودّكِ خالصا ... وأعرضتُ لما صار نَهْباً مقسَّمَا )
( ولن يلبَثَ الحوضُ الجديد بناؤه ... على كثرة الوّاربد أن يتهدّما )
عروضه من الطويل وفيه خفيف ثقيل قديم لأهل مكة وفيه لعريب ثقيل أول ومنها
صوت
( وما كَرّ إلاّ كان أوّلَ طاعن ... ولا أبصرتْه الخيلُ إلا اقشعرّتِ )
( فيُدرك ثأراً ثم لم يُخْطِه الغِنى ... فمثلُ أخي يوماً به العين قرّت )
( فإِن طلبوا وِتراً بَدَا بِتراتهم ... ويَصبر يحميهم إذا الخيل وَلّت )
عروضه من الطويل الشعر للخنساء والغناء لإبن سريج ثقيل أول بالبنصر وذكر علي بن يحيى أنه لمعبد في هذه الطريقة ومنها
صوت
( لحا الله صُعلوكاً مُناه وهَمُّه ... من الدهر أن يلقَى لَبوساً ومَطْعما )
( ينام الضحى حتى إذا ليلهُ انتهى ... تنبّه مثلوجَ الفؤاد مُوَرَّما )
( ولكن صعلوكاً يُساور هَمَّه ... ويَمضي على الهَيْجاء ليثاً مصمِّما )
( فذلك إن يلقَ الكريهةَ يلقَها ... كريماً وإن يَستغن يوماً فربَّما )
عروضه من الطويل الشعر يقال إنه لعروة بن الورد ويقال إنه لحاتم الطائي وهو الصحيح والغناء لطويس خفيف رمل بالبنصر ومنها
صوت ( إذا كنتَ ربّاً للقَلوص فلا يكن ... رفيقُك يَمْشي خلفَها غيرَ راكبِ )
( أنِخْها فأَردفه فإِنْ حملتْكما ... فذاك وإن كان العِقاب فعاقب )
عروضه من الطويل والشعر لحاتم طيء ومنها
صوت ( ألم تَرَ لمّا ضَمّني البلد القَفْرُ ... سمعتُ نداءً يصدع القلبَ يا عمروُ )
( أغِثنا فإِنا عُصْبة مَذْحِجيّة ... نُزار على وَفْر وليس لنا وَفْر )
عروضه من الطويل الشعر لعمرو بن معد يكرب والغناء لحنين رمل بالوسطى عن حبش ومنها
صوت
( فلما تواقفْنا وسلّمتُ أقبلتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنُ أن تتقنّعا )
( تَبالَهْنَ بالعِرفان لما رأيْنَني ... وقُلْنَ امرؤ باغٍ أَكَلّ وأَوْضعا )
( ولما تَنازعن الأحاديثَ قلن لي ... أخِفْتَ علينا أن نُغَرّ ونُخْدَعَا )
( وقرّبن أسبابَ الهوى لمتيَّم ... يَقيس ذراعاً كلما قِسْن إصبعا )
عروضه من الطويل الشعر لعمر بن أبي ربيعة والغناء لإبن سريج والغريض ومالك ومعبد وابن جامع في عدة ألحان قد كتبت مع الخبر في موضع غير هذا ومنها
صوت
( عُوجي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... فيم الصدودُ وأنتم سَفْرُ )
( ما نلتقِي إلا ثلاث مِنىً ... حتى يفرِّق بيننا النَّفْر )
( الحول ثم الحول يتبعه ... ما الدهر إلا الحول والشهر )
الشر للعرجي والغناء للأبجر ثقيل أول عن الهشامي ويقال إنه لإبن محرز ويقال بل لحنه فيه غير لحن الأبجر وفيه رمل يقال إنه لإبن جامع وهو القول الصحيح وذكر حبش أنه لإبن سريج وأن لحن ابن جامع خفيف رمل ومنها
صوت ( فلو كان لي قلبان عشتُ بواحد ... وخلّفتُ قلباً في هواك يعذَّبُ )
( ولكنما أَحيا بقلب مروّع ... فلا العيش يصفو لي ولا الموت يقرُب )
( تعلّمتُ أسباب الرِّضا خوفَ هجرها ... وعلّمها حبي لها كيف تعضب )
( ولي ألف وجه قد عرفت مكانَه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب )
عروضه من الطويل الشعر لعمرو الوراق والغناء لإبن جامع خفيف
رمل ويقال إنه لعبد الله بن العباس
وفيه لعريب ثقيل أول وفيه لرذاذ خفيف ثقيل وفيه هزج يقال إنه لعريب ويقال إنه لنمرة ويقال إنه لأبي فارة ويقال إنه لإبن جامع
حدثني مصعب الزبيري قال قدم علينا ابن جامع المدينة قدمة في أيام الرشيد فسمعته يوما يغني في بعض بساتين المدينة
( وماليَ لا أبكي وأندبُ ناقتي ... إذا صَدَر الرُّعيانُ وِردَ المناهلِ )
( وكنتُ إذا ما اشتدّ شوقي رَحَلْتُها ... فسارت بمحزون كثير البَلابل )
وكان رجلا صيتا فكاد صوته يذهب بي كل مذهب وما سمعت قبله ولا بعده مثله
نسبة هذا الصوت
صوت ( ومالي لا أبكي وأندبُ ناقتي ... إذا صَدَر الرُّعيانُ وِرْدَ المناهلِ )
( وكنت إذا ما اشتدّ شوقي رحلتها ... فسارتْ بمحزون كثير البلابل )
الغناء لإبن جامع خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن الهشامي وابن المكي
أخبرني وكيع قال حدثني هارون بن محمد الزيات قال حدثني حماد بن
إسحاق عن أبيه عن الفضل بن الربيع عن أبيه قال كنت في خمسين وصيفا أهدوا للمنصور ففرقنا في خدمته فصرت إلى ياسر صاحب وضوئه
فكنت أراه يفعل شيئا أعلم أنه خطأ يعطيه الإبريق في آخر المستراح ويقف مكانه لا يبرح
وقال لي يوما كن مكاني في آخر المستراح فكنت أعطيه الإبريق وأخرج مبادرا فإذا سمعت حركته بادرت إليه
فقال لي ما أخفك على قلبي يا غلام ويحك ثم دخل قصرا من تلك القصور فرأى حيطانه مملوءة من الشعر المكتوب عليها
فبينا هو يقرأ ما فيه إذا هو بكتاب مفرد فقرأه فإذا هو
( وماليَ لا أبكي وأندُب ناقتي ... إذا صدَر الرّعيانُ نحَو المنَاهِلِ )
( وكنتُ إذا ما اشتدّ شوقي رَحَلْتُها ... فسارتْ بمحزون طويل البلابل )
وتحته مكتوب آه آه فلم يدر ما هو وفطنت له فقلت يا أمير المؤمنين قد عرفت ما هو فقال قل فقلت قال الشعر ثم تأوه فقال آه آه فكتب تأوهه وتنفسه وتأسفه فقال مالك قاتلك الله قد أعتقتك ووليتك مكان ياسر
ذكر أخبار هذه الأصوات المتفرقة في الأخبار وإنما افردتها عنها لئلا تنقطع
خبر ( أمسىَ بأسماءَ هذا القلبُ مَعْمودَا ... )
أخبرني الحسين بن يحيى قال حماد قرأت على أبي وذكر جعفر بن سعيد عن عبد الرحمن بن سليمان المكي قال حدثني المخزومي يعني الحارث بن خالد قال بلغني أن الغريض خرج مع نسوة من أهل مكة من أهل الشرف ليلا إلى
بعض المتحدثات من نواحي مكة وكانت ليلة مقمرة فاشتقت إليهن وإلى مجالستهن وإلى حديثهن وخفت على نفسي لجناية كنت أطالب بها وكان عمر مهيبا معظما لا يقدم عليه سلطان ولا غيره وكان مني قريبا فأتيته فقلت له إن فلانة وفلانة وفلانة حتى سميتهن كلهن قد بعثنني وهن يقرأن عليك السلام وقلن تشوقن إليك في ليلتنا هذه لصوت أنشدناه فويسقك الغريض وكان الغريض يغني هذا الصوت فيجيده وكان ابن أبي ربيعة به معجبا وكان كثيرا ما يسأل الغريض أن يغنيه وهو قوله
( أَمْسى بأسماءَ هذا القلبُ مَعْمودَا ... إذا أقول صَحا يعتاده عِيدَا )
( كأنّ أحورَ من غِزّلان ذي نفر ... أَهْدي لها شَبَه العينين والجِيدا )
( قامت تراءَى وقد جدّ الرحيلُ بنا ... لتنكأَ القرح من قلب قد اصطيدا ) (
كأنني يومَ أمسي لا تكلّمني ... ذو بِغْية يبتغي ما ليس مَوْجودا )
( أجري على موعد منها فتُخلفني ... فما أَمَلُّ وما تُوفي المواعيدا )
( قد طال مَطْلي لوَ أنّ اليأسَ يَنْفعني ... أَوْ أن أُصادِفَ من تِلْقائها جُودا )
( فليس تَبْذُل لي عفواً وأُكرمُها ... من أن ترى عندنا في الحرص تشديدا )
فلما أخبرته الخبر قال لقد أزعجتني في وقت كانت الدعة أحب فيه إلي ولكن صوت الغريض وحديث النسوة ليس له مترك ولا عنه محيص
فدعا بثيابه فلبسها وقال امض فمضينا نمشي العجل حتى قربنا منهن فقال لي عمر خفض عليك مشيك ففعلت حتى وقفنا عليهن وهن في أطيب حديث وأحسن مجلس فسلمنا فتهيبننا وتخفرن منا
فقال الغريض لا عليكن هذا ابن أبي ربيعة والحارث بن خالد جاءا متشوقين إلى حديثكن وغنائي
فقالت فلانة
وعليك السلام يا بن أبي ربيعة والله ما تم مجلسنا إلا بك فجلسنا غير بعيد وأخذن عليهن جلابيهن وتقنعن بأخمرتهن وأقبلن علينا بوجوههن وقلن لعمر كيف أحسست بنا وقد أخفينا أمرنا فقال هذا الفاسق جاءني برسالتكن وكنت وقيذا من علة وجدتها فأسرعت الإجابة ورجوت منكن على ذلك حسن الإثابة
فرددن عليه قد وجب أجرك ولم يخب سعيك ووافق منا الحارث إرادة فحدثهن بما قلت له من قصة غناء الغريض فقال النسوة والله ما كان ذلك كذلك ولقد نبهتنا على
صوت حسن يا غريض هاته فاندفع الغريض يغني ويقول
( أمسى بأسْماء هذا القلبُ مَعْمودَا ... إذا أقولُ صَحا يَعْتاده عِيدَا )
حتى أتى على الشعر كله إلى آخره فكل استحسنه
وأقبل علي ابن أبي ربيعة فجزاني الخير وكذلك النسوة فلم نزل بأنعم ليلة وأطيبها حتى بدأ القمر يغيب فقمنا جيمعا وأخذ النسوة طريقا ونحن طريقا وأخذ الغريض معنا
وقال عمر في ذلك
صوت
( هل عند رَسْم برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياء تَنتظرُ )
( قد ذكَّرتْني الديارُ إذ دَرَستْ ... والشوقُ ممّا يَهِيجه الذِّكَر )
( مَمْشَى رسولٍ إليّ يُخْبرني ... عنهم عِشاءً ببعض ما ائتمروا )
( ومجلسَ النِّسوة الثلاث لدى الْخَيْمات ... حتى تَبلَّج السَّحَر )
( فيهنّ هِنْدٌ والهَمُّ ذكْرتُها ... تلك التي لا يُرى لها خَطَر )
( ثم انطلقنا وعندنا ولنا ... فيهنّ لو طال ليلُنا وطر )
( وقولَها للفتاة إذ أزِف البينُ ... أغادٍ أم رائحُ عُمَر )
( عَجْلانَ لم يَقْضِ بعضَ حاجته ... هلا تأنَّى يوماً فينتظرُ )
( اللهُ جارٌ له وإن نَزَحَتْ ... دارٌ به أو بدا له سفر )
غناه الغريض ثقيلا أول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر وفيه لإبن سريج رمل بالوسطى وفيه لعبد الرحيم الدفاف ثقيل أول بالبنصر في البيتين الأولين وبعدهما
( هل من رَسول إليّ يُخبرني ... بعد عشاءٍ ببعض ما ائتمروا )
( يومَ ظَلِلْنا وعندنا ولنا ... فيهنّ لو طال يومُنا وَطَرُ )
فلما كانت الليلة القابلة بعث إلي عمر فأتيته وإذا الغريض عنده فقال له عمر هات فاندفع يغني
( هل عند رَسْمٍ برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياءِ تنتظرُ )
( ومجلسَ النّسوة الثلاثِ لدى الْخيمات ... حتى تبلّج السحر )
فقلت في نفسي هذا والله صفة ما كنا فيه فسكت حتى فرغ الغريض من الشعر كله فقلت يا أبا الخطاب جعلت فداك هذا والله صفة ما كنا فيه البارحة مع النسوة فقال إن ذلك ليقال
وذكر أحمد بن الحارث عن المدائني عن علي بن مجاهد قال إن موسى بن مصعب كان على الموصل فاستعمل رجلا من أهل حران
على كورة باهذرا وهي أجل كور الموصل فابطأ عليه الخراج فكتب إليه
( هل عند رسمٍ برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياء تنتظرُ )
احمل ما عندك يا ماص بظر أمه وإلا فقد أمرت رسولي بشدك وثاقا ويأتي بك
فخرج الرجل وأخذ ما كان معه من الخراج فلحق بحران وكتب إليه يا عاض بظر أمه إلي تكتب بمثل هذا
( وإذا أهلُ بلدةٍ أنكروني ... عرفتْني الدَّوِّيّة المَلْساء )
فلما قرأ موسى كتابه ضحك وقال أحسن يعلم الله الجواب ولا والله لا أطلبه أبدا وفي غير هذه الرواية أنه كتب إليه في آخر رقعة
( إن الخليط الأُولى تهوىَ قد أئتمروا ... للبَيْن ثم أجَدّوا السيرَ فانشمروا )
يا بن الزانية والسلام ثم هرب فلم يطلبه
أخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد قال قال أبي غناني رجل من أهل المدينة لحن الغريض
( هل عند رَسْمٍ برامةٍ خبرُ ... أم لا فأيَّ الأشياء تنتظرُ )
فسألته أن يلقيه علي فقال لا إلا بألف درهم فلم أسمح له بذلك ومضى فلم ألقه
فوالله يا بني ما ندمت على شيء قط ندمي على ذلك ولوددت أني وجدته الآن فأخذته منه كما سمعته وأخذ مني ألف دينار مكان الألف درهم
خبر ( تُعيّرنا أنّا قليلُ عديدُنا ... )
الشعر لشريح بن السموءل بن عادياء ويقال إن للسموءل وكان من يهود يثرب وهو الذي يضرب به المثل في الوفاء فيقال أوفي في السموءل
وكان السبب في ذلك فيما ذكر ابن الكلبي وأبو عبيدة وحدثني به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا يحيى بن سعيد الأموي عن محمد بن السائب الكلبي قال
وفاء السموءل كان امرؤ القيس بن حجر أودع السموءل بن عادياء أدراعا فأتاه الحارث بن ظالم ويقال الحارث بن أبي شمر الغساني ليأخذها منه فتحصن منه السموءل فأخذ ابنا له غلاما وناداه إما أن تسلم الأدراع وإما أن قتلت ابنك فأبى السموءل أن يسلم الأدراع إليه فضرب الحارث وسط الغلام بالسيف فقطعه أثنين فقال السموءل
( وفَيْتُ بأَدْرُع الكْندِيّ إِنِّي ... إذا ما خان أقوامٌ وَفيْتُ )
( وأوصى عادِياً يوماً بألاّ ... تُهدِّمَ يا سموءلُ ما بنيتُ )
( بَنَى لي عادِياً حصناً حصيناً ... وماءً كلّما شئتُ استقيتُ )
وفي هذه القصيدة يقول
صوت ( أعاذِلتي أَلاَ لا تَعذُلِيني ... فكَمْ مِنْ أَمْر عاذلةٍ عَصَيْتُ )
( دَعيني وارْشُدِي إن كنتُ أَغْوَى ... ولا تَغْوَيْ زعمت كما غَويْتُ )
( أعاذَل قد طلبتِ اللّومَ حتى ... لَوَ أني مُنْتَهٍ لقد انتهيتُ )
( وصفراءِ المعاصم قد دَعَتني ... إلى وَصْلِ فقلتُ لها أَبَيْتُ )
( وزِقٍّ قد جَرَرْتُ إلى النَّدامَى ... وزقٍّ قد شربتُ وقد سقيتُ )
( وحتى لو يكون فتى أُناسٍ ... بكى من عذل عاذلة بكيتُ )
عروضه من الوافر والشعر للسموءل بن عادياء والغناء لإبن محرز في الأول والثاني والرابع والخامس خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى
وغنى فيها مالك خفيف ثقيل بالبنصر في الأول والثاني وغنى دحمان ايضا في الأول والثاني والرابع والخامس رملا بالوسطى
وغنى عبد الرحيم الدفاف في الأول والثاني رملا بالبنصر وفي هذه الأبيات لإبن سريج لحن في الرابع وما بعده ثم في سائر الأبيات لحن ذكره يونس ولم ينسبه ولإبراهيم الموصلي فيها لحن غير منسوب أيضا
حدثني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني سليمان بن ابي شيخ قال حدثنا يحيى بن سعيد الأموي قال حدثني محمد بن السائب الكلبي قال هجا الأعشى رجلا من كلب فقال
( بنو الشهرِ الحرامِ فلستَ منهم ... ولست من الكرام بني عُبَيْدِ )
( ولا من رهط جبّار بن قُرْط ... ولا من رهط حارثةَ بن زيد )
قال وهؤلاء كلهم من كلب فقال الكلبي أنا لا أبالك أشرف من هؤلاء قال فسبه الناس بعد بهجاء الأعشى وكان متغيظا عليه
فأغار الكلبي على قوم قد بات بهم الأعشى فأسر منهم نفرا وأسرا الأعشى وهو لا يعرفه فجاء حتى نزل بشريح بن السموءل بن عادياء الغساني صاحب تيماء بحصنه الذي يقال
له الأبلق فمر شريح بالأعشى فنادى به الأعشى بقوله
( شُرَيْحُ لا تَتْرُكَنِّي بعد ما عَلِقتْ ... حبالَك اليومَ بعد القِدّ أظفارِي )
( قد جُلْتُ ما بين بانِقيا إلى عَدَنٍ ... فطال في العُجْم تَرْدادي وتَسيْاري )
( فكان أكرمَهم عهداً وأوثقَهم ... عَقْدا أبوك بُعرف غير إنكار )
( كالغيث ما استمطروه جادَ وابلُهْ ... وفي الشدائد كالمستأسِد الضَّاري )
( كُنْ كالسموءل إذ طاف الهمامُ به ... في جَحْفَل كسواد الليل جَرَّار )
( إذ سامه خُطَّتَيْ خَسْفٍ فقال له ... قُلْ ما تشاء فإِنيّ سامعٌ حار )
( فقال غدْرٌ وثُكْلٌ أنت بينهما ... فأختَرْ وما فيهما حظٌّ لمختار )
( فشكَّ غيرَ طويلٍ ثم قال له ... أُقْتُل أسيرَك إني مانعٌ جاري )
( وسوف يُعْقِبُنيه إن ظفِرتَ به ... ربٌّ كريمٌ وبيضٌ ذاتُ أطهار )
( لاسِرُّهنّ لدينا ذاهبٌ هَدَراً ... وحافظات إذا استُوْدِعن أسراري )
( فاختار أدراعه كي لا يُسَبَّ بها ... ولم يكن وعدهُ فيها بَختَّار )
قال فجاء شريح إلى الكلبي فقال له هب لي هذا الأسير المضرور فقال هو لك فأطلقه وقال له أقم عندي حتى أكرمك وأحبوك فقال له الأعشى إن من تمام صنيعك إلي أن تعطيني ناقة ناجية وتخليني الساعة قال فأعطاه ناقة
فركبها ومضى من ساعته وبلغ الكلبي أن الذي وهب لشريح هو الأعشى فأرسل إلى شريح ابعث إلي بالأسير الذي وهبت لك حتى أحبوه وأعطيه فقال قد مضى فأرسل الكلبي في أثره فلم يلحقه
وأما خبر
( وما كرّ إلا كان أوّلَ طاعنٍ ... )
والشعر للخنساء فإنه خبر يطول لذكر ما فيه من الوقائع وهو يأتي فيما بعد هذا مفردا عن المائة الصوت المختارة في أخبار الخنساء
رجع الخبر إلى قصة ابن جامع وأما خبر الجارية التي أخذ عنها ابن جامع الصوت وما حكيناه من أنه وقع في حكاية محمد بن ضوين الصلصال فيها خطأ فأخبرنا بخبرها الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي محمد العامري قال حدثني عكاشة اليزيدي بجرجان قال حدثني إسماعيل بن جامع قال بينا أنا في غرفة لي باليمن وأنا مشرف على مشرعة إذ أقبلت أمة سوداء على ظهرها قربة فملأتها ووضعتها على المشرعة لتستريح وجلست فغنت
صوت ( فَرُدّي مُصابَ القلب أنتِ قَتَلتِه ... ولا تُبْعِدي فيما تجشّمتِ كُلْثُمَا )
ويروى ولا تتركيه هائم القلب مغرما
( إلى الله أشكو بخلّها وسماحتي ... لها عسلٌ منّي وتبذُل عَلْقَما )
( أبى اللهُ أن أُمسي ولا تذكُرينَني ... وعَيْناي من ذكراك قد ذَرَفَتْ دَمَا )
( أَبيتُ فما تَنفَكّ لي منكِ حاجةٌ ... رمي الله بالحبّ الذي كان أظْلَما )
غناه سياط ثقيل أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمر بن بانة قال ثم أخذت قربتها لتمضي
فاستفزني من شهوة الصوت ما لا قوام لي به فنزلت إليها فقلت لها أعيديه فقالت أنا عنك في شغل بخراجي قلت وكم هو قالت درهمان في كل يوم قلت فهذان درهمان ورديه علي حتى آخذه منك وأعطيتها درهمين فقالت أما الآن فنعم
فجلست فلم تبرح حتى أخذته منها وانصرفت فلهوت يومي به وأصحبت من غد لا أذكر منه حرفا فإذا أنا بالسوداء قد طلعت ففعلت كفعلها بالأمس
فلما وضعت القربة تغنت غيره فعدوت في أثرها وقلت يا جارية بحقي عليك ردي علي الصوت فقد ذهبت عني منه نغمة
فقالت لا والله ما مثلك تذهب عنه نغمة أنت تقيس أوله على آخره ولكنك قد أنسيته ولست أفعل إلا بدرهمين آخرين فدفعتهما إليها وأعادته علي حتى أخذته ثانية
ثم قالت إنك تستكثر فيه أربعة دراهم وكأني بك قد أصبت به أربعة آلاف دينار فكنت عند هارون يوما وهو على سريره فقال من غناني فأطربني فله ألف دينار وقدامه أكياس في كل كيس ألف دينار
فغنى القوم وغنيت فلم يطرب حتى دار الغناء إلي ثانية فغنيت صوت السوداء فرمى إلي بكيس فيه ألف دينار ثم قال أعده فغنيته فرمى إلي بثان ثم قال أعده فرمى إلي بثالث وأمسك
فضحكت فقال ما يضحكك فقلت لهذا الصوت حديث عجيب يا أمير المؤمنين فقال وما هو فحدثته به وقصصت عليه القصة فرمى إلي برابع وقال لا نكذب قولها
خبر ( عُوجِي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... )
الشعر للعرجي وقد ذكرنا نسبة الصوت
عمر بن عبد العزيز وأحد المخنثين أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الواقدي عن ابن أبي الزناد قال حدثني محمد بن إسحاق قال قيل لعمر بن عبد العزيز إن بالمدينة مخنثا قد أفسد نساءها
فكتب إلى عامله بالمدينة أن يحمله فأدخل عليه فإذا خضيب اللحية والأطراف معتجر بسبنية قد حمل دفا في خريطته
فلما وقف بين يدي عمر صعد بصره فيه وصوبه وقال سوأة لهذه الشيبة وهذه القامة أتحفظ القرآن قال لا والله يا أبانا قال قبحك الله وأشار إليه من حضره فقالوا اسكت فسكت فقال له عمر أتقرأ من المفصل شيئا قال وما المفصل قال ويلك أتقرأ من القرآن شيئا قل نعم أقرأ ( الحمدلله ) وأخطىء فيها في موضعين أو ثلاثة وأقرأ ( قل أعوذ برب الناس ) وأخطىء فيها وأقرأ ( قل هو الله أحد ) مثل الماء الجاري
قال ضعوه في الحبس ووكلوا به معلما يعلمه القرآن وما يجب عليه من حدود الطهارة والصلاة وأجروا عليه في كل يوم ثلاثة دراهم وعلى معلمه ثلاثة دراهم أخر ولا يخرج من الحبس حتى يحفظ القرآن أجمع
فكان كلما علم سورة نسي التي قبلها فبعث رسولا إلى عمر يا أمير المؤمنين وجه إلي من يحمل إليك ما أتعلمه أولا فأولا فإني لا أقدر على حمله جملة واحدة
فيئس عمر من فلاحه وقال ما أرى هذه الدراهم إلا ضائعة ولو أطعمناها جائعا أو أعطيناها محتاجا أو كسوناها عريانا لكان أصلح
ثم دعا به فلما وقف بين يديه قال له اقرأ ( قل يأيها الكافرون ) قال أسأل الله العافية أدخلت يدك في الجراب فأخرجت شر ما فيه وأصعبه فأمر
به فوجئت عنقه ونفاه فاندفع يغني وقد توجهوا به
( عُوجِي عليَّ فَسَلِّمي جَبْرُ ... فيم الوقوفُ وأنتُم سَفْرٌ )
( ما نَلْتقي إلا ثلاثَ منىً ... حتى يفرِّق بيننا النَّفْر )
فلما سمع الموكلون به حسن ترنمه خلوه وقالوا له اذهب حيث شئت مصاحبا بعد استماعهم منه طرائف غنائه سائر يومهم وليلتهم
أخبرني الحسين قال قال حماد قرأت على أبي عن المدائني قال أحج خالد بن عبد الله ابنه محمدا وأصحبه رزاما مولاه وأعطاه مالا وقال إذا دخلت المدينة فاصرفه فيما أحببت
فلما صرنا بالمدينة سأل محمد عن جارية حاذقة فقيل عند محمد بن عمران التيمي القاضي
فصلينا الظهر في المسجد ثم ملنا إليه فاستأذنا عليه فأذن لنا وقد انصرف من المسجد وهو قاعد على لبد ونعلاه في آخر اللبد فسلمنا عليه فرد ونسب محمدا فانتسب له فقال خيرا ثم قال هل من حاجة فلجلج فقال كأنك ذكرت فلانة يا جارية اخرجي فخرجت فإذا أحسن الناس ثم تغنت فإذا أحذق الناس فجعل الشيخ يذهب مع حركاتها ويجيء إلى أن غنت قوله
( عوجِي عليّ فسلِّمي جَبْرُ ... )
فلما بلغت
( حتى يفرِّق بيننا النَّفْر ... )
وثب الشيخ إلى نعله فعلقها في أذنه وجثا على ركبتيه وأخذ بطرف أذنه والنعل فيها
وجعل يقول أهدوني أنا بدنة أهدوني أنا بدنة
ثم أقبل عليهم فقال كم قيل لكم إنها تساوي قالوا ستمائة دينار قال هي وحق القبر خير من ستة آلاف دينار والله لا يملكها علي أحد أبدا فانصرفوا إذا شئتم
أخبرنا وسواسة بن الموصلي وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الموصلي قال حدثني حماد بن إسحاق قال وجدت في كتب أبي عن عثمان بن حفص الثقفي عن أبن عم لعمارة بن حمزة قال حدثني سليم الحساب عن داود المكي قال كنا في حلقة ابن جريج وهو يحدثنا وعنده ابن المبارك وجماعة من العراقيين إذ مر به ابن تيزن قال حماد ويقال ابن بيرن وقد ائتزر بمئزرة على صدره وهي إزرة الشطار عندنا
فدعاه ابن جريج فقال له إني مستعجل وقد وعدت أصحابا لي فلا أقدر أن أحتبس عنهم
فأقسم عليه حتى أتاه فجلس وقال له ما تريد قال أحب أن تسمعني قال أنا أجيئك إلى المنزل فلم تجلسني مع هؤلاء الثقلاء قال أسألك أن تفعل قال امرأته طالق إن غناك فوق ثلاثة أصوات
قال ويحك ما أعجلك باليمين قال أكره أن أحتبس عن أصحابي فالتفت ابن جريج إلى أصحابه فقال إعقلوا رحمكم الله ثم قال له
غنني الصوت الذي أخبرتني أن ابن سريج غناه في اليوم الثالث من أيام منى على جمرة العقبة فقطع الطريق على الذاهب والجائي حتى تكسرت المحامل فغناه
( عوجِي عليّ فسلِّمي جبرُ ... )
فقال ابن جريج أحسنت والله ثلاث مرات ويحك أعده قال أمن الثلاثة فإني قد حلفت قال أعده فأعاده فقال أحسنت أعده من الثلاثة فأعاده وقام فمضى
فقال ابن جريج لأصحابه لعلكم أنكرتم ما فعلت قالوا إنا لننكره بالعراق قال فما تقولون في الرجر يعني الحداء قالوا لا بأس به قال فما الفرق بينهما
أحسن الناس حلوقا في الغناء وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك عن أبي أيوب المديني قال ثلاثة من المغنين كانوا أحسن الناس حلوقا ابن تيزن وابن عائشة وابن أبي الكنات
صوت
من المائة المختارة ( سَقَاني فَروَّانِي كُمَيْتاً مُدامةً ... على ظمأٍ مني سَلامٌ بن مِشْكَمِ )
( تخيّرتُه أهلَ المدينة واحداً ... سِواهمْ فلم أُغْبَن ولم أَتَنَدّمِ )
عروضه من الطويل والشعر لأبي سفيان بن حرب والغناء لسليمان أخي بابويه الكوفي مولى الأشاعثة خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى
ذكر ابي سفيان وأخباره ونسبه هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وأم حرب بن أمية بنت أبي همهمة بن عبد العزى بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة وأم أبي سفيان صفية بنت حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة وهي عمة ميمونة أم المؤمنين وأم الفضل بنت الحارث بن حزن أم بني العباس بن عبد المطلب
وقد مضى ذكر أكثر أخبار ولد أمية والفرق بين الأعياص والعنابس منهم وجمل من أخبارهم في أول هذا الكتاب
وكان حرب بن أمية قائد بني أمية ومن مالأهم في يوم عكاظ ويقال إن سبب وفاته أن الجن قتلته وقتلت مرداس بن أبي عامر السلمي لإحراقهما شجر القرية وازدراعهما إياها
وهذا شيء قد ذكرته العرب في أشعارها وتواترت الروايات بذكره فذكرته والله أعلم
أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال
حدثني عمي مصعب وأخبرنا محمد بن الحسين بن دريد عن عمه عن العباس بن هشام عن أبيه وذكره أبو عبيدة وأبو عمرو الشيباني أن حرب بن أمية لما انصرف من حرب عكاظ هو وإخوته مر بالقريه وهي إذ ذاك غيضة شجر ملتف لا يرام
فقال له مرداس بن أبي عامر أما ترى هذا الموضع قال بلى قال نعم المزدرع هو فهل لك أن نكون شريكين فيه ونحرق هذه الغيضة ثم نزدرعه بعد ذلك قال نعم فأضرما النار في الغيضة
فلما استطارت وعلا لهبها سمع من الغيضة أنين وضجيج كثير ثم ظهرت منها حيات بيض تطير حتى قطعتها وخرجت منها
وقال مرداس بن أبي عامر في ذلك
( إني انتخبتُ لها حرباً وإخوتَه ... إنّي بحَبْلٍ وثيقٍ العَقْد دسّاسُ )
( إني أُقَوِّمُ قبل الأمر حُجَّتَه ... كيما يقالَ وليُّ الأمر مِرداسُ )
قال فسمعوا هاتفا يقول لما احترقت الغيضة
( ويلٌ لحربٍ فارساَ ... مُطاعِناً مُخَالِسَا )
( ويل لعمرو فارسا ... إذ لبسوا القَوَانِسا )
( لَنَقْتُلَن بقتله ... جَحاجحاً عنابِسا )
ولم يلبث حرب بن أمية ومرداس بن أبي عامر أن ماتا فأما مرداس فدفن بالقربة
ثم ادعاها بعد ذلك كليب بن أبي عهمة السلمي ثم الظفري فقال في ذلك عباس بن مرداس
( أكليبُ مالكَ كلَّ يوم ظالماً ... والظلمُ أنكدُ وجهُه ملعونٌ ... قد كان قومُك يحسبونك سيِّداً ... وإخال أنك سيّدٌ معيون )
المعيون الذي أصابته العين وقيل المعيون الحسن المنظر فيما تراه العين ولا عقل له
( فإذا رجَعتَ إلى نسائك فادَّهِنْ ... إن المُسالِمَ رأسُه مدهونُ )
( وافعل بقومك ما أراد بوائلٍ ... يومَ الغدير سميُّك المطعون )
( وإخال أنك سوف تلقى مثلَها ... في صَفْحَتَيْك سِنانُها المسنون )
( إن القُرَيّةَ قد تبيّن أمرُها ... إن كان ينفع عندك التَّبيين )
( حيث انطلقتَ تخطُّها لي ظالماً ... وأبو يزيدَ بجوِّها مدفون )
أبو يزيد مرداس بن أبي عامر
منزلته في قريش وكان أبو سفيان سيدا من سادات قريش في الجاهلية ورأسا من رؤوس الأحزاب وعلى رسول الله في حياته وكهفا للمنافقين في أيامه وأسلم يوم الفتح
وله في إسلامه أخبار نذكرها هنا
وكان تاجرا يجهز التجار بماله وأموال قريش إلى أرض العجم وشهد مع رسول الله مشاهدة الفتح وفقئت عينه يوم الطائف فلم يزل أعور إلى يوم اليرموك ففقئت عينه الأخرى يومئذ فعمي
أخبرنا الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن صالح عن جدي عبد الله بن مصعب عن إسحاق بن يحيى المكي عن أبي الهيثم عمن أخبره أنه سمع أبا سفيان يمازح رسول الله في بيت بنته أم حبيبة ويقول والله إن هو إلا أن تركتك فتركتك العرب فما انتطحت جماء ولا ذات قرن ورسول
الله يضحك ويقول أنت تقول ذاك يا أبا حنظلة
قال الزبير وحدثني عمي مصعب أن رسول الله تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان وأبو سفيان يومئذ مشرك يحارب رسول الله وقيل له إن محمدا قد نكح ابنتك فقال ذلك الفحل لا يقدع أنفه واسم أم حبيبة رملة وقيل هند والصحيح رملة
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخزاز قال حدثنا المدائني عن مسلمة بن محارب عن عثمان بن عبد الرحمن بن جوشن قال أذن رسول الله يوما للناس فأبطأ بإذن أبي سفيان فلما دخل قال يا رسول الله ما أذنت لي حتى كدت تأذن للحجارة فقال له يا أبا سفيان كل الصيد في جوف الفرا
حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا الخليل بن أسد النوشجاني قال حدثنا عطاء بن مصعب قال حدثني سفيان بن عيينة عن جعفر بن يحيى البرمكي قال أذن رسول الله للناس فكان آخر من دخل عليه أبا سفيان بن حرب فقال يارسول الله لقد أذنت للناس قبلي حتى ظننت أن حجارة الخندمة ليؤذن
لها قبلي فقال رسول الله أما والله إنك والناس لكما قال الأول كل الصيد في بطن الفرا أي كل شيء لهؤلاء من المنزلة فإن لك وحدك مثل ما لهم كلهم
عند هرقل حدثني عمر بن إسماعيل بن أبي غيلان الثقفي قال حدثنا داود بن عمرو الضبي قال حدثنا المثنى بن زرعة أبو راشد عن محمد بن إسحاق قال حدثني الزهري عن عبد الله بن عبد الله عن عتبة عن ابن عباس قال حدثني أبو سفيان بن حرب قال كنا قوما تجارا وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله قد حصرتنا حتى نهكت أموالنا
فلما كانت الهدنة هدنة الحديبية بيننا وبين رسول الله خرجت في نفر من قريش إلى الشأم وكان وجه متجرنا منه غزة فقدمناها حين ظهر هرقل على من كان بأرضه من الفرس فأخرجهم منها وانتزع منهم صليبه الأعظم وكانوا قد استلبوه إياه
فلما بلغه ذلك منهم وبلغه أن صليبه قد استنقذ منهم وكانت حمص منزله خرج منها يمشي على قدميه شكرا لله حين رد عليه ما رد ليصلي في بيت المقدس تبسط له البسط وتلقى عليها الرياحين
فلما انتهى إلى إيلياء فقضى فيها صلاته وكان معه بطارقته وأشراف الروم أصبح ذات غدوة مهموما يقلب طرفه إلى السماء
فقال له بطارقته والله لكأنك أصبحت الغداة مهموما فقال أجل رأيت البارحة أن ملك الختان ظاهر فقالوا أيها الملك ما نعمل أمة تختتن إلا اليهود وهم في سلطانك وتحت يدك فابعث إلى كل من
لك عليه سلطان في بلادك فمره فليضرب أعناق من تحت يدك منهم من يهود واسترح من هذا الهم فوالله إنهم لفي ذلك من رأيهم يدبرونه إذ أتاه رسول صاحب بصرى برجل من العرب يقوده وكانت الملوك تتهادى الأخبار بينهم فقال أيها الملك إن هذا رجل من العرب من أهل الشاء والإبل يحدث عن أمر حدث فاسأله فلما انتهى به إلى هرقل رسول صاحب بصرى قال هرقل لمن جاء به سله عن هذا الحديث الذي كان ببلده فسأله فقال خرج بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي وقد اتبعه ناس فصدقوه وخالفه آخرون وقد كانت بينهم ملاحم في مواطن كثيرة وتركتهم على ذلك
فلما أخبره الخبر قال جردوه فإذا هو مختون فقال هذا والله النبي الذي الذي رأيت لا ما تقولون أعطوه ثيابه وينطلق
ثم دعا صاحب شرطته فقال له اقلب الشأم ظهرا لبطن حتى تأتيني برجل من قولم هذا الرجل فإنا لبغزة إذ هجم علينا صاحب شرطته فقال أنتم من قوم الحجاز قلنا نعم قال انطلقوا إلى الملك فانطلقوا بنا فلما انتهينا إليه قال أنتم من رهط هذا الرجل الذي بالحجاز قلنا نعم قال فأيكم أمس به رحما قال قلت أنا قال أبو سفيان وايم الله ما رأيت رجلا أرى أنه أنكر من ذلك الأغلف يعني هرقل ثم قال أدنه فأقعدني بين يديه وأقعد أصحابي خلفي وقال إني سأسأله فإن كذب فردوا عليه
قال فوالله لقد علمت أن لو كذبت ما ردوا علي ولكني كنت أمرأ سيدا أتبرم عن الكذب وعرفت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوه علي ثم يحدثوا به عني فلم أكذبه قال أخبرني عن هذا الرجل الذي خرج بين أظهركم
يدعي ما يدعي
فجعلت أزهد له شأنه وأصغر له أموره وأقول له أيها الملك ما يهمك من شأنه إن أمره دون ما بلغك فجعل لا يلتفت إلى ذلك مني ثم قال أنبئني فيما أسألك عنه من شأنه
قال قلت سل عما بدا لك قال كيف نسبه فيكم قلت محض هو أوسطنا نسبا قال أخبرن هل كان أحد من أهل بيته يقول ما يقول فهو يتشبه به قال قلت لا قال هل كان له فيكم ملك فسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث لتردوا عليه ملكه قال قلت لا قال أخبرني عن أتباعه منكم من هم قال قلت الضعفاء والمساكين والأحداث من الغلمان والنساء فأما ذوو الأسنان من الأشراف من قومه فلم يتبعه منهم أحد قال فأخبرني عمن يتبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه قال قلت قلما يتبعه أحد فيفارقه قال فأخبرني كيف الحرب بينكم وبينه قال قلت سجال يدال علينا وندال عليه قال فأخبرني هل يغدر فلم أجد شيئا سألني عنه أغتمز فيه غيرها قال قلت لا ونحن منه في مدة ولا نأمن غدره قال فوالله ما التفت إليها مني ثم كرر علي الحديث فقال سألتك عن نسبه فيكم فزعمت أنه محض من أوسطكم نسبا فكذلك يأخذ الله النبي لا يأخذه إلا من أوسط قومه نسبا وسألتك هل كان أحد من أهل بيته يقول مثل قوله فهو يتشبه به فزعمت أن لا وسألتك هل كان له ملك فيكم فسلبتموه إياه فجاء بهذا الحديث يطلب ملكه فزعمت أن لا وسألتك عن أتباعه فزعمت أنهم الضعفاء والأحداث والمساكين والنساء وكذلك أتباع الأنبياء في كل زمان وسألتك عمن يتبعه أيحبه ويلزمه أم يقليه ويفارقه فزعمت أنه لا يتبعه أحد فيفارقه فكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلب رجل فتخرج منه وسألتك عن الحرب بينكم وبينه فزعمت أنها سجال تدالون عليه ويدال عليكم وكذلك حرب الأنبياء ولهم تكون العاقبة وسألتك هل يغدر فزعمت أن لا فلئن كنت صدقتني عنه فليغلبن علي ما تحت قدمي هاتين ولوددت أني عنده
فأغسل قدميه انطلق لشأنك
فقمت من عنده وأنا أضرب بإحدى يدي على الأخرى وأقول يالعباد الله لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أصبحت ملوك بني الأصفر يهابونه في ملكهم وسلطانهم
كتاب النبي إلى هرقل قال ابن إسحاق فقدم عليه كتاب رسول الله مع دحية ابن خليفة الكلبي فيه ( بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم السلام على من اتبع الهدى أما بعد فأسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين وإن تتول فإن إثم الأكابر عليك )
قال ابن شهاب فأخبرني أسقف النصارى في زمن عبد الملك زعم أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله وأمر هرقل وعقله قال فلما قدم عليه كتاب رسول الله من قبل دحية بن خليفة أخذه هرقل فجعله بين فخذيه وخاصرته ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ العبرانية ما تقرأونه فذكر له أمره ووصف له شأنه وأخبره بما جاء به منه
فكتب إليه صاحب رومية إنه النبي الذي كنا ننتظره لا شك فيه فاتبعه وصدقه قال فأمر هرقل ببطارقة الروم فجمعوا له في دسكرة
ملكه وأمر بها فأغلقت عليهم أبوابها ثم اطلع عليهم من علية وخافهم على نفسه فقال يا معشر الروم قد جمعتكم لخبر أتاني كتاب هذا الرجل يدعو إلى دينه فوالله إنه النبي الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا فهلم فلنبايعه ولنصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا
قال فنخرت الروم نخرة رجل واحد وابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا فوجدوها قد أغلقت دونهم فقال كروهم علي وخافهم على نفسه فكروهم عليه فقال يا معشر الروم إنما قلت لكم المقالة التي قلت لأنظر كيف صلابتكم في دينكم في هذا الأمر الذي قد حدث فقد رأيت منكم الذي أسر به فخروا سجدا وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم فانطلقوا
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن زكريا الغلابي قال حدثني أبو بكر الهذلي عن عكرمة عن ابن عباس قال قال لي العباس خرجت في تجارة إلى اليمن في ركب منهم أبو سفيان بن حرب فقدمت اليمن فكنت أصنع يوما طعاما وأنصرف بأبي سفيان وبالنفر ويصنع أبو سفيان يوما فيفعل مثل ذلك فقال لي في يومي الذي كنت أصنع فيه هل لك يا ابا الفضل أن تنصرف إلى بيتي وترسل إلي غدائك فقلت نعم فانصرفت أنا والنفر إلى بيته وأرسلت إلى الغداء
فلما تغدى القوم قاموا واحتبسني فقال لي هل علمت يا أبا الفضل أن ابن أخيك يزعم أنه رسول الله قلت وأي بني أخي قال أبو سفيان إياي تكتم واي بني أخيك ينبغي له أن يقول هذا إلا رجل واحد قلت وأيهم هو على ذلك قال محمد بن عبد الله قلت ما فعل قال بلى قد فعل ثم أخرج إلي كتابا من ابنه حنظلة بن أبي سفيان إني أخبرك أن محمدا قام بالأبطح
غدوة فقال أنا رسول الله أدعوكم إلى الله قال قلت يا أبا حنظلة لعله صادق قال مهلا يا أبا الفضل فوالله ما أحب أن تقول مثل هذا وإني لأخشى أن تكون على بصر من هذا الأمر وقال الحسن بن علي في روايته على بصيرة من هذا الحديث ثم قال يا بني عبد المطلب إنه والله ما برحت قريش تزعم أن لكم يمنة وشؤمة كل واحدة منهما عامة فنشدتك الله يا أبا الفضل هل سمعت ذلك قلت نعم قال فهذه والله إذا شؤمتكم قلت فلعلها يمنتنا
فما كان بعد ذلك إلا ليال حتى قدم عبد الله بن حذافة السهمي بالخبر وهو مؤمن ففشا ذلك في مجالس أهل اليمن يتحدث به فيها
وكان أبو سفيان يجلس إلى حبر من أحبار اليمن فقال له اليهودي ما هذا الخبر الذي بلغني قال هو ما سمعت قال أين فيكم عم هذا الرجل الذي قال ما قال قال أبو سفيان صدقوا وأنا عمه قال اليهودي أأخو أبيه قال نعم قال حدثني عنه قال لا تسألني فما كنت أحسب أن يدعي هذا الأمر أبدا وما أحب أن أعيبه وغيره خير منه قال اليهودي فليس به أذى ولا بأس على يهود وتوراة موسى منه
قال العباس فتأدى إلي الخبر فحميت وخرجت حتى أجلس إلى ذلك المجلس من غد وفيه أبو سفيان والحبر فقلت للحبر بلغني أنك سألت ابن عمي هذا عن رجل منا يزعم أنه رسول الله فأخبرك أنه عمه وليس بعمه ولكنه ابن عمه وأنا عمه أخو أبيه فقال أأخو أبيه قلت أخو أبيه فأقبل على أبي سفيان فقال أصدق قال نعم صدق قال فقلت سلني عنه فإن كذبت فليردد علي فأقبل علي فقال أنشدك الله هل فشت لإبن أخيك صبوة أو سفهة قال قلت لا وإله عبد المطلب ولا كذب ولا خان وإن كان اسمه عند قريش الأمين قال فهل كتب بيده قال عباس فظننت أنه
خير له أن يكتب بيده فأردت أن أقولها ثم ذكرت مكان أبي سفيان وأنه مكذبي وراد علي فقلت لا يكتب فذهب الحبر وترك رداءه وجعل يصيح ذبحت يهود قتلت يهود
قال العباس فلما رجعنا إلى منزلنا قال أبو سفيان يا أبا الفضل إن اليهودي لفزع من ابن أخيك قال قلت قد رأيت ما رأيت فهل لك يا أبا سفيان أن تؤمن به فإن إن حقا كنت قد سبقت وإن كان باطلا فمعك غيرك من أكفائك قال لا والله ما أومن به حتى أرى تطلع من كداء وهو جبل بمكة
قال قلت ما تقول قال كلمة والله جاءت على فمي ما ألقيت لها بالا إلا أني أعلم أن الله لا يترك خيلا تطلع من كداء قال العباس فلما فتح رسول الله مكة ونظرنا إلى الخيل قد طلعت من كداء قلت يا أبا سفيان أتذكر الكلمة قال لي والله إني لذاكرها فالحمد لله الذي هداني للإسلام
إسلامه في غزاة الفتح حدثنا محمد بن جرير الطبري قال حدثنا البغوي قال حدثنا الغلابي أبو كريب محمد بن العلاء قال حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق قال حدثني الحسين بن عبيد الله بن العباس عن عكرمة عن ابن عباس قال لما نزل رسول الله مر الظهران يعني في غزاة الفتح قال العباس بن عبد المطلب وقد خرج رسول الله من المدينة يا صباح قريش والله لئن
بغتها رسول الله إنها لهلاك قريش آخر الدهر
فجلس على بغلة رسول الله البيضاء وقال أخرج إلى الأراك لعلي أرى حطابا أو صاحب لبن أو داخلا يدخل مكة فيخبرهم بمكان رسول الله فيستأمنونه
فوالله إني لأطوف في الأراك ألتمس ما خرجت له إذ سمعت صوت أبي سفيان وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتجسسون الخبر عن رسول الله فسمعت أبا سفيان وهو يقول والله ما رأيت كالليلة قط نيرانا
فقال بديل بن ورقاء هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب فقال أبو سفيان خزاعة ألأم من ذلك وأذل فعرفت صوته فقلت أبا حنظلة فقال أبا الفضل قلت نعم فقال لبيك فداؤك أبي وأمي فما وراءك فقلت هذا رسول الله قد دلف إليكم بما لا قبل لكم به بعشرة آلاف من المسلمين قال فما تأمرني فقلت تركب عجز هذه البغلة فأستأمن لك رسول الله فوالله لئن ظفر بك ليضربن عنقك فردفني فخرجت به أركض بغلة رسول الله نحو رسول الله فكلما مررت بنار من نيران المسلمين فنظروا إلي قالوا عم رسول الله على بغلة رسول الله حتى مررنا بنار عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال أبو سفيان الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد ثم اشتد نحو النبي وركضت البغلة وقد أردفت أبا سفيان قال العباس حتى اقتحمت على باب القبة وسبقت عمر بما تسبق به الدابة البطيئة
الرجل البطيء فدخل عمر على رسول الله فقال يا رسول الله هذا أبو سفيان قد أمكن الله منه بغير عهد ولا عقد فدعني أضرب عنقه
قلت يا رسول الله إني قد أجرته ثم جلست إلى رسول الله وأخذت برأسه وقلت والله لا يناجيه اليوم أحد دوني فلما أكثر فيه عمر قلت مهلا يا عمر فوالله ما تصنع هذا إلا لأنه رجل من عبد مناف ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا قال مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم وذلك لأني أعلم أن إسلامك أحب إلى رسول الله من إسلام الخطاب لو أسلم فقال رسول الله ( اذهب فقد أمناه حتى تغدو به علي الغداة ) فرجع به إلى منزله فلما أصبح غدا به على رسول الله
فلما رآه قال ( ويحك أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله ) فقال بأبي أنت وأمي ما أوصلك وأحلمك وأكرمك والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئا فقال ( ويحك تشهد بشهادة الحق قبل والله أن تضرب عنقك ) قال فتشهد فقال رسول الله للعباس من حين تشهد أبو سفيان ( انصرف يا عباس فاحتبسه عند خطم الجبل بمضيق الوادي حتى يمر عليه جنود الله ) فقلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا يكون في قومه فقال ( نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن )
فخرجت به حتى أجلسته عند خطم الجبل بمضيق الوادي فمرت عليه القبائل فجعل يقول من هؤلاء فأقول سليم فيقول ما لي ولسليم ثم تمر به قبيلة فيقول من هؤلاء فأقول أسلم فيقول ما لي ولأسلم وتمر به جهينة فيقول من هؤلاء فأقول جهينة فيقول ما لي ولجهينة حتى مر رسول الله في الخضراء كتيبة رسول الله من المهاجرين والأنصار في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق فقال من هؤلاء يا أبا الفضل فقلت هذا رسول الله في المهاجرين والأنصار فقال يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيما فقلت ويحك إنها النبوة قال نعم إذا فقلت الحق الآن بقومك فحذرهم
فخرج سريعا حتى أتى مكة فصرخ في المسجد يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم بما لا قبل لكم به قالوا فمه قال من دخل داري فهو آمن فقالوا
ويحك ما تغني عنا دارك قال ومن دخل المسجد فهو آمن ومن أغلق عليه بابه فهو آمن
عدم إخلاصه الإسلام حدثنا محمد بن جرير وأحمد بن الجعد قالا حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن يحى بن عباد عن عبد الله بن الزبير قال لما كان يوم اليرموك خلفني أبي فأخذت فرسا له وخرجت فرأيت جماعة من الخلفاء فيهم أبو سفيان بن حرب فوقفت معه فكانت الروم إذا هزمت المسلمين قال أبو سفيان إيه بني الأصفر فإذا كشفهم المسلمون قال أبو سفيان
( وبَنُو الأصفر الكرامُ ملوكُ الرّوم ... لم يبق منهمُ مَذْكورُ )
فلما فتح الله على المسلمين حدثت أبي فقال قاتله الله يأبى إلا نفاقا أولسنا خيرا له من بني الأصفر ثم كان يأخذ بيدي فيطوف على أصحاب رسول الله يقول حدثهم فأحدثهم فيعجبون من نفاقه
حدثني أحمد بن الجعد قال حدثني ابن حميد قال حدثنا جرير عن عمرو بن ثابت عن الحسن قال دخل أبو سفيان على عثمان بعد أن كف بصره فقال هل علينا من عين فقال له عثمان لا فقال يا عثمان إن الأمر أمر عالمية والملك ملك جاهلية فاجعل أوتاد الأرض بني أمية
حدثني محمد بن حيان الباهلي قال حدثنا عمر بن علي الفلاس قال حدثنا سهل بن يوسف عن مالك بن مغول عن أشعث بن أبي الشعثاء عن ميسرة الهمداني عن أبي الأبجر الأكبر قال جاء أبو سفيان إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا أبا الحسن
ما بال هذا الأمر في أضعف قريش وأقلها فوالله لئن شئت لأملأنها عليهم خيلا ورجلا فقال له علي بن أبي طالب رضي الله عنه يا أبا سفيان طالما عاديت الله ورسوله فما ضرهم ذلك شيئا إنا وجدنا أبا بكر لها أهلا
أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال أنشدني ابن عائشة لأبي سفيان بن حرب لما ولي أبو بكر قال
( وأضحت قريش بعد عزّ ومَنْعةٍ ... خُضُوعاً لتَيْمٍ لا بضربِ القواضبِ )
( فيا لهف نفسي للذي ظَفِرتْ به ... وما زال منها فائزاً بالغرّائب )
وحدثني أحمد بن الجعد قال حدثني محمد بن حميد قال حدثنا جرير عن عمرو بن ثابت عن الحسن قال لما ولي عثمان الخلافة دخل عليه أبو سفيان فقال يا معشر بني أمية إن الخلافة صارت في تيم وعدي حتى طمعت فيها وقد صارت إليكم فتلقفوها بينكم تلقف الكرة فوالله ما من جنة ولا نار هذا أو نحوه فصاح به عثمان قم عني فعل الله بك وفعل
ولأبي سفيان أخبار من هذا الجنس ونحوه كثيرة يطول ذكرها وفيما ذكرت منها مقنع
والأبيات التي فيها الغناء يقولها في سلام بن مشكم اليهودي ويكنى أبا غنم وكان نزل عليه في غزوة السويق فقراه وأحسن ضيافته فقال أبو سفيان فيه
( سقاني فَرَوَّاني كُمَيْتاً مُدامةً ... على ظمَأٍ منّي سَلاَمُ بن مِشْكَمِ )
( تخيَّرتُه أهلَ المدينة واحداً ... سواهم فلم أُغْبَن ولم أتَنَدَّم )
( فلمّا تقضّى الليلُ قلتُ ولم أكن ... لأُفْرِحَه أبْشِرْ بعُرف ومَغْنَم )
( وإنّ أبا غُنْم يجود ودارُه ... بِيَثْرِبَ مأوى كلّ أبيضَ خِضْرمِ )
ذكر الخبر عن غزوة السويق ونزول أبي سفيان على سلام بن مشكم كانت هذه الغزاة بعد وقعة بدر وذلك أن أبا سفيان نذر ألا يمس رأسه ماء من جنابة ولا يشرب خمرا حتى يغزو رسول الله
فخرج في عدة من قومه ولم يصنع شيئا فعيرته قريش بذلك وقالوا إنما خرجتم تشربون السويق فسميت غزوة السويق
حدثنا محمد بن جرير قرأته عليه قال حدثنا محمد بن حميد قال حدثنا سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير ويزيد بن رومان عن عبيد الله بن كعب بن مالك وكان من أعلم الأنصار قال كان أبو سفيان حين رجع إلى مكة ورجع قبل قريش من بدر نذر ألا يمس ماء من جنابة حتى يغزو محمدا
فخرج في مائتي راكب من قريش ليبر يمينه فسلك النجدية حتى نزل بصدر قناة إلى جبل يقال له تيت من المدينة على بريد أو نحوه ثم خرج من الليل حتى أتى بني النضير تحت الليل فأتى حيي بن أخطب بيثرب فدق عليه بابه فأبى أن يفتح له وخافه وانصرف إلى سلام بن
مشكم وكان سيد بني النضير في زمانه ذلك وصاحب كنزهم فاستأذن عليه فأذن له فقراه وسقاه ونظر له خبر الناس
ثم خرج في عقب ليلته حتى جاء أصحابه فبعث رجالا من قريش إلى المدينة فأتوا ناحية منها يقال لها العريض فحرقوا في أصوار من نخل لها أتوا رجلا من الأنصار وحليفا له في حرث لهما فقتلوهما ثم انصرفوا راجعين
فنذر بهم الناس فخرج رسول الله في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكدر ثم انصرف راجعا وقد فاته أبو سفيان وأصحابه وقد رأوا من مزاود القوم ما قد طرحوه في الحرث يتخففون منه للنجاء
فقال المسلمون حين رجع بهم رسول الله أنطمع أن تكون غزوة قال نعم
وقد كان أبو سفيان قال وهو يتجهز خارجا من مكة إلى المدينة أبياتا من شعر يحرض فيها قريشا فقال
( كُرّوا على يَثْرِبٍ وجمعِهمُ ... فإِنّ ما جمَّعوا لكم نَفَلُ )
( إن يك يومُ القَلِيب كان لهم ... فإن ما بعده لكم دوَلُ )
( آليتُ لا أقرَبُ النساءَ ولا ... يَمسّ رأسي وجلديَ الغُسُل )
( حتى تُبِيدوا قبائلَ الأَوْسِ والخَزْرَجِ ... إن الفؤاد مُشْتعِلُ )
فأجابه كعب بن مالك
( يا لَهْفَ أمّ المسبِّحِينَ على ... جيش ابن حرب بالحَرّة الفَشِلِ )
( أتطرحون الرجال من سَنَم الظَّهر ... تَرَقَّى في قُنّة الجَبَل )
( جاؤوا بجَمْعٍ لو قِيس منزلُه ... ما كان إلا كمُعْرَس الدُّئِل )
( عارٍ من النصر والثراءِ ومِنْ ... نَجْدة أهل البَطْحاء والأَسَلِ )
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا سليمان بن سعد عن الواقدي أن غزوة السويق كانت في ذي القعدة من سنة ثنتين من الهجرة
حدثني عمي قال حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا ابن سعد عن الواقدي عن أبي الزناد عن عبد الله بن الحارث قال شرب حسان بن ثابت يوما مع سلام بن مشكم وكان له نديما معهم كعب بن أسد وعبد الله بن أبي وقيس بن الخطيم فأسرع الشراب فيهم
وكانوا في موادعة وقد وضعت الحرب أوزارها بينهم
فقال قيس بن الخطيم لحسان تعال أشاربك فتشاربا في إناء عظيم فأبقى حسان من الإناء شيئا فقال له قيس اشرب فقال حسان وعرف الشر في وجهه أو خيرا من ذلك أجعل لك الغلبة قال لا إلا أن تشربه فأبى حسان وقال له سلام بن مشكم يا أبا يزيد لا تكرهه على ما لا يشتهي إنما دعوته لإكرامه ولم تدعه لتستخف به وتسيء مجالسته فقال له قيس أفتدعوني أنت على أن تسيء مجالستي فقال له سلام ما في هذا سوء مجالسة وما حملت عليك إلا لأنك مني وأني حليفك وليست عليك غضاضة في هذا وهذا رجل من الخزرج قد أكرمته وأدخلته منزلي فيجب أن تكرم لي من أكرمته ولعمري إن في الصحو لما تكتفون به من حروبكم فافترقوا وآلى سلام بن مشكم على نفسه ألا يشرب سنة وقد بلغ هذا من نديمه وكان كريما
صوت
من المائة المختارة ( مَنْ مُبلغ عنّي أبا كاملِ ... أنِّي إذا ما غاب كالهامِل )
( قد زادني شوقاً إلى قربه ... مَعْ ما بدا من رأيه الفاضِل )
الشعر للوليد بن يزيد والغناء لأبي كامل ولحنه المختار من الثقيل الأول
بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر حبش أن لأبي كامل فيه أيضا لحنا من خفيف الثقيل الثاني بالوسطى
أخبار الوليد بن يزيد ونسبه هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي ابن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف ويكنى أبا العباس وأمّه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي وهي بنت أخي الحجّاج وفيه يقول أبو نخيلة
( بين أبي العاصِي وبين الحَجّاجْ ... يا لَكُمَا نُورَا سَراجٍ وَهَّاجْ )
( عليه بعد عَمِّه عُقِد التَّاجْ ... )
وأم يزيد بن عبد الملك عاتكةُ بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أُمية وأمها أم كلثوم بنت عبد الله بن عامر وأم عبد الله بن عامر أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم ولذلك قال الوليد بن يزيد
( نَبِيُّ الهُدَى خالي ومن يَكُ خالُه ... نبيَّ الهدى يَقْهَرْ به من يُفاخرُ )
وكان الوليد بن يزيد من فتيان بني أمية وظرفائهم وشعرائهم وأجوادهم ونسبائهم وكان فاسقا خليعاً متهما في دينه مرميا بالزندقة وشاع ذلك من أمره وظهر حتى أنكره الناس فقتل
وله أشعار كثيرة تدل على خبثه وكفره ومن الناس من ينفي ذلك عنه وينكره ويقول إنه نحله وأُلصق إليه والأغلب الأشهر غير ذلك
ضعف الوليد أمام مكر هشام أخبرني الحسن بن علي وأحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن إسحاق بن أيّوب القرشي وجُويرية بن أسماء وعامر بن الأسود والمِنهال بن عبد الملك وأبي عمرو بن المبارك وسُحيم بن حفص وغيرهم أن يزيد بن عبد الملك لما وجه الجيوش إلى يزيد بن المهلَّب وعقَد لمَسلمة بن عبد الملك على الجيش وبعث العباس بن الوليد بن عبد الملك وعقد له على أهل دمشق قال له العباس يا أمير المؤمنين إن
أهل العراق أهل غدر وإرجافٍ وقد وجهتنا محاربين والأحداث تحدث ولا آمن أن يرجف أهل العراق ويقولوا مات أمير المؤمنين ولم يعهد فيفت ذلك في أعضاد أهل الشام فلو عهدت عهدا لعبد العزيز بن الوليد قال غداً
وبلغ ذلك مسلمة بن عبد الملك فأتى يزيد فقال يا أمير المؤمنين أيما أحب إليك ولد عبد الملك أو ولد الوليد فقال بل ولد عبد الملك قال أفأخوك أحقّ بالخلافة أم ابن أخيك قال إذا لم تكن في ولدي فأخي أحق بها من ابن أخي
قال فابنك لم يبلغ فبايع لهشام ثم لابنك بعد هشام قال والوليد يومئذ ابن إحدى عشرة سنة قال غدا أبايع له
فلما أصبح فعل ذلك وبايع لهشام وأخذ العهد عليه ألا يخلع الوليد بعده ولا يغير عهده ولا يحتال عليه
فلما أدرك الوليد ندم أبوه فكان ينظر إليه ويقول الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك
وتوفي يزيد سنة خمس ومائة وابنه الوليد ابن خمس عشرة سنة
قالوا فلم يزل الوليد مكرما عند هشام رفيع المنزلة مدة ثم طمع في خلعه وعقد العهد بعده لابنه مسلمة بن هشام فجعل يذكر الوليد بن يزيد وتهتّكه وإدمانه على الشراب ويذكر ذلك في مجلسه ويقوم ويقعد به وولاه الحج ليظهر ذلك منه بالحرمين فيسقط فحج وظهر منه فعل كثير مذموم وتشاغل بالمغنين وبالشراب وأمر مولى له فحج بالناس
فلما حج طالبه هشام بأن يخلع نفسه فأبى ذلك فحرمه العطاء وحرم سائر مواليه وأسبابه وجفاه جفاء شديدا
فخرج متبديا وخرج معه عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدبه وكان يرمى بالزندقة
ودعا هشام الناس إلى خلعه والبيعة لمسلمة بن هشام وأمه أم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاصي
وكان مسلمة يكنى أبا شاكر كني بذلك لمولى كان لمروان يكنى أبا
شاكر كان ذا رأي وفضل وكانوا يعظمونه ويتبركون به فأجابه إلى خلع الوليد والبيعة لمسلمة بن هشام محمد وإبراهيم ابنا هشام بن إسماعيل المخزومي والوليد وعبد العزيز وخالد بن القعقاع بن خُويلد العبسي وغيرهم من خاصة هشام
وكتب إلى الوليد ما تدع شيئاً من المنكر إلا أتيته وارتكبته غير متحاشٍ ولا مستتر فليت شعري ما دينك أعلى الإسلام أنت أم لا فكتب إليه الوليد بن يزيد ويقال بل قال ذلك عبد الصمد بن عبد الأعلى ونحله إياه
صوت ( يا أيُّها السائلُ عن دِيننا ... نحن على دين أبي شاكرِ )
( نشرَبُها صِرْفاً وممزوجةً ... بالسُّخْنِ أحياناً وبالفاتِرِ )
غناه عمر الوادي رملا بالبنصر فغضب هشام على ابنه مسلمة وقال يعيرني بك الوليد وأنا أرشِّحك للخلافة فالزم الأدب وأحضر الصلوات
وولاه الموسم سنة سبع عشرة ومائة فأظهر النّسك وقسم بمكة والمدينة أموالا
فقال رجل من موالي أهل المدينة
( يا أيُّها السائلُ عن دِيننا ... نحن على دين أبي شاكرِ )
( الواهبِ البُزْلَ بأَرْسانها ... ليس بزنديقٍ ولا كافرِ )
قال المدائني وبلغ خالدا القسري ما عزم عليه هشام فقال أنا بريء من خليفة يُكنى أبا شاكر فبلغت هشاما عنه هذه فكان ذلك سبب إيقاعه به
الوليد العابث أخبرني محمد بن الحسن الكندي المؤدب قال حدثني أبي عن العباس ابن هشام قال دخل الوليد بن يزيد يوما مجلس هشام بن عبد الملك وقد كان في ذكره قبل أن يدخل فحمقه من حضر من بني أمية فلما جلس قال له العباس بن الوليد وعمر بن الوليد كيف حبك يا وليد للروميات فإن أباك كان بهن مشغوفا قال إني لأحبهن وكيف لا أحبهن ولن تزال الواحدة منهن قد جاءت بالهجين مثلك وكانت أم العباس رومية قال اسكت فليس الفحل يأتي عسبه بمثلي فقال له الوليد اسكت يابن البظراء قال
أتفخر علي بما قطع من بظر أمك
وأقبل هشام على الوليد فقال له ما شرابك قال شرابك يا أمير المؤمنين وقام مغضبا فخرج فقال هشام أهذا الذي تزعمون أنه أحمق ما هو أحمق ولكني لا أظنّه على الملة
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائني قال دخل الوليد بن يزيد مجلس هشام بن عبد الملك وفيه سعيد بن هشام بن عبد الملك وأبو الزبير مولى مروان وليس هشام حاضرا فجلس الوليد مجلس هشام ثم أقبل على سعيد بن هشام فقال له من أنت وهو به عارف قال سعيد ابن أمير المؤمنين قال مرحبا بك
ثم نظر إلى أبي الزبير فقال من أنت قال أبو الزبيرمولاك أيها الأمير قال أنسطاسُ أنت مرحبا بك
ثم قال لإبراهيم بن هشام من أنت قال إبراهيم بن هشام قال من إبراهيم بن هشام وهو يعرفه قال إبراهيم بن هشام بن إسماعيل قال من إسماعيل وهو يعرفه قال إسماعيل بن هشام بن الوليد بن المغيرة قال من الوليد بن المغيرة قال الذي لم يكن جدّك يرى أنه في شيء حتى زوّجه أبي وهو بعض ولد ابنته قال يابن اللخناء أتقول هذا
وائتخذا
وأقبل هشام فقيل لهما قد جاء أمير المؤمنين فجلسا وكفا ودخل هشام فما كاد الوليد يتنحّى له عن صدر مجلسه إلا أنه زحل له قليلا فجلس هشام وقال له كيف أنت يا وليد قال صالح قال ما فعلت بَرابطك قال معملة أو مستعملة
قال فما فعل ندماؤك قال صالحون ولعنهم الله إن كانوا شرا ممّن حضرك وقام فقال له هشام يابن اللخناء جؤوا عنقه فلم يفعلوا ودفعوه رويدا فقال الوليد
( أنا ابن أبي العاصِي وعثمانُ والدي ... ومروانُ جَدِّي ذو الفَعَال وعامرُ )
( أنا ابنُ عظيم القريتين وعِزُّها ... ثَقِيفٌ وفِهْرٌ والعُصَاةُ الأكابر )
( نَبِيُّ الهدى خالي ومن يَكُ خالُه ... نبيَّ الهُدَى يَقْهَر به من يُفاخرُ )
الوليد يرثي مسلمة بن عبد الملك أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال كان هشام بن عبد الملك يكثر تنقص الوليد بن يزيد فكان مسلمة يعاتب هشاما ويكفه فمات مسلمة فغم الوليد ورثاه فقال
صوت ( أتانا بَرِيدانِ من واسِطٍ ... يَخُبَّانِ بالكُتُب المُعْجَمَهْ )
( أقول وما البعدُ إلاّ الرَّدَى ... أمَسْلَمُ لا تَبْعَدَنْ مَسْلَمَهْ )
( فقد كنتَ نوراً لنا في البلاد ... تُضِيء فقد أصبحتْ مُظْلِمَهْ )
( كتَمْنا نَعِيَّك نَخْشَى اليقين ... فجَلَّى اليقينُ عن الجَمْجَمَهْ )
( وكم من يَتيم تلافيتَه ... بأرض العدوّ وكم أيِّمَهْ )
( وكنتَ إذا الحربُ دَرَّتْ دَماً ... نصَبْتَ لها رايةً مُعْلَمَهْ )
غنى في هذه الأبيات التي أولها
( أقول وما البعدُ إلا الرَّدَى ... )
يونس خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو
وذكر الهشاميّ أن فيه ثقيلا أول ينسب إلى أبي كامل وعمر الوادي
وذكر حبش أن ليونس فيه رملا بالبنصر
أخبرني الطوسي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني موسى بن زهير بن مضرس بن منظور بن زبان بن سيار عن أبيه قال رأيت هشام بن عبد الملك وأنا في عسكره يوم توفي مسلمة بن عبد الملك وهشام في شرطته إذ طلع الوليد بن يزيد على الناس وهو نشوان يجر مطرف خز عليه فوقف على هشام فقال يا أمير المؤمنين إن عقبى من بقي لحوق من مضى وقد أقفر بعد مسلمة الصيد لمن يرى واختل الثغر فوهى وعلى أثر من سلف يمضي من خلف فتزودوا فإن خير الزاد التقوى فأعرض عنه هشام ولم يرد جوابا ووجم الناس فما همس أحد بشيء قال فمضى الوليد وهو يقول
( أَهيْنَمَةٌ حديثُ القوم أم هُمْ ... سُكُوتٌ بعد ما مَتَع النهارُ )
( عريزٌ كان بينهمُ نبيًّا ... فقولُ القومِ وَحْيٌ لا يُحار )
( كأنّا بعد مَسْلَمَةَ المُرجَّى ... شُرُوبٌ طوَّحتْ بهمُ عُقَار )
( أوُ آلاَّفٌ هِجَانٌ في قيودٍ ... تَلفَّتُ كلّما حَنّتْ ظُؤارُ )
( فليتَك لم تَمُتْ وفَدَاك قومٌ ... تُرِيح غبيَّهم عنّا الدِّيَارُ )
( سقيمُ الصَّدْر أو شَكِسٌ نَكِيدٌ ... وآخرُ لا يَزُور ولا يُزارُ )
يعني بالسقيم الصدر يزيد بن الوليد ويعني بالشكس هشاما والذي لا يزور ولا يزار مروان بن محمد
قال الزبير وحدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال أراد هشام أن يخلع الوليد ويجعل العهد لولده فقال الوليد
( كفرتَ يداً من مُنْعِمٍ لو شكرتَها ... جَزَاك بها الرحمنُ ذو الفَضْل والمَنّ )
( رأيتك تَبْنِي جاهداً في قَطِيعتي ... ولو كنتَ ذا حَزْم لهدّمتَ ما تَبْني )
( أراك على الباقين تَجْنِي ضَغِينةً ... فياوَيْحَهم إن مُتَّ من شَرِّ ما تَجْنِي )
( كأنِّي بهم يوماً وأكثرُ قولِهم ... أيا ليتَ أنّا حين يا ليت لا تُغْني )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال عتب هشام على الوليد وخاصته
فخرج الوليد ومعه قوم من خاصته ومواليه فنزل بالأبرق بين أرض بلقين وفزارة على ماء يقال له الأغدف وخلّف بالرصافة كاتبه عياض بن مسلم مولى عبد الملك ليكاتبه بما يحدث وأخرج معه عبد الصمد بن عبد الأعلى
فشربوا يوما فقال له الوليد يا أبا وهب قل أبياتا تغني فيها فقال أبياتاً وأمر عمر الوادي فغنى فيها وهي
صوت
( ألَمْ تَرَ للنَّجْم إذ سَبَّعا ... يُبَادِر في بُرْجِه المَرْجِعَا )
( تحيَّر عن قَصْد مَجْراتِه ... إلى الغَوْرِ والتمس المَطْلَعَا )
( فقلتُ وأعجبني شأنُه ... وقد لاح إذ لاح لي مُطمِعا )
( لعلَّ الوليدَ دنا ملكُه ... فأمسى إليه قد اْستجمعَا )
( وكنّا نؤمِّل في مُلْكه ... كتأميل ذي الجَدْب أن يُمْرِعا )
( عَقَدْنا مُحكَماتِ الأمور ... طَوْعاً وكان لها مَوْضِعا )
فروي هذا الشعر وبلغ هشاما فقطع عن الوليد ما كان يجري عليه وعلى أصحابه وحرمهم وكتب إلى الوليد قد بلغني أنك اتخذت عبد الصمد خدنا ومحدثا ونديما وقد حقق ذلك ما بلغني عنك ولن أبرئك من سوء فأخرج عبد الصمد مذموما قال فأخرجه الوليد وقال
( لقد قذَفوا أبا وَهْبٍ بأمر ... كبيرٍ بل يزيد على الكبيرِ )
( وأشهَد أنهم كذَبوا عليه ... شهادَةَ عالمٍ بهمُ خبيرِ )
فكتب الوليد إلى هشام بأنه قد أخرج عبد الصمد واعتذر إليه من منادمته وسأله أن يأذن لابن سهيل في الخروج إليه وكان من خاصة الوليد فضرب هشام ابن سهيل ونفاه وسيره وكان ابن سهيل من أهل النباهة وقد ولي الولايات ولي دمشق مرارا وولي غيرها وأخذ عياض بن مسلم كاتب الوليد فضربه ضربا مبرحا وألبسه المسوح وقيده وحبسه فغم ذلك الوليد فقال من يثق بالناس ومن يصنع المعروف هذا الأحول المشؤوم قدمه أبي على ولده وأهل بيته وولاّه وهو يصنع بي ما ترون ولا يعلم أن لي في أحد
===============================================
ج14. كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني
حج أبو نواس وحسين بن الضحاك فجمعهما الموسم فتناشدا قصيدتيهما قول أبي نواس
( دَعْ عنك لومي فإنّ اللّوم إغراءُ ... ودَاوِني بالتي كانت هي الداء ) وقصيدة حسين
( بُدِّلتَ من نَفَحات الورد بالآء ... ) فتنازعها أيهما أشعر في قصيدته فقال أبو نواس هذا ابن مناذر حاضر الموسم وهو بيني وبينك فأنشده قصيدته حتى فرغ منها فقال ابن مناذر ما أحسب أن أحدا يجيء بمثل هذه وهم بتفضيله فقال له الحسين لا تعجل حتى تسمع فقال هات فأنشده قوله
( بُدِّلتَ من نَفَحات الورد بالآءِ ... ومن صَبُوحك دَرَّ الإِبل والشاء ) حتى انتهى إلى قوله
( فُضّتْ خواتمُها في نعت واصفها ... عن مثل رَقْراقةٍ في عين مَرْهاء ) فقال له ابن مناذر حسبك قد استغنيت عن أن تزيد شيئا والله لو لم تقل في دهرك كله غير هذا البيت لفضلتك به على سائر من وصف الخمر قم فأنت أشعر وقصيدتك أفضل فحكم له وقام أبو نواس منكسرا
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد قال حدثني كثير بن إسماعيل التحتكار قال
( لمّا قدم المعتصم بغداد سأل عن ندماء صالح بن الرشيد وهم أبو
الواسع وقنينة وحسين بن الضحاك وحاتم الريش وأنا فأُدخلنا عليه فلشؤمي وشقائي كتبت بين عيني سيدي هب لي شيئا فلما رآني قال ما هذا على جبينك فقال حمدون بن إسماعيل يا سيدي تطايب بأن كتب على جبينه سيدي هب لي شيئا فلم يستطب لي ذلك ولا استملحه ودعا بأصحابي من غد ولم يدع بي ففزعت إلى حسين بن الضحاك فقال لي إني لم أحلل من أنسه بعد بالمحل الموجب أن أشفع إليه فيك ولكني أقول لك بيتين من شعر وادفعهما إلى حمدون بن إسماعيل يوصلهما فإن ذلك أبلغ فقلت أفعل فقال حسين
( قُلْ لدينا أصبحتْ تلعب بي ... سلَّط الله عليك الآخرهْ )
( إن أكن أبردَ من قِنِّينةٍ ... ومن الرِّيش فأُمّي فاجرهْ ) قال فأخذتهما وعرفت حمدون أنهما لي وسألته إيصالهما ففعل فضحك المعتصم وأمر لي بألفي دينار واستحضرني وألحقني بأصحابي
أخبرني عمي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال قال لي أحمد بن حمدون كان محمد بن الحارث بن بسخنر لا يرى الصبوح ولا يؤثر على الغبوق شيئا ويحتج بأن من خدم الخلفاء كان اصطباحه استخفافا بالخدمة لأنه لا يأمن أن يدعى على غفلة والغبوق يؤمنه من ذلك وكان المعتصم يحب الصبوح فكان يلقب ابن بسخنر الغبوقي فإذا حضر مجلس
المعتصم مع المغنين منعه الصبوح وجمع له مثل ما يشرب نظراؤه فإذا كان الغبوق سقاه إياه جملة غيظا عليه فيضج من ذلك ويسأل أن يترك حتى يشرب مع الندماء إذا حضروا فيمنعه ذلك فقال فيه حسين بن الضحاك وفي حاتم الريش الضراط وكان من المضحكين
( حُبّ أبي جعفر للغَبُوق ... كقُبْحِك يا حاتمٌ مُقْبِلاَ )
( فلا ذاك يُعْذَر في فعله ... وحقُّك في الناس أن تُقتلا )
( وأشبه شيء بما اختاره ... ضُراطُك دونَ الخَلاَ في المَلاَ )
حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن علي بن حمزة قال مزح أبو أحمد بن الرشيد مع حسين بن الضحاك مزاحا أغضبه فجاوبه حسين جوابا غضب منه أبو أحمد أيضا فمضى إليه حسين من غد فاعتذر إليه وتنصل وحلف فأظهر له قبولا لعذره ورأى ثقلا في طرفه وانقباضا عما كان يعهده منه فقال في ذلك
( لا تَعْجِبَنّ لمَلّةٍ صرَفتْ ... وجهَ الأمير فإنه بشرُ )
( وإذا نبا بك في سَريرته ... عَقْدُ الضمير نبا بك البصرُ )
يحكي للنشار صحبته للأمين حدثني الصولي قال حدثني أبو محمد بن النشار قال كان أبي صديقا للحسين بن الضحاك وكان يعاشره فحملني معه يوما إليه وجعل أبي يحادثه إلى أن قال له يا أبا علي قد تأخرت أرزاقك وانقطعت موادك ونفقتك كثيرة فكيف يمشي أمرك فقال له بلى والله يا أخي ما قوام أمري إلا ببقايا هبات الأمين محمد بن زبيدة وذخائره وهبات جارية له لم يسمها أغنتني للأبد لشيء ظريف جرى على غير تعمد وذلك
أن الأمين دعاني يوما فقال لي يا حسين إن جليس الرجل عشيره وثقته وموضع سره وأمنه وإن جاريتي فلانة أحسن الناس وجها وغناء وهي مني بمحل نفسي وقد كدرت علي صفوها ونغصت علي النعمة فيها بعجبها بنفسها وتجنيها علي وإدلالها بما تعلم من حبي إياها وإني محضرها ومحضر صاحبة لها ليست منها في شيء لتغني معها فإذا غنت وأومأت لك إليها على أن أمرها أبين من أن يخفى عليك فلا تستحسن الغناء ولا تشرب عليه وإذا غنت الأخرى فاشرب واطرب واستحسن واشقق ثيابك وعلي مكان كل ثوب مائة ثوب فقلت السمع والطاعة فجلس في حجرة الخلوة وأحضرني وسقاني وخلع علي وغنت المحسنة وقد أخذ الشراب مني فما تمالكت أن استحسنت وطربت وشربت فأومأ إلي وقطب في وجهي ثم غنت الأخرى فجعلت أتكلف ما أقوله وأفعله
ثم غنت المحسنة ثانية فأتت بما لم أسمع مثله قط حسنا فما ملكت نفسي أن صحت وشربت وطربت وهو ينظر إلي ويعض شفتيه غيظا وقد زال عقلي فما أفكر فيه حتى فعلت ذلك مرارا وكلما ازداد شربي ذهب عقلي وزدت مما يكره فغضب فأمضني وأمر بجر رجلي من بين يديه وصرفي فجررت وصرفت فأمر بأن أحجب وجاءني الناس يتوجعون لي ويسألوني عن قصتي فأقول لهم حمل علي النبيذ فأسأت أدبي فقومني أمير المؤمنين بصرفي وعاقبني بمنعي من الوصول إليه ومضى لما أنا فيه شهر ثم جاءتني البشارة أنه قد رضي عني وأمر بإحضاري فحضرت وأنا خائف
فلما وصلت أعطاني الأمين يده فقبلتها وضحك إلي وقام وقال اتبعني ودخل إلى تلك الحجرة بعينها ولم يحضر غيري
وغنت المحسنة التي نالني من أجلها ما نالني فسكت فقال لي قل ما شئت ولا تخف فشربت واستحسنت ثم قال لي يا حسين لقد خار الله لك بخلافي وجرى القدر بما تحب فيه إن هذه الجارية عادت إلى الحال التي أُريد منها ورضيت كل أفعالها فأذكرتني بك وسألتني الرضا عنك والاختصاص لك وقد فعلت ووصلتك بعشرة آلاف دينار ووصلتك هي
بدون ذلك والله لو كنت فعلت ما قلت لك حتى تعود إلى مثل هذه الحال ثم تحقد ذلك عليك فتسألني ألا تصل إلي لأجبتها فدعوت له وشكرته وحمدت الله على توفيقه وزدت في الاستحسان والسرور إلى أن سكرت وانصرفت وقد حمل معي المال فما كان يمضي أسبوع إلا وصلاتها وألطافها تصل إلي من الجوهر والثياب والمال بغير علم الأمين وما جالسته مجلسا بعد ذلك إلا سألته أن يصلني فكل شيء أنفقته بعده إلى هذه الغاية فمن فضل مالها وما ذخرت من صلاتها قال ابن النشار فقال له أبي ما سمعت بأحسن من هذا الحديث ولا أعجب مما وفقه الله لك فيه
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال دخل حسين بن الضحاك على محمد الأمين بعقب وقعة أوقعها أهل بغداد بأصحاب طاهر فهزموهم وفضحوهم فهنأه بالظفر ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشده
( أمينَ الله ثِقْ بالليهِ ... تُعْطَ العزَّ والنُّصْرهْ )
( كلِ الأمرَ إلى الله ... كَلاَكَ الله ذو القُدْرهْ )
( لنا النصرُ بإذن ألله والكَرّةُ لا الفَرّه )
( وللمُرَّاق أعداءك ... يومُ السَّوْء والدَّبْره )
( وكأسٌ تُورِد الموت ... كريهٌ طعمُها مُرّه )
( سَقَوْنا وسَقيناهم ... فكانت بهمُ الحَرّه )
( كذاك الحربُ أحياناً ... علينا ولنا مَرّه ) فأمر له بعشرة آلاف درهم ولم يزل يتبسم وهو ينشده
الأمين يركب ظهره حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى أبو الحمار قال قال لي الحسين بن الضحاك شربنا يوما مع الأمين في بستان فسقانا على الريق وجد بنا في الشرب وتحرز من أن نذوق شيئا فاشتد الأمر علي وقمت لأبول فأعطيت خادما من الخدم ألف درهم على أن يجعل لي تحت شجرة أومأت إليها رقاقة فيها لحم فأخذ الألف وفعل ذلك ووثب محمد فقال من يكون منكم حماري فكل واحد منهم قال له أنا لأنه كان يركب الواحد منا عبثا ثم يصله ثم قال يا حسين أنت أضلع القوم فركبني وجعل يطوف وأنا أعدل به عن الشجرة وهو يمر بي إليها حتى صار تحتها فرأى الرقاقة فتطأطأ فأخذها فأكلها على ظهري وقال هذه جعلت لبعضكم ثم رجع إلى مجلسه وما وصلني بشيء فقلت لأصحابي أنا أشقى الناس ركب ظهري وذهب ألف درهم مني وفاتني ما يمسك رمقي ولم يصلني كعادتي ما أنا إلا كما قال الشاعر
( ومُطْعِم الصيدِ يومَ الصيد مَطْعَمَه ... أنَّى توجَّه والمحروم محروم )
حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي المبرد قال كان حسين بن الضحاك الأشقر وهو الخليع يهوى جارية لأُم
جعفر وكانت من أجمل الجواري وكان لها صدغان معقربان وكانت تخرج إليه إذا جاء فتقول له ما قلت فينا أنشدنا منه شيئا فيخرج إليها الصحيفة فتقول له اقرأ معي فيقرأ معها حتى تحفظه ثم تدخل وتأخذ الصحيفة فشكا ذلك إلى عاصم الغساني الذي كان يمدحه سلم الخاسر وكان مكينا عند أم جعفر وسأله أن يستوهبها له فاستوهبها فأبت عليه أم جعفر فوجه إلى الخليع بألف دينار وقال خذ هذا الألف فقد جهدت الجهد كله فيها فلم تمكني حيلة فقال الحسين في ذلك
( رَمَتْك غَدَاةَ السبت شمسٌ من الخُلْدِ ... بسهم الهوى عَمْداً وموتُك في العَمْدِ )
( مؤزَّرةُ السِّرْبال مهضومةُ الحَشَا ... غُلاَمِيّةُ التقطيع شاطرة القدّ )
( مُحَنَّأة الأطراف رُؤْدٌ شَبابُها ... مُعَقْرَبةُ الصُّدْغين كاذبة الوعدِ )
( أقول ونفسي بين شَوْقٍ وزَفْرةٍ ... وقد شخَصتْ عيني ودمعي على الخدّ )
( أجيزي على من قد تركتِ فؤادَه ... بلحظته بين التأسُّف والجهد )
( فقالت عذابٌ بالهوى مع قربكم ... وموتٌ إذا أقرحتُ قلبكَ بالبعد )
( لقد فَطَنت للجوْر فطنةَ عاصمٍ ... لصُنْع الأيادي الغُرّ في طلب الحمد )
( سأشكوكِ في الأشعار غيرَ مُقَصِّرٍ ... إلى عاصمٍ ذي المَكْرُمات وذي المجدِ )
( لعلّ فتى غَسّان يَجمع بيننا ... فيأمنَ قلبي منكُم رَوْعةَ الصَّدّ )
حدثني محمد بن خلف وكيع قال حدثني هارون بن مخارق قال أقطع المعتصم الناس الدور بسر من رأى وأعطاهم النفقات لبنائها ولم يقطع الحسين بن الضحاك شيئاً فدخل عليه فأنشده قوله
( يا أمينَ الله لا خِطَّةَ لي ... ولقد أفردتَ صَحْبي بِخطَطْ )
( أنا في دَهْيَاءَ من مُظْلِمةٍ ... تحمِل الشيخَ على كلّ غلَط )
( صعبة المَسْلَك يرتاع لها ... كلُّ من أَصْعَد فيها وهَبطْ )
( بَوِّني منك كما بَوَّأتَهم ... عَرْصةً تبسُط طَرْفي ما انبسط )
( أبتنِي فيها لنفسي موطِناً ... ولعَقْبِي فَرَطاً بعد فَرَطْ )
( لم يَزل منكَ قريباً مسكني ... فأعِدْ لي عادَة القربِ فقطْ )
( كلُّ من قرّبتَه مُغْتَبِطٌ ... ولمن أبعدتَ خِزْيٌ وسَخَط ) قال فأقطعه دارا وأعطاه ألف دينار لنفقته عليها
مع أبي العتاهية أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني عمي الفضل عن الحسين بن الضحاك قال كنت أمشي مع أبي العتاهية فمررت بمقبرة وفيها باكية تبكي بصوت شج على ابن لها فقال أبو العتاهية
( أَمَا تنفَكّ باكيةً بعين ... غَزِيرٌ دمعُها كَمِدٌ حشاها ) أجز يا حسين فقلت
( تُنادي حفرةً أعْيَتْ جوابا ... فقد وَلِهَتْ وصَمّ بها صَداها )
حدثني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال حدثني الحسين بن الضحاك قال
كنت عازما على أن أرثي الأمين بلساني كله وأشفي لوعتي فلقيني أبو العتاهية فقال لي يا حسين أنا إليك مائل ولك محب وقد علمت مكانك من الأمين وإنه لحقيق بأن ترثيه إلا أنك قد أطلقت لسانك من التلهف عليه والتوجع له بما صار هجاء لغيره وثلبا له وتحريضا عليه وهذا المأمون منصب إلى العراق قد أقبل عليك فأبق على نفسك يا ويحك أتجسر على أن تقول
( تركوا حريمَ أبيهمُ نَفَلاً ... والمُحْصَناتُ صوارخٌ هُتُفُ )
( هيهاتَ بعدَك أن يدومَ لهم ... عزٌّ وأن يبقى لهم شَرَفُ ) أكفف غرب لسانك واطو ما انتشر عنك وتلاف ما فرط منك فعلمت أنه قد نصحني فجزيته الخير وقطعت القول فنجوت برأيه وما كدت أن أنجو
حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو العيناء قال وقف علينا حسين بن الضحاك ومعنا فتى جالس من أولاد الموالي جميل الوجه فحادثنا طويلا وجعل يقبل على الفتى بحديثه والفتى معرض عنه حتى طال ذلك ثم أقبل عليه الحسين فقال
( تَتِيه علينا أن رُزِقْتَ ملاحةً ... فمَهْلاً علينا بعضَ تِيهك يا بدرُ )
( لقد طالما كنّا مِلاَحاً وربما ... صَدَدْنا وتِهْنا ثم غيّرنا الدهر ) وقام فانصرف
أخبرني الحسن بن القاسم الكوفي قال حدثني ابن عجلان قال غنى بعض المغنين في مجلس محمد المخلوع بشعر حسين بن الضحاك وهو
صوت ( ألستَ تَرى دِيمةً تَهْطِلُ ... وهذا صباحُك مُسْتقبَلُ )
( وهذي العُقَار وقد راعنا ... بطلعته الشادنُ الأكحلُ )
( فعادَ به وبنا سكرةٌ ... تُهَوِّن مكروهَ ما نسأل )
( فإني رأيتُ له نظرةً ... تخبِّرنا أنه يفعل )
قال فأمر بإحضار حسين فأُحضر وقد كان محمد شرب أرطالا فلما مثل بين يديه أمر فسقي ثلاثة أرطال فلم يستوفها الحسين حتى غلبه السكر وقذف فأمر بحمله إلى منزله فحمل فلما أفاق كتب إليه
( إذا كنتُ في عُصَبةٍ ... من المَعْشر الأخْيبِ )
( ولم يَكُ لي مُسْعِدٌ ... نديمٌ سوى جُعْدُب )
( فأَشْرَبُ من رَمْلةٍ ... وأسهرُ من قُطْرُب )
( ولمّا حباني الزمان ... من حيث لم أحسبِ )
( ونادمتُ بدرَ السماء ... في فَلَك الكوكبِ )
( أبتْ لي غُضُوضيَّتي ... ولؤمٌ من المَنْصِب )
( فأسكرني مسرعاً ... قويٌّ من المَشْرب )
( كذا النذلُ يَنْبو به ... منادمةُ المُنْجب ) قال فرده إلى منادمته وأحسن جائزته وصلته
أخبرني الكوكبي قال حدثني علي بن محمد بن نصر عن خالد بن حمدون أن الحسين بن الضحاك أنشده وقد عاتبه خادم من خدام أبي أحمد بن الرشيد كان حسين يتعشقه ولامه في أن قال فيه شعرا وغنى فيه عمرو ابن بانة فقال حسين فيه
صوت
( فَدّيتُ من قال لي على خَفَرِهُ ... وغَضَّ جفناً له على حَوَرِهْ )
( سمَّع بي شعرُك المليح فما ... ينفكّ شادٍ به على وَتَرِه )
( فقلتُ يا مستعيرَ سالفةِ الْخِشفِ ... وحسنِ الفتور من نَظَره )
( لا تُنِكرنّ الحنينَ من طرِبٍ ... عاود فيك الصِّبا على كِبَرِه ) وغنى فيه عمرو بن بانة هزجا مطلقا
شعره على قبر أبي نواس أخبرني الكوكبي قال حدثني أبو سهل بن نوبخت عن عمرو بن بانة قال لما مات أبو نواس كتب حسين بن الضحاك على قبره
( كابَرَنِيكَ الزمانُ يا حسنُ ... فخاب سَهْمي وأفلَح الزمنُ )
( ليتك إذ لم تكن بقيتَ لنا ... لم تَبْقَ روحٌ يَحُوطُها بدنُ )
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال كان في جوار الحسين بن الضحاك طبيب يدواي الجراحات يقال له نصير وكان مخنثا فإذا كانت وليمة دخل مع المخنثين وإذا لم تكن عالج الجراحات فقال فيه الحسين بن الضحاك
( نُصَيرُ ليس المُرْدُ من شأنه ... نصيرُ طَبٌّ بالنَّكارِيش )
( يقول للنِّكْرِيش في خَلوة ... مقالَ ذي لُطْف وتَجْميش )
( هل لك أن نلعبَ في فرشنا ... تقلُّبَ الطيرِ المَرَاعيِش ) يعني المبادلة فكان نصير بعد ذلك يصيح به الصبيان يا نصير نلعب تقلب الطير المراعيش فيشتمهم ويرميهم بالحجارة
حدثني جعفر قال حدثني علي بن يحيى عن حسين بن الضحاك قال أنشدت ابن مناذر قصيدتي التي أقول فيها
( لفقدك ريحانة العسكر ... ) وكانت من أول ما قلته من الشعر فأخذ رداءه ورمى به إلى السقف وتلقاه برجله وجعل يردد هذا البيت فقلنا لحسين أتراه فعل ذلك استحسانا لما قلت فقال لا فقلنا فإنما فعله طنزا بك فشتمه وشتمنا وكنا بعد ذلك نسأله إعادة هذا البيت فيرمي بالحجارة ويجدد شتم ابن مناذر بأقبح ما يقدر عليه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال مررت بباب حسين بن الضحاك وإذا أبو يزيد السلولي وأبو حزرة الغنوي وهما ينتظران المحاربي وقد استؤذن لهم على ابن الضحاك فقلت
لهما لم لا تدخلان فقال أبو يزيد ننتظر اللؤم أن يجتمع فليس في الدنيا أعجب مما اجتمع منا الغنوي والسلولي ينتظران المحاربي ليدخلوا على باهلي
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني حسين بن الضحاك قال كان الواثق يميل إلى الفتح بن خاقان ويأنس به وهو يومئذ غلام وكان الفتح ذكيا جيد الطبع والفطنة فقال له المعتصم يوما وقد دخل على أبيه خاقان عرطوج يا فتح أيما أحسن داري أو دار أبيك فقال له وهو غير متوقف وهو صبي له سبع سنين أو نحوها دار أبي إذا كنت فيها فعجب منه وتبناه وكان الواثق له بهذه المنزلة وزاد المتوكل عليهما فاعتل الفتح في أيام الواثق علة صعبة ثم أفاق وعوفي فعزم الواثق على الصبوح فقال لي يا حسين اكتب بأبيات عني إلى الفتح تدعوه إلى الصبوح فكتبت إليه
( لمّا اصطبحتُ وعينُ اللهو ترمُقُني ... قد لاح لي باكراً في ثوب بِذْلَته )
( ناديتُ فتحاً وبَشَّرتُ المدامَ به ... لمّا تخلّص من مكروه عِلَّته )
( ذبُّ الفتى عن حريم الراح مَكْرُمةٌ ... إذا رآه امرؤٌ ضَدًّا لِنحْلتَه )
( فاعْجَلْ إلينا وعَجِّل بالسرور لنا ... وخالِس الدهر في أوقات غَفْلتِه ) فلما قرأها الفتح صار إليه فاصطبح معه
أخبرني عمي قال حدثني يعقوب بن نعيم وعبد الله بن أبي سعد قالا حدثنا محمد بن محمد الأنباري قال حدثني حسين بن الضحاك قال كنت عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع وهو مصطبح وخادم له يسقيه فقال لي يا أبا علي قد استحسنت سقي هذا الخادم فإن حضرك شيء في قصتنا هذه فقل فقلت
( أحيَتْ صَبُوحي فكاهةُ اللاهي ... وطاب يومي بقرب أشباهي )
( فاستَثِر اللهوَ من مكامِنه ... من قبل يوم منغِّص ناهي )
( بابنةِ كَرْم من كفِّ مُنْتَطِقٍ ... مؤتَزِر بالمُجون تيّاه )
( يَسْقِيك من طَرْفه ومن يده ... سَقْيَ لطيفٍ مُجرِّب داهي )
( كأساً فكأساً كأن شاربَها ... حيرانُ بين الذَّكُور والساهي ) قال فاستحسنه عبد الله وغنى فيه لحنا مليحا وشربنا عليه بقية يومنا
أخباره مع يسر أخبرني علي بن العباس قال حدثني سوادة بن الفيض عن أبيه قال اتفق حسين بن الضحاك ويسر مرة عند بعض إخوانهما وشربا وذلك في العشر الأواخر من شعبان فقال حسين ليسر يا سيدي قد هجم الصوم علينا فتفضل بمجلس نجتمع فيه قبل هجومه فوعده بذلك فقال له قد سكرت وأخشى أن يبدو لك فحلف له يسر أنه يفي فلما كان من الغد كتب إليه حسين وسأله الوفاء فجحد الوعد وأنكره فكتب إليه يقول
( تجاسرتَ على الغدر ... كعاداتك في الهجر )
( فأخلفتَ وما استخلفتَ ... من إخوانك الزُّهْرِ )
( لئن خِسْتَ لَمَا ذلكَ ... من فعلك بالنُّكْر )
( وما أقنعني فعلُك ... يا مختلِقَ العذر )
( بنفسي أنت إن سُؤْتَ ... فلا بدّ من الصبر )
( وإن جرّعني الغيظَ ... وإن خَشّن بالصدر )
( ولولا فَرَقي منك ... لسمَّيتُك في الشعر )
( وعنّفتُك لا آلُو ... وإن جُزْتُ مدى العُذْر )
( أمّا تخرج من إخلاف ... ميعادك في العَشْر )
( غداً يفطِمنا الصومُ ... عن الرّاح إلى الفِطْر )
قال فسألت الحسين بن الضحاك عما أثر له هذا الشعر وما كان الجواب فقال كان أحسن جواب وأجمل فعل كان اجتماعنا قبل الصوم في بستان لمولاه وتممنا سرورنا وقضينا أوطارنا إلى الليل وقلت في ذلك
( سقى اللهُ بطنَ الدَّيْرِ من مستَوى السَّفْح ... إلى ملتقَى النَّهرين فالأَثْل فالطَّلْحِ )
( مَلاعِبُ قُدْن القلبَ قَسْراً إلى الهوى ... ويَسَّرْنَ ما أمّلتُ من دَرَك النُّجْح )
( أَتنْسَى فلا أنسَى عتابَك بينها ... حبيبَك حتى انقاد عفواً إلى الصلح )
( سمحتُ لمن أَهْوَى بصفو مودّتي ... ولكنّ من أهواه صِيغ على الشُّحّ ) قال علي بن العباس وأنشدني سوادة بن الفيض عن أبيه لحسين بن الضحاك يصف أياما مضت له بالبصرة ويومه بالقفص ومجيء يسر إليه
يسر سأله أن يقول في ذلك شعرا
( تَيَسَّرِي للِّمام من أَمَمِ ... ولا تُرَاعِي حمامةَ الحَرَم )
( قد غاب لا آب من يُراقبنا ... ونام لا قام سامرُ الخَدَم )
( فاستصحبي مُسْعِداً يفاوضُنا ... إذا خَلَوْنا في كلِّ مُكْتَتَم )
( تَبَذّلي بِدْلةً تَقَرُّ بها العينُ ... ولا تَحصَري وتحتشمي )
( ليت نجومَ السماء راكدةٌ ... على دُجَى ليلِنا فلم تَرِمِ )
( ما لسروري بالشكِّ ممتزجاً ... حتى كأنّي أراه في حُلُم )
( فَرِحْتُ حتى أستخفَّني فرحي ... وشُبْتُ عين اليقين بالتُهَمِ )
( أمسحٍ عيني مُسْتَثبِتاً نظري ... أخالُني نائماً ولم أنَم )
( سَقْياً لليلٍ أفنيتُ مدّتَه ... ببارد الرِّيق طيّبِ النّسمَ )
( أبيضَ مُرْتَجَّةٍ روادفُه ... ما عِيب من قَرْنِه إلى القدم )
( إذ قَصَباتُ العريش تجمعنا ... حتى تجلّت أواخرُ الظُّلَم )
( وليلةٍ بتُّها محسَّدَةٍ ... محفوفةٍ بالظنون والتُّهَم )
( أَبَثَّ عَبْراته على غَصَصٍ ... يَرُدّ أنفاسَه إلى الكَظَمِ )
( سَقْياً لقَيْطُونها ومُخدَعِها ... كم من لِمام به ومن لَمَمِ )
( لا أكفُر السَّيْلَحين أزمِنةً ... مطيعةً بالنَّعيم والنِّعم )
( وليلة القُفْص إن سألتَ بها ... كانت شفاءً لعلّة السَّقَم )
( بات أنيسي صريعَ خمرتِه ... وتلك إحدى مصارع الكرم )
( وبتّ عن مَوْعِدٍ سبَقتُ به ... ألثَمِ دُرًّا مُفَلَّجاً بفَمِ )
( وابأبي من بدا بَرْوعةِ لا ... وعاد من بعدها إلى نَعَمِ )
( أباحني نفسَه ووسَّدني ... يُمْنَى يديه وبات مُلْتَزِمي )
( حتى إذا اهتاجت النواقسُ في ... سُحْرِة أَحْوَى أحَمّ كالحُمَم )
( وقلتُ هُبَّا يا صاحبيَّ ونَبَّهتُ ... أبَاناً فهَبَّ كالزَّلمَ )
( فاستنّها كالشّهاب ضاحكةً ... عن بارقٍ في الإِناء مُبْتَسِمِ )
( صفراءَ زيْتيّةً موشَّحةً ... بأُرْجوانٍ مُلَمَّع ضَرِمِ )
( أخذتُ ريحانةً أَرَاحُ لها ... دبَّ سروري بها دبيبَ دَمِي )
( فراجِعِ العذرَ إن بدا لك في العُذر ... وإن عُدْتَ لائماً فَلُمِ )
أخبرني علي بن العباس قال حدثني سوادة بن الفيض المخزومي قال حدثني المعتمر بن الوليد المخزومي قال قال لي الحسين بن الضحاك وهو على شراب له ويحكم أُحدثكم عن يسر بأعجوبة قلنا هات قال بلغ مولاه أنه جرى له مع أخيه سبب فحجبه كما تحجب النساء وأمر بالحجر عليه وأمره ألا يخرج عن داره إلا ومعه حافظ له موكل به فقلت في ذلك
( ظنّ من لا كان ظنَّا ... بحبيبي فحمَاهُ )
( أرْصَد البابَ رقِيبين ... له فاكتَنَفاهُ )
( فإذا ما اشتاق قربي ... ولقائي مَنَعاه )
( جعل الله رقيبيه ... من السوء فِداه )
( والذي أقرح في الشادن ... قلبي ولَواه )
( كلُّ مشتاق إليه ... فمن السوء فِداه )
( سيما من حالت الأحراس ... من دون مناه )
أخبرني علي بن العبّاس قال حدّثنا أحمد بن العباس الكاتب قال حدثني عبدالله بن زكريّا الضَّرير قال :
قال أبو نواس قال لي حسين بن الضحّاك يوماً يا أبا عليّ أمَا ترى غضبَ يُسْرٍ عليّ فقلت له وما كان سبب ذلك قال حالٌ أردتُها منه فَمَنَعنِيها فغضبتُ فأسألك أن تُصلح بيني وبينه فقلت وما تحبّ أن أُبْلِغه عنك قال تقول له
( بحُرْمه السكر وما كانا ... عزمْتَ ان تقتل إنسانا )
( أخاف أن تهجُرني صاحياً ... بعد سروري بك سكرانا )
( إنّ بقلبي روعةً كلما ... أضمر لي قلبُك هِجرانا )
( يا ليت ظنّي أبداً كاذبٌ ... فإنه يصدُق أحيانا )
قال فقلت له وَيْحَك أتجتنبه وتريد أن تترضّاه وترسل إليه بمثل هذه الرسالة فقال لي أنا أعْرَف به وهو كثير التبذّل فأبلغه ما سألتك فأبلغته فرضي عنه وأصلحتُ بينهما
حدثني جعفر بن قُدامة قال حدّثني عليّ بن يحيى قال
جاءني يوماً حسين بن الضحّاك فقلت له أي شيء كان خبرُك أمسِ فقال لي اسمعه شعراً ولا أزيدك على ذلك وهو أحسن فقلت هات يا سيّدي فقال
( زائرةٌ زادت على غفلةٍ ... يا حبّذا الزَّورةُ والزائره )
( فلم أزلْ أخدَعُها ليلتي ... خديعةَ السّاحر للسّاحره )
( حتى إذا ما أذعَنَتْ بالرِّضا ... وأنعَمَتْ دارتْ بها الدائره )
( بتُّ إلى الصبح بها ساهراً ... وباتت الجوزاءُ بي ساهره )
( أفعل ما شئتُ بها ليلتي ... وملءُ عيني نعمةٌ ظاهره )
( فلم ننم إلاّ على تسعة ... من غُلْمة بي وبها ثائره )
( سَقْياً لها لا لأخي شِعْرةٍ ... شِعْرتُه كالشّعرة الوافِره )
( وبين رجليه له حَرْبةٌ ... مشهورةٌ في حَقْوه شاهره )
( وفي غَدٍ يتبعها لحيةٌ ... تُلحقه بالكَرَّة الخاسره ) قال فقلت له زنيت يعلم الله إن كنت صادقا فقال قل أنت ما شئت
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا أبو العيناء قال دخل حسين بن الضحاك على الواثق في خلافة المعتصم في يوم طيب فحثه على الصبوح فلم ينشط له فقال اسمع ما قلت قال هات فأنشده
( اِسْتثِر اللهوَ من مكامنه ... من قبل يوم منغِّصٍ ناهِي )
( بابنة كرْم من كفّ مُنْتطِقٍ ... مُؤْتَزِرٍ بالمُجون تيّاه )
( يَسقيك من لحظه ومن يده ... سقيَ لطيفٍ مجرِّب داهِي )
( كأساً فكأساً كأنّ شاربها ... حيرانُ بين الذَّكور والسّاهي ) قال فنشط الواثق وقال إن فرصة العيش لحقيقة أن تنتهز واصطبح ووصل الحسين
حدثني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو الشبل عاصم بن وهب البرجمي قال حج الحسين بن الضحاك فمر في منصرفه عل موضع يعرف
بالقريتين فإذا جارية تطلع في ثيابها وتنظر في حرها ثم تضربه بيدها وتقول ما أضيعني وأضيعك فأنشأ يقول
( مررتُ بالقريتين مُنصرِفاً ... من حيث يقضي ذوو النُّهَى النُّسُكا )
( إذا فتاةٌ كأنها قمرٌ ... للِّتمّ لمّا توسَّط الفَلَكا )
( واضعةٌ كفَّها على حِرِها ... تقول يا ضَيْعتي وضَيْعَتكا ) قال فلما سمعت قوله ضحكت وغطت وجهها وقالت وافضيحتاه أوقد سمعت ما قلت
حدثني محمد الصولي قال حدثني ميمون بن هارون قال كان الحسين بن الضحاك صديقا لأبي وكنت ألقاه معه كثيرا وكانت نفسه قد تتبعت شفيعا بعد انصرافه من مجلس المتوكل فأنشدنا لنفسه فيه
( وأبيض في حُمْر الثياب كأنه
إذا ما بدا نِسْريَنةٌ في شقائق )
( سقاني بكفَّيْه رحيقاً وسامَني ... فسُوقاً بعينيه ولستُ بِفاسق )
( وأُقسم لولا خشيةُ الله وحدَه ... ومن لا أُسمِّي كنتُ أوّل عاشِق )
( وإنّي لمعذورٌ على وَجَناته ... وإن وسَمَتْني شيبةٌ في المفَارق )
( ولا عِشْقَ لي أو يُحْدِثَ الدهرُ شِرّةً ... تعود بعادات الشباب المُفارِق )
( ولو كنتُ شكلاً للصِّبا لاتّبعتُه ... ولكن سنّي بالصِّبا غيرُ لائقِ )
حدثني الصولي قال حدثنا ميمون بن هارون قال
كان للحسين بن الضحاك ابن يسمى محمدا له أرزاق فمات فقطعت أرزاقه فقال يخاطب المتوكل ويسأله أن يجعل أرزاق ابنه المتوفى لزوجته وأولاده
( إنّي أتيتُك شافعاً ... بوليِّ عهد المسلمينا )
( وشبيهِك المعتزّ أوجهِ ... شافع في العالَمينا )
( يابن الخَلائف الأوّلين ... ويا أبا المتأخِّرينا )
( إنّ ابن عبدك مات والأيامُ ... تختَرِم القَرينا )
( ومضى وخلَّف صبيةً ... بِعرَاصِه مُتَلَدِّدينا )
( ومُهَيْرةً عَبْرَى خِلاَفَ ... أقاربٍ مُسْتَعْبِرينا )
( أصبحنَ في رَيب الحوادث ... يُحسنون بك الظُّنونا )
( قطَع الوُلاةُ جِرايةً ... كانوا بها مُسْتَمْسِكينا )
( فامنُنْ بردّ جميع ما ... قطعوه غيرَ مراقِبينا )
( أعطاك أفضل ما تؤمِّل ... أفضلُ المتفضِّلينا ) قال فأمر المتوكل له بما سٍأل فقال يشكره
( يا خيرَ مُسْتَخلَفٍ من آل عبَاسِ ... اِسْلَمْ وليس على الأيّام من باس )
( أحييْتَ من أملي نِضْواً تَعاوَرَه ... تَعاقُبُ اليأس حتى مات بالياس )
مغنية تهرب من هجائه أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال كنا في مجلس ومعنا حسين بن الضحاك ونحن على نبيذ فعبث بالمغنية وجمشها فصاحت عليه واستخفت به فأنشأ يقول
( لها في وجهِها عُكَنُ ... وثُلْثَا وجهها ذَقَنُ )
( وأسنانٌ كرِيشِ البَطّ ... بين أصولها عَفَنُ )
قال فضحكا وبكت المغنية حتى قلت قد عميت وما انتفعنا بها بقية يومنا وشاع هذان البيتان فكسدت من أجلهما وكانت إذا حضرت في موضع أنشدوا البيتين فتجن ثم هربت من سر من رأى فما عرفنا لها بعد ذلك خبرا
قال جعفر وحدثنا أبو العيناء أنه حضر هذا المجلس وحكى مثل ما حكاه محمد
حدثني عمي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال سألت حسين بن الضحاك ونحن في مجلس المتوكل عن سنه فقال لست أحفظ السنة التي ولدت فيها بعينها ولكني أذكر وأنا بالبصرة موت شعبة بن الحجاج سنة ستين ومائة
حدثني الصولي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني خالي يعني أحمد بن حمدون قال أمر المتوكل أن ينادمه حسين بن الضحاك ويلازمه فلم يطق ذلك لكبر سنه فقال للمتوكل بعض من حضر عنده هو يطيق الذهاب إلى القرى والمواخير والسكر فيها ويعجز عن خدمتك فبلغه ذلك فدفع إلي أبياتاً قالها وسألني إيصالها فأوصلتها إلى المتوكل وهي
( أمَا في ثمانين وفّيتُها ... عَذِيرٌ وإن أنا لم أعْتَذرْ )
( فكيف وقد جُزتُها صاعداً ... مع الصّاعدين بتِسْع أُخَر )
( وقد رفع الله أقلامَه ... عن ابن ثمانين دون البشر )
( سوى من أصرّ على فتنةٍ ... وألْحَد في دينه أو كفر )
( وإنّي لمن أُسَراء الإِله ... في الأرض نُصْبَ صروفِ القدر )
( فإن يَقْضِ لي عملاً صالحاً ... أثاب وإن يَقضِ شرًّا غَفَر )
( فلا تَلْحَ في كِبَرٍ هدّني ... فلا ذنبَ لي أنْ بَلَغتُ الكِبَرْ )
( هو الشيبُ حلّ بعَقْب الشباب ... فأعقبني خَوَراً من أَشَرْ )
( وقد بسَط اللهُ لي عذرَه ... فمن ذا يلوم إذا عذَر )
( وإنّي لَفِي كَنَفٍ مُغْدِقٍ ... وعزٍّ بنصر أبي المنتَصِرْ )
( يُباري الرياحَ بفضل السماح ... حتى تَبَلَّدَ أو تَنْحسِر )
( له أكّد الوحيُ ميراثَه ... ومن ذا يُخالف وَحْيَ السُّوَر )
( وما للحسود وأشياعِه ... ومَنْ كذَّب الحقَّ إلا الحَجَرْ )
قال ابن حمدون فلما أوصلتها شيعتها بكلامي أعذره وقلت لو أطاق خدمة أمير المؤمنين لكان أسعد بها فقال المتوكل صدقت خذ له عشرين ألف درهم واحملها إليه فأخذتها فحملتها إليه
الخلفاء يضربونه حدثني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني خالي عن حسين بن الضحاك قال ضربني الرشيد في خلافته لصحبتي ولده ثم ضربني الأمين لممايلة ابنه عبد الله ثم ضربني المأمون لميلي إلى محمد ثم ضربني المعتصم لمودة كانت بيني وبين العباس بن المأمون ثم ضربني الواثق لشيء بلغه من ذهابي إلى المتوكل وكل ذلك يجري مجرى الولع بي والتحذير لي ثم أحضرني المتوكل وأمر شفيعا بالولع بي فتغاضب المتوكل علي فقلت له يا أمير المؤمنين إن كنت تريد أن تضربني كما ضربني آباؤك فاعلم أن آخر
ضرب ضربته بسببك فضحك وقال بل أُحسن إليك يا حسين وأصونك وأُكرمك
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل قال حدثني محمد بن محمد بن مروان الأبزاري قال دخلت على حسين بن الضحاك فقلت له كيف أنت جعلني الله فداءك فبكى ثم أنشأ يقول
( أصبحتُ من أُسَراء الله مُحتَسَباً ... في الأرض نحو قضاء الله والقَدَر )
( إنّ الثمانين إذ وفّيْتُ عِدّتها ... لم تُبْقِ باقيةً منّي ولم تَذَرِ )
أخبار أبي زكار الأعمى قال أبو الفرج أبو زكار هذا رجل من أهل بغداد من قدماء المغنين وكان منقطعا إلى آل برمك وكانوا يؤثرونه ويفضلون عليه إفضالا
فحدثني محمد بن جعفر بن قدامة قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال سمعت مسرورا يحدث أبي قال لما أمرني الرشيد بقتل جعفر بن يحيى دخلت عليه وعنده أبو زكار الأعمى وهو يغنيه بصوت لم أسمع بمثله
( فلا تَبْعَدْ فكلُّ فتىً سيأتي ... عليه الموتُ يَطرُق أو يُغادي )
( وكلّ ذخيرةٍ لا بدّ يوماً ... وإن بَقِيَتْ تَصير إلى نَفاد )
( ولو يُفْدَى من الحدثان شيءٌ ... فديتُك بالطَّريف وبالتِّلاد ) فقلت له في هذا والله أتيتك فأخذت بيده فأقمته وأمرت بضرب عنقه فقال لي أبو زكار نشدتك الله إلا ألحقتني به فقلت وما رغبتك في ذلك قال إنه أغناني عمن سواه بإحسانه فما أُحب أن أبقى بعده فقلت
أستأمر أمير المؤمنين في ذلك فلما أتيت الرشيد برأس جعفر أخبرته بقصة أبي زكار فقال لي هذا رجل فيه مصطنع فاضممه إليك وانظر ما كان يجريه عليه فأتممه له
حدثني الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق قال غنى علويه يوما بحضرة أبي فقال أبي مه هذا الصوت معرق في العمى الشعر لبشار الأعمى والغناء لأبي زكار الأعمى وأول الصوت عميت أمري
صوت
من المائة المختارة من رواية جحظة عن أصحابه ( ما جَرَتْ خَطْرةٌ على القلب منّي ... فيكِ إلا استَتَرْتُ عن أصحابي )
( من دموع تجري فإن كنتُ وحدي ... خالياً أسعدتْ دموعي انتحابي )
( إن حبّي إيّاكِ قد سَلّ جسمي ... ورماني بالشيب قبل الشباب )
( لو مَنَحْتِ اللقا شَفى بك صبًّا ... هائمَ القلب قد ثَوى في التراب )
الشعر في الأبيات للسيد الحميري والغناء لمحمد نعجة الكوفي مغن غير مشهور ولا ممن خدم الخلفاء وليس له خبر ولحنه المختار ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر وذكر حبش أن لمحمد نعجة فيه أيضا خفيف رمل بالبنصر
أخبار السيد الحميري السيد لقبه واسمه إسماعيل بن محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري ويكنى أبا هاشم وأمه امرأة من الأزد ثم من بني الحدان وجده يزيد بن ربيعة شاعر مشهور وهو الذي هجا زيادا وبنيه ونفاهم عن آل حرب وحبسه عبيد الله بن زياد لذلك وعذبه ثم أطلقه معاوية وخبره في هذا طويل يذكر في موضعه مع سائر أخباره إذ كان الغرض ها هنا ذكر أخبار السيد
ووجدت في بعض الكتب عن إسحاق بن محمد النخعي قال
سمعت ابن عائشة والقحذمي يقولان هو يزيد بن مفرغ ومن قال إنه يزيد ابن معاوية فقد أخطأ
ومفرغ لقب ربيعة لأنه راهن أن يشرب عسا من لبن فشربه حتى فرغه فلقب مفرغا وكان شعابا بسيالة ثم صار إلى البصرة
وكان شاعرا متقدما مطبوعا يقال إن أكثر الناس شعرا في الجاهلية والإسلام ثلاثة بشار وأبو العتاهية والسيد فإنه لا يعلم أن أحدا قدر على تحصيل شعر أحد منهم أجمع
وإنما مات ذكره وهجر الناس شعره لما كان يفرط فيه من سب أصحاب رسول الله في شعره ويستعمله من قذفهم والطعن عليهم فتحومي شعره من هذا الجنس وغيره لذلك وهجره الناس تخوفا وتراقبا وله طراز من الشعر ومذهب قلما يلحق فيه أو يقاربه ولا يعرف له من الشعر كثير وليس يخلو من مدح بني هاشم أو ذم غيرهم ممن هو عنده ضد لهم ولولا أن أخباره كلها تجري هذا المجرى ولا تخرج عنه لوجب ألا نذكر منها شيئا ولكنا شرطنا أن نأتي بأخبار من نذكره من الشعراء فلم نجد بدا من ذكر أسلم ما وجدناه له وأخلاها من سيء اختياره على قلة ذلك
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد ألنوفلي عن إسماعيل بن الساحر راوية السيد قال ابن عمار وحدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه أن أبوي السيد كانا إباضيين وكان منزلهما بالبصرة في غرفة بني
ضبة وكان السيد يقول طالما سب أمير المؤمنين في هذه الغرفة فإذا سئل عن التشيع من أين وقع له قال غاصت علي الرحمة غوصا
وروي عن السيد أن أبويه لما علما بمذهبه هما بقتله فأتى عقبة بن سلم الهنائي فأخبره بذلك فأجاره وبوأه منزلا وهبه له فكان فيه حتى ماتا فورثهما
على مذهب الكيسانية وقد أخبرني الحسن بن علي البري عن محمد بن عامر عن القاسم بن الربيع عن أبي داود سليمان بن سفيان المعروف بالحنزق راوية السيد الحميري قال ما مضى والله إلا على مذهب الكيسانية وهذه القصائد التي يقولها الناس مثل
( تجعفرتُ باسم الله واللهُ أكبرُ ... ) و
( تجعفرت باسم الله فيمن تجعفرا ... ) وقوله
( أيا راكباً نحو المدينة جَسْرةً ... عُذَافِرةً تهوِي بها كلَّ سَبْسَبِ )
( إذا ما هداك اللهُ لاقيتَ جعفراً ... فقل يا أمين الله وابنَ المهذَّبِ ) لغلام للسيد يقال له قاسم الخياط قالها ونحلها للسيد وجازت على
كثير من الناس ممن لم يعرف خبرها بمحل قاسم منه وخدمته إياه
بعض أوصافه أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبو جعفر الأعرج ابن بنت الفضيل بن بشار قال كان السيد أسمر تام القامة أشنب ذا وفرة حسن الألفاظ جميل الخطاب إذا تحدث في مجلس قوم أعطى كل رجل في المجلس نصيبه من حديثه
أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن عباد عن أبي عمرو الشيباني عن لبطة بن الفرزدق قال تذاكرنا الشعراء عند أبي فقال إن ها هنا لرجلين لو أخذا في معنى الناس لما كنا معهما في شيء فسألناه من هما فقال السيد الحميري وعمران بن حطان السدوسي ولكن الله عز و جل قد شغل كل واحد منهما بالقول في مذهبه
أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبو جعفر ابن بنت الفضيل بن بشار قال
كان السيد أسمر تام الخلقة أشنب ذا وفرة حسن الألفاظ وكان مع ذلك أنتن الناس إبطين لا يقدر أحد على الجلوس معه لنتن رائحتهما
قال حدثني التوزي قال رأى الأصمعي جزءا فيه من شعر السيد فقال لمن هذا فسترته عنه لعلمي بما عنده فيه فأقسم علي أن أُخبره فأخبرته فقال أنشدني قصيدة منه فأنشدته قصيدة ثم أخرى وهو يستزيدني ثم قال قبحه الله ما أسلكه لطريق الفحول لولا مذهبه ولولا ما في شعره ما قدمت عليه أحدا من طبقته
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم قال سمعت أبا عبيدة يقول أشعر المحدثين السيد الحميري وبشار
أخبرني عمي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي عن أبي شراعة القيسي عن مسعود بن بشر إن جماعة تذاكروا أمر السيد وأنه رجع عن مذهبه في ابن الحنفية وقال بإمامة جعفر بن محمد فقال ابن الساحر راويته والله ما رجع عن ذلك ولا القصائد الجعفريات إلا منحولة له قيلت بعده وآخر عهدي به قبل
موته بثلاث وقد سمع رجلا يروي عن النبي قال لعلي عليه السلام ( إنه سيولد لك بعدي ولد وقد نحلته اسمي وكنيتي ) فقال في ذلك وهي آخر قصيدة قالها
( أشاقَتْك المنازلُ بعد هند ... وتِرْبيها وذات الدَّلّ دَعْدِ )
( منازل أقفرتْ منهنّ مَحّتْ ... معالمُهن من سَبَلٍ ورَعْد )
( وريحٍ حَرْجَفٍ تَسْتَنُّ فيها ... بسافِي التُّرْب تُلْحِم ما تُسَدِّي )
( ألم يَبْلُغك والأنباءُ تَنْمِي ... مقالُ محمدٍ فيما يؤدِّي )
( إلى ذي علمه الهادي عليّ ... وخَوْلةُ خادمٌ في البيت تَرْدِي )
( ألم تر أنّ خولةَ سوف تأتي ... بوارِي الزَّند صافي الخِيم نَجْد )
( يفوز بكنيتي واسمي لأنّي ... نَحَلْتُهُماهُ والمهديّ بعدي )
( يُغَيَّب عنهمُ حتى يقولوا ... تضمَّنه بطَيْبة بطنُ لَحْد )
( سنينَ وأشهراً ويُرى بَرضْوَى ... بشِعْب بين أَنْمار وأُسْد )
( مقيم بين آرامٍ وعِينٍ ... وحَفَّانٍ تروح خِلالَ رُبْد )
( تُراعِيها السِّباع وليس منها ... ملاقيهنّ مفترساً بحَدّ )
( أمِنّ به الرَّدَى فرتَعْن طوراً ... بلا خوف لدى مَرْعىً ووِرْد )
( حلَفْتُ بربّ مكة والمُصَلَّى ... وبيتٍ طاهر الأركان فَرْد )
( يطوف به الحَجيجُ وكلَّ عامٍ ... يَحُلّ لديه وفدٌ بعد وفدِ )
( لقد كان ابن خَوْلة غيرَ شكً ... صَفاءَ ولايتي وخُلُوصَ وُدِّي )
( فما أحدٌ أحبّ إليّ فيما ... أسِرّ وما أبوح به وأُبدي )
( سوى ذي الوحي أحمد أو عليٍّ ... ولا أزكى وأطيب منه عندي )
( ومن ذا يابنَ خولة إذ رمتني ... بأسْهُمها المنيّةُ حين وعدي )
( يُذَيِّبُ عنكُم ويَسُدّ مما ... تَثَلَّم من حصونكم كسَدِّي )
( وما لي أن أَمُرَّ به ولكن ... أؤمِّل أن يؤخِّر يومُ فقدي )
( فأُدرك دولةً لك لستَ فيها ... بجبَّار فتُوصَفَ بالتَّعدّي )
( على قوم بَغَوْا فيكم علينا ... لتُعْدِي منكم يا خير مُعْدِ )
( لِتَعْلُ بنا عليهم حيث كانوا ... بغَوْرٍ من تِهامة أو بنجد )
( إذا ما سِرتَ من بلد حرامٍ ... إلى من بالمدينة من مَعَدّ )
( وماذا غرّهم والخيرُ منهم ... بأشْوَسَ أعْصَلِ الأنيابِ وَرْد )
( وأنت لمن بغى وعَداً وأذكى ... عليك الحربَ واسترداك مُرْدِ )
في البيتين الأولين من هذه القصيدة غناء نسبته
صوت ( أشاقتك المنازلُ بعد هندِ ... وتِرْبَيْها وذاتِ الدَّلّ دعد )
( منازلُ أقفرت منهنّ مَحَّتْ ... معالمُهن من سَبَل ورعد )
عروضه من الوافر الشعر للسيد الحميري والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن يحيى المكي وذكر الهشامي أنه لكردم وذكر عمرو بن بانة أن اللحن لمالك ثقيل أول بالوسطى
وقال إسماعيل بن الساحر راوية السيد كنت عنده يوما في جناح له فأجال بصره فيه ثم قال يا إسماعيل طال والله ما شتم أمير المؤمنين علي
في هذا الجناح قلت ومن كان يفعل قال أبواي وكان يذهب مذهب الكيسانية ويقول بإمامة محمد بن الحنفية وله في ذلك شعر كثير وقد روى بعض من لم تصح روايته أنه رجع عن مذهبه وقال بمذهب الإمامية وله في ذلك
( تجعفرتُ باسم الله واللهُ أكبر ... وأيقنتُ أن الله يعفو ويغفِر ) وما وجدنا ذلك في رواية محصل ولا شعره أيضا من هذا الجنس ولا في هذا المذهب لأن هذا شعر ضعيف يتبين التوليد فيه وشعره في قصائده الكيسانية مباين لهذا جزالة ومتانة وله رونق ومعنى ليسا لما يذكر عنه في غيره
الأصمعي يمدح شعره ويذم مذهبه أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد الثمالي قال حدثني التوزي قال قال لي الأصمعي أُحب أن تأتيني بشيء من شعر هذا الحميري فعل الله به وفعل فأتيته بشيء منه فقرأه فقال قاتله الله ما أطبعه وأسلكه لسبيل الشعراء والله لولا ما في شعره من سب السلف لما تقدمه من طبقته أحد
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال أتيت أبا عبيدة معمر بن المثنى يوما وعنده رجل من بني هاشم يقرأ عليه كتابا فلما رآني أطبقه فقال له أبو عبيدة إن أبا زيد ليس ممن يحتشم منه فأقرأ فأخذ الكتاب وجعل يقرأه فإذا هو شعر السيد فجعل أبو عبيدة يعجب منه ويستحسنه قال أبو زيد وكان أبو عبيدة يرويه قال وسمعت
محمد بن أبي بكر المقدمي يقول سمعت جعفر بن سليمان الضبعي ينشد شعر السيد
أخبرني ابن دريد قال سئل أبو عبيدة من أشعر المولدين قال السيد وبشار
وقال الموصلي حدثني عمي قال جمعت للسيد في بني هاشم ألفين وثلثمائة قصيدة فخلت أن قد استوعبت شعره حتى جلس إلي يوما رجل ذو أطمار رثة فسمعني أُنشد شيئا من شعره فأنشدني له ثلاث قصائد لم تكن عندي فقلت في نفسي لو كان هذا يعلم ما عندي كله ثم أنشدني بعده ما ليس عندي لكان عجيبا فكيف وهو لا يعلم وإنما أنشد ما حضره وعرفت حينئذ أن شعره ليس مما يدرك ولا يمكن جمعه كله
رأي بشار بالسيد الحميري أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن ابن عائشة قال وقف السيد على بشار وهو ينشد الشعر فأقبل عليه وقال
( أيّها المادحُ العبادَ ليُعْطَى ... إنّ لله ما بأيدي العبادِ )
( فاسأل الله ما طلبتَ إليهم ... وارْجُ نفعَ المُنَزَّل العَوَّاد )
( لا تَقُلْ في الجَواد ما ليس فيه ... وتُسَمِّي البخيلَ باسم الجَواد ) قال بشار من هذا فعرفه فقال لولا أن هذا الرجل قد شغل عنا بمدح بني هاشم لشغلنا ولو شاركنا في مذهبنا لأتعبنا وروي في هذا الخبر أن
عمران بن حطان الشاري خاطب الفرزدق بهذه المخاطبة وأجابه بهذا الجواب
أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن سعيد بن المسيب عن أبي سعيد السكري عن الطوسي قال إذا رأيت في شعر السيد دع ذا فدعه فإنه لا يأتي بعده إلا سب السلف أو بلية من بلاياه
وروى الحسن بن علي بن المعتز الكوفي عن أبيه عن السيد قال رأيت النبي النوم وكأنه في حديقة سبخة فيها نخل طوال وإلى جانبها أرض كأنها الكافور ليس فيها شيء فقال أتدري لمن هذا النخل قلت لا يا رسول الله قال لامرىء القيس بن حجر فاقلعها واغرسها في هذه الأرض ففعلت وأتيت ابن سيرين فقصصت رؤياي عليه فقال أتقول الشعر قلت لا قال أما إنك ستقول شعرا مثل شعر امرىء القيس إلا أنك تقوله في قوم بررة أطهار قال فما انصرفت إلا وأنا أقول الشعر
قال الحسن وحدثني غانم الوراق قال خرجت إلى بادية البصرة فصرت إلى عمرو بن تميم فأثبتني بعضهم فقال هذا الشيخ والله راوية فجلسوا إلي وأنسوا بي وأنشدتهم وبدأت بشعر ذي الرمة فعرفوه وبشعر جرير
والفرزدق فعرفوهما ثم أنشدتهم للسيد
( أتعرِف رسماً بالسّويّيْن قد دَثَرْ ... عَفَتْه أهاضِيبُ السحائب والمطر )
( وجرّت به الأذيالَ رِيحانِ خِلْفةً ... صَباً ودَبُورٌ بالعَشِيّاتِ والبُكَر )
( منازلُ قد كانت تكون بجوّها ... هضيمُ الحشاريّا الشَّوَى سِحرُها النظر )
( قَطُوفُ الخُطَا خَمْصانةٌ بَخْتَرِيّةٌ ... كأنّ مُحيّاها سَنَا دارة القمر )
( رمَتْني ببُعْد بعد قرب بها النَّوَى ... فبانت ولمَّا أَقْضِ من عَبْدة الوَطَرْ )
( ولما رأتني خشية البين مُوجَعاً ... أُكَفْكِف منّي أدمُعاً فَيْضُها درر )
( أشارت بأطرافٍ إليّ ودمعُها ... كنَظْم جُمَانٍ خانه السِّلكُ فانتثر )
( وقد كنتُ ممّا أحدث البينُ حاذِراً ... فلم يُغْنِ عنّي منه خوفيَ والحذر )
قال فجعلوا يمرقون لإنشادي ويطربون وقالوا لمن هذا فأعلمتهم فقالوا هو والله أحد المطبوعين لا والله ما بقي في هذا الزمان مثله
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال سمعت عمي يقول لو أن قصيدة السيد التي يقول فيها
( إنّ يومَ التطهيرِ يومٌ عظيم ... خُصَّ بالفضل فيه أهلُ الكِساءِ ) قرئت على منبر ما كان فيها بأس ولو أن شعره كله كان مثله لرويناه وما عيبناه
وأخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا العباس بن ميمون طائع قال حدثنا نافع عن التوزي بهذه الحكاية بعينها فإنه قالها في
( إنّ يومَ التّطْهيرِ يومٌ عظيم ... ) قال ولم يكن التوزي متشيعا
قال علي بن المغيرة حدثني الحسين بن ثابت قال قدم علينا رجل بدوي وكان أروى الناس لجرير فكان ينشدني الشيء من شعره فأُنشد في معناه للسيد حتى أكثرت فقال لي ويحك من هذا هو والله أشعر من صاحبنا
مع السفاح وجعفر بن محمد أخبرني أبو الحسن الأَسدي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي عن ابن عائشة قال لما استقام الأمر لبني العباس قام السيد إلى أبي العباس السفاح حين نزل عن المنبر فقال
( دُونَكُموها يا بني هاشمٍ ... فَجدِّدوا من عهدها الدَّارسا )
( دُونَكمُوها لا علا كعبُ مَنْ ... كان عليكم مُلكَها نافسا )
( دونَكُموها فالْبَسوا تاجَها ... لا تَعْدَموا منكمُ له لابسا )
( لو خُيِّر المنبرُ فُرسانَه ... ما اختار إلاّ منكُم فارسا )
( قد ساسها قبلكُم ساسةٌ ... لم يتركوا رَطباً ولا يابسا )
( ولستُ من أن تَمْلكوها إلى ... مَهْبِط عيسى فيكُم آيسا ) فسر أبو العباس بذلك وقال له أحسنت يا إسماعيل سلني حاجتك قال تولي سليمان بن حبيب الأهواز ففعل وذكر التميمي وهو علي بن إسماعيل عن أبيه قال كنت عند أبي عبد الله جعفر بن محمد إذ استأذن آذنه للسيد فأمره بإيصاله وأقعد حرمه خلف ستر ودخل فسلم وجلس فاستنشده فأنشده قوله
( أُمْرُرْ على جَدَث الحسين ... فَقُل لأعْظُمِه الزكيّه )
( آأعْظُماً لا زِلْتِ من ... وَطْفَاءَ ساكبةٍ رَوِيّهْ )
( وإذا مررتَ بقبره ... فأطِلْ به وَقْفَ المطِيّه )
( وابْكِ المُطَهَّرَ للمطهَّر ... والمطهَّرة النّقيّهْ )
( كبُكاء مُعْوِلةٍ أتت ... يوماً لواحدها المنيّه )
قال فرأيت دموع جعفر بن محمد تتحدر على خديه وارتفع الصراخ والبكاء من داره حتى أمره بالإمساك فأمسك قال فحدثت أبي بذلك لما انصرفت فقال لي ويلي على الكيساني الفاعل ابن الفاعل يقول
( فإذا مررتَ بقبره ... فأطِل به وقْفَ المطيَّه )
فقلت يا أبت وماذا يصنع قال أو لا ينحر أو لا يقتل نفسه فثكلته أُمه
حدثني أبو جعفر الأعرج وهو ابن بنت الفضيل بن بشار عن إسماعيل بن الساحر راوية السيد وهو الذي يقول فيه السيد في بعض قصائده
( وإسماعيلُ يَبْرُز من فلانٍ ... ويزعُم أنّه للنَّارِ صالِي )
قال تلاحى رجلان من بني عبد الله بن دارم في المفاضلة بعد رسول الله فرضيا بحكم أول من يطلع فطلع السيد فقاما إليه وهما لا يعرفانه فقال له مفضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه منهما إني وهذا اختلفنا في خير الناس بعد رسول الله علي بن أبي طالب فقطع السيد كلامه ثم قال وأي شيء قال هذا الآخر ابن الزانية فضحك من حضر ووجم الرجل ولم يحر جوابا
وقال التميمي وحدثني أبي قال قال لي فضيل الرسان أُنشد جعفر بن محمد قصيدة السيد
( لأُمِّ عمرو باللِّوَى مَرْبَعُ ... دارسةٌ أعلامُه بَلْقَعُ ) فسمعت النحيب من داره فسألني لمن هي فأخبرته أنها للسيد وسألني عنه فعرفته وفاته فقال رحمه الله قلت إني رأيته يشرب النبيذ في
الرستاق قال أتعني الخمر قلت نعم قال وما خطر ذنب عند الله أن يغفره لمحب علي
كان يقول بالرجعة وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال جاء رجل إلى السيد فقال بلغني أنك تقول بالرجعة فقال صدق الذي أخبرك وهذا ديني قال أفتعطيني دينارا بمائة دينار إلى الرجعة قال السيد نعم وأكثر من ذلك إن وثقت لي بأنك ترجع إنسانا قال وأي شيء أرجع قال أخشى أن ترجع كلبا أو خنزيراً فيذهب مالي فأفحمه
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال قال جعفر ابن عفان الطائي الشاعر أهدى إليّ سليمان بن علي مهرا أعجبني وعزمت تربيته فلما مضت علي أشهر عزمت على الحج ففكرت في صديق لي أودعه المهر ليقوم عليه فأجمع رأيي على رجل من أهلي يقال له عمر بن حفص فصرت إليه فسألته أن يأمر سائسه بالقيام عليه وخبرته بمكانه من قلبي ودعا بسائسه فتقدم إليه في ذلك ووهبت للسائس دراهم وأوصيته به ومضيت إلى الحج ثم انصرفت وقلبي متعلق فبدأت بمنزل عمر بن حفص قبل منزلي لأعرف حال المهر فإذا هو قد ركب حتى دبر ظهره وعجف من قلة القيام عليه فقلت له يا أبا حفص أهكذا أوصيتك في هذا المهر فقال وما ذنبي لم ينجع فيه العلف فانصرفت به وقلت
( مَنْ عاذري من أبي حفص وثِقْتُ به ... وكان عندي له في نفسه خطرُ )
( فلم يكن عند ظنّي في أمانته ... والظنّ يُخْلَف والإِنسانُ يُخْتَبَر )
( أضاع مهري ولم يُحسن ولايتَه ... حتى تبيّن فيه الجَهْدُ والضّرر )
( عاتبتُه فيه في رفق فقلتُ له ... يا صاحِ هل لك من عذر فتعتذِر )
( فقال داءٌ به قِدْماً أضَرّ به ... وداؤه الجوعُ والإِتعاب والسفر )
( قد كان لي في اسمه عنه وكُنْيتِه ... لو كنتُ مُعْتَبِراً ناهٍ ومُعْتَبَر )
( فكيف ينصحني أو كيف يحفظني ... يوماً إذا غِبتُ عنه واسمه عمر )
( لو كان لي وَلَدٌ شتّى لهم عددٌ ... فيهم سميُّوه إن قلّوا وإن كثُروا )
( لم ينصحوا لي ولم يُبْقُوا عليّ ولو ... ساوى عديدَهمُ الحَصْباءُ والشجرُ )
نصيحته للمهدي قال وحدثني أبو سليمان الناجي قال جلس المهدي يوما يعطي قريشا صلات لهم وهو ولي عهد فبدأ ببني هاشم ثم بسائر قريش فجاء السيد فرفع إلى الربيع رقعة مختومة وقال إن فيها نصيحة للأمير فأوصلها إليه فأوصلها فإذا فيها
( قُل لابن عَبّاسٍ سَمِيِّ محمدٍ ... لا تُعْطِينّ بني عَدِيّ درهَما )
( اِحْرِمْ بني تَيْم بن مُرّةَ إنهم ... شرُّ البريّة آخراً ومُقَدَّما )
( إن تُعْطِهمْ لا يشكروا لك نعمةً ... ويكافئوك بأن تُذَمّ وتُشْتما )
( وإنِ ائتمنتهمُ أو استعملتَهم ... خانوك واتّخذوا خَراجك مَغْنما )
( ولئن منعتَهمُ لقد بدأوكمُ ... بالمَنْع إذ ملكوا وكانوا أظلما )
( منعوا تُراثَ محمدٍ أعمامَه ... وابنَيْهِ وابنتَه عَدِيلةَ مَرْيما )
( وتأمّروا من غير أن يُسْتَخْلَفوا ... وكفى بما فعلوا هنالك مَأْثَما )
( لم يشكروا لمحمد إنعامَه ... أفيشكرون لغيره إن أنْعما )
( واللهُ منّ عليهمُ بمحمد ... وهداهمُ وَكَسا الجُنوبَ وأطْعما )
( ثم انبَروْا لوصيِّه ووليّه ... بالمُنْكَرات فجرَّعوه العَلْقَما )
وهي قصيدة طويلة حذف باقيها لقبح ما فيه قال فرمى بها إلى أبي عبيد الله ثم قال اقطع العطاء فقطعه وانصرف الناس ودخل السيد إليه فلما رآه ضحك وقال قد قبلنا نصيحتك يا اسماعيل ولم يعطهم شيئا
أخبرني به عمي عن محمد بن داود بن الجراح عن إسحاق النخعي عن أبي سلمان الرياحي مثله
السيد الحميري وشيطان الطاق أخبرني الحسن بن محمد بن الجمهور القمي قال حدثني أبي قال حدثني أبو داود المسترق راوية السيد أنه حضر يوما وقد ناظره محمد بن علي بن النعمان المعروف بشيطان الطاق في الإمامة فغلبه محمد في دفع ابن الحنفية عن الإمامة فقال السيد
( ألاَ يأيّها الجَدِلُ المعنِّي ... لنا ما نحن وَيْحَك والعَناءُ )
( أتُبْصِر ما تقول وأنت كهلٌ ... تُراك عليك من ورع رِداء )
( ألا إن الأئمةَ من قريشٍ ... ولاةُ الحقّ أربعةٌ سَوَاء )
( عليٌّ والثلاثةُ من بَنِيه ... همُ أسْبَاطُه والأوصياء )
( فأنَّى في وصيّته إليهم ... يكون الشك منّا والمِراء )
( بهم أوصاهمُ ودعا إليه ... جميعَ الخلق لو سُمِع الدّعاء )
( فسِبْطٌ سِبْطُ إيمانٍ وحِلْمٍ ... وسبطٌ غيّبتْه كَرْبَلاء )
( سقَى جَدَثاً تضمّنه مُلِثٌّ ... هَتُوفُ الرّعد مُرْتَجِزٌ رِواء )
( تَظَلُّ مُظِلّةً منها عَزَالٍ ... عليه وتَغْتدي أُخرى مِلاء )
( وسِبْط لا يذوق الموتَ حتى ... يقودَ الخيلَ يَقْدُمها اللواء )
( من البيت المحجَّبِ في سَراةٍ ... شُراةٍ لَفّ بينهمُ الإِخاء )
( عصائبُ ليس دونَ أغرَّ أجلي ... بمكة قائمٍ لهمُ انتهاءُ )
وهذه الأبيات بعينها تروى لكثير ذكر ذلك ابن أبي سعد فقال وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا علي بن محمد النوفلي قال حدثني إبراهيم بن هاشم العبدي البصري قال رأيت النبي في المنام وبين يديه السيد الشاعر وهو ينشد
( أجَدّ بآل فاطمةَ البُكورُ ... فدمعُ العين مُنْهَمِرٌ غزيرُ ) حتى أنشده إياها على آخرها وهو يسمع قال فحدثت هذا الحديث رجلا جمعتني وإياه طوس عند قبر علي بن موسى الرضا فقال لي والله لقد كنت على خلاف فرأيت النبي في المنام وبين يديه رجل ينشد
( أجَدّ بآل فاطمة البُكورُ ... ) إلى آخرها فاستيقظتُ من نومي وقد رسخ في قلبي من حب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ما كنت أعتقده
أخبرني وكيع قال حدثني إسحاق بن محمد قال حدثنا أبو سليمان الناجي ومحمد بن حليم الأعرج قالا كان السيد إذا استنشد شيئا من شعره لم يبدأ بشيء إلا بقوله
( أجَدّ بآل فاطمةَ البُكورُ ... فدمعُ العين مُنْهَمِرٌ غزيرُ )
قال إسحاق وسمعت العتبي يقول ليس في عصرنا هذا أحسن مذهبا في شعره ولا أنقى ألفاظا من السيد ثم قال لبعض من حضر أنشدنا قصيدته اللامية التي أنشدتناها اليوم فأنشده قوله
( هل عند من أحببتَ تَنْوِيلُ ... أم لا فإن اللَّومَ تَضْليلُ )
( أم في الحشى منك جوىً باطِن ... ليس تُداويه الأباطيلُ )
( عُلِّقتَ يا مغرورُ خَدّاعةً ... بالوعد منها لك تَخْيِيلُ )
( رَيَّا رَدَاح النوم خَمْصانة ... كأنها أَدْماءُ عُطْبول )
( يَشفيك منها حين تخلو بها ... ضمٌّ إلى النحر وتَقْبيل )
( وَذوْقُ ريقٍ طيّبٍ طعمُه ... كأنه بالمسك مُعْلولُ )
( في نِسوةٍ مثلِ المَهَا خُرَّدٍ ... تَضِيق عنهنّ الخلاخيلُ ) يقول فيها
( أُقسم بالله وآلائِه ... والمرءُ عمّا قال مسؤول )
( إنّ عليّ بن أبي طالب ... على التُّقَى والبِرِّ مَجْبول )
فقال العتبي أحسن والله ما شاء هذا والله الشعر الذي يهجم على القلب بلا حجاب
في البيتين الأولين من هذه القصيدة لمخارق رمل بالبنصر عن الهشامي وذكر حبش أنه للغريض وفيه لحن لسليمان من كتب بذل غير مجنس
أخبرني عمي قال حدثني محمد بن داود بن الجراح قال حدثني إسحاق
ابن محمد النخعي عن عبد الحميد بن عقبة عن إسحاق بن ثابت العطار قال كنا كثيرا ما نقول للسيد مالك لا تستعمل في شعرك من الغريب ما تسأل عنه كما يفعل الشعراء قال لأن أقول شعرا قريبا من القلوب يلذه من سمعه خير من أن أقول شيئا متعقدا تضل فيه الأوهام
يسب محارب بن دثار ويترحم على أبي الأسود أخبرني أحمد بن عمار قال أخبرنا يعقوب بن نعيم قال حدثني إبراهيم ابن عبد الله الطلحي راوية الشعراء بالكوفة قال حدثنا أبو مسعود عمرو بن عيسى الرباح ومحمد بن سلمة يزيد بعضهم على بعض أن السيد لما قدم الكوفة أتاه محمد بن سهل راوية الكميت فأقبل عليه السيد فقال من الذي يقول
( يَعِيب عليّ أقوامٌ سَفَاهاً ... بأن أُرْجِي أبا حسن عليّا )
( وإرجائي أبا حسن صوابٌ ... عن العُمَرَيْنِ بَرًّا أو شَقِيّا )
( فإن قدّمتُ قوماً قال قومٌ ... أسأتَ وكنتَ كذّاباً رَديّاً )
( إذا أيقنتُ أنّ الله ربّي ... وأَرْسل أحمداً حقًّا نَبيّا )
( وأنّ الرُّسْلَ قد بُعِثوا بحقّ ... وأنّ الله كان لهم وليّا )
( فليس عليّ في الإِرجاء بأسٌ ... ولا لَبْسٌ ولست أخاف شيّا ) فقال محمد بن سهل هذا يقوله محارب بن دثار الذهلي فقال
السيد لا كان الله وليا للعاض بظر أمه من ينشدنا قصيدة أبي الأسود
( أحِبّ محمداً حباً شديداً ... وعبَّاساً وحمزةَ والوصيّا ) فأنشده القصيدة بعض من كان حاضرا فطفق يسب محارب بن دثار ويترحم على أبي الأسود فبلغ الخبر منصورا النمري فقال ما كان على أبي هاشم لو هجاه بقصيدة يعارض بها أبياته ثم قال
( يَوَدُّ محارِبٌّ لو قد رآها ... وأبصرهم حَوَالَيْها جُثِيّا )
( وأنّ لسانَه من نابِ أفعى ... وما أرْجا أبا حسن عليَّا )
( وأنَّ عَجُوزَه مَصَعَتْ بكلبٍ ... وكان دماءُ ساقَيْها جَرِيّا )
( متى تُرْجِىء أبا حسن عليًّا ... فقد أرجَيْتَ يا لُكَعٌ نبيَّا )
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم البزي قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني إبراهيم بن الحسن الباهلي قال دخلت على جعفر بن سليمان الضبعي ومعي أحاديث لأسأله عنها وعنده قوم لم أعرفهم وكان كثيرا ما ينشد شعر السيد فمن أنكره عليه لم يحدثه فسمعته ينشدهم
( ما تعدِلُ الدُّنيا جميعاً كلُّها ... من حوض أحمدَ شَرْبةً من ماءِ ) ثم جاءه خبر فقام فقلت للذين كانوا عنده من يقول هذا الشعر قالوا السيد الحميري
حدثني عمي والكراني قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن عبد الله بن الحسين عن أبي عمرو الشيباني عن الحارث بن صفوان وأخبرني به الحسين ابن يحيى عن حماد بن إسحاق عن أبيه أن السيد كان بالأهواز فمرت به امرأة من آل الزبير تزف إلى إسماعيل ابن عبد الله بن العباس وسمع الجلبة فسأل عنها فأُخبر بها فقال
( أتتنا تُزَفّ على بغلة ... وفوق رحالتها قُبّهْ )
( زُبَيْريّةٌ من بنات الذي ... أحلّ الحرام من الكعبهْ )
( تُزَفّ إلى ملك ماجد ... فلا اجتمعا وبها الوَجْبهْ )
روى هذا الخبر إسماعيل بن الساحر فقال فيه فدخلت في طريقها إلى خربة للخلاء فنهشتها أفعى فماتت فكان السيد يقول لحقتها دعوتي
حدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل عن أبي طالب الجعفري وهو محمد بن عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن إسماعيل بن جعفر قال أخبرني أبي قال خرج أهل البصرة يستسقون وخرج فيهم السيد وعليه ثياب خز وجبة ومطرف وعمامة فجعل يجر مطرفه ويقول
( اِهْبِطْ إلى الأرض فخُذْ جَلْمداً ... ثم ارْمِهم يا مُزْن بالجَلْمَدِ )
( لا تِسْقِهم من سَبِلٍ قطرةً ... فإنهم حَرْبُ بني أحمد )
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن إسحاق البغوي
قال حدثنا الحرمازي قال حدثني رجل قال كنت أختلف إلى ابني قيس وكانا يرويان عن الحسن فلقيني السيد يوما وأنا منصرف من عندهما فقال أرني ألواحك أكتب فيها شيئا وإلا أخذتها فمحوت ما فيها فأعطيته ألواحي فكتب فيها
( لَشَرْبَةٌ من سَوِيقٍ عند مَسْغَبةٍ ... وأكْلَةٌ من ثَريدٍ لحمُه وارِي )
( أشَدُّ ممّا روى حُبًّا إليّ بنو ... قيس وممّا رَوى صَلْتُ بن دينارِ )
( ممّا رواه فلانٌ عن فلانِهمُ ... ذاك الذي كان يدعوهم إلى النار )
أخبرني أحمد بن علي الخفاف قال حدثني أبو إسماعيل إبراهيم بن أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن حسن بن طباطبا قال سمعت زيد بن موسى بن جعفر يقول رأيت رسول الله في النوم وقدامه رجل جالس عليه ثياب بيض فنظرت إليه فلم أعرفه إذ التفت إليه رسول الله يا سيد أنشدني قولك
( لأَمِّ عمرو في اللِّوى مَرْبَعُ ... ) فأنشده إياها كلها ما غادر منها بيتا واحدا فحفظتها عنه كلها في النوم
قال أبو إسماعيل وكان زيد بن موسى لحانة رديء الإنشاد فكان إذا أنشد هذه القصيدة لم يتتعتع فيها ولم يلحن
وقال محمد بن داود بن الجراح في روايته عن إسحاق النخعي حدثني
عبد الرحمن بن محمد الكوفي عن علي بن إسماعيل الهيثمي عن فضيل الرسان قال دخلت على جعفر بن محمد أعزيه عن عمه زيد ثم قلت له ألا أُنشدك شعر السيد فقال أنشد فأنشدته قصيدة يقول فيها
( فالناس يوم البعْث راياتُهُم ... خمسٌ فمنها هالكٌ أرْبَعُ )
( قائدُها العجل وفِرْعَونهم ... وسامِريّ الأُمّةِ المُفْظع )
( ومارِقٌ من دينه مُخْرَج ... أسودُ عبدٌ لُكَعٌ أوْكع )
( ورايةٌ قائدها وجهُه ... كأنه الشمس إذا تطلُع ) فسمعت مجيبا من وراء الستور فقال من قائل هذا الشعر فقلت السيد فقال رحمه الله فقلت جعلت فداك إني رأيته يشرب الخمر فقال رحمه الله فما ذنب على الله أن يغفره لآل علي إن محب علي لا تزل له قدم إلا تثبت له أُخرى
حدثني الأخفش عن أبي العيناء عن علي بن الحسن بن علي بن الحسين عن أبيه عن جعفر بن محمد أنه ذكر السيد فترحم عليه وقال إن زلت له قدم فقد ثبتت الأخرى
نسخت من كتاب الشاهيني حدثني محمد بن سهل الحميري عن أبيه قال انحدر السيد الحميري في سفينة إلى الأهواز فماراه رجل في تفضيل علي وباهله على ذلك فلما كان الليل قام الرجل ليبول على حرف
السفينة فدفعه السيد فغرفه فصاح الملاحون غرق والله الرجل فقال السيد دعوه فإنه باهلي
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد قال حدثني التوزي قال جلس السيد يوما إلى قوم فجعل ينشدهم وهم يلغطون فقال
( قد ضيّع اللهُ ما جمّعتُ من أَدب ... بين الحَمير وبين الشَّاءِ والبقرِ )
( لا يَسمعون إلى قول أجِيءُ به ... وكيف تَستَمِع الأنعامُ للبَشَر )
( أقول ما سكتوا إنْسٌ فإن نطقوا ... قلتُ الضفادعُ بين الماء والشجر )
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم البزي قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي عن محمد بن الربيع عن سويد بن حمدان ابن الحصين قال كان السيد يختلف إلينا ويغشانا فقام من عندنا ذات يوم فخلفه رجل وقال لكم شرف وقدر عند السلطان فلا تجالسوا هذا فإنه مشهور بشرب الخمر وشتم السلف فبلغ ذلك السيد فكتب إليه
( وصَفْتُ لك الحوضَ يابنَ الحُصَيْن ... على صفَةِ الحارث الأَعْورِ )
( فإن تُسْقَ منه غداً شَرْبَةً ... تَفُزْ من نصيبك بالأوفر )
( فما ليَ ذنبٌ سوى أنّني ... ذكرتُ الذي فرّ عن خيبر )
( ذكرتُ امْرأً فرّ عن مِرْحَبٍ ... فِرارَ الحمار من القَسْوَرِ )
( فأنكر ذاك جليسٌ لكم ... زَنيمٌ أخو خُلُقٍ أعورِ )
( لَحَاني بحبِّ إمام الهدى ... وفاروقِ أُمَّتنا الأكبرِ )
( سأحلِق لحيتَه إنها ... شهودٌ على الزّور والمُنْكر ) قال فهجر والله مشايخنا جميعا ذلك الرجل ولزموا محبة السيد ومجالسته
هجاؤه سوار القاضي أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا مهدي بن سابق
أن السيد تقدم إلى سوار القاضي ليشهد عنده وقد كان دافع المشهود له بذلك وقال أعفني من الشهادة عند سوار وبذل له مالا فلم يعفه فلما تقدم إلى سوار فشهد قال ألست المعروف بالسيد قال بلى قال استغفر الله من ذنب تجرأت به على الشهادة عندي قم لا أرضى بك
فقام مغضبا من مجلسه وكتب إلى سوار رقعة فيها يقول
( إن سوّار بن عبد اللَّه ... من شرِّ القضاة ) فلما قرأها سوار وثب عن مجلسه وقصد أبا جعفر المنصور وهو يومئذ نازل بالجسر فسبقه السيد إليه فأنشده
( قل للإِمام الذي يُنْجَى بطاعته ... يوم القيامة من بُجْبُوحة النار )
( لا تَستعِينَنْ جزاك الله صالحةً ... يا خير من دَبّ في حكمٍ بَسوّار )
( لا تَسْتَعِنْ بخبيث الرأي ذي صَلَفٍ ... جَمّ العيوب عظيم الكِبْر جبّار )
( تُضْحِي الخصومُ لديه من تجبّره ... لا يَرفعون إليه لحظ أبصار )
( تِيهاً وكبْراً ولولا ما رفعتَ له ... من ضَبْعه كان عينَ الجائِع العاري ) ودخل سوار فلما رآه المنصور تبسم وقال أما بلغك خبر إياس بن معاوية حيث قبل شهادة الفرزدق واستزاد في الشهود فما أحوجك للتعريض للسيد ولسانه ثم أمر السيد بمصالحته
وقال إسحاق بن محمد النخعي حدثني عبد الله بن محمد الجعفري قال حدثني محمد بن عبد الله الحميري قال دخل السيد على المهدي لما بايع لابنيه موسى وهارون فأنشأ يقول
( ما بالُ مَجْرَى دمْعِكَ الساجِمِ ... أمِنْ قَذًى بات بها لازِمِ )
( أمْ من هوىً أتت له ساهر ... صبابةً من قلبك الهائِم )
( آليتُ لا أمدح ذا نائلٍ ... من مَعْشر غيرَ بني هاشم )
( أوْلَتْهُمُ عندي يدُ المصطفى ... ذي الفضل والمَنّ أبي القاسِم )
( فإنها بيضاءُ محمودةٌ ... جزاؤها الشّكرُ على العالَم )
( جزاؤها حفظُ أبي جعفر ... خليفةِ الرحمن والقائِم )
( وطاعةُ المهديّ ثم ابنِه ... موسى على ذي الإِرْبةِ الحازمِ )
( وللرشيد الرّابع المُرْتَضَى ... مُفْتَرَضٌ من حقّه اللاّزِم )
( ملكُهمُ خمسون معدودةً ... برغَمْ أنف الحاسد الرّاغم )
( ليس علينا ما بَقُوا غيرَهم ... في هذه الأُمّة من حاكم )
( حتى يُردّوها إلى هابط ... عليه عيسى منهمُ ناجمِ )
حبه لعلي بن أبي طالب وقال علي بن المغيرة حدثني علي بن عبد الله السدوسي عن المدائني قال كان السيد يأتي الأعمش فيكتب عنه فضائل علي رضي الله عنه ويخرج من عنده ويقول في تلك المعاني شعرا فخرج ذات يوم من عند بعض أمراء الكوفة وقد حمله على فرس وخلع عليه فوقف بالكناسة ثم
قال يا معشر الكوفيين من جاءني منكم بفضيلة لعلي بن أبي طالب لم أقل فيها شعرا أعطيته فرسي هذا وما علي فجعلوا يحدثونه وينشدهم حتى أتاه رجل منهم وقال إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالي عنه عزم على الركوب فلبس ثيابه وأراد لبس الخف فلبس أحد خفيه ثم أهوى إلى الآخر ليأخذه فانقض عقاب من السماء فحلق به ثم ألقاه فسقط منه أسود وانساب فدخل حجرا فلبس علي رضي الله عنه الخف قال ولم يكن قال في ذلك شيئا ففكر هنيهة ثم قال
( ألاَ يا قومِ للعَجَبِ العُجَاب ... لخُفّ أبي الحسين وللحُبَابِ )
( أتى خُفًّا له وانساب فيه ... لِيَنْهَش رِجلَه منه بناب )
( فخَرّ من السماء له عُقابٌ ... من العِقْبان أو شِبْهُ العُقابِ )
( فطار به فحلّق ثم أَهْوَى ... به للأرض من دون السّحاب )
( إلى حُجْرٍ له فانساب فيه ... بعيدِ القَعْرِ لم يُرْتَجْ بباب )
( كريهُ الوجه أسودُ ذو بَصِيصٍ ... حديدُ النّاب أَزْرقُ ذو لُعابِ )
( ودُوفِع عن أبي حسن عليٍّ ... نَقيعُ سِمامه بعد انسياب ) ثم حرك فرسه ومضى وجعل تشبيبها بعد ذلك
( صبوتُ إلى سُلَيْمى والرَّبَابِ ... وما لأخي المشَيِب وللتَّصابي )
أخبرني أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد قال حدثني عبد الله بن أحمد بن مستورد قال
وقف السيد يوما بالكوفة فقال من أتاني بفضيلة لعلي بن أبي طالب ما قلت فيها شعرا فله دينار وذكر باقي الحديث فأما العقاب الذي انقض على خف علي بن أبي طالب رضى الله عنه فحدثني بخبره أحمد بن محمد ابن محمد بن سعيد الهمداني قال حدثني جعفر بن علي بن نجيح قال حدثنا أبو عبد الرحمن المسعودي عن أبي داود الطهوي عن أبي الزعل المرادي قال قام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فتطهر للصلاة ثم نزع خفه فانساب فيه أفعى فلما عاد ليلبسه انقضت عقاب فأخذته فحلقت به ثم ألقته فخرج الأفعى منه وقد روي مثل هذا لرسول الله
حدثني به أحمد بن محمد بن محمد بن سعيد قال حدثني محمد بن عبيد بن عقبة قال حدثنا محمد بن الصلت قال حدثنا حيان بن علي عن أبي سعيد عن عكرمة عن ابن عباس قال كان النبي إذا أراد حاجة تباعد حتى لا يراه أحد فنزع خفه فإذا عقاب قد تدلى فرفعه فسقط منه أسود سالخ فكان النبي يقول ( اللهم إني أعوذ بك من شر ما يمشي على بطنه ومن شر ما يمشي على رجليه ومن شر ما يمشي على أربع ومن شر الجن والإنس )
قال أبو سعيد وحدثنا محمد بن إسماعيل الراشدي قال حدثنا عثمان بن سعيد قال حدثنا حيان بن علي عن سعد بن طريف عن عكرمة عن ابن عباس مثله
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا حاتم بن قبيصة قال سمع السيد محدثا يحدث أن النبي كان ساجدا فركب الحسن والحسين على ظهره فقال عمر رضي الله عنه نعم المطي مطيكما فقال
النبي الراكبان هما فانصرف السيد من فوره فقال في ذلك
( أتى حسناً والحسينَ النبيُّ ... وقد جلسا حَجْرةً يلعبانِ )
( ففَدّاهما ثم حَيّاهما ... وكانا لديه بذاك المكانِ )
( فرَاحَا وتحتَهما عاتِقاه ... فنعم المَطِيَّةُ والراكبانِ )
( وليدان أمُّهما بَرّةٌ ... حَصَانٌ مُطَهَّرةٌ للحَصَان )
( وشيخُهما ابن أبي طالب ... فنِعْمَ الوَليدانِ والوالدان )
( خليليّ لا تُرْجِيا واعلما ... بأّن الهُدَى غيرُ ما تزعُمَان )
( وأنّ عَمَى الشكّ بعد اليقين ... وضَعْفَ البَصيرة بعد العِيان )
( ضلالٌ فلا تَلْجَجَا فيهما ... فبئستْ لعَمْرُكما الخَصْلتان )
( أيُرْجَى عليٌّ إمامُ الهدى ... وعثمانُ ما أعند المُرْجِيان )
( ويُرْجى ابنُ حَرْبٍ وأشياعُه ... وهُوجُ الخَوارج بالنَّهْروان )
( يكون إمامَهمُ في المَعَاد ... خبيثُ الهوى مومن الشَّيْصَبانِ )
مدح المنصور وذكر إسماعيل بن الساحر قال أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني محمد عن أبيه قال حدثني أبي وعمي عن أحمد بن إبراهيم بن سليمان بن يعقوب بن سعيد بن عمرو قال حدثنا الحارث بن عبد المطلب قال
كنت جالسا في مجلس أبي جعفر المنصور وهو بالجسر وهو قاعد مع جماعة على دجلة بالبصرة وسوار بن عبد الله العنبري قاضي البصرة جالس عنده والسيد بن محمد بين يديه ينشد قوله
( إن الاله الذي لا شيءَ يُشْبهه ... أعطاكم الملكَ للدّنيا وللدِّين )
( أعطاكم اللهُ مُلكاً لا زوالَ له ... حتى يُقادَ اليكم صاحبُ الصِّينِ )
( وصاحبُ الهند مأخوذاً برُمَّته ... وصاحبُ التُّرْك محبوساً على هُون ) والمنصور يضحك سرورا بما ينشده فحانت منه التفاتة فرأى وجه سوار يتربد غيظا ويسود حنقا ويدلك إحدى يديه بالأُخرى ويتحرق فقال له المنصور مالك أرابك شيء قال نعم هذا الرجل يعطيك بلسانه ما ليس في قلبه والله يا أمير المؤمنين ما صدقك ما في نفسه وإن الذين يواليهم لغيركم فقال المنصور مهلا هذا شاعرنا وولينا وما عرفت منه إلا صدق محبة وإخلاص نية فقال له السيد يا أمير المؤمنين والله ما تحملت غضكم لأحد وما وجدت أبوي عليه فافتتنت بهما وما زلت مشهورا بموالاتكم في أيام عدوكم فقال له صدقت قال ولكن هذا وأَهلوه أعداء الله ورسوله قديما والذين نادوا رسول الله وراء الحجرات فنزلت فيهم آية من القرآن ( أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون ) وجرى بينهما خطاب طويل فقال السيد قصيدته التي أولها
( قِفْ بنا يا صَاحِ واْرْبَعْ ... بالمَغَاني المُوحِشَاتِ )
أنشدها أحمد بن عبيد الله بن عمار عن النوفلي وأخبرنا محمد بخبره مع سوار بالقصة من ها هنا إلى آخرها وقال فيها
( يا أمينَ اللهِ يا منصورُ ... يا خيرَ الوُلاةِ )
( إنّ سوّار بن عبد الله ... من شرّ القُضاة )
( نعثليٌّ جَمَليٌّ ... لكُم غيرُ مُوَاتِ )
( جَدُّه سارقُ عَنْزٍ ... فَجْرَةً من فَجَرات )
( لرسولِ الله والقاذِفه ... بالمُنْكرَات )
( وابنُ من كان ينادي ... من وراء الحُجُراتِ )
( يا هَناةُ أخرُج إلينا ... إننا أهلُ هَنات )
( مَدْحُنا المدحُ ومَنْ نَرْمِ ... يُصَبْ بالزّفَراتِ )
( فاكْفِنِيه لا كفاه الله ... شَرَّ الطارقاتِ ) فشكاه سوار إلى أبي جعفر فأمره بأن يصير إليه معتذرا ففعل فلم يعذره فقال
( أتيتُ دعِيَّ بني العَنْبر ... أروم اعتذاراً فلم أُعْذَرِ )
( فقلتُ لنفسي وعاتبتُها ... على اللؤم في فعلها أَقْصِري )
( أيَعْتذر الحرُّ مما أتى ... إلى رجل من بَني العَنْبر )
( أبوك ابنُ سارق عَنْز النبي ... وأُمُّك بنت أبي جَحْدَر )
( ونحن على رَغْمِك الرَّافِضون ... لأهل الضَّلالة والمُنْكَر )
قال وبلغ السيد أن سوارا قد أعد جماعة يشهدون عليه بسرقة ليقطعه فشكاه إلى أبي جعفر فدعا بسوار وقال له قد عزلتك عن الحكم للسيد أو عليه فما تعرض له بسوء حتى مات
وروى عبد الله بن أبي بكر العتكي أن أبا الخلال العتكي دخل على عقبة بن سلم والسيد عنده وقد أمر له بجائزة وكان أبو الخلال شيخ العشيرة وكبيرها فقال له أيها الأمير أتعطي هذه العطايا رجلا ما يفتر عن سب أبي بكر وعمر فقال له عقبة ما علمت ذاك ولا أعطيته إلا على العشرة والمودة القديمة وما يوجبه حقه وجواره مع ما هو عليه من موالاة قوم يلزمنا حقهم ورعايتهم فقال له أبو الخلال فمره إن كان صادقا أن يمدح أبا بكر وعمر حتى نعرف براءته مما ينسب إليه من الرفض فقال قد سمعك فإن شاء فعل فقال السيد
( إذا أنا لم أحفَظ وَصَاةَ محمدٍ ... ولا عهدَه يومَ الغدِيرِ المؤكدا )
( فإنّي كمن يَشْري الضَّلالةَ بالهُدى ... تنصّر من بعد التّقى وتَهَوّدا )
( وما لي وتَيْمَ أو عَدِيَّ وإنما ... أُولو نعمتي في الله من آل أحمدا )
( تَتِمّ صلاتي بالصلاة عليهمُ ... وليستْ صلاتي بعد أن أتشهّدا )
( بكاملةٍ إن لم أُصَلِّ عليهمُ ... وأدْعُ لهم ربًّا كريماً ممجَّدا )
( بذلتُ لهم وُدّي ونُصحي ونُصرتي ... مدى الدهر ما سُمِّيتُ يا صاح سيّدا )
( وإنّ امرأً يَلْحَى على صدق وُدّهم ... أحقُّ وأَولَى فيهمُ أن يُفَنَّدا )
( فإن شئتَ فاخْتَرْ عاجلَ الغَمّ ضِلّةً ... وإلاّ فأمْسِك كي تُصانَ وتُحْمدا ) ثم نهض مغضبا فقام أبو الخلال إلى عقبة فقال أعذني من شره أعاذك الله من السوء أيها الأمير قال قد فعلت على ألا تعرض له بعدها
خبر زواجه من امرأة تميمية ومما يحكى عنه أنه اجتمع في طريقه بامرأة تميمية إباضية فأعجبها وقالت أريد أن أتزوج بك ونحن على ظهر الطريق قال يكون كنكاح أم خارجة قبل حضور ولي وشهود فاستضحكت وقالت ننظر في هذا وعلى ذلك فمن أنت فقال
( إن تَسأليني بقومي تسألي رجلاً ... في ذِرْوة العزّ من أحياء ذي يمنِ )
( حَوْليِ بها ذو كَلاعٍ في منازلها ... وذو رُعَيْنٍ وهَمْدانٌ وذو يَزَن )
( والأَزْدُ أَزْدُ عُمَانَ الأكْرَمون إذا ... عُدَّت مآثِرُهم في سالف الزمنِ )
( بانت كريمتُهم عنّي فدارهُمُ ... داري وفي الرّحْب من أوطانهم وطني )
( لي منزلان بلَحْجٍ منزلٌ وَسَطٌ ... منها ولي منزلٌ للعزّ في عدن )
( ثمَّ الوَلاء الذي أرجو النجاة به ... من كَبَّة النار للهادي أبي حسن )
فقالت قد عرفناك ولا شيء أعجب من هذا يمان وتميمية ورافضي وإباضية فكيف يجتمعان فقال بحسن رأيك في تسخو نفسك ولا يذكر أحدنا سلفا ولا مذهبا قالت أفليس التزويج إذا علم انكشف معه المستور وظهرت خفيات الأمور قال فأنا أعرض عليك أخرى قالت ما هي قال المتعة التي لا يعلم بها أحد قالت تلك أخت الزنا قال أعيذك بالله أن تكفري بالقرآن بعد الإيمان قالت فكيف قال قال الله تعال ( فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فآتُوهُنّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُم بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَة ) فقالت أستخير الله وأُقلدك إن كنت صاحب قياس ففعلت فانصرفت معه وبات معرسا بها وبلغ أهلها من الخوارج أمرها فتوعدوها بالقتل وقالوا تزوجت بكافر فجحدت ذلك ولم يعلموا بالمتعة فكانت مدة تختلف إليه على هذه السبيل من المتعة وتواصله حتى افترقا
ابن سليمان بن علي يعارضه في مذهبه وقال الحسن بن علي بن المغيرة حدثني أبي قال كنت مع السيد على باب عقبة بن سلم ومعنا ابن لسليمان بن علي ننتظره وقد أسرج له ليركب إذ قال ابن سليمان بن علي يعرض بالسيد أشعر الناس والله الذي يقول
( محمد خيرُ من يمشي على قَدمٍ ... وصاحِباه وعثمانُ بن عفَّانَا )
فوثب السيد وقال أشعر والله منه الذي يقول
( سائِلْ قريشاً إذا ما كنتَ ذا عَمَهٍ ... مَنْ كان أثبتَها في الدِّين أوتادَا )
( من كان أعلَمها عِلماً وأحلَمها ... حلماً وأصدقَها قَولاً وميعادا )
( إن يَصْدُقُوك فلن يَعْدُوا أبا حسنٍ ... إن أنتَ لم تَلْق للأبرار حُسّادا ) ثم أقبل على الهاشمي فقال يا فتى نعم الخلف أنت لشرف سلفك أراك تهدم شرفك وتثلب سلفك وتسعى بالعداوة على أهلك وتفضل من ليس أصلك من أصله على من فضلك من فضله وسأخبر أمير المؤمنين عنك بذا حتى يضعك فوثب الفتى خجلا ولم ينتظر عقبة بن سلم وكتب إليه صاحب خبره بما جرى عند الركوبة حتى خرجت الجائزة للسيد
أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا ابن القاسم البزي عن إسحاق بن محمد النخعي عن عقبة بن مالك الديلي عن الحسن بن علي بن أبي حرب بن أبي الأسود الدؤلي قال كنا جلوساً عند أبي عمرو بن العلاء فتذاكرنا السيد فجاء فجلس وخضنا في ذكر الزرع والنخل ساعة فنهض فقلنا يا أبا هاشم مم القيام فقال
( إني لأكره أن أُطيل بمجلس ... لا ذكرَ فيه لفضل آل محمد )
( لا ذكر فيه لأحمد ووصيّه ... وبَنِيه ذلك مجلسٌ نَطِفٌ ردِي )
( إن الذي ينساهُمُ في مجلس ... حتّى يفارقَه لغيرُ مسَدَّد )
العسس يحبس السيد الحميري وروى أبو سليمان الناجي أن السيد قدم الأهواز وأبو بجير بن سماك
الأسدي يتولاها وكان له صديقا وكان لأبي بجير مولى يقال له يزيد بن مذعور يحفظ شعر السيد ينشده أبا بجير وكان أبو بجير يتشيع فذهب السيد إلى قوم من إخوانه بالأهواز فنزل بهم وشرب عندهم فلما أمسى انصرف فأخذه العسس فحبس فكتب من غده بهذه الأبيات وبعث بها إلى يزيد بن مذعور
فدخل على أبي بجير وقال قد جنى عليك صاحب عسسك ما لا قوام لك به قال وما ذلك قال اسمع هذه الأبيات كتبها السيد من الحبس فأنشده يقول
( قِفْ بالدَّيار وحيِّها يا مَرْبَعُ ... واسأل وكيف يُجيب من لا يَسمعُ )
( إنّ الدِّيارَ خَلَتْ وليس بجوِّها ... إلاّ الضَّوابحُ والحَمامُ الوُقَّع )
( ولقد تكون بها أوانسُ كالدُّمَى ... جُمْلٌ وعَزَّةُ والرَّبابُ وبَوْزَع )
( حورٌ نواعمُ لا تُرى في مثلها ... أمثالهُن من الصيانة أرْبَع )
( فَعَرِينَ بعد تألُّفٍ وتَجمُّع ... والدَّهرُ صاحِ مُشَتِّتٌ ما تَجمع )
( فاسلمَ فإنّك قد نزلتَ بمنزل ... عند الأمير تَضُرُّ فيه وتَنْفَع )
( تُؤْتَى هواك إذا نطقتَ بحاجةٍ ... فيه وتَشْفَع عنده فيُشَفِّع )
( قلْ للأمير إذا ظفِرتَ بخَلْوة ... منه ولم يك عنده من يَسمع )
( هَبْ لي الذي أحببته في أحمد ... وبَنِيه إنك حاصدٌ ما تَزْرَع )
( يَخْتصّ آلَ محمد بمحبّة ... في الصدر قد طُوِيَتْ عليها الأضْلُع ) في هذا الغناء لسعيد
وحكى ابن الساحر أن السيد دعي لشهادة عند سوار القاضي فقال لصاحب الدعوى أعفني من الشهادة عند سوار فلم يعفه صاحبها منها
وطالبه بإقامتها عند سوار فلما حضر عنده وشهد قال له ألم أعرفك وتعرفني وكيف مع معرفتك بي تقدم على الشهادة عندي فقال له إني تخوفت إكراهه ولقد افتديت شهادتي عندك بمال فلم يقبل مني فأقمتها فلا يقبل الله لك صرفا ولا عدلا إن قبلتها وقام من عنده ولم يقدر سوار له على شيء لما تقدم به المنصور إليه في أمره واغتاظ غيظا شديدا وانصرف من مجلسه فلم يقض يومئذ بين اثنين ثم إن سوارا اعتل علته التي مات فيها فلم يقدر السيد على هجائه في حياته لنهي المنصور إياه عن ذلك ومات سوار فأخرج عشيا وحفر له فوقع الحفر في موضع كنيف وكان بين الأزد وبين تميم عداوة فمات عقب موته عباد بن حبيب بن المهلب فهجا السيد سوارا في قصيدة رثى بها عبادا ودفعها إلى نوائح الأزد لما بينهم وبين تميم من العداوة ولقربهم من دار سوار ينحن بها وأولها
( يا مَنْ غدا حاملاً جُثمانَ سوّارِ ... من داره ظاعناً منها إلى النارِ )
( لا قدّس اللهُ رُوحاً كان هيكلَها ... فقد مضتْ بعظيم الخِزْي والعار )
( حتى هَوَتْ قَعْرَ بُرْهُوتٍ مُعَذَّبةً ... وجسمُه في كنيف بين أقذار )
( لقد رأيتُ من الرحمن مُعْجِبةً ... فيه وأحكامُه تجري بمقدار )
( فاذهَبْ عليك من الرحمن بَهْلَتُه ... يا شرَّ حيٍّ براه الخالقُ الباري )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني علي بن محمد البقال قال حدثنا شيبان بن محمد الحراني وكان يلقب بعوضة وصار من سادات الأزد قال
كان السيد جاري وكان أدلم وكان ينادم فتيانا من فتيان الحي فيهم فتى مثله أدلم غليظ الأنف والشفتين مزنج الخلقة وكان السيد من أنتن الناس إبطين وكانا يتمازحان فيقول له السيد أنت زنجي الأنف والشفتين ويقول الفتى للسيد أنت زنجي اللون والإبطين فقال السيد
( أَعاركَ يومَ بِعْناه رَبَاحٌ ... مشافرَه وأنفَك ذا القبيحَا )
( وكانت حِصّتي إبطَيَّ منه ... ولوناً حالكاً أمسى فَضُوحا )
( فهل لك في مُبَادَلَتِيكَ إبْطِي ... بأنفك تَحمدُ البيعَ الرَّبيحا )
( فإنّك أقبحُ الفتيان أنْفاً ... وإبْطِي أنتنُ الآباط رِيحا )
بعض من هجائه ومدحه وغزله أخبرني أحمد قال حدثني شيبان قال مات منا رجل موسر وخلف ابنا له فورث ماله وأتلفه بالإِسراف وأقبل على الفساد واللهو وقد تزوج امرأة تسمى ليلى واجتمع على السيد وكان من أظرف الناس وكان الفتى لا يصبر عنه وأنفق عليه مالا كثيرا وكانت ليلى تعذله على إسرافه وتقول له كأني بك قد افتقرت فلم يغن عنك شيئا فهجاها السيد وكان مما قال فيها
( أقول يا ليتَ ليلى في يَدَيْ حَنِقٍ ... من العداوة منْ أعدى أعاديها )
( يعلو بها فوق رَعْنٍ ثم يَحْدِرها ... في هُوّة فَتَدهْدى يومَها فيها )
( أوليتَها في غِمار البحر قد عصفت ... فيه الرِّياح فهاجت من أوَاذِيها )
( أوليتَها قُرِنَت يوماً إلى فرسِي ... قد شُدَّ منها إلى هاديه هادِيها )
( حتى يُرَى لحمُها من حُضْرِه زِيَماً ... وقد أتى القومَ بعد الموت ناعيها )
( فمَنْ بكاها فلا جفَّتْ مدامعُه ... لا أَسْخن اللهُ إلاّ عينَ باكيها )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي وعبد الحميد بن عقبة قالا حدثنا الحسن بن علي بن المغيرة الكسلان عن محمد بن كناسة قال أهدى بعض ولاة الكوفة إلى السيد رداء عدنيا فكتب إليه السيد فقال
( وقد أتانا رداءٌ من هَدِيّتكم ... فلا عَدِمتُك طولَ الدهرِ مِنْ والِ )
( هو الجمالُ جزاك الله صالحةً ... لو أنّه كان موصولاً بِسرْبال ) فبعث إليه بخلعة تامة وفرس جواد وقال يقطع عتاب أبي هاشم واستزادته إيانا
حدثني عمي قال حدثنا الكراني عن بعض البصريين عن سليمان بن أرقم قال كنت مع السيد فمر بقاص على باب أبي سفيان بن العلاء وهو يقول يوزن رسول الله القيامة في كفة بأمته أجمع فيرجع بهم ثم يؤتى بفلان فيوزن بهم فيرجح ثم يؤتى بفلان فيوزن بهم فيرجح فأقبل على أبي سفيان فقال لعمري إن رسول اللهليرجح على أمته في الفضل والحديث حق وإنما رجح الآخران الناس في سيئاتهم لأن من سن سنة سيئة فعمل بها بعده كان عليه وزرها ووزر من عمل بها قال فما أجابه أحد فمضى فلم يبق أحد من القوم إلا سبه
وقال أبو جعفر الأعرج حدثني إسماعيل بن الساحر قال خرجت من منزل نصر بن مسعود أنا وكاتب عقبة بن سلم والسيد ونحن سكارى فلما كنا بزهران لقيتنا بنت الفجاءة بن عمرو بن قطري بن الفجاءة وكانت امرأة برزة حسناء فصيحة فواقفها السيد وتخاطب عليها وأنشدها من شعره بتجميش فأعجب كل واحد منهما صاحبه فقال السيد
( من ناكِثين وقاسطين الأرْوعُ ... )
( حول الأمين وقال هاتِ ليَسمعوا ... )
( قم يابن مَذْعورٍ فأنْشِد نكّسوا ... خُضُعَ الرّقاب بأعين لا تُرْفع )
( لولا حِذارُ أبي بجير أظهروا ... شنآنهم وتفرّقوا وتصدّعوا )
( لا تجزَعوا فلقد صبَرْنا فاصبروا ... سبعين عاماً والأنوفُ تُجَدّع )
( إذ لا يزال يقوم كلَّ عَرُوبةٍ ... منكم بصاحبنا خطيبٌ مِصْقع )
( مُسحَنْفِرٌ في غيّه مُتَتايعٌ ... في الشَّتم مثّلَه بخيل يسجع )
( ليَسُرَّ مخلوقاً ويُسْخِط خالقاً ... إن الشقيّ بكلّ شرًّ مُولَعُ )
فلما سمعها أبو بجير دعا صاحب عسسه فشتمه وقال جنيت علي ما لا يد لي به اذهب صاغرا إلى الحبس وقل أيكم أبو هاشم فإذا أجابك فأخرجه واحمله على دابتك وامش معه صاغرا حتى تأتيني به ففعل فأبى السيد ولم يجبه إلى الخروج إلا بعد أن يطلق له كل من أخذ معه فرجع إلى أبي بجير فأخبره فقال الحمد لله الذي لم يقل أخرجهم وأعط كل واحد منهم مالا فما كنا نقدر على خلافه افعل ما أحب برغم أنفك الآن
فمضى فخلى سبيله وسبيل كل من كان معه ممن أخذ في تلك الليلة وأُتي به إلى أبي بجير فتناوله بلسانه وقال قدمت علينا فلم تأتنا وأتيت بعض أصحابك الفساق وشربت ما حرم عليك حتى جرى ما جرى فاعتذر من ذلك إليه فأمر له أبو بجير بجائزة سنية وحمله وأقام عنده مدة
قال النوفلي وحدثني أبي أن جماعة من أهل الثغور قدموا على أبي بجير بتسبيب بهم فأطلقهم ثم جاؤوه فعاتبوه على التشيع وسألوه الرجوع فغضب من ذلك ودعا بمولاه يزيد بن مذعور فقال أنشدني ويلك لأبي هاشم فأنشده قوله
( يا صاحبيّ لدِمْنَتَيْن عفاهما ... مَرُّ الرّياح عليهما فمحاهما ) حتى فرغ ثم قال هات النونية فأنشده
( يا صاحبيّ تَروَّحَا وذَراني ... ليس الخليُّ كمُسْعَر الأحزانِ ) فلما فرغ قال أنشدني الدماغة الرائية فأنشده إياها فلما فرغ أقبل عليه الثغريون فقالوا له ما أعتبتنا فيما عاتبناك عليه فقال يا حمير هل في الجواب أكثر مما سمعتم والله لولا أني لا أعلم كيف يقع فعلي من أمير المؤمنين لضربت أعناقكم قوموا إلى غير حفظ الله فقاموا وبلغ السيد الخبر فقال
( إذا قال الأمير أبو بجيرٍ ... أخو أسدٍ لمنشده يَزيدَا )
( طَرِبتُ إلى الكرام فهاتِ فيهم ... مديحاً من مديحك أو نشيدا )
( رأيتَ لمن بحضرته وجُوهاً ... من الشُكَّاك والمُرْجِين سُودا )
( كأنّ يزيد يُنْشِد بامتداح ... أبا حسنٍ نَصارى أو يهودا )
وروى أبو داود المسترق أن السيد والعبدي اجتمعا فأنشد السيد
( إني أدِين بما دان الوَصِيّ به ... يوم الخُرَيْبةِ من قتل المُحِلِّينا )
( وبالذي دان يومَ النهروان به ... وشاركت كفَّه كفّي بِصفِّينا ) فقال له العبدي أخطأت لو شاركت كفك كفه كنت مثله ولكن قل تابعت كفي كفه لتكون تابعا لا شريكا فكان السيد بعد ذلك يقول أنا أشعر الناس إلا العبدي
أبو بجير يهين السيد الحميري وقال إسحاق النخعي عن عبد الحميد بن عقبة عن أبي جعفر الأعرج عن إسماعيل بن الساحر قال كنت مع السيد وقد اكترينا سفينة إلى الأهواز فجلس فيها معنا قومٌ شراة فجعلوا ينالون من عثمان فأخرج السيد رأسه إليهم وقال
( شَفَيْتَ من نَعْثلٍ في نَحْت أَثْلته ... فاعْمِد هُدِيتَ إلى نَحْتِ الغَويَّيْنِ )
( اِعمِد هُدِيتَ إلى نحت اللّذيْن هما ... كانَا عن الشرّ لو شاءا غنيَّيْن )
قال إسماعيل فلما قدمنا الأهواز قدم السيد وقد سكر فأُتي به أبا بجير ابن سماك الأسدي وكان ابن النجاشي عند ابن سماك بعد العشاء الآخرة وكان يعرفه باسمه ولم يعرفه فقال له يا شيخ السوء تخرج سكران في هذا
الوقت لأُحسنن أدبك فقال له والله لا فعلت ولتكرمني ولتخلعن علي وتحملني وتجيزني قال أو تهزأ أيضا قال لا والله ثم اندفع ينشده فقال
( من كان معتذِراً من شَتْمه عمراً ... فابنُ النَّجاشيّ منه غيرُ مُعْتذِرِ )
( وابنُ النجاشِي بَرَاءٌ غيرَ محتشم ... في دينه من أبي بكر ومن عمرِ ) ثم أنشده قوله
( إحداهما نّمَّتْ عليه حديثَه ... وبَغَتْ عليه نفسه إحداهما )
( فهما اللتان سمِعتُ ربَّ محمد ... في الذكر قصَّ على العباد نَباهما ) فقال أبو هاشم فقال نعم قال ارتفع فحمله وأجازه وقال والله لأُصدقن قولك في جميع ما حلفت عليه
قال إسماعيل رأى أبو بجير السيد متغير اللون فسأله عن حاله فقال فقدت الشراب الذي ألفته لكراهة الأمير إياه قال فاشربه فإننا نحتمله لك قال ليس عندي قال لكاتبه اكتب له بمائتي دورق ميبختج فقال له السيد ليس هذا من البلاغة قال وما هي قال البلاغة أن تأتي من الكلام بما يحتاج إليه وتدع ما يستغنى عنه قال وكيف
ذلك قال اكتب بمائتي دورق مي ولا تكتب بختج فإنك تستغني عنه فضحك ثم أمر فكتب له بذلك قال والمي النبيذ
قال إسماعيل وبلغ السيد وهو بالأهواز أن أبا بجير قد أشرف على الموت فأظهرت المرجئة الشماتة به فخرج السيد متحرقا حتى اكترى سفينة وخرج إليها وأنشأ يقول
( تَبَاشَر أهلُ تَدْمُرَ إذا أتاهم ... بأمر أميرنا لهمُ بَشيرُ )
( ولا لأميرِنا ذنبٌ إليهم ... صغيرٌ في الحياة ولا كبير )
( سوى حبِّ النبيّ وأَقْرَبِيه ... ومولاهم بحبِّهمُ جدير )
( وقالوا لي لكَيما يُحزِنوني ... ولكن قولهم إفْكٌ وزور )
( لقد أمسى أخوك أبو بجير ... بمنزلة يُزار ولا يَزور )
( وظلّت شيعةُ الهادي عليٍّ ... كأنّ الأرض تحتهمُ تَمور )
( فبِتُّ كأنَّني مما رَمَوْني ... به في قِدّ ذي حَلَقٍ أسيرُ )
( كأنّ مدامعي وجفونَ عيني ... تُوَخَّز بالقَتاد فهنّ عُور )
( أقول عَليَّ للرحمن نّذْرٌ ... صحيحٌ حيث تُحْتَبس النّذور )
( بمكة إن لقيتُ أبا بُجَيْرٍ ... صحيحاً والّلواءُ له يسير ) وهي قصيدة طويلة
وروى محمد بن عاصم عن أبي داود المسترق عن السيد أنه رأى النبي النوم فاستنشده فأنشده قوله
( لأُمّ عمرو بالّلوى مَرْبَعُ ... طامِسةٌ أعلامُه بَلْقَعُ ) حتى انتهى إلى قوله
( قالوا له لو شئتَ أَعْلَمْتنا ... إلى مَنِ الغايَةُ والمَفْزعُ )
فقال حسبك ثم نفض يده وقال قد والله أعلمتهم
مرضه ووفاته وروى أبو داود وإسماعيل بن الساحر أنهما حضرا السيد عند وفاته بواسط وقد أصابه شرى وكرب فجلس ثم قال اللهم أهكذا جزائي في حب آل محمد قال فكأنها كانت نارا فطفئت عنه
وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي بإسناد له لم يحضرني وأنا أُخرجه إن شاء الله تعالى قال حدثني من حضر السيد وقد احتضر فقال
( بَرئتُ إلى الإِله من ابن أرْوَى ... ومن دِين الخوارج أجمعينا )
( ومن فُعَلٍ بَرِئتُ ومن فُعَيْل ... غداةَ دُعِي أميرَ المؤمنينا ) ثم كأن نفسه كانت حصاة فسقطت
أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة عن أبي الهذيل العلاف عن أبي جعفر المنصور قال بلغني أن السيد مات بواسط فلم يدفنوه والله لئن تحقق عندي لأحرقنها
ووجدت في بعض الكتب حدثني محمد بن يحيى اللؤلئي قال حدثني محمد بن عباد بن صهيب عن أبيه قال
كنت عند جعفر بن محمد فأتاه نعي السيد فدعا له وترحم عليه فقال رجل يا بن رسول الله تدعو له وهو يشرب الخمر ويؤمن بالرجعة فقال حدثني أبي عن جدي أن محبي آل محمد لا يموتون إلا تائبين وقد تاب ورفع مصلى كانت تحته فأخرج كتابا من السيد يعرفه فيه أنه قد تاب ويسأله الدعاء له
وذكر محمد بن إدريس العتبي أن معاذ بن يزيد الحميري حدثه أن السيد عاش إلى خلافة هارون الرشيد وفي أيامه مات وأنه مدحه بقصيدتين فأمر له ببدرتين ففرقهما فبلغ ذلك الرشيد فقال أحسب أبا هاشم تورع عن قبول جوائزنا
أخبرني ابن عمار قال حدثنا يعقوب بن نعيم قال حدثنا إبراهيم بن عبد الله الطلحي قال حدثني إسحاق بن محمد بن بشير بن عمار الصيرفي عن جده بشير بن عمار قال حضرت وفاة السيد في الرميلة ببغداد فوجه رسولا إلى صف الجزارين الكوفيين يعلمهم بحاله ووفاته فغلط الرسول فذهب إلى صف السموسين فشتموه ولعنوه فعلم أنه قد غلط فعاد إلى الكوفيين يعلمهم بحاله ووفاته فوافاه سبعون كفنا قال وحضرناه جميعا وإنه ليتحسر تحسرا شديدا وإن وجهه لأسود كالقار وما يتكلم إلى أن أفاق إفاقة وفتح عينيه فنظر إلى ناحية القبلة ثم قال يا أمير المؤمنين أتفعل هذا بوليك قالها ثلاث مرات مرة بعد أخرى
قال فتجلى والله في جبينه عرق بياض فما زال يتسع ويلبس وجهه حتى صار كله كالبدر وتوفي فأخذنا في جهازه ودفناه في الجنينة ببغداد وذلك في خلافة الرشيد
أخبار عبد الله بن علقمة وحبيشة صوت
من المائة المختارة ( فلا زِلْنَ حَسْرَى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلدٍ ناءٍ قليلِ الأصادقِ )
( ولا ذَنبَ لي إذ قلتُ إذ نحن جِيرةٌ ... أَثِيبي بوُدٍّ قبل إحدى البوائق )
عروضه من الطويل
قوله فلا زلن حسرى دعاء على الإبل التي ظعنت بها وأبعدتها عنه وحسرى قد حسرن أي بلغ منهن الجهد فلم يبق فيهم بقية يقال حسر ناقته فهو يحسرها وهي حسرى والذكر حسير قال الله عز و جل ( يَنْقَلِبْ إلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ) وفي الحديث فإن أتعبتها حسرتها والظلع في كل شيء أن تألم رجله فلا يقدر أن يمشي عليها فيغمز في مشيه كالأعرج إذا مشى ويقال ظلع فهو ظالع والنائي البعيد والنية الناحية التي تنوي إليها والنوى البعد والتنائي التباعد والبوائق الحوادث التي تأتي بما يحذر بغتة وهي مثل المصائب والنوائب
البيت الأول من الشعر لكثير ويقال إنه لأبي جندب الهذلي والبيت
الثاني لرجل من كنانة ثم من بني جذيمة وزعم ابن دأب أنه عبد الله بن علقمة أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة وقيل أيضا إنه يقال له عمرو الذي قتله خالد بن الوليد في بعض مغازيه التي وجهه رسول الله
الغناء في اللحن المختار لمتيم مولاة علي بن هشام وأم أولاده ولحنها رمل بالبنصر من رواية إسحاق وعمرو وهو من الأرمال النادرة المختارة وفيه خفيف ثقيل يقال إنه لحسين بن محرز ويقال إنه قديم من غناء أهل مكة
عبد الله بن علقمة وحبيشة أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال حدثنا العباس بن بكار قال حدثنا ابن دأب قال كان من حديث عبد الله بن علقمة أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة أنه خرج مع أمه وهو مع ذلك غلام يفعة دون المحتلم لتزور جارة لها وكان لها بنت يقال لها حبيشة بنت حبيش أحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة فلما رآها عبد الله بن علقمة أعجبته ووقعت في نفسه وانصرف وترك أمه عند جارتها فلبثت عندها يومين
ثم أتاها عبد الله بن علقمة ليرجعها إلى منزلها فوجد حبيشة قد زينت لأمر كان في الحي فازداد بها عجبا وانصرف بأمه في غداة تمطر فمشى معها شيئا ثم أنشأ يقول
( وما أدري بَلَى إنّي لأدري ... أصَوْبُ القَطْر أحسنُ أم حُبَيْشُ )
( حُبَيْشَةُ والذي خلق الهَدَايا ... وما عن بُعْدها للصَّبّ عيشُ ) فسمعت ذلك أمه فتغافلت عنه وكرهت قوله ثم مشيا مليا فإذا هو بظبي على ربوة من الأرض فقال
( يا أُمَّتاً أَخْبريني غيرَ كاذبةٍ ... وما يُريد مَسُولُ الحقِّ بالكذب )
( أتلك أحسنُ أم ظبيٌ برابيةٍ ... لا بل حُبَيْشةُ في عيني وفي أَرَبي ) فزجرته أُمه وقالت له ما أنت وهذا نزوجك بنت عمك فهي أجمل من تلك وأتت امرأة عمه فأخبرتها خبره وقالت زيني ابنتك له ففعلت وأدخلتها عليه فلما رآها أطرق فقالت له أمه أيهما الآن أحسن فقال
( إذا غُيِّبتْ عنِّي حُبيشةُ مرّةً ... من الدّهر لم أمْلِك عزاءً ولا صبرا )
( كأنّ الحشى حَرُّ السَّعير يَحُشّه ... وَقود الغَضَى والقلبُ مستعِرا ) وجعل يراسل الجاريه وتراسله حتى علقته كما علقها وكثر قوله للشعر فيها فمن ذلك قال
( حُبَيشةُ هل جَدّي وجَدُّك جامعٌ ... بشَمْلِكُمُ شَمْلي وأهلِكُمُ أهلي )
( وهل أنا ملتفٌّ بثوبِك مَرّةً ... بصَحْراء بين الأَلْيَتَيْن إلى النخل )
( وهل أَشْتفِي من رِيِق ثغرِكِ مَرّةً ... كراحٍ ومسكٍ خالطا ضَرَبَ النَّحْل )
فلما بلغ أهلها خبرهما حجبوها عنه مدة وهو يزيد غراما بها ويكثر قول الشعر فيها فأتوها فقالوا لها عديه السرحة فإذا أتاك فقولي له نشدتك الله إن كنت أحببتني فوالله ما على الأرض شيء أبغض إلي منك ونحن قريب نستمع ما تقولين
فوعدته وجلسوا قريبا يستمعون وجلست عند السرحة وأقبل عبد الله لوعدها فلما دنا منها دمعت عينها والتفتت إلى حيث أهلها جلوس فعرف أنهم قريب فرجع وبلغه ما قالوا لها أن تقوله فأنشأ يقول
( لو قلتِ ما قالوا لَزِدتُ جَوًى بكم ... على أنه لم يَبْقِ ستر ولا صبرُ )
( ولم يك حبّي عن نوالٍ بذلتِه ... فيُسْلِيَني عنه التجهُّمُ والهجرُ )
( وما أنسَ مِ الأشياء لا أنسَ دمعَها ... ونظرتَها حتى يُغَيّبني القبرُ )
سرية خالد بن الوليد إلى بني عامر ( وبعث النبي أثر ذلك خالد بن الوليد إلى بني عامر بن عبد مناة ابن كنانة وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام فإن أجابوه وإلا قاتلهم فصبحهم خالد بن الوليد بالغميصاء وقد سمعوا به فخافوه فظعنوا وكانوا قتلوا أخاه الفاكه بن الوليد وعمه الفاكه بن المغيرة في الجاهلية وكانوا من أشد حي في كنانة بأسا يسمون لعقة الدم فلما صبحهم خالد ومعه بنو
سليم وكانت بنو سليم طلبتهم بمالك بن خالد بن صخر بن الشريد وإخوته كرز وعمرو والحارث وكانوا قتلوهم في موطن واحد فلما صبحهم خالد في ذلك اليوم ورأوا معه بني سليم زادهم ذلك نفورا فقال لهم خالد أسلموا تسلموا قالوا نحن قوم مسلمون قال فألقوا سلاحكم وانزلوا قالوا لا والله فقال جذيمة بن الحارث أحد بني أقرم يا قوم لا تضعوا سلاحكم والله ما بعد وضع السلاح إلا القتل قالوا لا والله لا نلقي سلاحنا ولا ننزل ما نحن منك ولا لمن معك بآمنين قال خالد فلا أمان لكم إن لم تنزلوا فنزلت فرقة منهم فأسرهم وتفرق بقية القوم فرقتين فأصعدت فرقة وسفلت فرقة أخرى
قال ابن دأب فأخبرني من لا أتهم عن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي قال كنت يومئذ في جند خالد فبعثنا في أثر ظعن مصعدة يسوق بهن فتية فقال أدركوا أولئك قال فخرجنا في أثرهم حتى أدركناهم وقد مضوا ووقف لنا غلام شاب على الطريق
فلما انتهينا إليه جعل يقاتلنا وهو يقول
( بَيِّنَّ أطرافَ الذُّيول وارْبَعْنْ ... مَشْيَ حَيِيِّاتٍ كأن لم يَفْزَعْنْ )
( إن يُمْنَعِ اليومَ نساءٌ تُمْنَعْنْ ... ) فقاتلنا طويلا فقتلناه ومضينا حتى لحقنا الظعن فخرج إلينا غلام كأنه الأول فجعل يقاتلنا ويقول
( أُقسم ما إن خَادِرٌ ذو لِبْدَه ... يزأر بين أيْكةٍ ووَهْدَهْ )
( يفرِس شُبّانَ الرجال وحْدَه ... بأصدق الغداةَ منّي نَجْدَهْ ) فقاتلنا حتى قتلناه وأدركنا الظعن فأخذناهن فإذا فيهن غلام وضيء به صفرة في لونه كالمنهوك فربطناه بحبل وقدمناه لنقتله فقال لنا هل لكم في خير قلنا وما هو قال تدركون بي الظعن أسفل الوادي ثم تقتلونني قلنا نفعل فخرجنا حتى نعارض الظعن أسفل الوادي فلما كان بحيث يسمعن الصوت نادى بأعلى صوته اسلمي حبيش عند نفاد العيش فأقبلت إليه جارية بيضاء حسناء فقالت وأنت فاسلم على كثرة الأعداء وشدة البلاء فقال سلام عليكم دهرا وإن بقيت عصرا قالت وأنت سلام عليك عشرا وشفعا تترى وثلاثا وترا فقال
( إن يَقْتلوني يا حبيشُ فلم يَدَعْ ... هواك لهم منّي سوى غُلّة الصدر )
( وأنتِ التي أخليتِ لحميَ من دمي ... وعظمي وأسبلتِ الدموعَ على نحري ) فقالت له
( ونحن بكينا من فراقك مرّةً ... وأُخرى وآسيْناك في العسر واليسر )
( وأنت فلا تَبْعَدْ فنعم فتى الهوى ... جميلُ العفاف في المودّة والسّتر ) فقال لها
( أرَيْتَكِ إن طالبتُكم فوجدتُم ... بحَليةَ أو أدركتُكم بالخَوانِق )
( ألم يك حقًّا أن يُنَوَّل عاشقٌ ... تكلَّف إدلاجَ السُّرى والودائقِ ) فقالت بلى والله فقال
( فلا ذنبَ لي إذ قلتُ إذ نحن جيرةٌ ... أثِيبي بودٍّ قبل إِحدى البوائقِ )
( أثيبي بودّ قبل أن تَشْحَط النّوى ... ويَنْأى خليطٌ بالحبيب المفارق )
قال ابن أبي حدرد فضربنا عنقه فتقحمت الجارية من خدرها حتى أتت نحوه فالتقمت فاه فنزعنا منها رأسه وإنها لتكسع بنفسها حتى ماتت مكانها وأفلت من القوم غلام من بني أقرم يقال له السميدع حتى اقتحم على رسول الله بما صنع خالد وشكاه
علي يدي أهل قتلى خالد قال ابن دأب فأخبرني صالح بن كيسان أن رسول الله هل أنكر عليه أحد ما صنع فقال نعم رجل أصفر ربعة ورجل أحمر طويل فقال عمر أنا والله يا رسول الله أعرفهما أما الأول فهو ابني وصفته وأما الثاني فهو سالم مولى أبي حذيفة
وكان خالد قد أمر كل من أسر أسيرا أن يضرب عنقه فأطلق عبد الله بن عمر وسالم مولى أبي حذيفة أسيرين كانا معهما
فبعث رسول الله رضي الله عنه بعد فراغه من حنين وبعث معه بإبل وورق وأمره أن يديهم فوداهم ثم رجع إلى رسول الله فسأله فقال علي قدمت عليهم فقلت لهم هل لكم أن تقبلوا هذا الجمل بما أصيب منكم من القتلى والجرحى وتحللوا رسول الله نعم فقلت لهم فهل لكم أن تقبلوا الثاني بما دخلكم من الروع والفزع قالوا نعم فقلت لهم فهل لكم أن تقبلوا الثالث وتحللوا رسول الله مما علم ومما لم يعلم قالوا نعم قال فدفعته إليهم وجعلت أديهم حتى إني لأدي ميلغة الكلب وفضلت فضلة فدفعتها إليهم فقال رسول الله
أفقبلوها قال نعم قال فوالذي أنا عبده لهي أحب إلي من حمر النعم
وقالت سلمى بنت عميس
( وكم غادروا يومَ الغُمَيْصاء من فتىً ... أُصِيب فلم يَجْرَح وقد كان جارحا )
( ومن سيّدٍ كهل عليه مَهابةٌ ... أُصيب ولمّا يَعْلُه الشيبُ واضحا )
( أحاطت بخُطّابِ الأَيامى وطلَّقت ... غَداتَئِذٍ من كان منهنّ ناكحا )
( ولولا مقالُ القوم للقوم أسلِموا ... للاقَتْ سُلَيمٌ يوم ذلك ناطحا )
قريش وبنو عامر قال ابن دأب وأما سبب قتلهم القرشيين فإنه كان نفر من قريش بضعة عشر أقبلوا من اليمن حتى نزلوا على ماء من مياه بني عامر بن عبد مناة ابن كنانة وكان يقال لهم لعقة الدم وكانوا ذوي بأس شديد فجاءت إليهم بنو عامر فقالوا للقرشيين إياكم أن يكون معكم رجل من فهم لأنه كان له عندهم ذحل قالوا لا والله ما هو معنا وهو معهم فلما راحوا أدركهم العامريون ففتشوهم فوجدوا الفهمي معهم في رحالهم فقتلوه وقتلوهم وأخذوا أموالهم فقال راجزهم
( إنّ قريشاً غَدَرتْ وعادَهْ ... نحن قتلنا منهمُ بِغَادَهْ )
( عشرين كهلاً ما لهم زيادَهْ ... ) وكان فيمن قتل يومئذ عفان بن أبي العاصي أبو عثمان بن عفان وعوف ابن عوف أبو عبد الرحمن بن عوف والفاكه بن المغيرة والفاكه بن الوليد بن
المغيرة فأرادت قريش قتالهم حتى خذلتهم بنو الحارث بن عبد مناة فلم يفعلوا شيئا وكان خالد بن عبيد الله أحد بني الحارث بن عبد مناة فيمن حضر الوقعة هو وضرار فأشار إلى ذلك ضرار بن الخطاب بقوله
( دعوتُ إلى خُطَّةٍ خالداً ... من المجد ضيَّعها خالدُ )
( فوالله أدري أضَاهيَ بها ... بَنِي العَمَ أم صدرهُ باردُ )
( ولو خالدٌ عاد في مثلها ... لتابَعه عُنُقٌ وارِد ) وقال ضرار أيضا
( أرى ابْنَيْ لُؤَيٍّ أسرَعا أن تَسالما ... وقد سلكت أبناؤها كلَّ مَسْلَك )
( فإن أنتُم لم تَثْأَروا برجالكم ... فَدُوكوا الذي أنتم عليه بِمدْوَك )
( فإنّ أداةَ الحرب ما قد جمعتُم ... ومن يَتَّقِ الأقوامَ بالشرّ يُتْركِ )
سرايا النبي ص إلى قبائل كنانة فلما كان يومُ فتح مكة بعث رسول الله بالجيوش إلى قبائل بني كنانة حوله فبعث إلى بني ضمرة نميلة بن عبد الله الليثي وإلى بني الدئل عمرو ابن أمية الضمري وبعث إلى بني مدلج عياش بن أبي ربيعة المخزومي
وبعث إلى بني بغيض ومحارب بن فهر عبد الله بن نهيك أحد بني مالك بن حسل وبعث إلى بني عامر بن عبد مناة خالدا
فوافاهم خالد بماء يقال له الغميصاء وقد كان خبره سقط إليهم فمضى منهم سلف قتله بقوم منهم يقال لهم بنو قيس بن عامر وبنو قعين بن عامر وهم خير القوم وأشرفهم فأصيب من أصيب فلما أقبل خالد ودخل المدينة قال له النبي خالد ما دعاك إلى هذا قال يا رسول الله آيات سمعتهن أنزلت عليك قال وما هي قال قول الله عز ذكره ( قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ) وجاءني ابن أصرم فقال لي إن رسول الله أن تقاتل فحينئذ بعث رسول الله
أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا سعيد بن أبي نصر قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن رجل من مزينة يقال له ابن عاصم عن أبيه قال بعثنا رسول الله سرية وأمرنا ألا نقتل أحدا إن رأينا مسجدا أو سمعنا أذانا قال وكيع وأخبرني أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا إبراهيم بن بشار الرمادي قال حدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن نوفل عن ابن عاصم هذا عن أبيه بهذا الحديث قال فبينا نحن نسير إذا بفتى يسوق ظعائن فعرضنا عليه الإسلام فإذا هو لا يعرفه فقال ما أنتم صانعون بي إن لم أسلم قلنا نحن قاتلوك قال فدعوني ألحق هذه الظعائن فتركناه فأتى هودجا منها وأدخل رأسه فيه وقال اسلمي حبيش قبل نفاد العيش فقالت وأنت فاسلم تسعا وترا وثمانيا تترى وعشرا أخرى
فقال لها
( فلا ذنبَ لي قد قلتُ إذ نحن جيرةٌ ... أثِيبي بوُدٍّ قبل إحدى البوائقِ )
( أثيبي بودّ قبل أن تَشْحَط النَّوَى ... ويَنْأى أميرٌ بالحبيب المُفارق ) قال ثم جاء فضربنا عنقه فخرجت من ذلك الهودج جارية جميلة فجنأت عليه فما زالت تبكي حتى ماتت
غزوة خالد لبني جذيمة أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وعمرو بن عبد الله العتكي قالا حدثنا عمر بن شبة قال يروى أن خالد بن الوليد كان جالسا عند النبي عن غزوته بني جذيمة فقال إن أذن رسول الله فقال تحدث فقال لقيناهم بالغميصاء عند وجه الصبح فقاتلناهم حتى كاد قرن الشمس يغيب فمنحنا الله أكتافهم فتبعناهم نطلبهم فإذا بغلام له ذوائب على فرس ذنوب في أخريات القوم فبوأت له الرمح فوضعته بين كتفيه فقال لا إله فقبضت عنه الرمح فقال إلا اللات أحسنت أو أساءت فهمسته همسة أذريته وقيذا ثم أخذته أسيرا فشددته وثاقا ثم كلمته فلم يكلمني واستخبرته فلم يخبرني فلما كان ببعض الطريق رأى نسوة من بني جذيمة يسوق بهن المسلمون فقال أيا خالد قلت ما تشاء قال هل أنت واقفي
على هؤلاء النسوة فأتيت على أصحابي ففعلت وفيهن جارية تدعى حبيشة فقال لها ناوليني يدك فناولته يدها في ثوبها فقال اسلمي حبيش قبل نفاد العيش فقالت حييت عشرا وتسعا وترا وثمانيا تترى فقال
( أرَيْتَكِ إن طالبتُكم فوجدتكم ... بِحَلْيَةَ أو أدركتُكم بالخوَانِق )
( ألم يَكُ حقًّا أن يُنَوَّل عاشقٌ ... تكلَّف إدلاج السُّرَى والودائقِ )
( وقد قلتُ إذ أهلي لأهلكِ جيرةٌ ... أثِيبي بودّ قبل إحدى الصّعائق )
( أثيبي بوُدٍّ قبل أن تَشْحَط النَّوى ... وينأى أميرٌ بالحبيب المفارق )
( فإنّيَ لا ضيّعتُ سرَّ أمانتي ... ولا راقَ عيني بعد عينك رائقُ ) سوى أنّ ما نال العشيرةَ شاغلٌ ... عن الوُدّ إلا أن يكون التَّوامُقُ ) فلما جاء على حاله تلك قدّمته فضربت عنقه فأقبلت الجارية ووضعت رأسه في حجرها وجعلت ترشفه وتقول
( لا تَبْعَدنْ يا عمرو حيًّا وهالكاً ... فحقّ بحسن المدح مثلُك من مثلي )
( لا تَبْعَدن يا عمرو حيًّا وهالكاً ... فقد عشتَ محمودَ الثّنا ماجدَ الفعل )
( فمَنْ لِطِرَاد الخيل تُشْجَر بالقَنَا ... وللفخر يوماً عند قَرْقَرة البُزْل ) وجعلت تبكي وتردد هذه الأبيات حتى ماتت وإن رأسه لفي حجرها فقال رسول الله رفعت لي يا خالد وإن سبعين ملكا لمطيفون بك يحضونك على قتل عمرو حتى قتلته
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال
حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الله بن المنذر عن صفية بنت الزبير بن هشام قالت كان أبو السائب المخزومي رجلا صالحا زاهدا متقللا يصوم الدهر وكان أرق خلق الله وأشدهم غزلا
فوجه ابنه يوما يأتيه بما يفطر عليه فأبطأ الغلام إلى العتمة فلما جاء قال له يا عدو نفسه ما أخرك إلى هذا الوقت قال جزت بباب بني فلان فسمعت منه غناء فوقفت حتى أخذته فقال هات يا بني فوالله لئن كنت أحسنت لأحبونك ولئن كنت أسأت لأضربنك فاندفع يغني بشعر كثير
( ولما عَلَوْا شَغْباً تبيّنتُ أنه ... تقطَّع من أهل الحجاز علائِقي )
( فلا زِلْن حَسْرَى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلدٍ ناءٍ قليلِ الأصادِق ) فلم يزل يغنيه إلى نصف الليل فقالت له زوجته يا هذا قد انتصف الليل وما أفطرنا قال لها أنت طالق إن كان فطورنا غيره فلم يزل يغنيه إلى السحر فلما كان السحر قالت له زوجته هذا السحر وما أفطرنا فقال أنت طالق إن كان سحورنا غيره فلما أصبح قال لابنه خذ جبتي هذه وأعطني خلقك ليكون الحباء فضل ما بينهما فقال له يا أبت أنت شيخ وأنا شاب وأنا أقوى على البرد منك قال يا بني ما ترك صوتك هذا للبرد علي سبيلا ما حييت
أخبرني وكيع قال أنشدنا أحمد بن يزيد الشيباني عن مصعب الزبيري لسليمان بن أبي دباكل قال
( فهلاَ نظرتَ الصبحَ يا بَعْلَ زينبٍ ... فتَقْضَى لُبَاناتُ الحبيب المفارِق )
( يَروح إذا يُمسي حنيناً وَيغْتدي ... وتهجيرُه عند احتدام الودائِق )
( فَطِرْ جاهداً أو كن حليفاً لصخرةٍ ... مُمَنَّعةٍ في رأس أَرْعَنَ شاهِق )
( فما زال هذا الدهرُ من شؤم صَرْفِهِ ... يُفرِّق بين العاشقين الأوامق )
( فَيُبْعِدنا ممّن نُريد اقترابَه ... ويُدْني إلينا من نُحبّ نُفَارق )
( ولما عَلَوْا شَغْباً تبيّنتُ أنه ... تقطّع من أهل الحجاز علائِقي )
( فلا زِلْن حَسْرى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلدٍ ناءٍ قليل الأصادق )
ذكر متيم الهشامية وبعض أخبارهاُ
كانت متيم صفراء مولدة من مولدات البصرة وبها نشأت وتأدبت وغنت وأخذت عن إسحاق وعن أبيه من قبله وعن طبقتهما من المغنين وكانت من تخريج بذل وتعليمها
وعلى ما أخذت عنها كانت تعتمد فاشتراها علي بن هشام بعد ذلك فازدادت أخذا ممن كان يغشاه من أكابر المغنين وكانت من أحسن الناس وجها وغناء وأدبا وكانت تقول الشعر ليس مما يستجاد ولكنه يستحسن من مثلها وحظيت عند علي بن هشام حظوة شديدة وتقدمت على جواريه جمع عنده وهي أم ولده كلهم
وقال عبد الله بن المعتز فيما أخبرني عنه محمد بن إبراهيم قريش قال أخبرني الحسن بن أحمد المعروف بأبي عبد الله الهشامي قال كانت متيم للبانة بنت عبد الله بن إسماعيل المراكبي مولى عريب فاشتراها علي بن هشام منها بعشرين ألف درهم وهي إذ ذاك جويرية فولدت له صفية وتكنى أم العباس ثم ولدت محمدا ويعرف بأبي عبد الله ثم ولدت بعده ابنا يقال له هارون ويعرف بأبي جعفر سماه المأمون وكناه لما ولد بهذا
الإسم والكنية قال ولما توفي علي بن هشام عتقت وكان المأمون يبعث إليها فتجيئه فتغنيه
فلما خرج المعتصم إلى سر من رأى أرسل إليها فأشخصها وأنزلها داخل الجوسق في دار كانت تسمى الدمشقي وأقطعها غيرها وكانت تستأذن المعتصم في الدخول إلى بغداد إلى ولدها فتزورهم وترجع ثم ضمها لما خرجت قلم
وقلم جارية كانت لعلي بن هشام وكانت متيم صفراء حلوة الوجه
فذكر محمد بن الحسن الكاتب أن الحسين بن يحيى بن أكثم حدثه عن الحسن بن إبراهيم بن رياح قال سألت عبد الله بن العباس الربيعي من أحسن من أدركت صنعة قال إسحاق قلت ثم من قال علويه قلت ثم من قال متيم قلت ثم من قال ثم أنا فعجبت من تقديمه متيم على نفسه فقال الحق أحق أن يتبع
أخبرني محمد بن الحسن قال حدثنا عمر بن شبة قال سئل عبد الله بن العباس الربيعي عن أحسن الناس غناء فذكر مثل هذه الحكاية وزاد فيها أن قال له ما أحسن أن أصنع كما صنعت متيم في قوله
( فلا زِلْن حَسْرى ظُلّعا لِمْ حَمَلْنَها ... ) ولا كما صنع علويه في قول الصمة
( فواحَسْرتي لم أَقْضِ منكِ لُبانةً ... ولم أتمتَّع بالجِوار وبالقُرْب ) قال فأين عمرو بن بانة قال عمرو لا يضع نفسه في الصنعة هذا الموضع ولكنه صنع لحنا في هذا الغناء
نسبة صوت علويه صوت
( فواحَسْرتي لم أَقْضِ منكِ لُبانةً ... ولم أتمتَّع بالجِوار وبالقُرْب )
( يقولون هذا آخرُ العهد منهم ... فقلت وهذا آخر العهد من قلبي )
( ألا يا حمامَ الشِّعْب شِعْب مراهق ... سقتك الغوادي من حمامٍ ومن شِعْب )
الشعر للصمة بن عبد الله القشيري والغناء فيه لعلويه ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى وفيه لمخارق خفيف رمل بالوسطى أوله ألا يا حمام الشعب ثم الثاني ثم الأول وذكر حبش أن فيه لإسحاق ثاني ثقيل بالبنصر
وقال ابن المعتز أخبرني الهشامي قال كانت متيم ذات يوم جالسة بين يدي المعتصم ببغداد وإبراهيم بن المهدي حاضر فغنت متيم في الثقيل الأول
( لزينب طيفٌ تَعْتريني طوارقُهْ ... هُدُوًّا إذا ما النّجمُ لاحتْ لواحقُهْ ) فأشار إليها إبراهيم أن تعيده فقالت متيم للمعتصم يا سيدي إبراهيم يستعيدني الصوت وكأنه يريد أن يأخذه فقال لها لا تعيديه فلما كان بعد أيام كان إبراهيم حاضرا مجلس المعتصم ومتيم غائبة فانصرف إبراهيم بعد حين إلى منزله ومتيم في منزلها بالميدان وطريقه عليها وهي في منظرة
لها مشرفة على الطريق وهي تغني هذا الصوت وتطرحه على جواري علي بن هشام فتقدم إلى المنظرة وهو على دابته فتطاول حتى أخذ الصوت ثم ضرب باب المنظرة بمقرعته وقال قد أخذناه بلا حمدك
وقال ابن المعتز وحدثت أن المأمون سأل علي بن هشام أن يهبها له وكان بغنائها معجبا فدفعه بذلك ولم يكن له منها ولد فلما ألح المأمون في طلبها حرص علي على أن تعلق منه حتى حبلت ويئس المأمون منها فيقال إن ذلك كان سببا لغضبه عليه حتى قتله
وحدثني سليمان الطبال أنه رأى متيم في بعض مجالس المعتصم يمازحها ويجبذ بردائها
وحكى علي بن محمد الهشامي قال أهدي إلى علي بن هشام برذون أشهب قرطاسي وكان في النهاية من الحسن والفراهة وكان علي به معجبا وكان إسحاق يشتهيه شهوة شديدة وعرض لعلي بطلبه مرارا فلم يرض أن يعطيه له فسار إسحاق إلى علي يوما بعقب صنعة متيم فلا زلن حسرى فاحتبسه علي وبعث إلى متيم أن تجعل صوتها هذا في صدر غنائها ففعلت فأطرب إسحاق إطرابا شديدا وجعل يسترده فترده وتستوفيه ليزيد في إطرابه إسحاق وهو يصغي إليها ويتفهمه حتى صح له ثم قال لعلي ما فعل البرذون الأشهب قال على ما عهدت من حسنه وفراهته قال فاختر الآن مني خلة من اثنتين إما أن طبت لي نفسا به وحملتني عليه وإما أن أبيت فأدعي والله هذا الصوت لي وقد أخذته أفتراك تقول إنه لمتيم وأقول إنه لي ويؤخذ قولك ويترك قولي قال لا والله ما
أظن هذا ولا أراه يا غلام قد البرذون إلى منزل أبي محمد بسرجه ولجامه لا بارك الله له فيه
قال علي بن محمد وحدثني أحمد بن حمدون أن إسحاق قال لمتيم لما سمع هذا الصوت منها أنت أنا فأنا من يريد أنها قد حلت محله وساوته
قال علي بن محمد وقال جدي أبو جعفر كانت متيم تقول
صوت ( فلا زِلْن حسرى ظُلّعا لم حملنها ... ) الرمل كله
وحدثني الهشامي قال مد علي بن هشام يده إلى بذل جاريته في عتاب يعاتبها ثم ندم على فعله ذلك ثم أنشأ يقول
( فليتَ يدي بانت غَداةَ مدَدْتُها ... إليكِ ولم تَرْجِع بكفٍّ وساعد ) وغنت متيم جاريته فيه في الثقيل الأول فكان يقال لبذل جارية علي بذل الصغيرة
وحدثني الهشامي قال
موت بذل كان سبب موت بذل هذه أنها كانت ذات يوم جالسة عند المأمون فغنته وكان حاضرا في ذلك المجلس موسوس يكنى بأبي الكركدن من أهل طبرستان يضحك منه المأمون فعبثوا به فوثب عليهم وهرب الناس من بين يديه فلم يبق أحد حتى هرب المأمون وبقيت بذل جالسة والعود في حجرها
فأخذ العود من يدها وضرب به رأسها فشجها في شابورتها اليمنى فانصرفت وحمت وكان سبب موتها
وحدثني الهشامي قال لما مات علي بن هشام ومات المأمون أخذ المعتصم جواري علي بن هشام كلهن فأدخلهن القصر فتزوج ببذل المغنية وبقيت عنده إلى أن مات فخرجت بذل الكبيرة والباقون إلا بذل الصغيرة لأنها كانت حرمته فلم يخرجوها
ويقال إنه لم يكن في المغنين أحسن صنعة من علويه وعبد الله بن العباس ومتيم وفي أولادها يقول علي بن الجهم
( بَنِي مُتيَّمَ هل تَدْرون ما الخبرُ ... وكيف يُسْتَرُ أمرٌ ليس يَسْتَتِرُ )
( حاجيْتُكم مَنْ أبوكم يا بَنِي عُصَبٍ ... شتَّى ولكنّما للعاهر الحَجَرُ ) قال وحدثني جدي قال كلم علي بن هشام متيم فأجابته جوابا لم يرضه فدفع يده في صدرها فغضبت ونهضت فتثاقلت عن الخروج إليه فكتب إليها
صوت ( فليتَ يدي بانتْ غداةَ مَدَدْتُها ... إليك ولم تَرْجع بكفٍّ وساعد )
( فإن يَرْجِعِ الرحمنُ ما كان بيننا ... فلستُ إلى يوم التَّنادي بعائد ) غنته متيم خفيف رمل بالبنصر
قال وعتبت عليه مرة فتمادى عتبها وترضاها فلم ترض فكتب إليها الإدلال يدعو إلى الإملال ورب هجر دعا إلى صبر وإنما سمي القلب قلبا لتقلبه ولقد صدق العباس بن الأحنف حيث يقول
( ما أُرانِي اِلاَ سأهجرُ من ليس ... يَراني أَقْوَى على الهِجْرانِ )
( قد حَدَا بي إلى الجفاء وفائي ... ما أضرَّ الوفاءَ بالإِنسان ) قال فخرجت إليه من وقتها ورضيت
وحدثني الهشامي قال كانت متيم تحبني حبا شديدا يتجاوز محبة الأخت لأخيها وكانت تعلم أني أحب النبق فكانت لا تزال تبعث إلي منه فإني لأذكر في ليلة من الليالي في وقت السحر إذا أنا ببابي يدق فقيل من هذا فقالوا خادم متيم يريد أن يدخل إلى أبي عبد الله فقلت يدخل فدخل ومعه إلي صينية فيها نبق فقال لي تقرئك السلام وتقول لك كنت عند أمير المؤمنين المعتصم بالله فجاؤوه بنبق من أحسن ما يكون فقلت له يا سيدي أطلب من أمير المؤمنين شيئا فقال لي تطلبين ما شئت قالت يطعمني أمير المؤمنين من هذا النبق فقال لسمانة اجعل من هذا النبق في صينية واجعلوها قدام متيم فأخذته وذللته لك وقد بعثت به إليك معي ثم دفعت إلي دراهم وقالت هب للحراس هذه الدراهم لكي يفتحوا الدروب لك حتى تصير به اليه
ثم حدثنا الهشامي قال بعث علي بن هشام إلى إسحاق فجاء فأخرج متيم جاريته إليه فغنت بين يديه
( فلا زِلْن حَسْرَى ظُلّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلد ناءٍ قليل الأصادق ) فاستعاده إسحاق واستحسنه ثم قال له بكم تشتري مني هذا الصوت فقال له علي بن هشام جاريتي تصنع هذا الصوت وأشتريه منك قال قد
أخذته الساعة وأدعيه فقول من يصدق قولي أو قولك فافتداه منه ببرذون اختاره له
وحدثني الهشامي قال سمع علي بن هشام قدام المأمون من قلم جارية زبيدة صوتا عجيبا فرشا لمن أخرجه من دار زبيدة بمائة ألف دينار حتى صار إلى داره وطرح الصوت على جواريه ولو علمت بذلك زبيدة لاشتد عليها لو سألها أن توجه به ما فعلت
وحدثني يحيى بن علي بن يحيى المنجم عن أبيه قال لما صنعت متيم اللحن في قوله
( فلا زلن حَسْرى ظُلَّعاً لِمْ حَمَلْنها ... ) أُعجب به علي بن هشام وأسمعه إسحاق فاستحسنه وقال من أين لك هذا فقال من بعض الجواري فقال إنه لعريب ولم يزل يستعيده حتى قال إنه لمتيم فأطرق
وكان متحاملا على المغنين شديد النفاسة عليهم كثير الظلم لهم مسرفا في حط درجاتهم وما رأيته في غنائه ذكر لعلويه ولا مخارق ولا عمرو بن بانة ولا عبد الله بن عباس ولا محمد بن الحارث صوتا واحدا ترفعا عن ذكرهم منتصبا لهم وذكر في آخر الكتاب قوله
( فلا زِلْن حَسْرَى ظُلّعاً لِمْ حَمَلْنها ... إلى بلد ناءٍ قليل الأصادق ) ووقع تحته لمتيم
وذكر آخر كل صوت في الكتاب ونسب إلى كل مغن صوته غير مخارق وعلويه وعمرو بن بانة وعبد الله بن عباس فما ذكرهم بشيء
أخبرنا أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ابن المكي عن أبيه قال قال لي علي بن هشام لما قدمت علي شاهك جدتي من خراسان قالت أعرض جواريك علي فعرضتهن عليها ثم جلسنا على الشراب وغنتنا متيم وأطالت جدتي الجلوس فلم أنبسط إلى جواري كما كنت أفعل فقلت هذين البيتين
صوت ( أَنَبْقَى على هذا وأنتِ قريبةٌ ... وقد مَنَع الزُّوّارُ بعضَ التَّكلُّمِ )
( سلامٌ عليكم لا سلامَ مُودِّعٍ ... ولكن سلامٌ من حبيب متيَّم ) وكتبتهما في رقعة ورميت بها إلى متيم فأخذتها ونهضت إلى الصلاة ثم عادت وقد صنعت فيه اللحن الذي يغنى فيه اليوم فغنت فقالت شاهك ما أرانا إلا قد ثقلنا عليكم اليوم وأمرت الجواري فحملن محفتها وأمرت بجوائز للجواري وساوت بينهن وأمرت لمتيم بمائة ألف درهم
وأخبرني قال أول من عقد من النساء في طرف الإزار زنارا وخيط إبريسم ثم تجعله في رأسها فيثبت الإزار ولا يتحرك ولا يزول متيم
أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال مرت متيم في نسوة وهي مستخفية بقصر علي بن هشام بعد أن قتل فلما رأت بابه مغلقا لا أنيس عليه وقد علاه التراب والغبرة وطرحت في أفنيته المزابل وقفت عليه وتمثلت
صوت
( يا منزلاً لم تَبْلَ أطلالُهُ ... حاشا لأطلالِكَ أن تَبْلَى )
( لم أَبْكِ أطلالَك لكنّني ... بكيتُ عيشي فيك إذ وَلّى )
( قد كان بي فيك هوىً مرّةً ... غيّبه التربُ وما مُلاّ )
( فصرتُ أَبْكِي جاهداً فقدَه ... عند ادّكاري حيثما حلاّ )
( فالعيشُ أولَى ما بكاه الفتى ... لا بدّ للمحزون أن يَسْلَى ) فيه رمل بالوسطى لابن جامع قال ثم بكت حتى سقطت من قامتها وجعل النسوة يناشدنها ويقلن الله الله في نفسك فإنك تؤخذين الآن فبعد لأي ما حُملت تتهادى بين امرأتين حتى تجاوزت الموضع
نسخت من كتاب أبي سعيد السكري حدثني الحارث بن أبي أسامة قال حدثني محمد بن الحسن عن عبد الله بن العباس الربيعي قال قالت لي متيم بعث إلي المعتصم بعد قدومه بغداد فذهبت إليه فأمرني بالغناء فغنيت
( هل مُسعدٌ لبكاء ... بعَبْرة أو دماء ) فقال أعد لي عن هذا البيت إلى غيره فغنيته غيره من معناه فدمعت عيناه وقال غني غير هذا فغنيت في لحني
( أولئك قومي بعد عزٍّ ومَنْعَةٍ ... تفانَوْا وإلاّ تَذْرِف العينُ أَكْمَدِ ) فبكى وقال ويحك لا تغنيني في هذا المعنى شيئا البتة فغنيت في لحني
( لا تأمَن الموتَ في حِلٍّ وفي حَرَمٍ ... إنّ المنايا تَغَشّى كلَّ إنسانِ )
( واسلُك طريقَك هوناً غيرَ مكترِثٍ ... فسوف يأتيك ما يَمْنِي لك الماني ) فقال والله لولا أني أعلم أنك إنما غنيت بما في قلبك لصاحبك وأنك
لم تريديني لمثلت بك ولكن خذوا بيدها فأخرجوها فأخذوا بيدي فأخرجت
نسبة ما في هذا الخبر من الغناء
صوت ( هل مُسعِدٌ لبكاءِ ... بعَبْرة أو دماء )
( وذا لفقد خليلٍ ... لسادةٍ نُجَباء ) الشعر لمراد شاعرة علي بن هشام ترثيه لما قتله المأمون والغناء لمتيم ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى منها
( ذهبتُ من الدّنيا وقد ذهبتْ منّي ... ) وقد أخرج في أخبار إبراهيم بن المهدي لأنه من غنائه وشعره وشرحت أخباره فيه ولحنه رمل بالوسطى ومنها
صوت ( أولئك قومي بعد عزّ ومَنْعة ... تفانَوْا وإلاّ تَذْرِفِ العينُ أَكْمَدِ ) وقد أخرج في أخبار أبي سعيد مولى فائد والعبلي وغنيا فيه من مراثيهما في بني أمية ولحن متيم هذا الذي غنت فيه المعتصم ثاني ثقيل بالوسطى ومنها
صوت
( لا تأمَنِ الموتَ في حلّ وفي حرم ... )
ذكر الهشامي انه مما وجده من غناء متيم غير أن لها لحنا فيه يذكر في
موضع غير هذا على شرح إن شاء الله تعالى وإنما ألفت صوتا تولعت به وغنته فنسبه إليها
وأخبرني قال كنا في مجلسنا نياما فلما كان مع الفجر إذا متيم قد دخلت علينا وقالت أطعموني شيئا فأخرجوا إليها شيئا تأكله فأكلت ودعت بنبيذ وابتدأت الشرب ودعت بعود فاندفعت تغني لنفسها وتشرب وكان مما غنت
( كيف الثّواءُ بأرض لا أَراك بها ... يا أكثرَ الناس عندي مِنّةً ويدا ) خفيف رمل وقال ما رأيت أحدا من المغنين والمغنيات إذا غنوا لأنفسهم يكادون يغنون إلا خفيف رمل
نوح متيم على سيدها وأخبرني قال حدثني بعض أهلها قال لما أصبنا بعلي بن هشام جاء النوائح فطرح بعض من حضر من مغناته عليهن نوحا من نوح متيم وكان حسنا جيدا فأبطأ نوح النوائح اللاتي جئن لحسنه وجودته وكانت زين حاضرة فاستحسنه جدا وقالت رضي الله عنك يا متيم كنت علما في السرور وأنت علم في المصائب
وأخبرني قال إني لأذكر من بعض نوحها
( لعليٍّ وأحمد وحسينٍ ... ثم نصر وقبلهَ للخليل ) هزج
قال ابن المعتز وأخبرني الهشامي قال وجهت مؤنسة جارية المأمون إلى متيم جارية علي بن هشام في يوم احتجمت فيه مخنقة في وسطها حبة
لها قيمة جليلة كبيرة وعن يمين الحبة ويسارها أربع يواقيت وأربع زمردات وما بينها من شذور الذهب وباقي المخنقة قد طيب بغالية
وأخبرني قال كانت متيم يعجبها البنفسج جدا وكان عندها آثر من كل ريحان وطيب حتى إنها من شدة إعجابها به لا يكاد يخلو من كمها الريحان ولا نراه إلا كما قطف من البستان
وقد أخبرني رحمه الله قال حدثنا أبو جعفر بن الدهقانة إن جارية للمعتصم قالت له لما ماتت متيم وإبراهيم بن المهدي وبذل يا سيدي أظن أن في الجنة عرسا فطلبوا هؤلاء إليه فنهاها المعتصم عن هذا القول وأنكره
فلما كان بعد أيام وقع حريق في حجرة هذه القائلة فاحترق كل ما تملكه وسمع المعتصم الجلبة فقال ما هذا فأخبر عنه فدعا بها فقال ما قصتك فبكت وقالت يا سيدي احترق كل ما أملكه فقال لا تجزعي فإن هذا لم يحترق وإنما استعاره أصحاب ذلك العرس
وقد ذكرت في متقدم أخبار متيم أنها كانت تقول الشعر ولم أذكر شيئا فمن ذلك ما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي طالب الدِّيناريّ قال حدثني الفضل بن العبّاس بن يعقوب قال حدّثني أبي قال قال المأمون لمتيم جارية علي بن هشام أجيزي لي هذين البيتين
( تعالَيْ تكون الكُتْبُ بيني وبينكم ... ملاحَظَةً نُومِي بها ونُشيرُ )
( ورُسْلي بحاجاتي وهنّ كثيرةٌ ... إليك إشاراتٌ بها وزَفير )
صوت
من المائة المختارة ( إنّ العيون التي في طَرْفها مرضَ ... قَتَلْنَنَا ثم لم يُحْيِين قَتْلانا )
( يَصْرَعْن ذا اللُّبِّ حتى لا حَراك له ... وهنّ أضعفُ خلق الله أرْكانا )
عروضه - من البسيط - والشعر لجرير والغناء لابن محرز ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل وفي هذه القصيدة أبيات أخر تغنى فيها ألحان سوى هذا اللحن منها قوله
صوت
من المائة المختارة ( أتْبَعْتُهم مقلةً إنسانُها غَرِقٌ ... هل ما تَرى تاركٌ للعين إنسانا )
( إنّ العيون التي في طَرْفها مرضَ ... قَتَلْنَنَا ثم لم يُحْيِين قَتْلانا )
الغناء في هذين البيتين ثقيل أول مطلق بإطلاق الوتر في مجرى البنصر ومنها أيضا
صوت ( بان الأخِلاّ وما ودّعتُ مَنْ بانا ... وقطّعوا من حبال الوصل أركانا )
( أصبحتُ لا أبتغِي من بعدهم بَدَلاً ... بالدار داراً ولا الجِيران جيرانا )
( وصرتُ مذ ودَّع الأظعانُ ذا طَرَبٍ ... مروَّعاً من حِذار البينِ مِحْزانا )
في الأول والثاني والثالث من الأبيات خفيف رمل بالبنصر وفيها للغريض ثاني ثقيل بالبنصر من رواية عمرو بن بانة والهشامي وذكر حبش أن فيه لمالك خفيف رمل بالوسطى وابن سرجس في الأول والثاني وبعدهمها
( أتبعتُهم مقلةً إنسانُهَا غَرِقٌ ... )
رمل بالوسطى
وذكر الهشامي أن لابن محرز في الأول والثاني بعدهما أتبعتهم مقلة لحنا من الثقيل الأول بالبنصر وذكر المكي أنه لمعبد . . انتهى بحمد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
نسب جرير وأخباره جرير بن عطية بن الخَطَفي والخَطَفي لقب واسمه حذيفة بن بدر بن سلمة بن عوف بن كليب بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار ويكنى أبا حزرة ولقب الخطفي لقوله
( يَرْفَعْنَ للَيَّل إذا ما أسْدَفَا ... أعناقَ جِنّانٍ وهاماً رُجَّفا )
( وعَنَقاً بعد الكَلال خَيْطَفَا ... )
ويروى خَطَفَى
وهو الفرزدق والأخطل المقدمون على شعراء الإسلام الذين لم يدركوا الجاهلية جميعا ومختلف في أيهم المتقدم ولم يبق أحد من شعراء عصرهم إلا تعرض لهم فافتضح وسقط وبقوا يتصاولون على أن الأخطل إنما دخل بين جرير والفرزدق في آخر أمرهما وقد أسن ونفد أكثر عمره وهو وإن كان له فضله وتقدمه فليس نجره من نجار هذين في شيء وله أخبار مفردة عنهما ستذكر بعد هذا مع ما يغنى من شعره
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب الجمحي قال حدثنا محمد بن سلام الجمحي وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب وأبي غسان دماذ وإبراهيم بن سعدان عن أبيه جميعا عن أبي عبيدة معمر بن المثنى بنسب جرير على ما ذكرته وسائر ما أذكره في الكتاب من أخباره فأحكيه عن أبي عبيدة أو عن محمد بن سلام قالوا جميعا
وأم جرير أم قيس بنت معيد بن عمير بن مسعود بن حارثة بن عوف بن كليب بن يربوع وأم عطية النوار بنت يزيد بن عبد العزى بن مسعود بن حارثة بن عوف بن كليب
قال أبو عبيدة ومحمد بن سلام ووافقهما الأصمعي فيما أخبرنا به أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة عنه
اتفقت العرب على أن أشعر أهل الإسلام ثلاثة جرير والفرزدق والأخطل واختلفوا في تقديم بعضهم على بعض قال محمد بن سلام والراعي معهم في طبقتهم ولكنه آخرهم والمخالف في ذلك قليل وقد سمعت يونس يقول ما شهدت مشهدا قط قد ذكر فيه جرير والفرزدق فاجتمع أهل المجلس على أحدهما وكان يونس فرزدقيا (
الفرزدق أشعر عامة وجرير أشعر خاصة )
قال ابن سلام وقال ابن دأب الفرزدق أشعر عامة وجرير أشعر خاصة وقال أبو عبيدة كان أبو عمرو يشبه جريرا بالأعشى والفرزدق بزهير والأخطل بالنابغة قال أبو عبيدة يحتج من قدم جريرا بأنه كان أكثرهم فنون شعر وأسهلهم ألفاظا وأقلهم تكلفا وأرقهم نسيبا وكان دينا عفيفا وقال عامر بن عبد الملك جرير كان أشبههما وأنسبهما
ونسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال خالد بن كلثوم ما رأيت أشعر من جرير والفرزدق قال الفرزدق بيتا مدح فيه قبيلتين وهجا قبيلتين قال
( عجبتُ لعِجْلٍ إذ تُهَاجِي عبيدَها ... كما آلُ يَرْبُوعٍ هَجَوْا آلَ دارِمِ )
يعني بعبيدها بني حنيفة وقال جرير بيتا هجا فيه أربعة
( إن الفرزدق والبَعيث وأمَّه ... وأبا البَعيث لشَرُّ ما إسْتارِ )
قال وقال جرير لقد هجوت التيم في ثلاث كلمات ما هجا فيهن شاعر شاعرا قبلي قلت
( من الأصلاب يَنْزِل لؤمُ تَيْمٍ ... وفي الأرحام يُخلق والمَشيمِ )
وقال محمد بن سلام قال العلاء بن جرير العنبري وكان شيخا قد جالس الناس إذا لم يجىء الأخطل سابقا فهو سكيت والفرزدق لا يجيء سابقا ولا سكيتا وجرير يجيء سابقا ومصليا وسكيتا قال محمد بن سلام ورأيت أعرابيا من بني أسد أعجبني ظرفه وروايته فقلت له أيهما عندكم أشعر قال بيوت الشعر أربعة فخر ومديح وهجاء ونسيب وفي كلها غلب جرير قال في الفخر
( إذا غضِبتْ عليكَ بنو تَميمٍ ... حسِبتَ الناسَ كلَّهُمُ غِضابا )
والمديح
( ألَستُم خيرَ من ركب المطايا ... وأنْدَى العالَمين بطونَ راحِ )
والهجاء
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلابا )
والنسيب
( إنّ العيون التي في طَرْفها حَوَرٌ ... قتلْننا ثم لم يُحْيِين قَتْلانا )
قال أبو عبد الله محمد بن سلام وبيت النسيب عندي
( فلما التقى الحيَّانِ أُلْقيتِ العصا ... ومات الهوى لما أُصيبتْ مَقَاتِلُهْ )
قال كيسان أما والله لقد أوجعكم يعني في الهجاء فقال يا أحمق أوذاك يمنعه أن يكون شاعرا
عبيدة بن هلال يفضل جريرا على الفرزدق أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة وأخبرنا أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام الجمحي قال حدثني أبان بن عثمان البلخي قال
تنازع في جرير والفرزدق رجلان في عسكر المهلب فارتفعا إليه وسألاه فقال لا أقول بينهما شيئا ولكني أدلكما على من يهون عليه سخطهما
عبيدة بن هلال اليشكري وكان بإزائه مع قطري وبينهما نهر وقال عمر بن شبة في هؤلاء الخوارج من تهون عليه سبال كل واحد منهما فأما أنا فما كنت لأعرض نفسي لهما فخرج أحد الرجلين وقد تراضيا بحكم الخوارج فبدر من الصف ثم دعا بعبيدة بن هلال للمبارزة فخرج إليه فقال إني أسألك عن شيء تحاكمنا إليك فيه فقال وما هو عليكما لعنة الله قال فأي الرجلين عندك أشعر أجرير أم الفرزدق فقال لعنكما الله ولعن جريرا والفرزدق أمثلي يسأل عن هذين الكلبين قالا لابد من حكمك قال فإني سائلكم قبل ذلك عن ثلاث قالوا سل قال ما تقولون في إمامكم إذا فجر قالوا نطيعه وإن عصى الله عز و جل قال قبحكم الله فما تقولون في كتاب الله وأحكامه قالوا ننبذه وراء ظهورنا ونعطل أحكامه قال لعنكم الله إذا فما تقولون في اليتيم قالوا نأكل ماله وننيك أمه قال أخزاكم الله إذا والله لقد زدتموني فيكم بصيرة ثم ذهب لينصرف فقالوا له إن الوفاء يلزمك وقد سألتنا فأخبرناك ولم تخبرنا فرجع فقال من الذي يقول
( إنَّا لنَذْعَر يا قُفَيْرُ عدوَّنا ... بالخيل لاحقةَ الأَياطِلِ قُودَا )
( وتَحُوطُ حَوْزَتَنا وتَحْمِي سَرْحَنا ... جُرْدٌ تَرَى لمُغَارِها أُخْدُودا )
( أَجْرَى قلائدَها وقدَّد لحمَها ... ألاّ يَذُقْنَ مع الشَّكائم عُودَا )
( وطَوَى القِيادُ مع الطِّرَاد مُتونَها ... طَيَّ التِّجَار بحَضْرَمَوْتَ بُرودا )
قالا جرير قال فهو ذاك فانصرفا
أخبرني عم أبي عبد العزيز بن أحمد قال حدثنا الرياشي قال قال الأصمعي وذكر جريرا فقال
كان ينهشه ثلاثة وأربعون شاعرا فينبذهم وراء ظهره ويرمي بهم واحدا واحدا ومنهم من كان ينفحه فيرمي به وثبت له الفرزدق والأخطل وقال جرير والله ما يهجوني الأخطل وحده وإنه ليهجوني معه خمسون شاعرا كلهم عزيز ليس بدون الأخطل وذلك أنه كان إذا أراد هجائي جمعهم على شراب فيقول هذا بيتا وهذا بيتا وينتحل هو القصيدة بعد أن يتمموها
قال ابن سلاَّم وحدثني أبو البيداء الرياحي قال قال الفرزدق إني وإياه لنغترف من بحر واحد وتضطرب دلاؤه عند طول النهر
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني زيرك بن هبيرة المناني قال
كان جرير ميدان الشعر من لم يجر فيه لم يرو شيئا وكان من هاجى جريرا فغلبه جرير أرجح عندهم ممن هاجى شاعرا آخر غير جرير فغلب
أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال تذاكروا جريرا والفرزدق في حلقة يونس بن معاوية بن أبي عمرو بن العلاء وخلف الأحمر ومسمع وعامر
ابنا عبد الملك المسمعيان فسمعت عامرا وهو شيخ بكر بن وائل يقول كان جرير والله أنسبهما وأسبهما وأشبههما (
الراعي يقر بأسبقيته )
قال ابن سلام وحدثني أبو البيداء قال مر راكب بالراعي وهو يغني بيتين لجرير وهما
( وعاو عَوَى من غير شيء رميتُه ... بقارعةٍ أَنْفاذُها تَقْطُرُ الدَّمَا )
( خَرُوجٍ بأفواه الرُّواةِ كأنَّها ... قَرَا هِنْدُوَانِيٍّ إذا هُزَّ صَمَّمَا )
فأتبعه الراعي رسولا يسأله لمن البيتان قال لجرير قال لو اجتمع على هذا جميع الجن والإنس ما أغنوا فيه شيئا ثم قال لمن حضر ويحكم أألام على أن يغلبني مثل هذا
رأي بشار فيه قال ابن سلام وسألت بشارا المرعث أي الثلاثة أشعر فقال لم يكن الأخطل مثلهما ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه قلت فهذان قال كانت لجرير ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق ولقد ماتت النوار فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير فقلت لبشار وأي شيء لجرير من المراثي إلا
التي رثى بها امرأته فأنشدني لجرير يرثي ابنه سوادة ومات بالشام
( قالوا نَصِيبَك من أجرٍ فقلتُ لهم ... كيف العَزاءُ وقد فارقتُ أشبالي )
( فارقتني حين كَفَّ الدهرُ من بصرِي ... وحين صِرْتُ كعظم الرِّمَّة البالي )
( أَمْسَى سَوَادةُ يَجْلُو مُقْلَتَيْ لَحِمٍ ... بازٍ يُصَرْصِرُ فوق المَرْبأ العالي )
( قد كنتُ أعرفه منِّي إذا غَلِقتْ ... رُهْنُ الجِياد ومَدّ الغَايَة الغَالي )
( إنّ الثَّوِيّ بِذي الزَّيْتُون فاحتسبي ... قد أَسرعَ اليوم في عقلي وفي حالي )
( إلاّ تَكُنْ لكَ بالدَّيْرَيْن مُعْوِلَةٌ ... فرُبَّ باكيةٍ بالرَّمْلِ مِعْوَالِ )
( كأمّ بَوٍّ عَجُولٍ عند مَعْهَدِه ... حَنَّتْ إلى جَلَدٍ منه وأَوْصَال )
( حتى إذا عرَفتْ أن لا حياةَ به ... رَدَّتْ هَمَاهمَ حَرَّى الجوفِ مِثْكالِ )
( زادت على وَجْدِها وَجْداً وإن رجَعتْ ... في الصدر منها خُطوبٌ ذاتُ بَلْبَالِ )
أخبرني عبد الواحد بن عبيد عن قعنب بن المحرز الباهلي عن المغيرة بن حجناء وعمارة بن عقيل قالا
خرج جرير إلى دمشق يؤم الوليد فمرض ابن له يقال له سوادة وكان به معجبا فمات بالشام فجزع عليه ورثاه جرير فقال
( أَوْدَى سَوَادةُ يَجْلُو مُقْلَتيْ لَحِمٍ ... بازٍ يُصَرْصِرُ فوق المَرْبأ العالي )
(
رأي الفرزدق فيه )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية قال حدثني رجل من أصحاب الحديث يقال له الحسن قال حدثني أبو نصر اليشكري عن مولى لبني هاشم قال
امترى أهل المجلس في جرير والفرزدق أيهما أشعر فدخلت على الفرزدق فما سألني عن شيء حتى قال يا نوار أدركت برنيتك قالت قد فعلت أو كادت قال فابعثي بدرهم فاشتري لحما ففعلت وجعلت تشرحه وتلقيه على النار ويأكل ثم قال هاتي برنيتك فشرب قدحا ثم ناولني وشرب آخر ثم ناولني ثم قال هات حاجتك يابن أخي فأخبرته قال أعن ابن الخطفي تسألني ثم تنفس حتى قلت انشقت حيازيمه ثم قال قاتله الله فما أخشن ناحيته وأشرد قافيته والله لو تركوه لأبكى العجوز على شبابها والشابة على أحبابها ولكنهم هروه فوجدوه عند الهراش نابحا وعند الجراء قارحا وقد قال بيتا لأن أكون قلته أحب إلي مما طلعت عليه الشمس
( إذا غضِبتْ عليكَ بنو تَميم ... حسِبتَ الناسَ كلَّهمُ غِضَابَا )
أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبيدة قالا
نزل الفرزدق على الأحوص حين قدم المدينة فقال الأحوص ما تشتهي قال شواء وطلاء وغثاء قال ذلك لك ومضى به إلى قينة بالمدينة فغنته
صوت ( أَلاَ حَيِّ الديارَ بسُعْدَ إنِّي ... أُحِبُّ لحبِّ فاطمةَ الدّيارَا )
( إذا ما حَلَّ أهلُكِ يا سُلَيْمَى ... بدارةِ صُلْصُلٍ شحَطوا مَزَارَا )
( أراد الظاعنون ليَحْزُنُونِي ... فهاجُوا صَدْعَ قلبي فاستطارَا )
غناه ابن محرزخفيف ثقيل أول بالبنصر فقال الفرزدق ما أرق أشعاركم يا أهل الحجاز وأملحها قال أوما تدري لمن هذا الشعر قال لا والله قال فهو والله لجرير يهجوك به فقال ويل ابن المراغة ما كان
أحوجه مع عفافه إلى صلابة شعري وأحوجني مع شهواتي إلى رقة شعره (
تغنى أشعب بشعره فأجازه )
أخبرني أحمد قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق الموصلي وأخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه قال قال إسحاق بن يحيى بن طلحة
قدم علينا جرير المدينة فحشدنا له فبينا نحن عنده ذات يوم إذ قام لحاجته وجاء الأحوص فقال أين هذا فقلنا قام آنفا ما تريد منه قال أخزيه والله إن الفرزدق لأشعر منه وأشرف فأقبل جرير علينا وقال من الرجل قلنا الأحوص بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح قال هذا الخبيث ابن الطيب ثم أقبل عليه فقال قد قلت
( يَقَرُّ بعَيْني ما يَقَرُّ بعينها ... وأحسنُ شيءٍ ما به العينُ قرَّتِ )
فإنه يقر بعينها أن يدخل فيها مثل ذراع البكر أفيقر ذلك بعينك قال وكان الأحوص يرمى بالأبنة فانصرف وأرسل إليه بتمر وفاكهة وأقبلنا نسأل جريرا وهو في مؤخر البيت وأشعب عند الباب فأقبل أشعب يسأله فقال له جرير والله إنك لأقبحهم وجها ولكني أراك أطولهم حسبا وقد أبرمتني
فقال أنا والله أنفعهم لك فانتبه جرير فقال كيف قال إني لأملح شعرك واندفع يغنيه قوله
صوت ( يا أختَ ناجِيةَ السلامُ عليكُم ... قبلَ الفراق وقبل لَوْم العُذَّلِ )
( لو كنتُ أعلم أن آخرَ عهدكم ... يوم الفراق فعلتُ ما لم أفعلِ )
قال فأدناه جرير منه حتى ألصق ركبته بركبته وجعله قريبا منه ثم قال أجل والله إنك لأنفعهم لي وأحسنهم تزيينا لشعري أعد فأعاده عليه وجرير يبكي حتى أخضلت لحيته ثم وهب لأشعب دراهم كانت معه وكساه حلة من حلل الملوك وكان يرسل إليه طول مقامه بالمدينة فيغنيه أشعب ويعطيه جرير شعره فيغني فيه قال وكان أشعب من أحسن الناس صوتا قال حماد والغناء الذي غناه فيه أشعب لابن سريج
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري عن الرياشي عن الأصمعي قال وذكر المغيرة بن حجناء قال حدثني أبي عن أبيه عن جده يحيى بن أعين وذكر ذلك هشام بن الكلبي قال حدثني النهشلي من بني مسعود بن خالد بن مالك بن ربعي بن سلمى بن جندل قال حدثني مسحل بن كسيب بن عمران بن عطاء بن الخطفي وأمه الربداء بنت جرير وهذا الخبر وإن كان فيه طول محتو على سائر أخبار من ناقض جريرا أو اعتن بينه وبين
الفرزدق وغيره فذكرته هنا لاشتماله على ذلك في بلاغ واختصار (
شعره في مدح الحكم بن أيوب )
أن جريرا قدم على الحكم بن أيوب بن يحيى بن الحكم بن أبي عقيل وهو خليفة للحجاج يومئذ فمدحه جرير فقال
( أقبلتُ من ثَهْلانَ أو جَنْبَيْ خِيَمْ ... على قلاَصٍ مثلِ خيطَانِ السَّلَمْ )
ثهلان جبل كان لباهلة ثم غلبت عليه نمير وخيم جبل يناوحه من طرفه الأقصى فيما بين ركنه الأقصى وبين مطلع الشمس به ماء ونخل
( قد طُوِيتْ بطونُها طيَّ الأدَمْ ... يَبْحَثْنَ بحثاً كمُضِلاَّتِ الخَدَمْ )
( إذا قَطَعْنَ عَلَماً بَدا علَمْ ... حتى تناهَيْنَ إلى باب الحَكَمْ )
( خليفةِ الحَجَّاجِ غيرِ المُتَّهَمْ ... في مَعْقِد العِزّ وبُؤْبُوء الكَرَمْ )
( بعد انْفِضَاجِ البُدْنِ واللحمُ زيَمْ ... )
فلما قدم عليه استنطقه فأعجبه ظرفه وشعره فكتب إلى الحجاج إنه قدم علي أعرابي شيطان من الشياطين فكتب إليه أن ابعث به إلي ففعل فقدم عليه فأكرمه الحجاج وكساه جبة صبرية وأنزله فمكث أياما ثم أرسل
إليه بعد نومه فقالوا أجب الأمير فقال ألبس ثيابي فقالوا لا والله لقد أمرنا أن نأتيه بك على الحال التي نجدك عليها ففزع جرير وعليه قميص غليظ وملاءة صفراء فلما رأى ما به رجل من الرسل دنا منه وقال لا بأس عليك إنما دعاك للحديث (
هجوه للشعراء )
قال جرير فلما دخلت عليه قال إيه يا عدو الله علام تشتم الناس وتظلمهم فقلت جعلني الله فداء الأمير والله إني ما أظلمهم ولكنهم يظلمونني فأنتصر ما لي ولابن أم غسان وما لي وللبعيث وما لي وللفرزدق وما لي وللأخطل وما لي وللتيمي حتى عددهم واحدا واحدا فقال الحجاج ما أدري ما لك ولهم قال أخبر الأمير أعزه الله أما غسان بن ذهيل فإنه رجل من قومي هجاني وهجا عشيرتي وكان شاعرا قال فقال لك ماذا قال قال لي
( لعَمْرِي لئن كانت بَجِيلةُ زانَها ... جَريرٌ لقد أَخْزَى كُلَيْباً جَرِيرُها )
( رميتَ نِضَالاً عن كُلَيبٍ فقَصَّرتْ ... مَرَامِيكَ حتى عاد صِفْراً جَفِيرُها )
( ولا يَذْبَحون الشاةَ إلا بمَيْسِرٍ ... طويلٌ تَنَاجِيها صِغارٌ قُدُورُها )
قال فما قلتَ له قال قلتُ
( ألاَ ليت شِعْري عن سليطٍ ألم تَجِدْ ... سَلِيطٌ سِوَى غَسَّانَ جاراً يُجِيرُها )
( فقد ضمَّنوا الأحسابَ صاحبَ سَوْءة ... يُناجِي بها نفساً خبيثاً ضميرُها )
( كأنَّ سَلِيطاً في حَواَشِنِها الخُصَى ... إذا حَلّ بين اْلأَمْلَحَيْن وَقِيرُها )
( أَضِجُّوا الرَّوَايَا بالمَزَادِ فإنَّكم ... ستُكْفَوْنَ رَكْضَ الخيلِ تَدْمَى نحورُها )
( كأن السَّليطِيَّاتِ مَجْنَاةُ كَمْأَةٍ ... لأَوَّلِ جانٍ بالعَصا يَسْتثيرها )
( غَضَارِيطُ يَشْوُون الفَرَاسِنَ بالضُّحَى ... إذا ما السَّرَايا حَثَّ رَكْضاً مُغِيرها )
( فما في سَلِيطٍ فارسٌ ذو حَفيظةٍ ... ومَعْقِلُها يومَ الهِياجِ جُعُورها )
( عجِبتُ من الدَّاعِي جُحَيشاً وصائداً ... وعَيْساءُ يسعَى بالعِلاَب نَفِيرُها )
قال ثم من قال البعيث قال ما لك وله قال اعترض دون ابن أم غسان يفضله علي ويعينه قال فما قال لك قال قال لي
( كُلَيبٌ لئامُ الناسِ قد تَعْلمونه ... وأنتَ إذا عُدَّتْ كُلَيْبٌ لئيمُها )
( أترجوا كُلَيبٌ أن يجيء حديثُها ... بخيرٍ وقد أعيا كُلَيباً قديمُها )
قال فما قلت له قال قلت
( ألم تر أنِّي قد رميتُ ابنَ فَرْتنَى ... بصَمَّاءَ لا يرجو الحياةَ اميمها )
( له أُمّ سَوْءٍ بئس ما قَدَّمتْ له ... إذا فَرَطُ الأحسابِ عُدَّ قديمُها )
قال ثم من قلت الفرزدق قال وما لك وله قلت أعان البعيث علي قال فما قلت له قال قلت
( تمنَّى رجالٌ من تَمِيم ليَ الرَّدَى ... وما ذَاد عن أحسابِهم ذائدٌ مِثْلي )
( كأنَّهم لا يعلمون مَوِاطني ... وقد جرَّبوا أني أنا السابقُ المُبْلي )
( فلو شاء قومي كان حِلْمِيَ فيهمُ ... وكان على جُهّالِ أعدائهم جَهْلي )
( وقد زَعموا أنَّ الفرزدقَ حَيَّةٌ ... وما قَتَل الحيَّاتِ من أحدٍ قَبْلِي )
قال ثم من قلت الأخطل قال ما لك وله قلت رشاه محمد بن عمير بن عطارد زقا من خمر وكساه حلة على أن يفضل علي الفرزدق ويهجوني
قال فما قال لك قال قال
( إِخسَأْ إليكَ كُلَيبُ إنَّ مُجَاشِعاً ... وأبا الفَوَارِس نَهْشَلاً أخَوانِ )
( وإذا وَرَدْتَ الماءَ كان لدارِمٍ ... جُمَّاتُه وسُهُولةُ اْلأَعْطان )
( وإذا قذَفْتَ أباك في ميزانِهمْ ... رجَحُوا وشالَ أبوك في الميزانِ )
قال فما قلت له قال قلت
( يا ذا العَبَاءةِ إنَّ بِشْراً قد قَضَى ... ألاَّ تَجُوزَ حكومةُ النَّشْوان )
( فدَعُوا الحكومةَ لَسْتُمُ من أهلِها ... إنَّ الحكومةَ في بني شَيْبانِ )
( قَتلوا كُلَيبَكُمُ بلِقُحةِ جارِهم ... يا خُزْرَ تَغْلِبَ لستُمُ بِهجَانِ )
قال ثم من قلت عمر بن لجأ التيمي قال ما لك وله قال قلت بيتا من شعر فقبحه وقاله على غير ما قلته قلت
( لَقَوْمِيَ أَحْمَى للحقيقةِ منكمُ ... وأَضْرَبُ للجَبَّار والنَّقْعُ ساطِعُ )
( وأوثقُ عند المُرْهَفاتِ عشيَّةً ... لَحَاقاً إذا ما جرَّد السيفَ لامعُ )
فزعم أني قلت
( وأَوْثَقُ عند المُرْدَفات عشيَّةً ... لَحَاقاً إذا ما جرَّد السيفَ لامعُ )
فقال لحقتهن عند العشي وقد أخذن غدوة والله ما يمسين حتى يفضحن قال فما قلت له قال قلت
( يا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيّ لا أبا لكُم ... لا يُوقِعنَّكُمُ في سَوءة عُمَرُ )
( خَلِّ الطريقَ لمن يَبنِي المنارَ به ... وَابرُزْ ببَرْزَةَ حيثُ اضطرَّك القَدَرُ )
حتى أتى على الشعر قال ثم من قلت سراقة بن مرداس البارقي قال ما لك وله قال قلت لا شيء حمله بشر من مروان وأكرهه على هجائي ثم بعث إلي رسولا وأمرني أن أجيبه قال فما قال لك قال قال
( إنَّ الفَرَزْدَقَ بَرَّزتْ أعراقُه ... عَفْواً وغُودِر في الغُبار جريرُ )
( ما كنتَ أوَّلَ مِحْمَرٍ قعدتْ به ... مسْعاتُه إنَّ اللئيم عَثُور )
( هذا قضاءُ البارِقيّ وإنه ... بالمَيْل في ميزانكم لَبَصِيرُ )
قال فما قلت له قال قلت
( يا بِشْرُ حَقَّ لوجهك التبشيرُ ... هَلاَّ غضِبتَ لنا وأنت أميرُ )
( بِشْرٌ أبو مَرْوانَ إن عاسَرْتَه ... عَسِرٌ وعند يَساره مَيْسورُ )
( إنَّ الكريمةَ ينصُر الكرمَ ابنُها ... وابنُ اللئيمةِ للِّئامِ نَصُور )
( قد كان حقُّك أن تقول لبارقٍ ... يا آلَ بارقَ فِيمَ سُبَّ جَرِير )
( وكسَحْتَ بآستِك للفَخَار وبارِقٌ ... شَيْخانِ أَعْمَى مُقْعدٌ وكَسِير )
قال ثم من قلت البلتع وهو المستنير بن سبرة العنبري قال ما لك
وله قلت أعان علي آبن لجأ قال فما قال لك قلت قال
( إنَّ التي رَبَّتْكَ لما طُلِّقتْ ... قعَدتْ على جَحْشِ المَرَاغةِ تَمْرَغُ )
( أتَعِيبُ مَنْ رضيتْ قريشٌ صِهْرَه ... وأبوك عبدٌ بالخَوَرْنَقِ ) أَذْلَغُ )
قال فما قلت له قال قلت
( فما مستنيرُ الخُبْثِ إلا فَرَاشةٌ ... هَوَتْ بين مُؤْتَجّ الحَرِيقَيْن ساطِعِ )
( نهيتُ بناتِ المستنيرِ عن الرُّقَى ... وعن مشيهنّ الليلَ بين المَزَارع )
ويروى
( . . بين مؤتجٍّ من النار ساطِع ... )
قال ثم من قلت راعي الإبل قال ما لك وله قلت قدمت البصرة وكان بلغني أنه قال لي
( يا صاحبيَّ دنا الرَّواحُ فسِيراَ ... غَلَب الفَرَزْدَقُ في الهجاء جَريرَا )
وقال أيضا
( رأيتُ الجَحْش جحشَ بني كُليبٍ ... تَيَمَّم حوضَ دِجْلةَ ثم هابا )
فقلت يا أبا جندل إنك شيخ مضر وشاعرها وقد بلغني أنك تفضل علي الفرزدق وأنت يسمع قولك وهو ابن عمي دونك فإن كان لا بد من تفضيل فأنا أحق به لمدحي قومك وذكري إياهم قال وابنه جندل على فرس
له فأقبل يسير بفرسه حتى ضرب عجز دابتي وأنا قائم فكاد يقطع أصبع رجلي وقال لا أراك واقفا على هذا الكلب من بني كليب فمضى وناديته أنا ابن يربوع إن أهلك بعثوك مائرا من هبود وبئس المائر وإنما بعثني أهلي لأقعد على قارعة هذا المربد فلا يسبهم أحد إلا سببته وإن علي نذرا إن جعلت في عيني غمضا حتى أخزيك قال فما أصبحت حتى هجوته فقلت
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كعباً بلغتَ ولا كِلاَبَا )
قال فغدوت عليه من الغد فأخذت بعنانه فما فارقته حتى أنشدته إياها فلما مررت على قولي
( أجَنْدَلُ ما تقول بنو نُمَيرٍ ... إذا ما الأَيْرُ في اسْتِ أبيك غابَا )
قال فأرسل يدي وقال يقولون والله شرا
قال ثم من قلت العباس بن يزيد الكندي قال ما لك وله قال لما قلت
( إذا غَضِبتْ عليكَ بنو تَميم ... حسِبتَ الناسَ كلَّهُم غِضابَا )
قال
( أّلا رَغِمَتْ أُنوفُ بني تَميمٍ ... فُسَاةِ التمرِ إن كانوا غضابَا )
( لقد غضِبتْ عليك بنو تميمٍ ... فما نَكَأَتْ بغَضْبتها ذُبَابَا )
( لو اطَّلع الغرابُ على تَمِيمٍ ... وما فيها من السَّوْءات شابا )
قال فتركته خمس سنين لا أهجوه ثم قدمت الكوفة فأتيت مجلس
كندة فطلبت إليهم أن يكفوه عني فقالوا ما نكفه وإنه لشاعر وأوعدوني فقلت
( أَلاَ أَبْلِغْ بني حُجْرِ بن وَهْبٍ ... بأنَّ التمرَ حُلْوٌ في الشتاءِ )
( فَعُودوا للنَّخِيل فأبِّرُوها ... وعِيثُوا بالمُشَقَّر فالصَّفَاءِ )
قال فمكثت قليلا ثم بعثوا إلي راكبا فأخبروني بمثالبه وجواره في طيىء حيث جاور عتابا وحبل أخته هضيبة حيث حبلت قال فقلت ماذا قال قلت
( إذا جهِل الشَّقِيُّ ولم يُقَدِّرْ ... لبعضِ الأمرِ أَوْشكَ أن يُصَابَا )
( أَعَبْداً حَلَّ في شُعَبَى غريباً ... أَلؤماً لا أَبالكَ واغترابَا )
( فما خَفِيتْ هُضَيبة حينَ جُرَّتْ ... ولا إطعامُ سَخْلَتِها الكِلابَا )
( تُخَرِّقُ بالمَشَاقِصِ حالِبَيْها ... وقد بَلَّتْ مَشِيمَتُها الترابَا )
( فقد حَملتْ ثمانيةً وأَوْفَتْ ... بتاسعِها وتَحْسَبُهَا كَعَابَا )
قال ثم من قلت جفنة الهزاني بن جعفر بن عباية بن شكس من عنزة قال وما لك وله قال أقبل سائلا حتى أتاني وأنا أمدر حوضا لي فقال يا جرير قم إلي ها هنا قلت نعم ثم أتيته فقلت ما حاجتك قال مدحتك فاستمع مني قلت أنشدني فأنشد فقلت قد والله أحسنت
وأجملت فما حاجتك قال تكسوني الحلة التي كساكها الوليد بن عبد الملك العام فقلت إني لم أقف فيها بالموسم ولا بد من أن أقف فيها العام ولكني أكسوك حلة خيرا منها كان كسانيها الوليد عاما أول فقال ما أقبل غيرها بعينها فقلت بلى فأقبل وأزيدك معها دنانير نفقة فقال ما أفعل ومضى فأتى المرار بن منقذ أحد بني العدوية فحمله على ناقة له يقال لها القصواء فقال جفنة
( لَعَمْرُك لَلْمَرَّارُ يومَ لَقِيتُهُ ... على الشَّحْطِ خيرٌ من جريرٍ وأكرمُ )
قال فما قلت له قال قلت
( لقد بَعثتْ هِزَّانُ جَفْنَةَ مائراً ... فآب وأَحْذَى قومَه شَرَّ مَغْنَم )
( فيا راكبَ القَصْواءِ ما أنت قائلٌ ... لِهزَّانَ إذ أَسْلَمْتَها شَرَّ مُسْلَمِ )
( أظنُّ عِجَانَ التَّيْس هِزَّانَ طالباً ... عُلاَلةَ سَبَّاقِ الأَضَامِيمِ مِرْجَم )
( كأنَّ بني هِزَّانَ حينَ رَدَيتُهم ... وِبَارٌ تَضَاغَتْ تحتَ غَارِ مهدَّمِ )
( بَنِي عَبْدِ عمروٍ قد فَرَغْتُ إليكُم ... وقد طال زَجْرِي لو نَهَاكُمْ تقدُّمِي )
( ورَصْعَاءَ هِزَّانِيَّةٍ قد تَحَفَّشَتْ ... على مِثْلِ حِرْباءِ الفَلاَة المعمَّمِ )
قال ثم من قلت المرار بن منقذ قال ما لك وله قلت أعان علي الفرزدق قال فما قلت له قال قلت
( بَني مُنْقِذٍ لا صُلْحَ حتى تَضُمَّكُمْ ... من الحربِ صَمَّاءُ القَنَاةِ زَبُونُ )
( وحتى تَذُوقوا كأسَ مَنْ كان قبلَكم ... ويَسْلَحَ منكم في الحبِال قَرِينُ )
( فإن كنتُم كَلْبَى فعِندي شفاؤكم ... وللجنِّ إن كان اعتراكَ جنونُ )
قال ثم من قلت حكيم بن معية من بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم قال وما لك وله قلت بلغني أنه اعان علي غسان السليطي قال فما قلت له قال قلت
( إذا طلعَ الرُّكْبَانُ نَجْداً وغَوَّرُوا ... بها فارْجُزَا يا بْنَيْ مُعَيَّةَ أو دَعَا )
( أَتَسْمَنُ أَسْتَاهُ المَجَرِّ وقد رأوْا ... مَجَرّاً بوَعْسَاوَيْ رُمَاحَ مصرَّعَا ) ألا إنَّما كانت غَضُوبُ مُحَامِياً ... غَدَاةَ اللَّوَى لم تَدْفَع الضَّيْمَ مَدْفَعَا )
قال ثم من قلت ثور بن الأشهب بن رميلة النهشلي قال وما لك وله قلت أعان علي الفرزدق قال فما قلت له قال قلت
( سيَخْزَى إذا ضَنَّتْ حَلاَئبُ مالكٍ ... ثُوَيرٌ ويَخْزَى عاصِمٌ وجَمِيعُ )
( وقَبْلكَ ما أَعْيَا الرُّمَاةَ إذا رَمَوْا ... صَفاً ليس في قاراتهنّ صُدُوعُ )
قال ثم من قلت الدلهمس أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة قال ما لك وله قلت أعان علي الفرزدق قال فما قلت له قال قلت
( لقد نَفَخَتْ منكَ الوَرِيدَيْنِ عِلْجَةٌ ... خَبِيثةُ ريح المَنْكِبَيْنِ قَبوعُ )
( ولو أَنْجَبَتْ أُمُ الدَّلَهْمَسِ لمّ يَعِبْ ... فَوَارِسَنا لا عاش وهو جميعُ )
( أليس ابنَ حَمْراءِ العِجَانِ كأنَّما ... ثلاثةُ غِرْبانٍ عليه وُقوعُ )
( فلا تُدْنِيَا رَحْلَ الدَّلَهْمَسِ إنه ... بصيرٌ بما يأتي اللئامُ سَمِيعُ )
( هو النَّخْبَةُ الخَوَّارُ ما دون قلبِه ... حِجَابٌ ولا حولَ الحجابِ ضُلوعُ )
قال ثم مررت على مجلس لهم فاعتذرت إليهم فلم يقبلوا عذري وأنشدوني شعرا لم يخبروني من قاله
( غضِبتَ علينا أن عَلاَكَ ابنُ غالبٍ ... فَهَلاَّ على جَدَّيْكَ في ذاكَ تغضَبُ )
( هُمَا إذْ عَلا بالمرءِ مَسعاةُ قومِه ... أَنَاخَا فشَدَّاك العِقَالُ المؤرَّبُ )
قال فعلمت أنه شعر قبضة الكلب قال فجمعتهم في شعري فقلت
( وأكثرُ ما كانت رَبِيعةُ أنها ... خِبَاءانِ شَتَّى لا أنِيسٌ ولا قَفْرُ )
( مُحَالِفُهم فَقْرٌ شديدٌ وذِلَّةٌ ... وبئس الحَلِيفان المَذَلَّةُ والفَقْرُ )
( فصَبْراً على ذُلٍّ ربِيعَ بنَ مالكٍ ... وكلُّ ذليلٍ خيرُ عادتِه الصبرُ )
قال ثم من قلت هبيرة بن الصلت الربعي من ربيعة بن مالك أيضا كان يروي شعر الفرزدق قال فما قلت له قال قلت
( يَمْشِي هُبَيرَةُ بعد مَقْتَل شَيْخِه ... مَشْيَ المُرَاسِل أُوذِنَتْ بطَلاقِ )
( ماذا أردتَ إليَّ حينَ تَحَرَّقَتْ ... نارِي وشُمِّر مِئْزَرِي عن سَاقيِ )
( إنَّ القِرَافَ بِمَنْخَرَيْكَ لَبيِّنٌ ... وسواد وجهِك يآبن أمَّ عِفاقِ )
( سِيرُوا فرُبَّ مُسَبِّحينَ وقائلٍ ... هذا شَقاً لبَنِي رَبيعةَ بَاقِي )
( أَبَنِي رَبيعةَ قد أَخَسَّ بحَظِّكُمْ ... لؤمُ الجُدودِ ودِقَّة الأخلاقِ )
قال ثم من قلت علقة والسرندى من بني الرباب كانا يعينان ابن لجأ
قال فما قلت لهما قال قلت
( عَضَّ السَّرَنْدَى على تَثْليم ناجِذه ... من أمِّ عِلْقَةَ بَظْراً غَمَّه الشَّعرُ )
( وعَضَّ عِلْقَةُ لا يأْلُوا بعُرْعُرَةٍ ... من بَظْرِ أُمِّ السَّرَنْدَى وهو منتصِرُ )
قال ثم من قلت الطهوي كان يروي شعر الفرزدق قال ما قلت له قال قلت
( أَتَنْسَوْنَ وَهْباً يا بَنِي زَبَدِ اسْتِها ... وقد كنتمُ جِيرانَ وَهْب بنِ أَبْجَرا )
( فما تَتَّقُون الشرَّ حتَّى يُصِيبَكم ... ولا تَعْرِفون الأمر إلا تدبُّرا )
( ألا رُبّ أَعْشَى ظالمٍ متخمِّطٍ ... جعلتُ لعينيه جِلاءً فأَبْصَرَا )
قال ثم من قلت عقبة بن السنيع الطهوي وكان نذر دمي قال
فما قلت له قال قلت
( يا عُقْب يابنَ سُنَيْع ليس عندكمُ ... مأْوَى الرِّفَاقِ ولا ذو الرايةِ الغَادِي )
( يا عُقْب يابنَ سُنَيْع بعضَ قولِكُم ... إن الوِثَابَ لكم عندي بمِرْصَادِ )
( ما ظنُّكم بِبَنِي مَيْثَاءَ إن فَزِعُوا ... ليلاً وشَدَّ عليهم حَيَّةُ الوادي )
( يَغْدوا عليَّ أبو لَيْلَى ليقتلَني ... جَهْلاً عليَّ ولم يَثْأر بشَدَّاد )
( إرْوُوا عليَّ وأرْضُوا بي صديقَكُم ... واستسْمِعُوا يا بَنِي مَيْثاء إنشادِي ) ميثاء هي بنت زهير بن شداد الطهوي وهي أم عوف بن أبي سود بن مالك بن حنظلة
وقال أيضا لبني ميثاء
( نُبِّئتُ عُقْبةَ خَصَّافاً تَوَعَّدَنِي ... يا رُبَّ آدَرَ من مَيْثَاءَ مَأْفُونِ )
( لَوْ في طُهَيَّةَ أحلامٌ لما اعترضوا ... دونَ الذي كنتُ أَرْمِيه ويَرْمِيني ) قال ثم من قلت سحمة الأعور النبهاني كانت له امرأة من طيىء ولدت في بني سليط فأعطوه وحملوه علي فسألني فآشتط ولم يكن عندي فحرمته فقال
( أقول لأصحابي النَّجَاءَ فإنه ... كَفَى الذَّم أن يأتي الضيوفَ جَريرُ )
( جَرِيرُ ابن ذاتِ البَظْرِ هل أنت زائلٌ ... لقِدْرِك دون النازلين سُتورُ )
( وهل يُكْرِم الأضيافَ كلبٌ لكلبةٍ ... لها عند أَطْنابِ البيوت هَرِيرُ )
( فلو عندَ غَسَّانَ السَّلِيطِي عَرَّسَتْ ... رَغَا قَرَنٌ منها وكَسَ عَقِيرُ )
( فَتىً هو خيرٌ منكَ نفساً ووالداً ... عليكَ إذا كان الجِوار يُجِيرُ )
فقال جرير
( وَجَدْنا بَنِي نَبْهانَ أذنابَ طيّىء ... وللناسِ أذنابٌ تُرَى وصُدورُ )
( تغنَّى ابنُ نَبْهانِيَّةٍ طال بَظْرُها ... وباعُ ابنِها عند الهِياج قَصيرُ )
( وأَعْورَ من نَبْهانَ أمَّا نَهَارُه ... فأَعْمَى وأمَّا ليلُه فَبَصِيرُ )
( ستأتي بَنِي نَبْهانَ منَّي قصائدٌ ... تطلعُ من سَلْمَى وهنّ وُعُورُ )
( تَرَى قَزَمَ المِعْزَى مُهُورَ نسائهم ... وفي قَزَمِ المِعْزَى لهنّ مُهُورُ )
قال وطلع الصبح فنهض ونهضت قال فأخبرني من كان قاعدا معه أنه قال قاتله الله أعرابيا إنه لجرو هراش
خبره مع راعي الإبل وابنه جندل أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري عن الرياشي عن الأصمعي قال وذكر المغيرة بن حجناء قال حدثني أبي عن أبيه قال
كان راعي الإبل يقضي للفرزدق على جرير ويفضله وكان راعي الإبل قد ضخم أمره وكان من شعراء الناس فلما أكثر من ذلك خرج جرير إلى رجال من قومه فقال هلا تعجبون لهذا الرجل الذي يقضي للفرزدق علي وهو يهجو قومه وأنا أمدحهم قال جرير فضربت رأيي فيه ثم خرج جرير ذات يوم
يمشي ولم يركب دابته وقال والله ما يسرني أن يعلم أحد وكان لراعي الإبل والفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها قال فخرجت أتعرض له لألقاه من حيال حيث كنت أراه يمر إذا انصرف من مجلسه وما يسرني أن يعلم أحد حتى إذا هو قد مر على بغلة له وابنه جندل يسير وراءه على مهر له أحوى محذوف الذنب وإنسان يمشي معه يسأله عن بعض السبب فلما استقبلته قلت مرحبا بك يا أبا جندل وضربت بشمالي على معرفة بغلته ثم قلت يا أبا جندل إن قولك يستمع وإنك تفضل الفرزدق علي تفضيلا قبيحا وأنا أمدح قومك وهو يهجوهم وهو ابن عمي ويكفيك من ذاك هين إذا ذكرنا أن تقول كلاهما شاعر كريم ولا تحتمل مني ولا منه لائمة قال فبينا أنا وهو كذاك واقفا علي وما رد علي بذلك شيئا حتى لحق ابنه جندل فرفع كرمانية معه فضرب بها عجز بغلته ثم قال لا أراك واقفا على كلب من بني كليب كأنك تخشى منه شرا أو ترجو منه خيرا وضرب البغلة ضربة فرمحتني رمحة وقعت منها قلنسوتي فوالله لو يعرِّج علي الراعي لقلت سفيه غوى يعني جندلا ابنه ولكن لا والله ما عاج علي فأخذت قلنسوتي فمسحتها ثم أعدتها على راسي ثم قلت
( أَجَنْدلُ ما تقول بنو نُمَيْرٍ ... إذا ما الأْير في استِ أبيك غابَا )
فسمعت الراعي قال لابنه أما والله لقد طرحت قلنسوته طرحة مشؤومة
قال جرير ولا والله ما القلنسوة بأغيظ أمره إلي لو كان عاج علي فانصرف جرير غضبان حتى إذا صلى العشاء بمنزله في علية له قال ارفعوا إلي
باطية من نبيذ وأسرجوا لي فأسرجوا له وأتوه بباطية من نبيذ قال فجعل يهمهم فسمعت صوته عجوز في الدار فاطلعت في الدرجة حتى نظرت إليه فإذا هو يحبو على الفراش عريانا لما هو فيه فانحدرت فقالت ضيفكم مجنون رأيت منه كذا وكذا فقالوا لها اذهبي لطيتك نحن أعلم به وبما يمارس فما زال كذلك حتى كان السحر ثم إذا هو يكبر قد قالها ثمانين بيتا في بني نمير فلما ختمها بقوله
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنَّكَ من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ وَلا كِلاَبَا )
كبر ثم قال أخزيتُه ورب الكعبة ثم أصبح حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد وكان يعرف مجلسه ومجلس الفرزدق دعا بدهن فادهن وكف رأسه وكان حسن الشعر ثم قال يا غلام أسرج لي فأسرج له حصانا ثم قصد مجلسهم حتى إذا كان بموضع السلام قال يا غلام ولم يسلم قل لعبيد ابعثك نسوتك تكسبهن المال بالعراق أما والذي نفس جرير بيده لترجعن إليهن بمير يسوءهن ولا يسرهن ثم اندفع فيها فأنشدها قال فنكس الفرزدق وراعي الإبل وأرم القوم حتى إذا فرغ منها سار وثبت راعي الإبل ساعة ثم ركب بغلته بشر وعر وخلى المجلس حتى ترقى إلى منزله الذي ينزله قال لأصحابه ركابكم فليس لكم ها هنا مقام فضحكم والله جرير فقال له بعض القوم ذاك شؤمك وشؤم ابنك قال فما كان إلا ترحلهم قال فسرنا إلى أهلنا سيرا ما ساره أحد وهم بالشريف
وهو أعلى دار بني نمير فيحلق بالله راعي الإبل إنا وجدنا في أهلنا
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنكَ من نُمَيرٍ ... )
وأقسم بالله ما بلغه إنسي قط وإن لجرير لأشياعا من الجن فتشاءمت به بنو نمير وسبوه وابنه فهم يتشاءمون به إلى الآن
قصيدته في هجو الراعي أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبيه قال حدثني مولى لبني كليب بن يربوع كان يبيع الرطب بالبصرة أنسيت اسمه قال
كنت أجمع شعر جرير وأشتهي أن أحفظه وأرويه فجاءني ليلة فقال إن راعي الإبل النميري قد هجاني وإني آتيك الليلة فأعد لي شواء رشراشا ونبيذا مخفسا فأعددت له ذلك فلما أعتم جاءني فقال هلم عشاءك فأتيته به فأكل ثم قال هلم نبيذك فأتيته به فشرب أقداحا ثم قال هات دواة وكتفا فأتيته بهما فجعل يملي علي قوله
( أَقِلِّي اللومَ عَاذِلَ والعتابَا ... وقُولِي إن أَصَبْتُِ لقد أصابَا )
حتى بلغ إلى قوله
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنكَ من نُمَيرٍ ... )
فجعل يردده ولا يزيد عليه حتى حملتني عيني فضربت بذقني صدري نائما فإذا به قد وثب حتى أصاب السقف رأسه وكبر ثم صاح أخزيته والله اكتب
( فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلاَبَا ... )
غضضته وقدمت إخوته عليه والله لا يفلح بعدها أبدا فكان والله كما قال ما افلح هو ولا نميري بعدها
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال
اقبل راكب من اليمامة فمر بالفرزدق وهو جالس في المربد فقال له من اين أقبلت قال من اليمامة فقال هل رأيت ابن المراغة قال نعم قال فأي شيء أحدث بعدي فأنشده
( هاجَ الهوى لفؤادك المُهْتاجِ ... )
فقال الفرزدق
( فانظُر بتُوضِحَ باكِرَ الأَحْداجِ ... )
فأنشده الرجل
( هذا هَوىً شغَف الفؤادَ مبرِّحٌ ... )
فقال الفرزدق
( ونَوىً تَقَاذَفُ غيرُ ذاتِ خِلاَج ... ) ِ
فأنشده الرجل
( إن الغراب بما كرِهتَ لمُولَعُ ... )
فقال الفرزدق
( بِنَوَى الأحبَّةِ دائمُ التَّشْحَاجِ ... )
فقال الرجل هكذا والله قال أفسمعتها من غيري قال لا ولكن هكذا ينبغي أن يقال أوما علمت أن شيطاننا واحد ثم قال أمدح بها الحجاج قال نعم قال إياه أراد
أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا محمد بن إسحاق بن عبد الرحمن قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال حدثني أبو عبيدة قال
التقى جرير والفرزدق بمنى وهما حاجان فقال الفرزدق لجرير
( فإنك لاقٍ بالمنازل من مِنىً ... فَخَاراً فخبِّرْنِي بمن أنت فاخرُ )
فقال له جرير بلبيك اللهم لبيك قال إسحاق فكان أصحابنا يستحسنون هذا الجواب من جرير ويعجبون منه
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام وأخبرني وكيع عن محمد بن إسماعيل عن ابن سلام قال حدثنا أبو الخطاب عن أبيه عن حجناء بن جرير قال
قلت لأبي يا ابت ما هجوت قوما قط إلا أفسدتهم سوى التيم فقال
إني لم أجد حسبا أضعه ولا بناء أهدمه
قال ابن سلام أخبرني أبو قيس عن عكرمة بن جرير قال قلت لأبي يا أبت من أشعر الناس فقال ألجاهلية تريد أم الإسلام قلت أخبرني عن الجاهلية قال شاعر الجاهلية زهير قلت فالإسلام قال نبعة الشعر الفرزدق قلت فالأخطل قال يجيد صفة الملوك ويصيب نعت الخمر قلت فما تركت لنفسك قال دعني فإني نحرت الشعر نحرا (
الفرزدق توقع سلفا ما هجاه به جرير )
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني الحسن بن عليل قال حدثني محمد بن عبد الله العبدي عن عمارة بن عقيل عن جده قال
وقف الفرزدق على أبي بمربد البصرة وهو ينشد قصيدته التي هجا بها الراعي فلما بلغ إلى قوله
( فغُضَّ الطَّرْف إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغت ولا كِلابا )
أقبل الفرزدق على روايته فقال غضه والله فلا يجيبه أبدا ولا يفلح بعدها فلما بلغ إلى قوله
( بها بَرَصٌ بجانبِ إسْكَتَيْها ... )
وضع الفرزدق يده على فيه وغطى عنفقته فقال أبي
( كَعَنْفَقَةِ الفرزدقِ حين شابَا ... )
فانصرف الفرزدق وهو يقول اللهم أخزه والله لقد علمت حين بدأ بالبيت أنه لا يقول غير هذا ولكن طمعت ألا يأبه فغطيت وجهي فما أغناني ذلك شيئا قال العنزي حدثني مسعود بن بشر عن أبي عبيدة قال قال يونس ما أرى جريرا قال هذا المصراع إلا حين غطى الفرزدق عنفقته فإنه نبهه عليه بتغطيته إياها
الفرزدق يعترف بمجاراة جرير له أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي قال
قال رجل من بني دارم للفرزدق وهو بالبصرة يا ابا فراس هل تعلم اليوم أحدا يرمي معك فقال لا والله ما أعرف نابحا إلا وقد استكان ولا ناهشا إلا وقد انجحر إلا القائل
( فإنْ لم أَجِدْ في القُرْبِ والبعدِ حاجتي ... تَشَأَّمتُ أو حوَّلتُ وجهي يمانيَا )
( فرُدِّي جِمَالَ الحيِّ ثم تَحَمَّلي ... فما لكِ فيهم من مُقَامٍ ولا لِيَا )
( فإنِّي لمغرورٌ أُعلَّل بالمُنَى ... لياليَ أرجو أنّ ما لَكَ ما ليا )
( وقائلةٍ والدمعُ يَحْدِر كُحْلَها ... ابعدَ جرير تُكرِمون المَوَاليِا )
( بأيِّ نِجَادٍ تحمِل السيفَ بعدما ... قطعتَ القُوَى من مِحْمَلٍ كان باقيا )
( بأيِّ سنانٍ تطعُنُ القَرْمَ بعدما ... نزَعْتَ سِناناً من قَنَاتِك ماضيا )
( لساني وسيفي صارمانِ كلاهما ... ولَلسَّيْفُ أَشْوَى وَقْعةً من لسانيا )
قال وهذا الشعر لجرير
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد عن عمارة بن عقيل عن أبيه قال
قال جرير وفدت إلى يزيد بن معاوية وأنا شاب يومئذ فاستؤذن لي عليه في جملة الشعراء فخرج الحاجب إلي وقال يقول لك أمير المؤمنين إنه لا يصل إلينا شاعر لا نعرفه ولا نسمع بشيء من شعره وما سمعنا لك بشيء فنأذن لك على بصيرة فقلت له تقول لأمير المؤمنين أنا القائل
( وإنِّي لَعَفُّ الفقر مُشْتَرَكُ الغِنَى ... سريعٌ إذا لم أرضَ داري انتقاليا )
( جريءُ الجَنَانِ لا أَهاب مِنَ الرَّدَى ... إذا ما جعلتُ السيفَ قَبْضَ بَنَانيا )
( وليس لسيفي في العظامِ بَقِيَّةٌ ... ولَلسَّيْفُ أَشْوَى وقعةً من لسانيا ) فدخل الحاجب عليه فأنشده الأبيات ثم خرج إلي وأذن لي فدخلت وأنشدته وأخذت الجائزة مع الشعراء فكانت أول جائزة أخذتها من خليفة وقال لي لقد فارق أبي الدنيا وما يظن أبياتك التي توسلت بها إلي إلا لي (
حماد الرواية يوازن بينه وبين الفرزدق )
أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية قال
أتيت الفرزدق فأنشدني ثم قال لي هل أتيت الكلب جريرا قلت نعم قال فأنا أشعر أو هو فقلت أنت في بعض الأمر وهو في بعض فقال لم تناصحني فقلت هو أشعر إذا أرخى من خناقه وأنت أشعر منه إذا خفت أو رجوت فقال وهل الشعر إلا في الخوف والرجاء وعند الخير والشر
أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن الحارث قال حدثنا المدائني عن يحيى بن عنبسة القرشي وعوانة بن الحكم
أن جريرا والفرزدق اجتمعا عند بشر بن مروان فقال لهما بشر إنكما قد تقارضتما الأشعار وتطالبتما الآثار وتقاولتما الفخر وتهاجيتما فأما الهجاء فليست بي إليه حاجة فجددا بين يدي فخرا ودعاني مما مضى فقال الفرزدق
( نحن السَّنَامُ والمَنَاسِمُ غيرُنا ... فمَنْ ذا يُساوِي بالسَّنَامِ المناسمَا )
فقال جرير
( على موضع الأَسْتاهِ أنتم زعمتُمُ ... وكلُّ سَنَامٍ تابعٌ للغَلاَصِمِ )
فقال الفرزدق
( على مَحْرَثٍ للفَرْث أنتم زعمتُمُ ... ألاَ إنَّ فوق الغَلْصَمات الجَمَاجِمَا )
فقال جرير
( وأنبأتُمونا أنكم هامُ قومِكم ... ولا هامَ إلا تابعٌ للخَرَاطم )
فقال الفرزدق
( فنحن الزِّمامُ القائدُ المقتدَى به ... من الناس ما زِلنا ولسنا لَهَازِمَا )
فقال جرير
( فنحن بَنِي زيد قطعنا زِمامِها ... فتاهت كسارٍ طائِش الرأسِ عارِمِ )
فقال بشر غلبته يا جرير بقطعك الزمام وذهابك بالناقة وأحسن الجائزة لهما وفضل جريرا
قال المدائني وحدثني عوانة بن الحكم قال
جاء جرير إلى باب سكينة بنت الحسين عليه السلام يستأذن عليها فلم تاذن له وخرجت إليه جارية لها فقالت تقول لك سيدتي أنت القائل
( طَرَقَتْكَ صائدةُ القلوب وليس ذا ... حينَ الزيارةِ فارْجِعِي بسلامِ )
قال نعم قالت فألا أخذت بيدها فرحبت بها وأدنيت مجلسها وقلت لها ما يقال لمثلها أنت عفيف وفيك ضعف فخذ هذين الألفي الدرهم فالحق بأهلك
سكينة بنت الحسين فضلته على الفرزدق قال المدائني في خبره هذا وحدثني أبو يعقوب الثقفي عن الشعبي أن الفرزدق خرج حاجا فلما قضى حجه عدل إلى المدينة فدخل إلى سكينة بنت الحسين عليهما السلام فسلم فقالت له يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول
( بنفسِي مَنْ تَجَنُّبُه عزيزٌ ... عليّ ومَنْ زيارتُه لِمَامُ )
( ومَنْ أمسِي وأُصبِح لا أَراه ... ويَطْرُقُنِي إذا هَجَع النِّيام )
فقال والله لو أذنت لي لأسمعتك أحسن منه قالت أقيموه فأخرج
ثم عاد إليها من الغد فدخل عليها فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت صاحبك جرير أشعر منك حيث يقول
( لولا الحياءُ لعادني استعبارُ ... ولَزُرْتُ قبرك والحبيبُ يُزَارُ )
( كانت إذا هَجَر الضَّجِيعُ فِراشَها ... كُتِمَ الحديثُ وعَفَّت الأسرارُ )
( لا يَلْبَثُ القُرَنَاءُ أنْ يتفرَّقوا ... ليلٌ يكُرّ عليهمُ ونهارُ )
فقال والله لئن أذنت لي لأسمعنك أحسن منه فأمرت به فأخرج ثم عاد إليها في اليوم الثالث وحولها مولدات لها كأنهن التماثيل فنظر الفرزدق إلى واحدة منهن فأعجب بها وبهت ينظر إليها فقالت له سكينة يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت صاحبك أشعر منك حيث يقول
( إنَّ العيونَ التي في طَرْفِها مَرَضٌ ... قتلْنَنَا ثم لم يُحْيِينَ قَتْلانا )
( يَصْرَعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حَرَاكَ به ... وهنّ أضعفُ خَلْقِ اللَّه اركانا )
( أَتْبعتُهم مُقْلةً إنسانُها غَرِقٌ ... هل ما تَرَى تاركٌ للعين إنسانا )
فقال والله لئن تركتني لأسمعنك أحسن منه فأمرت بإخراجه فالتفت إليها وقال يا بنت رسول الله إن لي عليك حقا عظيما قالت وما هو قال ضربت إليك آباط الإبل من مكة إرادة التسليم عليك فكان جزائي من ذلك تكذيبي وطردي وتفضيل جرير علي ومنعك إياي أن أنشدك شيئا من شعري وبي ما قد عيل منه صبري وهذه
المنايا تغدوا وتروح ولعلي لا أفارق المدينة حتى أموت فإذا أنا مت فمري بي أن أدرج في كفني وأدفن في حر هذه يعني الجارية التي أعجبته فضحكت سكينة وأمرت له بالجارية فخرج بها آخذا بريطتها وأمرت الجواري فدفعن في أقفيتهما ونادته يا فرزدق احتفظ بها وأحسن صحبتها فإني آثرتك بها على نفسي
قال المدائني في خبره هذا وحدثني أبو عمران بن عبدالملك بن عمير عن أبيه وحدثنيه عوانة أيضا قالا
صنع عبدالملك بن مروان طعاما فأكثر وأطاب ودعا إليه الناس فأكلوا فقال بعضهم ما أطيب هذا الطعام ما نرى أن أحدا رأى أكثر منه ولا أكل أطيب منه فقال أعرابي من ناحية القوم أما أكثر فلا وأما أطيب فقد والله أكلت أطيب منه فطفقوا يضحكون من قوله فأشار إليه عبدالملك فأدني منه فقال ما أنت بمحق فيما تقول إلا أن تخبرني بما يبين به صدقك فقال نعم يا أمير المؤمنين بينا أنا بهجر في برث أحمر في أقصى حجر إذ توفي أبي وترك كلا وعيالا وكان له نخل فكانت فيه نخلة لم ينظر الناظرون إلى مثلها كأن تمرها أخفاف الرباع لم ير تمر قط أغلظ ولا أصلب ولا أصغر نوى ولا أحلى حلاوة منه وكانت تطرقها أتان وحشية قد ألفتها تأوي الليل تحتها
فكانت تثبت رجليها في أصلها وترفع يديها وتعطو بفيها فلا تترك فيها إلا النبيذ والمتفرق فأعظمني ذلك ووقع مني كل موقع فانطلقت بقوسي وأسهمي وأنا أظن أني أرجع من ساعتي فمكثت يوما وليلة لا اراها حتى إذا كان السحر أقبلت فتهيأت لها فرشقتها فأصبتها وأجهزت عليها ثم عمدت إلى سرتها فاقتددتها ثم عمدت إلى حطب جزل فجمعته إلى رضف وعمدت إلى زندي فقدحت وأضرمت النار في ذلك الحطب وألقيت سرتها فيه وأدركني نوم الشباب فلم يوقظني إلا حر الشمس في ظهري فانطلقت إليها فكشفتها وألقيت ما عليها من قذى وسواد ورماد ثم قلبت منها مثل الملاءة البيضاء فألقيت عليها من رطب تلك النخلة المجزعة والمنصفة فسمعت لها أطيطا كتداعي عامر وغطفان ثم أقبلت أتناول الشحمة واللحمة فأضعها بين التمرتين وأهوي إلى فمي فبما أحلف إني ما أكلت طعاما مثله قط فقال له عبد الملك لقد أكلت طعاما طيبا فمن أنت قال أنا رجل جانبتني عنعنة تميم وأسد وكشكشة ربيعة وحوشي أهل اليمن وإن كنت منهم فقال من ايهم أنت قال من أخوالك من عذرة قال أولئك فصحاء الناس فهل لك علم بالشعر قال سلني عما بدا لك يا أمير المؤمنين قال أي بيت قالته العرب أمدح قال قول جرير
( ألستم خيرَ مَنْ ركِبَ المَطايا ... وأَنْدَى العالمين بطونَ راحِ )
قال وكان جرير في القوم فرفع رأسه وتطاول لها ثم قال فأي بيت قالته العرب أفخر قال قول جرير
( إذا غضبتْ عليك بنو تَميم ... حسبتَ الناسَ كلَّهمُ غِضَابَا )
قال فتحرك لها جرير ثم قال له فأي بيت أهجى قال قول جرير
( فغُضَّ الطَّرْفَ إنك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْباً بلغتَ ولا كِلاَبا )
قال فاستشرف لها جرير قال فأي بيت أغزل قال قول جرير
( إن العيون التي في طَرْفِها مَرَضٌ ... قَتَلْنَنا ثم لم يُحيِين قَتْلانا ) قال فاهتز جرير وطرب ثم قال له فأي بيت قالته العرب أحسن تشبيها قال قول جرير
( سَرَى نحوَهم ليلٌ كأنّ نجومَه ... قَنَادِيلُ فيهنّ الذُّبَال المفتَّلُ )
فقال جرير جائزتي للعذري يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك وله مثلها من بيت المال ولك جائزتك يا جرير لا تنتقص منها شيئا وكانت جائزة جرير أربعة آلاف درهم وتوابعها من الحملان والكسوة فخرج العذري وفي يده اليمنى ثمانية آلاف درهم وفي اليسرى رزمة ثياب
أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا المدائني عن أبي عبد الرحمن عن عبد الله بن عياش الهمداني قال
بينا المهلب ذات يوم ( أو ليلة ) بفارس وهو يقاتل الأزارقة إذ سمع في عسكره جلبة وصياحا فقال ما هذا قالوا جماعة من العرب تحاكموا إليك
في شيء فأذن لهم فقالوا إنا اختلفنا في جرير والفرزدق فكل فريق منا يزعم أن أحدهما أشعر من الآخر وقد رضينا بحكم الأمير فقال كأنكم أردتم أن تعرضوني لهذين الكلبين فيمزقا جلدتي لا أحكم بينهما ولكني ادلكم على من يهون عليه سبال جرير وسبال الفرزدق عليكم بالأزارقة فإنهم قوم عرب يبصرون بالشعر ويقولون فيه بالحق فلما كان الغد خرج عبيدة بن هلال اليشكري ودعا إلى المبارزة فخرج إليه رجل من عسكر المهلب كان لقطري صديقا فقال له يا عبيدة سألتك الله إلا أخبرتني عن شيء أسألك عنه قال سل قال أوتخبرني قال نعم إن كنت أعلمه قال أجرير أشعر أم الفرزدق قال قبحك الله أتركت القرآن والفقه وسألتني عن الشعر قال إنا تشاجرنا في ذلك ورضينا بك فقال من الذي يقول
( وَطوَى الطِّرَادُ مع القِيَادِ بطونَها ... طَيَّ التِّجَارِ بحَضْرَمَوْتَ بُرُودَا )
فقال جرير قال هذا أشعر الرجلين (
لم ينسب ولم يرجز )
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي عن العتيبي قال
قال جرير ما عشقت قط ولو عشقت لنسبت نسيبا تسمعه العجوز فتبكي على ما فاتها من شبابها وإني لأرى من الرجز أمثال آثار الخيل في الثرى ولولا أني أخاف أن يستفزعني لأكثرت منه
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي قالا حدثنا ابن الأعرابي
قال حدثنا عبد الرحمن بن سعيد بن بيهس بن صهيب الجرمي عن عامر بن شبل الجرمي قال
قدم جرير على عبدالعزيز بن الوليد بن عبد الملك وهو نازل بدير مران فكنا نغدوا إليه بكرا فيخرج إلينا ويجلس في برنس خز له لا يكلمنا كلمة حتى يجيء طباخ عبد العزيز إليه بقدح من طلاء مسخن يفور وبكتلة من سمن كأنها هامة رجل فيخوضها فيه ثم يدفعه إليه فيأتي عليه ويقبل علينا ويحدثنا في كل فن وينشدنا لنفسه ولغيره حتى يحضر غداء عبد العزيز فنقوم إليه جميعا وكان يختم مجلسه بالتسبيح فيطيل فقال له رجل ما يغني عنك هذا التسبيح مع قذفك للمحصنات فتبسم وقال يابن أخي ( خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم ) إنهم والله يابن أخي يبدأوني ثم لا أحلم
أخبرني عمي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن بن سعيد بن جعفر بن يوسف بن محمد بن موسى قال حدثني الأخفش عن أبي محذورة الوراق عن أبي مالك الراوية قال سمعت الفرزدق يقول وأخبرني بهذا الخبر محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إبراهيم بن محمد الطائفي قال حدثني محمد بن مسعدة الأخفش عن أبي محذورة الوراق عن أبي مالك الراوية قال
سمعت الفرزدق يقول أبق غلامان لرجل منا يقال له الخضر فحدثني قال خرجت في طلبهما وأنا على ناقة لي عيساء كوماء أريد اليمامة فلما صرت في ماء لبني حنيفة يقال له الصرصران ارتفعت سحابة فرعدت وبرقت وأرخت عزاليها فعدلت إلى بعض ديارهم وسألت القرى فأجابوا فدخلت داراً لهم وأنخت الناقة وجلست تحت ظلة لهم من جريد النخل وفي الدار جويرية لهم سوداء إذ دخلت جارية كأنها سبيكة فضة وكأن عينيها كوكبان دريان فسألت الجارية لمن هذه العيساء تعني ناقتي فقالت لضيفكم هذا فعدلت إلي فقالت السلام عليكم فرددت عليها السلام فقالت لي ممن الرجل فقلت من بني حنظلة فقالت من أيهم فقلت من بني نهشل فتبسمت وقالت أنت إذا ممن عناه الفرزدق بقوله
( إن الذي سمَك السماءَ بنَى لنا ... بيتاً دعائمُه أعزُّ وأطولُ )
( بيتاً بناه لنا المليكُ وما بَنَى ... مَلِكُ السماءِ فإنه لا يُنْقَلُ )
( بيتاً زُرَارةُ مُحْتَبٍ بفِنائه ... ومُجَاشِعٌ وأبو الفَوَارِس نَهْشَلُ )
قال فقلت نعم جعلت فداك وأعجبني ما سمعت منها فضحكت وقالت فإن ابن الخطفي قد هدم عليكم بيتكم هذا الذي فخرتم به حيث يقول
( أَخْزَى الذي رفَع السماء مُجَاشِعاً ... وبَنى بِناءكَ بالحَضيض الأسفل )
( بيتاً يُحَمِّمُ قَيْنُكم بفِنائه ... دَنِساً مَقَاعِدُه خبيثَ المَدْخَلِ )
قال فوجمت فلما رأت ذلك في وجهي قالت لا عليك فإن الناس يقال فيهم ويقولون ثم قالت اين تؤم قلت اليمامة فتنفست الصعداء ثم قالت ها هي تلك أمامك ثم أنشأت تقول
( تُذكِّرُني بلاداً خيرُ أهلِي ... بها أهلُ المروءة والكَرامه )
( أَلا فَسَقَى الإلهُ أَجَشَّ صَوْباً ... يَسُحُّ بدرِّه بلدَ اليمامه )
( وحَيّا بالسلام أبا نُجَيدٍ ... فأهلٌ للتحيَّة والسلامهْ )
( قال فأنست بها وقلت لها أذات خدن أم ذات بعل فأنشأت تقول
( إذا رَقد النِّيَامُ فإن عمراً ... تؤرِّقه الهمومُ إلى الصباحِ )
( تُقطِّع قلبَه الذِّكْرى وقلبي ... فلا هو بالخَليّ ولا بِصَاحِ )
( سقَى اللَّهُ اليمامة دار قوم ... بها عمرو يَحِنُّ إلى الرَّواحِ )
فقلت لها من عمرو هذا فأنشأت تقول
( سألتَ ولو علمتَ كَفَفْتَ عنه ... ومن لكَ بالجوابِ سِوَى الخبير )
( فإن تَكُ ذا قَبولٍ إن عَمْراً ... هو القَمَرُ المُضيءُ المستنيرُ )
( وما لي بالتبعُّلِ مُسْتَراحٌ ... ولو ردَّ التبعُّلُ لي أَسِيري )
قال ثم سكتت سكتة كأنها تتسمع إلى كلام ثم تهافتت وأنشأت تقول
( يخيَّل لي هَيَا عمرُو بنَ كَعْبٍ ... كأنك قد حُمِلْتَ على سريرِ )
( يَسير بك الهُوَيْنَى القومُ لما ... رَماك الحبُّ بالعَلق العَسِيرِ )
( فإن تَكُ هكذا يا عَمْرُو إنِّي ... مُبكِّرةٌ عليك إلى القبورِ )
ثم شهقت شهقة فخرت ميتة فقلت لهم من هذه فقالوا هذه عقيلة بنت الضحاك بن عمرو بن محرق بن النعمان بن المنذر بن ماء السماء فقلت لهم فمن عمرو هذا قالوا ابن عمها عمرو بن كعب بن محرق بن النعمان بن المنذر فارتحلت من عندهم فلما دخلت اليمامة سألت عن عمرو هذا فإذا هو قد دفن في ذلك الوقت الذي قالت فيه ما قالت
خبره مع عمر بن عبد العزيز أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو الهيثم بدر بن سعيد العطار قال حدثنا عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال
لما استخلف عمر بن عبد العزيز جاءه الشعراء فجعلوا لا يصلون إليه فجاء عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وعليه عمامة قد أرخى طرفيها فدخل فصاح به جرير
( يأيُّها القارىءُ المُرْخي عِمامَته ... هذا زمانُك إنِّي قد مَضَى زَمَنِي )
( أبلِغ خليفتَنا إن كنتَ لاقيَه ... أنِّي لَدَى البابِ كالمَصْفودِ في قَرَنِ )
قال فدخل على عمر فاستأذن له فأدخله عليه وقد كان هيأ له شعرا فلما دخل عليه غيره وقال
( إنا لنرجو إذا ما الغيثُ أَخْلَفَنا ... من الخليفةِ ما نرجوا من المطرِ )
( نال الخلافةَ إذ كانت له قَدَراً ... كما أَتَى ربَّه موسى على قَدَر )
( أأذكر الجَهْدَ والبَلْوَى التي نزلتْ ... أم تَكْتفي بالذي بُلَّغْتَ من خَبَرِي )
( ما زِلْتُ بعدَك في دارٍ تَعَرَّقُنِي ... قد طال بعدك إصعادي ومُنحدَرِي )
( لا ينفَع الحاضرُ المجهودُ بادِيَنا ... ولا يجود لنا بادٍ على حَضَرِ )
( كم بالمواسِم من شَعْثاءَ أَرْمَلةٍ ... ومن يَتيمٍ ضعيفِ الصوتِ والبصرِ )
( يدعوك دعوةَ ملهوفٍ كأنّ به ... خَبْلاً من الجِنّ أو مَسّاً من النُّشَرِ )
( ممّن يَعُدُّك نَكْفِي فَقْدَ والدِه ... كالفَرْخ في العُشِّ لم يَنْهَضْ ولم يَطِرِ )
قال فبكى عمر ثم قال يابن الخطفي أمن أبناء المهاجرين أنت فنعرف لك حقهم أم من ابناء الأنصار فيجب لك ما يجب لهم أم من فقراء المسلمين فنأمر صاحب صدقات قومك فيصلك بمثل ما يصل به قومك فقال يا أمير المؤمنين ما أنا بواحد من هؤلاء وإني لمن أكثر قومي مالا وأحسنهم حالا ولكني اسألك ما عودتنيه الخلفاء أربعة آلاف درهم وما يتبعها من كسوة وحملان فقال له عمر كل امرىء يلقى فعله وأما أنا فما أرى لك في مال الله حقا ولكن انتظر يخرج فانظر ما يكفي عيالي سنة منه فأدخره لهم ثم إن فضل فضل صرفناه إليك فقال جرير لا بل يوفر أمير المؤمنين ويحمد وأخرج راضيا قال فذلك أحب إلي فخرج فلما ولى قال عمر إن شر هذا ليتقى ردوه إلي فردوه فقال إن عندي أربعين دينارا وخلعتين إذا غسلت إحداهما لبست الأخرى وأنا مقاسمك ذلك على أن الله جل وعز يعلم أن عمر أحوج إلى ذلك منك فقال له قد وفرك الله يا أمير المؤمنين وأنا والله راض قال أما وقد حلفت فإن ما وفرته علي ولم تضيق به معيشتنا آثر في نفسي من المدح فامض مصاحبا فخرج فقال له أصحابه وفيهم الفرزدق
ما صنع بك أمير المؤمنين يا أبا حزرة قال خرجت من عند رجل يقرب الفقراء ويباعد الشعراء وأنا مع ذلك عنه راض ثم وضع رجله في غرز راحلته وأتى قومه فقالوا له ما صنع بك أمير المؤمنين أبا حزرة فقال
( تركتُ لكم بالشام حَبْلَ جماعةٍ ... أَمِينَ القُوَى مُسْتَحْصِدَ العَقْدِ باقيَا )
( وجدتُ رُقَى الشيطانِ لا تستفِزُّه ... وقد كان شيطاني من الجِنّ راقيَا )
هذه رواية عمر بن شبة وأما اليزيدي فإنه قال في خبره فقال له جرير يا أمير المؤمنين فإني ابن سبيل قال لك ما لأبناء السبيل زادك ونفقة تبلغك وتبدل راحلتك إن لم تحملك فألح عليه فقالت له بنو أمية يا أبا حزرة مهلا عن أمير المؤمنين ونحن نرضيك من أموالنا عنه فخرج وجمعت له بنو أمية مالا عظيما فما خرج من عند خليفة بأكثر مما خرج من عند عمر
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عبيدة قال
رأت أم جرير وهي حامل به كأنها ولدت حبلا من شعر أسود فلما سقط منها جعل ينزو فيقع في عنق هذا فيخنقه حتى فعل ذلك برجال كثير فانتبهت فزعة فأولت الرؤيا فقيل لها تلدين غلاما شاعرا ذا شر وشدة شكيمة وبلاء على الناس فلما ولدته سمته جريراً باسم الحبل الذي رأت أنه خرج منها قال والجرير الحبل
قال إسحاق وقال الأصمعي حدثني بلال بن جرير أو حدثت عنه
أن رجلا قال لجرير من أشعر الناس قال له قم حتى أعرفك الجواب فأخذ بيده وجاء به إلى أبيه عطية وقد أخذ عنزا له فاعتقلها وجعل يمص ضرعها
فصاح به اخرج يا أبت فخرج شيخ دميم رث الهيئة وقد سال لبن العنز على لحيته فقال ألا ترى هذا قال نعم قال أوتعرفه قال لا قال هذا أبي أفتدري لم كان يشرب من ضرع العنز قلت لا قال مخافة أن يسمع صوت الحلب فيطلب منه لبن ثم قال أشعر الناس من فاخر بمثل هذا الأب ثمانين شاعرا وقارعهم به فغلبهم جميعا
حدثني عمي قال حدثنا عبدالله بن أبي سعد قال حدثني عبدالله بن محمد بن موسى مولى بني هاشم قال حدثني عمارة بن عقيل عن المغيرة بن حجناء عن أبيه قال
ولد جرير لسبعة اشهر فكان الفرزدق يعيره ذلك وفيه يقول
( وأنت أبنُ صُغْرَى لم تَتمَّ شهورُها ... )
قال وولد عطية جريرا وأمه أم قيس بنت معيد من بني كليب وعمرا وأبا الورد فأما ابو الورد فكان يحسد جريرا فذهبت لجرير إبل فشمت به أبو الورد فقال له جرير
( أبا الورْدِ أَبْقَى اللَّهُ منها بَقِيّةً ... كَفَتْ كلَّ لَوَّامٍ خَذُولٍ وحاسِد )
وأما عمرو فكان أكبر من جرير وكان يقارضه الشعر فقال له جرير
( وعمرو قد كرِهتُ عتابَ عمروٍ ... وقد كثُر المَعَاتِبُ والذُّنوبُ )
( وقد صَدَّعتُ صخرةَ مَنْ رماكم ... وقد يُرْمى بيَ الحجرُ الصَّلِيبُ )
( وقد قطعَ الحديدَ فلا تُمَارُوا ... فِرِنْدٌ لا يُفَلّ ولا يَذُوبُ )
يزيد بن معاوية يعاتب أباه بشعر جرير وينسبه إلى نفسه قال وأول شعر قاله جرير في زمن معاوية قاله لابنه
( فرُدِّي جِمالَ البَيْنِ ثم تَحَمَّلِي ... فَما لكِ فيهم من مُقَامٍ ولا لِيَا )
( لقد قادَنِي الجِيران يوماً وقُدْتُهم ... وفارقتُ حتَّى ما تصُبُّ جِمَالِيَا )
( وإنَّي لمغرورٌ أُعلَّلُ بالمُنَى ... لياليَ أرجو أن مالكَ مالِيَا )
( بأيّ سِنَانٍ تَطْعُنُ القَرْمَ بعدما ... نَزَعْتَ سِنَاناً من قَنَاتِك ماضيَا )
( بأيّ نِجَادٍ تحمِل السَّيفَ بعدما ... قطعتَ القُوَى من مِحْمَلٍ كان باقِيَا )
قال وكان يزيد بن معاوية عاتب أباه بهذه الأبيات ونسبها إلى نفسه لأن جريرا لم يكن شعره شهر حينئذ فقدم جرير على يزيد في خلافته فاستؤذن له مع الشعراء فأمر يزيد ألا يدخل عليه شاعر إلا من عرف شعره فقال جرير قولوا له أنا القائل
( فرُدِّي جِمالَ الحيِّ ثم تَحَمَّلِي ... فما لكِ فيهم من مُقامٍ ولا لِيَا )
فأمر بإدخاله فلما أنشده قال يزيد لقد فارق أبي الدنيا وما يحسب إلا أني قائلها وأمر له بجائزة وكسوة
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال قال ابو عبيدة قال أبو عمرو
استعار جرير من أبيه فحلا يطرقه في إبله فلما استغنى عنه جاءه أبوه في بت خلق يسترده فدفعه إليه وقال يا ابت هذا تُرَدّ إلى عطيَّةَ تُعْتَلُ يعرِّض بقول الفرزدق فيه
( ليس الكرامُ بناحِلِيكَ اباهُم ... حتى تُرَدَّ إلى عَطِيَّةَ تُعْتَلُ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي وعمر بن شبة قالا حدثنا الأصمعي قال أخبرنا أبو عمرو بن العلاء قال
جلس جرير يملي على رجل قوله
( وَدِّعْ أُمامةِ حانَ منكَ رحيلُ ... إنَّ الوَدَاعَ لمن تحبّ قليلُ )
فمروا عليه بجنازة فقطع الإنشاد وجعل يبكي ثم قال شيبتني هذه الجنازة قال أبو عمرو فقلت له فعلام تقذف المحصنات منذ كذا وكذا فقال إنهم يبدأونني ثم لا أعفو
أخبرني عمي قال حدثنا يزيد بن محمد المهلبي قال حدثنا عبد الله بن المعذل قال
كان أبي وجماعة من علمائنا يقولون إنما فضل جرير لمقاومته الفرزدق وأفضل شعر قاله جرير
( حَيِّ الهِدَمْلَةَ من ذات المَوَاعِيس ... )
أخبرني ابو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا ابو الغراف قال
أتى الفرزدق مجلس بني الهجيم في مسجدهم فأنشدهم وبلغ ذلك جريرا فأتاهم من الغد لينشدهم كما أنشدهم الفرزدق فقال له شيخ منهم يا هذا اتق الله فإن هذا المسجد إنما بني لذكر الله والصلاة فقال جرير أقررتم للفرزدق ومنعتموني وخرج مغضبا وهو يقول
( إنّ الهُجَيْمَ قبيلةٌ ملعونةٌ ... حُصُّ اللِّحَى متشابهو الألوانِ )
( هم يتركون بَنِيهمُ وبناتهم ... صُعْرَ الأنوفِ لريح كلِّ دُخَانِ )
( لو يَسمعون بأكلةٍ أو شَرْبةٍ ... بعُمَانَ أصبح جَمْعُهم بعُمَانِ )
قال وخفة اللحى في بني هجيم ظاهرة وقيل لرجل منهم ما بالكم يا بني الهجيم حص اللحى قال إن الفحل واحد
أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم قال سمعت عمارة بن عقيل يحدث عن أبيه عن جده قال
قال عبد الملك أو الوليد ابنه لجرير من اشعر الناس قال فقال ابن العشرين قال فما رأيك في ابني أبي سلمى قال كان شعرهما نيرا يا أمير المؤمنين قال فما تقول في امرىء القيس قال اتخذ الخبيث الشعر نعلين وأقسم بالله لو أدركته لرفعت ذلاذله قال فما تقول في ذي الرمة قال قدر من ظريف الشعر وغريبه وحسنه على ما لم يقدر عليه أحد قال فما تقول في الأخطل قال ما أخرج لسان ابن النصرانية
ما في صدره من الشعر حتى مات قال فما تقول في الفرزدق قال في يده والله يا أمير المؤمنين نبعة من الشعر قد قبض عليها قال فما أراك أبقيت لنفسك شيئا قال بلى والله يا أمير المؤمنين إني لمدينة الشعر التي منها يخرج وإليها يعود نسبت فأطربت وهجوت فأرديت ومدحت فسنيت وأرملت فأغزرت ورجزت فأبحرت فأنا قلت ضروب الشعر كلها وكل واحد منهم قال نوعا منها قال صدقت
شعره في جارية له طلبت منه أن يبيعها أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال
كانت لجرير أمة وكان بها معجبا فاستخفت المطعم والملبس والغشيان واستقلت ما عنده وكانت قبله عند قوم يقال لهم بنو زيد أهل خصب ونعمة فسامته أن يبيعها وألحت في ذلك فقال فيها
( تكلِّفُني معيشةَ آلِ زيدٍ ... ومَنْ لي بالمُرَقَّقِ والصِّنَابِ )
( تقول أَلاَ تَضُمّ كَضَمِّ زيدٍ ... وما ضَمِّي وليس معي شَبابي )
فقال الفرزدق يعيره ذلك
( فإن تُفْقِرْك عِلْجَةُ آل زيدٍ ... ويُعْجِزْك المرقَّقُ والصِّنَابُ )
( فقِدْماً كان عيشُ أبيك مُرّاً ... يَعيشُ بما تعيش به الكلابُ )
خبره مع ذي الرمة أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا العباس بن ميمون قال حدثنا التوزي عن أبي عبيدة عن أيوب بن كسيب قال
دخل جرير على المهاجر بن عبد الله وهو والي اليمامة وعنده ذو الرمة ينشده فقال المهاجر بن عبد الله لجرير كيف ترى قال لقد قال وما أنعم فغضب ذو الرمة ونهض وهو يقول
( أنا أبو الحارثِ واسْمِي غَيْلانْ ... )
فنهض جرير وقال
( إنِّي امرؤٌ خُلِقتُ شَكْساً أَشْوَسا ... إن تَضْرِسَاني تَضْرِسا مُضَرَّسا )
( قد لبِس الدهرَ وأَبْقَى مَلْبَسَا ... من شاء من نارِ الجَحيم اقتَبَسا )
قال فجلس ذو الرمة وحاد عنه فلم يجبه
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا ابن النطاح عن أبي عبيدة قال كان ذو الرمة ممن أعان على جرير ولم يصحر له فقال جرير فيه
( أقول نَصَاحةً لبَني عَدِيٍّ ... ثيابَكُمُ ونَضْحَ دمِ القَتِيلِ )
وهي قصيدة قال وكانوا يتعاونون عليه ولا يصحرون له
أخبرنا ابو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو الغراف قال
قال الفرزدق لذي الرمة ألهاك البكاء في الديار وهذا العبد يرجز بك
( يعني هشاما المرئي ) بمقبرة بني حصن قال وكان السبب في الهجاء بين ذي الرمة وهشام أن ذا الرمة نزل بقرية لبني امرىء القيس يقال لها مرأة فلم يقروه ولم يعلفوا له فارتحل وهو يقول
( نزلنا وقد طال النهارُ وأَوْقدتْ ... علينا حًصَى المِعْزَاءِ شمسٌ تَنَالُها )
( أَنَخْنَا فظلَّلْنَا بأَبْرادِ يُمْنَةٍ ... رِقاقٍ وأسيافٍ قديمٍ صِقالُها )
( فلمَّا رآنا أهلُ مَرْأةَ أَغْلَقُوا ... مَخَادِع لم تُرْفَع لخيرٍ ظِلاَلُها )
( وقد سُمِّيتْ باسم امرىء القَيْس قَرْيةٌ ... كِرَامٌ َصوَادِيها لئامٌ رجالُها )
( يظَلُّ الكِرامُ المُرْمِلُونَ بجَوّها ... سواءٌ عليهم حَمْلُها وحِيَالُها )
( ولو وُضِعَتْ أكوارها عند بَيْهَسٍ ... على ذاتِ غِسْلٍ لم تُشَمِّسْ رِحَالُها )
فقال جرير لهشام وكان يتهم ذا الرمة بهجائه التيم وهم إخوة عدي عليك العبد يعني ذا لرمة قال فما أصنع يا أبا حزرة وهو يقول القصيد وأنا أقول الرجز والرجز لا يقوم للقصيد فلو رفدتني قال قل له
( عجِبتَ لِرَحْلٍ من عَدِيٍّ مُشَمَّسٍ ... وفي أيّ يومٍ لم تُشَمًّسْ رحالُها )
( وفِيمَ عَدِيٌّ عند تَيْم من العُلاَ ... وأيَّامِنا اللاَّتي يٌعَدّ فَعالُها )
( مَدَدْتَ بكفٍّ من عديٍّ قصيرةٍ ... لِتُدْرِكَ من زيد يداً لا تنالُها )
( وضَبَّةُ عَمِّي يابنَ جَلٍّ فلا تَرُمْ ... مساعيَ قومٍ ليس منك سِجالُها )
( يُمَاشي عَدِيّاً لؤمُها ما تُجِنُّه ... من الناس ماشتْ عَدِيّاً ظِلاَلُها )
( فقل لعَدِيٍّ تَستعِنْ بنسائها ... عليَّ فقد أَعْيَا عَدِيّاً رجالُها )
( أذَا الرُّمِّ قد قَلَّدتُ قومَك رُمَّةً ... بطيئاً بأيدي المُطلقِين انحلالُها )
( تَرَى اللُّؤم ما عاشتْ عديٌّ مخلَّداً ... سَرابيلُها منه ومنه نِعالُها )
قال فلج الهجاء بين ذي الرمة وهشام فلما أنشد المرئي هذه الأبيات وسمعها ذو الرمة قال كذب العبد السوء ليس هذا الكلام له هذا كلام نجدي حنظلي هذا كلام آبن الأتان قال ولم يزل ذو الرمة مستعليا على هشام حتى لقيه جرير فرفده هذه الأبيات
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي عدنان قال حدثني أبو صخر من ولد حجناء بن نوح بن جرير قال سمعت أبي يحدث عن أبيه قال
أتى هشام بن قيس المرئي أبي يعني جريرا فاسترفده على ذي الرمة وقد كانا تهاجيا دهرا وكان سبب ذلك أن ذا الرمة نزل على أهل قرية لبني آمرىء القيس فلم يدخلوا رحله فذمهم في القرى ومدح بيهسا صاحب ذات غسل وهو مرئي وذات غسل قرية له فقال ذو الرمة
( ولمَّا وردْنا مَرْأةَ اللُّؤمِ أُغلِقتْ ... دَسَاكِرُ لم تُفْتَحْ لخيرٍ ظِلالُها )
( ولو عُرِّيتْ أصلابُها عند بَيْهَسٍ ... على ذات غِسْلٍ لم تُشَمَّس رِحالُها )
( إذا ما امرؤ القيس ابنُ لؤمٍ تَطَعَّمتْ ... بكأس الندامَى خَبَّثتْها سِبَالُها )
فقال جرير للمرئي قل له
( غَضِبتَ لرَحْلٍ من عديٍّ مُشَمَّسٍ ... وفي أيِّ يومٍ لم تُشمَّس رحالُها )
وذكر الأبيات الماضية المذكورة في رواية أبي خليفة قال فلقي ذو الرمة جريرا فقال له تعصبت للمرئي وأنا خالك قال حين قلت ماذا قال حين قلت له أن يقول لي
( عجبتَ لرَحْلٍ من عَدِيٍّ مشمَّسٍ ... )
فقال له جرير لا بل ألهاك البكاء في دار مية حتى أبيحت محارمك قال وكان قد بلغ جريرا ميل ذي الرمة عليه فجعل يعتذر إليه ويحلف له فقال له جرير اذهب الآن فقل للمرئي
( يَعُدّ الناسبون إلى تَميم ... بيوتَ المجدِ أربعةً كِبارا )
( يَعُدُّون الرِّباب وآلَ سَعْدٍ ... وعَمْراً ثم حَنْظلةَ الخِيارا )
( ويَهْلِكُ بينها المَرَئيُّ لَغْواً ... كما ألغيتَ في الدِّية الحُوَارا )
فقال ذو الرمة قصيدته التي أولها
( نَبَتْ عيناكَ عن طَلَلٍ بحُزْوَى ... عَفَتْه الرِّيحُ وامتُنِحَ القِطارَا )
وألحق فيها هذه الأبيات فلما أنشدها وسمعها المرئي جعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بويله وحربه ويقول ما لي ولجرير فقيل له وأين جرير منك هذا رجل يهاجيك وتهاجيه فقال هيهات لا والله ما يحسن ذو الرمة أن يقول
( ويذهَب بينها المَرَئِيّ لَغْواً ... كما ألغيتَ في الدِّيَة الحُوارَا )
هذا والله كلام جرير ما تعداه قط قال ومر الفرزدق بذي الرمة وهو ينشد هذه القصيدة فلما أنشد الأبيات الثلاثة فيها قال له الفرزدق أعد يا غيلان فأعاد فقال له أأنت تقول هذا قال نعم يا أبا فراس قال كذب فوك والله لقد نحلكها أشد لحيين منك هذا شعر ابن الأتان قال وجاء المرئيون إلى جرير فقالوا يا أبا حزرة قد آستعلى علينا ذو الرمة فأعنا على عادتك الجميلة فقال هيهات قد والله ظلمت خالي لكم مرة وجاءني فاعتذر وحلف وما كنت لأعينكم عليه بعدها قال ومات ذو الرمة في تلك الأيام
نصيب يقر بأسبقيته عليه وعلى جميل أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني العمري عن لقيط قال حدثني أبو بكر بن نوفل قال حدثني من سأل النصيب قال قلت له يا أبا محجن بيت قلته نازعك فيه جرير وجميل فأحب أن تخبرني أيكم فيه أشعر قال وما هو قلت قولك
( أَضَرَّ بها التَهجيرُ حتى كأنها ... أَكَبّ عليها جازِرٌ مُتَعَرِّقُ )
وقال جميل
( أَضَرَّ بها التهجيرُ حتى كأنها ... بقايَا سُلاَلٍ لم يَدَعْها سُلاَلُها )
وقال جرير
( إذا بلغوا المنازلَ لم تُقَيَّدْ ... وفي طُول الكَلاَلِ لها قيودُ )
فقال نصيب قاتل الله آبن الخطفي ما أشعره قال فقال له الرجل أما أنت فقد فضلته فقال هو ما أقول لك
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الرحمن بن القاسم العجلي قال حدثني الحسن بن علي المنقري قال قال مسعود بن بشر
قلت لابن مناذر بمكة من أشعر الناس قال من إذا شئت لعب وإذا شئت جد فإذا لعب أطمعك لعبه فيه وإذا رمته بعد عليك وإذا جد فيما قصد له أيأسك من نفسه قلت مثل من قال مثل جرير حين يقول إذا لعب
( إنَّ الَّذين غَدَوْا بلُبِّك غادروا ... وَشَلاً بعينك ما يزال مَعينَا )
ثم قال حين جد
( إنّ الذي حَرَم المكارِم تَغْلباً ... جعل الخلافةَ والنبوَّةَ فينا )
( مُضَرٌ أبي وأبو الملوكِ فهل لكم ... يا آل تَغْلِبَ من أبٍ كأبينا )
( هذا ابن عمِّي في دِمَشْقَ خليفةً ... لو شئتُ ساقكُم إليّ قطينا )
اخبرني هاشم بن محمد قال حدثني الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو قال
لما بلغ عبد الملك قول جرير
( هذا ابن عمِّي في دِمَشْق خليفةً ... لو شئتُ ساقكُم إليّ قَطينا )
قال ما زاد ابن المراغة على أن جعلني شرطيا أما إنه لو قال
( لو شاء ساقكم إليّ قطينا ... )
لسقتهم إليه كما قال
بشار يفضله على الفرزدق والأخطل أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال
سألت بشارا العقيلي عن الثلاثة فقال لم يكن الأخطل مثلهما ولكن ربيعة تعصبت له وأفرطت فيه قلت فجرير والفرزدق قال كان جرير يحسن ضروبا من الشعر لا يحسنها الفرزدق وفضل جريرا عليه
وقال ابن سلام قال العلاء بن جرير وكان قد أدرك الناس وسمع كان يقال الأخطل إذا لم يجىء سابقا فهو سكيت والفرزدق لا يجيء سابقا ولا سكيتا فهو بمنزلة المصلي أبدا وجرير يجيء سابقا ومصليا وسكيتا قال ابن سلام وتأول قوله إن للأخطل خمسا أو ستا أو سبعا طوالا روائع غررا جيادا هو بهن سابق وسائر شعره دون اشعارهما فهو فيما بقي بمنزلة السكيت والسكيت آخر الخيل في الرهان والفرزدق دونه في هذه الروائع وفوقه في بقية شعره فهو كالمصلي أبدا وهو الذي يجيء بعد السابق وقبل السكيت وجرير له روائع هو بهن سابق وأوساط هو بهن مصل وسفسافات هو بهن سكيت
مناقضة بينه وبين الفرزدق أخبرنا أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام قال حدثني حاجب بن زيد بن شيبان بن علقمة بن زرارة قال
قال جرير بالكوفة
( لقد قادَنِي من حُبِّ ماوِيَّةَ الهَوَى ... وما كنتُ تَلْقَانِي الجَنِيبةُ أَقْوَدَا )
( أُحِبُّ ثَرَى نَجْدٍ وبالغَوْرِ حاجةُ ... فغارَ الهَوَى يا عبدَ قَيْسٍ وأَنْجَدَا )
( أقول له يا عبدَ قَيْسٍ صَبابةً ... بأيٍّ تَرَى مستوقِد النارِ أَوْقدا )
( فقال أرَى ناراً يُشَبُّ وُقُودها ... بحيثُ استفاض الجِزْع شِيحاً وغَرْقَدَا )
فأعجبت الناس وتناشدوها قال فحدثني جابر بن جندل قال فقال لنا جرير أعجبتكم هذه الأبيات قالوا نعم قال كأنكم بابن القين وقد قال
( أَعِدْ نظراً يا عبدَ قَيْسٍ لعلَّما ... أضاءت لك النارُ الحِمَارَ المقيَّدا )
قال فلم يلبثوا أن جاءهم قول الفرزدق هذا البيت وبعده
( حمارٌ بمَرُّوتِ السُّحَامَةِ قاربتْ ... وَظِيفيْه حَوْلَ البيتِ حتى تَردَّدا )
( كُلَيْبِيَّة لم يجعل اللَّهُ وجهَها ... كريماً ولم يَسْنَحْ بها الطيرُ أَسْعُدَا )
قال فتناشدها الناسُ فقال الفرزدق كأنكم بابنِ المَرَاغةِ قد قال
( وما عِبْتَ من نارٍ أضاء وُقُودُها ... فِراساً وبِسْطَامَ بنَ قَيْسٍ مقيَّدا )
قال فإذا بالبيت قد جاء لجرير ومعه
( وأَوْقدتَ بالسِّيرَانِ ناراً ذَلِيلةً ... وأشْهِدْتَ من سَوْءاتِ جِعْثِنَ مَشْهَدَا )
رآه الأخطل عند عبد الملك فعرفه أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم بن جشم عن عمارة بن عقيل عن أبيه قال
وقف جرير على باب عبد الملك بن مروان والأخطل داخل عنده وقد كانا تهاجيا ولم ير أحد منهما صاحبه فلما استأذنوا عليه لجرير أذن له فدخل فسلم ثم جلس وقد عرفه الأخطل فطمح طرف جرير إلى الأخطل وقد رآه ينظر إليه نظرا شديدا فقال له من أنت فقال أنا الذي منعت نومك وتهضمت قومك فقال له جرير ذلك أشقى لك كائنا من كنت ثم أقبل على عبد الملك بن مروان فقال من هذا يا أمير المؤمنين جعلني الله فداءك فضحك ثم قال هذا الأخطل يا أبا حزرة فرد عليه بصره ثم قال فلا حياك الله يابن النصرانية أما منعك نومي فلو نمت عنك لكان خيرا لك وأما تهضمك قومي فكيف تهضمهم وأنت ممن ضربت عليه الذلة وباء بغضب من الله وأدى الجزية عن يد وهو صاغر وكيف تتهضم لا أم لك قوما فيهم النبوة والخلافة وأنت لهم عبد مأمور ومحكوم عليه لا حاكم ثم أقبل على عبد الملك فقال ائذن لي يا أمير المؤمنين في ابن النصرانية فقال لا يجوز أن يكون ذلك بحضرتي
أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال
نازع جرير بني حمان في ركية لهم فصاروا إلى إبراهيم بن عدي باليمامة يتحاكمون إليه فقال جرير
( أَعُوذ بالأمير غيرِ الجَبَّارْ ... من ظُلْمِ حِمَّان وتحويلِ الدارْ )
( ما كان قبلَ حَفْرِنا من مِحْفَارْ ... وضَرْبِيَ المِنْقَار بعد المِنْقَارْ )
( في جَبَلٍ أصمَّ غيرِ خَوَّارْ ... يَصِيحُ بالجُبِّ صِياحَ الصَّرَّارْ )
( له صَهِيلٌ كصَهِيل الأَمْهارْ ... فاسأل بني صَحْبٍ ورَهْطَ الجَرَّارْ )
( والسَّلَمِيّينَ العِظَامَ الأَخْطَارْ ... والجارُ قد يُخْبِر عن دار الجارْ )
فقال الحماني
( ما لِكُلَيْبٍ من حِمًى ولا دارْ ... غيرُ مُقامِ أُتُنٍ وأَعْيارْ )
( قُعْسِ الظهورِ دامياتِ الأَثْفارْ ... )
قال فقال جرير فعن مقامهن جعلت فداك أجادل فقال ابن عدي للحماني قد أقررت لخصمك وحكم بها لجرير
قال ابن سلام وأخبرني أبو يحيى الضبي قال
بينا جرير يسير على راحلته إذ هجم على أبيات من مازن وهلال وهما بطنان من ضبة فخافهم لسوء أثره في ضبة فقال
( فلا خوفٌ عليكِ ولن تُراعِي ... بعَقْوةِ مازِنٍ وبني هِلاَلِ )
( هما الحَيَّانِ إن فَزِعا يَطِيرا ... إلى جُرْدٍ كامثال السَّعَالِي )
( أمازِنُ يابنَ كعبٍ إنَّ قلبي ... لكم طولَ الحياة لَغيرُ قالي )
( غَطَارِيفٌ يَبِيتُ الجارُ فيهم ... قريرَ العينِ في أهلٍ ومال )
قال أجل يا أبا حزرة فلا خوف عليك
تجمع الناس حوله في المسجد دون الفرزدق أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال قال شعيب بن صخر حدثني هارون بن إبراهيم قال
رأيت جريرا والفرزدق في مسجد دمشق وقد قدماها على الوليد بن عبد الملك والناس عنق واحد على جرير قيس وموالي بني أمية يسلمون عليه ويسألونه كيف كنت يا أبا حزرة في مسيرك وكيف أهلك وأسبابك وما يطيف بالفرزدق إلا نفر من خندف جلوس معه قال شعيب فقلت لهارون ولم ذلك قال لمدحه قيسا وقوله في العجم
( فيجمعُنا والغُرَّ أولادَ سَارَةٍ ... أبٌ لا نُبالِي بعدَه من تعذَّرا )
قال شعيب بلغني أنه أهديت له يومئذ مائة حلة أهداها إليه الموالي سوى غيرهم وأخبرني بهذا الخبر أبو خليفة عن محمد بن سلام عن شعيب بن صخر فذكر نحوا من حكاية أبي زيد إلا أنها أتم من حكاية ابن سلام وقال
أبو خليفة في خبره سمعت عمارة بن عقيل بن بلال يقول وافته في يومه ذلك مائة حلة من بني الأحرار
أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني أحمد بن الهيثم الفراسي قال
بينا جرير بقباء إذ طلع الأحوص وجرير ينشد قوله
( لولا الحياءُ لعادنِي استعبارُ ... ولزُرْتُ قبرَكِ والحبيبُ يُزارُ )
فلما نظر إلى الأحوص قطع الشعر ورفع صوته يقول
( عَوَى الشعراءُ بعضُهمُ لبعضٍ ... عليّ فقد أصابهمُ انتقامُ )
( إذا أرسلتُ قافيةً شَرُوداً ... رأوْا أخرى تحرِّق فاستداموا )
( فمُصْطَلَمُ المسامِع أو خَصِيٌّ ... وآخرُ عظمُ هامتِه حُطَامُ )
ثم عاد من حيث قطع فلما فرغ قيل له ولم قلت هذا قال قد نهيت الأحوص أن يعين علي الفرزدق فأنا والله يا بني عمرو بن عوف ما تعوذت من شاعر قط ولولا حقكم ما تعوذت منه
محمد بن الحجاج يلح على عبد الملك بالإذن لجرير بالدخول عليه لإنشاده أخبرنا علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا الحسن بن الحسين السكري قال قال عمارة بن عقيل حدثني أبي عن أبيه
أن الحجاج أوفد ابنه محمد بن الحجاج إلى عبد الملك وأوفد إليه
جريرا معه ووصاه به وأمره بمسألة عبد الملك في الاستماع منه ومعاونته عليه فلما وردوا استأذن له محمد على عبد الملك فلم يأذن له وكان لا يسمع من شعراء مضر ولا يأذن لهم لأنهم كانوا زبيرية فلما استأذن له محمد على عبد الملك ولم يأذن له أعلمه أن أباه الحجاج يسأله في أمره ويقول إنه لم يكن ممن والى ابن الزبير ولا نصره بيده ولا لسانه وقال له محمد يا أمير المؤمنين إن العرب تتحدث أن عبدك وسيفك الحجاج شفع في شاعر قد لاذ به وجعله وسيلته ثم رددته فأذن له فدخل فاستأذن في الإنشاد فقال له وما عساك أن تقول فينا بعد قولك في الحجاج ألست القائل
( من سَدَّ مُطَّلَعَ النِّفَاقِ عليكُم ... أم من يَصُول كصوْلة الحجاج )
إن الله لم ينصرني بالحجاج وإنما نصر دينه وخليفته أولست القائل
( أم مَنْ يَغَارُ على النساء حَفِيظةً ... إذ لا يَثِقْنَ بغَيْرةِ الأزواجِ )
يا عاض كذا وكذا من أمه والله لهممت أن أطير بك طيرة بطيئا سقوطها أخرج عني فأخرج بشر فلما كان بعد ثلاث شفع إليه محمد لجرير وقال له يا أمير المؤمنين إني أديت رسالة عبدك الحجاج وشفاعته في جرير فلما أذنت له خاطبته بما أطار لبه منه وأشمت به عدوه ولو لم تأذن له لكان خيرا له مما سمع فإن رأيت أن تهب كل ذنب له لعبدك الحجاج وَلِي فافعلْ فأذن له فاستأذنه في الإنشاد فقال لا تُنْشِدني إلاَّ في الحجَّاج فإنما أنت للحجاج خاصة فسأله أن ينشده مديحه فيه فأبى وأقسم ألا ينشده إلا من قوله في الحجاج فأنشده وخرج بغير جائزة فلما أزف الرحيل قال جرير لمحمد إن رحلت عن أمير المؤمنين ولم يسمع مني ولم آخذ له جائزة سقطت آخر الدهر ولست بارحا بابه أو يأذن لي في الإنشاد وأمسك عبد الملك عن الإذن له فقال جرير ارحل أنت وأقيم أنا فدخل
محمد على عبد الملك فأخبره بقول جرير واستأذنه له وسأله أن يسمع منه وقبل يده ورجله فأذن له فدخل فاستأذن في الإنشاد فأمسك عبد الملك فقال له محمد أنشد ويحك فأنشده قصيدته التي يقول فيها
( ألستُم خيرَ من ركب المطايا ... وأَنْدَى العالَمين بطون راحِ )
فتبسم عبد الملك وقال كذلك نحن وما زلنا كذلك ثم اعتمد على ابن الزبير فقال
( دعوتَ المُلْحِدِينَ أبا خُبَيْب ... جِماحاً هل شُفِيتَ من الجِماحِ )
( وقد وجدوا الخليفةَ هِبْرِزِيّاً ... أَلَفَّ العِيصِ ليس من النَّواحي )
( وما شجراتُ عِيصكَ في قريش ... بعَشَّاتِ الفُروع ولا ضَواحي )
قال ثم أنشده إياها حتى أتى على ذكر زوجته فيها فقال
( تَعَزَّتْ أمُّّ حَزْرة ثم قالت ... رأيتُ المُوِرِدِين ذوي لِقَاحِ )
( تُعَلِّل وهي ساغبةٌ بَنِيها ... بأنفاسٍ من الشَّبِم القَرَاحِ )
فقال عبد الملك هل ترويها مائة لقحة فقال إن لم يروها ذلك فلا أرواها الله فهل إليها جعلني الله فداك يا أمير المؤمنين من سبيل فأمر له بمائة لقحة وثمانية من الرعاء وكانت بين يديه جامات من ذهب فقال له جرير يا أمير المؤمنين تأمر لي بواحدة منهن تكون محلبا فضحك وندس إليه واحدة منهن بالقضيب وقال خذها لا نفعتك فأخذها وقال بلى والله يا أمير المؤمنين لينفعني كل ما منحتنيه وخرج من عنده قال وقد ذكر ذلك جرير في شعره فقال يمدح يزيد بن عبد الملك
( أعطَوْا هُنَيْدةَ يَحْدُوها ثمانيةٌ ... ما في عطائهمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ )
هجا سراقة لأنه أعان الفرزدق عليه أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا دماذ أبو غسان عن أبي عبيدة قال
بذل محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن زرارة أربعة آلاف درهم وفرسا لمن فضل من الشعراء الفرزدق على جرير فلم يقدم عليه أحد منهم إلا سراقة البارقي فإنه قال يفضل الفرزدق
( أَبْلِغ تَمِيماً غثَّها وسَمِينَها ... والحكم يَقْصِد مرَّةً ويَجُورُ )
( أنّ الفرزدقَ بَرَّزَتْ أعراقُه ... سَبْقاً وخُلِّف في الغُبار جَريرُ )
( ذهب الفرزدقُ بالفضائل والعُلاَ ... وابن المَرَاغةِ مُخْلَفٌ محسورُ )
( هذا قضاءُ البارِقيّ وإنني ... بالمَيْل في ميزانهم لبَصِيرُ )
قال أبو عبيدة فحدثني أيوب بن كسيب قال حدثني أبي قال كنت مع
جرير فأتاه رسول بشر بن مروان فدفع إليه كتابه وقال له إنه قد أمرني أن أوصله إليك ولا أبرح حتى تجيب عن الشعر في يومك إن لقيتك نهارا أو ليلتك إن لقيتك ليلا وأخرج إليه كتاب بشر وقد نسخ له القصيدة وأمره بأن يجيب عنها فأخذها ومكث ليلته يجتهد أن يقول شيئا فلا يمكنه فهتف به صاحبه من الجن من زاوية البيت فقال له أزعمت أنك تقول الشعر ما هو إلا أن غبت عنك ليلة حتى لم تحسن أن تقول شيئا فهلا قلت
( يا بِشْرُ حَقّ لوجهِك التبشيرُ ... هلاَّ قضيتَ لنا وأنت أميرُ )
فقال له جرير حسبك كفيتك قال وسمع قائلا يقول لآخر قد أنار الصبح فقال جرير
( يا صاحبيَّ هل الصباحُ مُنِيرُ ... أم هل للومِ عواذلي تَفْتِيرُ )
إلى أن فرغ منها وفيها يقول
( قد كان حَقُّكَ أن تقول لبارقٍ ... يا آلَ بارِقَ فِيمَ سُبَّ جرِيرُ )
( يُعْطَى النساءُ مهورَهنّ كَرامةً ... ونساءُ بارقَ ما لهنّ مُهورُ )
فأخذها الرسول ومضى بها إلى بشر فقرئت بالعراق وأفحم سراقة فلم ينطق بعدها بشيء من مناقضته
مناقضة بينه وبين عمر بن لجأ أخبرني أبو خليفة قال حدثني محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال
كان الذي هاج الهجاء بين جرير وعمر بن لجأ أن عمر كان ينشد أرجوزة له يصف فيها إبله وجرير حاضر فقال فيها
( قد وَردتْ قبل إنَا ضَحَائِها ... تُفَرِّسُ الحَيَّاتِ في خِرْشَائِها )
( جَرّ العَجُوزِ الثِّنْيَ من رِدَائِها ... )
فقال له جرير أخفقت فقال كيف اقول قال تقول
( جَرّ العَرُوسِ الثِّنْيَ من رِدائِها ... ) فقال له التيمي أنت أسوأ قولا مني حيث تقول
( وأَوْثقُ عند المُرْدَفاتِ عَشِيَّةً ... لَحَاقاً إذا ما جَرّد السيفَ لامِعُ )
فجعلتهن مردفات غدوة ثم تداركتهن عشية فقال كيف أقول قال تقول
( وأَوْثَقُ عند المُرْهَفاتِ عَشِيَّةً ... )
فقال جرير والله لهذا البيت أحب إلي من بكري حزرة ولكنك مجلب للفرزدق
وقال فيه جرير
( هَلاّ سِوَانا ادَّرَأْتم يا بَنِي لَجَأ ... شيئاً يُقَارَبُ أو وَحْشاً لها غِرَرُ )
( أحينَ كنتُ سِمَاماً يا بَنِي لَجَأٍ ... وخاطرتْ بيَ عن أحسابها مُضَرُ )
( خَلِّ الطريقَ لمن يَبْنِي المَنارَ به ... وابرُزْ ببَرْزَةَ حيث اضطرَّك القَدَرُ )
( أنت ابنُ بَرْزةَ منسوباً إلى لجأٍ ... عند العُصَارةِ والعيدانُ تُعْتَصرُ )
ويروى
( ألستَ نَزْوةَ خَوَّارٍ على أَمَةٍ ... عند العُصَارةِ والعِيدانُ تُعْتَصَرُ )
فقال ابن لجأ يرد عليه
( لقد كَذَبْتَ وشَرُّ القولِ أَكذَبُه ... ما خاطرتْ بكَ عن أحسابها مُضَرُ )
( بل أنت نَزْوةُ خَوَّارٍ على أمَةٍ ... لا يَسبِقُ الحَلَباتِ اللؤمُ والخَوَرُ )
( ما قلتَ مِن هذه إلا سأنقُضُها ... يابنَ الأَتَانِ بمثلي تُنْقَضُ المِرَرُ )
وقال عمر بن لجأ
( عجبتُ لما لاقتْ رِيَاحٌ من اْلأَذَى ... وما اقتَبَسُوا منِّي وللشرِّ قابِسُ )
( غِضَاباً لكلبٍ من كُلَيْبٍ فَرَسْتُه ... هَوَى ولشَدَّاتِ الأُسُودِ فَرَائِسُ )
( إذا ما ابنُ يَرْبُوعٍ أتاكَ لمأكَلٍ ... على مجلسٍ إن اْلأَكِيلَ مُجالِسُ )
( فقل لابنِ يَرْبُوعٍ ألستَ براحضٍ ... سِبَالَكَ عنَّا إنهنَّ نَجائِسُ )
( تُمَسِّحُ يَرْبوعٍ سِبَالاً لئيمةً ... بها من مَنِيِّ العبدِ رَطْبٌ ويابِسُ )
قال ثم اجتمع جرير وابن لجأ بالمدينة وقد وردها الوليد بن عبد الملك وكان يتأله في نفسه فقال أتقذفان المحصنات وتغضبانهن ثم أمر ابا بكر محمد بن حزم الأنصاري وكان واليا له بالمدينة بضربهما فضربهما وأقامهما على البلس مقرونين والتيمي يومئذ أشب من جرير فجعل يشول بجرير وجرير يقول وهو المشول به
( فلستُ مُفارِقاً قَرَنَيَّ حتى ... يَطُولَ تصعُّدي بكَ وانحداري )
فقال أبن لجأ
( ولمَّا أن قُرِنتُ إلى جريرٍ ... أَبَى ذو بَطْنِه إلاَّ انحدارا )
فقال له قدامة بن إبراهيم الجمحي وبئسما قلت جعلت نفسك المقرون إليه قال فكيف أقول قال تقول
( ولمَّا لُزَّ في قَرَنِي جريرٌ ... )
فقال جزيت خيرا لا أقوله والله ابدا إلا هكذا
حدثني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله العبدي قال حدثني عمارة بن عقيل عن أبيه قال
وقف جرير على باب عبد الملك بن مروان والأخطل داخل عنده وقد كانا تهاجيا ولم يلق أحدهما صاحبه فلما أستأذنوا لجرير أذن له فسلم وجلس وقد عرفه الأخطل فطمح بصر جرير إليه فقال له من أنت فقال أنا الذي منعت نومك وهضمت قومك فقال له جرير ذاك أشقى لك كائنا من كنت ثم اقبل على عبد الملك فقال من هذا يا أمير المؤمنين فضحك وقال هذا الأخطل يا ابا حزرة فرد بصره إليه وقال فلا حياك الله يابن النصرانية أما منعك نومي فلو نمت عنك لكان خيرا لك واما تهضمك قومي فكيف تهضمهم وأنت ممن ضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ائذن لي يا أمير المؤمنين في ابن النصرانية فقال لا يكون ذلك بين يدي فوثب جرير مغضبا فقال عبد الملك قم يا أخطل واتبع صاحبك فإنما قام غضبا علينا فيك فنهض الأخطل فقال عبد الملك لخادم له انظر ما يصنعان إذا برز له الأخطل فخرج جرير فدعا بغلام له فقدم إليه حصانا له أدهم فركبه وهدر
والفرس يهتز من تحته وخرج الأخطل فلاذ بالباب وتوارى خلفه ولم يزل واقفا حتى مضى جرير فدخل الخادم إلى عبد الملك فأخبره فضحك وقال قاتل الله جريرا ما أفحله أما والله لو كان النصراني برز إليه لأكله
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن أبي عمرو قال
سئل جرير أي الثلاثة أشعر فقال أما الفرزدق فيتكلف مني ما لا يطيقه وأما الأخطل فأشدنا اجتراء وأرمانا للغرض وأما أنا فمدينة الشعر وقد حدثني بهذا الخبر حبيب بن نصر عن عمر بن شبة عن الأصمعي فذكر نحو ما ذكره الرياشي وقال في خبره وأما الأخطل فأنعتنا للخمر وأمدحنا للملوك
ابو مهدي الباهلي فضله على جميع الشعراء أخبرنا عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن عطاء بن مصعب قال
قلت لأبي مهدي الباهلي وكان من علماء العرب أيما أشعر أجرير أم الفرزدق فغضب ثم قال جرير أشعر العرب كلها ثم قال لا يزال الشعراء موقوفين يوم القيامة حتى يجيء جرير فيحكم بينهم
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثني العباس بن ميمون قال سمعت أبا عثمان المازني يقول
قال جرير هجوت بني طهية أنواع الهجاء فلم يحفلوا بقولي حتى قلت
في قصيدة الراعي
( كأنّ بني طُهَيَّةَ رهطَ سَلْمَى ... حجارةُ خارىءٍ يَرمِي كلابَا )
فجزعوا حينئذ ولاذوا بي
أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال حدثنا المدائني قال
كان جرير من أعق الناس بأبيه وكان بلال ابنه أعق الناس به فراجع جرير بلالا الكلام يوما فقال له بلال الكاذب مني ومنك ناك أمه فأقبلت أمه عليه وقالت له يا عدو الله أتقول هذا لأبيك فقال جرير دعيه فوالله لكأنه سمعها مني وأنا أقولها لأبي
هجا عمر بن يزيد لأنه أعان الفرزدق عليه أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم قال حدثنا العمري عن لقيط قال
كان عمر بن يزيد بن عمير الأسدي يتعصب للفرزدق على جرير فتزوج امرأة من بني عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم فقال جرير
( نكحتَ إلى بني عُدُسِ بن زيدٍ ... فقد هَجَّنْتَ خيلَهمُ العِرَابَا )
( أَتنْسَى يومَ مَسْكِنَ إذ تُنَادِي ... وقد أخطأْتَ بالقَدَمِ الرِّكابا )
وهي قصيدة فأجتمعوا على عمر بن يزيد ولم يزالوا به حتى خلعوا المرأة منه
أخبرني محمد بن خلف قال حدثني محمد بن الهيثم قال حدثني عمي
أبو فراس قال حدثني ودقة بن معروف قال
نزل جرير على عنبسة بن سعيد بواسط ولم يكن أحد يدخلها إلا بإذن الحجاج فلما دخل على عنبسة قال له ويحك لقد غررت بنفسك فما حملك على ما فعلت قال شعر قلته اعتلج في صدري وجاشت به نفسي وأحببت أن يسمعه الأمير قال فعنفه وأدخله بيتا في جانب داره وقال لا تطلعن رأسك حتى ننظر كيف تكون الحيلة لك قال فأتاه رسول الحجاج من ساعته يدعوه في يوم قائظ وهو قاعد في الخضراء وقد صب فيها ماء استنقع في أسفلها وهو قاعد على سرير وكرسي موضوع ناحية قال عنبسة فقعدت على الكرسي وأقبل علي الحجاج يحدثني فلما رأيت تطلقه وطيب نفسه قلت اصلح الله الأمير رجل من شعراء العرب قال فيك شعرا اجاد فيه فاستخفه عجبه به حتى دعاه إلى أن رحل إليك ودخل مدينتك من غير أن يستأذن له قال ومن هو قلت ابن الخطفي قال وأين هو قلت في المنزل قال يا غلام فأقبل الغلمان يتسارعون قال صف لهم موضعه من دارك فوصفت لهم البيت الذي هو فيه فانطلقوا حتى جاؤوا به فأدخل عليه وهو مأخوذ بضبعيه حتى رمي به في الخضراء فوقع على وجهه في الماء ثم قام يتنفش كما يتنفش الفرخ فقال له هيه ما اقدمك علينا بغير إذننا لا أم لك قال أصلح الله الأمير قلت في الأمير شعرا لم يقل مثله أحد فجاش به صدري وأحببت أن يسمعه مني الأمير فأقبلت به إليه قال فتطلق الحجاج وسكن واستنشده فأنشده ثم قال يا غلام فجاؤوا يسعون فقال علي
بالجارية التي بعث بها إلينا عامل اليمامة فأتي بجارية بيضاء مديدة القامة فقال إن أصبت صفتها فهي لك فقال ما أسمها قال أمامة فأنشأ يقول
( وَدِّعْ أُمَامَةَ حانَ منك رحيلُ ... إن الوَدَاعَ لمن تُحِبّ قليلُ )
( مثلُ الكَثِيبِ تهيَّلتْ أعطافُه ... فالريحُ تَجْبرُ مَتْنَه وتَهيِلُ )
( تلك القلوبُ صوادياً تيَّمْتِها ... وأَرَى الشفاءَ وما إليه سبيلُ )
فقال خذ بيدها فبكت الجارية وانتحبت فقال ادفعوها إليه بمتاعها وبغلها ورحالها
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني أبو الغراف قال
قال الحجاج لجرير والفرزدق وهو في قصره بحزيز البصرة ائتياني في لباس آبائكما في الجاهلية فلبس الفرزدق الديباج والخز وقعد في قبة وشاور جرير دهاة بني يربوع فقالوا له ما لباس آبائنا إلا الحديد فلبس جرير درعا وتقلد سيفا وأخذ رمحا وركب فرسا لعباد بن الحصين يقال له المنحاز وأقبل في أربعين فارسا من بني يربوع وجاء الفرزدق في هيئته فقال جرير
( لبِستُ سلاحي والفرزدقُ لُعْبةٌ ... عليه وِشَاحا كُرَّجٍ وجَلاَجِلُهْ )
( أَعِدُّوا مع الحَلْيِ المَلاَبَ فإنما ... جريرٌ لكم بَعْلٌ وأنتم حَلاَئِلُهْ )
ثم رجعا فوقف جرير في مقبرة بني حصن ووقف الفرزدق في المربد قال فأخبرني أبي عن محمد بن زياد قال كنت أختلف إلى جرير والفرزدق وكان جرير يومئذ كأنه أصغرهما في عيني
هجاؤه للفرزدق أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا ابو اليقظان عن جويرية بن أسماء قال
قدم الفرزدق اليمامة وعليها المهاجر بن عبد الله الكلابي فقال لودخلت على هذا فأصبت منه شيئا ولم يعلم بي جرير فلم تستقر به الدار حتى قال جرير
( رأيتُك إذ لم يُغْنِكَ اللهُ بالغِنَى ... رجعتَ إلى قيسٍ وخَدُّك ضارعُ )
( وما ذاك إن أَعْطَى الفرزدقُ باسْتِه ... بأوَّل ثَغْرٍ ضيَّعَتْه مُجَاشِعُ )
فلما بلغ ذلك الفرزدق قال لا جرم والله لا أدخل عليه ولا أرزؤه شيئا ولا أقيم باليمامة ثم رحل
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال قال أبو البيداء
لقي الفرزدق عمر بن عطية أخا جرير وهو حينئذ يهاجي ابن لجأ فقال له ويلك قل لأخيك ثكلتك أمك ائت التيمي من عل كما أصنع أنا بك وكان الفرزدق قد أنف لجرير وحمي من أن يتعلق به التيمي قال ابن سلام فأنشدني له خلف الأحمر يقوله للتيمي
( وما أنت إن قَرْمَا تَميمٍ تَسَامَيَا ... أخا التَّيْم إلا كالوَشِيظةِ في العَظْم )
( فلو كنتَ مَوْلَى العِزّ أو في ظلالِه ... ظُلِمْتَ ولكن لا يَدَيْ لك بالظلم )
فقال له التيمي
( كذَبْتَ أنا القَرْمُ الذي دَقّ مالكاً ... وأَفْناءَ يَرْبُوعٍ وما أنت بالقَرْمِ )
قال أبن سلام فحدثني ابو الغراف أن رجال تميم مشت بين جرير والتيمي وقالوا والله ما شعراؤنا إلا بلاء علينا ينشرون مساوينا ويهجون أحياءنا وموتانا فلم يزالوا بهما حتى أصلحوا بينهما بالعهود والمواثيق المغلظة الا يعودا في هجاء فكف التيمي وكان جرير لا يزال يسل الواحدة بعد الواحدة فيه فيقول التيمي والله ما نقضت هذه ولا سمعتها فيقول جرير هذه كانت قبل الصلح
قال ابن سلام فحدثني عثمان بن عثمان عن عبد الرحمن بن حرملة قال لما ورد علينا هجاء جرير والتيمي قال لي سعيد بن المسيب ترو شيئا مما قالا فأتيته وقد أستقبل القبلة يريد أن يكبر فقال لي ارويت قلت نعم فأقبل علي بوجهه فأنشدته للتيمي وهو يقول هيه هيه ثم أنشدته لجرير فقال أكله اكله
قال أبن سلام وحدثني الرازي عن حجناء بن جرير قال قلت لأبي يا ابت ما هجوت قوما قط إلا فضحتهم إلا التيم فقال يا بني لم أجد بناء أهدمه ولا شرفا أضعه وكانت تيم رعاء غنم يغدون في غنمهم ثم يروحون وقد جاء كل رجل منهم بأبيات فينتحلها ابن لجأ فقيل لجرير ما صنعت في التيم شيئا فقال إنهم شعراء لئام
أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني ابن النطاح قال حدثني أبو اليقظان قال
قال جرير لرجل من بني طهية ايما اشعر أنا أم الفرزدق فقال له أنت
عند العامة والفرزدق عند العلماء فصاح جرير أنا ابو حزرة غلبته ورب الكعبة والله ما في كل مائة رجل عالم واحد
طلب من الوليد بن عبد الملك أن يأذن له في ابن الرقاع حدثنا أحمد بن عمار قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال حدثني أبن النطاح قال وحدثني أبو الأخضر لمخارق بن الأخضر القيسي قال إني كنت والله الذي لا إله إلا هو أخص الناس بجرير وكان ينزل إذا قدم على الوليد بن عبد الملك عند سعيد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وكان عدي بن الرقاع خاصا بالوليد مداحا له فكان جرير يجيء إلى باب الوليد فلا يجالس أحدا من النزارية ولا يجلس إلا إلى رجل من اليمن بحيث يقرب من مجلس ابن الرقاع إلى أن يأذن الوليد للناس فيدخل فقلت له يا ابا حزرة اختصصت عدوك بمجلسك فقال إني والله ما أجلس إليه إلا لأنشده اشعارا تخزيه وتخزي قومه قال ولم يكن ينشده شيئا من شعره وإنما كان ينشده شعر غيره ليذله ويخوفه نفسه فأذن الوليد للناس ذات عشية فدخلوا ودخلنا فأخذ الناس مجالسهم وتخلف جرير فلم يدخل حتى دخل الناس وأخذوا مجالسهم واطمأنوا فيها فبينما هم كذلك إذا بجرير قد مثل بين السماطين يقول السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في ابن الرقاع المتفرقة أؤلف بعضها إلى بعض قال وأنا جالس أسمع فقال الوليد والله لهممت أن أخرجه على ظهرك إلى الناس فقال جرير وهو قائم كما هو
( فإن تَنْهَنِي عنه فسمعاً وطاعةً ... وإلا فإنِّي عُرْضَةٌ للمَرَاجِمِ )
قال فقال له الوليد لا كثر الله في الناس أمثالك فقال له جرير يا أمير المؤمنين إنما أنا واحد قد سعرت الأمة فلو كثر أمثالي لأكلوا الناس أكلا قال فنظرت والله إلى الوليد تبسم حتى بدت ثناياه تعجبا من جرير وجلده قال ثم أمره فجلس
أخبرني ابن عمار قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا أبن النطاح عن أبي عبيدة قال
كان جرير عند الوليد وعدي بن الرقاع ينشده فقال الوليد لجرير كيف تسمع قال ومن هو يا أمير المؤمنين قال عدي بن الرقاع قال فإن شر الثياب الرقاع ثم قال جرير ( عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ) فغضب الوليد وقال يابن اللخناء ما بقي لك إلا أن تتناول كتاب الله والله ليركبنك يا غلام أوكِفْه حتى يركبه فغمز عمر بن الوليد الغلام الذي أمره الوليد فأبطأ بالإكاف فلما سكن غضب الوليد قام إليه عمر فكلمه وطلب إليه وقال هذا شاعر مضر ولسانها فإن رأى أمير المؤمنين ألا يغض منه ولم يزل به حتى أعفاه وقال له والله لئن هجوته أو عرضت به لأفعلن بك ولأفعلن فقال فيه تلك القصيدة التي يقول فيها
( أقْصِرْ فإن نزاراً لن يفاخرها ... فرعٌ لئيمٌ وأصلٌ غيرُ مغروسِ )
وذكر وقائع نزار في اليمن فعلمنا أنه عناه ولم يجبه الآخر بشيء
حدثني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن العتبي قال
قال هشام بن عبد الملك لشبة بن عقال وعنده جرير والفرزدق والأخطل وهو يومئذ أمير ألا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزقوا أعراضهم وهتكوا أستارهم وأغروا بين عشائرهم في غير خير ولا بر ولا نفع أيهم أشعر فقال شبة أما جرير فيغرف من بحر وأما الفرزدق فينحت من صخر وأما الأخطل فيجيد المدح والفخر فقال هشام ما فسرت لنا شيئا نحصله فقال ما عندي غير ما قلت فقال لخالد بن صفوان صفهم لنا يأبن الأهتم فقال أما أعظمهم فخرا وابعدهم ذكرا وأحسنهم عذرا وأسيرهم مثلا وأقلهم غزلا وأحلاهم عللا الطامي إذا زخر والحامي إذا زأر والسامي إذا خطر الذي إن هدر قال وإن خطر صال الفصيح اللسان الطويل العنان فالفرزدق وأما أحسنهم نعتا وامدحهم بيتا وأقلهم فوتا الذي إن هجا وضع وإن مدح رفع فالأخطل وأما أغزرهم بحرا وارقهم شعرا وأهتكهم لعدوه سترا الأغر الأبلق الذي إن طلب لم يسبق وإن طلب لم يلحق فجرير وكلهم ذكي الفؤاد رفيع العماد واري الزناد فقال له مسلمة بن عبد الملك ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأولين ولا رأينا في الآخرين وأشهد أنك أحسنهم وصفا وألينهم عطفا وأعفهم مقالا وأكرمهم فعالا فقال خالد أتم الله عليكم نعمه وأجزل لديكم قسمه وآنس بكم الغربة وفرج بكم الكربة وأنت والله ما علمت أيها الأمير كريم الغراس عالم بالناس جواد في المحل بسام عند البذل حليم عند الطيش في ذروة قريش ولباب عبد شمس ويومك خير من أمس فضحك هشام وقال ما رأيت كتخلصك يابن صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم حتى أرضيتهم جميعا وسلمت منهم
قرنهما عمر بن عبد العزيز لأنهما تقاذفا أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني مصعب الزبيري قال حدثني إبراهيم بن عبد الله مولى بني زهرة قال
حضرت عمر بن لجأ وجرير بن الخطفي موقوفين للناس بسوق المدينة لما تهاجيا وتقاذفا وقد أمر بهما عمر بن عبد العزيز فقرنا وأقيما قال وعمر بن لجأ شاب كأنه حصان وجرير شيخ قد أسن وضعف قال فيقول ابن لجأ
( رأوْا قَمَراً بساحتهم مُنِيراً ... وكيف يُقَارِنُ القمرُ الحِمَارَا )
قال ثم ينزو به وهما مقرونان في حبل فيسقطان إلى الأرض فأما ابن لجأ فيقع قائما وأما جرير فيخر لركبتيه ووجهه فإذا قام نفض الغبار عنه ثم قال بغنته قولا يخرج الكلام به من أنفه وكان كلامه كأن فيه نونا
( فلستُ مفارِقاً قَرَنَيّ حتَّى ... يَطُولَ تصعُّدي بكَ وانحداري )
قال فقال رجل من جلساء عمر له حين حضر غداؤه لو دعا الأمير بأسيريه فغداهما معه ففعل ذلك عمر وإنما فعله بهما لأنهما تقاذفا وكان جرير قال له
( تقول والعبدُ مِسْكِينٌ يُجَرِّرُها ... أرْفُقْ فَدَيْتُك أنت الناكحُ الذَّكَرُ )
قال وهذه قصيدته التي يقول فيها
( يا تَيْمُ تيْمَ عَدِيّ لا أَبَا لكمُ ... لا يُوقِعنَّكُمُ في سوْءةٍ عمرُ )
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال حدثني أبي قال
كنت باليمامة وأنا واليها فكان ابن لجرير يكثر عندي الدخول وكنت أوثره فلم اقل له قط أنشدني أجود شعر لأبيك إلا أنشدني الدالية
( أَهَوىً أَرَاكَ بَرامَتَيْنِ وُقُودا ... أم بالجُنَيْنَةِ من مَدَافِع أُودَا )
فأقول له ويحك لا تزيدني على هذه فيقول سألتني عن أجود شعر أبي وهذه أجود شعره وقد كان يقدمها على جميعه
حدثني ابن عمار قال حدثني النوفلي قال حدثني علي بن عبد الملك الكعبي من ولد كعب مولى الحجاج قال حدثني فلان العلامة التميمي يرويه عن جرير قال
ما ندمت على هجائي بني نمير قط إلا مرة واحدة فإني خرجت إلى الشام فنزلت بقوم نزول في قصر لهم في ضيعة من ضياعهم وقد نظرت إليه من بين القصور مشيدا حسنا وسألت عن صاحبه فقيل لي هو رجل من بني نمير فقلت هذا شآم وأنا بدوي لا يعرفني فجئت فاستضفت فلما أذن لي ودخلت عليه عرفني فقراني أحسن القرى ليلتين فلما أصبحت جلست ودعا بنية له فضمها إليه وترشفها فإذا هي أحسن الناس وجها ولها نشر لم اشم أطيب منه فنظرت إلى عينيها فقلت تالله ما رأيت أحسن من عيني هذه الصبية ولا من حورها قط وعوذتها فقال لي يا ابا حزرة أسوداء المحاجر هي فذهبت أصف طيب رائحتها فقال أصن وبر هي فقلت يرحمك
الله إن الشاعر ليقول ووالله لقد ساءني ما قلته ولكن صاحبكم بدأني فانتصرت وذهبت أعتذر فقال دع ذا عنك أبا حزرة فوالله ما لك عندي إلا ما تحب قال وأحسن والله إلي وزودني وكساني فانصرفت وأنا أندم الناس على ما سلف مني إلى قومه
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود قال حدثني ابن أبي علقمة الثقفي قال
كان المفضل يقدم الفرزدق فأنشدته قول جرير
( حَيِّ الهِدَمْلَةَ من ذاتِ المَوَاعِيسِ ... فالحِنْوُ أَصْبَح قَفْراً غيرَ مأنوسِ )
وقلت أنشدني لغيره مثلها فسكت قال وكان الفرزدق إذا أنشدها يقول مثلها فليقل ابن اللخناء
أخبرنا ابو خليفة الفضل بن الحباب قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني عبد الجبار بن سعيد بن سليمان المساحقي عن المحرر بن أبي هريرة قال
إني لفي عسكر سليمان بن عبد الملك وفيه جرير والفرزدق في غزاة إذا أتانا الفرزدق في غداة ثم قال اشهدوا أن محمد ابن أخي ثم أنشأ يقول
( فبِتُّ بدَيْرَيْ أَرْيَحَاءَ بلَيْلةٍ ... خُدَارِيَّةٍ يزدادُ طُولاً تَمامُها )
( أكابِدُ فيها نفسَ أَقْربِ مَنْ مَشَى ... أبوه بأمٍّ غاب عنها نِيامُها )
( وكنَّا نَرَى من غالبٍ في محمد ... شمائلَ تَعْلُو الفاعلين كِرامُها )
( وكان إذا ما حلَّ أرضاً تزيَّنَتْ ... بزينتِها صحراؤها وإكامُها )
( سَقَى أَرْيَحَاءَ الغيثُ وهي بَغِيضةٌ ... إلينا ولكن بي لتُسْقَاه هامُها )
قال ثم انصرف وجاء جرير فقال قد رأيت هذا وسمعت ما قال في ابن أخيه وما ابن أخيه فعل الله به وفعل قال ومضى جرير فوالله ما لبثنا إلا جمعا حتى جاءنا جرير فقام مقامه ونعى ابنه سواده فقال
رثاؤه ابنه ( أَوْدَى سَوادةُ يَجْلُو مُقلتيْ لَحِم ... بازٍ يُصَرْصِرُ فوقَ المَرْبأ العالي )
( فارقتني حين كَفَّ الدهرُ من بَصَرِي ... وحينَ صِرْتُ كعَظْم الرِّمَّة البالي )
( إلاَّ تَكُنْ لكَ بالدَّيْرَيْن باكيةٌ ... فرُبَّ باكيةٍ بالرَّمْل مِعْوالِ )
( قالوا نَصِيبَك من أجر فقلتُ لهم ... كيف العَزَاءُ وقد فارقتُ أَشْبالِي )
أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثني حاجب بن زيد وأبو الغراف قالا
تزوج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس على حكم أبيها فاحتكم مائة من الإبل فدخل على الحجاج يسأله ذلك فعذله وقال له أتتزوج امرأة على حكمها فقال عنبسة بن سعيد وأراد نفعه إنما هي من حواشي إبل الصدقة فأمر له الحجاج بها فوثب جرير فقال
( يا زِيقُ قد كنتَ من شَيْبانَ في حَسَبٍ ... يا زِيقُ وَيْحَكَ مَنْ أَنْكحتَ يا زِيقُ )
( أَنْكحتَ وَيْحَكَ قَيْناً باستِه حَمَمٌ ... يا زِيقُ وَيْحَكَ هل بارتْ بك السُّوقُ )
( غاب المُثَنَّى فلم يَشْهَدْ نَجِيَّكُما ... والحَوْفَزانُ ولم يَشْهَدْك مَفْروقُ )
( يا رُب قائلةٍ بعد البِناء بها ... لا الصِّهْرُ راضٍ ولا ابنُ القَيْنِ معشوقُ )
( أين الأُلَى استنزَلُوا النُّعْمانَ ضاحيةً ... أم أين ابناءُ شَيْبانَ الغَرَانِيقُ )
قال فلم يجبه الفرزدق عنها فقال جرير ايضا
( فلا أنا مُعْطِي الحكمِ عن شِفِّ مَنْصِبٍ ... ولا عن بَناتِ الحَنْظَليِّينَ راغبُ )
( وهُنّ كماءِ المُزْنِ يُشْفَى به الصَّدَى ... وكانت مِلاَحاً غيرَهنّ المَشَارِبُ )
( فلو كنتَ حُرّاً كان عَشْراً سِياقُكم ... إلى آل زِيقٍ والوَصيفُ المُقَارِب )
فقال الفرزدق
( فنَلْ مثلَها من مثلِهم ثم لُمْهُمُ ... على دارِميٍّ بين لَيْلَى وغالِبِ )
( هُمُ زوَّجوا قبلي لَقِيطاً وأَنْكَحُوا ... ضِراراً وهم أكفاؤنا في المَنَاسِبِ )
( ولو قبِلوا منِّي عَطِيِّةَ سُقْتُه ... إلى مال زِيقٍ من وَصِيفٍ مُقَارِبِ )
( ولو تُنْكِحُ الشمسُ النجومَ بَنَاتها ... إذاً لنكحناهنّ قبل الكواكبِ )
قال ابن سلام فحدثني الرازي عن أبيه قال ما كانت امرأة من بني حنظلة
إلا ترفع لجرير اللوية في عظمها لتطرفه بها لقوله
( وهُنّ كماءِ المُزْنِ يُشْفَى به الصَّدَى ... وكانت مِلاَحاً غيرَهنَّ المَشَارِبُ )
فقلت للرازي ما اللوية قال الشريحة من اللحم أو الفدرة من التمر أو الكبة من الشحم أو الحفنة من الأقط فإذا ذهب الألبان وضاقت المعيشة كانت طرفة عندهم
قال وقال جرير أيضا في شأن حدراء
( أثائرةٌ حَدْراءُ مَنْ جُرَّ بالنَّقَا ... وهل لأبي حَدْراءَ في الوِتْرِ طالبُ )
( أَتَثْأَرُ بِسْطاماً إذا ابتلَّتِ استُها ... وقد بَوَّلتْ في مِسْمَعَيْه الثعالبُ )
قال ابن سلام والنقا الذي عناه جرير هو الموضع الذي قتلت فيه بنو ضبة بسطاما وهو بسطام بن قيس قال فكرهت بنو شيبان أن يهتك جرير أعراضهم فلما أراد الفرزدق نقل حدراء اعتلوا عليه وقالوا له إنها ماتت فقال جرير
( فأُقْسِمُ ما ماتتْ ولكنَّما الْتَوَى ... بحَدْراءَ قومٌ لم يروك لها أهْلا )
( رأوْا أنّ صهر القَيْنِ عارٌ عليهم ... وأنّ لبِسْطامٍ على غالبٍ فضْلاَ )
أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا محمد بن إدريس اليمامي قال حدثنا علي بن عبد الله بن محمد بن مهاجر عن أبيه عن جده قال
دخلنا على جرير في نفر من قريش نعوده في علته التي مات فيها فالتفت إلينا فقال
( أهلاً وسهلاً بقوم زيَّنوا حَسَبي ... وإن مَرِضْتُ فهم أهلي وعُوَّادِي )
( إن تَجْرِ طَيْرٌ بأمر فيه عافيةٌ ... أو بالفراق فقد أحسنتُم زادِي ) لو أن ليثاً أبا شِبْلَيْن أَوْعَدَنِي ... لم يُسْلِمُونِي لليثِ الغابة العادِي )
رثاؤه الفرزدق أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال حدثني أبو جناح أحد بني كعب بن عمرو بن تميم قال
نُعي الفرزدق إلى المهاجر بن عبد الله وجرير عنده فقال
( مات الفرزدقُ بعد ما جدَّعتُه ... ليت الفرزدقَ كان عاش قليلا )
فقال له المهاجر بئس لعمر الله ما قلت في ابن عمك أتهجو ميتا أما والله لو رثيته لكنت أكرم العرب وأشعرها فقال إن رأى الأمير أن يكتمها علي فإنها سوءة ثم قال من وقته
( فلا وَضَعَتْ بعد الفرزدقِ حامل ... ولا ذات بَعْلٍ من نِفَاسٍ تَعَلَّتِ )
( هو الوافدُ الميمونُ والراتِقُ الثأى ... إذا النعل يوماً بالعَشيرة زَلَّتِ )
قال ثم بكى ثم قال أما والله إني لأعلم أني قليل البقاء بعده ولقد كان نجمنا واحدا وكل واحد منا مشغول بصاحبه وقلما مات ضد أو صديق إلا
تبعه صاحبه فكان كذلك مات بعد سنة وقد زاد الناس في بيتي جرير هذين أبياتا أخر ولم يقل غيرهما وإنما أضيف إلى ما قاله
صوت
من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى ( رحَل الخَلِيطُ جِمالَهم بسَوَادِ ... وحَدَا على إثْرِ البَخيلة حَادِي )
( ما إن شَعَرْتُ ولا علِمتُ ببَيْنهم ... حتى سمعتُ به الغرابَ يُنَادي )
الشعر لجميل والغناء لإبراهيم ولحنه المختار من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى
نسب جميل وأخباره هو جميل بن عبد الله بن معمر بن الحارث بن ظبيان وقيل ابن معمر بن حن بن ظبيان بن قيس بن جزء بن ربيعة بن حرام بن ضنة بن عبد بن كثير بن عذرة بن سعد وهو هذيم وسمي بذلك إضافة لاسمه إلى عبد لأبيه يقال له هذيم كان يحضنه فغلب عليه ابن زيد بن سود بن اسلم بن الحاف بن قضاعة والنسابون مختلفون في قضاعة فمنهم من يزعم أن قضاعة بن معد وهو أخو نزار بن معد لأبيه وأمه وهي معانة بنت جوسم بن جلهمة بن عامر بن عوف بن عدي بن دب بن جرهم ومنهم من يزعم أنهم من حمير وقد ذكر جميل ذلك في شعره فانتسب معديا فقال
( أنا جميلٌ في السَّنَامِ من مَعَدّ ... في الأُسْرَةِ الحَصْداءِ والعِيص الأَشَدّ )
وقال راجز من قضاعة ينسبهم إلى حمير
( قُضَاعَةُ الأَثْرَوْنَ خيرُ مَعْشَرِ ... قضاعةُ بنُ مالكِ بنِ حِمْيَرِ )
ولهم في هذا أراجيز كثيرة إلا أن قضاعة اليوم تنسب كلها في حمير فتزعم أن قضاعة بن مالك بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن
يشجب بن يعرب بن قحطان وقال القحذمي اسم سبأ عامر وإنما قيل له سبأ لأنه أول من سبى النساء وكان يقال له عب الشمس أي عديل الشمس سمي بذلك لحسنه ومن زعم من هؤلاء أن قضاعة ليس ابن معد ذكر أن أمه عكبرة امرأة من سبأ كانت تحت مالك بن عمر فمات عنها وهي حامل فخلفه عليها معد بن عدنان فولدت قضاعة على فراشه وقال مؤرج بن عمرو هذا قول أحدثوه بعد وصنعوا شعراً ألصقوه به ليصححوا هذا القول وهو
( يا أيُّها الدَّاعِي ادْعُنا وأبشِرِ ... وكُنْ قُضَاعِيّاً ولا تَنَزَّرِ )
( قضاعةُ الأَثْرَوْنَ خيرُ مَعْشَرِ ... قضاعةُ بنُ مالك بنِ حمير )
( النسبُ المعروفُ غير المُنْكَر ... )
قال مؤرج وهذا شيء قيل في آخر أيام بني أمية وشعراء قضاعة في الجاهلية والإسلام كلها تنتمي إلى معد قال جميل
( وأيّ مَعَدٍّ كان فَيْءُ رِمَاحِهمْ ... كما قد أَفَأْنا والمُفَاخِرُ مُنْصِفُ )
وقال زيادة بن زيد يهجو بني عمه بني عامر رهط هدبة بن خشرم
( وإذا مَعَدٌّ أَوْقدتْ نِيرانَها ... للمجدِ أغْضَتْ عامرٌ وتضعضعوا )
روى له كثير وجميل شاعر فصيح مقدم جامع للشعر والرواية كان راوية هدبة بن
خشرم وكان هدبة شاعرا راوية للحطيئة وكان الحطيئة شاعرا راوية لزهير وابنه وقال أبو محلم آخر من اجتمع له الشعر والرواية كثير وكان راوية جميل وجميل راوية هدبة وهدبة راوية الحطيئة والحطيئة راوية زهير
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن القحذمي قال كان جميل يهوى بثينة بنت حبأ بن ثعلبة بن الهوذ بن عمرو بن الأحب بن حن بن ربيعة تلتقي هي وجميل في حن من ربيعة في النسب
حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأسدي وهاشم بن محمد أو دلف الخزاعي قالا حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن ابن أبي الزناد قال
كان كثير راوية جميل وكان يقدمه على نفسه ويتخذه إماما وإذا سئل عنه قال وهل علم الله عز و جل ما تسمعون إلا منه
أخبرني محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن صباح بن خاقان عن عبد الله بن معاوية الزبيري قال
كان كثير إذا ذكر له جميل قال وهل علم الله ما تسمعون إلا منه
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن المسور بن عبد الملك عن نصيب مولى عبد العزيز بن مروان قال
قدمت المدينة فسألت عن اعلم أهلها بالشعر فقيل لي الوليد بن سعيد بن أبي سنان الأسلمي فوجدته بشعب سلع مع عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن أزهر فإنا لجلوس إذ طلع علينا رجل طويل بين المنكبين طوال يقود راحلة عليها بزة حسنة فقال عبد الرحمن بن حسان لعبد الرحمن بن أزهر يا أبا جبير هذا جميل فأدعه لعله أن ينشدنا فصاح به عبد الرحمن هيا جميل هيا جميل فالتفت فقال من هذا فقال أنا عبد الرحمن بن أزهر فقال قد علمت أنه لا يجترىء علي إلا مثلك فأتاه فقال له أنشدنا فأنشدهم
( نحنُ مَنَعْنا يومَ أَوْلٍ نساءَنا ... ويومَ أُفَيٍّ والأسِنَّةُ تَرْعُفُ )
( ويومَ رَكَايا ذِي الجَذَاةِ ووقعةٍ ... ببَنْيَانَ كانت بعضَ ما قد تَسَلَّفُوا )
( يُحِبّ الغَوَانِي البِيضُ ظِلَّ لِوائنا ... إذا ما أتانا الصارخُ المُتَلَهِّفُ )
( نَسيرُ أمامَ الناس والناسُ خَلْفَنا ... فإن نحن أوْمَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا )
( فأيُّ مَعَدٍّ كان فَيْءُ رِمَاحِهِ ... كما قد أفأنا والمُفَاخِرُ يُنْصِفُ )
( وكنَّا إذا ما مَعْشَرٌ نَصَبُوا لنا ... ومرَّتْ جَوَارِي طَيْرِهم وتَعَيَّفوا )
( وضَعْنا لهم صاعَ القِصَاصِ رهينةً ... بما سوف نُوفِيها إذا الناسُ طَفَّفُوا )
( إذا استبق الأقوامُ مجداً وجدتَنا ... لنا مِغْرَفَا مَجْدٍ وللناسِ مِغْرَفُ )
قال ثم قال له أنشدنا هزجا قال وما الهزج لعله هذا القصير قال
نعم فأنشده قال الزبير لم يذكر في هذا الخبر من هذه القصيدة الهزج سوى بيتين وأنشدنا باقيها بهلول بن سليمان بن قرضاب البلوي
صوت ( رَسْمِ دَارٍ وقفتُ في طَلَلِهْ ... كِدتُ أقضِي الغَداةَ من جَلَلِهْ )
( مُوحِشاً ما تَرَى به أحداً تَنْتَسِجُ ... الريحُ تُرْبَ مُعْتَدِلِهْ )
( وصَرِيعاً من الثُّمَامِ تَرَى ... عارِمَاتِ المَدَبِّ في أَسَلِهْ )
( بين عَلْيَاءِ وابشٍ فبُلَيٍّ ... فالغَميمِ الذي إلى جَبَلِهْ )
( واقفاً في ديار أُمِّ جُسَيرٍ ... من ضُحَى يَومِه إلى أُصُلِهْ )
( يا خليلَيَّ إن أُمَّ جُسَيرٍ ... حين يدنو الضجيجُ من غَلَلهْ )
( روضةٌ ذاتُ حَنْوَةٍ وخُزَامَى ... جاد فيها الربيعُ من سَبَلِهْ )
( بينما هنّ بالأرَاكِ معاً ... إذ بدا راكبٌ على جَمَلِهْ )
( فتأطَّرْنَ ثم قلن لها ... أَكْرِميهِ حُيِّيتِ في نُزُلِهْ )
( فظَلِلْنَا بنَعْمةٍ واتَّكأنا ... وشَرِبنا الحلالَ من قُلَلِهْ )
( قد أَصُون الحديثَ دونَ خليلٍ ... لا أخاف الأَذَاة من قِبَلِهْ )
( غيرَ ما بِغْضَةٍ ولا لاجتنابٍ ... غير أنِّي أَلَحْتُ من وَجَلِهْ )
( وخليلٍ صاقَبْتُ مُرْتضِياً ... وخليلٍ فارقتُ من مَلَلِه )
قال فأنشده إياها حتى فرغ منها ثم اقتاد راحلته موليا فقال ابن الأزهر هذا أشعر أهل الإسلام فقال ابن حسان نعم والله وأشعر أهل الجاهلية والله ما لأحد منهم مثل هجائه ولا نسيبه فقال عبد الرحمن بن الأزهر صدقت قال نصيب وأنشدت الوليد فقال لي أنت أشعر أهل جلدتك والله ما زاد عليها فقلت يا أبا محجن أرضيت منه بأن تكون أشعر السودان قال وددت والله يا أبن أخي أنه أعطاني أكثر من هذا ولكنه لم يفعل ولست بكاذبك
كان مقدماً في النسيب على غيره
أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال
كان لكثير في النسب حظ وافر وجميل مقدم عليه وعلى أصحاب النسيب في النسيب وكان كثير راوية جميل وكان جميل صادق الصبابة والعشق ولم يكن كثير بعاشق ولكنه كان يتقول وكان الناس يستحسنون بيت كثير في النسيب
( أُريد لأَنسَى ذكرَها فكأنَّما ... تمَثَّلُ لي لَيْلَى بكلِّ سبيل )
قال ورأيت من يفضل عليه بيت جميل
-======================================================----------------
ج15. كتاب:الأغاني
لأبي الفرج الأصفهاني
( خليليّ فيما عِشْتُما هل رأيتُما ... قَتِيلاً بَكى من حبّ قاتلِه قَبْلِي )
قال ابن سلام وهذا البيت الذي لكثير أخذه من جميل حيث يقول
( أريد لأنْسَى ذكرَها فكأنَّما ... تَمَثَّلُ لي لَيْلَى على كلَّ مَرْقَبِ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار عن محمد بن إسماعيل عن عبد العزيز بن عمران عن محمد بن عبد العزيز عن أبي شهاب طلحة بن عبد الله بن عوف قال
لقي الفرزدق كثيرا بقارعة البلاط وأنا وهو نمشي نريد المسجد فقال له الفرزدق يا أبا صخر أنت أنسب العرب حين تقول
( أُريد لأَنسَى ذكرَها فكأنَّما ... تمَثَّلُ لي لَيْلَى بكلِّ سبيل )
يعرض له بسرقته من جميل فقال له كثير وأنت يا أبا فراس أفخر الناس حين تقول
( تَرَى الناسَ ما سِرْنا يَسيرون خَلْفَنا ... وإن نحن أَوْمَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا )
قال عبد العزيز وهذا البيت أيضا لجميل سرقة الفرزدق فقال الفرزدق لكثير هل كانت أمك مرت بالبصرة قال لا ولكن أبي فكان نزيلا لأمك قال طلحة بن عبد الله فوالذي نفسي بيده لعجبت من كثير وجوابه وما رأيت أحداً قط أحمق منه رأيتني دخلت عليه يوما في نفر من قريش وكنا كثيرا ما نتهزأ به فقلنا كيف تجدك يا أبا صخر قال بخير أما سمعتم الناس يقولون شيئا قلنا نعم يتحدثون أنك الدجال فقال والله
لئن قلتم ذاك إني لأجد في عيني هذه ضعفاً منذ أيام
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال كتب إلي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم يقول حدثني أبو عبيدة عن جويرية بن أسماء قال
كان أبو صخر كثير صديقا لي وكان يأتيني كثيرا فقلما استنشدته إلا بدأ بجميل وأنشد له ثم أنشد لنفسه وكان يفضله ويتخذه إماما
قال الزبير وكتب إلي إسحاق يقول حدثني صباح بن خاقان عن عبد الله بن معاوية بن عاصم بن المنذر بن الزبير قال
ذكر جميل لكثير فقالوا ما تقول فيه فقال منه علم الله عز و جل
أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو يحيى الزهري عن إسحاق بن قبيصة الكوفي عن رجل سماه قال
سألت نصيبا أجميل أنسب أم كثير فقال أنا سألت كثيرا عن ذاك فقال وهل وطأ لنا النسيب إلا جميل
قال عمر بن شبة وقال إسحاق حدثني السعيدي عن أبي مالك النهدي قال
جلس إلينا نصيب فذكرنا جميلا فقال ذاك إمام المحبين وهل هدى الله عز و جل لما ترى إلا بجميل
أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة عن جويرية بن
أسماء قال ما استنشدت كثيرا قط إلا بدأ بجميل وأنشدني له ثم أنشدني بعده لنفسه وكان يفضله ويتخذه إماما
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني بهلول بن سليمان بن قرضاب البلوي قال
خبر تعرفه ببثينة كان جميل ينسب بأم الجسير وكان أول ما علق بثينة أنه أقبل يوما بإبله حتى أوردها واديا يقال له بغيض فاضطجع وأرسل إبله مصعدةً وأهل بثينة بذنب الوادي فأقبلت بثينة وجارة لها واردتين الماء فمرتا على فصال له بروك فعرمتهنّ بثينة يقول نفرتهن وهي إذ ذاك جويرية صغيرة فسبها جميل فأفترت عليه فملح إليه سبابها فقال
( وأوَّلُ ما قاد المودَّةَ بيننا ... بِوَادِي بَغيضٍ يا بُثَيْنَ سِبَابُ )
( وقلنا لها قَوْلاً فجاءت بمثله ... لكلّ كلامٍ يا بُثَيْنَ جوابُ )
قال الزبير وحدثني محمد بن إسماعيل بن جعفر عن سعيد بن نبيه بن الأسود العذري وكانت بثينة عند أبيه نبيه بن الأسود وإياه يعني جميل بقوله
( لقد أَنْكَحُوا جَهْلاً نُبَيهاً ظَعِينةً ... لَطِيفةَ طَيِّ الكَشْحِ ذاتَ شَوًى خَدْلِ )
قال الزبير وحدثني أيضا الأسباط بن عيسى بن عبد الجبار العذري أن جميل بن معمر خرج في يوم عيد والنساء إذ ذاك يتزين ويبدو بعضهن لبعض ويبدون للرجال وأن جميلا وقف على بثينة وأختها أم الجسير في نساء من بني
الأحب وهن بنات عم عبيد الله بن قطبة أخي أبيه لحا فرأى منهن منظرا وأعجبنه وعشق بثينة وقعد معهن ثم راح وقد كان معه فتيان من بني الأحب فعلم أن القوم قد عرفوا في نظره حب بثينة ووجدوا عليه فراح وهو يقول
( عَجِل الفِراقُ ولَيْتَه لم يَعْجَلِ ... وجرتْ بوادرُ دَمْعِك المُتَهلِّلِ )
( طَرَباً وشاقكَ ما لَقِيتَ ولم تَخَفْ ... بَيْنَ الحبيبِ غداةَ بُرْقةِ مِجْوَلِ )
( وعرفتَ انك حين رُحْتَ ولم يكن ... بعدُ اليقينُ وليس ذاك بمُشْكِلِ )
( لن تَستطيع إلى بثينة رَجْعةً ... بعد التفرُّق دون عامٍ مُقبِلِ )
قال وإن بثينة لما أخبرت أن جميلا قد نسب بها حلفت بالله لا يأتيها على خلاء إلا خرجت إليه ولا تتوارى منه فكان يأتيها عند غفلات الرجال فيتحدث إليها ومع أخواتها حتى نمي إلى رجالها أنه يتحدث إليها إذا خلا منهم وكانوا أصلافا غيرا أو قال غيارى فرصدوه بجماعة نحو من بضعة عشر رجلا وجاء على الصهباء ناقته حتى وقف على بثينة وأم الجسير وهما يحدثانه وهو ينشدهما يومئذ
( حلفتُ بربِّ الراقصاتِ إلى مِنًى ... هُوِيَّ القَطَا يَجْتَزْنَ بطنَ دَفِينِ )
( لقد ظَنَّ هذا القلبُ أن ليس لاقياً ... سُلَيْمَى ولا أمَّ الجُسَيْرِ لحِينِ )
( فليت رجالاً فيكِ قد نذَرُوا دَمِي ... وهَمُّوا بقَتْلِي يا بُثَيْنَ لَقُونِي )
فبينا هو على تلك الحال إذ وثب عليه القوم فرماهم بها فسبقت به وهو يقول
( إذا جمع الاثنان جمعاً رميتُهم ... بأركانها حتى تُخَلَّى سبيلُها )
فكان هذا أول سبب المهاجاة بينه وبين عبيد الله بن قطبة
تشكيه في شعره أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا بهلول بن سليمان عن مشيخة من عذرة
أن بثينة واعدت جميلا أن يلتقيا في بعض المواضع فأتى لوعدها وجاء أعرابي يستضيف القوم فأنزلوه وقروه فقال لهم قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرقين متوارين في الشجر وأنا خائف عليكم أن يسلبوا بعض إبلكم فعرفوا أنه جميل وصاحباه فحرسوا بثينة ومنعوها من الوفاء بوعده فلما أسفر له الصبح انصرف كئيبا سيء الظن بها ورجع إلى أهله فجعل نساء الحي يقرعنه بذلك ويقلن له إنما حصلت منها على الباطل والكذب والغدر وغيرها أولى بوصلك منها كما أن غيرك يحظى بها فقال في ذلك
صوت ( أبُثَيْن إنَّكِ قد مَلَكْتِ فأَسْجِحِي ... وخُذِي بحظك من كريمٍ واصلِ )
( فأجبتُها في القول بعد تَسَتُّرٍ ... حُبِّي بثينةَ عن وِصَالِكِ شاغِلِي )
( فلربَّ عارضةٍ علينا وَصْلَها ... بالجِدّ تَخْلِطه بقول الهازل )
( لو كان في صدري كقَدْرِ قُلاَمةٍ ... فَضْلاً وصلتُكِ أو أتتكِ رسائلي )
الغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالوسطى من رواية ابنه أحمد عنه
صوت
( ويَقُلْنَ إنَّكَ قد رَضِيتَ بباطلٍ ... منها فهل لكَ في اجتنابِ الباطلِ )
( ولَبَاطِلٌ ممَّا أُحِبُّ حديثَه ... أشهَى إليّ من البَغيض الباذِل )
( لِيُزِلْنَ عنك هوايَ ثم يَصِلْنَنِي ... وإذا هَوِيتُ فما هوايَ بزائلِ )
الغناء لسليم رمل بالوسطى عن عمرو وذكر في نسخته الثانية أنه ليزيد حوراء وروى حماد عن أبيه في أخبار ابن سريج أن لابن سريج فيه لحنا ولم يجنسه
( صادتْ فؤادي يا بُثَيْن حِبالكُم ... يومَ الحَجُونِ وأخطأَتْكِ حبائلي )
( مَنَّيْتِنِي فلَوَيْتِ ما مَنَّيْتِنِي ... وجعلتِ عاجلَ ما وعدتِ كآجلِ )
( وتثاقلتْ لمَّأ رأت كَلَفِي بها ... أَحْبِبْ إليَّ بذاكَ من متثاقل )
( وأطعتِ فيَّ عواذِلاً فهجرتِني ... وعَصَيْتُ فيكِ وقد جَهَدْنَ عواذلي )
( حاولنَني لأِبُتَّ حبل وِصَالكم ... منِّي ولستُ وإن جَهَدْنَ بفاعل )
( فرددتُهن وقد سَعَيْنَ بهجرِكم ... لمَّا سَعَيْنَ له بأفْوَقَ ناصِلِ )
( يَعْضَضْنَ من غيظٍ عليّ أناملاً ... ووَدِدْتُ لو يَعْضَضْنَ صُمَّ جَنَادِلِ )
( ويقلن إنكِ يا بُثَيْن بخيلةٌ ... نفسي فداؤكِ من ضَنِينٍ باخل )
قالوا وقال جميل في وعد بثينة بالتلاقي وتأخرها قصيدة أولها
( يا صاحِ عن بعض المَلاَمةِ أَقْصِرِ ... إنّ المُنَى لَلِقاءُ أُمِّ المِسْوَرِ )
فمما يغنى فيه منها قوله
صوت ( وكأنّ طارقَها على عَلَل الكرَى ... والنجمُ وَهْناً قد دنا لتَغَوُّرِ )
( يَسْتافُ ريحَ مُدَامةٍ معجونةٍ ... بذَكِيِّ مِسْكٍ أو سَحيقِ العَنْبَر )
الغناء لابن جامع ثقيل أول بالبنصر من رواية الهشامي وذكر عمرو بن بانة أنه لابن المكي
ومما يغنى فيه منها قوله
صوت
( إنَّي لأحفظُ غَيْبَكم ويسرُّني ... إذ تَذْكُرِينَ بصالح أن تَذْكُرِي )
( ويكون يومٌ لا أرى لكِ مُرْسَلاً ... أو نَلْتَقِي فيه عليّ كأشْهُرِ )
( يا ليتني ألقَى المنيَّةَ بغتةً ... إن كان يومُ لقائكم لم يُقْدَرِ )
( أو أستطِيعُ تَجَلُّداً عن ذكركم ... فيُفِيقَ بعضُ صبابتي وتَفَكُّري )
الغناء لابن محرز خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وفيه يقول
( لو قد تُجِنّ كما أُجِنّ من الهوى ... لَعَذَرْتَ أو لظلمتَ إن لم تَعْذِرِ )
( واللَّه ما للقلبِ من علمٍ بها ... غيرُ الظنون وغير قول المُخْبِرِ )
( لا تحسَبي أنِّي هجرتُكِ طائعاً ... حَدَثٌ لعمرُكِ رائعٌ أن تُهْجَري )
( فَلْتَبْكِيَنَّ الباكياتُ وإن أَبُحْ ... يوماً بسرِّكِ مُعْلِناً لم أُعْذَرِ )
( يهواكِ ما عشتُ الفؤادُ فإن أَمُتْ ... يَتْبَعْ صَدَاي صداكِ بين الأقْبُرِ )
(
صوت ( إنِّي إليكِ بما وعدتِ لناظرٌ ... نظرَ الفقيرِ إلى الغَنِيِّ المُكْثِرِ )
( يَعِدُ الديونَ وليس يُنْجِزُ موعداً ... هذا الغريمُ لنا وليس بمُعسِرِ )
( ما أنتِ والوَعْدَ الذي تَعِدِينَنِي ... إلاَّ كبرق سحابةٍ لم تُمْطِرِ )
( قلبي نصحتُ له فرَدَّ نصيحتي ... فمَتَى هَجَرْتِيهِ فمنه تَكَثَّرِي )
الغناء في هذه الأبيات لسليم رمل عن الهشامي وفيه قدح طنبوري اظنه لجحظة أو لعلي بن مودة قالوا وقال في إخلافها إياه هذا الموعد
صوت
( ألاَ ليتَ رَيْعانَ الشبابِ جديدُ ... ودهراً تولىَّ يا بُثَينَ يَعُودُ )
( فنَغْنَى كما كنّا نكون وأنتُم ... قريبٌ وإذ ما تَبْذُلِين زَهيدُ ) ويروى
( وممَّا لا يَزيد بعيدُ ... )
وهكذا يغنى فيه
الغناء لسليم خفيف ثقيل أول بالوسطى ومما يغنى فيه من هذه القصيدة
صوت ( ألاَ ليت شعري هل أَبِيتنّ ليلةً ... بوادِي القُرَى إنِّي إذاً لسَعِيدُ )
( وهل أَلْقَيَنْ فَرْداً بثينةَ مرَّةً ... تَجُود لنا من ودّها ونَجُود )
( عَلِقْتُ الهَوَى منها وليداً فلم يَزَلْ ... إلى اليوم يَنْمِي حُبُّها ويَزيد )
( وأفنيْتُ عُمْرِي بانتظاريَ وَعْدَهَا ... وأَبْليتُ فيها الدهرَ وهو جديدُ )
( فلا أنا مردودٌ بما جئتُ طالباً ... ولا حبُّها فيما يَبِيدُ يَبِيدُ )
الغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى ومما يغنى فيه منها
صوت
( وما أَنْسَ مِ الأشياءِ لا أَنْسَ قولَها ... وقد قَرُبتْ بُصرَى أمصرَ تُرِيدُ )
( ولا قولَهَا لولا العيونُ التي تَرَى ... لزُرْتُكَ فاعذِرْني فَدَتْك جُدُودُ )
( خليليّ ما أَلْقَى من الوجد قاتِلي ... ودَمْعِي بما قلتُ الغَداةَ شَهِيدُ )
( يقولون جاهدْ يا جميلُ بغَزْوةٍ ... وأيَّ جهادٍ غيرَهنّ أُرِيدُ )
( لكلِّ حديثٍ بينهنّ بَشاشةٌ ... وكلُّ قَتيلٍ عندهنّ شَهِيدُ )
الغناء للغريض خفيف ثقيل من رواية حماد عن أبيه وفي هذه القصيدة يقول
( إذا قلتُ ما بي يا بثينةُ قاتِلي ... من الحبّ قالت ثابتٌ ويَزِيدُ )
( وإن قلتُ رُدِّي بعضَ عقلي أَعِشْ به ... مع الناسِ قالت ذاكَ منكَ بعيدُ )
( ألا قد أَرَى واللَّهِ أن رُبَّ عَبْرةٍ ... إذا الدَّارُ شَطَّتْ بينَنا ستَرُودُ )
( إذا فكَّرتْ قالت قد ادركتُ ودَّه ... وما ضَرَّنِي بُخْلِي فكيف أَجُود )
( فلو تُكْشَفُ الأَحْشاءُ صُودِفَ تحتَها ... لبَثْنَةَ حبٌّ طارِفٌ وتَلِيدُ )
- تُذَكِّرُنِيها كلُّ ريحٍ مَرِيضةٍ ... لها بالتِّلاَعِ القاوياتِ وَئيدُ )
( وقد تَلْتقي الأشْتاتُ بعد تفرُّقٍ ... وقد تُدْرَكُ الحاجاتُ وهي بعيدُ )
التقى بثينة بعد غياب فتعاتبا أخبرني علي بن صالح قال حدثني عمر بن شبة عن إسحاق قال
لقي جميل بثينة بعد تهاجر كان بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلا فقالت له ويحك يا جميل أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول
( رمَى اللَّهُ في عينيْ بُثَينَةَ بالقَذَى ... وفي الغُرّ من أَنْيابها بالقَوَادِحِ )
فأطرق طويلا يبكي ثم قال بل أنا القائل
( ألا ليتَنِي أَعْمَى أصمُّ تَقُوُدنِي ... بثينةُ لا يَخْفَى عليّ كلامُها )
فقالت له ويحك ما حملك على هذه المنى أوليس في سعة العافية ما كفانا جميعا
قال إسحاق وحدثني أيوب بن عباية قال
سعت أمة لبثينة بها إلى أبيها وأخيها وقالت لهما إن جميلا عندها الليلة فأتياها مشتملين على سيفين فرأياه جالسا حجرة منها يحدثها ويشكو إليها بثه ثم قال لها يا بثينة أرأيت ودي إياك وشغفي بك ألا تجزينيه قالت بماذا قال بما يكون بين المتحابين فقالت له يا جميل أهذا تبغي والله لقد كنت عندي بعيدا منه ولئن عاودت تعريضا بريبة لا رأيت وجهي أبدا فضحك وقال والله ما قلت لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه ولو علمت أنك تجيبينني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري ولو رأيت منك مساعدة عليه لضربتك
بسيفي هذا ما استمسك في يدي ولو أطاعتني نفسي لهجرتك هجرة الأبد أو ما سمعت قولي
( وإنِّي لأَرْضَى من بُثَينةَ بالذي ... لو ابْصَرَه الواشِي لقرَّتْ بَلاَبِلُهْ )
( بلاَ وبأن لا أستطيعَ وبالمُنَى ... وبالأملِ المرجوِّ قد خاب آملُهْ )
( وبالنَّظْرَةِ العَجْلَى وبالحَول تَنْقَضِي ... أواخرُه لا نَلْتَقِي وأوائلُهْ )
قال فقال أبوها لأخيها قم بنا فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع هذا الرجل من لقائها فانصرفا وتركاهما
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية عن رجل من عذرة قال
كنت تربا لجميل وكان يألفني فقال لي ذات يوم هل تساعدني على لقاء بثينة فمضيت معه فكمن لي في الوادي وبعث بي إلى راعي بثينة بخاتمه فدفعته إليه فمضى به إليها ثم عاد بموعد منها إليه فلما كان الليل جاءته فتحدثا طويلا حتى أصبحا ثم ودعها وركب ناقته فلما استوى في غرزها وهي باركة قالت له ادن مني يا جميل
صوت ( إنّ المنازل هيَّجتْ أَطْرابي ... واستَعجمَتْ آياتُها بجَوابِي )
( قَفْراً تَلُوح بذي اللُّجَين كأنها ... أَنْضَاءُ رَسْمٍ أو سُطورُ كتاب )
( لما وَقَفْتُ بها القَلُوصَ تبادرتْ ... منِّي الدموعُ لفُرْقة الأحبابِ )
( وذكرتُ عصراً يا بثينةُ شاقَني ... وذكرتُ أياَّمي وشَرْخَ شبابِي )
الغناء في هذه الأبيات للهذلي ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق
كثير يسعى لجمعهما أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق الموصلي عن السعيدي وأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال حدثنا أبو مالك النهدي قال
جلس إلينا كثير ذات يوم فتذاكرنا جميلا فقال لقيني مرة فقال لي من أين أقبلت قلت من عند أبي الحبيبة أعني بثينة فقال وإلى أين تمضي قلت إلى الحبيبة أعني عزة فقال لا بد من أن ترجع عودك على بدئك فتستجد لي موعدا من بثينة فقلت عهدي بها الساعة وأنا أستحيي أن أرجع فقال لا بد من ذلك فقلت له فمتى عهدك ببثينة فقال في أول الصيد وقد وقعت سحابة بأسفل وادي الدوم فخرجت ومعها جارية لها تغسل ثيابها فلما أبصرتني أنكرتني فضربت بيديها إلى ثوب في الماء فالتحفت به وعرفتني الجارية فأعادت الثوب في الماء وتحدثنا حتى غابت الشمس وسألتها الموعد فقالت أهلي سائرون وما وجدت أحداً آمنه فأرسله إليها فقال له كثير فهل لك في أن آتي الحي فأنزع بأبيات من شعر أذكر فيها هذه العلامة إن لم أقدر على الخلوة بها قال ذلك الصواب فأرسله إليها فقال له انتظرني ثم خرج كثير حتى أناخ بهم فقال له أبوها ما ردك قال ثلاثة
أبيات عرضت لي فأحببت أن أعرضها عليك قال هاتها قال كثير فأنشدته وبثينة تسمع
( فقلتُ لها يا عزّ أُرْسِلُ صاحبي ... إليكِ رسولاً والمُوَكَّلُ مُرْسَلُ )
( بأن تجعَلي بَيْنِي وبَيْنَكِ موعِداً ... وأنْ تأمُريني ما الذي فيه أفعلُ )
( وآخِرُ عهدِي منكِ يومَ لقيتِني ... بأسفلِ وادي الدَّوْمِ والثوبُ يُغْسَلُ )
قال فضربت بثينة جانب خدرها وقالت إخسأ إخسأ فقال أبوها مهيم يا بثينة قالت كلب يأتينا إذا نوم الناس من وراء الرابية ثم قالت للجارية ابغينا من الدومات حطبا لنذبح لكثير شاة ونشويها له فقال كثير أنا أعجل من ذلك وراح إلى جميل فأخبره فقال له جميل الموعد الدومات وقالت لأم الحسين وليلى ونجيا بنات خالتها وكانت قد أنست إليهن واطمأنت بهن إني قد رأيت في نحو نشيد كثير أن جميلا معه وخرج كثير وجميل حتى أتيا الدومات وجاءت بثينة ومن معها فما برحوا حتى برق الصبح فكان كثير يقول ما رأيت مجلسا قط أحسن من ذلك ولا مثل علم أحدهما بضمير الآخر ما أدري أيهما كان أفهم
أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي وأخبرني عمي عن الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال قال لي صالح بن حسان
هل تعرف بيتا نصفه أعرابي في شملة وآخره مخنث من أهل العقيق يتقصف تقصفا قلت لا قال قد أجلتك حولا قلت لا أدري ما هو فقال قول جميل
( ألا أيُّها النُّوَّامُ وَيْحَكُمُ هُبُّوا ... )
كأنه أعرابي في شملة ثم أدركه ما يدرك العاشق فقال
( أسائلُكم هل يقتُل الرجلَ الحبُّ ... )
كأنه من كلام مخنثي العقيق
ماذا فعل بعد أن أهدر السلطان دمه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير بن حرب قال أخبرنا عبد الله بن أبي كريم عن أبي عمرو وإسحاق بن مروان قال
عشق جميل بثينة وهو غلام فلما بلغ خطبها فمنع منها فكان يقول فيها الأشعار حتى اشتهر وطرد فكان يأتيها سرا ثم تزوجت فكان يزورها في بيت زوجها في الحين خفية إلى أن استعمل دجاجة بن ربعي على وادي القرى فشكوه إليه فتقدم إليه ألا يلم بأبياتها وأهدر دمه لهم إن عاود زيارتها فاحتبس حينئذ
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن إسرائيل مولى المنصور قال حدثنا أحمد بن أبي العلاء قال حدثني إبراهيم الرماح قال حدثنا جابر أبو العلاء التنوخي قال
لما نذر أهل بثينة دم جميل وأهدره لهم السلطان ضاقت الدنيا بجميل
فكان يصعد بالليل على قور رمل يتنسم الريح من نحو حي بثينة ويقول
( أيا ريحَ الشَّمالِ أما تَرَيْنِي ... أَهِيمُ وأنَّني بادِي النُّحُولِ )
( هَبِي لي نَسْمةً من ريح بَثْنٍ ... ومُنِّي بالهُبُوب إلى جَمِيلِ )
( وقولي يا بُثينَةُ حَسْبُ نَفْسِي ... قليلُك أو أقلُّ من القليل )
فإذا بدا وضح الصبح انصرف وكانت بثينة تقول لجوار من الحي عندها ويحكن إني لأسمع أنين جميل من بعض القيران فيقلن لها اتقي الله فهذا شيء يخيله لك الشيطان لا حقيقة له
تذاكر النسيب مع كثير حدثني أحمد بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني أحمد بن يعلى قال حدثني سويد بن عصام قال حدثني روح أبو نعيم قال
التقى جميل وكثير فتذاكرا النسيب فقال كثير يا جميل اترى بثينة لم تسمع بقولك
( يقِيكِ جميل كلَّ سُوءٍ أما له ... لديكِ حديثٌ أو إليكِ رسولُ )
( وقد قلتُ في حبِّي لكم وصَبَابتي ... مَحَاسِن شعرٍ ذِكْرُهنَّ يَطُول )
( فإن لم يكن قولي رضاكِ فعَلِّمِي ... هُبوبَ الصَّبَا يا بَثْن كيف أقولُ )
( فما غاب عن عيني خيالُكِ لحظةً ... ولا زال عنها والخيالُ يَزُول )
فقال جميل أترى عزة يا كثير لم تسمع بقولك
( يقول العِدَا يا عَزّ قد حال دونكم ... شجاعٌ على ظهر الطريق مُصَمِّمُ )
( فقلتُ لها واللِّهِ لو كان دونكم ... جهنَّمُ ما راعتْ فؤادِي جهنَّمُ )
( وكيف يَرُوع القلبَ يا عزّ رائعٌ ... ووجهك في الظَّلْماء للسَّفْر مَعْلَمُ )
( وما ظلمتْكِ النفسُ يا عَزّ في الهوى ... فلا تَنْقِمِي حبِّي فما فيه مَنْقَمُ )
قال فبكيا قطعة من الليل ثم انصرفا
وقال الهيثم بن عدي ومن ذكر روايته معه من أصحابه
زار جميل بثينة ذات يوم فنزل قريبا من الماء يترصد أمة لها أو راعية فلم يكن نزوله بعيدا من ورود أمة حبشية معها قربة وكانت به عارفة وبما بينها وبينه فسلمت عليه وجلست معه وجعل يحدثها ويسألها عن أخبار بثينة ويحدثها بخبره بعدها ويحملها رسائله ثم أعطاها خاتمه وسألها دفعه إلى بثينة وأخذ موعد عليها ففعلت وانصرفت إلى أهلها وقد أبطأت عليهم فلقيها أبو بثينة وزوجها وأخوها فسألوها عما أبطأ بها فالتوت عليهم ولم تخبرهم وتعللت فضربوها ضربا مبرحا فأعلمتهم حالها مع جميل ودفعت إليهم خاتمه ومر بها في تلك الحال فتيان من بني عذرة فسمعا القصة كلها وعرفا الموضع الذي فيه جميل فأحبا أن يثبطا عنه فقالا للقوم إنكم إن لقيتم جميلا وليست بثينة معه ثم قتلتموه لزمكم في ذلك كل مكروه وأهل بثينة أعز عذرة فدعوا الأمة توصل خاتمه إلى بثينة فإذا زارها بيتموهما جميعا قالوا صدقتما لعمري إن هذا الرأي فدفعوا الخاتم إلى الأمة وأمروها بإيصاله وحذروها أن تخبر بثينة بأنهم علموا القصة ففعلت ولم تعلم بثينة بما جرى ومضى الفتيان فأنذرا جميلا فقال والله ما أرهبهم وإن في كنانتي ثلاثين سهما والله لا أخطأ كل واحد منها رجلا منهم وهذا سيفي والله ما أنا به رعش اليد ولا جبان الجنان فناشداه الله وقالا البقية أصلح فتقيم عندنا
في بيوتنا حتى يهدأ الطلب ثم نبعث إليها فتزورك وتقضي من لقائها وطرا وتنصرف سليما غير مؤبن فقال أما الآن فابعثا إليها من ينذرها فأتياه براعية لهما وقالا له قل بحاجتك فقال ادخلي إليها وقولي لها إني أردت اقتناص ظبي فحذره ذلك جماعة اعتوروه من القناص ففاتني الليلة فمضت فأعلمتها ما قال لها فعرفت قصته وبحثت عنها فعرفتها فلم تخرج لزيارته تلك الليلة ورصدوها فلم تبرح مكانها ومضوا يقتصون أثره فرأوه بعر ناقته فعرفوا أنه قد فاتهم فقال جميل في ذلك
( خليليّ عُوجَا اليومَ حتى تسلِّما ... على عَذْبةِ الأنيابِ طيِّبة النَّشْرِ )
( أَلِمَّا بها ثم اشفَعا لي وسلِّما ... عليها سقاها اللَّهُ من سَبَلِ القَطْرِ )
( إذا ما دَنَتْ زِدْتُ اشتياقا وإن نأت ... جَزِعْتُ لنَأْيِ الدار منها وللبُعْدِ )
( أَبَى القلبُ إلآ حبَّ بَثْنةَ لم يُرِدْ ... سِوَاها وحبُّ القلبِ بَثْنَةَ لا يُجْدِي )
قال وقال أيضا ومن الناس من يضيف هذه الأبيات إلى هذه القصيدة وفيها أبيات معادة القوافي تدل على أنها مفردة عنها وهي
( ألم تَسْأل الدارَ القديمةَ هل لها ... بأُمِّ جُسَيْرٍ بعد عهدكَ من عهد )
وفيها يقول
صوت ( سَلِي الرَّكْبَ هل عُجْنَا لِمَغْناكِ مَرَّةً ... صدورَ المطايا وهي مُوقَرَةً تَخْدِي )
( وهل فاضتِ العينُ الشَّرُوقُ بمائها ... مِنَ اجْلِكِ حتى اخْضَلَّ من دمعها بُرْدِي )
الغناء لأحمد بن المكي ثاني ثقيل بالوسطى
( وإنِّي لأَسْتَجْرِي لكِ الطَّيرَ جاهداً ... لتجرِي بيُمْنٍ من لقائِك من سعد )
( وإنِّي لأَسْتَبْكِي إذا الركبُ غَرَّدُوا ... بذكراكِ أن يحيا بكِ الركبُ إذ يَخْدِي )
( فهل تَجْزِيَنِّي أُمُّ عمروٍ بودِّها ... فإنّ الذي أُخْفِي بها فوقَ ما أُبْدِي )
( وكلُّ محبٍّ لم يَزِدْ فوقَ جَهْدِه ... وقد زدتُها في الحبّ منِّي على الجَهْدِ )
(
خبره مع أم منظور التي اؤتمنت على بثينة )
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن إبراهيم وغيره وبهلول بن سليمان البلوي
أن رهط بثينة ائتمنوا عليها عجوزا منهم يثقون بها يقال لها أم منظور فجاءها جميل فقال لها يا أم منظور أريني بثينة فقالت لا والله ما أفعل قد ائتمنوني عليها فقال أما والله لأضرنك فقالت المضرة والله في أن أريكها فخرج من عندها وهو يقول
( ما أَنْسَ لا أَنْسَ منها نظرةً سَلَفَتْ ... بالحِجْرِ يومَ جَلَتْها أُمُّ منظورِ )
( ولا انسِلاَبَتها خُرْساً جبائرُها ... إليَّ من ساقِط الأَرواقِ مستور )
قال فما كان إلا قليل حتى انتهى إليهم هذان البيتان قال فتعلقوا بأم منظور فحلفت لهم بكل يمين فلم يقبلوا منها هكذا ذكر الزبير بن بكار في خبر أم منظور وقد ذكر فيه غير ذلك
مصعب يستفسر أم منظور عن قصة جميل وبثينة أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني العمري عن الهيثم بن عدي وأخبرني به ابن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه عن الهيثم بن عدي
أن رجلا أنشد مصعب بن الزبير قول جميل
( ما أَنْسَ لا أَنسَ منها نظرةً سلفَتْ ... بالحِجْر يومَ جَلَتْها أُمّ منظورِ )
فقال لوددت أني عرفت كيف جلتها فقيل له إن أم منظور هذه حية فكتب في حملها إليه مكرمة فحملت إليه فقال لها أخبريني عن قول جميل
( ما أَنْس لا أَنْس منها نظرةً سَلَفَتْ ... بالحِجْرِ يومَ جَلَتْها أُمّ منظورِ )
كيف كانت هذه الجلوة قالت ألبستها قلادة بلح ومخنقة بلح واسطتها تفاحة وضفرت شعرها وجعلت في فرقها شيئا من الخلوق ومر بنا جميل راكبا ناقته فجعل ينظر إليها بمؤخر عينه ويلتفت إليها حتى غاب عنا فقال لها مصعب فإني أقسم عليك إلا جلوت عائشة بنت طلحة مثل ما جلوت بثينة ففعلت وركب مصعب ناقته وأقبل عليهما وجعل ينظر إلى عائشة بمؤخر عينه ويسير حتى غاب عنهما ثم رجع
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني بهلول عن بعض مشايخه
أن جميلا جاء إلى بثينة ليلة وقد أخذ ثياب راع لبعض الحي فوجد عندها ضيفانا لها فانتبذ ناحية فسألته من أنت فقال مسكين مكاتب فجلس وحده فعشت ضيفانها وعشته وحده ثم جلست هي وجارية لها على صلائهما واضطجع القوم منتحين فقال جميل
( هل البائسُ المَقْرورُ دانٍ فمُصْطَلٍ ... من النار أو مُعْطًى لِحافاً فلابسُ )
فقالت لجاريتها صوت جميل والله اذهبي فانظري فرجعت إليها فقالت هو والله جميل فشهقت شهقة سمعها القوم فأقبلوا يجرون وقالوا مالك فطرحت برداً لها من حبرة في النار وقالت احترق بردي فرجع القوم وارسلت جاريتها إلى جميل فجاءتها به فحبسته عندها ثلاث ليال ثم سلم عليها وخرج
وقال الهيثم وأصحابه في أخبارهم
كانت بثينة قد واعدت جميلا للالتقاء في بعض المواضع فأتى لوعدها وجاء أعرابي يستضيف القوم فأنزلوه وقروه فقال لهم إني قد رأيت في بطن هذا الوادي ثلاثة نفر متفرقين متوارين في الشجر وأنا خائف عليكم أن يسلوا بعض إبلكم فعرفوا أنه جميل وصاحباه فحرسوا بثينة ومنعوها من الوفاء بوعده فلما أسفر له الصبح انصرف كئيبا سيىء الظن بها ورجع إلى أهله فجعل نساء الحي يقرعنه بذلك ويقلن له إنما حصلت منها على الباطل والكذب والغدر وغيرها أولى بوصلك منها كما أن غيرك يحظى بها فقال في ذلك
( أبُثَين إنَّكِ قد مَلَكْتِ فأَسْجِحِي ... وخُذِي بحظِّكِ من كريم واصلِ )
صوت ( فلرُبَّ عارضةٍ علينا وصلَها ... بالجِدّ تَخْلِطُه بقول الهازِلِ )
( فأجبتُها بالقول بعد تستُّرٍ ... حُبِّي بثينةَ عن وصالكِ شاغلي )
( لو كان في قلبي كقَدْرِ قُلاَمةٍ ... فضلاً وصلتُك أو أَتَتْكِ رسائلي )
الغناء ليحيى المكي ثقيل أول بالوسطى من رواية أحمد
( وَيَقُلْنَ إِنَّكَ قد رضيتَ بباطلٍ ... منها فهل لك في اجتناب الباطلِ )
( ولباطلٌ ممَّن أحبُّ حديثَه ... أَشْهَى إليّ من البَغيض الباذِل )
الغناء لسليم رمل بالوسطى عن عمرو وذكر عمر أنه ليزيد حوراء
شعره بعد أن علم زوج بثينة بمقامه معها وذكر الهيثم بن عدي وأصحابه أن جماعة من بني عذرة حدثوا أن جميلا رصد بثينة ذات ليلة في نجعة لهم حتى إذا صادف منها خلوة سكر ودنا منها وذلك في ليلة ظلماء ذات غيم وريح ورعد فحذفها بحصاة فأصابت بعض أترابها ففزعت وقالت والله ما حذفني في هذا الوقت بحصاة إلا الجن فقالت لها بثينة وقد فطنت إن جميلا فعل ذلك فانصرفي ناحية إلى منزلك حتى ننام فانصرفت وبقيت مع بثينة أم الجسير وأم منظور فقامت إلى جميل فأدخلته الخباء معها وتحدثا طويلا ثم اضطجع واضطجعت إلى جنبه فذهب النوم بهما حتى أصبحا وجاءها غلام زوجها بصبوح من اللبن بعث به إليها فرآها نائمة مع جميل فمضى لوجهه حتى خبر سيده ورأته ليلى والصبوح معه وقد عرفت خبر جميل وبثينة فاستوقفته كأنها تسأله عن حاله وبعثت بجارية لها
وقالت حذري بثينة وجميلا فجاءت الجارية فنبهتهما فلما تبينت بثينة الصبح قد أضاء والناس منتشرين ارتاعت وقالت يا جميل نفسك نفسك فقد جاءني غلام نبيه بصبوحي من اللبن فرآنا نائمين فقال لها جميل وهو غير مكترث لما خوفته منه
( لعَمْرُكِ ما خَوَّفْتِنِي من مَخَافةٍ ... بُثَيْن ولا حَذَّرْتِنِي موضعَ الحَذَرْ )
( فأُقْسِمُ لا يُلْفَى لِيَ اليومَ غِرَّةٌ ... وفي الكَفِّ منِّي صارمٌ قاطعٌ ذَكَرْ )
فأقسمت عليه أن يلقي نفسه تحت النضد وقالت إنما أسألك ذلك خوفا على نفسي من الفضيحة لا خوفا عليك ففعل ذلك ونامت كما كانت واضجعت أمّ الجسير إلى جانبها وذهبت خادم ليلى إليها فأخبرتها الخبر فتركت العبد يمضي إلى سيده فمضى والصبوح معه وقال له إني رأيت بثينة مضطجعة وجميل إلى جنبها فجاء نبيه إلى أخيها وأبيها فأخذ بأيديهما وعرفهما الخبر وجاؤوا بأجمعهم إلى بثينة وهي نائمة فكشفوا عنها الثوب فإذا أم الجُسير إلى جانبها نائمة فخجل زوجها وسب عبده وقالت ليلى لأخيها وأبيها قبحكما الله أفي كل يوم تفضحان فتاتكما ويلقاكما هذا الأعور فيها بكل قبيح قبحه الله وإياكما وجعلا يسبان زوجها ويقولان له كل قول قبيح وأقام جميل عند بثينة حتى أجنه الليل ثم ودعها وانصرف وحذرتهم بثينة لما جرى من لقائه إياها فتحامته مدة فقال في ذلك
صوت ( أأن هتَفتْ وَوَرْقاءُ ظَلْتَ سَفَاهةً ... تُبَكِّي على جُمْلٍ لوَرْقَاءَ تَهْتِفُ )
( فلو كان لي بالصرم يا صاحِ طاقةٌ ... صرَمتُ ولكِّني عن الصرم أضعُفُ )
للهذلي في هذين البيتين لحنان أحدهما ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق والآخر خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو وذكر غيره أنه لابن جامع وفيه لبذل الكبرى خفيف ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن أحمد بن المكي ومما يغنى فيه من هذه القصيدة قوله
صوت
( لها في سَوَاد القلب بالحُبِّ مَيْعةٌ ... هي الموتُ أو كادتْ على الموت تُشْرفُ )
( وما ذكرَتْكِ النفسُ با بَثْنَ مرَّةً ... من الدهر إلا كادتِ النفسُ تَتْلَفُ )
( وإلاَّ اعترتْنِي زَفْرةٌ واستكانةٌ ... وجاد لها سَجْلٌ مع الدمع يَذْرِفُ )
( وما استَطْرفتْ نفسي حديثاً لخُلَّةٍ ... أُسَرُّ به إلا حديثُكِ أَطْرَفُ )
الغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وأول هذه القصيدة
( أمِنْ منزلٍ قَفْرٍ تَعَفَّتْ رُسُومَه ... شَمَالٌ تُغَادِيه ونَكْباءُ حَرْجَفُ )
( فأصبح قَفْراً بعد ما كان آهِلاً ... وجُمْلُ المُنَى تَشْتُو به وتُصَيِّفُ )
( ظَلِلتُ ومُسْتَنٌّ من الدمع هامِلٌ ... من العين لما عُجْتُ بالدَّارِ يَنْزِفُ )
( أمُنْصِفَتِي جُمْلٌ فتَعْدِلَ بينَنا ... إذا حكمتْ والحاكمُ العَدْلُ يُنْصِفُ )
( تعلَّقْتُها والجسمُ منِّي مصحَّحٌ ... فما زال يَنْمِي حُبُّ جُمْلٍ وأَضْعُفُ )
( إلى اليومِ حتى سَلَّ جسمِي وشَفنِي ... وأنكرتُ من نفسي الذي كنت أعرِفُ )
( قَنَاةٌ من المُرَّانِ مما فوقَ حَقْوِها ... وما تحتَه منها نَقاً يتقصَّفُ )
( لها مُقْلَتا رِيم وجِيدُ جِدَايةٍ ... وكَشْحٌ كطَيِّ السابِريَّة أَهْيَفُ )
( ولستُ بناسٍ أهلَها حينَ أقْبلُوا ... وجَالُوا علينا بالسيوفِ وطَوَّفُوا )
( وقالوا جَمِيلٌ بات في الحَيّ عندها ... وقد جَرَّدوا أسيافَهم ثم وَقَّفُوا )
( وفي البيت لَيْثُ الغابِ لولا مَخَافةٌ ... على نفس جُمْلٍ والإلهِ لأُرْعِفُوا )
( همَمْتُ وقد كادتْ مِرَاراً تطلَّعتْ ... إلى حَرْبِهم نفسي وفي الكفِّ مُرْهَفُ )
( وما سَرَّني غيرُ الذي كان منهمُ ... ومنِّي وقد جاؤوا إليّ وأَوْجَفُوا )
( فكم مُرْتَجٍ أمراً أُتيح له الرَّدَى ... ومن خائفٍ لم يَنْتَقِصْه التخوُّف )
حدثني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال قال لي صالح بن حسان
هل تعرف بيتا نصفه أعرابي في شملة وآخره مخنث يتفكك من مخنثي العقيق فقلت لا أدري قال قد أجلتك فيه حولا فقلت لو أجلتني حولين ما علمت قال قول جميل
( ألا أيُّها النُّوَّامُ وَيْحَكُمُ هُبُّوا ... )
هذا أعرابي في شملة ثم قال
( نسائلُكم هل يقتُل الرجلَ الحُبُّ ... )
كأنه والله من مخنثي العقيق في هذا الشعر غناء نسبته وشرحه
صوت ( ألا أيُّها النُّوَّامُ وَيْحَكُمُ هُبُّوا ... نسائلُكم هل يقتُل الرجلَ الحُبُّ )
( ألا رُبَّ رَكْبٍ قد دفعتُ وَجِيفَهم ... إليكِ ولولا أنتِ لم يُوجِفِ الرَّكْبُ )
الغناء لابن محرز خفيف رمل بالسبابة والوسطى عن يحيى المكي وذكره إسحاق في هذه الطريقة ولم ينسبه إلى أحد وفيه لسليم ماخوريّ عن الهشامي وفيه لمالك ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وقيل إنه لمعبد وفيه لعريب هزج من رواية ابن المعتز وذكر عبد الله بن موسى أن لحن مالك من الثقيل الأول وأن خفيف الرمل لابن سريج وأن الهزج لحمدونة بنت الرشيد
حل جفاء بينه وبين بثينة بعد تعلقها بحجنة الهلالي أخبرنا لحسين بن يحيى المرداسي قال أخبرنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية المحرزي عن شيخ من رهط جميل من عذرة
أن بثينة لما علقت حجنة الهلالي جفاها جميل قال وأنشدني لجميل في ذلك
صوت ( بَيْنا جِبالٌ ذاتُ عَقْدٍ لبَثْنةٍ ... أُتِيحَ لها بعضُ الغواة فحلَّها )
( فعُدْنا كأنَّا لم يكن بيننا هَوىً ... وصار الذي حَلَّ الحبالَ هَوىً لها )
( وقالوا نَراها يا جميلُ تبدَّلتْ ... وغيَّرها الواشِي فقلتُ لعلَّها )
الغناء للهذلي خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى وذكره إسحاق في هذه الطريقة والإصبع ولم ينسبه إلى أحد
أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثنا أبو عوف عن عبد الرحمن بن مقرن قال
بعثني المنصور لأبتاع له جارية من المدينة وقال لي اعمل برأي ابن نفيس فكنت أفعل ذلك وأغشى ابنه وكانت له جارية مغنية قد كلف بها فتى من آل عثمان بن عفان فكان يبيع عقدة من ماله وينفق ثمنها عليها وابتلي برجل من أهل إفريقية ومعه ابن له فغشي ابن الإفريقي بيت ابن نفيس فجعل يكسو الجارية وأهلها ويبرهم حتى حظي عندهم وغلب عليهم وتثاقلوا العثماني فقضي أن اجتمعنا عشية وحضر ابن الإفريقي والعثماني فنزع ابن الإفريقي خفه فتناثر المسك منه وأراد العثماني أن يكيده بفعله فجلسنا ساعة فقال لها ابن الإفريقي غني
( بَيْنَا حِبَالٌ ذاتُ عَقْدٍ لبَثْنةٍ ... أُتِيح لها بعضُ الغُوَاةِ فحَلَّها )
يعرض بالعثماني فقال لها العثماني لا حاجة لنا في هذا ولكن غني
( ومن يَرْعَ نَجْداً يُلْفِنِي قد رَعَيْته ... بجَنْيَتِه الأولى ويُورِدْ على وِرْدِي )
قال فنكس ابن الإفريقي رأسه وخرج العثماني فذهب وخمد أهل البيت فما انتفعوا بقية يومهم
شعره بعد زواج بثينة من نبيه أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي وبهلول بن سليمان البلوي
أن جميلا قال لما زوجت بثينة نبيها
صوت ( أَلاَ نَادِ عِيراً من بُثَينةَ تَرْتَعِي ... نودِّعْ على شَحْطِ النَّوَى ونُوَدَّعِ )
( وحَثُّوا على جَمْع الرِّكَابِ وقَرَّبُوا ... جِمالاً ونُوقا جِلَّةً لم تَضَعْضَعِ )
في هذين البيتين رمل لابن سريج عن الهشامي ومما يغني فيه من هذه القصيدة
صوت
( أعِيذُكِ بالرحمن من عَيْشِ شِقْوةٍ ... وأن تَطْمَعِي يوماً إلى غير مَطْمَعِ )
( إذا ما ابنُ ملعونٍ تَحَدَّرَ رَشْحُهُ ... عليكِ فمُوتِي بعد ذلك أو دَعِي )
( مَلِلْنَ ولم أَمْلَلْ وما كنتُ سائماً ... لأجمال سُعْدَى ما أَنَخْنَ بجَعْجَعِ )
( وحَثُّوا على جَمْعِ الرِّكابِ وقَرَّبوا ... جِمالاً ونُوقاً جِلَّةً لم تَضَعْضَعِ )
( أَلاَ قد أَرَى إلاَّ بُثَينةَ ها هنا ... لنا بعد ذا المُصْطافِ والمتربِّع )
لمعبد في الثالث والرابع من هذه الأبيات ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق ولابن سريج في الأول والثاني والخامس خفيف رمل بالبنصر عن عمرو وللأبجر في الأول والخامس والثالث والرابع رمل بالبنصر وفي الأول والثاني خفيف ثقيل ينسب إلى معبد وغيره ولم تعرف صحته من جهة يوثق بها
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال أنشدنا بهلول بن سليمان لجميل لما بعد عن بثينة وخاف السلطان وكان بهلول يعجب به
( أَلاَ قد أَرَى إلا بُثَينةَ للقلبِ ... بَوادِي بَداً لا بجِسْمَى ولا الشِّغْبِ )
( ولا ببُصَاقٍ قد تَيمَّمتَ فاعترف ... لما أنت لاقٍ أو تَنَكَّبْ عن الرَّكْبِ )
( أفي كلِّ يومٍ أنت مُحْدِثُ صَبْوةٍ ... تموت لها بُدِّلْتُ غيرَك من قلبِ )
أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا أبي عن يعقوب بن محمد الزهري عن سليمان بن صخر الحرشي قال حدثنا سليمان بن زياد الثقفي
أن بثينة دخلت على عبد الملك بن مروان فرأى امرأة خلفاء مولية
فقال لها ما الذي رأى فيك جميل قالت الذي رأى فيك الناس حين استخلفوك فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء كان يسترها
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمر بن إبراهيم العويثي
أن جمل جميل الذي كان يزور عليه بثينة يقال له جديل وفيه يقول
( أَنَخْتُ جَدِيلاً عند بَثْنةَ ليلةً ... ويوماً أطال اللهُ رَغْمَ جَدِيلِ )
( أليس مُنَاخُ النَّضْوِ يوماً وليلةً ... لبَثْنةَ فيما بيننا بقليلِ )
أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان محمد بن يحيى المكي
أن جميلا لما اشتهرت بثينة بحبه إياها اعترضه عبيد الله بن قطبة أحد بني الأحب وهو من رهطها الأدنين فهجاه وبلغ ذلك جميلا فأجابه وتطاولا فغلبه جميل وكف عنه ابن قطبة واعترضه عمير بن رمل رجل من بني الأحب فهجاه وإياه عنى جميل بقوله
( إذا الناسُ هابُوا خِزْيَةً ذهبتْ بها ... أَحَبُّ المَخَازِي كَهْلُها ووَلِيدُها )
( لَعَمْرُ عَجُوزٍ طَرَّقتْ بكَ إنني ... عُمَير بنَ رَمْلٍ لابنُ حَرْبٍ أَقُودُها )
( بنَفْسِي فلا تَقْطَعْ فؤادَك ضَلَّةً ... كذلك حَزْنِي وَعْثُها وصعُودُها )
قال فاستعدوا عليه عامر بن ربعي بن دجاجة وكانت إليه بلاد عذرة وقالوا يهجونا ويغشى بيوتنا وينسب بنسائنا فأباحهم دمه وطلب فهرب منه وغضبت بثينة لهجائه أهلها جميعا فقال جميل
( وما صائبٌ من نابلٍ قذَفتْ به ... يدٌ ومُمَرُّ العُقْدتيْن وَثِيقُ )
( له من خَوَافِي النَّسْرِ حُمٌّ نَظَائِرٌ ... ونَصْلٌ كنَصْلِ الزَّاعِبِيّ فَتِيقُ
( على نَبعةٍ زَوْراءَ أمَّا خِطامُها ... فمَتْنٌ وأمَّا عُودُها فعَتِيقُ )
( بأوشَكَ قتلاً منكِ يوم رَميتِني ... نَوَافِذَ لم تَظْهَرْ لهنَّ خُروقُ )
( تَفَرَّقَ أهْلاَنَا بُثَيْن فمنهمُ ... فريقٌ أقاموا واستَمَرَّ فريقُ )
( فلو كنتُ خَوَّاراً لقد باح مُضْمَري ... ولكنَّني صُلْبُ القَناةِ عَريقُ )
( كأنْ لم نُحارِبْ يا بُثَين لو انه ... تَكَشَّفُ غمَّاها وأنتِ صديقُ )
قال ويدل على طلب عامر بن ربعي إياه قوله
( أَضَرَّ بأَخْفافِ البُغَيْلةِ أنَّها
حِذَارَ ابن رِبْعيّ بهنّ رُجومُ )
هرب إلى اليمن بعد أن أهدر دمه أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن عبد الله الحزنبل الأصبهاني قال حدثني عمرو بن ابي عمرو الشيباني عن أبيه قال حدثني بعض رواة عذرة
أن السلطان أهدر دم جميل لرهط بثينة إن وجدوه قد غشي دورهم فحذرهم مدة ثم وجدوه عندها فأعذروا إليه وتوعدوه وكرهوا أن ينشب بينهم
وبين قومه حرب في دمه وكان قومه أعز من قومها فأعادوا شكواه إلى السلطان فطلبه طلبا شديدا فهرب إلى اليمن فأقام بها مدة وأنشدني له في ذلك
( أَلَمَّ خَيالٌ من بُثَينةَ طارقُ ... على النَّأيِ مُشْتاقٌ إليَّ وشائقُ )
( سَرَتْ من تِلاَعِ الحِجْرِ حتى تخلَّصتْ ... إليّ ودُوني الأَْشْعَرُون وغافِقُ )
( كأنَّ فَتِيتَ المسك خالط نَشْرَها ... تُغَلَّ به أَرْدانُها والمَرافِقُ )
( تقوم إذا قامت به عن فِراشها ... ويَغْدُو به من حِضْنِها من تُعَانِقُ )
قال أبو عمرو وحدثني هذا العذري
أن جميلا لم يزل باليمن حتى عزل ذلك الوالي عنهم وانتجعوا ناحية الشام فرحل إليهم قال فلقيته فسألته عما أحدث بعدي فأنشدني
( سقَى منزليْنا يا بُثَين بحاجرٍ ... على الهَجْرِ منَّا صَيِّفٌ ورَبِيعُ )
( ودُورَكِ يا لَيْلَى وإن كُنّ بَعْدنا ... بَلِينَ بلًى لم تَبْلَهُنَّ رُبوعُ ) وخَيْماتِك اللاَّتِي بمُنْعَرَجِ اللَّوَى ... لقُمْرِيِّها بالمَشْرِقَيْن سجيعُ )
( تُزَعْزِعُ منها الريحُ كلَّ عشيَّةٍ ... هَزِيمٌ بسُلاَّفِ الرياح رَجِيعُ )
( وإنِّيَ أن يَعْلَى بكِ اللَّوْمُ أو تُرَيْ ... بدارِ أَذىً من شامتٍ لَجَزُوعُ )
( وإنِّي على الشيء الذي يُلْتَوَى به ... وإن زَجَرَتْنِي زَجْرَةً لَورِيعُ )
( فَقَدْتُكِ من نَفْسٍ شَعَاعٍ فإنَّني ... نَهيتُكِ عن هذا وأنتِ جميعُ )
( فقَرَّبتِ لي غيرَ القريبِ وأشرفتْ ... هناكَ ثَنَايَا ما لهنَّ طُلُوعُ )
( يقولون صَبٌّ بالغََوانِي مُوَكَّلٌ ... وهل ذاك من فعل الرجال بَديعُ )
( وقالوا رعيتَ اللَّهوَ والمالُ ضائعٌ ... فكالناسِ فيهم صالحٌ ومُضِيعُ )
الغناء لصالح بن الرشيد رمل بالوسطى عن الهشامي وابن خرداذبة وإبراهيم وذكر حبش أن في هذه الأبيات لإسحاق لحنا من الثقيل بالوسطى ولم يذكر هذا أحد غيره ولا سمعناه ولا قرأناه إلا في كتابه ومن الناس من يدخل هذه الأبيات في قصيدة المجنون التي على روي وقافية هذه القصيدة وليست له
كثير ينعته بأشعر الناس أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي عن أبي عبيدة عن أبيه قال
دخل علينا كثير يوما وقد أخذ بطرف ريطته وألقى طرفها الآخر وهو يقول هو والله أشعر الناس حيث يقول
( وخَبَّرْتُمانِي أنَّ تَيْماء منزلٌ ... لليلِى إذا ما الصَّيفُ ألقَى المَرَاسِيا )
( فهذِي شهورُ الصيفِ عنِّي قد انقضتْ ... فما للنَّوَى ترمِي بليلَى المَرَامِيا )
ويجر ريطته حتى يبلغ إلينا ثم يولي عنا ويجرها ويقول هو والله اشعر الناس حيث يقول
( وأنتِ التي إن شئتِ كَدَّرْتِ عِيشتي ... وإن شئتِ بعد اللَّه أَنْعمتِ بالِيَا )
( وأنتِ التي ما مِنْ صديقٍ ولا عِداً ... يَرَى نِضْوَ ما أَبْقيتِ إلاَّ رَثَى لِيَا )
ثم يرجع إلينا ويقول هو والله أشعر الناس فقلنا من تعني يا أبا صخر فقال ومن أعني سوى جميل هو والله أشعر الناس حيث يقول هذا وتيماء خاصة منزلٌ لبني عذرة وليس من منازل عامر وإنما يرويه عن المجنون من لا يعلمه
وفي هذه القصيدة يقول جميل
( وما زِلْتُمُ يا بَثْن حتَّى لَوَانَّني ... من الشوق أستبكِي الحمامَ بَكَى ليا )
( إذا خَدِرتْ رجلي وقيل شفاؤها ... دعاءُ حبيبٍ كنتِ أنتِ دُعَائيا )
( وما زادني النَّأْيُ المُفَرِّق بعدَكم ... سُلُوّاً ولا طولُ التلاقي تَقَالِيا )
( ولا زادني الواشون إلاَّ صَبابةً ... ولا كثرةُ الناهين إلا تَمَادِيا )
( ألم تعلمي يا عَذْبةَ الرِّيقِ أنَّني ... أَظَلُّ إذا لم أَلْقَ وجهَكِ صادِيا )
( لقد خِفْتُ أنْ ألقَى المنيَّة بَغْتةً ... وفي النفس حاجاتٌ إليكِ كما هيا )
أخبرنا الحرمي بن ابي العلاء قال حدثنا الزبير قال حدثني بعض أصحابنا عن محمد بن معن الغفاري عن الأصبغ بن عبد العزيز قال
كنت عند طلحة بن عبد الله بن عوف فدخل عليه كثير فلما دخل من
الباب أخذ برجله فثناها ثم حجل حتى بلغ الفراش وهو يقول جميل والله أشعر العرب حيث يقول
( وخَبَّرْتُمانِي أنّ تَيْماءَ منزلٌ ... )
ثم ذكر باقي الخبر الذي رواه محمد بن مزيد
أخبرني الحرمي قال حدثني الزبير قال حدثني عمر بن إبراهيم السعدي
أن رهط بثينة قالوا إنما يتبع جميل أمة لنا فواعد جميل بثينة حين لقيها ببرقاء ذي ضال فتحادثا ليلا طويلا حتى أسحرا ثم قال لها هل لك أن ترقدي قالت ما شئت وأنا خائفة أن نكون قد أصبحنا فوسدها جانبه ثم اضطجعا ونامت فانسل واستوى على راحلته فذهبت وأصبحت في مضجعها فلم يرع الحي إلا بها راقدة عند مناخ راحلة جميل فقال جميل في ذلك
( فَمَنْ يَكُ في حُبِّي بُثَيْنةَ يَمْتَرِي ... فبَرْقاءُ ذي ضالٍ عليَّ شهيدُ )
أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن شبيب عن الحزامي عن فليح بن إسماعيل بمثل هذه القصة وزاد فيها فلما انتبهت بثينة علمت ما اراده جميل بها فهجرته وآلت ألا تظهر له فقال
( أَلاَ هل إلى إلمامةٍ أن أُلِمَّها ... بُثَيْنةُ يوماً في الحياةِ سبيلُ )
( فإن هي قالتْ لا سبيلَ فقُلْ لها ... عَنَاءٌ على العُذْرِيّ منكِ طويلُ )
( على حين يسلو الناسُ عن طَلَب الصِّبَا ... وينسَى اتِّباعَ الوصلِ منه خليلُ )
لامه أهله على حبه بثينة وقال الهيثم وأصحابه في أخبارهم
تشكى زوج بثينة إلى أبيها وأخيها إلمام جميل بها فوجهوا إلى جميل وأعذروا إليه وشكوه إلى عشيرته وأعذروا إليهم فيه وتوعدوه وأتاهم فلامه أهله وعنفوه وقالوا إنا نستحلف إليهم ونتبرأ منك ومن جريرتك فأقام مدة لا يلم بها ثم لقي ابني عمه روقا ومسعودا فشكا إليهما ما به وأنشدهما قوله
( وإنِّي على الشيء الذي يُلْتَوَى به ... وإنْ زَجَرَتْنِي زَجْرةً لوَريعُ )
( فَقَدْتُكِ من نَفْسٍ شَعَاعٍ فإنني ... نهيتُكِ عن هذا وأنتِ جميعُ )
( فقَرَّبْتِ لي غيرَ القريب وأشرفتْ ... هناك ثَنَايَا ما لهنَّ طُلُوعُ )
( يقولون صَبٌّ بالغَواني مُوَكَّلٌ ... وهل ذاك من فعل الرجال بديعُ )
( وقالوا رَعَيْتَ اللَّهْوَ والمالُ ضائعٌ ... فكالنَّاسِ فيهم صالحٌ ومُضِيعُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثني مصعب بن عبد الله قال
كانت تحت محمد بن عبد الله بن حسن امرأة من ولد الزبير يقال لها فليحة وكانت لها صبية يقال لها رخية قد ربتها لغير رشدة وكانت من أجمل النساء وجها فرأت محمدا وقد نظر إليها ذات يوم نظرا شديدا ثم تمثل قول جميل
( بُثَيْنَةُ من صِنْفٍ يُقَلِّبْنَ أيديَ الرُّماة ... وما يحْمِلْنَ قوساً ولا نَبْلا )
( ولكنَّما يَظْفَرْنَ بالصيد كلَّما ... جَلَوْنَ الثَّنايا الغُرَّ والأعيُنَ النُّجْلاَ )
( يُخالسْنَ ميعاداً يُرَعْنَ لقولها ... إذا نطقتْ كانت مقالتُها فَصْلاَ )
( يَرَيْنَ قريباً بيتَها وهي لا تَرَى ... سوى بيتها بيتاً قريباً ولا سَهْلاَ )
فقالت له فليحة كأنك تريد رخية قال إي والله قالت إني أخشى أن تجيء منك بولد وهي لغير رشدة فقال لها إن الدنس لا يلحق الأعقاب ولا يضر الأحساب فقالت له فماذا يضر إذاً والله ما يضر إلا الأعقاب والأحساب وقد وهبتها لك فسر بذلك وقال أما والله لقد أعطيتك خيراً منها قالت وما هو قال أبيات جميل التي أنشدتك إياها لقد مكثت أسعى في طلبها حولين فضحكت وقالت ما لي ولأبيات جميل والله ما ابتغيت إلا مسرتك قال فولدت منه غلاما وكانت فليحة تدعو الله إلا يبقيه فبينا محمد في بعض هربه من المنصور والجارية وابنها معه إذ رهقهما الطلب فسقط الصبي من الجبل فتقطع فكان محمد بعد ذلك يقول أجيب في هذا الصبي دعاء فليحة
وقال الهيثم بن عدي وأصحابه في أخبارهم
لما نذر أهل بثينة دم جميل وأباحهم السلطان قتله أعذروا إلى أهله وكانت منازلهم متجاورة إنما هم بيوتات يفترقون كما يفترق البطون والأفخاذ والقبائل غير متباعدين ألم تر قول جميل
( أَبِيتُ مع الهُلاَّك ضَيْفاً لأهلها ... وأَهْلِي قريبٌ مُوسِعونَ أُولُو فَضْلِ )
فمشت مشيخة الحي إلى أبيه وكان يلقب صباحا وكان ذا مال وفضل وقدر في أهله فشكوه إليه وناشدوه الله والرحم وسألوه كف ابنه عما يتعرض له ويفضحهم به في فتاتهم فوعدهم كفه ومنعه ما استطاع ثم انصرفوا فدعا به فقال له يا بني حتى متى أنت عمه في ضلالك لا تأنف من أن تتعلق بذات بعل يخلو بها وينكحها وأنت عنها بمعزل ثم تقوم من تحته إليك فتغرك
بخداعها وتريك الصفاء والمودة وهي مضمرة لبعلها ما تضمره الحرة لمن ملكها فيكون قولها لك تعليلا وغرورا فإذا انصرفت عنها عادت إلى بعلها على حالتها المبذولة إن هذا لذل وضيم ما أعرف أخيب سهما ولا أضيع عمرا منك فأنشدك الله إلا كففت وتأملت أمرك فإنك تعلم أن ما قلته حق ولو كان إليها سبيل لبذلت ما أملكه فيها ولكن هذا أمر قد فات واستبد به من قدر له وفي النساء عوض فقال له جميل الرأي ما رأيت والقول كما قلت فهل رأيت قبلي أحداً قدر أن يدفع عن قلبه هواه أو ملك أن يسلي نفسه أو استطاع أن يدفع ما قضي عليه والله لو قدرت أن أمحو ذكرها من قلبي أو أزيل شخصها عن عيني لفعلت ولكن لا سبيل إلى ذلك وإنما هو بلاء بليت به لحين قد أتيح لي وأنا أمتنع من طروق هذا الحي والإلمام بهم ولو مت كمدا وهذا جهدي ومبلغ ما أقدر عليه وقام وهو يبكي فبكى ابوه ومن حضر جزعاً لما رأوا منه فذلك حين يقول جميل
صوت ( أَلاَ مَنْ لقَلْبٍ لا يَمَلُّ فَيَذْهَلُ ... أفِقْ فالتَّعَزِّي عن بُثَينَةَ أجمَلُ )
( سَلاَ كلُّ ذي ودٍّ علمتُ مكانَه ... وأنتَ بها حتى المماتِ مُوَكَّلُ )
( فما هكذا أحببتَ مَنْ كان قبلها ... ولا هكذا فيما مضَى كنتَ تفعلُ )
الغناء لمالك ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق
( فيا قلبُ دَعْ ذِكْرَى بُثَيْنَةَ إنَّها ... وإن كنتَ تَهْواها تَضِنّ وتبخلُ )
( وقد أيأستْ من نَيْلِها وتجهَّمتْ ... ولَلْيأسُ إن لم يُقْدَرِ النَّيْلُ أمثَلُ )
( وإلاَّ فسَلْها نائلاً قبلَ بَيْنِها ... وأبْخِلْ بها مسؤولةً حين تُسْأَلُ )
( وكيف تُرَجِّي وصلَها بعد بُعْدِها ... وقد جُذَّ حبلُ الوصلِ ممن تؤمِّلُ )
( إنّ التي أحببتَ قد حِيل دونها ... فكُنْ حازماً والحازِمُ المُتَحَوِّلُ )
( ففي اليأسِ ما يُسْلي وفي الناسِ خُلَّةٌ ... وفي الأرض عمَّن لا يُوَاتِيكَ مَعْزِلُ )
( بدا كَلَفٌ منِّي بها فتثاقلتْ ... وما لا يُرَى من غائب الوجد أفضَلُ )
( هَبِينِي بريئاً نِلْتِهِ بظُلاَمةٍ ... عَفَاها لكم أو مُذْنِباً يتنصَّلُ )
( قَنَاةٌ من المُرَّانِ ما فوق حَقْوِها ... وما تحته منها نَقاً يتهيَّل )
قال وقال أيضا في هذه الحال
صوت
( أَعَنْ ظُعُنِ الحيّ الأُلَى كنتَ تَسألُ ... بليلٍ فرَدُّوا عِيرهم وتحمَّلوا )
( فأمسَوْا وهم أهلُ الديار وأصبحوا ... ومن أهلها الغِربانُ بالدارِ تَحْجُلُ )
في هذين البيتين لسياط خفيف رمل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن جامع ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو
( على حينَ ولَّى الأمرُ عنَّا وأَسْمحتْ ... عًصا البَيْنِ وانبَتَّ الرجاءُ المؤمَّلُ )
( فما هو إلاَّ أن أَهِيمَ بذكرِها ... ويحظَى بجَدْوَاها سوايَ ويَجْذَلُ )
( وقد أبقتِ الأيَّامُ منِّي على العِدَا ... حُسَاماً إذا مَسَّ الضريبةَ يَفصِلُ )
( ولستُ كمن إن سِيمَ ضَيْماً أطاعَه ... ولا كامرىءٍ إن عضَّه الدهرُ يَنكُلُ )
لعمري لقد أَبْدَى لِيَ البينُ صَفْحَه ... وبَيَّن لي ما شئتُ لو كنت اعقِلُ )
( وآخرُ عهدِي من بُثَينة نظرةٌ ... على موقفٍ كادت من البين تَقتُلُ )
( فلِلَّه عَيْنَا مَنْ رأى مثلَ حاجةٍ ... كَتَمْتُكِهَا والنفسُ منها تَمَلْمَلُ )
( وإني لأسْتبكِي إذا ذُكِرَ الهَوَى ... إليكِ وإنِّي من هواكِ لأوجَلُ )
( نظرتِ بِبِشْرٍ نظرةً ظَلْتُ أَمْتَرِي ... بها عَبْرةً والعينُ بالدمع تُكْحَلُ )
( إذا ما كرَرْتُ الطَّرْفَ نَحْوَكِ ردَّه ... من البعد فيَّاضٌ من الدمع يَهْمِلُ )
خروجه إلى الشام أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية قال
لما أراد جميل الخروج إلى الشام هجم ليلاً على بثينة وقد وجد غفلة فقالت له أهلكتني والله وأهلكت نفسك ويحك أما تخاف فقال لها هذا وجهي إلى الشام إنما جئتك مودعا فحادثها طويلا ثم ودعها وقال يا بثينة ما أرانا نلتقي بعد هذا وبكيا طويلا ثم قال لها وهو يبكي
( أَلاَ لا أُبالِي جفوةَ الناس ما بدَا ... لنا منك رأيٌ يا بُثَيْن جميلُ )
( وما لم تُطيعي كاشحاً أو تَبَدَّلي ... بنا بدلاً أو كان منك ذُهول )
( وإنِّي وتَكْرارِي الزيارةَ نحوَكم ... بُثَيْن بذي هجرٍ بُثَين يطول )
( وإن صَبَاباتي بكم لكثيرةٌ ... بُثَيْن ونِسْيانِيكُم لقليلُ )
أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني شيوخ من عذرة
أن مروان بن الحكم خرج مسافرا في نفر من قريش ومعه جميل بن معمر وجواس بن قطبة أخو عبيد الله بن قطبة فقال مروان لجواس إنزل فارجز بنا وهو يريد أن يمدحه فنزل جواس وقال
( يقول أميرِي هل تَسُوق رِكابَنا ... فقلت له حادٍ لهنّ سَوَائِيَا )
( تكَرَّمتُ عن سَوْقِ المَطِيِّ ولم يكن ... سِيَاقُ المطيِّ همَّتي ورَجائيا )
( جعلتَ أبي رَهْناً وعِرْضِيَ سادراً ... إلى أهل بيت لم يكونوا كِفائيا )
( إلى شرِّ بيتٍ من قُضَاعَةَ مَنْصِباً ... وفي شرِّ قومٍ منهمُ قد بَدَا لِيَا )
فقال مروان إركب لا ركبت ثم قال لجميل إنزل فارجز بنا وهو يريد أن يمدحه فنزل جميل فقال
( أنا جميلٌ في السَّنامِ الأعظمِ ... الفارعِ الناسَ الأعزِّ الأكرمِ )
( أَحْمِي ذِمَارِي ووجدتُ أَقْرُمي ... كانوا على غاربِ طَوْدٍ خِضْرِمِ )
( أعيا على النَّاس فلم يُهَدَّم ... )
فقال عد عن هذا فقال جميل
( لَهْفاً على البيت المَعَدِّي لهفا ... من بعدِ ما كان قد استكَفَّا )
( ولو دعا اللَّه ومَدَّ الكَفَّا ... لَرَجَفَتْ منه الجبالُ رَجْفَا )
فقال له إركب لا ركبت
قال الزبير وحدثني عمر بن أبي بكر المؤملي قال
كان جميل مع الوليد بن عبد الملك في سفر والوليد على نجيب فرجز به مكين العذري فقال
( يا بَكْرُ هل تعلَم مَنْ عَلاَكَا ... خليفةُ اللَّه على ذُراكا )
فقال الوليد لجميل إنزل فارجز وظن الوليد أنه يمدحه فنزل فقال
( أنا جميلٌ في السَّنَام من مَعَدّ ... في الذِّرْوةِ العَلْياء والرُّكْنِ الأَشَدّ )
( والبيت من سَعْدِ بن زيد والعَدَدْ ... ما يَبْتغي الأعداء منِّي ولقدْ )
( أُضْرِي بالشَّتْمِ لِساني ومَرَدْ ... أقودُ منْ شِئتُ وصَعْبٌ لم أُقَدْ )
فقال له الوليد إركب لا حملك الله قال وما مدح جميل أحداً قط
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا يونس بن عبد الله بن سالم قال
وقف جميل على الحزين الديلي والحزين ينشد الناس فقال له الحزين وهو لا يعرفه كيف تسمع شعري قال صالح وسط فغضب الحزين وقال له ممن أنت فوالله لأهجونك وعشيرتك فقال جميل إذاً تندم فأقبل الحزين يهمهم يريد هجاءه فقال جميل
( الدِّيلُ أذنابُ بَكْرٍ حين تنسُبهم ... وكلُّ قومٍ لهم من قومِهم ذَنَبُ )
فقامت له بنو الديل وناشدوه الله إلا كف عنهم ولم يزالوا به حتى أمسك وانصرف
أخبرني الحرمي ومحمد بن مزيد واللفظ له قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني محمد بن الضحاك عن أبيه قال
لما هاجى عبيد الله بن قطبة جميلا واستعلى عليه جميل أعرض عنه واعترضه أخوه جواس بن قطبة فهجاه وذكر أختاً لجميل وكان جميل قبل ذلك يحتقره ولا ينصب له حتى هجا أخته فقال فيما ذكرها به من شعره
( إلى فَخِذَيْها العَبْلَتَيْنِ وكانتا ... بعَهْدِيَ لَفَّاوَينِ أُرْدِفتَا ثقْلاَ )
فغضب جميل حينئذ فواعده للمراجزة قال الزبير فحدثني بعض آل العباس بن سهل بن سعد عن عباس قال
( قدمت من عند عبد الملك بن مروان وقد أجازني وكساني بردا كان ذلك البرد أفضل جائزتي فنزلت وادي القرى فوافقت الجمعة بها فاستخرجت بردي الذي من عند عبد الملك وقلت أصلي مع الناس فلقيني جميل وكان صديقا لي فسلم بعضنا على بعض وتساءلنا ثم افترقنا فلما أمسيت إذا هو قد أتاني في رحلي فقال البرد الذي رأيته عليك تعيرنيه حتى أتجمل به فإن بيني وبين جواس مراجزة وتحضر فتسمع قال قلت لا بل هو لك كسوة فكسوته إياه وقلت لأصحابي ما من شيء أحب إلي من أن أسمع مراجزتهما فلما أصبحنا جعل الأعاريب يأتون أرسالا حتى اجتمع منهم بشر كثير وحضرت وأصحابي فإذا بجميل قد جاء وعليه حلتان ما رأيت مثلهما على أحد قط وإذا بردي الذي كسوته إياه قد جعله جلاّ لجمله فتراجزا فرجز جميل وكانت بثينة تكنى أم عبد الملك فقال
( يا أُمّ عبد الملك اصْرِمِينِي ... فبَيِّنِي صرميِ أو صِلِينِي )
( أَبْكِي وما يُدْرِيكِ ما يُبْكِينِي ... أبكِي حِذَارَ أنْ تُفَارقيني )
( وتجعلي أبعَدَ منِّي دُوني ... إنَّ بني عَمِّكِ أَوْعدونِي )
( أن يقطعوا رأسِي إذا لَقُونِي ... ويقتلوني ثم لا يَدُونِي )
( كلاَّ وربِّ البيتِ لو لَقُونِي ... شَفْعاً ووَتْراً لتَوَاكلُونِي )
( قد علِم الأعداءُ أنّ دُونِي ... ضَرْباً كإيزاغ المخاضِ الجُونِ )
( أَلاَ أسُبُّ القومَ إذ سَبُّونِي ... بَلَى وما مَرّ على دَفِينِ )
( وسابحاتٍ بِلِوَى الحَجُونِ ... قد جَرَّبُوني ثم جرَّبوني )
( حتى إذا شابوا وشيَّبوني ... أخزاهمُ اللَّه ولا يَخْزِينِي )
( أشباهُ أعْيَارٍ على مَعِينِ ... أَحْسَسْنَ حِسَّ أَسَدٍ حَرُونِ )
( فهنَّ يَضْرِطْنَ من اليقينِ ... أنا جميلٌ فتَعَرَّفونِي )
( وما تَقَنَّعتُ فتُنْكِروني ... وما أُعَنِّيكم لتَسْألونِي )
( أُنْمَى إلى عاديَّةٍ طَحُونِ ... يَنْشقّ عنها السَّيْلُ ذو الشؤونِ )
( غَمْرٌ يَدُقّ رُجُحَ السَّفِينِ ... ذو حَدَبٍ إذا يُرَى حَجُونِ )
( تَنْحلّ أحقادُ الرجالِ دُونِي ... )
قال ورجز جميل أيضا
( أنا جميلٌ في السَّنام من مَعَدّ ... )
وقد تقدمت هذه الأرجوزة ثم رجز بعده جواس فلم يصنع شيئا قال فما رأيت غلبة مثلها قط
شعره في هجاء خوات العذري وبني الأحب أخبرنا الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا بهلول بن سليمان عن العلاء بن سعيد البلوي وجماعة غيره من قومه
أن رجلا من بني عذرة كان يقال له خوَّات أمه بلوية وكان شاعرا وكان جميل بن جذامية فخرج جميل إلى أخواله بجذام وهو يقول
( جُذَامُ سيوفُ اللَّه في كلِّ موطنٍ ... إذا أَزَمَتْ يومَ اللِّقاء أَزَامِ )
( هُمُ منعوا ما بين مِصْرَ فذي القُرَى ... إلى الشامِ مِنْ حلٍّ به وحَرَامِ )
( بضربٍ يُزيل الهامَ عن سَكناتِهِ ... وطَعْنٍ كإيزاغِ المَخَاض تُؤامِ )
( إذا قَصُرتْ يوماً أَكُفُّ قبيلةٍ ... عن المجدِ نالته أَكُفُّ جُذَامِ )
فأعطوه مائة بكرة قال وخرج خوات إلى أخواله من بلي وهو يقول
( إنّ بَلِيّاً غُرَّةٌ يُهْتَدَى بها ... كما يَهْتَدِي السارِي بمُطَّلَع النجمِ )
( هُمُ ولدوا أُميَّ وكنتُ ابنَ أُختهم ... ولم أَتَخَوَّلْ جِذْمَ قومٍ بلا علم )
قال فأعطوه مائة غرة ما بين فرس إلى وليدة ففخر على صاحبه وذكر أن الغرة الواحدة مما أتى به مما معه تعدل كل شيء أتى به جميل فقال عبيد الله بن قطبة
( ستَقْضِي بيننا حكماءُ سَعْدٍ ... أقُطْبةُ كان خيراً أم صُبَاحُ )
قال وكان عبد الله بن معمر أبو جميل يلقب صباحا وكان عبيد الله بن قطبة يلقب حماظا فقال النخار العذري أحد بني الحارث بن
سعد قطبة كان خيرا من صباح فقال جميل يهجو بني الأحب رهط قطبة ويهجو النخار
( إنّ أحبَّ سُفَّلٌ أشرارُ ... حُثَالةٌ عُودُهمُ خَوَّارُ )
( أذَلُّ قومٍ حين يُدْعَى الجارُ ... كما أذلَّ الحارث النَّخَّارُ )
وقال الأبيرق العتبي قطبة كان خيرا من صباح فقال جميل
( يابنَ الأُبَيْرِق وَطْبٌ بِتَّ مُسْنِدَه ... إلى وَسَادِك من حُمّ الذُّرى جُون )
( وأكلتان إذا ما شئت مرتفقاً ... بالسير من نغل الدفين مدهون )
( أُذكُرْ وأُمِّك منِّي حين تَنْكُبني ... جِنِّي فيَغْلِب جِنَّي كلَّ مجنونِ )
وقال جماعة من شعراء سعد في تفضيل قطبة على صباح أقوالا اجابهم عنها جميل فأفحمهم حتى قال له جعفر بن سراقة أحد بني قرة
( نحن مَنَعْنا ذَا القُرَى من عَدُوّنا ... وعُذْرةَ إذ نلقَى يَهُوداً ويعشرا )
( مَنَعْناه من عُلْيَا مَعَدٍّ وأنتمُ ... سَفَاسِيفُ رَوْحٍُ بين قُرْحَ وخَيْبَرَا )
( فريقانِ رُهْبَانٌ بأسفَلِ ذي القُرَى ... وبالشام عَرَّافون فيمن تنَصَّرَا )
فلما بلغت جميلا اتقاه وعلم أنه سيعلو عليه فقال جميل
( بَني عامرٍ أنَّى انتجعتمْ وكنتمُ ... إذا حُصِّل الأقوامُ كالخُصْية الفَرْدِ )
( فأنتم ولأَيٌ موضعَ الذُّلِّ حجْرةً ... وقُرَّةُ أَوْلَى بالعَلاَء وبالمجدِ )
فأعرض عنه جعفر قال الزبير بنو عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد رهط هدبة بن خشرم بن كرز بن ابي حية بن الكاهن وهو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن سعد هذيم بن زيد وزيادة بن زيد بن مالك بن عامر بن قرة بن خنبس بن عمرو بن ثعلبة بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد هذيم ولأي بن عبد مناة بن الحارث بن سعد هذيم قال فدخل جميل على هدبة بن خشرم السجن وهو محبوس بدم زيادة بن زيد وأهدى له بردين من ثياب كساه إياهما سعيد بن العاصي وجاءه بنفقة فلما دخل عليه عرض ذلك عليه فقال هدبة أنت يابن قميئة الذي تقول
( بني عامرٍ أنَّى انتجعتم وكنتمُ ... إذا عُدِّد الأقوامُ كالخصْية الفَرْد )
أما والله لئن خلص الله لي ساقي لأمدن لك مضمارك خذ برديك ونفقتك فخرج جميل فلما بلغ باب السجن خارجا قال اللهم أغن عني أجدع بني عامر وكانت بنو عامر قد قلوا فحالفوا لأيا
لقاؤه بعمر بن أبي ربيعة وتناشدهما الشعر اخبرني الحرمي بن أبي العلاء ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم المخزومي قال حدثني شيخ من أهلي عن أبيه عن الحارث مولى هشام بن المغيرة الذي يقول له عمر بن أبي ربيعة
( يا أبا الحارث قلبي طائر ... )
قال شهدت عمر بن أبي ربيعة وجميل بن عبد الله بن معمر وقد اجتمعا بالأبطح فأنشد جميل قصيدته
( لقد فرِحَ الواشون أن صَرَمتْ حَبْلِي ... بُثَيْنةُ أو أبدتْ لنا جانبَ البُخْلِ )
( يقولون مَهْلاً يا جميلُ وإنني ... لأُقسم ما بي عن بُثَيْنة من مَهْلِ )
( أَحِلْماً فقبل اليوم كان أوانُه ... أَم اخْشَى فقبل اليومِ أُوعِدتُ بالقتلِ )
( لقد أَنْكَحُوا حَرْبِي نُبَيْهاً ظَعِينةً ... لطيفةَ طَيِّ البَطْنِ ذاتَ شَوًى خَدْلِ )
( وكم قد رأينا ساعياً بنَميمةٍ ... لآخرَ لم يَعْمِدْ بكفٍّ ولا رجلِ )
إذا ما تراجعْنا الذي كان بيننا ... جَرى الدمعُ من عينَيْ بُثَيْنةَ بالكحلِ )
صوت ( كلانا بكَى أو كاد يَبْكي صَبابةً ... إلى إلْفِهِ واستعجلتْ عَبْرةً قبلي )
( فلو تركتْ عَقْلي معي ما طلبتُها ... ولكنْ طِلاَبِيها لِمَا فات من عقلي )
( فيا وَيْحَ نفسي حَسْبُ نفسِي الذي بها ... ويا وَيْحَ أهلي ما أُصِيب به أهلي )
( وقالت لأتْرابٍ لها لا زَعَانِفٍ ... قصارٍ ولا كُسِّ الثَّنَايا ولا ثُعْلِ )
( إذا حميتْ شمسُ النَّهار اتَّقَيْنها ... بأكسية الدِّيباج والخَزِّ ذي الخَمْل )
( تَدَاعَيْنَ فاستَعْجَمْن مَشْياً بذي الغَضَا ... دَبِيبَ القَطا الكُدْرِيّ في الدَّمِثِ السَّهْلِ )
( إذا ارْتَعْنَ أو فُزِّعْنَ قُمْنَ حَوَالَها ... قيامَ بناتِ الماءِ في جانب الضَّحْلِ )
( أَجَدِّيَ لا أَلْقَى بُثَيْنَةَ مرّةً ... من الدهر إلا خائفاً أو على رِجْلِ )
( خليليّ فيما عِشْتُما هل رأيتُما ... قتيلاً بكى من حبِّ قاتِله قبلي )
قال وأنشده عمر قوله
( جرى ناصحٌ بالودّ بيني وبينها ... فقرَّبنِي يوم الحِصاب إلى قتلي )
( فما أَنْسَ مِ الأشياء لا أَنْسَ مَوْقِفِي ... وموقفَها وَهْناً بقارعة النخلِ )
( فلمَّا تواقَفْنَا عرفتُ الذي بها ... كمثل الذي بي حَذْوَكَ النعلَ بالنعل )
( فقلْنَ لها هذا عِشاءٌ وأهلُنا ... قَريبٌ أَلَمَّا تَسْأَمِي مَرْكَبَ البغل )
( فقالت فما شِئْتُنَّ قُلْنَ لها انزِلي ... فلَلأرضُ خيرٌ من وقوفٍ على رَحْلِ )
( فأقبَلْنَ أمثالَ الدُّمَى فاكتَنَفْنَها ... وكُلٌّ يُفَدِّي بالمَودَّة والأهل )
( نُجومٌ دَرَارِيٌّ تكنَّفْنَ صورةً ... من البدر وافتْ غيرَ هُوجٍ ولا ثُجْلِ )
( فسلَّمْتُ واستأنستُ خِيفةَ أن يَرَى ... عدوٌّ مكانِي أو يرى كاشحٌ فعلي )
( فقالت وأَلْقتْ جانبَ السِّتْر إنما ... معي فتحدَّثْ غيرَ ذي رِقْبةٍ أهلي )
( فقلتُ لها ما بي لهم من ترقُّبٍ ... ولكنَّ سِرِّي ليس يحملُه مِثلي )
( فلما اقتصرْنا دونَهن حديثَنا ... وهُنَّ طَبِيباتٌ بحاجة ذي التَّبْل )
( عرَفْنَ الذي نَهْوَى فقُلْنَ ائذَنِي لنا ... نَطُفْ ساعةً في بَرْدِ ليلٍ وفي سَهْلِ )
( فقالت فلا تَلْبَثْنَ قُلْنَ تحدَّثِي ... أتيناكِ وانسَبْنَ انسيابَ مَهَا الرملِ )
( وقُمْنَ وقد أَفهَمْنَ ذا اللُّبِّ إنما ... أَتَينَ الذي يَأْتينَ من ذاك من أَجْلِي )
فقال جميل هيهات يا أبا الخطاب لا أقول والله مثل هذا سجيس الليالي وما خاطب النساء مخاطبتك أحد وقام مشمرا
نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني
صوت ( خليليَّ فيما عشتُما هل رأيتُما ... قتيلاً بَكَى من حبّ قاتله قبلي )
( أبِيتُ مع الهُلاَّكِ ضيفاً لأهلِها ... وأهلي قريبٌ مُوسِعُون ذوو فَضْلِ )
( فلو تركتْ عقلي معي ما طلبتُها ... ولكن طِلاَبيها لِمَا فات من عقلي )
الغناء للغريض ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وذكر حماد والهشامي أن فيه لنافع الخير مولى عبد الله بن جعفر لحنا من الثقيل الأول
ومنها
صوت ( أَلاَ أيُّها البيتُ الذي حِيلَ دونَه ... بنا أنت من بيتٍ وأَهْلُكَ من أهلِ )
( ثلاثةُ أبياتٍ فبَيْتٌ أُحِبُّه ... وبيتان ليسا من هوايَ ولا شكلي )
( كِلاَنا بَكَى أو كاد يَبْكِي صَبابةً ... إلى إلْفِه واستَعْجَلتْ عَبْرةً قبلي )
الغناء لإسحاق خفيف ثقيل الثاني بالبنصر
ومنها
صوت
( لقد فرِح الواشُونَ أن صَرَمَتْ حبلِي ... بثينةُ أو أَبْدَتْ لنا جانبَ البخل )
( يقولون مَهْلاً يا جميلُ وإنني ... لأُقْسِمُ ما بي عن بُثَينةَ من مَهْلِ )
الغناء لابن محرز من كتاب يونس ولم يجنسه وذكر إسحاق أنه مما ينسب إلى ابن محرز وابن مسجح ولم يصح عنده لأيهما هو ولا ذكر طريقته
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني غير واحد من الرواة عن صالح بن حسان قال أخبرني نافع مولى عبد الله بن جعفر وما رأيت أحدا قط كان أشكل ظرفا ولا أزين في مجلس ولا أحسن غناء منه قال
قدمنا مع عبد الله بن جعفر مرة على معاوية فأرسل إلي يزيد يدعوني ليلا فقلت أكره أن يعلم أمير المؤمنين مكاني عندك فيشكوني إلى ابن جعفر قال فامهل حتى إذا سمر أمير المؤمنين فإن ابن جعفر يكون معه فلا يفتقدك ونخلو نحن بما نريد قبل قيامهما قأتيته فغنيته فوالله ما رأيت فتى أشرف أريحية منه والله لألقى علي من الكسا الخز والوشي وغيره ما لم استطع حمله ثم أمر لي بخمسمائة دينار قال وذهب بنا الحديث وما كنا فيه حتى قام معاوية ونهض ابن جعفر معه وكان باب يزيد في سقيفة معاوية فسمع صوتي فقال لابن جعفر ما هذا يابن جعفر قال هذا والله صوت نافع فدخل علينا فلما أحسَّ به يزيد تناوم فقال له معاوية ما لك يا بني قال
صدعت فرجوت أن يسكن عني بصوت هذا قال فتبسم معاوية وقال يا نافع ما كان أغنانا عن قدومك فقال له ابن جعفر يا أمير المؤمنين إن هذا في بعض الأحايين يذكي القلب قال فضحك معاوية وانصرف فقال لي ابن جعفر ويلك هل شرب شيئا قلت لا والله قال والله إني لأرجو أن يكون من فتيان بني عبد مناف الذين ينتفع بهم قال نافع ثم قدمنا على يزيد مع عبد الله بن جعفر بعدما استخلف فأجلسه معه على سريره ودخلت حاشيته تسلم عليه ودخلت معهم فلما نظر إلي تبسم ثم نهض ابن جعفر وتبعناه فقيل له نظر إلى نافع وتبسم فقال ابن جعفر هذا تأويل تلك الليلة فقضى حوائج ابن جعفر وأضعف ما كان يصله به معاوية فلما أراد الانصراف أتاه يودعه ونحن معه فأرسل إلي يزيد فدخلت عليه قال ويحك يا نافع ما أخرتك إلا لأتفرغ لك هات لحنك
( خليليَّ فيما عشتُما هل رايتُما ... قتيلاً بَكَى من حبِّ قاتِله قبلي )
فأسمعته فقال أعد ويلك فأعدته ثم قال أعد فأعدته ثلاثا فقال أحسنت فسل حاجتك فما سألته في ذلك اليوم شيئا إلا أعطانيه ثم قال إن يصلح لنا هذا الأمر من قبل ابن الزبير فلعلنا أن نحج فتلقانا بالمدينة فإن هذا الأمر لا يصلح إلا هناك قال نافع فمنعنا والله من ذلك شؤم ابن الزبير
أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثنا محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفري قال حدثنا القاسم بن أبي الزناد قال
خرج عمر بن أبي ربيعة يريد الشام فلما كان بالجناب لقيه جميل فقال له عمر أنشدني فأنشده
( خليليّ فيما عشتُما هل رايتُما ... قتيلاً بَكَى من حبِّ قاتله قبلي )
ثم قال جميل أنشدني يا ابا الخطاب فأنشده
( ألم تَسْألِ الأطلالَ والمُتَربَّعَا ... ببطن حُلَيَّاتٍ دَوَارِسَ بَلْقَعَا )
فلما بلغ إلى قوله
( فلما تواقفْنا وسلَّمتُ أَشْرقتْ ... وجوهٌ زَهاها الحسنُ أن تتقنَّعا )
( تَبَالَهْنَ بالعِرْفان لمَّا عرفْنَنِي ... وقُلْنَ امرؤٌ باغٍ أَكَلَّ وأَوْضَعَا )
( وقرَّبْنَ اسبابَ الهوى لمتيَّم ... يقيِسُ ذِراعاً كلَّما قِسْنَ إصْبَعَا )
عمر بن أبي ربيعة يطلب منه أن يأخذ به إلى بثينة قال فصاح جميل واستخذى وقال ألا إن النسيب أخذ من هذا وما أنشده حرفا فقال له عمر إذهب بنا إلى بثينة حتى نسلم عليها فقال له جميل قد أهدر لهم السلطان دمي إن وجدوني عندها وهاتيك أبياتها فأتاها عمر حتى وقف على ابياتها وتأنس حتى كلم فقال يا جارية أنا عمر بن أبي ربيعة فأعلمي بثينة مكاني فخرجت إليه بثينة في مباذلها وقالت والله يا عمر لا أكون من نسائك اللاتي يزعمن أن قد قتلهن الوجد بك فانكسر عمر قال وإذا امرأة أدماء طوالة
وأخبرني بهذا الخبر علي بن صالح عن أبي هفان عن إسحاق عن المسيبي والزبير فذكر مثل ما ذكره الزبير وزاد فيه قال فقال لها قول جميل
( وهُمَا قالتا لَوَانَّ جميلاً ... عَرَض اليومَ نَظْرةً فرآنا )
( بَيْنَما ذاك منهما وإذا بي ... أُعْمِلُ النَّصَّ سَيْرةً زَفَيانَا )
( نظرتْ نحوَ تِرْبها ثم قالت ... قد أتانا وما علمنا مُنَانَا )
فقالت إنه استملى منك فما أفلح وقد قيل اربط الحمار مع الفرس
فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه
وذكر الهيثم بن عدي وأصحابه في أخبارهم أن جميلا طال مقامه بالشام ثم قدم وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر شوقها إليه ووجدها به وطلبها للحيلة في لقائه وواعدته لموضع يلتقيان فيه فسار إليها وحدثها طويلا وأخبرها خبره بعدها وقد كان أهلها رصدوها فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى هجما عليهما فوثب جميل فانتضى سيفه وشد عليهما فاتقياه بالهرب وناشدته بثينة الله إلا انصرف وقالت له إن أقمت فضحتني ولعل الحي أن يلحقوك فأبى وقال أنا مقيم وامضي أنت وليصنعوا ما أحبوا فلم تزل تناشده حتى انصرف وقال في ذلك وقد هجرته وانقطع التلاقي بينهما مدة
( ألم تَسْألِ الربعَ الخَلاَء فينطقُ ... وهل تُخبِرنْكَ اليومَ بَيْدَاءُ سَمْلَقُ )
( وقفتُ بها حتى تجلَّتْ عَمَايتي ... وملَّ الوقوفَ الأرْحَبِيُّ المنوَّق )
( تَعَزَّ وإن كانت عليك كريمةً ... لعلَّك من رِقٍّ لبَثْنَةَ تَعْتِقُ )
( لعَمْرُكُم إن البِعاد لشائقي ... وبعضُ بعاد البَيْنِ والنأي أَشْوَقُ )
( لعلَّكَ محزونٌ ومُبْدٍ صَبابة ... ومُظْهِرُ شكوى من أُناسٍ تفرَّقوا )
( وبيضٍ غَريراتٍ تُثَنِّي خُصورَها ... إذا قُمْنَ أعجازٌ ثِقَال وأسْؤُقُ )
( غَرائرَ لم يَلْقَيْنَ بؤسَ معيشةٍ ... يُجنّ بهنّ الناظر المتنوِّقُ
( وغَلْغَلْتُ من وَجْدٍ إليهنَّ بعدما ... سَرَيْتُ وأحْشائي من الخوف تَخفِقُ )
( معي صارِمٌ قد أَخْلص القَيْنُ صقْله ... له حين أُغْشيه الضَّرِيبةَ روْنَقُ )
( فلولا احتيالي ضِقْن ذرْعا بزائرٍ ... به من صَباباتٍ إليهنّ أَوْلَقُ )
( تَسُوكُ بقُضْبانِ اْلأَرَاكِ مفلَّجاً ... يُشَعْشِعُ فيه الفارسِيُّ المروَّق )
( أبثنةُ لَلْوَصْلُ الذي كان بينَنا ... نَضَا مثلَ ما يَنْضُو الخِضابُ فيَخْلُقُ )
( أبَثْنَةُ ما تَنْأَيْنَ إلاَّ كأنَّني ... بنجم الثُّرَيَّا ما نأيتِ مُعَلَّقُ )
أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال
دخلت على الرشيد يوما فقال لي يا إسحاق أنشدني أحسن ما تعرف في عتاب محب وهو ظالم متعتب فقلت يا أمير المؤمنين قول جميل
( رِدِ الماءَ ما جاءتْ بصَفْوٍ ذَنَائبُهْ ... ودَعْهُ إذا خِيضَتْ بطَرْقٍ مَشَارِبُهْ )
( أُعاتِبُ مَنْ يحلو لديَّ عتابُه ... وأترك مَنْ لا أشتهي وأُجَانِبُهْ )
( ومن لذَّة الدنيا وإن كنتَ ظالماً ... عِناقُك مظلوماً وأنت تُعاتبُهْ )
فقال أحسن والله أعدها علي فأعدتها حتى حفظها وأمر لي بثلاثين ألف درهم وتركني وقام فدخل إلى دار الحُرَم
فشل محاولته في لقاء بثينة أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن السعيدي قال حدثني رجل كان يصحب جميلا من أهل تيماء قال
كنت يوما جالسا مع جميل وهو يحدثني وأحدثه إذ ثار وتربد وجهه فأنكرته ورأيت منه غير ما كنت أرى ووثب نافرا مقشعر الشعر متغير اللون حتى أتي بناقة له قريبة من الأرض مجتمعة موثقة الخلق فشد عليها رحله ثم أتي بمحلب فيه لبن فشربه ثم ثنى فشربت حتى رويت ثم قال لي اشدد أداة رحلك واشرب واسق جملك فإني ذاهب بك إلى بعض مذاهبي ففعلت فجال في ظهر ناقته وركبت ناقتي فسرنا بياض يومنا وسواد ليلتنا ثم أصبحنا فسرنا يومنا كله لا والله ما نزلنا إلا للصلاة فلما كان اليوم الثالث دفعنا إلى نسوة فمال إليهن ووجدنا الرجال خلوفاً وإذا قدر لبن ثم وقد جهدت جوعا وعطشا فلما رأيت القدر اقتحمت عن بعيري وتركته جانبا ثم أدخلت رأسي في القدر ما يثنيني حرها حتى رويت فذهبت أخرج رأسي من القدر فضاقت علي وإذا هي على رأسي قلنسية فضحكن مني وغسلن ما أصابني وأتي جميل بقرى فوالله ما التفت إليه فبينا هو يحدثهن إذا رواعي الإبل وقد كان السلطان أحل لهم دمه إن وجدوه في بلادهم وجاء الناس فقالوا له ويحك انج وتقدم فوالله ما أكبرهم كل الإكبار وغشيه الرجال فجعلوا يرمونه ويطردونه فإذا قربوا منه قاتلهم ورمى فيهم وهام بي جملي فقال لي يسر لنفسك مركبا خلفي فأردفني خلفه ولا والله ما انكسر ولا انحل عن
فرصته حتى رجع إلى أهله وقد سار ست ليال وستة ايام وما التفت إلى طعام
ابن عمه روق يلومه على حبه بثينة وشكا زوج بثينة إلى أبيها وأخيها إلمام جميل بها فوجهوا إلى جميل فأعذروا إليه وشكوه إلى عشيرته وأعذروا إليهم وتوعدوه وإياهم فلامه أهله وعنفوه وقالوا استخلص إليهم ونبرأ منك ومن جريرتك فأقام مدة لا يلم بها ثم لقي ابني عمه روقا ومسعدة فشكا إليهما ما به وأنشدهما قوله
صوت ( زُورَا بُثَيْنةَ فالحبيبُ مَزُورُ ... إن الزيارةَ للمحبِّ يسيرُ )
( إنّ الترحُّلَ إن تلبَّس أمرُنا ... واعتاقَنا قَدَرٌ أُحِمَّ بكور )
الغناء لعريب رمل بالوسطى
صوت
( إنِّي عشيَّةَ رُحْتُ وهي حزينةٌ ... تشكو إليّ صبابةً لَصَبُورُ )
( وتقول بِتْ عندي فَدَيْتُكَ ليلةً ... أشكو إليكَ فإنّ ذاك يسيرُ )
الغناء لسليم خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه ثقيل أول بالبنصر ذكر الهشامي أنه لمخارق وذكر حبش أنه لإبراهيم وذكر حبش أن لحن
مخارق خفيف رمل
( غَرَّاءُ مِبْسامٌ كأنَّ حديثَها ... دُرّ تَحَدَّرَ نَظْمُه منثورُ )
( محطوطةُ المَتْنَيْنِ مُضْمَرةُ الحَشَى ... رَيَّا الرّوادِف خَلْقُها ممكور )
( لا حُسْنِها حُسْنٌ ولا كَدَلاَلِها ... دَلٌّ ولا كَوقارِها توقير )
( إنّ اللسانَ بذكرها لَمُوَكَّلٌ ... والقلب صادٍ والخواطر صُورُ )
( ولئن جَزَيْتِ الودَّ منِّي مثلَه ... إني بذلك يا بُثَيْن جديرُ )
فقال له روق إنك لعاجر ضعيف في استكانتك لهذه المرأة وتركك الاستبدال بها مع كثرة النساء ووجود من هو أجمل منها وإنك منها بين فجور أرفعك عنه أو ذل لا أحبه لك أو كمد يؤديك إلى التلف أو مخاطرة بنفسك لقومها إن تعرضت لها بعد إعذارهم إليك وإن صرفت نفسك عنها وغلبت هواك فيها وتجرعت مرارة الحزم حتى تألفها وتصبر نفسك عليها طائعة أو كارهة الفت ذلك وسلوت فبكى جميل وقال يا أخي لو ملكتُ اختياري لكان ما قلت صوابا ولكني لا أملك الاختيار ولا أنا إلا كالأسير لا يملك لنفسه نفعا وقد جئتك لأمر أسالك ألا تكدر ما رجوته عندك فيه بلوم وأن تحمل على نفسك في مساعدتي فقال له فإن كنت لا بد مهلكا نفسك فاعمل على زيارتها ليلا فإنها تخرج مع بنات عم لها إلى ملعب لهن فأجيء معك حينئذ سرا ولي أخ من رهط بثينة من بني الأحب نأوي عنده نهارا وأسأله مساعدتك على هذا فتقيم عنده أياما نهارك وتجتمع معها بالليل إلى أن تقضي أربك فشكره ومضى روق إلى الرجل الذي من رهط بثينة فأخبره الخبر واستعهده كتمانه وسأله مساعدته فيه فقال له لقد جئتني بإحدى العظائم ويحك إن في هذا
معاداتي الحي جميعا إن فطن به فقال انا أتحرز في أمره من أن يظهر فواعده في ذلك ومضى إلى جميل فأخبره القصة فأتيا الرجل ليلا فأقاما عنده وأرسل إلى بثينة بوليدة له بخاتم جميل فدفعته إليها فلما رأته عرفت فتبعتها وجاءته فتحدثا ليلتهما واقام بموضعه ثلاثة أيام ثم ودعها وقال لها عن غير قلى والله ولا ملل يا بثينة كان وداعي لك ولكني قد تذممت من هذا الرجل الكريم وتعريضه نفسه لقومه وأقمت عنده ثلاثا ولا مزيد على ذلك ثم انصرف وقال في عذل روق ابن عمه إياه
( لقد لامني فيها أخٌ ذو قرابةٍ ... حبيبٌ إليه في مَلاَمتِه رُشْدِي )
( وقال أَفِقْ حتى متى أنت هائمٌ ... ببَثْنَةَ فيها قد تُعيدُ وقد تُبْدِي )
( فقلت له فيها قضَى اللَّهُ ما ترى ... عليَّ وهل فيما قضَى اللَّه من رَدِّ )
( فإن يك رُشْداً حُبُّها أو غَوَايةً ... فقد جئتُه ما كان منِّي على عَمْدِ )
صوت ( لقد لجَّ ميثاقٌ من اللَّه بيننا ... وليس لمن لم يُوفِ للَّه من عَهْد )
( فلا وأبيها الخيرِ ما خُنْتُ عهدَها ... ولا لِيَ علمٌ بالذي فعلتْ بعدي )
( وما زادها الواشون إلا كرامة ... عليّ وما زالت مودَّتُها عندي )
الغناء لمتيم ثقيل أول عن الهشامي وذكر ابن المعتز أنه لشارية وذكر ابن خرداذبه أنه لقلم الصالحية
( أفي الناسِ أمثالي أَحَبَّ فحالُهم ... كحالِيَ أمْ أحببتُ من بينهم وحدي )
( وهل هكذا يلقَى المحبُّون مثلَ ما ... لَقِيتُ بها أم لم يَجِدْ أحدٌ وَجْدِي
وقال جميل فيها
( خليليّ عُوجَا اليوم حتى تُسَلِّما ... على عَذْبةِ الأنياب طَيِّبة النَّشْرِ )
( أَلِمَّا بها ثم اشفَعا لي وسَلِّما ... عليها سَقَاها اللَّه من سائغ القطر )
( وبُوحَا بذكري عند بَثْنَةَ وانظُرَا ... أترتاح يوماً أم تَهَشُّ إلى ذكري )
( فإن لم تَكُنْ تَقْطَعْ قُوَى الودِّ بيننا ... ولم تَنْسَ ما أسلفتُ في سالف الدهر )
فسوف يُرَى منها اشتياقٌ ولَوْعةٌ ... بِبَيْنٍ وغَرْبٌ من مدامعِها يجري )
( وإن تكُ قد حالتْ عن العهد بَعْدَنا ... وأصغتْ إلى قول المُؤَنِّبِ والمُزْرِي )
( فسوف يُرَى منها صدودٌ ولم تكن ... بنَفْسِيَ من أهل الخِيانة والغَدْرِ )
( أعوذُ بك اللَّهمَّ أن تَشْحَطَ النَّوَى ... ببثنةَ في أدنى حياتي ولا حَشْري )
( وجاَوِرْ إذا ما مِتُّ بيني وبينها ... فيا حَبَّذا موتِي إذا جاورتْ قبرِي )
( عَدِمْتُكَ من حبٍّ أَمَا منك راحةٌ وما بك عنِّي من تَوَانٍ ولا فَتْرِ )
( أَلا أيُّها الحبُّ المبرِّح هلى ترى ... أَخَا كَلَفٍ يُغْرِي بحبٍّ كما أُغْرِي )
( أجِدَّكَ لا تَبْلَى وقد بَلِيَ الهوى ... ولا ينتهي حبِّي بُثَيْنَةَ للزَّجْر )
صوت
( هي البدرُ حسناً والنساءُ كواكبٌ ... وشَتَّانَ ما بين الكواكبِ والبدرِ )
( لقد فُضِّلتْ حسناً على الناس مثلَما ... على ألِف شهر فُضِّلتْ ليلةُ القَدْرِ )
غنت شارية في هذين البيتين خفيف رمل من رواية ابن المعتز
صلح بعد تهاجر أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرنا إسحاق بن محمد بن أبان قال حدثني الرحال بن سعد المازني قال
وقع بين جميل وبثينة هجر في غيرة كان غارها عليها من فتى كان يتحدث إليها من بني عمها فكان جميل يتحدث إلى غيرها فيشق ذلك على بثينة وعلى جميل وجعل كل واحد منهما يكره أن يبدي لصاحبه شأنه فدخل جميل يوما وقد غلبه الأمر إلى البيت الذي كان يجتمع فيه مع بثينة فلما رأته بثينة جاءت إلى البيت ولم تبرز له فجزع لذلك جميل وجعل كل واحد منهما يطالع صاحبه وقد بلغ الأمر من جميل كل مبلغ فأنشأ يقول
( لقد خِفْتُ أن يغتالني الموتُ عُنْوةً ... وفي النفسِ حاجاتٌ إليكِ كما هِيَا )
( وإني لتَثْنِينِي الحَفِيظةُ كلَّما ... لَقِيتُكِ يوماً أن أَبُثَّكِ ما بِيا )
( ألم تعلمي يا عذبةَ الرِّيقِ أنَّني ... أَظَلّ إذا لم أُسْقَ رِيقَكِ صَادِيا )
قال فرقت له بثينة وقالت لمولاة لها كانت معها ما أحسن الصدق بأهله ثم اصطلحا فقالت له بثينة أنشدني قولك
( تَظَلُّ وراء السِّتْرِ تَرْنُو بلَحْظِها ... إذا مرَّ من أترابها مَنْ يَرُوقُها )
فأنشدها إياها فبكت وقالت كلا يا جميل ومن ترى أنه يروقني غيرك
كيف نعي جميل إلى بثينة أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال ذكر أيوب بن عباية قال
خرجت من تيماء في أغباش السحر فرأيت عجوزا على أتان فتكلمت فإذا أعرابية فصيحة فقلت ممن أنت فقالت عذرية فأجريت ذكر جميل وبثينة فقالت والله إنا لعلى ماء لنا بالجناب وقد تنكبنا الجادة لجيوش كانت تأتينا من قبل الشام تريد الحجاز وقد خرج رجالنا لسفر وخلفوا معنا أحداثا فانحدروا ذات عشية إلى صرم قريب منا يتحدثون إلى جوار منهم فلم يبق غيري وغير بثينة إذ انحدر علينا منحدر من هضبة تلقاءنا فسلم ونحن مستوحشون وجلون فتأملته ورددت السلام فإذا جميل فقلت أجميل قال إي والله وإذا به لا يتماسك جوعا فقمت إلى قعب لنا فيه أقط مطحون وإلى عكة فيها سمن ورب فعصرتها على الأقط ثم أدنيتها منه وقلت أصب من هذا فأصاب منه وقمت إلى سقاء فيه لبن فصببت عليه ماء باردا فشرب منه وتراجعت نفسه فقلت له لقد بلغت ولقيت شرا فما أمرك قال أنا والله في هذه الهضبة التي ترين منذ ثلاث ما أريمها أنتظر أن أرى فرجة فلما رأيت منحدر فتيانكم أتيتكم لأودعكم وأنا عامد إلى مصر فتحدثنا ساعة ثم ودعنا وشخص فلم تطل غيبته أن جاءنا نعيه فزعموا أنه قال حين حضرته الوفاة
( صَدَعَ النَّعِيُّ وما كنى بجميلِ ... وثَوَى بمِصْرَ ثَوَاءَ غيرِ قُفولِ )
( ولقد أجُرّ الذَّيْلَ في وادي القُرَى ... نَشْوانَ بين مزارعٍ ونخيلِ )
( قُومِي بُثَينَةُ فاندُبِي بعَويلِ ... وابكِي خليلَكِ دون كلِّ خليل )
أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني محمد بن القاسم عن الأصمعي قال حدثني رجل شهد جميلا لما حضرته الوفاة بمصر أنه دعاه فقال هل لك في أن أعطيك كل ما أخلفه على أن تفعل شيئا أعهده إليك فقال قلت اللهم نعم قال إذا أنا مت فخذ حلتي هذه التي في عيبتي فاعزلها جانبا ثم كل شيء سواها لك وارحل إلى رهط بني الأحب من عذرة وهم رهط بثينة فإذا صرت إليهم فارتحل ناقتي هذه واركبها ثم البس حلتي هذه واشققها ثم اعل على شرف وصح بهذه الأبيات وخلاك ذم ثم أنشدني هذه الأبيات
( صدَع النَّعِيُّ وما كَنَى بجميلِ ... وثوى بمِصْرَ ثَوَاء غيرِ قُفولِ )
وذكر الأبيات المتقدمة فلما قضى وواريته أتيت رهط بثينة ففعلت ما أمرني به جميل فما استتممت الأبيات حتى برزت إلي امرأة يتبعها نسوة قد فرعتهن طولا وبرزت أمامهن كأنها بدر قد برز في دجنة وهي تتعثر في مرطها حتى أتتني فقالت يا هذا والله لئن كنت صادقا لقد قتلتني ولئن كنت كاذبا لقد فضحتني قلت والله ما أنا إلا صادق وأخرجت حلته فلما رأتها صاحت بأعلى صوتها وصكت وجهها واجتمع نساء الحي يبكين معها ويندبنه حتى صعقت فمكثت مغشيا عليها ساعة ثم قامت وهي تقول
( وإنّ سُلُوِّي عن جميلٍ لَساعةٌ ... من الدَّهْرِ ما حانتْ ولا حان حِينُها )
( سواءٌ علينا يا جميلُ بن مَعْمَرٍ ... إذا مُِتَّ بأساءُ الحياةِ ولِينُها )
قال فلم أر يوما كان أكثر باكيا وباكية منه يومئذ
صوت
من المائة المختارة من رواية جحظة عن أصحابه ( أمسى الشبابُ مُوَدِّعاً محموداً ... والشيبُ مُؤْتَنِفَ المحلِّ جديدَا )
( وتغيَّر البِيضُ الأوانسُ بعد ما ... حَمَّلْتُهُنَّ مَوَاثِقاً وعُهودا )
عروضه من الكامل الشعر ليزيد بن الطثرية والغناء لإسحاق ولحنه المختار من الثقيل الأول بالبنصر وفيه لبابويه خفيف ثقيل بالوسطى كلاهما من رواية عمرو بن بانة
ذكر يزيد بن الطثرية وأخباره ونسبه ذكر ابن الكلبي أن اسمه يزيد بن الصمة أحد بني سلمة الخير بن قشير وذكر البصريون أنه من ولد الأعور بن قشير وقال ابو عمرو الشيباني اسمه يزيد بن سلمة بن سمرة بن سلمة الخير بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وإنما قيل إنه يزيد بن المنتشر بن سلمة
( والطثرية أمه فيما أخبرني به علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد بن حبيب امرأة من طثر وهم حي من اليمن عدادهم في جرم وقال غيره إن طثرا من عنز بن وائل إخوة بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار وكان أبو جراد أحد بني المنتفق بن عامر بن عقيل أسر طثرا فمكث عنده زمانا ثم خلاه وأخذ عليه إصرا ليبعثن إليه بفدائه أو ليأتينه بنفسه وأهله فلم يجد فداء فاحتمل بأهله حتى دخل على أبي جراد فوسمه سمة إبله فهم حلفاء لبني المنتفق إلى اليوم نحو من خمسمائة رجل متفرقين في بني عقيل يوالون بني المنتفق وهم يعيرون ذلك الوسم وقال بعض من يهجو
( عليه الوَسْمُ وسمُ أبي جَرَادِ ... )
وفيهم يقول يزيد بن الطثرية
( الاَ بئسما أن تَجْرِمُوني وتغضَبوا ... عليّ إذا عاتبتُكم يا بني طَثْرِ )
وزعم بعض البصريين أن الطثرية أم يزيد كانت مولعة بإخراج زبد اللبن فسميت الطثرية وطثرة اللبن زبدته
سبب تلقيبه بالمودّق
ويكنى يزيد أبا المكشوح وكان يلقب مودقا سمي بذلك لحسن وجهه وحسن شعره وحلاوة حديثه فكانوا يقولون إنه إذا جلس بين النساء ودقهن
أخبرني محمد بن خلف عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال
كان يزيد بن الطثرية يقول من أفحم عند النساء فلينشد من شعري قال وكان كثيرا ما يتحدث إلى النساء وكان يقال إنه عنين
وروى عنه عبد الله بن عمر عن يحيى بن جابر أحد بني عمرو بن كلاب عن سعاد بنت يزيد بن زريق امرأة منهم
أن يزيد بن الطثرية كان من أحسن من مضى وجها وأطيبه حديثا وأن النساء كانت مفتونة به وذكر الناس أنه كان عنينا وذلك أنه لا عقب له وأن الناس أمحلوا حتى ذهبت الدقيقة من المال ونهكت الجليلة فأقبل صرم
من جرم ساقته السنة والجدب من بلاده إلى بلاد بني قشير وكان بينهم وبين بني قشير حرب عظيمة فلم يجدوا بدا من رمي قشير بأنفسهم لما قد ساقهم من الجدب والمجاعة ودقة الأموال وما أشرفوا عليه من الهلكة ووقع الربيع في بلاد بني قشير فانتجعها الناس وطلبوها فلم يعد أن لقيت جرم قشيراً فنصبت قشير لهم الحرب فقالت جرم إنما جئنا مستجيرين غير محاربين قالوا مما ذا قالوا من السنة والجدب والهلكة التي لا باقية لها فأجارتهم قشير وسالمتهم وأرعتهم طرفا من بلادها وكان في جرم فتى يقال له مياد وكان غزلا حسن الوجه تام القامة آخذا بقلوب النساء والغزل في جرم جائز حسن وهو في قشير نائرة فلما نازلت جرم قشيرا وجاورتها اصبح مياد الجرمي فغدا إلى القشيريات يطلب منهن الغزل والصبا والحديث واستبراز الفتيات عند غيبة الرجال واشتغالهم بالسقي والرعية وما أشبه ذلك فدفعنه عنهن وأسمعنه ما يكره وراحت رجالهن عليهن وهن مغضبات فقال عجائز منهن والله ما ندري أرعيتم جرما المرعى أم أرعيتموهم نساءكم فاشتد ذلك عليهم فقالوا وما أدراكنه قلن رجل منذ اليوم ظل مجحرا لنا ما يطلع منا رأس واحدة يدور بين بيوتنا فقال بعضهم بيتوا جرما فاصطلموها وقال بعضهم قبيح قوم قد سقيتموهم مياهكم وأرعيتموهم مراعيكم وخلطتموهم بأنفسكم وأجرتموهم من القحط والسنة تفتانون عليهم هذا الافتيات لا تفعلوا ولكن تصبحوا وتقدموا إلى هؤلاء القوم في هذا الرجل فإنه سفيه من سفهائهم فليأخذوا على يديه فإن يفعلوا فأتموا لهم إحسانكم وإن يمتنعوا ويقروا ما كان منه يحل لكم البسط عليهم وتخرجوا من ذمتهم فأجمعوا على ذلك فلما
أصبحوا غدا نفر منهم إلى جرم فقالوا ما هذه البدعة التي قد جاورتمونا بها إن كانت هذه البدعة سجية لكم فليس لكم عندنا إرعاء ولا إسقاء فبرزوا عنا أنفسكم وأذنوا بحرب وإن كان افتتانا فغيروا على من فعله وإنهم لم يعدوا أن قالوا لجرم ذلك فقام رجال من جرم وقالوا ما هذا الذي نالكم قالوا رجل منكم أمس ظل يجر أذياله بين ابياتنا ما ندري علام كان أمره فقهقهت جرم من جفاء القشيرين وعجرفيتها وقالوا إنكم لتحسون من نسائكم ببلاء ألا فابعثوا إلى بيوتنا رجلا ورجلا فقالوا والله ما نحسّ من نسائنا ببلاء وما نعرف منهن إلا العفة والكرم ولكن فيكم الذي قلتم قالوا فإنا نبعث رجلا إلى بيوتكم يا بني قشير إذا غدت الرجال وأخلف النساء وتبعثون رجلا إلى البيوت ونتحالف أنه لا يتقدم رجل منا إلى زوجة ولا أخت ولا بنت ولا يعلمها بشيء مما دار بين القوم فيظل كلاهما في بيوت أصحابه حتى يردا علينا عشيا الماء وتخلى لهما البيوت ولا تبرز عليهما امرأة ولا تصادق منهما واحدا فيقبل منهما صرف ولا عدل إلا بموثق يأخذه عليها وعلامة تكون معه منها قالوا اللهم نعم فظلوا يومهم ذلك وباتوا ليلتهم حتى إذا كان من الغد غدوا إلى الماء وتحالفوا أنه لا يعود إلى البيوت منهم أحد دون الليل وغدا مياد الجرمي إلى القشيريات وغدا يزيد بن الطثرية القشيري إلى الجرميات فظل عندهن بأكرم مظل لا يصير إلى واحدة منهن إلا افتتنت به وتابعته إلى المودة والإخاء وقبض منها رهنا وسألته ألا يدخل من بيوت جرم إلا بيتها فيقول لها واي شيء تخافين وقد أخذت مني المواثيق والعهود وليس لأحد في قلبي نصيب غيرك حتى صليت العصر فانصرف يزيد بفتخ كثير وذبل
وبراقع وانصرف مكحولا مدهونا شبعان ريان مرجل اللمة وظل مياد الجرمي يدور بين بيوت القشيريات مرجوما مقصى لا يتقرب إلى بيت إلا استقبلته الولائد بالعمد والجندل فتهالك لهن وظن أنه ارتياد منهن له حتى أخذه ضرب كثير بالجندل ورأى البأس منهن وجهده العطش فانصرف حتى جاء إلى سمرة قريبا إلى نصف النهار فتوسد يده ونام تحتها نويمة حتى أفرجت عنه الظهيرة وفاءت الأظلال وسكن بعض ما به من ألم الضرب وبرد عطشه قليلا ثم قرب إلى الماء حتى ورد على القوم قبل يزيد فوجد أمة تذود غنما في بعض الظعن فأخذ برقعها فقال هذا برقع واحدة من نسائكم فطرحه بين يدي القوم وجاءت الأمة تعدو فتعلقت ببرقعها فرد عليها وخجل مياد خجلا شديدا وجاء يزيد ممسيا وقد كاد القوم أن يتفرقوا فنثر كمه بين ايديهم ملآن براقع وذبلا وفتخا وقد حلف القوم ألا يعرف رجل شيئا إلا رفعه فلما نثر ما معه اسودت وجوه جرم وأمسكوا بأيديهم إمساكة فقالت قشير أنتم تعرفون ما كان بيننا أمس من العهود والمواثيق وتحرج الأموال والأهل فمن شاء أن ينصرف إلى حرام فليمسك يده فبسط كل رجل يده إلى ما عرف فأخذه وتفرقوا عن حرب وقالوا هذه مكيدة يا قشير فقال في ذلك يزيد بن الطثرية
( فإنْ شئتَ يا مَيَّادُ زُرْنا وزُرْتُمُ ... ولم نَنْفَس الدّنيا على من يُصِيبُها )
( أيذهب مَيَّادٌ بألْبابِ نِسْوتِي ... ونسوةُ مَيَّادٍ صحيحٌ قُلوبها )
وقال مياد الجرمي
( لَعَمْرُكَ إنّ جَمْعَ بني قُشَيْرٍ ... لِجَرْمٍ في يزيدَ لظالمونا )
( أليس الظلمُ أنّ اباك مِنَّا ... وأنك في كَتيبةِ آخرينا )
( أحالفةٌ عليك بنو قُشَيْرٍ ... يمينَ الصَّبْرِ أَمْ مُتَحَرِّجونا )
حبه لوحشية ومرضه لغيابها قال وبلي يزيد بعشق جارية من جرم في ذلك اليوم يقال لها وحشية وكانت من أحسن النساء ونافرتهم جرم فلم يجد إليها سبيلا فصار من العشق إلى أن أشرف على الموت واشتد به الجهد فجاء إلى ابن عم له يقال له خليفة بن بوزل بعد اختلاف الأطباء إليه ويأسهم منه فقال له يابن عم قد تعلم أنه ليس إلى هذه المرأة سبيل وأن التعزي أجمل فما أربك في أن تقتل نفسك وتأثم بربك قال وما همي يابن عم بنفسي وما لي فيها أمر ولا نهي ولا همي إلا نفس الجرمية فإن كنت تريد حياتي فأرنيها قال كيف الحيلة قال تحملني إليها فحمله إليها وهو لا يطمع في الجرمية إلا أنهم كانوا إذا قالوا له نذهب بك إلى وحشية أبل قليلا وراجع وطمع وإذا أيس منها اشتد به الوجع فخرج به خليفة بن بوزل فحمله فتخلل به اليمن حتى إذا دخل في قبيلة انتسب إلى أخرى ويخبر أنه طالب حاجة وأبل حتى صلح بعض الصلاح وطمع فيه ابن عمه وصارا بعد زمان إلى حي وحشية فلقيا الرعيان وكمنا في جبل من الجبال فجعل خليفة ينزل فيتعرض لرعيان الشاء فيسألهم عن راعي وحشية حتى لقي غلامها وغنمها فواعدهم موعدا وسألهم ما حال
وحشية فقال غلامها هي والله بشر لا حفظ الله بني قشير ولا يوما رأيناهم فيه فما زالت عليلة منذ رأيناهم وكان بها طرف مما بابن الطثرية فقال ويحك فإن ها هنا إنسانا يداويها فلا تقل لأحد غيرها قال نعم إن شاء الله تعالى فأعلمها الراعي ما قال له الرجل حين صار إليها فقالت له ويحك فجىء به ثم إنه خرج فلقيه بالغد فأعلمه وظل عنده يرعى غنمه وتأخر عن الشاء حتى تقدمته الشاء وجنح الليل وانحدر بين يدي غنمه حتى أراحها ومشى فيها يزيد حتى قربت من البيت على أربع وتجلل شملة سوداء بلون شاة من الغنم فصار إلى وحشية فسرت به سرورا شديدا وأدخلته سترا لها وجمعت عليه من الغد من تثق به من صواحباتها وأترابها وقد كان عهد إلى ابن عمه أن يقيم في الجبل ثلاث ليال فإن لم يره فلينصرف فأقام يزيد عندها ثلاث ليال ورجع إلى أصح ما كان عليه ثم انصرف فصار إلى صاحبه فقال ما وراءك يا يزيد ورأى من سروره وطيب نفسه ما سره فقال
( لَوَانَّكَ شاهدتَ الصِّبَا يابنَ بَوْزَلٍ ... بفَرْع الغَضَى إذ راجعتْني غَيَاطِلُهْ )
( لشاهدتَ لهواً بعد شَحْطٍ من النَّوَى ... على سَخَطِ الأعداء حُلْواً شَمَائلُه )
صوت ( ويوماً كإبهامِ القَطَاةِ مُزَيَّناً ... لِعيني ضُحاهُ غالباً لِيَ باطلُه )
غنى في البيت الثالث وبعده البيت الثاني وروايته
( تُشاهد لهواً بعد شحطٍ من النوى ... )
مخارق ثاني ثقيل بالوسطى عن حبش
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن عمرو قال حدثني علي بن الصباح قال
قال أبو محضة الأعرابي وأنشد هذه الأبيات ليزيد بن الطثرية فلما بلغ إلى قوله
( بِنَفْسِي مَنْ لو مَرَّ بَرْدُ بنانِهِ ... على كبِدِي كانت شِفاءً أَنَامِلُهْ )
( ومَنْ هابني في كل أمرٍ وهِبْتُه ... فلا هو يُعطيني ولا أنا سائلُهْ )
طرب لذلك وقال هذا والله من مغنج الكلام
وحشية تجيبه شعرا على رسالته ونسخت من كتاب الحسن بن علي حدثنا عبد الله بن عمرو قال حدثني هشام بن محمد بن موسى قال حدثنا عبد الله بن إبراهيم الطائي قال حدثني عبد الله بن روح الغنوي قال حدثتني ظبية بنت وزير الباهلية قالت
كتب يزيد بن الطثرية إلى وحشية
( أُحِبُّكِ أطرافَ النهارِ بشاشةً ... وباللَّيلِ يدعوني الهوى فأجِيبُ )
( لئن أصبحتْ ريحُ المودَّةِ بينَنا ... شَمَالاً لَقِدْماً كنتِ وهي جَنُوبُ )
فأجابته بقولها
( أُحِبّكَ حبَّ اليأس إن نفع الحيا ... وإن لم يكن لي من هواك طبيبُ )
أخبرني يحيى بن علي إجازة عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني هانىء بن سعد
أن ابن الطثرية وابن بوزل وهو قطري بن بوزل خرجا يسيران حتى نزلا برملة حائل بين قفار الملح فقال يزيد لابن بوزل إذهب فاسق راحلتك
واسقنا فلما جاوز أوفى يزيد على أجرع فرأى اشباحا فأتاها فقيل له هذه والله فلانة وأهلها عجيبة بها أي معجبون بها فأتاها فظل عشيته وبات ليلته وأقام الغد حتى راح عشيا وقد لقي ابن بوزل كل شر ومات غيظا فلما دنا منه قال
( لَوَ انَّكَ شاهدتَ الصِّبَا يابنَ بوزلٍ ... بجِزْع الغَضَى إذ راجعتْني غَيَاطِلُهْ )
( بأسفَلِ خَلِّ المِلْح إذ دَيْنُ ذي الهَوَى ... مُؤَدَّى وإذ خيرُ الوصال أوائلُه )
( لشاهدْتَ يوماً بعد شَحْطٍ من النَّوَى ... وبعد تَنَائي الدارِ حُلْواً شَمائلُه )
وقد روي
( وغَيْمَ الصِّبا إذ راجعتْني غَيَاطِلُهْ ... )
فاخترط سيفه ابن بوزل وحاوطه يزيد بعصاه ثم اعتذر إليه وأخبره خبره فقبل منه وقد روى هذه الأبيات أبو عمرو الشيباني وغيره فزاد فيها على إسحاق هذه الأبيات
( أَلاَ حَبَّذَا عيناكِ يا أُمَّ شَنْبَلٍ ... إذا الكُحْلُ في جَفْنَيْهما جال جائلُهْ )
( فَدَاكِ من الخُلاَّنِ كلُّ مُمَزِّجٍ ... تكون لأدنى مَنْ يُلاَقي وسائلُهْ )
( فَرُحْنا تَلَقَّانا به أُمُّ شَنْبَلٍ ... ضُحَيّاً وأبكتْنا عَشِيّاً أصائلُهْ )
( وكنتُ كأنِّي حينَ كان كلامُها ... وَدَاعاً وخَلَّى مَوْثِقَ العهدِ حاملُه )
( رَهينٌ بنفسٍ لم تُفَكَّ كُبُولُه ... عن الساقِ حتى جَرد السيفَ قاتلُه )
( فقال دَعُونِي سَجْدَتَيْنِ وأُرْعِدَتْ ... حِذَارَ الرَّدَى أحشاؤه ومَفَاصِلُهْ )
قال إسحاق وقال أبو عثمان سعيد بن طارق
نزلت سارية من بني سدرة على بني قشير بمالهم فجعلت فتيان قشير تترجل وتتزين وتزور بيوت سدرة فاستنهوهم فقال يزيد بن الطثرية وما في هذا عليكم زوروا بيوتنا كما نزور بيوتكم وقال
( دعوهنّ يَتْبَعْنَ الصِّبَا وتبادلوا ... بنا ليس بأسٌ بينَنا بالتَّبادُلِ )
ثم إن بني سدرة قالوا لنسائهم ويحكن فضحتننا نأتي نساء هؤلاء فلا نقدر عليهن ويأتونكن فلا تحتجبن عنهم فقالت كهلة منهن مروا نساءكم يجتمعن إلى بيتي فإذا جاؤوا لم يجدوا امرأة إلا عندي فإن يزيد أتاني لم يعد في بيوتكم ففعلوا فجاء يزيد فقال
( سلام عليكنّ الغَداةَ فما لنا ... إليكنّ إلا أن تَشَأْنَ سبيلُ )
فقالت الكهلة ومن أنت فقال
( أنا الهائم الصَّبُّ الذي قاده الهوى ... إليكِ فأَمْسَى في حبالِكِ مُسْلَمَا )
( بَرَتْه دَوَاعِي الحبّ حتى تركْنَه ... سقيماً ولم يَتْرُكْنَ لحماً ولا دَمَا )
فقالت اختر إحدى ثلاث خصال إما أن تمضي ثم ترجع علينا فإنا نرقب عيون الرجال فإنهم قد سبونا فيك وإما أن تختار أحبنا إليك وأن تطلب
امرأة واحدة خير من أن يشهرك الناس ونسي الثالثة فقال سآخذ إحداهن فاختاري أنت إحدى ثلاث خصال قالت وما هن قال إما أن أحملك على مرضوف من أمري فتركيبه وإما أن تحمليني على مشروج من أمرك فأركبه وإما أن تلزي بكري بين قلوصيك قالت لو وقع بكرك بين قلوصي لطمرتا به طمرة يتطامن عنقه منها قال كلا إنه شديد الوجيف عارم الوظيف فغلبها فلما أتاها القوم قالت لهم إنه أتاني رجل لا تمتنع عليه امرأة فإما أن تغمضوا له وإما أن ترحلوا عن مكانكم هذا فرحلوا وذهبوا فقال حكيم بن أبي الخلاف السدري في قصيدة له يذكر أنه إنما ارتحلوا عنهم لأنهم آذوهم بكثرة ما يصنعون بهم
( فكان الذي تُهْدُون للجار منكم ... بخاتج حبّاتٍ كثيراً سُعَالُها )
خبره مع اسماء الجعفرية قال إسحاق فأخبرني الفزاري أن قوما من بني نمير وقوما من بني جعفر تزاوروا فزار شبان من بني جعفر بيوت بني نمير فقبلوا وحدثوا وزار بنو نمير بني جعفر فلم يقبلوا فاستنجدوا ابن الطثرية فزار معهم بيوت بني جعفر فأنشدهن وحدثهن فأعجبن به واجتمعن إليه من البيوت فتوعد بنو جعفر ابن
الطثرية فتتاركوا وأمسك بعضهم عن بعض فأرسلت أسماء الجعفرية إلى ابن الطثرية أن لا تقطعني وإن منعت فإني سأتخلص إلى لقائك فأنشأ يقول
( خَلِيلَيَّ بين المنحَنَى من مُخَمّرٍ ... وبين اللِّوَى من عَرْفَجَاءَ المُقَابِلِ )
( قِفَا بين أعناقِ اللِّوى لمُرَيَّةٍ ... جَنُوبٍ تُداوِي غُلَّ شَوْقٍ مُمَاطِلِ )
( لكَيْما أَرَى أسماءَ أو لِتَمَسَّنِي ... رياحٌ برَيَّاها لِذَاذُ الشَّمائِلِ )
( لقد حادَلتْ أسماءُ دونَك باللِّوَى ... عيونَ العِدَا سَقْياً لها من مُحَادِلِ )
( ودسَّتْ رسولاً أنّ حَوْلِي عِصَابةً ... هُمُ الْحَرْبُ فاسْتَبطِنْ سلاحَ المُقَاتِلِ )
( عشيَّةَ ما لي من نصيرٍ بأرضها ... سوى السَّيْفِ ضَمَّتْهُ إليَّ حَمَائلي )
( فيأيُّها الواشون بالغِشِّ بيننا ... فُرَادَى ومَثْنَى من عدوٍّ وعاذِل )
( دَعُوهنَّ يَتْبَعْنَ الهوى وتبادَلوا ... بنا ليس بأسٌ بيننا بالتَّبَادُل )
( تَرَوْا حين نأتيهنّ نحنُ وأنْتُمُ ... لِمَنْ وعلى مَنْ وَطْأةُ المُتَثَاقِلِ )
( ومَنْ عُرِّيتْ للَّهو قِدْماً رِكَابُه ... وشاعت قَوَافي شعرِه في القبائل )
( تُبَرِّزْ وجوهُ السابقين ويَخْتَلِطْ ... على المُقْرِفِ الكافي غبارُ القنابل )
( فإنْ تمنَعوا أسماءَ أو يَكُ نَفْعُها ... لكم أو تَدِبُّوا بيننا بالغوائل )
( فلن تمنعوني أنْ أُعَلِّل صُحْبَتي ... على كل شيء من مدى العينِ قابل )
حبس لديون عليه قال إسحاق وحدثني أبو زياد الكلابي
أن يزيد بن الطثرية كان شريفا متلافا يغشاه الدين فإذا أخذ به قضاه عنه أخ له يقال له ثور ثم إنه كثر عليه دين لمولى لعقبة بن شريك الحرشي يقال له البربري فحبسه له عقبة بالعقيق من بلاد بني عقيل وعقبة عليها يومئذ أمير وقال المفضل بن سلمة قال أبو عمرو الشيباني كان يزيد قد هرب منه فرجع إليه من حب اسماء وكانت جارة البربري فأخذه البربري ويقال إنه أعطاه بعيرا من إبل ثور أخيه فقال يزيد في السجن
( قضى غُرَمائي حبُّ أسماءَ بعد ما ... تَخَوَّنني ظلمٌ لهم وفجورُ )
( فلو قَلَّ دَيْنُ البربريّ قضيتُه ... ولكنّ دَيْنَ البربريّ كثيرُ )
( وكنتُ إذا حَلَّتْ عليّ ديونُهم ... أضُمّ جَنَاحِي منهمُ فأطيرُ )
( عليّ لهم في كل شهرٍ أَدِيَّةٌ ثمانون وافٍ نَقْدُها وجَزورُ )
( نَجِيءُ إلى ثَوْرٍ ففِيمَ رحيلُنا ... وثَورٌ علينا في الحياة صَبُورُ )
( أشُدّ على ثَوْرٍ وثورٌ إذا رأى ... بنا خَلَّةً جَزْلُ العطاء غفورُ )
( فذلك دَأْبي ما بَقِيتُ وما مَشَى ... لِثوْرٍ على ظهر البِلاد بعيرُ )
ويروى فهذا له ما دمت حيا ثم إن عقبة حج على جمل له يقال له ابن الكميت أنجب ما ركب الناس وثبت ابن الطثرية في السجن حتى انصرف عقبة بن شريك من مكة فأرسل ابن الكميت في مخاضة مستقبلة الربيع وهي حاضرة العقيق تأكل الغضى وتشرب بأحسائه وانحدر عقبة نحو اليمامة وعليها المهاجر بن عبد الله الكلابي فلما ضاقت بابن الطثرية المخارج قال له صاحب له لا أعلم لك أنجى إن قدرت على الخروج من
السجن إلا أن تركب ابن الكميت فينجيك نحو بلد من البلاد فلم يزل حتى جعل للحداد على أن يرسله ليلةً إلى ابن عمه جعلا فشكا إليه وجده بها فأرسله فمضى يزيد نحو الإبل عشاء فاحتكم ابن الكميت حتى جلس عليه فوجهه قصد اليمامة يريد عقبة بن شريك وقال في طريقه
( لَعَمْريَ إن ابن الكُمَيْتِ على الوَجَا ... وسَيْريَ خَمْساً بعد خَمْسٍ مُكَمَّلُ )
( لَطَلْقُ الهَوَادِي بالوَجِيفِ إذا وَنَى ... ذواتُ البَقَايا والعَتِيقُ الهَمَرْجَلُ )
فورد اليمامة فأناخ بابن الكميت على باب المهاجر فكان أول من خرج عليه عقبة بن شريك فلما نظر إليه عرفه وعرف الجمل فقال ويحك أيزيد أنت قال نعم وهذا ابن الكميت قال نعم قال ويحك فما شأنك قال يا عقبة فار منك إليك وأنشده قصيدته التي يقول فيها
( يا عُقْب قد شُذِبَ اللِّحاءُ عن العصا ... عنِّي وكنتُ مُؤَزَّراً محمودا )
( صِلْ لي جَناحِي واتَّخِذْني عُدَّةً ... ترمي بي المُتَعَاشِيَ الصِّنْدِيدا )
فقال له عقبة وكانت من خير فعلة علمناه فعلها أشهدكم أني قد أبرأته من دين البربري وأن له ابن الكميت وأمره أن يحتكم فيما سوى ذلك من ماله
وهذان البيتان من القصيدة التي أولها
( أمسى الشبابُ مُوَدَّعاً محمودا ... )
وهي من جيد شعره يقول فيها
( ومُدِلَّةٍ عند التبذُّل يَفْتَرِي ... منها الوِشَاحُ مُخَصَّراً أُملودا )
( نازعتُها غُنْمَ الصِّبَا إنّ الصِّبَا ... قد كان منِّي للكواعب عِيدا )
( يا لَلرِّجالِ وإنما يشكو الفتى ... مَرَّ الحوادث أو يكونَ جليدا )
( بَكَرتْ نَوَارُ تَجُدُّ باقيةَ القُوَى ... يومَ الفِراق وتُخْلِف الموعودا )
( ولَرُبَّ أمرِ هَوًى يكون نَدامةً ... وسبيل مَكْرَهَةٍ يكون رشيدا )
ثم قال يفخر
( لا أتَّقِي حَسَكَ الضَّغائنِ بالرُّقى ... فِعْلَ الدَّليلِ وإن بَقِيتُ وحيدا )
( لكنْ أُجَرِّد للضغائن مثلَها ... حتى تموتَ وللحُقود حُقودا )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح قال
قال أبو محضة الأعرابي وأنشد هذه الأبيات ليزيد بن الطثرية هي والله من مغنج الكلام
( بِنَفْسِيَ مَنْ لو مَرَّ بَرْدُ بَنانِهِ ... على كبدي كانت شفاءً أنامِلُهْ )
( ومَنْ هابَني في كلّ شيء وهِبْتُه ... فلا هو يُعطيني ولا أنا سائلُهْ )
وهذه الأبيات من قصيدته التي قالها في وحشية الجرمية التي مضى ذكرها
أعداؤه يستولون على راحلته أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثتني ظبية قالت
مر يزيد بن الطثرية بأعداء له فأرادوه وهو على راحلته فركضها وركضوا الإبل على أثره فخشي أن يدركوه وكانت نفسه عنده أوثق من الراحلة فنزل فسبقهم عدوا وأدركوا الراحلة فعقروها فقال في ذلك
( أَلاَ هل أتى ليلَى على نَأْي دارِها ... بأن لم أُقاتِلْ يومَ صَخْرٍ مُذَوِّدا )
( وأنِّيَ أسلمتُ الرِّكابَ فعُقِّرتْ وقد كنتُ مِقْداماً بسيفي مُفْرَدا )
( أثرتُ فلم أَسْطِعْ قتالا ولا ترى ... أخا شِيعةٍ يوماً كآخر أَوْحَدا )
( فهل تَصْرِمَنَّ الغانياتُ مودَّتي ... إذا قيل قد هاب المنونَ فعّرَّدا )
هجوه لفديك الجرمي لأنه عذب وحشية أخبرني يحيى إجازة عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي زياد قال
كان يزيد بن الطثرية يتحدث إلى نساء فديك بن حنظلة الجرمي ومنزلهما بالفلج فبلغ ذلك فديكا فشق عليه فزجر نساءه عن ذلك فأبين إلا أن يدخل عليهن يزيد فدخل عليهن فديك ذات يوم وقد جمعهن جميعا أخواته وبنات عمه وغيرهن من حرمه ثم قال لهن قد بلغني أن يزيد دخل عليكن وقد نهيتكن عنه وإن لله علي نذرا واجبا واخترط سيفه إن لم أضرب
أعناقكن به فلما ملأهن رعبا ضرب عنق غلام له مولد يقال له عصام فقتله ثم أنشأ يقول
( جعلتُ عصاماً عِبْرةً حين رابَني ... أَنَاسِيُّ من أهلي مِرَاضٌ قلوبُها )
ثم إن فديكا رأى يزيد قائما عند باب أهله فظن أنه يواعد بعض نسائه فارتصده على طريقه وأمر بزبية فحفرت على الطريق ثم أوقد فيها نارا لينة ثم اختبأ في مكان ومعه عبدان له وقال لهما تبصرا هل تريان أحدا فلم يلبثا إلا قليلا حتى خرجت بنت أخي فديك وكان يقال لها وحشية تتهادى في برودها لميعاد يزيد فأيقظه العبدان ومضت حتى وقعت على الزبية فاحترق بعضها وأمر بها فأخرجت واحتملها العبدان فانطلقا بها إلى داره فقال فديك
( شفى النفسَ من وَحْشِيَّةَ اليوم أنَّها ... تَهَادَى وقد كانت سريعاً عَنِيقُها )
( فإلاَّ تَدَعْ خَبْطَ المَوارِدِ في الدُّجَى ... تَكُنْ قَمَناً من غَشْيةٍ لا تُفِيقُها )
( دواءُ طبيبٍ كان يعلم أنَّه ... يُداوي المجانينَ المُخلَّى طريقُها )
فبلغ ذلك يزيد فقال
( سَتَبْرَأُ من بعدِ الضَّمَانَةِ رجلُها ... وتأتي الذي تَهْوَى مُخَلًّى طريقُها )
( عليّ هَدَايا البُدْنِ إن لم أُلاَقِها ... وإن لم يكن إلا فُدَيْكٌ يسوقها )
( يُحَصِّنها منِّي فديكٌ سَفَاهةً ... وقد ذهبتْ فيها الكُبَاسُ وحُوقُها )
( تُذيقونها شيئاً من النَّار كلَّما ... رأتْ من بني كعبٍ غلاماً يَرُوقها )
قال وإنما كانت وضعت رجلها فأحرقتها النار
وقال يزيد أيضا
( يا سُخْنَةَ العينِ لِلجَرْميّ إذ جمعَتْ ... بيني وبين نَوَارٍ وحشةُ الدارِ )
( خُبِّرتُهمْ عذَّبوا بالنارِ جارتَهم ... ومَنْ يُعَذِّبُ غيرَ اللَّه بالنار )
فبلغ ذلك فديكا فقال
( أحالفةٌ عليك بنو قُشَيْرٍ ... يمينَ الصَّبْرِ أم متحرِّجونا )
ويروى يمين اللَّه
( فإنْ تَنْكُلْ قُشَيْرٌ تَقْضِ جَرْمٌ ... وتقض لها مع الشبه اليقينا )
( أليس الجَوْرُ أنّ أباك منَّا ... وانَّك في قبيلةِ آخرينا )
( لَعَمْرُ اللَّهِ إن بني قُشَيْرٍ ... لِجَرْم في يزيدَ لظالمونا ) فإلاَّ يحلِفوا فعليك شَكْلٌ ... ونَجْرٌ ليس مما يعرفونا )
( وأعرِفُ فيك سِيمَا آلِ صَقْرٍ ... ومِشْيتَهم إذا يتخيَّلونا )
قال وكانت جرم تدعيه وقشير تدعيه فأراد أن يخبر أنه دعي
وقال فديك بن حنظلة يهجوه
( وإنَّا لسيَّارون بالسُّنَّة التي ... أُحِلَّتْ وفينا جَفْوةٌ حين نُظْلَمُ )
( ومنَّا الذي لاقْته أُمُّك خالياً ... فلم تدرِ ما أيّ الشهورِ المحرَّمُ )
فقال يزيد يهجو فديكا
( أنعتُ عَيْراً من عُيُورِ القَهْرِ ... أَقْمَرَ من شرِّ حَمِيرٍ قُمْرِ )
( صبَّح أبياتَ فُدَيْكٍ يجري ... منزلةَ اللُّؤم ودارَ الغَدْرِ )
( فلَقِيْتُه عند بابِ العَقْرِ ... يَنْشِطُها والدِّرْعُ عند الصَّدرِ )
( نَشْطَكَ بالدَّلْوِ قَرَاحَ الجَفْرِ ... )
أخبرنا يحيى بن علي إجازة عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال حدثنا أبو الحارث هانىء بن سعد الخفاجي قال
ذكرت ليزيد بن الطثرية امرأة حدثة جميلة فخرج حتى يدفع إليها فوجد عندها رجلين قاعدين يتحدثان فسلم عليهم فأوجست أنه يزيد ولم تتثبت ورأت عليه مسحة فقالت أي ريح جاءت بك يا رجل قال الجنوب قالت فأي طير جرت لك الغداة قال عنز زنمة رأيتها يداورها ثعلبان فانقض عليها سرحان فراغ الثعلبان قال فطفرت وراء سترها وعرفت أنه يزيد
قال إسحاق وحدثني عطرد قال
قال قطري بن بوزل ليزيد بن الطثرية انطلق معي إلى فلانة وفلانة فإنهن يبرزن لك ويستترن عني عسى أن أراهن اليوم على وجهك فذهب به معه فخرج عليهما النسوة وظلا يتحدثان عندهن حتى تروحا وقال يزيد في ذلك
( على قَطَرِيٍّ نعمةٌ إن جرى بها ... يزيدَ وإلاَّ يَجْزِهِ اللَّهُ لي أجْرا )
( دنوتُ به حتَّى رَمَى الوحشَ بعدما ... رأى قَطَرِيُّ من أوائلها نَفْرا )
خبره مع رجل من صداء أحب خثعمية فأعانه يزيد عليها أخبرنا يحيى إجازة عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عطرد قال
نزل نفر من صداء بناحية العقيق وهو منزل ابن الطثرية نصف النهار فلم يأتهم أحد فأبصرهم ابن الطثرية فمر عليهم وهو منصرف وليسوا قريبا من أهله فلما رآهم مرملين أنفذ إليهم هدية ومضى على حياله ولم يراجعهم فسألوا عنه بعد حتى عرفوه فحلا عندهم وأعجبهم ثم إن فتى منهم واده فآخاه فأهدى له بردا وجبة ونعلين ثم أغار المقدم بن عمرو بن همام بن مطرف بن الأعلم بن ربيعة بن عقيل على ناس من خثعم وفي ذلك يقول الشاعر
( مُغَار ابنَ هَمَّامٍ على حَيّ خَثْعَمَا ... )
فأخذ منهم إبلا ورقيقا وكانت فيهن جارية من حسان الوجوه وكان يهواها الذي آخى يزيد فأصابه عليها بلاء عظيم حتى نحل جسمه وتغيرت حاله فأقبل الفتى حتى نزل العقيق متنكرا فشكا إلى يزيد ما أصابه في تلك الجارية فقال أفيك خير قال نعم قال فإني أدفعها إليك فخبأه في عريش له اياما حتى خطف الجارية فدفعها إليه فبعث إليها قطري بن بوزل فاعترض لها بين أهلها وبين السوق فذهب بها حتى دفعها إليه وقد وطن له ناقة مفاجة فقال النجاة فإنك لن تصبح حتى تخرج من بلاد قشير وتصير إلى دار
نهد فقد نجوت وأنا أخفي أثرك فعفى أثره وقال لابنة خمارة كان يشرب عندها إسحبي ذيلك على أثره ففعلت ثم بحث على ذلك حتى قيل قد كان قطري أحدث الناس بها عهدا فاستعدي عليه فظفر بيزيد فأخذ مكانه فحبس بحجر حبسه المهاجر ففي ذلك يقول يزيد
( أَلاَ لا أُبَالِي إن نجا لي ابنُ بَوْزَلٍ ... ثَوَائِي وتَقْيِيدِي بِحُجْرِ لَيَالِيَا )
( إذا حُمَّ أمرٌ فهو لا بدَّ واقعٌ ... له لا أُبالِي ما عليّ ولا لِيَا )
( هو العَسَلُ الماذِيُّ طوراً وتارةً ... هو السَّمُّ والذّيفان واللَّيْث عاديا )
أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب عن محمد بن سلام الجمحي قال حدثني أبو الغراف قال
كان يزيد بن الطثرية صاحب غزل ومحادثة للنساء وكان ظريفا جميلا من أحسن الناس كلهم شعرا وكان أخوه ثور سيدا كثير المال والنخل والرقيق وكان متنسكا كثير الحج والصدقة كثير الملازمة لإبله ونخله فلا يكاد يلم بالحي إلا الفلتة والوقعة وكانت إبله ترد مع الرعاء على أخيه يزيد بن الطثرية فتسقى على عينه فبينا يزيد مار في الإبل وقد صدر عن الماء إذ مر بخباء فيه نسوة من الحاضر فلما رأينه قلن يا يزيد أطعمنا لحما فقال أعطينني سكينا فأعطينه ونحر لهن ناقة من إبل أخيه وبلغ الخبر أخاه فلما جاءه أخذ بشعره وفسقه وشتمه فأنشأ يزيد يقول
( يا ثَوْرُ لا تشتُمَنْ عِرْضِي فداك أبي ... فإنما الشتمُ للقوم العَوَاويرِ )
( ما عَقْرُ نابٍ لأمثال الدُّمَى خُرُدٍ ... عِينٍ كِرامٍ وأبكارٍ مَعَاصِيرِ )
( عَطَفْنَ حَوْلِيَ يسألْنَ القِرَى أُصُلاً ... وليس يَرْضَيْنَ منِّي بالمَعاذير )
( هَبْهُنَّ ضيفاً عَرَاكم بعد هَجْعَتِكم ... في قِطْقِطٍ من سَقِيطِ اللَّيل منثورِ )
( وليس قُرْبَكُمُ شاءٌ ولا لبنٌ ... أيرجَلُ الضيفُ عنكم غيرَ مجبور )
( ما خيرُ واردةٍ للماء صادرةٍ ... لا تنجلي عن عَقِيرِ الرِّجْل منحور )
شعره في امرأة أحبها سبعة رجال أخبرني أبو خليفة قال قال ابن سلام
كان يزيد بن الطثرية يتحدث إلى امرأة ويعجب بها فبينما هو عندها إذ حدث لها شاب سواه قد طلع عليه ثم جاء آخر ثم آخر فلم يزالوا كذلك حتى تموا سبعة وهو الثامن فقال
( أرى سبعةً يَسْعَوْنَ للوصلِ كلُّهم ... له عند ليلَى دِينةٌ يستدينُها )
( فألقَيْتُ سهمي وسْطَهم حين أَوْخَشُوا ... فما صار لي من ذاك إلاَّ ثَمِينُها )
( وكنتُ عَزُوفَ النَّفْسِ أَشْنأُ أن أرَى ... على الشِّرْك من وَرْهاء طَوْعٌ قَرِينُها )
( فيوماً تراها بالعهود وَفِيَّةً ... ويوماً على دِين ابن خَاقَانَ دينُها )
( يَداً بِيَدٍ مَنْ جاء بالعَين منهمُ ... ومَنْ لم يجىء بالعين حِيزَتْ رُهونُها )
وقال فيها وقد صارمها
( أَلاَ بِأبِي مَنْ قد بَرَى الجسمَ حُبُّهُ ... ومَنْ هو مرموقٌ إليّ حبيبُ )
( ومن هو لا يزداد إلا تَشَوُّقاً ... وليس يُرَى إلاَّ عليه رقيبُ )
( وإنِّي وإن أَحْمَوْا عليَّ كلامَها ... وحالت أعادٍ دونها وحُروبُ )
( لَمُثْنٍ على ليلَى ثناءً يزيدها ... قَوَافٍ بأفواه الرُّواةِ تَطِيبُ )
( ألَيْلَى احْذَرِي نَقْضَ القُوى لا يَزَلْ لنا ... على النأْيِ والهِجْرانِ منكِ نصيبُ )
( وكُونِي على الواشين لَدَّاءَ شَغْبَةً ... كما أنا للواشي ألدُّ شَغُوبُ )
( فإنْ خِفْتِ أَلاَّ تُحْكِمِي مِدَّةَ القُوَى ... فرُدِّي فؤادي والمَزارُ قريبُ )
أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن رجل من بني عامر ثم من بني خفاجة قال
استعذب جرم على ابن الطثرية في وحشية أمرأة منهم كان يشبب بها فكتب بها صاحب اليمامة إلى ثور أخي يزيد بن الطثرية وأمره بأدبه فجعل عقوبته حلق لمته فحلقها فقال يزيد
( أقول لِثَوْرٍ وهو يَحْلِقُ لِمَّتِي ... بحَجْنَاءَ مردودٍ عليها نِصَابُها )
قال عبد الرحمن كان عمي يحتج في تأنيث الموسى بهذا البيت
( تَرَفَّقْ بها يا ثورُ ليس ثوابُها ... بهذا ولكن غيرُ هذا ثوابُها )
( أَلاَ ربَّما يا ثَوْرُ قد غَلَّ وَسْطَها ... أَنَامِلُ رَخْصاتٌ حديثٌ خِضَابُها )
( وتَسْلُك مِدْرَى العاج في مُدْلَهِمَّةٍ ... إذا لم تُفَرَّجْ مات غَمّاً صُؤابُها )
( فراح بها ثَوْرٌ تَرِفُّ كأنها ... سلاسلُ دِرْع خِيرُهاوانسكابُها )
( مُنَعَّمةٌ كالشَّرْيَةِ الفَرْدِ جادَها ... نِجَاءُ الثُّريَّا هَطْلُها وذِهَابُها )
( فأصبح رأسي كالصُّخَيْرة أَشْرفتْ ... عليها عُقَابٌ ثم طارتْ عُقابُها )
ونظير هذا الخبر أخبار من حلقت جمته فرثاها وليس من هذا الباب ولكن يذكر الشيء بمثله
أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عبد الرحمن عن عمه قال
شرب طخيم الأسدي بالحيرة فأخذه العباس بن معبد المري وكان على شرط يوسف بن عمر فحلق رأسه فقال
( وبالحِيرةِ البَيْضاء شيخٌ مُسَلَّطٌ ... إذا حلَف الأيمانَ بالله بَرَّتِ )
( لقد حَلَقُوا مِنَّا غُدَافاً كأنها ... عَناقيدُ كَرْمٍ أَيْنعتْ فاسْبَطَرَّتِ )
( يَظَلّ العّذارَى حين تُحْلَقُ لِمَّتِي ... على عَجَلٍ يَلْقُطْنَها حين جُزَّتِ )
أخبرني محمد عن عبد الرحمن عن عمه عن بعض بني كلاب قال
أخذ فتى منا مع بعض فتيات الحي فحلق رأسه فقال
( يا لِمَّتِي ولقد خُلقْتِ جَميلةً ... وكرُمْتِ حين أصابكِ الجَلَمانِ )
( أمستْ تَرُوق الناظرين وأصبحتْ ... قَصَصاً تكون فواصلَ المَرْجان )
شعره في أخيه ثور أخبرني وكيع قال حدثني علي بن الحسين بن عبد الأعلى قال حدثنا أبو محلم قال
كان ليزيد بن الطثرية أخ يقال له ثور أكبر منه فكان يزيد يغير على ماله ويتلفه فيتحمله ثور لمحبته إياه فقال يزيد في ذلك
( نُغِيرُ على ثَوْرٍ وثورٌ يَسُرُّنا ... وثورٌ علينا في الحياة صَبُورُ )
( وذلك دَأبِي ما حَيِيتُ وما مَشَى ... لثورٍ على عَفْرِ التُّرابِ بعيرُ )
مقتله ورثاء الشعراء له وقتل يزيد بن الطثرية في خلافة بني العباس قتلته بنو حنيفة
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل بن سلمة عن أبي عبيدة وابن الكلبي وأخبرنا يحيى بن علي عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أبي الجراح العقيلي قال
أغارت بنو حنيفة على طائفة من بني عقيل ومعهم رجل من بني قشير جار لهم فقتل القشيري ورجل من بني عقيل واطردت إبل من العقيليين فأتى الصريخ عقيلا فلحقوا القوم فقاتلوهم فقتلوا من بني حنيفة رجلا وعقروا أفراسا ثلاثة من خيل حنيفة وانصرفوا فلبثوا سنة ثم إن عقيلا انحدرت منتجعة من بلادها إلى بلاد بني تميم فذكر لحنيفة وهم بالكوكبة والقيضاف فغزتهم حنيفة وحذر العقيليون وأتتهم النذر من نمير فانكشفوا فلم يقدروا عليهم فبلغ ذلك من بني عقيل وتلهفوا على بني حنيفة فجمعوا جمعا ليغزوا حنيفة ثم تشاوروا فقال بعضهم لا تغزوا قوما في منازلهم ودورهم فيتحصنوا دونكم ويمتنعوا منكم ولا نأمن أن يفضحوكم فأقاموا بالعقيق وجاءت حنيفة غازية كعبا لا تتعداها حتى وقعت بالفلج فتطاير الناس ورأس حنيفة يومئذ المندلف وجاء صريخ كعب إلى أبي لطيفة بن مسلم العقيلي وهو بالعقيق أمير عليها فضاق بالرسول ذرعا وأتاه هولٌ شديد فأرسل في عقيل يستمدها فأتته ربيعة بن عقيل وقشير بن كعب والحريش بن كعب وأفناء خفاجة وجاش إليه الناس فقال إني قد أرسلت طليعة فانتظروها حتى تجيء ونعلم ما تشير به قال أبو الجراح فأصبح صبح ثالثة على فرس له يهتف أعز الله نصركم وأمتعنا بكم انصرفوا راشدين فلم يكن بأس فانصرف الناس وصار في بني عمه ورهطه دنية وإنما فعل ذلك لتكون له السمعة والذكر فكان فيمن سار معه القحيف بن خمير ويزيد بن الطثرية الشاعران فساروا حتى واجهوا القوم فواقعوهم فقتلوا المندلف رموه في عينه وسبوا وأسروا ومثلوا بهم وقطعوا أيدي اثنين منهم وأرسلوهما إلى اليمامة وصنعوا ما أرادوا ولم يقتل ممن كان
مع أبي لطيفة غير يزيد بن الطثرية نشبب ثوبه في جذل من عشرة فانقلب وخبطه القوم فقتل فقال القحيف يرثيه
( أَلاَ تَبْكِي سَرَاةُ بني قشَيْرٍ ... على صِنْديدِها وعلى فَتاها )
( فإنْ يُقْتَلْ يزيدُ فقد قَتَلْنا ... سَرَاتَهُمُ الكهولَ على لِحَاها )
( أبَا المَكْشوحِ بَعْدَك مَنْ يُحَامِي ... وَمَنْ يُزْجِي المَطِيّ على وَجَاها )
وقال القحيف أيضا يرثيه
( إن تقتُلوا منَّا شهيداً صابراً ... فقد تركنا منكُمُ مَجَازِرا )
( عشرين لمَّا يدخُلوا المقابرا ... قَتْلَى أصِيبتْ قَعَصاً نَحائرا )
( نعجاً تَرَى أرجُلَها شَوَاغِرَا ... )
وهذه من رواية ابن حبيب وحده وقال القحيف أيضا ولم يروها إلا ابن حبيب
( يَا عينُ بَكِّي هَمَلاً على هَمَلْ ... على يَزيد ويزيدَ بنِ حَمَلْ )
( قَتَّال أبطالٍ وجَرَّار حُلَلْ ... )
قال ويزيد بن حمل قشيري قتل يومئذ أيضا وقالت زينب بنت الطثرية ترثي أخاها يزيد وعن أبي عمرو الشيباني أن الأبيات لأم يزيد قال وهي من الأزد ويقال إنها لوحشية الجرمية
( أرَى الأَثْلَ من بطن العَقيِق مُجَاوِرِي ... مُقِيماً وقد غالت يزيدَ غوائلُهْ )
( فَتًى قُدَّ قَدَّ السَّيْفِ لا مُتَضَائلٌ ... ولا رَهِلٌ لَبَّاتُه وَبَآدِلُهْ )
( فتًى لا تَرَى قَدَّ القميص بخَصْرِه ... ولكنَّما تُوهِي القميصَ كواهلُهْ )
( إذا نزل الضِّيفان كان عَذَوَّراً ... على الحيّ حتى تَسْتَقِلَّ مَرَاجِلُه )
( يَسُرُّك مظلوماً ويُرضيك ظالماً ... وكلُّ الذي حَمَّلتَه فهو حامِلُه )
( إذا جَدَّ عند الجِدّ أرضاك جِدُّه ... وذو باطلٍ إن شئتَ أَلْهاكَ باطلُهْ )
( مَضَى ووَرِثْناه دَرِيسَ مُفَاضَةٍ ... وأبيضَ هِنْدِيّاً طويلاً حمائلُه )
( وقد كان يَحْمِي المَحْجِرين بسيفه ... ويبلغُ أَقْصَى حَجْرةِ الحيِّ نائلُه )
( فتًى ليس لابن العم كالذئب إن رأى ... بصاحبه يوماً دماً فهو آكِلُه )
( سيَبْكِيه مولاه إذا ما ترفَّعت ... عن الساق عند الرَّوْع يوما ذلاَذِلُه )
الذلذل هدب الثياب
وقد أخبرنا الحرمي عن الزبير عن عمر بن إبراهيم السعدي عن عباس بن عبد الصمد قال
قال هشام بن عبد الملك للعجير السلولي اصدقت فيما قلت في ابن
عمك قال نعم يا أمير المؤمنين ألا إني قلت
( فتًى قُدّ قَدَّ السيفِ لا متضائِلٌ ... ولا رَهِلٌ لَبَّاتُه وأبَاجِلُه )
فذكر هذا البيت وحده ونسبه إلى العجير السلولي من الأبيات المنسوبة إلى أخت يزيد بن الطثرية أو إلى أمه وأتى بأبيات أخر ليست منها وسيذكر ذلك في أخبار العجير مشروحا إن شاء الله تعالى
( ومما يغنى فيه من شعر يزيد بن الطثرية قوله
صوت ( بنفسيَ مَنْ لا بدّ انِّيَ هاجِرُه ... ومن أنا في الميسور والعُسْرِ ذاكِرُهْ )
( ومن قد رماه الناسُ بي فاتَّقاهُم ... ببغضيَ إلاَّ ما تُجِنَّ ضمائرُهْ )
عروضه من الطويل غنى في هذين البيتين عبد الله بن العباس الربيعي لحنا من خفيف الثقيل بالبنصر وغنت فيه عريب وفي أبيات أضافتها إليها لحنا من خفيف الثقيل الأول آخر وغنت علية بنت المهدي فيها خفيف رمل وذكر الهشامي أن لإبراهيم فيها لحنا ماخوريا والأبيات المضافة
( بنفسيَ من لا أُخْبِرُ الناسَ باسمه ... وإن حَمَلَتْ حِقْداً عليّ عشائرُهْ )
( بأهلي ومالي من جلَبتُ له الأَذَى ... ومَنْ ذكرُه منِّي قريبٌ أسامرُه )
( ومَنْ لو جرت شَحْناءُ بيني وبينه ... وحاوَرَنِي لم أدْرِ كيف أُحَاورُهْ )
صوت
من المائة المختارة ( شأتْكَ المنازلُ بالأَبْرَقِ ... دوارسَ كالعين في المُهْرَقِ )
( لآلِ جَميلةَ قد أَخْلَقتْ ... ومهما يَطُلْ عهدُه يُخْلِقِ )
( فإن يقُلِ الناسُ لي عاشِقٌ ... فأين الذي هو لم يَعْشَقِ )
( ولم يَبْكِ نُؤْياً على عَبْرةٍ ... بداء الصَّبَابة والمَعْلَق )
شأتك بعدت عنك والشأو البعد يقال جرى الفرس شأوا يريد طلقا والمهرق الصحيفة والجمع المهارق يريد أن الدار قد بقيت منها طرائق كالصحف وما فيها
الشعر للأحوص والغناء لجميلة ولحنها المختار خفيف رمل بالوسطى عن إسحاق وفيه لعطرد ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى وفيه لمعبد خفيف ثقيل عن حبش وفيه رمل يقال إنه لفريدة ويقال إنه لمالك وقيل إن الثقيل الأول لابن عائشة وذكر عمرو بن بانة أن خفيف الرمل لعطرد أيضا
حذف
ذكر جميلة وأخبارها هي جميلة مولاة بني سليم ثم مولاة بطن منهم يقال لهم بنو بهز وكان لها زوج من موالي بني الحارث بن الخزرج وكانت تنزل فيهم فغلب عليها ولاء زوجها فقيل إنها مولاة للأنصار تنزل بالسنح وهو الموضع الذي كان ينزله أبو بكر الصديق ذكر ذلك إبراهيم بن زياد الأنصاري الأموي السعيدي وذكر عبد العزيز بن عمران أنها مولاة للحجاج بن علاط السلمي وهي أصل من أصول الغناء وعنها أخذ معبد وابن عائشة وحبابة وسلامة وعقيلة العقيقية والشماسيتان خليدة وربيحة وفيها يقول عبد الرحمن بن أرطأة
صوت ( إنّ الدَّلاَل وحسنَ الغناءِ ... وَسْطَ بيوت بني الخزْرجِ )
( وتلكم جميلةُ زينُ النساء ... إذا هي تَزْدان للمَخْرَج )
( إذا جئتَها بَذلتْ وُدَّها ... بوجه مُنيرٍ لها أَبْلَجِ )
الشعر لعبد الرحمن بن أرطأة والغناء لمالك خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى ويقال فيه للدلال وجميلة لحنان
جميلة هي أصل الغناء أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي جعفر القرشي عن المحرزي قال
كانت جميلة أعلم خلق الله بالغناء وكان معبد يقول أصل الغناء جميلة وفرعه نحن ولولا جميلة لم نكن نحن مغنين
أنى لها هذا الغناء قال إسحاق وحدثني ايوب بن عباية قال حدثني رجل من الأنصار قال
سئلت جميلة أنى لك هذا الغناء قالت والله ما هو إلهام ولا تعليم ولكن ابا جعفر سائب خاثر كان لنا جاراً وكنت أسمعه يغني ويضرب بالعود فلا أفهمه فأخذت تلك النغمات فبنيت عليها غنائي فجاءت أجود من تأليف ذلك الغناء فعلمت وألقيت فسمعني موالياتي يوما وأنا أغني سراً ففهمنني ودخلن علي وقلن قد علمنا فما تكتمينا فأقسمن علي فرفعت صوتي وغنيتهن بشعر زهير بن ابي سلمى
( وما ذكرتُكِ إلاَّ هِجْتِ لي طَرَباً ... إنّ المحبَّ ببعض الأمر معذورُ )
( ليس المحبّ بمن إن شَطَّ غيَّره ... هجرُ الحبيب وفي الهِجران تغيرُ )
صوت ( نام الخليّ فنومُ العين تَعْذيرُ ... مما ادَّكرتُ وهمُّ النفس مذكورُ )
( ذكرتُ سَلْمَى وما ذِكْرِي براجِعها ... ودونها سَبْسَبٌ يَهْوي به المُورُ )
الشعر لزهير والغناء في هذين البيتين لجميلة فقط رمل بالوسطى عن حبش فحينئذ ظهر أمري وشاع ذكري فقصدني الناس وجلست للتعليم فكان الجواري يتكاوسنني فربما انصرف أكثرهن ولم يأخذن شيئا سوى ما يمنعنني أطارح لغيرهن ولقد كسبت لموالي ما لم يخطر لهن ببال وأهل ذلك كانوا وكنت
وحدثني أبو خليفة قال حدثني ابن سلام قال حدثني مسلمة بن محمد بن مسلمة الثقفي قال
كانت جميلة ممن لا يشك في فضيلتها في الغناء ولم يدع أحد مقاربتها في ذلك وكل مدني ومكي يشهد لها بالفضل
وصف مجلس من مجالسها غنت فيه وغنى فيه كبار مغنّى مكة والمدينة
قال إسحاق وحدثني هشام بن المرية المدني قال حدثني جرير المدني قال إسحاق وكانا جميعا مغنيين حاذقين شيخين جليلين عالمين ظريفين وكانا قد أسنا فأما هشام فبلغ الثمانين وأما جرير فلا أدري قال جرير
وفد ابن سريج والغريض وسعيد بن مسجح ومسلم بن محرز المدينة لبعض من وفدوا عليه فأجمع رأيهم على النزول على جميلة مولاة بهز فنزلوا عليها فخرجوا يوما إلى العقيق متنزهين فوردوا على معبد وابن عائشة فجلسوا إليهما فتحدثوا ساعة ثم سأل معبد ابن سريج وأصحابه أن يعرضوا عليهم بعض ما ألفوا فقال ابن عائشة إن للقوم أعمالا كثيرة حسنة ولك أيضا يا ابا عباد ولكن قد اجتمع علماء مكة وأنا وأنت من اهل المدينة فليعمل كل واحد منا صوتا ساعته ثم يغن به قال معبد يابن عائشة قد أعجبتك نفسك حتى بلغتك هذه المرتبة قال ابن عائشة أوغضبت يا ابا عباد إني لم اقل هذا وأنا أريد أن أتنقصك فإنك لأنت المفاد منه قال معبد أما إذ قد اختلفنا واصحابنا المكيون سكوت فلنجعل بيننا حكما قال ابن عائشة إن أصحابنا شركاء في الحكومة قال ابن سريج على شريطة قال على أن يكون ما نغني به من الشعر ما حكمت فيه امرأة قال ابن عائشة ومعبد رضينا وهي أم جندب فأجمع رأيهم على الاجتماع في منزل جميلة من غد فلما حضروا قال ابن عائشة ما ترى يا ابا عباد قال أرى أن يبتدىء أصحابنا أو أحدهم قال ابن سريج بل أنتما أولى قالا لم نكن لنفعل فأقبل ابن سريج على سعيد بن مسجح فسأله أن يبتدىء فأبى فأجمع رأي المكيين على أن يبتدىء ابن سريج فغنى ابن سريج
صوت ( ذهبتَ من الهِجْران في غير مَذْهبِ ... ولم يَكُ حقّاً كلُّ هذا التجنُّبِ )
( خليليّ مُرَّا بي على أمّ جُنْدَب ... أقَضِّ لُباناتِ الفؤاد المُعَذَّبِ )
( فإنَّكما إن تُنْظِرانِيَ ساعةً ... من الدَّهر تَنْفَعْني لدى أمّ جُنْدَبِ )
( أَلم تَرَياني كلَّما جئتُ طارقاً ... وجدتُ بها طِيباً وإن لم تَطَيَّبِ )
الشعر لامرىء القيس ولابن سريج فيه لحنان ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى وخفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى جميعا عن إسحاق
وغنى معبد
صوت
( فَلِلَّهِ عينَا مَنْ رأى مِنْ تَفَرُّقٍ ... أَشَتَّ وأَنْأَى من فِراق المُحَصَّبِ )
( عَلَوْنَ بأَنطاكيَّةٍ فوق عِقْمَةٍ ... كجِرْمَةِ نخلٍ أو كجَنَّة يَثْرِبِ )
( فريقانِ منهم سالكٌ بطنَ نَخْلَةٍ ... وآخَرُمنهم جازعٌ نَجْدَ كَبْكَب )
( فَعَيْناكَ غَرْبَا جَدْوَلٍ في مُفَاضةٍ ... كَمَرِّ خَلِيجٍ في سَنيحٍ مُثَقَّبِ )
وغنى ابن مسجح
صوت ( وقالت فإن يُبْخَلْ عليكَ ويُعْتَلَلْ ... يَسُؤْكَ وإن يُكْشَفْ غرامُك تَدْرَبِ )
( وإنَّك لم يَفْخَرْ عليك كفاخِرٍ ... ضعيفٍ ولم يَغْلبك مثلُ مُغَلَّبِ )
( وإنك لم تَقْطَعْ لُبَانَةَ عاشقٍ ... بمثل بُكُور أو رَوَاحٍ مُؤَوَّبِ )
( بأَدْمَاءَ حُرْجُوجٍ كأنَّ قُتُودَها ... على أبْلَقِ الكَشْحَيْن ليس بمُغْرَبِ )
( يغرِّد بالأسْحارِ في كلّ سُدْفةٍ ... تَغُرُّدَ مَيَّاحِ النَّدَامَى المُطَرِّبِ )
وغنى ابن عائشة
صوت
( وقد أَغْتَدي والطيرُ في وُكُنَاتِها ... وماءُ النَّدَى يَجْرِي على كل مِذْنَبِ )
( بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأَوَابدِ لاحَهُ ... طِرادُ الهَوَادِي كلَّ شَأْوٍ مُغَرِّبِ )
( إذا ما جَرَى شَأْوَيْنِ وابتَلَّ عِطْفُه ... تقول هَزِيزُ الرِّيح مَرَّتْ بأَثْأَبِ )
( له أَيْطَلاَ ظَبْيٍ وساقَا نَعَامةٍ ... وصَهْوةُ عَيْرٍ قائم فوقَ مَرْقَبِ )
وغنى أبن محرز
صوت ( فلِلسَّوْطِ ألْهُوبٌ وللساق دِرَّة ... وللزَّجْرِ منه وَقْعُ أَخْرَجَ مُهْذِب )
( فأَدْرك لم يَجْهَدْ ولم يُبْلِ شَدَّه ... يَمُرُّ كخُذْرُوفِ الوَليد المُثَقَّبِ )
( تَذُبُّ به طَوْراً وطَوْراً تُمِرُّه ... كَذَبِّ البَشير بالرِّداء المُهَدَّبِ )
( إذا ما ضربتُ الدَّفَّ أو صُلْتُ صَوْلةً ... تَرَقَّبُ منِّي غيرَ أَدْنَى تَرَقُّبِ )
وغنَّى الفريض
صوت
( أخا ثقةٍ لا يَلْعَنُ الحيُّ شخصَه ... صبوراً على العِلاَّتِ غيرَ مُسَبَّب )
( رأينا شِياهاً يَرْتَعِينَ خَمِيلةً ... كَمَشْي العَذَارَى في المُلاَء المُجَوَّبِ )
( وما أنت أَمْ مَا ذِكْرُها رَبَعِيَّةً ... تَحُلّ بإيرٍ أو بأكناف شُرْبُب )
( أطعتُ الوُشَاةَ والمُشَاةَ بصُرْمِها ... فقد أنْهَجَتْ حِبَالُها للتقضُّب )
فقالت جميلة كلكم محسن وكلكم مجيد في معناه ومذهبه قال ابن عائشة ليس هذا بمقنع دون التفضيل فقالت أما أنت يا أبا يحيى فتضحك الثكلى بحسن صوتك ومشاكلته للنفوس وأما أنت يا أبا عباد فنسيج وحدك بجودة تأليفك وحسن نظمك مع عذوبة غنائك وأما أنت يا أبا عثمان فلك أولية هذا الأمر وفضيلته وأما أنت يا أبا جعفر فمع الخلفاء تصلح وأما أنت يا أبا الخطاب فلو قدمت أحدا على نفسي لقدمتك وأما انت يا مولى العبلات فلو ابتدأت لقدمتك عليهم ثم سألوها جميعا أن تغنيهم لحنا كما غنوا فغنتهم بيتا لامرىء القيس وأربعة أبيات لعلقمة وهي
( خَلِيليّ مُرَّا بي على أمّ جُنْدَبِ ... أقَضِّ لُباناتِ الفؤاد المُعَذَّبِ )
( لَيَالِيَ لا تَبْلَى نصيحةُ بَيْنِنا ... لياليَ حَلُّوا بالسِّتارِ فغُرَّبِ )
( مُبَتَّلَةٌ كأنَّ أَنْضَاءَ حَلْيِها ... على شادنٍ من صَاحَةٍ مُتَربَّب )
( مَحَالٌ كأَجْواز الجَراد ولؤلؤٌ ... من القَلَقيَّ والكَبِيسِ المُلَوَّب )
( إذا أَلْحم الواشون للشرّ بيننا ... تبلَّغ رَسُّ الحبّ غيرُ المُكَذِّبِ )
فكلهم أقروا لها وفضلوها فقالت لهم ألا أحدثكم بحديث يتم به حسن غنائكم وتمام اختياركم قالوا بلى والله قال الغريض قد والله فهمته يا سيدتي قالت لعنك الله يا مخنث ما أجود فهمك وأحسن وجهك وما يلام فيك أبو يحيى إذ عرفته فهاته حدثنا قال يا سيدتي وسيدة من حضر والله لا نطقت بحرف منه وأنت حاضرة ولك الفضل والعتبى قالت نازع أمرؤ القيس علقمة بن عبدة الفحل الشعر فقال له قد حكمت بيني وبينك أمرأتك أم جندب قال قد رضيت فقالت لهما قولا شعرا على روي واحد وقافية واحدة صفا فيه الخيل فقال أمرؤ القيس
( خَليليّ مُرَّا بي على أمّ جُنْدَب ... أقَضِّ لُباناتِ الفؤادِ المُعَذَّب )
وقال علقمة
( ذهبتَ من الهِجْرانِ في غير مَذْهبِ ... ولم يَكُ حقّاً كلُّ هذا التجنُّبِ )
وأنشداها فغلبت علقمة فقال لها زوجها بأي شيء غلبته قالت لأنك قلت
( فللسَّوْطِ أُلْهوبٌ وللساق درَّةٌ ... وللزَّجْرِ منه وَقْعُ أَهْوجَ مِنْعَبِ )
فجهدت فرسك بسوطك ومريته بساقك وزجرك وأتعبته بجهدك وقال علقمة
( فولَّى على آثارهنَّ بحاصِبٍ ... وغَبْيَةِ شُؤْبُوبٍ من الشَّدِّ مُلْهِب )
( فأدركهنّ ثانياً من عِنَانه ... يَمُرّ كمَرّ الرائح المُتَحلِّبِ )
فلم يضرب فرسه بسوط ولم يمره بساق ولم يتعبه بزجر فقال ابن عائشة جعلت فداك أتأذنين أن أحدث قالت هيه قال إنما تزوج أم جندب حين هرب من المنذر بن ماء السماء فأتى جبلي طيىء وكان مفركا فبينا هو معها ذات ليلة إذ قالت له قم يا خير الفتيان فقد أصبحت فلم يقم فكررت عليه فقام فوجد الفجر لم يطلع فرجع فقال لها ما حملك على ما صنعت فأمسكت وألح عليها فقالت حملني أنك ثقيل الصدر خفيف العجيزة سريع الإراقة بطيء الإفاقة فعرف تصديق قولها وسكت فلما
أصبح أتى علقمة وهو في خيمته وخلفه أم جندب فتذاكروا الشعر فقال امرؤ القيس أنا أشعر منك وقال علقمة مثل ذلك فتحاكما إلى أم جندب ففضلت أم جندب علقمة على امرىء القيس فقال لها بم فضلته علي قالت فرس ابن عبدة أجود من فرسك زجرت وضربت وحركت ساقيك وابن عبدة جامد لا مقتدر فغضب من قولها وطلقها وخلف عليها علقمة فقالت جميلة ما أحسن مجلسنا لو دام اجتماعنا ثم دعت بالغداء فأتي بألوان الأطعمة وأنواع من الفاكهة ثم قالت لولا شناعة مجلسنا لكان الشراب معدا ولكن الليل بيننا فلم يزالوا يومهم ذلك بأطيب مجلس وأحسن حديث فلما جنهم الليل دعت بالشراب ودعت لكل رجل منهم بعود وأخذت هي عودا فضربت ثم قالت اضربوا فضربوا عليها بضرب واحد وغنت بشعر امرىء القيس
( أَأَذْكَرْتَ نفسَكَ ما لن يَعُودَا ... فهاج التَّذكُّرُ قلباً عَمِيدَا )
( تَذَكَّرتَ هنداً وأترابَها ... وأيَّامَ كنتَ لها مُستقيدا )
( ويُعجبك اللَّهْوُ والمُسْمِعاتُ ... فأصبحتَ أزمعتَ منها صُدودا )
( ونادمتُ قَيْصَرَ في مُلكه ... فأوجهني ورَكِبتُ البَريدا )
فما سمع السامعون بشيء أحسن من ذلك ثم قالت تغنوا جميعا بلحن واحد فغنوها هذا الشعر والصوت بعينه كما غنته وعلم القوم ما أرادت بهذا الشعر فقال ابن عائشة جعلت فداك نرجو أن يدوم مجلسنا ويؤثر أصحابنا المقام بالمدينة فنواسيهم من كل ما نملكه قال أبو عباد وكيف بذاك فباتوا
بأنعم ليلة وأحسنها قال إسحاق قال أبي قال لي يونس قال أبو عباد لا أعرف يوما واحدا منذ علقت ولا ليلة عند خليفة ولا غيره مثل ذلك اليوم ولا أحسبه يكون بعد قال يونس ولا أدركنا نحن مثل ذلك اليوم ولا بلغنا قال إسحاق ولا أنا ولا أحسب ذلك اليوم يكون بعد
عبد الله بن جعفر يزورها في منزلها لأنها آلت على نفسها أن لا تغني خارجه وحدثني أبي قال حدثنا يونس قال قال لي أبو عباد
أتيت جميلة يوما وكان لي موعد ظننت أني سبقت الناس إليها فإذا مجلسها غاص فسألتها أن تعلمني شيئا فقالت لي إن غيرك قد سبقك ولا يجمل تقديمك على من سواك فقلت جعلت فداك إلى متى تفرغين ممن سبقني قالت هو ذاك الحق يسعك ويسعهم فينا نحن كذلك إذ أقبل عبد الله بن جعفر وإنه لأول يوم رأيته وآخره وكنت صغيرا كيسا وكانت جميلة شديدة الفرح فقامت وقام الناس فتلقته وقبلت رجليه ويديه وجلس في صدر المجلس على كوم لها وتحوق أصحابه حوله وأشارت إلى من عندها بالانصراف وتفرق الناس وغمزتني أن لا أبرح فأقمت وقالت يا سيدي وسيد آبائي وموالي كيف نشطت إلى أن تنقل قدميك إلى أمتك قال يا جميلة قد علمت ما آليت على نفسك ألا تغني أحداً إلا في منزلك وأحببت الاستماع وكان ذلك طريقا مادا فسيحا قالت جعلت فداك فأنا أصير إليك وأكفر قال لا أكلفك ذلك وبلغني أنك تغنين بيتين لامرىء القيس تجيدين الغناء فيهما وكان الله أنقذ بهما جماعة من المسلمين من الموت قالت يا سيدي نعم فاندفعت تغني فغنت بعودها فما سمعت منها قبل ذلك
ولا بعد إلى أن ماتت مثل ذلك الغناء فسبح عبد الله بن جعفر والقوم معه وهما
( ولما رأتْ أنّ الشَّرِيعةَ هَمُّها ... وأنّ البَياضَ من فَرَائِصها دَامِي )
( تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضارِجٍ ... يَفِيءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِي )
ولابن مسجح في هذا الشعر صوت وهذا أحسنهما فلما فرغت قالت جميلة أي سيدي أزيدك قال حسبي فقال بعض من كان معه بأبي جعلت فداك وكيف أنقذ الله من المسلمين جماعة بهذين البيتين قال نعم أقبل قوم من أهل اليمن يريدون النبي فضلوا الطريق ووقعوا على غيرها ومكثوا ثلاثا لا يقدرون على الماء وجعل الرجل منهم يستذري بفيء السمر والطلح يائسا من الحياة إذ أقبل راكب على بعير له وأنشد بعض القوم هذين البيتين فقال
( ولما رأتْ أن الشَّرِيعةَ همُّها ... وأنَّ البياضَ من فَرَائِصها دامِي )
( تَيَمَّمَتِ العينَ التي عند ضارِج ... يَفِيءُ عليها الظِّلُّ عَرْمَضُها طامِي )
فقال الراكب من يقول هذا قال امرؤ القيس قال والله ما كذب هذا ضارج عندكم وأشار لهم إليه فحبوا على الركب فإذا ماء عذب وإذا عليه العرمض والظل يفيء عليه فشربوا منه ريهم وحملوا ما اكتفوا به حتى بلغوا الماء فأتوا النبي فأخبروه وقالوا يا رسول الله أحيانا الله عز و جل ببيتين من شعر امرىء القيس وأنشدوه الشعر فقال رسول الله
ذلك رجل مذكور في الدنيا شريف فيها منسي في الآخرة خامل فيها يجيء يوم القيامة معه لواء الشعراء إلى النار فكل استحسن الحديث ونهض عبد الله بن جعفر ونهض القوم معه فما رأيت مجلسا كان أحسن منه
عمر بن الخطاب يفضل امرأ القيس على غيره من الشعراء قال إسحق حدثني بعض أهل العلم عن ابن عياش عن الشعبي قال
رأيت دغفلا النسابة يحدث أنه رأى العباس بن عبد المطلب سأل عمر بن الخطاب عن الشعراء فقال امرؤ القيس سابقهم خسف لهم عين الشعر فافتقر عن معان عور أصح بصرا قال إسحاق معنى خسف احتفر وهو من كندة من اليمن وليست لهم فصاحة مضر ولا شعرهم بجيد فجعل معاني اليمن معاني عورا وما قاله أصح بصرا أي أجود شعرا ومعنى افتقر احتفر والفقيرة الحفيرة تحفر للفسيلة لتغرس وكل ما ابتدأت حفره فهو فقير والمعنى أنه قال شعرا جيدا وليس هو في معنى شعر مضر
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفي
سمعت أبي يقول دخل جدي على بعض ملوك بني أمية فقال ألا تخبرني عن الشعراء قال بلى قال من أشعر الناس قال ابن العشرين يعني طرفة قال فما تقول في امرىء القيس قال اتخذ الخبيث الشعر نعلين فأقسم بالله لو أدركته لرفعت له ذلاذله قال فما رأيك في ابن
أبي سلمى قال كان يبري الشعر قال فما رأيك في ذي الرمة قال قدر من طريف الكلام وغريبه وحسنه على ما لم يقدر عليه حتى أحد صنف الشعر
معبد ومالك يجتمعان في منزل جميلة أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال حدثني أيوب بن عباية عن رجل من الأنصار قال
زار معبد مالك بن أبي السمح فقال له هل لك أن نصير إلى جميلة فمضيا جميعا فقصداها فأذنت لهما فدخلا فأخرجت إليها رقعة فيها أبيات فقالت لمعبد بعث بهذه الرقعة إلي فلان أغني فيها فقال معبد فابتدئي فابتدأت جميلة فغنت
صوت ( إنما الذَّلْفاءُ همِّي ... فلْيَدَعْنِي من يَلُومُ )
فغنى معبد
( أحسنُ الناسِ جميعاً ... حين تمشي وتقوم )
فغنت جميلة
( حبِّب الذَّلْفاءَ عندي ... مَنْطِقٌ منها رَخيم )
( فغنى معبد
( أَصِلُ الحبلَ لترضَى ... وهي للحبل صَرُومُ )
فغنت جميلة
( حبُّها في القلب داءٌ ... مستكنٌّ لا يَرِيمُ )
طريقة واحدة الشعر للأحوص وذكر ابن النطاح أنه للبختري العبادي والغناء لمعبد وله فيه لحنان خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن ابن المكي وثقيل أول بالوسطى عن عمرو وذكر أحمد بن سعيد المالكي أن له فيه خفيف ثقيل آخر وذكر حماد بن إسحاق أن فيه لمالك وجميلة لحنين وقالت لمعبد ولمالك يغني كل واحد منكما لحنا مما عمله فغناها معبد بشعر قاله فيها الأحوص يصفها به وكان معجبا بها وكانت هي له مكرمة وهو قوله
( شَأَتْكَ المنازلُ بالأبْرَق ... دوارسَ كالعين في المُهْرَقِ )
( لآلِ جَميلةَ قد أَخْلقتْ ... ومَهما يَطُلْ عهدُه يُخْلِقِ )
( فإن يقلِ الناسُ لي عاشقٌ ... فأين الذي هو لم يَعْشَقِ )
( ولم يَبْكِ نُؤْياً على عَبْرةٍ ... بداء الصَّبابة والمَعْلَقِ )
في هذه الأبيات ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى ذكر إسحاق أنه لعطرد وذكر ابن المكي أنه لجميلة وفيها خفيف رمل بالوسطى في مجراها ذكر إسحاق أنه لعطرد أيضا وعمرو وذكر الهشامي أن الثقيل الأول لابن عائشة وذكر حبش أن فيه خفيف ثقيل لمعبد وأن خفيف الرمل لمالك قال معبد فسرت جميلة بما غنيتها به وتبسمت وقالت حسبك يا أبا عباد ولم تكنني قبلها ولا بعدها ثم قالت لمالك يا أخا طيىء هات ما عندك وجنبنا مثل قول عبد ابن قطن فاندفع وغنى بلحن لها وقد تغنى به أيضا معبد لها واللحن
( أَلاَ مَنْ لقلبٍ لا يَمَلُّ فيَذْهَلُ ... أَفِقْ فالتعزِّي عن بُثينةَ أجملُ )
( فما هكذا أحببت مَنْ كان قبلها ... ولا هكذا فيما مضى كنت تفعلُ )
( فإنّ التي أَحْببتَ قد حيلَ دونها ... فكن حازماً والحازم المتحوِّلُ )
لحن جميلة هكذا ثقيل أول بالبنصر وفيه ألحان عدة مع أبيات أخر من القصيدة وهي لجميل فقالت جميلة أحسنت والله في غنائك وفي الأداء عني أما قوله شأتك فأراد بعدت عنك والشأو البعد يقال جرى الفرس شأوا أو شأوين أي طلقا أو طلقين والمهرق الصحيفة بما فيها من الكتابة والجمع مهارق قال ذو الرمة
( كَمُسْتَعْبِرٍ في رَسْم دارٍ كأنَّها ... بوَعْساءَ تَنْضُوها الجماهيرُ مُهْرَقُ )
والعين أن تتعين الإداوة أو القربة التي تخرز ويسيل الماء عن عيون الخرز فشبه ما بقي من الدار بتعين القربة وطرائق خروقها التي ينزل منها الماء شيئا بعد شيء فأما الذلفاء الذي ذكرت فيها فهي التي فتن بها أهل المدينة وقال بعض من كانت عنده بعد ما طلقها
( لا بارَك اللَّهُ في دار عدَدْتُ بها ... طلاقَ ذَلْفاءَ من دارٍ ومن بلدِ )
( فلا يقولَنْ ثلاثاً قائلٌ أبداً ... إني وجدتُ ثلاثاً أنكدَ العدد )
فكان إذا عد شيئا يقول واحد اثنان أربعة ولا يقول ثلاثة
بثينة تبوح لجميلة عن حب جميل لها وعفته وقالت جميلة حدثتني بثينة وكانت صدوقة اللسان جميلة الوجه
حسنة البيان عفيفة البطن والفرج قالت والله ما أرادني جميل رحمة الله عليه بريبة قط ولا حدثت أنا نفسي بذلك منه وإن الحي انتجعوا موضعا وإني لفي هودج لي أسير إذا أنا بهاتف ينشد أبياتا فلم أتمالك أن رميت بنفسي وأهل الحي ينظرون فبقيت أطلب المنشد فلم أقف عليه فناديت أيها الهاتف بشعر جميل ما وراءك منه وأنا أحسبه قد قضى نحبه ومضى لسبيله فلم يجبني مجيب فناديت ثلاثا وفي كل ذلك لا يرد علي أحد شيئا فقال صواحباتي أصابك يا بثينة طائف من الشيطان فقلت كلا لقد سمعت قائلا يقول قلن نحن معك ولم نسمع فرجعت فركبت مطيتي وأنا حيرى والهة العقل كاسفة البال ثم سرنا فلما كان في الليل إذا ذلك الهاتف يهتف بذلك الشعر بعينه فرميت بنفسي فسعيت إلى الصوت فلما قربت منه انقطع فقلت أيها الهاتف ارحم حيرتي وسكن عبرتي بخبر هذه الأبيات فإن لها شأنا فلم يرد علي شيئا فرجعت إلى رحلي فركبت وسرت وأنا ذاهبة العقل وفي كل ذلك لا يخبرني صواحباتي أنهن سمعن شيئا فلما كانت الليلة القابلة نزلنا وأخذ الحي مضاجعهم ونامت كل عين فإذا الهاتف يهتف بي ويقول يا بثينة أقبلي إلي أنبئك عما تريدين فأقبلت نحو الصوت فإذا شيخ كأنه من رجال الحي فسألته عن اسمه وبيته فقال دعي هذا وخذي فيما هو أهم عليك فقلت له وإن هذا لمما يهمني قال اقنعي بما قلت لك قلت له أنت المنشد الأبيات قال نعم قلت فما خبر جميل قال نعم فارقته وقد قضى نحبه وصار إلى حفرته رحمة الله عليه فصرخت صرخة آذنت منها الحي وسقطت لوجهي فأغمي علي فكأن صوتي لم يسمعه أحد وبقيت سائر ليلتي ثم أفقت عند طلوع الفجر وأهلي يطلبونني فلا يقفون على موضعي ورفعت صوتي بالعويل والبكاء ورجعت إلى مكاني فقال لي أهلي ما خبرك وما شأنك فقصصت عليهم القصة فقالوا يرحم الله جميلا واجتمع نساء الحي وأنشدتهن الأبيات فأسعدنني بالبكاء فأقمن كذلك لا يفارقنني ثلاثا وتحزن الرجال أيضا وبكوا ورثوه وقالوا كلهم يC فإنه كان عفيفا
صدوقا فلم أكتحل بعده بإثمد ولا فرقت رأسي بمخيط ولا مشط ولا دهنته إلا من صداع خفت على بصري منه ولا لبست خمارا مصبوغا ولا إزاراً ولا أزال أبكيه إلى الممات قالت جميلة فأنشدتني الشعر كله وهذا الغناء بعضه وهو
( ألا مَنْ لقلبٍ لا يَمَلُّ فيَذْهَلُ ... أَفِقْ فالتعزِّي عن بُثَينَةَ أجملُ )
قال ابن سلام حدثني جرير قال
زار ابن سريج جميلة ليسمع منها ويأخذ عنها فلما قدم عليها أنزلته وأكرمته وسألته عن أخبار مكة فأخبرها وبلغ معبداً الخبر وكانت تطارحه وتسأله عن أخبار مكة فيخبرها وكانت عندها جارية محسنة لبقة ظريفة فابتدأت تطارحها فقال ابن سريج سبحان الله نحن كنا أحق بالابتداء قالت جميلة كل إنسان في بيته أمير وليس للداخل أن يتأمر عليه فقال ابن سريج صدقت جعلت فداءك وما أدري أيهما أحسن أدبك أم غناؤك فقالت له كف يا عبيد فإن النبي قال احثوا في وجوه المداحين التراب فسكت ابن سريج وطارحت الجارية بشعر حاتم الطائي
( أتعرفُ آثارَ الديار توهُّماً ... كَخَطِّك في رَقٍّ كتاباً مُنَمْنما )
( أذاعتْ به الأرواحُ بعد أَنيسها ... شهوراً وأيَّاماً وحَوْلاً مجرَّما )
( فأصبَحْنَ قد غَيَّرْنَ ظاهرَ تُرْبِه ... وغيَّرتِ الأنواءُ ما كان مَعْلَما )
( وغيَّرها طولُ التقادُم والبِلَى ... فما أعرف الأطلالَ إلا توهَّمَا )
قال فحدثت أنه حضر ذلك المجلس جماعة من حذاق أهل الغناء فكلهم قال مزامير داود قال ابن سريج لها أفأسمعك صوتا لي في هذا الشعر قالت هاته فغنى
( ديار التي قامت تُرِيكَ وقد عَفَتْ ... وأَقْوَتْ من الزُّوَّار كَفّاً ومِعْصَمَا )
( تَهَادَى عليها حَلْيُها ذاتَ بهجة ... وكَشْحاً كطَيِّ السابريَّة أَهْضَما )
( فبانتْ لِطيَّاتٍ لها وتبدَّلتْ ... به بَدَلا مَرَّتْ به الطيرُ أَشْؤُما )
وعاذلتانِ هَبَّتا بعد هَجْعةٍ ... تَلُومانِ مِتْلافاً مُفِيداً ملوَّما )
قالت جميلة أحسنت يا عبيد وقد غفرنا لك زلتك لحسن غنائك قال معبد جعلت فداءك أفلا أسمعك أنا ايضا لحنا عملته في هذا الشعر قالت هات وإني لأعلم انك تحسن فاندفع فغنى
( فقلتُ وقد طال العتاب عليهما ... وأَوْعَدتَانِي أن تَبِينَا وتَصْرِمَا )
( ألا لا تَلُومانِي على ما تَقَدَّما ... كَفَى بصُرُوف الدَّهر للمرء مُحْكِما )
( تَلُومانِ لما غَوَّر النجمُ ضَلَّةً ... فَتًى لا يَرى الإنفاقَ في الحقِّ مٌغْرَما )
قالت جميلة ما عدوت الظن بك ولا تجاوزت الطريقة التي أنت عليها قال مالك أفلا أغنيك أنا ايضا قالت ما علمتك إلا تجيد الغناء وتحسن فهات فاندفع فغنى في هذا الشعر
( يضيء لنا البيتُ الظَّلِيلُ خَصَاصُه ... إذا هي ليلاً حاولتْ أن تَبَسَّمَا )
( إذا انقلبتْ فوقَ الحَشِيَّة مَرَّةً ... تَرَنَّمَ وَسْواسُ الحُليِّ ترنُّما )
( ونَحْراً كفَاثُورِ اللُّجَيْنِ يَزِينه ... توقُّدُ ياقوتٍ وشَذْرٍ منَظِّما )
( كجَمْرِ الغَضَى هَبَّتْ به بعد هَجْعةٍ ... من الليل أَرْواحُ الصَّبَا فتنسَّما )
فقالت جميل ما قلت وحسن ما نظمت وإن صوتك يا مالك لمما يزيد العقل قوة والنفس طيبا والطبيعة سهولة وما أحسب أن مجلسنا هذا إلا سيكون علما وفي آخر الزمان متواصفا والخبر ليس كالمشاهدة والواصف ليس كالمعاين وخاصة في الغناء
جميلة تغني ابن أبي عتيق وابن أبي ربيعة والأحوص وحدثني الحسن بن عتبة اللهبي قال حدثني من رأى ابن أبي عتيق وابن أبي ربيعة والأحوص بن محمد الأنصاري وقد أتوا منزل جميلة فاستأذنوا عليها فأذنت لهم فلما جلسوا سألت عمر وأحفت فقال لها إني قصدتك من مكة للسلام عليك فقالت له أهل الفضل أنت قال وقد أحببت أن تفرغي لنا نفسك اليوم وتخلي لنا مجلسك قالت أفعل قال لها الأحوص أحب ألا تغني إلا ما أسألك قالت ليس المجلس لك والقوم شركاؤك فيه قال أجل قال عمر إن ترد أن تفعل ذلك بك يكن قال الأحوص كلا قال عمر فإني أرى أن نجعل الخيار إليها قال ابن أبي عتيق وفقك الله فدعت بالعود وغنت
( تَمْشِي الهُوَينْىَ إذا مشتْ فُضُلاً ... مَشْيَ النَّزِيفِ المخمور في الصُّعُدِ )
( تَظَلُّ من زَوْرِ بيت جارتها ... واضعةً كفَّها على الكَبدِ )
( يا من لقلبٍ متيَّمٍ سَدِمٍ ... عانٍ رهينٍ مكلَّمٍ كَمِدِ )
( أزجُرُه وهو غيرُ مُزْدَجِرٍ ... عنها وطَرْفي مكحَّلُ السَّهَدِ )
فلقد سمعت للبيت زلزلة وللدار همهمة فقال عمر لله درك يا جميلة ماذا أعطيت أنت أول الغناء وآخره ثم سكتت ساعة وأخذوا في الحديث ثم أخذت العود وغنت
( شَطَّتْ سُعَادُ وأَمْسَى البَيْنُ قد أَفِدَا ... وأَوْرثوكَ سَقاماً يَصْدَع الكَبدا )
( لا أستيطع لها هَجْراً ولا تِرَةً ... ولا تَزال أحاديثي بها جُدُدا )
الغناء فيه لسياط خفيف رمل مطلق في مجرى الوسطى عن إسحاق ولم يذكر حبش لحن جميلة وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لحكم الوادي وذكر الهشامي وابن خرداذبة أنه من الحان عمر بن عبد العزيز بن مروان في سعاد وأن طريقته من الثقيل الثاني بالوسطى وذكر إبراهيم أن لابن جامع فيه أيضا صنعة فاستخف القوم أجمعين وصفقوا بأيديهم وفحصوا بأرجلهم وحركوا رؤوسهم وقالوا نحن فداؤك من السوء ووقاؤك من المكروه ما أحسن ما غنيت وأجمل ما قلت وأحضر الغداء فتغدى القوم بأنواع من الأطعمة الحارة والباردة ومن الفاكهة الرطبة واليابسة ثم دعت بأنواع من الأشربة فقال عمر لا أشرب وقال ابن أبي عتيق مثل ذلك فقال الأحوص لكنني اشرب وما جزاء جميلة أن يمتنع من شرابها قال عمر ليس ذلك كما ظننته قالت جميلة من شاء أن يحملني بنفسه ويخلط روحي بروحه شكرناه ومن أبى ذلك عذرناه ولم يمنعه ذلك عندنا ما يريد من قضاء حوائجه والأنس
بمحادثته قال ابن أبي عتيق ما يحسبن بنا إلا مساعدتك قال عمر لا أكون أخسكم افعلوا ما شئتم تجدوني سميعاً مطيعا فشرب القوم أجمعون فغنت صوتا بشعر لعمر
( ولقد قالت لجاراتٍ لها ... كالمَهَا يلعبْنَ في حُجْرَتِها )
خُذْنَ عنِّي الظِّلَّ لا يتبعُني ... ومضتْ تَسْعَى إلى قُبَّتها )
( لم تُعَانِقْ رجلاً فيما مَضَى ... طَفْلةٌ غَيْداءُ في حُلَّتها )
( لم يَطِشْ قَطُّ لها سَهْمٌ ومَنْ ... تَرْمِه لا يَنْجُ من رَمْيتِها )
لم يذكر طريقة لحنها في هذا الصوت وذكر الهشامي أن فيه لابن المكي رملا بالبنصر وذكر علي بن يحيى أن فيه لابن سريج رملا بالوسطى فصاح عمر ويلاه ويلاه ثلاثا ثم عمد إلى جيب قميصه فشقه إلى أسفله فصار قباء ثم آب إليه عقله فندم واعتذر وقال لم أملك من نفسي شيئا قال القوم قد أصابنا كالذي أصابك وأغمي علينا غير أنا فارقناك في تخريق الثياب فدعت جميلة بثياب فخلعتها على عمر فقبلها ولبسها وانصرف القوم إلى منازلهم وكان عمر نازلا على ابن أبي عتيق فوجه عمر إلى جميلة بعشرة آلاف درهم وبعشرة أثواب كانت معه فقبلتها جميلة وانصرف عمر إلى مكة جذلان مسرورا
رافقها الشعراء والمغنون والمغنيات في حجها إلى مكة قال إسحاق وحدثني أبي عن سياط وابن جامع عن يونس قالا حجت جميلة وأخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال حدثني أبي عن سياط وابن جامع عن يونس الكاتب
وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قالوا جميعا
إن جميلة حجت وقد جمعت رواياتهم لتقاربها وأحسب الخبر كله مصنوعا وذلك بين فيه فخرج معها من المغنين مشيعين حتى وافوا مكة ورجعوا معها من الرجال المشهورين الحذاق بالغناء هيت وطويس والدلال وبرد الفؤاد ونومة الضحى وفند ورحمة وهبة الله هؤلاء مشايخ وكلهم طيب الغناء ومعبد ومالك وابن عائشة ونافع بن طنبورة وبديح المليح ونافع الخير ومن المغنيات الفرهة وعزة الميلاء وحبابة وسلامة وخليدة وعقيلة والشماسية وفرعة وبلبلة ولذة العيش وسعيدة والزرقاء ومن غير المغنين ابن أبي عتيق والأحوص وكثير عزة ونصيب وجماعة من الأشراف وكذلك من النساء من مواليها وغيرهن واما سياط فذكر أنه حج معها من القيان مشيعات لها ومعظمات لقدرها ولحقها زهاء خمسين قينة وجه بهن مواليهن معها فأعطوهن النفقات وحملوهن على الإبل في الهوادج والقباب وغير ذلك فأبت جميلة أن تنفق واحدة منهن درهما فما فوقه حتى رجعن وأما يونس فذكر أنه حج معها من الرجال المغنين مع من سمينا زهاء ثلاثين رجلا وتخايروا في اتخاذ أنواع اللباس العجيب الظريف وكذلك في الهوادج والقباب وقيل فيما قال أهل المدينة إنهم ما رأوا مثل ذلك الجمع سفرا طيبا وحسنا وملاحة قالوا ولما
قاربوا مكة تلقاهم سعيد بن مسجح وابن سريج والغريض وابن محرز والهذليون وجماعة من المغنين من أهل مكة وقيان كثير لم يسمين لنا ومن غير المغنين عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد المخزومي والعرجي وجماعة من الأشراف فدخلت جميلة مكة وما بالحجاز مغن حاذق ولا مغنية إلا وهو معها وجماعة من الأشراف ممن سمينا وغيرهم من الرجال والنساء وخرج أبناء أهل مكة من الرجال والنساء ينظرون إلى جمعها وحسن هيئتهم فلما قضت حجها سألها المكيون أن تجعل لهم مجلسا فقالت للغناء أم للحديث قالوا لهما جميعا قالت ما كنت لأخلط جدا بهزل وأبت أن تجلس للغناء فقال عمر بن أبي ربيعة أقسمت على من كان في قلبه حب لاستماع غنائها إلا خرج معها إلى المدينة فإني خارج فعزم القوم الذين سميناهم كلهم على الخروج ومعهم جماعة ممن نشط فخرجت في جمع أكثر من جمعها بالمدينة فلما قدمت المدينة تلقاها أهلها وأشرافهم من الرجال والنساء فدخلت أحسن مما خرجت به منها وخرج الرجال والنساء من بيوتهم فوقفوا على أبواب دورهم ينظرون إلى جمعها وإلى القادمين معها فلما دخلت منزلها وتفرق الجمع إلى منازلهم ونزل أهل مكة على أقاربهم وإخوانهم أتاها الناس مسلمين وما استنكف من ذلك كبير ولا صغير فلما مضى لمقدمها عشرة أيام جلست للغناء فقالت لعمر بن أبي ربيعة إني جالسة لك ولأصحابك وإذا شئت فعد الناس لذلك اليوم فغصت الدار بالأشراف من الرجال والنساء فابتدأت جميلة فغنت صوتا بشعر عمر
( هيهاتَ من أَمَةِ الوَهَّابِ منزلُنا ... إذا حَلَلْنَا بسِيفِ البحر من عَدَنِ )
( واحتلَّ أَهْلُكِ أَجْياداً فليس لنا ... إلا التذكُّر أو حَظٌّ من الحَزَنِ )
( لو أنها أبْصرتْ بالجِزْع عَبْرتَه ... وقد تَغَرَّد قُمْريٌّ على فَنَن )
( إذاً رأتْ غيرَ ما ظَنَّتْ بصاحبها ... وأيْقنتْ أن عَكّاً ليس من وَطَنِي )
( ما أَنْسَ لا أَنْسَ يومَ الخَيْفِ موقفَها ... ومَوْقِفِي وكِلاَنا ثَمَّ ذو شَجَن )
( وقولَها للثُّرَيَّا وهي باكيةٌ ... والدمعُ منها على الخدَّين ذو سُنَنِ )
( باللَّه قُولي له في غير مَعْتَبةٍ ... ماذا أردتَ بطول المُكْثِ في اليَمَنِ )
( إن كنتَ حاولتَ دنيا أو نَعِمْتَ بها ... فما أَصبْتَ بتركِ الحجّ من ثَمَنِ )
فكلهم استحسن الغناء وضج القوم من حسن ما سمعوا ويقال إنهم ما سمعوا غناء قط أحسن من غنائها ذلك الصوت في ذلك اليوم ودمعت عين عمر حتى جرى الدمع على ثيابه ولحيته وإنه ما رئي عمر كذلك في محفل غيره قط ثم أقبلت على ابن سريج فقالت هات فاندفع يغني ورفع صوته بشعر عمر
غناء ابن سريج في مجلسها بشعر عمر بن أبي ربيعة ( أليستْ بالتي قالت ... لمَوْلاةٍ لها ظُهُرا )
( أَشِيري بالسلام له ... إذا هو نحونَا نَظَرا )
( وقُولِي في مُلاطفةٍ ... لزَينبَ نَوِّلي عُمَرا )
( وهذا سِحْرُكَ النِّسْوانَ ... قد خبَّرْنَنِي الخبَرا )
سماعها لعدد كبير من المغنين فسمع من ابن سريج في هذا اللحن من الحسن ما يقال إنه ما سمع مثله ثم قالت لسعيد بن مسجح هات يا أبا عثمان فاندفع فغنى
( قد قلتُ قبل البَيْنِ لمَّا خَشِيتُه ... لتُعْقِبَ وُدّاً أو لتعلمَ ما عندي )
( لكِ الخيرُ هل من مَصْدَرٍ تَصْدُرينَهُ ... يُرِيحُ كما سَهَّلْتِ لي سُبُلَ الوِرْد )
( فلمَّا شكوتُ الحبّ صَدَّتْ كأنَّما ... شَكوتُ الذي أَلْقَى إلى حَجَرٍ صَلْدِ )
( تولَّتْ فأَبْدتْ غُلَّةً دونَ نَقْعِها ... كما أَرْصدتْ من بُخْلِها إذ بَدَا وَجْدي )
فاستحسن ذلك منه وبرع فيه ثم قالت يا معبد هات فغنى
( أحَارِبُ مَنْ حاربتَ من ذي عَداوةٍ ... وأَحْبِس مالي إن غرِمتَ فأَعْقِلُ )
( وإنِّي أخوكَ الدائمُ العهدِ لم أَحُلْ ... إنَ ابْزَاكَ خَصْمٌ أو نبا بكَ منزلُ )
( ستقطعَ في الدنيا إذا ما قطعتَني ... يمينَك فانظرْ أيَّ كفٍّ تَبَدَّلُ )
قالت جميلة أحسنت يا معبد اختيار الشعر والغناء هذا الشعر لمعن بن أوس ثم قالت هات يابن محرز فإني لم أؤخرك لخساسة بك ولا جهلا بالذي يجب في الصناعة ولكنني رأيتك تحب من الأمور كلها أوسطها وأعدلها فجعلتك حيث تحب واسطة بين المكيين والمدنيين فغنى
( وقفتُ برَبْع قد تحمَّل أهلُه ... فأَذْرَيْتُ دمعاً يسبِق الطَّرْفَ هامِلُهْ )
( بسائلة الرَّوْحاءِ أو بَطْن مَثْغَرٍ ... لها الضاحكاتُ الرابياتُ سواهِلُه )
( هو الموتُ إلاَّ أن للموتِ مدَّةً ... متى يَلْقَ يوماً فارِغاً فهو شاغلُهْ )
فقالت جميلة يا أبا الخطاب كيف بدا لك في ثلاثة وأنت لا ترى ذلك قال أحببت أن أواسي معبدا قال معبد والله ما عدوت ما أردت ثم قالت للغريض هات يا مولى العبلات فاندفع يغني
( فوانَدَمِي على الشَّبابِ ووانَدَمْ ... نَدِمتُ وبانَ اليومَ منِّي بغيرِ ذَمّ )
( وإذ إخوتي حَوْلِي وإذ انا شائخٌ ... وإذ لا أُجِيبُ العاذلاتِ من الصَّمَمْ )
( أرادتْ عراراً بالهَوانِ ومن يُرِدْ ... عراراً لعَمْرِي بالهَوانِ فقد ظَلَمْ )
قالت جميلة أحسن عمرو بن شأس ولم تحسن إذ أفسدت غناءك بالتعريض والله ما وضعناك إلا موضعك ولا نقصنا من حظك فبماذا أهناك ثم أقبلت على الجماعة فقالت يا هؤلاء اصدقوه وعرفوه نفسه ليقنع بمكانه فأقبل القوم عليه وقالوا له قد أخطأت إن كنت عرضت فقال قد كان ذلك ولست بعائد وقام إلى جميلة فقبل طرف ثوبها واعتذر فقبلت عذره وقالت له لا تعد ثم أقبلت على ابن عائشة فقالت يا ابا جعفر هات فتغنى بشعر النابغة
( سقَى الغيثُ قبراً بين بُصْرَى وجاسِمٍ ... عليه من الوَسْمِيّ جَوْدٌ ووابِلُ )
( وأَنْبتَ حَوْذاناً وعَوْفاً مُنوِّراً ... سأتْبِعُه من خيرِ ما قال قائلُ )
( بكَى حارثُ الجَوْلانِ من هُلْك ربِّه ... فحَوْرانُ منه خاشعٌ مُتضائلُ )
( وما كان بَيْني لو لَقيتُك سالماً ... وبين الغِنَى إلاَّ ليالٍ قلائلُ )
قالت جميلة حسن ما قلت يا ابا جعفر ثم اقبلت على نافع وبديح فقالت أحبُّ أن تغنياني صوتا واحدا فغنيا جميعا بصوت واحد ولحن واحد
( أَلاَ يا مَنْ يَلُوم على التصابي ... أَفِقْ شيئاً لتسمعَ من جوابِي )
( بَكَرْتَ تَلُومُنِي في الحبِّ جَهْلاً ... وما في حبِّ مثلي من مَعَابِ )
( أليس من السعادةِ غيرَ شَكٍّ ... هَوَى متواصلين على اقترابِ )
( كريمٌ نال وُدّاً في عَفَافٍ ... وسترٍ من مُنعَّمةٍ كَعَابِ )
فقالت جميلة هواكما والله واحد وغناؤكما واحد وأنتما نحتما من بقية الكرم وواحد الشرف عبد الله بن جعفر بن أبي طالب ثم أقبلت على الهذليين الثلاثة فقالت غنوا صوتا واحدا فاندفعوا فغنوا بشعر عنترة العبسي
( حُيِّيتَ من طَلَلٍ تَقَادم عهدُه ... أَقْوَى وأَقْفَر بعد أمِّ الهَيْثَم )
( كيف المَزَارُ وقد تربَّع أهلُها ... بعُنَيْزتَيْن وأهلُنا بالغَيْلَمِ )
( إن كنتِ أَزْمعتِ الفِراقَ فإنما ... زُمَّتْ رِكَابُكُم بلَيْلٍ مُظْلِم )
( شَرِبتْ بماء الدُّحْرُضَيْنِ فَأَصْبحتْ ... زَوْراء تَنْفِر عن حِياضِ الدَّيْلَمِ )
قالت ما رأيت شيئا أشبه بغنائكم من اتفاق أرواحكم ثم أقبلت على نافع بن طنبورة فقالت هات يا نقش الغضار ويا حسن اللسان فاندفع يغني
( يا طُولَ ليلي وبتُّ لم أَنَمِ ... وِسَادِيَ الهَمُّ مُبْطِنٌ سَقَمِي )
( أنْ قمتُ يوماً على البَلاَطِ فَأَبْصَرتُ ... رَقَاشاً وليت لم أَقُمِ )
فقالت جميلة حسن والله ولابن سريج في هذا اللحن أربعة أبيات في صوت ثم قالت يا مالك هات فإني لم أؤخرك لأنك في طبقة آخرهم ولكني أردت أن أختم بك يومنا تبركا بك وكي يكون أول مجلسنا كآخره ووسطه كطرفه وإنك عندي ومعبدا لفي طريقة واحدة ومذهب واحد لا يدفع ذلك إلا ظالم ولا ينكره إلا عاضل الحق أقول فمن شاء فلينكر فسكت القوم كلهم إقرارا لما قالت واندفع يغني
( عدُوٌّ فمن عَادَتْ وسَلْمٌ لِسَلْمِها ... ومن قرَّبتْ سَلْمَى أحبَّ وقَرَّبَا )
( هَبِيني امرَأً إمَّا بريئاً ظلمتِه ... وإمَّا مُسِيئاً تاب بعدُ وأَعْتبا )
( أقول التماسَ العُذْر لمَّا ظلَمْتِنِي ... وحمَّلْتِنِي ذنباً وما كنتُ مُذْنِبَا )
( ليَهْنِئْك إشماتُ العدوّ بهَجْرِنا ... وقَطْعُك حبلَ الوصل حتى تقضَّبا )
قالت جميلة ليت صوتك يا مالك قد دام لنا ودمنا له وقطعت المجلس وانصرف عامة الناس وبقي خواصهم فلما كان اليوم الثاني حضر القوم جميعا فقالت لطويس هات يا أبا عبد النعيم قال فأنكر ما فعلت جميلة في اليوم الأول لأن طويسا لم يكن يرضى بذلك فأخبرني ابن جامع أن جميلة صنفتهم طويسا واصحابه وابن سريج وأصحابه ثم أقرعت بينهم فخرجت القرعة
الأولى لابن سريج وأصحابه والثانية لطويس وأصحابه فابتدأ طويس فغنى
( قد طال لَيْلِي وعاد لي طَرَبي ... من حبِّ خَوْدٍ كريمةِ الحَسَبِ )
( غَرَّاءَ مثلِ الهلال آنسةٍ ... أو مثلِ تِمْثالِ صُورة الذَّهبِ )
( صادت فؤادي بجِيد مُغْزِلةٍ ... تَرْعَى رِيَاضاً ملتفَّةَ العُشُبِ )
فقالت جميلة حسن والله يا أبا عبد النعيم ثم قالت للدلال هات يا أبا يزيد فاندفع فغنى
( قد كنت آمُلُ فيكُم أملاً ... والمرء ليس بمدرَكٍ أَمَلُهْ )
( حتى بَدا لي منكُم خُلُفٌ ... فزجَرْتُ قلبي فارْعَوَى جَهَلُهْ )
( ليس الفتى بمخلَّد أبداً ... حَيّاً وليس بفائتٍ أجلُهْ )
( حَيِّ البَغُومَ ومَنْ بعَقْوتها ... وقَفَا العَمُودِ وإن خَلا أَهَلُهْ )
قالت حسن والله يا أبا يزيد ثم قالت لهيت إنا نجلك اليوم لكبر سنك ورقة عظمك قال أجل يا ماما ثم قالت لبرد الفؤاد ونومة الضحى هاتيا جميعا لحنا واحدا فغنيا
( إني تذكَّرتُ فلا تَلْحَني ... لؤلؤةً مكنونةً تَنْطِقُ )
مسكنُها طَيْبةُ لم يَغْذُها ... بؤسٌ ولا والٍ بها يَخْرُقُ )
( قد قلت والعِيسُ سِراعٌ بنا ... تُرْقِلُ إرقالاً وما تُعْنِقُ )
( يا صاحبي شَوْقي أَرَى قاتلي ... ومُورِدِي منها جَوىً يُقْلِقُ )
قالت جميلة أحسنتما ثم قالت لفند ورحمة وهبة الله هاتوا جميعا صوتا واحدا فإنكم متفقون في الأصوات والألحان فاندفعوا فغنوا
( أشاقكَ من نحو العَقيق بُروقُ ... لموامعُ تَخْفَى تارة وتَشُوقُ )
( وما لِيَ لا أَهْوَى جواريَ بَرْبَرٍ ... وروُحي إلى أَرْواحِهن تَتُوق )
( لهنّ جمال ٌ فائقٌ ومَلاحةٌ ... ودَلٌ على دَلِّ النساء يَفوقُ )
وكان بربر حاضرا فقال جواري والله على ما وصفتم فمن شاء أقر ومن شاء انكر فقالت جميلة صدق ثم غنت جميلة بشعر الأعشى ولمعبد فيه صوت أخذه عنها
( بانت سُعَادُ وأَمْسَى حبلُها انقطعا ... واحتلَّتِ الغَوْر فالجَدَّيْنِ فالفَرَعَا )
( واستنكرتْني وما كان الذي نَكِرَتْ ... من الحوادثِ إلا الشَّيْبَ والصَّلَعَا )
( تقول بِنْتي وقد قَرَّبْتُ مرتحلاً ... يا ربِّ جَنِّبْ أبي الأَوْصابَ والوَجَعَا )
( وكان شيءٌ إلى شيء فغيَّره ... دهرٌ مُلِحٌّ على تفريق ما جَمعا )
فلم يسمع شيء أحسن من ابتدائنا بالأمس وختمها في اليوم الثاني وقطعت المجلس فانصرف القوم واقام آخرون فلما كان اليوم الثالث اجتمع الناس فضربت ستارة وأجلست الجواري كلهن فضربن وضربت فضربن على خمسين وترا فتزلزلت الدار ثم غنت على عودها وهن يضربن على ضربها بهذا الشعر
( فإن خَفِيَتْ كانت لعينك قُرَّةً ... وإن تَبْدُ يوماً لم يُعمِّمْك عارُها )
( من الخَفِراتِ البِيضِ لم تَرَ غِلْظَةً ... وفي الحَسَبِ الضَّخْم الرَّفَيع نِجَارُها )
( فما رَوْضةٌ بالحَزْنِ طيِّبةُ الثَّرَى ... يَمُجُّ النَّدَا جَثْجاثُها وعَرارُها )
( بأطيبَ من فيها إذا جئتَ طارقاً ... وقد أوقِدتْ بالمَنْدَل الرَّطْبِ نارُها )
فدمعت أعين كثير منهم حتى بل ثوبه وتنفس الصعداء وقال بنفسي أنت يا جميلة ثم قالت للجواري أكففن فكففن وقالت يا عزة غني فغنت بشعر لعمر
( تذكَّرتَ هنداً وأَعْصارَها ... ولم تَقْضِ نفسُك أوطارَها )
( تذكَّرتِ النفسُ ما قد مَضَى ... وهاجتْ على العينِ عُوَّارَها )
( لتمنحَ رامةَ منَّا الهوى ... وتَرْعَى لرامةَ أسرارَها )
( إذا لم نَزُرْها حِذارَ العِدَا ... حَسَدْنا على الزَّوْرِ زُوَّارَها )
فقالت جميلة يا عزة إنك لباقية على الدهر فهنيئا لك حسن هذا الصوت مع جودة هذا الغناء ثم قالت لحبابة وسلامة هاتيا لحنا واحدا فغنتا
( كَفَى حَزَناً أني أَغِيبُ وتَشْهَدُ ... وما نَلْتَقِي والقلبُ حَرَّانُ مُقْصدُ )
( ومن عَجَبٍ أنِّي إذا الليلُ جَنَّنِي ... أقوم من الشوق الشديد وأقعُد )
( أَحِنُّ إليكم مثلَ ما حَنَّ تائقٌ ... إلى الوِرْد عَطْشانُ الفؤاد مصرَّدُ )
( ولي كَبِدٌ حَرَّى يعذِّبها الهَوَى ... ولي جسدٌ يَبْلَى ولا يتجدَّدُ )
فاستحسن غناؤهما ثم أقبلت على خليدة فقالت لها بنفسي أنت غني فغنت
( أَلاَ يا مَنْ يَلُوم على التَّصابي ... أَفِقْ شيئاً لتسمعَ من جوابِي )
( بَكرْتَ تَلُومُنِي في الحبّ جَهْلاً ... وما في حبِّ مثلي من مَعَابِ )
( أليس من السعادة غيرَ شَكٍّ ... هَوَى مُتواصلين على اقترابِ )
( كريمٌ نال وُدّاً في عَفَافٍ ... وسَتْرٍ من منعَّمةٍ كَعَابِ )
فاستحسن منها ما غنت وهو بلحنها حسن جدا ثم قالت لعقيلة والشماسية هاتيا فغنتا
( هجرتِ الحبيبَ اليومَ في غير ما اجتَرَمْ ... وقطَّعْتِ من ذي وُدّكِ الحبلَ فانصرمْ )
( أطعت الوُشاةَ الكاشحين ومن يُطِعْ ... مقالةَ واش يَقْرَع السنِّ من نَدَمْ )
ثم قالت لفرعة وبلبلة ولذة العيش هاتين فغنين فاندفعن بصوت واحد
( لعَمْرِي لئن كان الفؤادُ من الهوى ... بَغَى سَقَماً إنِّي إذاً لسَقِيمُ )
( عليّ دِماءُ البُدْنِ إن كان حبُّها ... على النأي في طول الزمانَ يَرِيمُ )
( تُلِمُّ مُلِمَّاتٌ فيُنْسَيْنَ بَعْدَها ... ويُذْكَر منها العهدُ وهو قديمُ )
( فأُقْسِمُ ما صافيتُ بعدكِ خُلَّةً ... ولا لكِ عندي في الفؤاد قَسِيمُ )
قالت أحسنتن وهو لعمري حسن وقالت لسعدة والزرقاء غنيا فغنتا
( قد أرسلوني يُعَزُّونِي فقلتُ لهم ... كيف العَزَاءُ وقد سارتْ بها الرُّفَقُ )
( اسْتَهْدَتِ الرِّيمَ عينيه فجادلها ... بمُقْلَتَيْه ولم تُتْرَكْ له عُنُقُ )
فاستحسن ذلك ثم قالت للجماعة فغنوا وانقضى المجلس وعاد كل إنسان إلى وطنه فما رئي مجلس ولا جمع أحسن من اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث
وحدثتني عمتي وكانت أسن من أبي وعمرت بعده قالت كان السبب في طلب أبيك الغناء والمواظبة عليه لحنا سمعه لجميلة في منزل يونس بن محمد الكاتب فانصرف وهو كئيب حزين مغموم لم يطعم ولم يقبل علينا بوجهه كما كان يفعل فسألته عن السبب فأمسك فألححت عليه فانتهرني وكان لي مكرما فغضبت وقمت من ذلك المجلس إلى بيت آخر فتبعني وترضاني وقال لي أحدثك ولا كتمان منك عشقت صوتا لامرأة قد ماتت فأنا بها وبصوتها هائم إن لم يتداركني الله منه برحمته فقالت أتظن أن الله يحيي لك ميتا قال بل لا أشك قالت فما تعليقك قلبك بما لا يعطاه إلا نبي ولا نبي بعد محمد وأما عشقك الصوت فهو أن تحذقه وتغنيه عشر مرار فتمله ويذهب عشقك له فكأنه ارعوى ورجع إلى نفسه وقام فقبل رأسي ويدي ورجلي وقال لي فرّجت عني ما كنت فيه من الكرب والغم ثم تمثل حبك الشيء يعمي ويصم ولزم بيت يونس حتى حذق الصوت ولم يمكث إلا زمنا يسيرا حتى مات يونس وانضم إلى سياط وكان من أحذق أهل زمانه بالغناء وأحسنهم أداء عمن مضى قالت عمتي فقلت لإبراهيم وما الصوت فأنشدني الشعر ولم يحسن أداء الغناء
( من البَكَراتِ عِراقيَّةٌ ... تُسَمَّى سُبَيعةَ أَطْريْتُها )
( من آلِ أبي بَكْرةَ الأكرمين ... خَصَصْتُ بودِّي فأصْفيتُها )
( ومن حبّها زرتُ أهلَ العراق ... وأَسْخَطْتُ أهلي وأرضيْتُها )
( أموتُ إذا شَحَطَتْ دارُها ... وأَحْيا إذا أنا لاقيتُها )
فأُقْسِم لو أن ما بي بها ... وكنتُ الطبيبَ لداويتُها )
قالت عمتي هذا شعر حسن فكيف به إذا قطع ومدد تمديد الأطربة
وضرب عليها بقضبان الدفلى على بطون المعزى فما مضت الأيام والليالي حتى سمعت اللحن مؤدى فما خرق مسامعي شيء قط أحسن منه ولقد أذكرني بما يؤثر من حسن صوت داود وجمال يوسف فبينا أنا يوما جالسة إذ طلع علي إبراهيم ضاحكا مستبشرا فقال لي ألا أحدثك بعجب قلت وما هو قال إن لي شريكا في عشق صوت جميلة قلت وكيف ذلك قال كنت عند سياط في يومنا هذا وأنا أغنيه الصوت وقد وقفني فيه على شيء لم أكن أحكمته عن يونس وحضر عند سياط شيخ نبيل فسبح على الصوت تسبيحا طويلا فظننت أنه فعل ذلك لاستحسانه الصوت فلما فرغت أنا وسياط من اللحن قال الشيخ ما أعجب أمر هذا الشعر وأحسن ما غني به وأحسن ما قال قائله فقلت له دون القوم وما بلغ من العجب به قال نعم
غنت بشعر عمر بن أبي ربيعة في سبيعة أجمل النساء حجَّت سبيعة من ولد عبد الرحمن بن أبي بكرة وكانت من أجمل النساء فأبصرها عمر بن أبي ربيعة فلما انحدرت إلى العراق اتبعها يشيعها حتى بلغ معها موضعا يقال له الخورنق فقالت له لو بلغت إلى أهلي وخطبتني لزوجوك فقال لها ما كنت لأخلط تشييعي إياك بخطبة ولكن أرجع ثم آتيكم خاطبا فرجع ومر بالمدينة فقال فيها
( من البَكَراتِ عِراقيَّةٌ ... تُسمَّى سُبَيعةَ أطريْتُها )
ثم أتى بيت جميلة فسألها أن تغني بهذا الشعر ففعلت فأعجبه ما سمع من حسن غنائها وجودة تأليفها فحسن موقع ذلك منه فوجه إلى بعض موالياته ممن كانت تطلب الغناء أن تأتي جميلة وتأخذ الصوت منها فطارحتها إياه أياما حتى حذقت ومهرت به فلما رأى ذلك عمر قال أرى أن تخرجي إلى سبيعة
وتغنيها هذا الصوت وتبلغيها رسالتي قالت نعم جعلني الله فداك فأتتها فرحبت بها وأعلمتها الرسالة فحيت وأكرمت ثم غنتها فكادت أن تموت فرحا وسرورا لحسن الغناء والشعر ثم عادت رسول عمر فأعلمته ما كان وقالت له إنها خارجة في تلك السنة فلما كان أوان الحج استأذنت سبيعة أباها في الحج فأبى عليها وقال لها قد حججت حجة الإسلام قالت له تلك الحجة هي التي أسهرت ليلي وأطالت نهاري وتوقتني إلى أن أعود وأزور البيت وذلك القبر وإن أنت لم تأذن لي مت كمدا وغما وذلك أن بقائي إنما كان لحضور الوقت فإن يئست فالموت لا شك نازل بي فلما رأى ذلك أبوها رق لها وقال ليس يسعني منعها مع ما أرى بها فأذن لها ووافى عمر المدينة ليعرف خبرها فلما قدمت علم بذلك وسألها أن تأتي منزل جميلة وقد سبق إليه عمر فأكرمتها جميلة وسرت بمكانها فقالت لها سبيعة جعلني الله فداك اقلقني وأسهرني صوتك بشعر عمر في فأسمعيني إياه قالت جميلة وعزازة لوجهك الجميل فغنتها الصوت فأغمي عليها ساعة حتى رش على وجهها الماء وثاب إليها عقلها ثم قالت أعيدي علي فأعادت الصوت مرار في كل مرة يغشى عليها ثم خرجت إلى مكة وخرج معها فلما رجعت مرت بالمدينة وعمر معها فأتت جميلة فقالت لها أعيدي علي الصوت ففعلت وأقامت عليها ثلاثا تسألها أن تعيد الصوت فقالت لها جميلة إني أريد أن أغنيك صوتا فاسمعيه قالت هاتيه يا سيدتي فغنتها
( أبتِ المليحةُ أن تُوَاصلَني ... وأظنُّ أني زائرٌ رَمْسِي )
( لا خيرَ في الدنيا وزِينتِها ... ما لم تُوَافِقْ نفسُها نفسِي )
( لا صبرَ لي عنها إذا حسَرتْ ... كالبدر أو قَرْنٍ من الشمس )
( ورمتْ فؤادَك عند نظرتها ... بمَلاحةِ الإيثار والأنْس )
قالت سبيعة لولا أن الأول شعر عمر لقدمت هذا على كل شيء سمعته فقال عمر فإنه والله أحسن من ذلك فأما الشعر فلا قالت جميلة صدقت
والله قالت عمتي قال لها أبي لعمري إن ذلك على ما قالا
ولابن سريج في هذا الشعر لحن عن جميلة وربما حكي بزيادة أو نقصان أو مثلاً بمثل
شيخ يثنيها عن عزمها اعتزال الغناء أخبرني من يفهم الغناء قال
بلغني أن جميلة قعدت يوما على كرسي لها وقالت لآذنتها لا تحجبي عنا أحداً اليوم واقعدي بالباب فكل من يمر بالباب فاعرضي عليه مجلسي ففعلت ذلك حتى غصت الدار بالناس فقالت جميلة اصعدوا إلى العلالي فصعدت جماعة حتى امتلأت السطوح فجاءتها بعض جواريها فقالت لها يا سيدتي إن تمادى أمرك على ما أرى لم يبق في دارك حائط إلا سقط فأظهري ما تريدين قالت اجلسي فلما تعالى النهار واشتد الحر استسقى الناس الماء فدعت لهم بالسويق فشرب من أراد فقالت أقسمت على كل رجل وامرأة دخل منزلي إلا شرب فلم يبق في سفل الدار ولا علوها أحد إلا شرب وقام على رؤوسهم الجواري بالمناديل والمراوح الكبار وأمرت جواريها فقمن على كراسي صغار فيما بين كل عشرة نفر جارية تروح ثم قالت لهم إني قد رأيت في منامي شيئا أفزعني وأرعبني ولست أعرف ما سبب ذلك وقد خفت أن يكون قرب أجلي وليس ينفعني إلا صالح عملي وقد رأيت أن أترك الغناء كراهة أن يلحقني منه شيء عند ربي فقال قوم منهم وفقك الله وثبت عزمك وقال آخرون بل لا حرج عليك في الغناء وقال شيخ منهم ذو سن وعلم وفقه وتجرية قد تكلمت الجماعة وكل حزب بما لديهم فرحون ولم أعترض عليهم في قولهم ولا شركتهم في رأيهم فاستمعوا الآن لقولي
وأنصتوا ولا تشغبوا إلى وقت انقضاء كلامي فمن قبل قولي فالله موفقه ومن خالفني فلا بأس عليه إذ كنت في طاعة ربي فسكت القوم جميعا فتكلم الشيخ فحمد الله وأثنى عليه وصلى على محمد النبي ثم قال يا معشر أهل الحجاز إنكم متى تخاذلتم فشلتم ووثب عليكم عدوكم وظفر بكم ولا تفلحوا بعدها أبدا إنكم قد انقلبتم على أعقابكم لأهل العراق وغيرهم ممن لا يزال ينكر عليكم ما هو وارثه عنكم لا ينكره عالمكم ولا يدفعه عابدكم بشهادة شريفكم ووضيعكم يندب إليه كما يندب جموعكم وشرفكم وعزكم فأكثر ما يكون عند عابدكم فيه الجلوس عنه لا للتحريم له لكن للزهد في الدنيا لأن الغناء من أكبر اللذات وأسر للنفوس من جميع الشهوات يحيي القلب ويزيد في العقل ويسر النفس ويفسح في الرأي ويتيسر به العسير وتفتح به الجيوش ويذلل به الجبارون حتى يمتهنوا أنفسهم عند استماعه ويبرىء المرضى ومن مات قلبه وعقله وبصره ويزيد أهل الثروة غنى وأهل الفقر قناعة ورضا باستماعه فيعزفون عن طلب الأموال من تمسك به كان عالما ومن فارقه كان جاهلا لأنه لا منزلة أرفع ولا شيء أحسن منه فكيف يستصوب تركه ولا يستعان به على النشاط في عبادة ربنا عز و جل وكلام كثير غير هذا ذهب عن المحدث به فما رد عليه أحد ولا أنكر ذلك منهم بشر وكل عاد بالخطأ على نفسه وأقر بالحق له ثم قال لجميلة أوعيت ما قلت ووقع من نفسك وما ذكرت قالت أجل وأنا أستغفر الله قال لها فاختمي مجلسنا وفرقي جماعتنا بصوت فقط فغنت
( أفي رسمِ دارٍ دمعُك المترقرِقُ ... سَفَاهاً وما استنطاقُ ما ليس يَنْطِقُ )
( بحيثُ التقَى جَمْعٌ وأَقْصَى مُحَسِّرٍ ... مَغَانِيه قد كادتْ عن العهد تَخْلُقُ )
( مُقامٌ لنا بعد العِشاء ومنزلٌ ... به لم يكدِّرْه علينا مُعَوِّق )
( فأحسنُ شيء كان أوَّلُ ليلنا ... وآخرهُ حزنٌ إذا نتفرَّق )
فقال الشيخ حسن والله أمثل هذا يترك فيم يتشاهد الرجال لا والله ولا كرامة لمن خالف الحق ثم قام وقام الناس معه وقال الحمد لله الذي لم يفرق جماعتنا على اليأس من الغناء ولا جحود فضيلته وسلام عليك ورحمة الله يا جميلة
وصف مجلس آخر لها وقال أبو عبد الله جلست جميلة يوما ولبست برنسا طويلا وألبست من كان عندها برانس دون ذلك وكان في القوم ابن سريج وكان قبيح الصلع قد اتخذ وفرة شعر يضعها على رأسه وأحبت جميلة أن ترى صلعته فلما بلغ البرنس إلى ابن سريج قال دبرت علي ورب الكعبة وكشف صلعته ووضع القلنسية على رأسه وضحك القوم من قبح صلعته ثم قامت جميلة ورقصت وضربت بالعود وعلى رأسها البرنس الطويل وعلى عاتقها بردة يمانية وعلى القوم أمثالها وقام ابن سريج يرقص ومعبد والغريض وابن عائشة ومالك وفي يد كل واحد منهم عود يضرب به على ضرب جميلة ورقصها فغنت وغنى القوم على غنائها
( ذهب الشبابُ وليتَه لم يَذْهبِ ... وعَلاَ المَفَارِقَ وَقْعُ شيبٍ مُغْرَب )
( والغانياتُ يُرِدْنَ غيرَك صاحباً ... ويَعِدْنَكَ الهِجْرانَ بعد تقرُّب )
( إنِّي أقولُ مقالةً بتجارِبٍ ... حقّاً ولم يُخْبِرْكَ مثلُ مجرِّب )
( صَافِ الكريمَ وكُنْ لعِرْضِكَ صائناٍ ... وعن اللَّئيم ومِثْلِه فتَنَكَّبِ )
ثم دعت بثياب مصبغة ووفرة شعر مثل وفرة ابن سريج فوضعتها على رأسها ودعت للقوم بمثل ذلك فلبسوا ثم ضربت بالعود وتمشت وتمشى القوم خلفها وغنت وغنوا بغنائها بصوت واحد
( يَمْشِينَ مَشْيَ قَطَا البِطاحِ تَأَوُّداً ... قُبَّ البطون رواجحَ الأكفال )
( فيهنّ آنسةُ الحديثِ حَيِيَّةٌ ... ليست بفاحشةٍ ولا مِتْفالِ )
( وتكون رِيقتُها إذا نَبَّهْتَها ... كالمسك فوق سُلاَفة الجِرْيالِ )
ثم نعرت ونعر القوم طربا ثم جلست وجلسوا وخلعوا ثيابهم ورجعوا إلى زيهم وأذنت لمن كان ببابها فدخلوا وانصرف المغنون وبقي عندها من يطارحها من الجواري
وحدثتني عمتي قالت سمعت سياطا يحدث أباك يوما بأحاديث جميلة فقال بنفسي هي وأمي فما كان أحسن وجهها وخلقها وغناءها ما خلفت النساء مثلها شبيها فأعجبني ذلك ثم قال سياط جلست جميلة يوما للوفادة عليها وجعلت على رؤوس جواريها شعوراً مسدلة كالعناقيد إلى أعجازهن وألبستهن أنواع الثياب المصبغة ووضعت فوق الشعور التيجان وزينتهن بأنواع الحلي ووجهت إلى عبد الله بن جعفر تستزيره وقالت لكاتب أملت عليه بأبي أنت وأمي قدرك يجل عن رسالتي وكرمك يحتمل زلتي وذنبي لا تقال عثرته ولا تغفر حوبته فإن صفحت فالصفح لكم معشر أهل البيت يؤثر والخير والفضل كله فيكم مدخر ونحن العبيد وأنتم الموالي فطوبى لمن كان لكم مقاربا وإلى وجوهكم ناظرا وطوبى لمن كان لكم مجاوراً وبعزكم
قاهراً وبضيائكم مبصراً والويل لمن جهل قدركم ولم يعرف ما أوجبه الله على هذا الخلق لكم فصغيركم كبير بل لا صغير فيكم وكبيركم جليل بل الجلالة التي وهبها الله عز و جل للخلق هي لكم ومقصورة عليكم وبالكتاب نسألك وبحق الرسول ندعوك إن كنت نشيطا لمجلس هيأته لك لا يحسن إلا بك ولا يتم إلا معك ولا يصلح أن ينقل عن موضعه ولا يسلك به غير طريقه فلما قرأ عبد الله الكتاب قال إنا لنعرف تعظيمها لنا وإكرامها لصغيرنا وكبيرنا وقد علمت أنها قد آلت ألية ألا تغني أحدا إلا في منزلها وقال للرسول والله قد كنت على الركوب إلى موضع كذا وكان في عزمي المرور بها فأما إذا وافق ذلك مرادها فإني جاعل بعد رجوعي طريقي عليها فلما صار إلى بابها أدخل بعض من كان معه إليها وصرف بعضهم فنظر إلى ذلك الحسن البارع والهيئة الباذة فأعجبه ووقع في نفسه فقال يا جميلة لقد أوتيت خيرا كثيرا ما أحسن ما صنعت فقالت يا سيدي إن الجميل للجميل يصلح ولك هيأت هذا المجلس فجلس عبد الله بن جعفر وقامت على رأسه وقامت الجواري صفين فأقسم عليها فجلست غير بعيد ثم قالت يا سيدي ألا أغنيك قال بلى فغنت
( بَنِي شَيْبةِ الحمدِ الَّذي كان وجهُه ... يُضيء ظلامَ اللَّيلِ كالقمر البَدْرِ )
( كُهُولُهُم خيرُ الكهولِ ونَسْلُهم ... كنسل الملوكِ لا يَبُورُ ولا يجري )
( أبو عُتْبةَ المُلْقي إليك جَمَالَه ... أغرُّ هِجانُ اللَّوْن من نَفَر زُهْرِ )
( لِساقِي الحجيج ثم للخَيْرِ هاشمٍ ... وعبدِ منافٍ ذلك السيِّدِ الغَمْرِ )
( أبوكم قُصَيٌّ كان يُدْعَى مُجَمِّعاً ... به جمَّع الله القبائلَ من فِهْرِ )
فقال عبد الله أحسنت يا جميلة وأحسن حذافة ما قال بالله أعيديه علي فأعادته فجاء الصوت أحسن من الارتجال ثم دعت لكل جارية بعود وأمرتهن بالجلوس على كراسي صغار قد أعدتها لهن فضربن وغنت عليهن هذا الصوت وغنى جواريها على غنائها فلما ضربن جميعا قال عبد الله ما ظننت أن مثل هذا يكون وإنه لمما يفتن القلب ولذلك كرهه كثير من الناس لما علموا فيه ثم دعا ببغلته فركبها وانصرف إلى منزله وقد كانت جميلة أعدت طعاما كثيراً وكان أراد المقام فقال لأصحابه تخلفوا للغداء فتغدوا وانصرفوا مسرورين وهذا الشعر لحذافة بن غانم بن عبيد الله بن عويج بن عدي بن كعب يمدح به عبد المطلب
أنزلت العرجي على الأحوص بعد فراره من مكة قال وحدثني بعض المكيين قال
كان العرجي وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان شاعرا سخيا شجاعا أديبا ظريفا ويشبه شعره بشعر عمر بن ابي ربيعة والحارث بن خالد بن هشام وإن كانا قدما عليه وقد نسب كثير من شعره إلى شعرهما وكان صاحب صيد فخرج يوما متنزهاً من مكة ومعه جماعة من غلمانه ومواليه ومعه كلابه وفهوده وصقوره وبوازيه نحو الطائف إلى مال له بالعرج وبهذا الموضع سمي
العرجي فجرى بينه وبين مولى لبني أمية كلام فأمضه المولى فكف عنه العرجي حتى أوى إلى منزله ثم هجم عليه ومعه غلمانه فأمرهم أن يوثقوه ثم أمرهم أن ينكحوا امرأته وهو يراهم ففعلوا ثم أخرجه فقتله فبلغ أمير مكة ما فعل فطلبه فخرج من منزله وأخرج معه غلمانه ومواليه وآلة الصيد وتوجه نحو المدينة وقد ركب أفراسه وأعد عدته فلم يزل يتصيد ويقصف في طريقه حتى دخل المدينة ليلا وأراد المقام في منزل جميلة وكانت آلت ألا تغني بشعره ولا تدخله منزلها لكثرة عبثه وسفهه وحداثة سنه فلما أعلمت بمكانه ليلا قالت طارق إن له لشأنا فاستخبرت خبره فقيل لها إنه قدم مستخفيا ولم ير بالمدينة موضعا هو أطيب له من منزلك والأيمان تكفر والأشراف لا يردون فقالت لرسولها إليه منزلي منزل جوار ولا يمكن مثلك الاستخفاء فيه فعليك بالأحوص وكان الأحوص مجانبا له لشيء جرى بينه وبينه في منزل جميلة فقال أنى لي بالأحوص مع الذي كان بيننا قالت ائته عني وقل له قد غنَّينا بذلك الشعر فإن أحببت أن تظهر وتبقى مودتنا لك فأصلح ما بينك وبين عبد الله إذ أصلح ما بيننا وأنزله منزلك قال لها ليس هذا بمقنعي أما إذ أبيت أن أقيم بمنزلك فوجهي معي رسولا إلى الأحوص فإن منزله أحب المنازل إلي بعد منزلك فوجهت معه إلى الأحوص بعض مولياتها فأنزله الأحوص وأكرمه وأحسن جواره وستر أمره فقال شعرا ووجه به إلى جميلة
( أَلاَ قاتَل اللَّه الهَوَى كيف أخلَقَا ... فلم تُلْفِهِ إلآَّ مَشُوباً مُمَذَّقَا )
( وما من حبيبٍ يستزير حبيبَه ... يُعاتبه في الودّ إلا تَفَرَّقا )
( أَمَرَّ وصالُ الغانياتِ فأصبحت ... مَضَاضتُه يشجَى بها مَنْ تَمَطَّقا )
( تعلَّق هذا القلبُ للحَيْن مَعْلَقاً ... غَزَالاً تحلَّى عِقْدَ دُرٍّ ويَارَقا )
( إذا قلتُ مهلاً للفؤاد عن الَّتي ... دعتْك إليها العينُ أغضَى وأطْرَقا )
( دعانَا فلم نَسْتَبْقِ حُبّاً بما نَرَى ... فما منك هذا العذلُ إلا تَخرُّقا )
( فقد سنّ هذا الحبَّ مَنْ كان قبلَنا ... وقاد الصِّبَا المرءَ الكريمَ فأعنقَا )
فلما قرأت شعره رقت له وقالت كيف لي بإيلائي ألاَّ يدخل منزلي ولا أغنيه بشعره فقيل لها يدخل منزلك وتغنين وتكفرين عن يمينك فوجهت إليه أن صر إلينا والأحوص في تلك الليلة فجاءاها وعرفت الأحوص تكفير اليمين فقال لها وأنا والله شفيعه إليك ففرجي ما به من غم فقد فارق من يحب ويهوى فتؤنسينه وتسرينه وتغنينه بشعره فغنت
( أَلاَ قاتَلَ اللَّهُ الهَوَى كيف أخلقَا ... فلم تُلْفِهِ إلاَّ مشوباً مُمَذَّقا )
إعجاب الأحوص بها ودعوتها له في مجلس خاص وحدثني بعض أهلنا قال قال يونس بن محمد
كان الأحوص معجبا بجميلة ولم يكن يكاد يفارق منزلها إذا جلست فصار إليها يوما بغلام جميل الوجه يفتن من رآه فشغل أهل المجلس وذهبت اللحون عن الجواري وخلطن في غنائهن فأشارت جميلة إلى الأحوص أن أخرج الغلام فالخلل قد عم مجلسي وأفسد علي أمري فأبى الأحوص وتغافل وكان بالغلام معجبا فآثر لذته بالنظر إلى الغلام مع السماع ونظر الغلام إلى الوجوه الحسان من الجواري ونظرن إليه وكان مجلسا عاما فلما خافت عاقبة المجلس وظهور أمره أمرت بعض من حضر بإخراج الغلام فأخرج وغضب الأحوص وخرج مع الغلام ولم يقل شيئا فأحمد أهل المجلس ما كان من جميلة وقال لها بعضهم هذا كان الظن بك أكرمك الله فقالت إنه
والله ما استأذنني في المجيء به ولا علمت به حتى رأيته في داري ولا رأيت له وجها قبل ذلك وإنه ليعز علي غضب الأحوص ولكن الحق أولى وكان ينبغي له ألا يعرض نفسه وإياي لما نكره مثله فلما تفرق أهل المجلس بعثت إليه الذنب لك ونحن منه برءاء إذ كنت قد عرفت مذهبي فلم عرضتني للذي كان فقد ساءني ذلك وبلغ مني ولكن لم أجد بدا من الذي رأيت إما حياء وإما تصنعا فرد عليها ليس هذا لك بعذر إن لم تجعلي لي وله مجلسا نخلو فيه جميعا تمحين به ما كان منك قالت أفعل ذلك سرا قال الأحوص قد رضيت فجاءاها ليلا فأكرمتهما ولم تظهر واحدة من جواريها على ذلك إلا عجائز من مواليها وسألها الأحوص وأقسم عليها أن تغنيه من شعره
( وبالقَفْر دارٌ من جميلةَ هيجتْ ... سوالفَ حُبٍّ في فؤادِكَ مُنْصِبِ )
( وكانت إذا تنأى نَوًى أو تفرَّقتْ ... شِدَادُ الهَوَى لم تدرِ ما قولُ مِشْغَبِ )
( أسِيلةُ مَجْرَى الدمعِ خُمْصانةُ الحَشَا ... بَرُودُ الثَّنايا ذاتُ خَلْقٍ مُشَرْعَبِ )
( ترى العينُ ما تهوَى وفيها زيادةٌ ... من الحسنِ إذ تبدو ومَلْهًى لمُلْعِبِ )
قال يونس ما لها صوت أحسن منه وابن محرز يغنيه وعنها أخذه وأنا أغنيه فتعجبني نفسي ويدخلني شيء لا أعرفه من النخوة والتيه وقال المحدث لي بهذا الحديث عن يونس إن هذا للأحوص في جميلة والذي عندي أنه لطفيل
الغنوي قاله في ابن زيد الخيل وهو زيد بن المهلهل بن المختلس بن عبد رضا أحد بني نبهان ونبهان لقب له ولكنه سودان بن عمرو بن الغوث بن طيىء أغار على بني عامر فأصاب بني كلاب وبني كعب واستحر القتل في غني بن أعصر ومالك بن أعصر وأعصر هو الدخان ولذلك قيل لهما ابنا دخان وأخوهما الحارث وهو الطفاوة وهو مالك بن سعد بن قيس بن عيلان وغطفان بن سعد عمهم وكانت غني مع بني عامر في دارهم موالي لنمير وكان فيهم فرسان وشعراء ثم إن غنيا أغارت على طيىء وعليهم سيار بن هريم فقال في ذلك قصيدته الطويلة
( وبالقفر دارٌ من جميلة هيَّجتْ ... سوالفَ شوقٍ في فؤادك مُنْصِبِ )
وحدثني ايوب بن عباية قال
كان عمرو بن أحمر بن العمرد بن عامر بن عبد شمس بن فراص بن معن بن مالك بن أعصر بن قيس بن عيلان بن مضر من شعراء الجاهلية المعدودين وكان ينزل الشام وقد أدرك الإسلام وأسلم وقال في الجاهلية والإسلام شعراً كثيراً وفي الخلفاء الذين أدركهم عمر بن الخطاب فمن دونه إلى عبد الملك بن مروان وكان في خيل خالد بن الوليد حين وجه أبو بكر خالداً إلى الشام ولم يأت أبا بكر وقال في خالد رحمه الله
( إذا قال سيفُ اللَّه كُرُّوا عليهمُ ... كَرَرْتُ بقلبٍ رابطِ الجأْش صارمِ )
وقال في عمر بن الخطاب رضي الله عنه قصيدة له طويلة جيدة
( أدركتُ آل أبي حَفْص وأُسْرتَه ... وقبل ذاك ودهراً بعده كَلبا )
( قد ترتمي بقوافٍ بيننا دُوَلٌ ... بين الهناتينِ لا جِدّاً ولا لَعِبَا )
( اللَّهُ يعلم ما قولِي وقولهُمُ ... إذ يركبون جَنَاناً مُسْهَباً وَرِبَا )
وقال في عثمان بن عفان رضي الله عنه
( حُثِّي فليس إلى عثمانَ مُرْتَجَعٌ ... إلاَّ العداء وإلاَّ مُكْنِعٌ ضررُ )
( إخالُها سَمِعت عَزْفاً فتحسَبه ... إهابةَ القَسْرِ ليلاً حين تنتشر )
وقال في علي بن أبي طالب رضي الله عنه
( مَنْ مُبْلِغٌ مَألُكاً عنِّي أبا حَسَنٍ ... فارتَحْ لخَصْمٍ هداك اللَّه مظلومِ )
فلما أنشدت جميلة قصيدته في عمر بن الخطاب قالت والله لأعملن فيها لحنا لا يسمعه أحد أبداً إلا بكى قال إبراهيم وصدقت والله ما سمعته قط إلا ابكاني لأني أجد حين أسمعه شيئا يضغط قلبي ويحرقه فلا أملك عيني وما رأيت أحدا قط سمعه إلا كانت هذه حاله
صوت
من المائة المختارة ( يا دارَ عَبْلةَ من مَشَارِقِ مَأْسَلِ ... دَرَس الشؤونُ وعهدُها لم يَنجلِ )
( فاستبدلتْ عُفْرَ الظِّباء كأنما ... أبعارُها في الصَّيف حَبُّ الفُلْفُلِ )
( تمشي النَّعامُ به خلاءً حولَه ... مَشْيَ النَّصارى حولَ بيت الهيكلِ )
( إحذَرْ مَحَلَّ السّوءِ لا تَحْلُلْ به ... وإذا نَبَا بك منزلٌ فتَحَوَّلِ )
الشعر فيما ذكر يحيى بن علي عن إسحاق لعنترة بن شداد العبسي وما رأيت هذا الشعر في شيء من دواوين شعر عنترة ولعله من رواية لم تقع إلينا فذكر غير أبي أحمد أن الشعر لعبد قيس بن خفاف البرجمي إلا أن البيت الأخير لعنترة صحيح لا يشك فيه والغناء لأبي دلف القاسم بن عيسى العجلي ولحنه المختار على ما ذكره أبو أحمد من الثقيل الأول وذكر ابن خرداذبه أن لحن أبي دلف خفيف ثقيل بالوسطى وذكر إسحاق أن فيه لمعبد لحنا من الثقيل الأول المطلق في مجرى الوسطى وأن فيه لأبي دلف لحنا ولم يجنسه وذكر حبش أن فيه لابن محرز ثاني ثقيل بالوسطى وأن لابن سريج في البيت الثاني ثقيلا أول وذكر ابن خرداذبه أن خفيف الثقيل لمالك وليس ممن يعتمد على قوله وقد ذكر يونس أيضا أن فيه غناء لمالك ولم يذكر جنسه ولا طريقته
ذكر عنترة ونسبه وشيء من أخباره هو عنترة بن شداد وقيل ابن عمرو بن شداد وقيل عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد بن مخزوم بن ربيعة وقيل مخزوم بن عوف بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن الريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر وله لقب يقال له عنترة الفلحاء وذلك لتشقق شفتيه وأمه أمة حبشية يقال لها زبيبة وكان لها ولد عبيد من غير شداد وكانوا إخوته لأمه وقد كان شداد نفاه مرة ثم اعترف به فألحق بنسبه وكانت العرب تفعل ذلك تستعبد بني الإماء فإن أنجب اعترفت به وإلا بقي عبدا
فأخبرني علي بن سليمان النحوي الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري عن محمد بن حبيب قال أبو سعيد وذكر ذلك أبو عمرو الشيباني قالا كان عنترة قبل أن يدعيه أبوه حرشت عليه امرأة أبيه وقالت إنه يراودني عن نفسي فغضب من ذلك شداد غضبا شديدا وضربه ضربا مبرحا وضربه بالسيف فوقعت عليه امرأة أبيه وكفته عنه فلما رأت ما به من الجراح بكت وكان اسمها سمية وقيل سهية فقال عنترة
صوت ( أَمِنْ سُمَيَّةَ دمعُ العين مذروفُ ... لو أنّ ذا منكِ قبل اليوم معروفُ )
( كأنَّها يوم صدَّتْ ما تكلِّمني ... ظَبْيٌ بعُسْفانَ ساجي العَين مطروفُ )
( تَجَلَّلتنيَ إذ أَهوَى العَصَا قِبَلِي ... كأنَّها صَنَمٌ يُعتادُ معكوف )
( العبدُ عبدُكُم والمالُ مالُكُمُ ... فهل عذابُك عنِّي اليوم مصروفُ )
( تنسَى بلائي إذا ما غارةٌ لَحِقتْ ... تخرجُ منها الطُّوَالاتُ السَّراعيف )
( يخرُجن منها وقد بُلَّتْ رَحائلها ... بالماء تركضُها الشُّمُّ الغطاريف )
( قد أطعَن الطعنةَ النَّجْلاء عن عُرُضٍ ... تَصْفَرُّ كَفُّ أخيها وهو منزوف )
غنى في البيت الأول والثاني علوية ولحنه من الثقيل الأول مطلق في مجرى البنصر وقيل إنه لإبراهيم وفيهما رمل بالوسطى يقال إنه لابن سريج وهو من منحول ابن المكي
قوله مذروف من ذرفت عينه يقال ذرفت تذرف ذريفا وذرفا وهو قطر يكاد يتصل وقوله لو أن ذا منك قبل اليوم معروف أي قد أنكرت هذا الحنو والإشفاق منك لأنه لو كان معروفا قبل ذلك لم ينكره ساجي العين ساكنها والساجي الساكن من كل شيء مطروف أصابت عينه طرفةٌ وإذا كان كذلك فهو أسكن لعينه تجللتني ألقت نفسها علي وأهوى اعتمد صنم يعتاد أي يؤتى مرة بعد مرة ومعكوف يعكف عليه والسراعيف السراع واحدتها سرعوفة والطوالات الخيل والرحائل السروج والشمم ارتفاع في الأنف والغطاريف الكرام والسادة أيضا والغطرفة ضرب من السير والمشي يختال فيه والنجلاء الواسعة يقال سنان منجل واسع الطعنة عن عرض أي
عن شق وحرف وقال غيره أعترضه اعتراضا حين أقتله
كيف ادعاه أبوه أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن ابن الكلبي وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال قال ابن الكلبي
شداد جد عنترة غلب على نسبه وهو عنترة بن عمرو بن شداد وقد سمعت من يقول إن شدادا عمه كان نشأ في حجره فنسب إليه دون أبيه قال وإنما ادعاه أبوه بعد الكبر وذلك لأن أمه كانت أمة سوداء يقال لها زبيبة وكانت العرب في الجاهلية إذا كان للرجل منهم ولد من أمة استعبدوه وكان لعنترة إخوة من أمه عبيد وكان سبب ادعاء أبي عنترة إياه أن بعض أحياء العرب أغاروا على بني عبس فأصابوا منهم واستاقوا إبلا فتبعهم العبسيون فلحقوهم فقاتلوهم عما معهم وعنترة يومئذ فيهم فقال له أبوه كر يا عنترة فقال عنترة العبد لا يحسن الكر إنما يحسن الحلاب والصر فقال كر وأنت حر فكر وهو يقول
( أنا الهجينُ عَنْتَرهْ ... كلُّ امرىء يحمي حِرَهْ )
( أسودَه وأحمرَه
والشَّعَرَاتِ المُشْعَره )
( الوارداتِ مِشْفَره ... )
وقاتل يومئذ قتالا حسنا فادعاه أبوه بعد ذلك وألحق به نسبه
وحكى غير ابن الكلبي أن السبب في هذا أن عبسا أغاروا على طيىء
فأصابوا نعما فلما أرادوا القسمة قالوا لعنترة لا نقسم لك نصيبا مثل أنصبائنا لأنك عبد فلما طال الخطب بينهم كرت عليهم طيىء فاعتزلهم عنترة وقال دونكم القوم فإنكم عددهم واستنقذت طيىء الإبل فقال له أبوه كر يا عنترة فقال أو يحسن العبد الكر فقال له أبوه العبد غيرك فاعترف به فكر واستنقذ النعم وجعل يقول
( أنا الهجينُ عَنْتَرهْ ... كلُّ امرىء يحمي حِرَهْ )
الأبيات
قال ابن الكلبي وعنترة أحد أغربة العرب وهم ثلاثة عنترة وأمه زبيبة وخفاف بن عمير الشريدي وأمه ندبة والسليك بن عمير السعدي وأمه السلكة وإليهن ينسبون وفي ذلك يقول عنترة
( إنِّي امرؤٌ من خير عَبْسٍ مَنْصِباً ... شَطْرِي وأحمِي سائري بالمُنْصُلِ )
( وإذا الكتيبةُ أحجمتْ وتلاحظت ... ألفِيتُ خيراً من مُعَمٍّ مُخْوَلِ )
يقول إن أبي من أكرم عبس بشطري والشطر الآخر ينوب عن كرم أمي فيه ضربي بالسيف فأنا خير في قومي ممن عمه وخاله منهم وهو لا يغني غنائي وأحسب أن هذه القصيدة هي التي يضاف إليها البيتان اللذان يغنى فيهما وهذه الأبيات قالها في حرب داحس والغبراء
كان حامي لواء بني عبس قال أبو عمرو الشيباني غزت بنو عبس بني تميم وعليهم قيس بن
زهير فانهزمت بنو عبس وطلبتهم بنو تميم فوقف لهم عنترة ولحقتهم كبكبة من الخيل فحامى عنترة عن الناس فلم يصب مدبر وكان قيس بن زهير سيدهم فساءه ما صنع عنترة يومئذ فقال حين رجع والله ما حمى الناس إلا ابن السوداء وكان قيس أكولا فبلغ عنترة ما قال فقال يعرض به قصيدته التي يقول فيها
صوت ( بَكَرَتْ تُخَوِّفُني الحُتوفَ كأنَّني ... أصبحتُ عن عَرَض الحُتوف بمَعْزِلِ )
( فأجبتُها أنّ المنيَّةَ مَنْهَلٌ ... لا بدّ أن أُسْقَى بكأس المنهلِ )
( فاقْنَيْ حياءكِ لا أبالكِ واعلمي ... أَنِّي امرؤ سأموت إن لم أُقْتَلِ )
( إنّ المنيَّة لو تُمَثَّلُ مُثِّلتْ ... مِثْلي إذا نزلوا بضَنْكِ المنزلِ )
( إني امرؤ من خير عَبْسٍ مَنْصِباً ... شَطْرِي وأحمي سائري بالمُنْصُلِ )
( وإذا الكتيبةُ أَحْجمتْ وتلاحظتْ ... أُلْفِيتُ خيراً من مُعَمٍّ مُخْوَِلِ )
( والخيلُ تعلم والفوارسُ أنَّني ... فرَّقتُ جَمْعَهمُ بضربةِ فيصلِ )
( إذ لا أبَادِر في المَضِيق فوارسي ... أوَ لا أُوَكَّلُ بالرَّعِيلِ الأوَّل )
( إن يُلْحَقُوا أكْرُرْ وإن يُسْتَلْحَمُوا ... أَشْدُدْ وإن يُلْفَوْا بضَنْكٍ أنزِلِ )
( حين النزولُ يكون غايةَ مثلنا ... ويَفِرّ كلُّ مُضلَّلٍ مُسْتَوْهِلِ )
( والخيلُ ساهمةُ الوجوهِ كأنما ... تُسْقَى فوارسُها نقيعَ الحنظل )
( ولقد أَبِيتُ على الطَّوَى وأَظَلُّه ... حتى أنالَ به كريمَ المأكلِ )
عروضه من الكامل غنت في الأربعة الأبيات الأول والبيت الثاني عريب خفيف رمل بالبنصر من رواية الهشامي وابن المعتز وأبي العبيس
الحتوف ما عرض للإنسان من المكاره والمتالف عن عرض أي ما يعرض منها بمعزل أي في ناحية معتزلة عن ذلك ومنهل مورد وقوله فاقني حياءك أي احفظيه ولا تضيعيه والضنك الضيق يقول إن المنية لو خلقت مثالا لكانت في مثل صورتي والمنصب الأصل والمنصل السيف ويقال منصل أيضا بفتح الصاد وأحجمت كعت والكتيبة الجماعة إذا اجتمعت ولم تنتشر وتلاحظت نظرت من يقدم على العدو وأصل التلاحظ النظر من القوم بعضهم إلى بعض بمؤخر العين والفيصل الذي يفصل بين الناس وقوله لا أبادر في المضيق فوارسي أي لا أكون أول منهزم ولكني أكون حاميتهم والرعيل القطعة من كل شيء ويستلحموا يدركوا والمستلحم المدرك وأنشد الأصمعي
( نَجَّى علاجاً وبِشْراً كلُّ سَلْهَبَةٍ ... واستلحم الموتُ أصحابَ البَرَاذِينِ )
وساهمة ضامرة متغيرة قد كلح فوارسها لشدة الحرب وهولها وقوله ولقد أبيت على الطوى وأظله قال الأصمعي أبيت بالليل على الطوى وأظل بالنهار كذلك حتى أنال به كريم المأكل أي ما لا عيب فيه عليّ
ومثله قوله إنه ليأتي علي اليومان لا أذوقهما طعاما ولا شرابا أي لا أذوق فيهما والطوى خمص البطن يقال رجل طيان وطاوي البطن
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا ابن عائشة قال
أنشد النبي قول عنترة
( ولقد أَبِيتُ على الطَّوَى وأَظَلُّه ... حتىَّ أنالَ به كريمَ المأكلِ )
فقال ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة
خبر إلحاقه إخوته لأمه بنسب قومه أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة
أن عنترة كان له إخوة من أمه فأحب عنترة أن يدعيهم قومه فأمر أخا له كان خيرهم في نفسه يقال له حنبل فقال له أرو مهرك اللبن ثم مر به علي عشاء فإذا قلت لكم ما شأن مهركم متخددا مهزولا ضامراً فاضرب بطنه بالسيف كأنك تريهم أنك قد غضبت مما قلت فمر عليهم فقال له يا حنبل ما شأن مهركم متخددا أعجر من اللبن فأهوى أخوه بالسيف إلى بطن مهره فضربه فظهر اللبن فقال في ذلك عنترة
( أَبَنِي زَبِيبةَ ما لِمُهْرِكُمُ ... مُتَخَدِّداً وبطونُكم عُجْرُ )
( ألكم بإيغال الوليدِ على ... أَثَر الشِّياه بشدَّةٍ خُبْرُ )
وهي قصيدة قال فاستلاطه نفر من قومه ونفاه آخرون ففي ذلك يقول عنترة
( أَلاَ يا دارَ عَبْلةَ بالطَّوِيِّ ... كَرَجْعِ الوَشْمِ في كَفّ الهَدِيّ )
وهي طويلة يعدد فيها بلاءه وآثاره عند قومه
أخبرني عمي قال أخبرني الكراني عن النضر بن عمرو عن الهيثم بن عدي قال
قيل لعنترة أنت أشجع العرب وأشدها قال لا قيل فبماذا شاع لك هذا في الناس قال كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما ولا أدخل إلا موضعا أرى لي منه مخرجا وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقتله
أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال
قال عمر بن الخطاب للحطيئة كيف كنتم في حربكم قال كنا ألف فارس حازم قال وكيف يكون ذلك قال كان قيس بن زهير فينا وكان حازما فكنا لا نعصيه وكان فارسنا عنترة فكنا نحمل إذا حمل ونحجم إذا أحجم وكان فينا الربيع بن زياد وكان ذا رأي فكنا نستشيره ولا نخالفه وكان فينا عروة بن الورد فكنا نأتم بشعره فكنا كما وصفت لك فقال عمر صدقت
أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد السكري قال قال محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل عن أبي عبيدة وابن الكلبي قالا
موته أغار عنترة على بني نبهان من طيىء فطرد لهم طريدة وهو شيخ كبير فجعل يرتجز وهو يطردها ويقول
( آثارُ ظُلْمَانٍ بقاعٍ مُحْرب ... )
قال وكان زر بن جابر النبهاني في فتوة فرماه وقال خذها وأنا ابن سلمى فقطع مطاه فتحامل بالرمية حتى أتى أهله فقال وهو مجروح
( وإنّ ابنَ سَلْمَى عنده فاعلموا دَمِي ... وهيهاتَ لا يُرْجَى ابن سلمى ولا دَمِي )
( يحلُّ بأكناف الشِّعاب وينتمي ... مكانَ الثُّرَيَّا ليس بالمُتَهَضَّمِ )
( رماني ولم يَدْهَشْ بأزرقَ لَهْذَمٍ ... عشيَّة حلُّوا بين نَعْفٍ ومَخْرِمِ )
قال ابن الكلبي وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص وأما أبو عمرو الشيباني فذكر أنه غزا طيئا مع قومه فانهزمت عبس فخر عن فرسه ولم يقدر من الكبر أن يعود فيركب فدخل دغلا وأبصره ربيئة طيىء فنزل إليه وهاب أن يأخذه أسيرا فرماه وقتله
وذكر أبو عبيدة أنه كان قد أسن واحتاج وعجز بكبر سنه عن الغارات وكان له على رجل من غطفان بكر فخرج يتقاضاه إياه فهاجت عليه ريح من صيف وهو بين شرج وناظرة فأصابته فقتلته
قال أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال
كان عمرو بن معد يكرب يقول ما أبالي من لقيت من فرسان العرب ما لم يلقني حراها وهجيناها يعني بالحرين عامر بن الطفيل وعتيبة بن الحارث بن شهاب وبالعبدين عنترة والسليك بن السلكة
هذه أخبار عنترة قد ذكرت فيها ما حضر
نبذة عن ترجمة عبد قيس البرجمي وأما عبد قيس بن خفاف البرجمي فإني لم أجد له خبرا أذكره إلا ما أخبرني به جعفر بن قدامة قال قرأت في كتاب لأبي عثمان المازني كان عبد قيس بن خفاف البرجمي أتى حاتم طيىء في دماء حملها عن قومه فأسلموه فيها وعجز عنها فقال والله لآتين من يحملها عني وكان شريفا شاعرا شجاعا فقدم على حاتم وقال له إنه وقعت بيني وبين قومي دماء فتواكلوها وإني حملتها في مالي وأهلي فقدمت مالي وأخرت أهلي وكنت أوثق الناس في نفسي فإن تحملتها فكم من حق قضيته وهم كفيته وإن حال دون ذلك حائل لم أذمم يومك ولم أنس غدك ثم أنشأ يقول
( حملتُ دماءً للبَرَاجِمِ جَمَّةً ... فجئتُكَ لمَّا أسلمتْني البراجمُ )
( وقالوا سَفَاهاً لِمْ حَمَلتَ دماءنَا ... فقلتُ لهم يكفي الحَمَالةَ حاتمُ )
( متى آته فيها يَقُلْ لِيَ مرحباً ... وأهلاً وسهلاً أخطأتْكَ الأشائم )
( فيحملها عنِّي وإن شئتُ زادَني ... زيادةَ مَنْ حِيزَتْ إليه المكارمُ )
( يعيش النَّدَى ما عاش حاتمُ طّيِّىءٍ ... وإن مات قامت للسخاء مآتمُ )
( يُنادِينَ مات الجودُ مَعْك فلا نَرَى ... مُجِيباً له ما حام في الجوِّ حائم )
( وقال رجال أنهبَ العامَ مالَه ... فقلت لهم إنِّي بذلك عالم )
( ولكنه يُعطى مِنَ اموال طيِّىءٍ ... إذا حلَق المالَ الحقوقُ اللَّوازِمُ )
( فيُعطِي الَّتي فيها الغِنَى وكأنه لتصغيره تلك العطَّيةَ جارمُ )
( بذلك أوصاه عَدِيُّ وحَشْرَجٌ ... وسَعْدٌ وعبدُ اللَّه تلك القَمَاقِمُ )
فقال له حاتم إني كنت لأحب أن يأتيني مثلك من قومك وهذا
مرباعي من الغارة على بني تميم فخذه وافراً فإن وفى بالحمالة وإلا أكملتها لك وهي مائتا بعير سوى نيبها وفصالها مع أني لا أحب أن تؤبس قومك بأموالهم فضحك أبو جبيل وقال لكم ما أخذتم منا ولنا ما أخذنا منكم وأي بعير دفعته إلي وليس ذنبه في يد صاحبه فأنت منه بريء فأخذها وزاده مائة بعير وانصرف راجعا إلى قومه فقال حاتم
( أتاني البُرْجُمِيّ أبو جُبَيْلٍ ... لِهَمٍّ في حَمَالتِه طويلِ )
( فقلت له خُذِ المرباعَ منها ... فإنِّي لستُ أرضَى بالقليلِ )
( على حالٍ ولا عوّدتُ نفسي ... على عِلاَّتها عِلَلَ البخيلِ )
( فخُذْها إنها مائتَا بعيرٍ ... سوى النابِ الرذِيَّة والفصيلِ )
( ولا مَنٌّ عليك بها فإنِّي ... رأيتُ المَنَّ بُزْرِي بالجميلِ )
( فآبَ البُرْجُمِيُّ وما عليه ... مِنَ اعباء الحَمالةِ من فتيلِ )
( يَجُرّ الذَّيْلَ ينفُض مِذْرَوَيْهِ ... خفيفَ الظهر من حملٍ ثقيلِ )
ذكر أبي دلف ونسبه وأخباره هو القاسم بن عيسى بن إدريس أحد بني عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل ومحله في الشجاعة وعلو المحل عند الخلفاء وعظم الغناء في المشاهد وحسن الأدب وجودة الشعر محل ليس لكبير أحد من نظرائه وذكر ذلك أجمع مما لا معنى له لطوله وفي هذا القدر من أخباره مقنع وله أشعار جياد وصنعة كثيرة حسنة فمن جيد شعره وله فيه صنعة قوله
صوت ( بنفسي يا جِنَانُ وأنتِ منِّي ... محلَّ الروح من جَسَد الجَبَانِ )
( ولو أنِّي أقول مكانَ نفسي ... خَشِيتُ عليكِ بادرةَ الزمانِ )
( لإقدامي إذا ما الخيلُ حامتْ ... وهابَ كُمَاتُها حَرَّ الطِّعانِ )
وله فيه لحن وهذا البيت الأول أخذه من كلام إبراهيم النظام
أخبرني به علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال
لقي إبراهيم النظام غلاما حسن الوجه فاستحسنه وأراد كلامه فعارضه
ثم قال له يا غلام إنك لولا ما سبق من قول الحكماء مما جعلوا به السبيل لمثلي إلى مثلك في قولهم لا ينبغي لأحد أن يكبر عن أن يسأل كما أنه لا ينبغي لأحد أن يصغر عن أن يقول لما أنبت إلى مخاطبتك ولا انشرح صدري لمحادثتك لكنه سبب الإخاء وعقد المودة ومحلك من قلبي محل الروح من جسد الجبان فقال له الغلام وهو لا يعرفه لئن قلت ذلك أيها الرجل لقد قال أستاذنا إبراهيم النظام الطبائع تجاذب ما شاكلها بالمجانسة وتميل إلى ما قاربها بالموافقة وكياني مائل إلى كيانك بكليتي ولو كان الذي انطوى عليه عرضا لم أعتد به ودا ولكنه جوهر جسمي فبقاؤه ببقاء النفس وعدمه بعدمها وأقول كما قال الهذلي
( فتَيَقَّنِي أنْ قد كَلِفتُ بكم ... ثم افْعَلِي ما شئتِ عن علمِ )
فقال له النظام إنما كلمتك بما سمعت وأنت عندي غلام مستحسن ولو علمت أن محلك مثل محل معمر وطبقته في الجدل لما تعرضت لك قال أبو الحسن ومن هذا أخذ أبو دلف قوله
( أُحِبُّكِ يا جِنانُ وأنتِ منِّي ... محلَّ الرُّوح من جسد الجبانِ )
ومن جيد شعره وله فيه صنعة قوله
صوت
( في كل يومٍ أَرَى بيضاءَ طالعةً ... كأنَّما أُنبِتتْ في ناظر البَصَرِ )
( لئن قَصَصْتُكِ بالمِقْراضِ عن بَصَرِي ... لَمَا قطعتُكِ عن هَمِّي وعن فِكَرِي )
حارب الشراة وهو بالسرادن أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب قال حدثني أبي قال سمعت عبد العزيز بن دلف بن أبي دلف يقول حدثتني ظبية جارية أبي قالت إني لمعه ليلة بالسرادن وهو جالس يشرب معي وعليه ثياب ممسكة إذ أتاه الصريح بطروق الشراة أطراف عسكره فلبس الجوشن ومضى فقتل وأسر وانصرف إلي في آخر الليل وهو يغني قالت والشعر له
صوت ( ليلتِي بالسَّرَادِنِ ... كُلِّلتْ بالمحاسنِ )
( وجَوَارٍ أوَانسٍ ... كالظِّباءِ الشَّوادِنِ )
( بُدِّلتْ بالمُمَسَّكاتِ ... ادِّراعَ الجَوَاشِنِ )
الشعر لأبي دلف والغناء له رمل بالسبابة في مجرى البنصر
خرج مع الإفشين لحرب بابك وقال أحمد بن أبي طاهر كان أبو دلف القاسم بن عيسى في جملة من كان مع الإفشين خيذر بن كاووس لما خرج لمحاربة بابك ثم تنكر له فوجه يوما بمن جاء به ليقتله وبلغ المعتصم الخبر فبعث إليه بأحمد بن
أبي دواد وقال له أدركه وما أراك تلحقه فاحتل في خلاصه منه كيف شئت قال ابن أبي دواد فمضيت ركضا حتى وافيته فإذا أبو دلف واقف بين يديه وقد أخذ بيديه غلامان له تركيان فرميت بنفسي على البساط وكنت إذا جئته دعا لي بمصلى فقال لي سبحان الله ما حملك على هذا قلت أنت أجلستني هذا المجلس ثم كلمته في القاسم وسألته فيه وخضعت له فجعل لا يزداد إلا غلظة فلما رأيت ذلك قلت هذا عبد وقد أغرقت في الرفق به فلم ينفع وليس إلا أخذه بالرهبة والصدق فقمت فقلت كم تراك قدرت تقتل أولياء أمير المؤمنين واحداً بعد واحد وتخالف أمره في قائد بعد قائد قد حملت إليك هذه الرسالة عن أمير المؤمنين فهات الجواب قال فذل حتى لصق بالأرض وبان لي الاضطراب فيه فلما رأيت ذلك نهضت إلى أبي دلف وأخذت بيده وقلت له قد أخذته بأمر أمير المؤمنين فقال لا تفعل يا أبا عبد الله فقلت قد فعلت وأخرجت القاسم فحملته على دابة ووافيت المعتصم فلما بصر بي قال بك يا ابا عبد الله وريت زنادي ثم رد علي خبري مع الإفشين حدسا بظنه ما أخطأ فيه حرفا ثم سألني عما ذكره لي وهو كما قال فأخبرته أنه لم يخطىء حرفا
أحمد بن أبي دواد ينكر عليه غناءه وقال علي بن محمد حدثني جدي قال
كان أحمد بن أبي دواد ينكر أمر الغناء إنكارا شديداً فأعلمه المعتصم أن صديقه ابا دلف يغني فقال ما أراه مع عقله يفعل ذلك فستر احمد بن أبي دواد في موضع وأحضر ابا دلف وأمره أن يغني ففعل ذلك وأطال ثم خرج احمد بن أبي دواد عليه من موضعه والكراهة ظاهرة في وجهه فلما رآه
أحمد قال له سوءة لهذا من فعل بعد هذه السن وهذا المحل تضع نفسك كما أرى فخجل ابو دلف وتشور وقال إنهم أكرهوني على ذلك فقال هبهم أكرهوك على الغناء أفأكرهوك على الإحسان والإصابة
قال علي وحدثني جدي أن سبب منادمته للمعتصم أنه كان نديما للواثق وكان ابو دلف قد وصف للمعتصم فأحب أن يسمعه وسأل الواثق عنه فقال يا أمير المؤمنين أنا على الفصد غداً وهم عندي فقال له المعتصم أحب ألاَّ تخفي علي شيئا من خبركم وفصد الواثق فأتاه أبو دلف وأتته رسل الخليفة بالهدايا وأعلمهم الواثق حضور أبي دلف عنده فلم يلبث أن أقبل الخدم يقولون قد جاء الخليفة فقام الواثق وكل من عنده حتى تلقوه حين برز من الدهليز إلى الصحن فجاء حتى جلس وأمر بندماء الواثق فردوا إلى مجالسهم قال حمدون وخنست عن مجلسي الذي كنت فيه لحداثتي فنظر المعتصم إلى مكاني خاليا فسأل عن صاحبه فسميت له فأمر بإحضاري فرجعت إلى مكاني وأمر بأن يؤتى برطل من شرابه فأتي به فأقبل على أبي دلف فقال له يا قاسم غنِّ أمير المؤمنين صوتا فما حصر ولا تثاقل وقال أغني أمير المؤمنين صوتا بعينه أو ما اخترته قال بل غنِّ صنعتك في شعر جرير
( بَانَ الخليطُ برامَتَيْنِ فودَّعوا ... )
فغناه إياه فقال المعتصم أحسن أحسن ثلاثا وشرب الرطل ولم يزل يستعيده ويشرب عليه حتى والى بين سبعة أرطال ثم دعا بحمار فركبه وأمر أبا دلف أن ينصرف معه وأمرني بالانصراف معهما فخرجت أسعى مع ركابه فثبت في ندمائه من ذلك اليوم وأمر لأبي دلف بعشرين ألف دينار
نسبة الصوت الذي غناه ابو دلف
صوت ( بَانَ الخليطُ برامتَيْنِ فودَّعوا ... أَوَكُلَّما اعتزموا لبينٍ تَجْزَعُ )
( كيف العَزاءُ ولم أجِدْ مذ غِبْتُمُ ... قلباً يَقَرُّ ولا شراباً يَنْقَعُ )
عروضه من الكامل الشعر لجرير والغناء لأبي دلف ثاني ثقيل بالبنصر عن الهشامي وعمرو بن بانة
أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال
كان جعفر بن أبي جعفر المنصور المعروف بابن الكردية يستخف مطيع بن إياس وكان منقطعا إليه وله منه منزلة حسنة فذكر له مطيع بن إياس حماداً الراوية وكان مطرحا مجفوا في أيامهم فقال له دعني فإن دولتي كانت في بني أمية وما لي عند هؤلاء خير فأبى مطيع إلا الذهاب به إليه فاستعار سواداً وسيفاً ثم أتاه فدخل على جعفر فسلم عليه وجلس فقال له جعفر أنشدني فقال لمن أيها الأمير قال لجرير قال حماد فسلخ الله شعره أجمع من قلبي إلا قوله
( بَانَ الخليطُ برامتين فودَّعوا ... )
فاندفعت أنشده إياه حتى بلغت إلى قوله
( وتقول بَوْزَعُ قد دَبَبْتَ على العَصَا ... هَلاَّ هَزِئْتِ بغيرنا يا بَوْزَعُ )
قال حماد فقال لي جعفر أعد هذا البيت فأعدته فقال إيش هو بوزع قلت اسم امرأة قال امرأة اسمها بوزع هو بريء من الله ورسوله ومن العباس بن عبد المطلب إن كانت بوزع إلا غولا من الغيلان تركتني والله يا هذا لا أنام الليل من فزع بوزع يا غلمان قفاه قال فصفعت والله حتى لم أدر أين أنا ثم قال جروا برجله فجروا برجلي حتى أخرجت من بين يديه وقد تخرق السواد وانكسر جفن السيف ولقيت شرا عظيما مما جرى من ذلك وكان أغلظ من ذلك علي غرامتي السواد والسيف فلما انصرف إلي مطيع جعل يتوجع لي فقلت له ألم أخبرك أني لا أصيب منهم خيرا وأن حظي قد مضى مع من مضى من بني أمية
رجع الحديث إلى اخبار أبي دلف
وكان أبو دلف جوادا ممدحا وفيه يقول علي بن جبلة
( إنما الدُّنيا أبو دُلَفٍ ... بين مَغْزَاهُ ومُحْتَضَرِهْ )
( وإذا وَلَّى أبو دُلَفٍ ... وَلَّتِ الدُّنيا على أَثَرِهْ )
وهي من جيد شعره وحسن مدائحه وفيها يقول
( ذادَ وِرْدَ الغَيّ عن صَدَرِهْ ... وارعَوَى واللَّهوُ من وَطَرِهْ )
( نَدَمِي أنّ الشَّبابَ مَضَى ... لم أُبَلِّغْهُ مَدَى أَشَرِهْ )
( حَسَرتْ عنِّي بَشاشتُه ... وذوَى المحمودُ من ثَمرهْ )
( ودَمٍ أَهْدرتُ من رَشَأٍ ... لم يُرِدْ عَقْلاً على هَدَرِهْ )
( فأتتْ دون الصَّبَا هَنَةٌ ... قلبتْ فُوقي على وَتَرِهْ )
( دَعْ جَدَا قَحْطانَ أو مُضَرٍ ... في يَمَانِيهِ وفي مُضَرهْ )
( وامْتَدِحْ من وائلٍ رجلاً ... عُصُرُ الآفاق من عُصُرهْ )
( المنايا في مَقَانِبِه ... والعطايَا في ذَرَا حُجَرِهْ )
( مَلِكٌ تندَى أنَامِلُه ... كانبلاج النَّوْء عن مَطَرِهْ )
( مستهلٌّ عن مَواهِبِه ... كابتسام الرَّوْض عن زَهَرِهْ )
( جَبَلٌ عزّتْ مَنَاكِبُه ... أمِنتْ عَدْنانُ في نَفَرِهْ )
( إنما الدُّنيا أبو دُلَفٍ ... بين مَغْزاهُ ومُحتَضَرِهْ )
( فإذا ولَّى أبو دُلَفٍ ... وَلَّتِ الدنيا على أَثَرِهْ )
( كلُّ مَنْ في الأرض من عَرَبٍ ... بين بادِيه إلى حَضَرِهْ )
( مستعيرٌ منه مَكرُمةً ... يكتسيها يومَ مُفْتَخَرِهْ )
وهذان البيتان هما اللذان احفظا المأمون على علي بن جبلة حتى سل لسانه من قفاه وقوله في أبي دلف أيضا
( أنت الذي تُنزل الأيّامَ منزلَها ... وتَنْقُلُ الدهرَ من حالٍ إلى حالِ )
( وما مددتَ مَدَى طَرْفٍ إلى أحدٍ ... إلاَّ قضيتَ بأرزاقٍ وآجال )
وسنذكر ذلك في موضعه من أخبار علي بن جبلة إن شاء الله تعالى
إذ كان القصد ها هنا أمر أبي دلف
أخبار عن شدة كرمه أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال
كنا عند أبي العباس المبرد يوما وعنده فتى من ولد أبي البختري وهب بن وهب القاضي أمرد حسن الوجه وفتى من ولد أبي دلف العجلي شبيه به في الجمال فقال المبرد لابن أبي البختري أعرف لجدك قصة ظريفة من الكرم حسنة لم يسبق إليها قال وما هي قال دعي رجل من أهل الأدب إلى بعض المواضع فسقوه نبيذا غير الذي كانوا يشربون منه فقال فيهم
( نَبِيذانِ في مجلسٍ واحدٍ ... لإيثار مُثْرٍ على مُقْتِرِ )
( فلو كان فعلُك ذا في الطعامِ ... لَزِمْتَ قياسَك في المُسْكِر )
( ولو كنتَ تطلب شأوَ الكرام ... صنعتَ صنيعَ أبي البَخْتَرِي )
( تتبَّعَ إخوانَه في البلاد ... فأغنى المُقِلَّ عن المُكْثِرِ )
فبلغت الأبيات أبا البختري فبعث إليه بثلثمائة دينار قال ابن عمار فقلت قد فعل جد هذا الفتى في هذا المعنى ما هو أحسن من هذا قال وما فعل قلت بلغه أن رجلا افتقر بعد ثروة فقالت له امرأته افترض في الجند فقال
( إليكِ عنِّي فقد كَلَّفْتِنِي شَطَطاً ... حَمْلَ السلاحِ وقِيلَ الدَّارعين قِفِ )
( تمشي المنايا إلى غيرِي فأكْرهُها
فكيف أمشي إليها عارِيَ الكَتِفِ )
( حَسِبتِ أنّ نفادَ المال غيَّرني ... وأنّ رُوحِيَ في جَنْبَيْ أبي دُلَفِ )
فأحضره أبو دلف ثم قال له كم أملت امرأتك أن يكون رزقك قال مائة دينار قال وكم أملت أن تعيش قال عشرين سنة قال فذلك لك علي
على ما أملت امرأتك في مالنا دون مال السلطان وأمر بإعطائه إياه قال فرأيت وجه ابن أبي دلف يتهلل وانكسر ابن أبي البختري انكساراً شديداً
أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد قال أخبرني علي بن القاسم قال
قال علي بن جبلة زرت أبا دلف بالجبل فكان يظهر من إكرامي وبري والتحفي بي أمراً مفرطاً حتى تأخرت عنه حيناً حياء فبعث إلي معقل بن عيسى فقال يقول لك الأمير قد انقطعت عني وأحسبك استقللت بري بك فلا يغضبنك ذلك فسأزيد فيه حتى ترضى فقلت والله ما قطعني إلا إفراطه في البر وكتبت إليه
( هجرتُكَ لم أهجُرْكَ من كفر نعمةٍ ... وهل يُرْتَجَى نَيْلُ الزيادة بالكفرِ )
( ولكنَّني لمّا أتيتُك زائراً ... فأفرطتَ في بِرِّي عجزتُ عن الشكر )
( فَمِ الانَ لا آتيك إلا مُسَلِّماً ... أزورُك في الشهرينِ يوماً أو الشهرِ )
( فإن زدْتَنِي بِرّاً تزايدتُ جفوةً ... ولم تلقَني طولَ الحياةِ إلى الحشرِ )
فلما قرأها معقل استحسنها جدا وقال أحسنت والله أما إن الأمير لتعجبه هذه المعاني فلما أوصلها إلى أبي دلف قال قاتله الله ما اشعره وأدق معانيه فأعجبته فأجابني لوقته وكان حسن البديهة حاضر الجواب
( أَلاَ رُبَّ ضيفٍ طارقٍ قد بَسَطتُه ... وآنستُه قبل الضِّيافة بالبِشْرِ )
( أتاني يرجِّيني فما حال دونه ... ودون القِرَى والعُرْفِ ما نائلي سِتْري )
( وجدتُ له فضلاً عليَّ بقَصْدِه ... إليَّ وبِرّاً زاد فيه على بِرِّي )
( فزوَّدته مالاً يَقِلّ بقاؤه ... وزوَّدني مدحاً يدوم على الدهر )
حذف
قال وبعث إلي بالأبيات مع وصيف له وبعث معه إلي بألف دينار فقلت
( حينئذ إنما الدنيا أبو دُلَفٍ ... ) الأبيات
أخبرني علي بن سليمان قال أخبرنا المبرد قال أخبرني إبراهيم بن خلف قال
بينا أبو دلف يسير مع معقل وهما إذ ذاك بالعراق إذ مرا بقصر فأشرفت منه جاريتان فقالت إحداهما للأخرى هذا أبو دلف الذي يقول فيه الشاعر
( إنما الدنيا أبو دُلَفِ ... )
فقالت الأخرى أوهذا قد والله كنت أحب أن أراه منذ سمعت ما قيل فيه فالتفت أبو دلف إلى معقل فقال ما أنصفنا علي بن جبلة ولا وفيناه حقه إن ذلك لمن كبير همي وكان أعطاه ألف دينار
صوت من المائة المختارة من رواية علي بن يحيى ( أمَّا القَطاةُ فإنِّي سوف أنعَتُها ... نعتاً يُوافق منها بعضَ ما فيها )
( سَكَّاءُ مخطوبةٌ في رِيشها طَرَقٌ ... صُهْبٌ قَوادِمُها كُدْرٌ خَوافيها )
عروضه من البسيط والشعر مختلف في قائله ينسب إلى أوس بن غلفاء الهجيمي وإلى مزاحم العقيلي وإلى العباس بن يزيد بن الأسود الكندي وإلى العجير السلولي وإلى عمرو بن عقيل بن الحجاج الهجيمي وهو أصح الأقوال
رواه ثعلب عن أبي نصر عن الأصمعي وعلى أن في هذه الروايات أبياتا ليست مما يغنى فيه وأبياتا ليست في الرواية وقد روي أيضا أن الجماعة المذكورة تساجلوا هذه الأبيات فقال كل واحد منهم بعضا وأخبار ذلك وما يحتاج إليه في شرح غريبه يذكر بعد هذا والغناء في اللحن المختار لمعبد خفيف ثقيل أول بالوسطى وفي هذين البيتين مع أبيات أخر من القصيدة اشتراك كثير بين المغنين يتقدم بعض الأبيات فيه بعضا ويتأخر بعضها عن بعض على اختلاف تقديم ذلك وتأخيره والأبيات تكتب ها هنا ثم تنسب صنعة كل صانع في شيء منها إليه وهي بعد البيتين الأولين إذ كانا قد مضيا واستغني عن إعادتهما
( لمَّا تبدَّى لها طارت وقد علمتْ ... أنْ قد أظل وأنّ الحيّ غاشيها )
( تَشْتقّ في حيث لم تُبْعِدْ مُصَعِّدةً ... ولم تُصَوِّبْ إلى أدنى مَهَاويها )
( تَنْتاشُ صفراءَ مطروقاً بقيَّتُها ... قد كاد يأزِي عن الدُّعْموصِ آزِيها )
( ما هاج عينَك أمْ قد كاد يُبكيها ... من رَسْمِ دار كسَحْقِ البُرْدِ باقيها )
( فلا غنيمة تُوفِي بالذي وَعَدتْ ... ولا فؤادُك حتى الموتِ ناسِيها )
ثبط مولى عبد الله بن جعفر خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر من رواية إسحاق في أما القطاة والذي بعده وتنتاش صفراء خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو ولإبراهيم الموصلي في لما تبدى لها وأما القطاة خفيف رمل عن الهشامي ولعمر الوادي في أما القطاة ثقيل بالوسطى ولابن جامع في لما تبدى لها وبعده أما القطاة خفيف رمل ولسياط في الأول والثاني وبعدهما تشتق في حيث لم تبعد خفيف ثقيل بالبنصر ومن الناس من ينسب
لحنه إلى عمر الوادي وينسب لحن عمر إليه ولعلويه في أما القطاة والذي بعده رمل هو من صدور أغانيه ومقدمها فجميع ما وجدته في هذه الأبيات من الصنعة أحد عشر لحنا
أقوال بعض الشعراء في وصف القطاة فأما خبر هذا الشعر فإن ابن الكلبي زعم أن السبب فيه أن العجير السلولي وأوس بن غلفاء الهجيمي ومزاحما العقيلي والعباس بن يزيد بن الأسود الكندي وحميد بن ثور الهلالي اجتمعوا فتفاخروا بأشعارهم وتناشدوا وادعى كل واحد منهم أنه أشعر من صاحبه ومر بهم سرب قطا فقال أحدهم تعالوا حتى نصف القطا ثم نتحاكم إلى من نتراضى به فأينا كان أحسن وصفا لها غلب أصحابه فتراهنوا على ذلك فقال أوس بن غلفاء الأبيات المذكورة وهي أما القطاة وقل حميد أبياتا وصف ناقته فيها ثم خرج إلى صفة القطاة فقال
( كما انصَلتتْ كَدْراءُ تسقِي فِرَاخَها ... بشَمْظةَ رِفْهاً والمياهُ شُعُوبُ )
( غدتْ لم تُباعدْ في السماء ودونَها ... إذا ما علتْ أُهْوِيَّةٌ وصَبُوبُ )
( قرينةُ سَبْعٍ إنْ تَوَاترنَ مَرَّةً ... ضَرَبْنَ فصَفَّتْ أرؤس وجُنوبُ )
( فجاءتْ وما جاء القطا ثم قَلّصتْ ... بمَفْحَصِها والوارداتُ تَنوبُ )
( وجاءت ومَسْقَاها الذي وردتْ به ... إلى الصَّدْرِ مشدودُ العَصَامِ كَتِيبُ )
( تُبادر أطفالاً مساكينَ دونها ... فَلاً لا تَخَطَّاه العيونُ رَغِيبُ )
( وصَفْنَ لها مُزْناً بأرض تَنُوفةٍ ... فما هي إلاَّ نُهْلةٌ وتؤوبُ )
وقال العباس بن يزيد بن الأسود هكذا ذكر ابن الكلبي وغيره يرويها لبعض بني مرة
( حَذَّاءُ مُدْبِرةً سَكَّاءُ مقبلةً ... للماء في النحر منها نَوْطةٌ عَجَبُ )
( تسقي أُزَيْغِبَ تُرويه مُجاجتها ... وذاك من ظَمْأةٍ من ظِمْئها شَرَبُ )
( مُنْهَرِت الشِّدقِ لم تَنْبُتْ قَوَادِمُه ... في حاجب العين من تسبيده زَبَبُ )
( تدعو القَطَا بقصير الخطو ليس له ... قُدَّام مَنْحَرِها ريشٌ ولا زَغَبُ )
( تدعو القَطَا وبه تُدْعَى إذا انتسبتْ ... يا صِدْقَها حين تدعوه وتنتسبُ )
وقال مزاحم العقيلي
( أذلكَ أم كُدْرِيَّةٌ هاج وِرْدَها ... من القيظ يومٌ واقِدٌ وسَمُومُ )
( غدتْ كَنواة القَسْب لا مُضْمحِلَّةٌ ... ونَاةٌ ولا عَجْلَى الفُتور سؤومُ )
( تُواشِكُ رَجْعَ المَنْكِبين وترتمي ... إلى كَلْكَل للهادياتِ قَدُومُ )
( فما انخفضتْ حتى رأتْ ما يسرُّها ... وفَيْءُ الضُّحَى قد مال فهو ذميمُ )
( أَباطِح وانتصَّتْ على حيث تستقى ... بها شَرَكٌ للوارداتِ مُقيمُ )
( سقتْها سيولُ المُدْجِناتِ فأصبحتْ ... عَلاَجِيمَ تَجْرِي مرَّةً وتدومُ )
( فلما استقتْ من بارد الماء وانجلَى ... عن النفس منها لَوْحةٌ وهمومُ )
( دعتْ باسمها حين استقتْ فاستقلَّها ... قَوَادِمُ حجنٌ رِيشُهنّ ملِيمُ )
( بجَوْزٍ كحُقِّ الهاجريّة زانَه ... بأطراف عودِ الفارسِّ وُشُومُ )
يعني حق الطيب شبه حوصلتها بها والوشوم يعني الشية التي في صدرها
( لتسقِيَ زُغْبا بالتَّنوفةِ لم يكن ... خِلافَ مُوَلاَّها لهنّ حميمُ )
( تَرَائكَ بالأرضِ الفَلاة ومن بَدَعْ ... بمنزلها الأولادَ فهو مُليمُ )
( إذا استقبلتْها الريحُ طَمَّتْ رفيقةً ... وهنَّ بمهْوًى كالكُرَاتِ جُثُومُ )
( يُرَاطِنَّ وَقْصاءَ القَفَا وَحْشةَ الشَّوَى ... بدعوى القَطَا لَحْنٌ لهنّ قديمُ )
( فبِتْنَ قرِيراتِ العيونِ وقد جرى ... عليهن شِرْبُ فاستقَيْن مُنِيمُ )
( صَبِيبُ سِقَاءٍ نِيطَ قد بَرَكتْ به ... مُعَاوِدةٌ سَقْيَ الفِرَاخِ رَؤومُ )
وقال العجير فيما روى ابن الكلبي وقد تروى لغيره
( سأَغلِبُ والسماءِ ومَنْ بناها ... قَطاةَ مُزَاحِمٍ ومَنِ انتحاها )
( قَطاة مُزَاحمٍ وأبي المُثَنَّى ... على حُوزيَّةٍ صُلْبٍ شَوَاها )
( غدتْ كالقَطْرةِ السَّفْواء تَهْوِي ... أمام مُجَلْجِلٍ زَجِلٍ نَفَاها )
( تَكَفَّأ كالجُمانَةِ لا تُبالي ... أبالموماةِ أضحتْ أم سِواها )
( نبتْ منها العَجيزةُ فاحزألَّتْ ... ونَبَّسَ للتقتُّل مَنْكِبَاها )
( كأنّ كعوبها أطرافُ نَبْلٍ ... كساها الرَّازقيَّةَ مَنْ بَراها )
قال واحتكموا إلى ليلى الأخيلية فحكمن لأوس بن غلفاء
وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل عن قعنب بن محرز الباهلي قال حدثني رجل عن أبي عبيدة قال أخبرنا حميد بن ثور والعجير السلولي ومزاحم العقيلي وأوس بن غلفاء الهجيمي أنهم تحاكموا إلى ليلى الأخيلية لما وصفوا القطاة أيهم أحسن وصفاً لها فقالت
( أَلاَ كلُّ ما قال الرُّواة وأنشدوا ... بها غيرَ ما قال السَّلُوليُّ بَهْرَجُ )
وحكمت له فقال حميد بن ثور يهجوها
( كأنَّكِ وَرْهاءُ العِنانَيْنِ بغلةٌ ... رأت حُصُناً فعارضتْهنّ تَشْحَجُ )
ووجدت هذه الحكاية عن أبي عبيدة مذكورة عن دماذ عنه وأنه سأله عن أبيات العجير فأنشده
( تجوبُ الدُّجَى سَكَّاءُ من دون فَرْخِها ... بمَطْلَى أَرِيكٍ نَفْنَفٌ وسُهوبُ )
( فجاءت وقَرْنُ الشمسِ بادٍ كأنَّه ... هِجانٌ بصحراء الخُبَيْبِ شَبُوبُ )
( لتسقيَ أفراخاً لها قد تبلَّلتْ ... حلاقيمُ أسماطٌ لها وقلوبُ )
( قِصارُ الخُطَا زُغْبُ الرؤوسِ كأنَّها ... كُرَاتٌ تَلَظَّى مرَّةً وتَلوبُ ) فأما ما ذكرت من رواية ثعلب في الأبيات التي فيها الغناء فإنه أنشدها عن أبي حاتم عن الأصمعي أن أبا الحضير أنشده لعمرو بن عقيل بن الحجاج الهجيمي
( أمَّا القطاةُ فإنِّي سوف أنعَتُها ... نعتاً يُوافِق نعتِي بعضَ ما فيها )
( صفراءُ مطروقةٌ في ريشِها خَطَبٌ ... صُفْرٌ قوادمُها سُودٌ خَوافِيها )
( مِنْقارُها كنَواة القَسْبِ قَلَّمَها ... بمِبرَد حاذقُ الكفَّين يَبْرِيها )
( تمشِي كَمَشْيِ فتاةِ الحيّ مسرعةً ... حذارَ قومٍ إلى سِتْرٍ يُواريها )
قال الأصمعي مطروقة يعني أن ريشها بعضه فوق بعض والخطب لون الرماد يقال للمشبه به أخطب
( تَنْتاشُ صفراءَ مطروقاً بَقيَّتُها ... قد كادَ يَأْزِي عن الدُّعْموص آزِيها )
تنتاش تتناويل بقية من الماء والمطروق الماء الذي قد خالطه البول وقوله يأزي أي يقل عن الدعموص فيخرج منه لقلته والدعموص الصغير من الضفادع وجمعه دعاميص
( تسقي رَذِيَّيْنِ بالمَوْماةِ قُوتُهما ... في ثُغْرةِ النَّحْرِ من أعلى تَرَاقيها )
الرذيّ الساقط من الضعف يعني فرخيها
( كأنّ هَيْدَبةً من فوق جُؤْجئها ... أو جِرْوُ حَنْظلةٍ لم يعدُ راميها )
جرو الحنظل صغاره وقوله لم يعد من العداء أي لم يعد عليها فيكسرها
( تَشْتَقّ من حيث لم تُبْعِدْ مُصَعِّدة ... ولم تُصَوِّبْ إلى أدنى مَهاويها )
( حتى إذا استأنسا للوقت واحتَضرت ... تَوَجَّسا الوَحْيَ منها عند غَاشِيها )
ويروى حتى إذا استأنسا للصوت وتوجسا تسمعا وحيها أي سرعة طيرانها وغاشيها أي حين تغشاهما وتنتهي إليهما
( تَرَفَّعَا عن شؤون غير ذاكيةٍ ... على لَدِيدَيْ أعالي المَهْدِ أُدْحِيها )
الذاكية الشديدة الحركة والمهد أفحوصها ولديداه جانباه
( مَدَّا إليها بأفواهٍ مُزَيَّنةٍ ... صُعْداً ليستنزلا الأرزاقَ مِنْ فِيها )
( كأنَّها حين مَدَّاها لجَنْأتها ... طَلَى بَوَاطنَها بالوَرْسِ طَالِيها )
جنأتها أي جنأت عليهما بصدرها لتزقهما
( حِثْلَيْن رَضَّا رُفَاضَ البَيْضِ عن زَغَبٍ ... وُرْقٌ أسافلُها بيضٌ أعَالِيها )
حثلين دقيقين ضاويين رضاً كسرا والرفاض ما ارفض وتفرق
( تَرَأَّدا حين قاما ثُمّتَ احتطبَا ... على نَحَائفَ مُنْآدٍ مَحانيها )
ترأدا تثنيا واحتطبا دنوا والمنآد المنعطف ومحانيها حيث انحنت
( تكاد من لِينها تنآد أسْؤُقُها ... تَأوُّدَ الرَّبْل لم تَعرِمْ نواميها )
تعرم تشتد ونواميها أعاليها
( لا أشتكي نَوْشةَ الأيَّام من وَرَقِي ... إلاَّ إلى مَنْ أَرَى أن سوف يُشْكِيها )
( لدِلْهِمٍ مأثُراتٌ قد عُدِدْن له ... إن المآثِرَ معدودٌ مَسَاعِيها )
( تَنْمِي به في بني لأيٍ دَعَائمُها ... ومن جُمَانة لم تخضَعْ سَوَارِيها )
( بَنَى له في بيوت المجد والدُه ... وليس مَنْ ليس يَبْنِيها كبانيها )
وأنشدني هذه الأبيات الحسن بن محمد الضبعي الشاعر المعروف بابن الحداد قال وجدتها بخط محمد بن داود بن الجراح عن إسماعيل بن يونس الشيعي شيخنا رحمه الله عن أخيه عن أبي محلم مثل رواية ثعلب وزاد فيها قال أبو محلم جمانة بن جرير بن عبد ثعلبة بن سعد بن الهجيم وهم أخوال دلهم هذا الممدوح ودلهم من بني لأي ثم من بني يزيد بن هلال بن بذل بن عمرو بن الهيثم وكان أحد الشجعان وهو قتل الضحاك بن قيس الخارجي
بيده مع مروان بن محمد ليلة كفرتوثا
صوت من المائة المختارة عن علي بن يحيى
( أيّها القلبُ لا أراك تُفيق ... طالما قد تعلَّقتْك العُلوقُ )
( من يكن من هوى حبيبٍ قريباً ... فأنا النازحُ البعيدُ السَّحيقُ )
( قُدِّرَ الحبُّ بيننا فالتقينا ... وكِلانا إلى اللقاءِ مَشُوقُ )
الشعر لعمر بن أبي ربيعة وقد مضت أخباره والغناء في اللحن المختار لبابويه الكوفي خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لابن سريج ثقيل أول بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه ايضا لمخارق خفيف ثقيل بالوسطى عن الهشامي وفيه لعلويه رمل بالبنصر عنه وعن الهشامي وبابويه رجل من أهل الكوفة قليل الصنعة ليس ممن خدم الخلفاء ولا الأكابر ولا أعلم له خبراً فأذكره
صوت من المائة المختارة
( مَنْ لِقَلْبٍ أضحَى بكم مُستهامَا ... خائفاً للوُشاةِ يُخْفِي الكلاما )
إنّ طَرْفي رسولُ نفسي ونفسي ... عن فؤادي تقرَا عليك السلاما )
لم يقع إلينا قائل الشعر فنذكر خبره والغناء لرياض جارية أبي حماد
خفيف ثقيل بالوسطى وكان أبو حماد هذا أحد القواد الخراسانية ومن أولاد الدعاة وكان يعاشر إسحاق ويبره ويهاديه فأخذت رياض عنه غناء كثيرا وكانت محسنة ضاربة كثيرة الرواية وأحب إسحاق أن ينوه باسمها ويرفع من شأنها فذكر صنعتها في هذا الصوت فيما اختاره للواثق قضاء لحق مولاها وليس فيما قلته في هذا لأن الصوت غير مختار ولكن في الغناء ما هو أفضل منه بكثير ولم يذكره وقد فعل ذلك بجماعة ممن كان يوده ويتعصب له مثل متيم وأبي دلف وغيرهم ومن يعلم هذه الصناعة يعرف صحة ما قلناه وماتت رياض هذه مملوكة لمولاها لم تخرج من يده ولا شهرت ولا روي لها خبر
صوت من المائة المختارة عن علي بن يحيى ( راح صحبي وعاود القلبَ داءُ ... من حبيبٍ طِلاَبُه لي عَناءُ )
( حَسَنُ الرأي والمواعيد لا يُلْفَى ... لشيء مما يقول وفاء )
( مَنْ تَعَزَّى عمن يحبّ فإني ... ليس لي ما حَيِيتُ عنه عزاء )
( أُمُّ عثمان قد قتلتِ قتيلاً ... عَمْدَ عَيْنٍ قتلتِه لا خَطَاءُ )
لم يقع إلينا قائل هذا الشعر فنذكره والغناء لنافع بن طنبورة ولحنه المختار خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى وفي هذا الشعر لحن لعبد الله بن طاهر ثاني ثقيل من جيد صنعته وكان نسبه إلى لميس جاريته وله خبر سنذكره في أخباره إذا انتهينا وكان نافع بن طنبورة يكنى أبا عبد الله مغن محسن من أهل المدينة حسن الوجه نظيف الثوب يلقب نقش الغضار لحسن وجهه وجعلته جميلة في المرتبة لما اجتمع المغنون إليها بعد نافع وبديح وقبل مالك بن أبي السمح وغناها يومئذ
( يا طُولَ ليلِي وبِتُّ لم أَنَمِ ... وِسادِيَ الهَمُّ مُبطِنٌ سَقَمِي )
( أنْ قمتُ يوماً على البَلاَطِ وأبصرتُ ... رَقَاشاً فليتَ له أقُمِ )
فقالت جميلة أحسنت والله يا نقش الغضار ويا حلو اللسان ويا حسن البيان ولم يفارق ابن طنبورة الحجاز ولا خدم الخلفاء ولا انتجعهم بصنعة فخمل ذكره
صوت من المائة المختارة عن علي بن يحيى )
( عَتَق الفؤادُ من الصِّبَا ... ومن السَّفاهة والعَلاَقِ )
( وحططتُ رحلي عن قَلُوصِ ... الغيّ في قُلُص عِتَاقِ )
( ورفعت فضلَ إزاريَ الْمَجرور ... عن قدمي وساقي )
( وكَفَفْتُ غَرْبَ النفسِ حَتَّى ... ما تتوقُ إلى مَتاقِ )
الشعر لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت والغناء لابن عباد الكاتب ولحنه المختار من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل وقيل إنه لغيره
أخبار سعيد بن عبد الرحمن وقد مضى نسبه في نسب جده حسان بن ثابت متقدما وهو شاعر من شعراء الدولة الأموية متوسط في طبقته ليس معدوداً في الفحول وقد وفد إلى الخلفاء من بني أمية فمدحهم ووصلوه ولم تكن له نباهة أبيه وجده
أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثني ابو عمرو الخصاف عن العتبي قال
خرج سعيد بن عبد الرحمن بن حسان مع جماعة من قريش إلى الشام في خلافة هشام بن عبد الملك وسألهم معاونته فلم يصادفوا من هشام له نشاطاً وكان الوليد بن يزيد قد طلق امرأته العثمانية ليتزوج أختها فمنعه هشام عن ذلك ونهى أباها أن يزوجه فمر يوما بالوليد وقد خرج من داره ليركب فلما رآه وقف فأمر به الوليد فدعي إليه فلما جاءه قال أنت ابن عبد الرحمن بن حسان قال نعم أيها الأمير فقال له ما أقدمك قال وفدت على أمير المؤمنين منتجعا ومادحا ومستشفعاً بجماعة صحبتهم من أهله فلم أنل منه حظوة ولا قبولا قال لكنك تجد عندي ما تحب فأقم حتى أعود فأقام ببابه حتى دخل إلى هشام وخرج من عنده فنزل ودعا بسعيد فدخل إليه فأمر بتغيير هيئته وإصلاح شأنه ثم قال له أنشدني قصيدة بلغتني لك فشوقتني
إليك وغنيت في بعضها فلم أزل أتمنى لقاءك فقال أي قصيدة أيها الأمير قال قولك
( أبائنةٌ سُعْدَى ولم تُوفِ بالعَهْدِ ... ولم تَشْفِ قلباً تيّمتْه على عَمْدِ )
( نَعَمْ أفَمُودٍ أنت إن شَطَّتِ النَّوَى ... بسُعْدَى وما من فُرقةِ الدهر من رَدِّ )
( كأنْ قد رأيتَ البينَ لا شيءَ دونه ... فَمِ الآنَ أعْلِنْ ما تُسِرّ من الوجدِ )
( لعلك منها بعد أن تَشْحَطَ النّوَى ... مُلاَقٍ كما لاقى ابنُ عَجْلانَ من هندِ )
( فوَيْلُ ابنِ سَلْمَى خُلَّةً غيرَ أنها ... تُبَلَّغ منِّي وهي مازحةٌ جِدِّي )
( وتدنو لنا في القول وهي بعيدةٌ ... فما إنْ بسَلْمَى من دُنُوٍّ ولا بُعْدِ )
( ومهما أكُنْ جَلْداً عليه فإنَّني ... على هَجْرِها غيرُ الصَّبُورِ ولا الجَلْدِ )
( إذا سُمْتُ نفسي هجرَها قُطِعتْ به ... فجانبتُه فيما أُسِرّ وما أُبْدِي )
( كأنِّي أرى في هجرها أيَّ ساعةٍ ... هَمَمْتُ به موتي وفي وصلها خُلْدي )
( ومن أجلِها صافَيْتُ مَنْ لا تَرُدُّني ... عليه له قُرْبَى ولا نعمةٌ عندي )
( وأغضيتُ عيني من رجالٍ على القَذَى ... يقولون أقوالاً أَمَضُّوا بها جِلْدِي )
( وأقصَيتُ مَنْ قد كنتُ أُدْنِي مكانَه ... وأدنيتُ من قد كنتُ أقصيتُه جَهْدِي )
( فإن يَكُ أمسَى وصلُ سَلمَى خِلابةً ... فما أنا بالمفتونِ في مثلها وحدي )
( فأَصْبحَ ما مَنَّتْكَ دَيْناً مُسَوَّفاً ... لواه غريمٌ ذو اعتلالٍ وذو جَحْدِ )
( تجود بتقريبِ الذي هو آجلٌ ... من الوعد ممطولٌ وتبخَل بالنَّقْدِ )
( وقد قلت إذ أهدَتْ إلينا تحيَّةً ... عليها سلامُ الله من نازح مُهْدِي )
( سقى الغيثُ ذاك الغورَ ما سكنتْ به ... ونجداً إذا صارت نَواهَا إلى نجدِ )
قال فجعل ينشدها ودموع الوليد تنحدر على خديه حتى فرغ منها ثم قال له لن تحتاج إلى رفد أحد ولا معونته ما بقيت وأمر له بخمسمائة درهم وقال ابعث بها إلى أهلك واقم عندي فلن تعدم ما تحبه ما بقيت فلم يزل معه زمانا ثم استأذنه وانصرف وفي بعض هذه الأبيات غناء نسبيته
صوت ( أبائنةٌ سُعْدَى ولم تُوفِ بالعهدِ ... ولم تَشفِ قلباً أقصدتْه على عَمْدِ )
( ومهما أكن جلداً عليه فإنَّني ... على هجرها غيرُ الصبَّور ولا الجَلْدِ )
الغناء لمالك خفيف ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي ومن هذه القصيدة
صوت
وأغضيتُ عيني من رجالٍ على القَذَى ... يقولون أقوالاً أَمَضُّوا بها جِلْدِي )
( إذا سُمْتُ نفسي هجرَها قُطِعتْ به ... فجانيتُه فيما أسِرّ وما أَبْدِي )
الغناء لابن محرز ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو
خبره مع عبد الصمد مؤدب الوليد بن يزيد أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي ومحمد بن الضحاك بن عثمان قالا
وفد سعيد بن عبد الرحمن بن حسان على هشام بن عبد الملك وكان حسن الوجه فاختلف إلى عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن يزيد بن عبد الملك فأراده على نفسه وكان لوطيا زنديقا فدخل سعيد على هشام مغضبا وهو يقول
( إنه واللَّه لولا أنت لم ... ينجُ منِّي سالماً عبدُ الصَّمَدْ )
فقال له هشام ولماذا قال
( إنه قد رام منِّي خُطَّةً ... لم يَرُمْها قبله منِّي أحدْ )
فقال وما هي قال
( رامَ جهلاً بي وجهلاً بأبي ... يُدْخِلُ الأفعَى إلى خِيسِ الأسَدْ )
قال فضحك هشام وقال له لو فعلت به شيئا لم أنكر عليك
أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني عمر بن شبة قال أخبرنا ابن عائشة لا أعلمه إلا عن أبيه قال
سأل سعيد بن عبد الرحمن بن حسان صديقاً له حاجة وقال هاشم بن محمد في خبره سأل سعيد بن عبد الرحمن ابا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم حاجة يكلم فيها سليمان بن عبد الملك فلم يقضها له ففزع فيها إلى غيره فقضاها فقال
( سُئلتَ فلم تفعلْ وأدركتُ حاجتِي ... تولَّى سواكم حَمْدَها واصطناعَها )
( أبى لك كَسْبَ الحمد رأيٌ مُقَصِّرٌ ... ونفسٌ أضاق اللَّه بالخير باعَها )
( إذا ما أرادته على الخير مرَّةً ... عصاها وإن هَمَّتْ بشرٍّ أطاعها )
قال ابن عمار وقد أنشدنا هذه الأبيات سليمان بن أبي شيخ لسعيد بن عبد الرحمن ولم يذكر لها خبرا
عدي بن الرقاع يشهد له بشاعريته أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن زكريا الغلابي عن ابن عائشة قال
قال رجل من الأنصار لعدي بن الرقاع أكتبني شيئا من شعرك قال ومن أي العرب أنت قال أنا رجل من الأنصار قال ومن منكم القائل
( إنّ الحَمامَ إلى الحجازِ يَهيجُ لي ... طَرَباً تَرَنُّمُهُ إذا يَتَرَنَّمُ )
( والبرقُ حين أَشِيمُه مُتَيامِناً ... وجنائبُ الأرواحِ حين تَنَسَّمُ )
فقال له سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت فقال عليكم بصاحبكم فاكتب شعره فلست تحتاج معه إلى غيره
وفي أول هذه القصيدة غناء نسبته
صوت ( بَرِحَ الخفاءُ فأيَّ ما بك تَكتُمُ ... والشَّوْقُ يُظْهِرُ ما تُسِرّ فيُعْلَمُ )
( وحملتَ سُقْماً من علائِق حبِّها ... والحبُّ يَعْلَقُه الصحيحُ فيَسْقَمُ )
الغناء لحكم خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي وذكره إبراهيم له ولم يجنسه وفي هذه القصيدة يقول
( علويَّةٌ أمستْ ودون وِصَالِها ... مضمارُ مصرَ وعابِدٌ والقُلْزُمُ )
( خَوْدٌ تُطِيفُ بها نواعمُ كالدُّمَى ... مما اصطفى ذو النِّيقة المتوسِّمُ )
( حُلِّينَ مَرْجانَ البحورِ وجوهراً ... كالجمر فيه على النحور يُنَظَّمُ )
( قالت وماءُ العين يغسِل كحلَها ... عند الفِراق بمستهلٍّ يَسْجُمُ )
( يا ليتَ أنك يا سعيدُ بأرضِنا ... تُلْقِي المَراسِيَ ثاوياً وتُخَيِّمُ )
( فتُصِيبَ لذَّةَ عيشِنا ورخاءَه ... فنكون أجواراً فماذا تَنقِمُ )
( لا تَرجِعَنَّ إلى الحجازِ فإنه ... بلدٌ به عيش الكريم مُذَمَّمُ )
( وهَلُمَّ جَاوِرْنا فقلت لها اقصِرِي ... عيشٌ بطَيْبةَ ويحَ غيرِك أنعَمُ )
( أيُفارَقُ الوطنُ الحبيبُ لمنزلٍ ... ناءٍ ويُشْرَى بالحديث الأقدمُ )
( إنّ الحمامَ إلى الحجاز يَهِيجُ لي ... طَرَباً تَرَنُّمُه إذا يترنَّمُ )
( والبرقُ حين أشِيمُه متيامناً ... وجنائبُ الأرواحِ حين تَنَسَّمُ )
( لو لَحَّ ذو قَسَمٍ على أنْ لم يكن ... في الناسِ مُشْبِهُها لبَرّ المُقْسمُ )
( من أجلها تَرْكِي القَرارَ وخَفْضَه ... وتَجَشُّمِي ما لم أكن أَتَجَشَّمُ )
( ولقد كتمتُ غداةَ بانتْ حاجةً ... في الصدر لم يعلم بها متكلِّم )
( تَشفِي برؤيتها السقيمَ وترتمي ... حَبَّ القلوب رَمِيُّها لا يَسْلم )
( رَقْراقةٌ في عُنْفوان شَبابها ... فيها عن الخُلُق الدَّنيِّ تَكَرُّمُ )
( ضَنَّتْ على مُغْرًى بطول سؤالها صَبٍّ كما يَسَلُ الغَنِيُّ المُعْدِمُ )
أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو مسلم عن الحرمازي قال
( خرج سعيد بن عبد الرحمن بن حسان إلى عسكر يزيد بن عبد الملك فأتى عنبسة بن سعيد بن العاصي وكان أبوه صديقاً لأبيه فسأله أن يرفع أمره إلى الخليفة فوعده أن يفعل فلم يمكث إلا يسيراً حتى طرقه لص فسرق متاعه وكل شيء كان معه فأتى عنبسة فتنجزه ما وعده فاعتل عليه ودافعه فرجع سعيد من عنده فارتجل وقال
( أَعَنْبَسُ قد كنت لا تَعْتَزِي ... إلى عِدَةٍ منك كانت ضَلاَلاَ )
( وعدتَ عِدَاتٍ لَوَانجزتَها ... إذاً لحُمِدْتَ ولم تُزْرَ مالاَ )
( وما كان ضَرَّكَ لو قد شفعتَ ... فأعطى الخليفةُ عفواً نَوالا )
( وقد يُنْجِزُ الحرُّ موعودَه ويفعل ما كان بالأمسِ قالا )
( فيا ليتني والمُنَى كاسمِها ... وقد يصرِف الدهرُ حالاً فحالا )
( قعدتُ ولم ألتمس ما وعدتَ ... ويا ليت وعدَك كان اعتلالا )
( وكانت نَعَمْ منك مخزونةً ... وقلت مِن أوَّل يومٍ ألاَلا )
( أرى كذِبَ القولِ من شرِّ ما ... يُعدَ إذا الناسُ عَدوا الخِصالا )
( فأبقيتَ لي عنكَ مندوحةً ... ونفساً عَزُوفاً تُقِلّ السؤالا )
( فإن عدتُ أرجوكُمُ بعدَها ... فبُدِّلتْ بعد العَلاَء السَّفَالا )
( أأرجوك من بعد ما قد عَزَفْتَ ... لَعَمرِي لقد جئت شيئا عُضَالا )
الوليد يستأنس به في الحج نسخت من كتاب عمرو بن أبي عمرو الشيباني يأثر
كان سعيد بن عبد الرحمن بن حسان إذا وفد إلى الشام نزل على الوليد بن يزيد فأحسن نزله وأعطاه وكساه وشفع له فلما حج الوليد لقيه سعيد بن عبد الرحمن في أول من لقيه فسلم عليه فرد الوليد عليه السلام وحياه وقربه وأمر بإنزاله معه وبسطه ولم يأنس بأحد أنسه به وأنشده سعيد قوله فيه
( يا لَقَوْمِي لِلهَجْرِ بعد التَّصافِي ... وتَنَائِي الجميع بعد ائتلافِ )
( ما شجا القلبَ بعد طول اندمال ... غيرُ هابٍ كالفَرْخ بين أَثَافِي )
( ونعيبِ الغراب في عَرْصةِ الدار ... ونُؤْيٍ تَسْفِي عليه السَّوافي )
وقد روى عن سعيد بن عبد الرحمن بن حسان قال رأى علي ابن عمر أوضاحا فقال ألقها عنك فقد كبرت
صوت من المائة المختارة من رواية جحظة ( ما جرتْ خَطْرةٌ على القلب منِّي ... فيكِ إلاَّ استترتُ عن أصحابِي )
( من دموعٍ تجرِي فإن كنتُ وحدي ... خالياً أسعدتْ دموعي انتحابي )
( إنَّ حُبِّي إيَّاكِ قد سَلّ جِسْمِي ... ورَمانِي بالشيبِ قبل الشَّباب )
( ارْحَمِي عاشقاً لكِ اليوم صبّاً ... هائمَ العقل قد ثَوَى في التُّرابِ )
الشعر للسيد الحميري والغناء لمحمد نعجة خفيف رمل أيضا
ولم أجد لهذا المغني خبراً ولا ذكراً في موضع من المواضع اذكره وقد مضت أخبار السيد متقدما
صوت من المائة المختارة ( أكرَعُ الكَرْعةَ الرويَّةَ منها ... ثم أصحو ما شَفَيتُ غَليلِي )
( كم أتى دون عهدِ أُمِّ جميل ... من إنَى حاجةٍ ولُبْثٍ طويلِ )
( وصياح الغراب أن سِرْ فأسْرِعْ ... سوف تحظَى بنائلٍ وقَبُولِ )
الشعر للأحوص والغناء للبردان خفيف ثقيل مطلق في مجرى البنصر التالي بمشيئة الله ج16و17و18.