كتاب
: عيار الشعر
المؤلف : ابن طباطبا العلوي
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
الحمد لله رب العالمين، وصلواته على سيدنا محمد وآله
الطاهرين.
قال أبو الحسن. محمد بن أحمد بن طباطبا العلوي، رحمة
الله عليه: وفقك الله للصواب، وأعانك عليه، وجنبك الخطأ، وباعدك منه، وأدام أنس
الآداب باصطفائك لها، وحياة الحكمة باقتنائك إياها.
فهمت - حاطك الله - ما سألت أن أصفه لك من الشعر، والسبب
الذي يتوصل به إلى نظمه، وتقريب ذلك على فهمك، والتأتي لتيسير ما عسر منه عليك.
وأنا مبين ما سألت عنه، وفاتح ما يستغلق عليك منه، إن شاء الله تعالى.
الشعر وأدواته
الشعر - أسعدك الله - كلام منظوم، بائن عن المنثور الذي
يستعمله الناس في مخاطباتهم، بما خص به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته
الأسماع، وفسد على الذوق. ونظمه معلوم محدود، فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى
الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه، ومن اضطراب عليه الذوق لم يستغن
من تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به، حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع
الذي لا تكلف معه. وللشعر أدوات يجب إعدادها قبل مراسه وتكلف نظمه. فمن تعصت عليه
أداة من أدواته، لم يكمل له ما يتكلفه منه، وبان الخلل فيما ينظمه، ولحقته العيوب من
كل جهة.
فمنها: التوسع في علم اللغة، والبراعة في فهم الإعراب، والرواية
لفنون الآداب، والمعرفة بأيام الناس وأنسابهم، ومناقبهم ومثالبهم، والوقوف على
مذاهب العرب في تأسيس الشعر، والتصرف في معانيه، في كل فن قالته العرب فيه؛ وسلوك
مناهجها في صفاتها ومخاطباتها وحكاياتها وأمثالها، والسنن المستدلة منها،
وتعريضها، وإطنابها وتقصيرها، وإطالتها وإيجازها، ولطفها وخلابتها، وعذوبة
ألفاظها، وجزالة معانيها وحسن مبانيها، وحلاوة مقاطعها، وإيفاء كل معنى حظه من
العبارة، وإلباسه ما يشاكله من الألفاظ حتى يبرز في أحسن زي وأبهى صورة. وأجتناب
ما يشينه من سفساف الكلام وسخيف اللفظ، والمعاني المستبردة، والتشبيهات الكاذبة،
والإشارات المجهولة، والأوصاف البعيدة، والعبارات الغثة، حتى لا يكون متفاوتا
مرقوعاً، بل يكون كالسبيكة المفرغة، والوشي المنمنم والعقد المنظم، واللباس
الرائق، فتسابق معانيه ألفاظه، فيلتذ الفهم بحسن معانيه كالتذاذ السمع بمونق لفظه،
وتكون قوافيه كالقوالب لمعانيه، وتكون قواعد للبناء يتركب عليها ويعلو فوقها، فيكون
ما قبلها مسوقاً إليها، ولا تكون مسوقة إليه، فتقلق في مواضعها، ولا توافق ما يتصل
بها، وتكون الألفاظ منقادة لما تراد له، غير مستكرهة، ولا متعبة، لطيفة الموالج،
سهلة المخارج.
وجماع هذه الأدوات كمال العقل الذي به تتميز الأضداد،
ولزوم العدل وإيثار الحسن، واجتناب القبيح، ووضع الأشياء مواضعها.
صناعة الشعر
فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء
الشعر عليه في فكره نثرا، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه، والقوافي
التي توافقه، والوزن الذي يسلس له القول عليه. فإذا اتفق له بيت يشاكل المعنى الذي
يرومه أثبته، وأعمل فكره في شغل القوافي بما تقتضيه من المعاني على غير تنسيق
للشعر وترتيب لفنون القول فيه؛ بل يعلق كل بيت يتفق له نظمه، على تفاوت ما بينه
وبين ما قبله. فإذا كملت له المعاني، وكثرت الأبيات وفق بينها بأبيات تكون نظاماً
لها وسلكاً جامعاً لما تشتت منها. ثم يتأمل ما قد أداه إليه طبعه ونتجته فكرته،
يستقصي انتقاده، ويرم ما وهي منه، ويبدل بكل لفظة مستكرهة لفظة سهلة نقية، وإن
اتفقت له قافية قد شغلها في معنى من المعاني، واتفق له معنى آخر مضاد للمعنى الأول،
وكانت تلك القافية أوقع في المعنى الثاني منها في المعنى الأول، نقلها إلى المعنى
المختار الذي هو أحسن، وأبطل ذلك البيت أو نقض بعضه، وطلب لمعناه قافية تشاكله،
ويكون كالنساج الحاذق الذي يفوف وشيه بأحسن التفويت ويسديه وينيره ولا يهلهل شيئاً
منه فيشينه، وكالنقاش الرفيق الذي يضع الأصباغ في أحسن تقاسيم نقشه، ويشبع كل صبغ
منها حتى يتضاعف حسنه في العيان، وكناظم الجوهر الذي يؤلف بين النفيس منها والثمين
الرائق، ولا يشين عقوده، بأن يفاوت بين جواهرها في نظمها وتنسيقها. وكذلك الشاعر
إذا أسس شعره على أن يأتي فيه بالكلام البدوي الفصيح لم يخلط به الحضري المولد،
وإذا أتى بلفظة غريبة أتبعها أخواتها، وكذلك إذا سهل ألفاظه لم يخلط بها الألفاظ
الوحشية النافرة الصعبة القيادة، ويقف على مراتب القول، والوصف في فن بعد فن،
ويتعمد الصدق والوفق في تشبيهاته وحكاياته، ويحضر لبه عند كل مخاطبة ووصف، فيخاطب
الملوك بما يستحقونه من جليل المخاطبات، ويتوقى حطها عن مراتبها، وأن يخلطها
بالعامة، كما يتوقى أن يرفع العامة إلى درجات الملوك. ويعد لكل معنى ما يليق به، ولكل
طبقة ما يشاكلها، حتى تكون الاستفادة من قوله في وضعه الكلام مواضعه أكثر من
الاستفادة من قوله في تحسين نسجة وإبداع نظمه.
ويسلك منهاج أصحاب الرسائل في بلاغاتهم، وتصرفهم في
مكاتباتهم، فإن للشعر فصولا كفصول الرسائل، فيحتاج الشاعر إلى أن يصل كلامه على
تصرفه في فنونه صلة لطيفة، فيتخلص من الزل إلى المديح، ومن المديح إلى الشكوى، ومن
الشكوى إلى الاستماحة، ومن وصف الديار والآثار إلى وصف الفيافي والنوق، ومن وصف
الرعود والبروق إلى وصف الرياض والرواد ومن وصف الظلمان والأعيار إلى وصف الخيل والأسلحة،
ومن وصف المفاوز والفيافي إلى وصف الطرد والصيد، ومن وصف الليل والنجوم إلى وصف
الموارد والمياه والهواجر والآل، والحرابي والجنادب. ومن الافتخار إلى اقتصاص مآثر
الأسلاف، ومن الاستكانة والخضوع إلى الاستعتاب والاعتذار، ومن الإباء والاعتياض
إلى الإجابة والتسمح، بألطف تخلص وأحسن حكاية، بلا انفصال للمعنى الثاني عما قبله،
بل يكون متصلا به وممنزجاً معه، فإذا استقصى المعنى وأحاطه بالمراد الذي إليه يسوق
القول بأبسر وصف وأخف لفظ لم يحتج إلى تطويله وتكريره.
والشعر على تحصيل جنسه ومعرفة أسمه، متشابه الجملة،
متفاوت التفصيل، مختلف كاختلاف الناس في صورهم، وأصواتهم، وعقولهم، وحظوظهم
وشمائلهم، وأخلاقهم، فهم متفاضلون في هذه المعاني، وكذلك الأشعار هي متفاضلة في
الحسن على تساويها في الجنس؛ ومواقعها من اختيار الناس إياها كمواقع الصور الحسنة
عندهم، واختيارهم لما يستحسنونه منها.
ولكل اختيار يؤثره، وهوى يتبعه، وبغية لا يستبدل بها ولا
يؤثر سواها.
وقد جمعنا ما اخترناه من أشعار الشعراء في كتاب سميناه
تهذيب الطبع يرتاض من تعاطى قول الشعر بالنظر فيه، ويسلك المنهاج الذي سلكه
الشعراء، ويتناول المعاني اللطيفة كتناولهم إياها، فيحتذي على تلك الأمثلة في
الفنون التي طرقوا أقوالهم فيها. واقتصرنا على ما أخترناه من غير نفي لما تركناه،
بل لاستحسان له خصصناه به دون ما سواه، وقد شذ عنا الكثير مما وجب اختياره وإيثاره،
وإذا استنفدناه ألحقناه بما اخترناه إن شاء الله تعالى.
فمن الأشعار أشعار محكمة متقنة الألفاظ حكيمة المعاني،
عجيبة التأليف إذا نقضت وجعلت نثراً لم تبطل جودة معانيها، ولم تفقد جزالة
ألفاظها. ومنها أشعار مموهة، مزخرفة عذبة، تروق الأسماع والأفهام إذا مرت صفحاً،
فإذا حصلت وانتقدت بهرجت معانيها، وزيفت ألفاظها، ومجت حلاوتها، ولم يصلح نقضها
لبناء يستأنف منه، فبعضها كالقصور المشيدة، والأبنية الوثيقة الباقية على مر الدهور،
وبعضها كالخيام الموتدة التي تزعزعها الرياح، وتوهيها الأمطار، ويسرع إليها البلى،
ويخشى عليها التقوض.
المعاني والألفاظ
وللمعاني ألفاظ تشاكلها فتحسن فيها وتقبح في غيرها، فهي
لها كالمعرض للجارية الحسناء التي تزداد حسناً في بعض المعارض دون بعض. وكم من
معنى حسن قد شين بمعرضه الذي أبرز فيه، وكم معرض حسن قد ابتذل على معنى قبيح
ألبسه، وكم من صارم غضب قد انتضاه من وددت لو أنه انتضاه فهزه ثم لم يضرب به، وكم
من جوهرة نفيسة قد شينت بقرينة لها بعيدة منها، فأفردت عن أخواتها المشاكلات لها، وكم
من زائف وبهرج قد نفقا على نقادهما، ومن جيد نافق قد بهرج عند البصير بنقده فنفاه
سهواً، وكم من زبر للمعاني في حشو الأشعار لا يحسن أن يطلبها غير العلماء بها،
والصياقلة للسيوف المطبوعة منها، وكم من حكمة غريبة قد أزدريت لرثاثة كسوتها، ولو
جليت في غير لباسها ذاك لكثر المشيرون إليها، وكم من سقيم من الشعر قد يئس طبيبه
من برئه، عولج سقمه فعاودته سلامته، وكم من صحيح جني عليه فأرداه حينه.
وليس يخلو ما أودعناه اختيارنا المسمى تهذيب الطبع من
بناء إن لم يصلح لأن تسكن الأفهام في ظله لم يبطل أن ينتفع بنقضه، فبعض البناء
يحتاج إليه.
شعر المولدين
وستعثر في أشعار المولدين بعجائب استفادوها ممن تقدمهم،
ولطفوا في تناول أصولها منهم، ولبسوها على من بعدهم، وتكثروا بأبداعها فسلمت لهم
عند إدعائها، للطيف سحرهم فيها، وزخرفتهم لمعانيها.
والمحنة على شعراء زماننا في أشعارهم أشد منها على من
كان قبلهم لأنهم قد سبقوا إلى كل معنى بديع ولفظ فصيح، وحيلة لطيفة، وخلابة ساحرة.
فإن أتوا بما يقصر عن معاني أولئك، ولا يربى عليها لم يتلق بالقبول وكان كالمطرح
المملول. ومع هذا فإن من كان قبلنا في الجاهلية الجهلاء، وفي صدر الإسلام، من
الشعراء كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها مديحاً
وهجاء، وافتخاراً ووصفا، وترغيباً وترهيباً، إلا ما قد احتمل الكذب فيه في حكم
الشعر: من الإغراق في الوصف والإفراط في التشبيه. وكان مجرى ما يوردونه مجرى القصص
الحق، والمخاطبات بالصدق، فيحابون بما يثابون ويثابون بما يحابون.
والشعراء في عصرنا إنما يثابون على ما يستحسن من لطيف ما
يوردونه من أشعارهم، وبديع ما يغربون من معانيهم، وبليغ ما ينظمونه من ألفاظهم
ومضحك ما يوردونه من نوادرهم، وأنيق ما ينسجونه من وشي قولهم، دون حقائق ما يشتمل
عليه من المدح، والهجاء، وسائر الفنون التي يصرفون القول فيها. فإذا كان المديح ناقصاً
عن الصفة التي ذكرناها، كان سبباً لحرمان قائله، والمتوسل به. وإذا كان الهجاء
كذلك أيضاً كان سبباً لاستهانة المهجو به وأمنه من سيره، ورواية الناس له، وإذا
عتهم إياه وتفكههم بنوادره لا سيما وأشعارهم متكلفة غير صادرة عن طبع صحيح، كأشعار
العرب التي سبيلهم في منظومها سبيلهم في منثور كلامهم الذي لا مشقة عليهم فيه.
فينبغي للشاعر في عصرنا أن لا يظهر شعره إلا بعد ثقته
بجودته وحسنه وسلامته من العيوب التي نبه عليها، وأمر بالتحرز منها، ونهي عن
استعمال نظائرها، ولا يضع في نفسه أن الشعر موضع اضطرار، وأنه يسلك سبيل من كان
قبله، ويحتج بالأبيات التي عيبت على قائلها؛ فليس يقتدى بالمسيء، وإنما الاقتداء
بالمحسن، وكل واثق فيه مجل له إلا القليل. ولا يغير على معاني الشعر فيودعها شعره،
ويخرجها في أوزان ومخالفة لأوزان الأشعار التي يتناول منها ما يتناول، ويتوهم أن
تغييره للألفاظ والأوزان مما يستر سرقته، أو يوجب له فضيلة، بل يديم النظر في
الأشعار التي قد اخترناها لتلصق معانيها بفهمه، وترسخ أصولها في قلبه، وتصير مواد لطبعه،
ويذرب لسانه بألفاظها؛ فإذا جاش فكره بالشعر أدى إليه نتائج ما استفاده مما نظر
فيه من تلك الأشعار، فكانت تلك النتيجة كسبيكة مفرغة من جميع الأصناف التي تخرجها
المعادن. وكما قد اغترف من واد قد مدته سيول جارية من شعاب مختلفة، وكطيب تركب من
أخلاط من الطيب كثيرة، فيستغرب عيانه، ويغمض مستبطنه ويذهب في ذلك إلى ما يحكى عن
خالد بن عبد الله القسري، فإنه قال: حفظني أبي ألف خطبة ثم قال لي: تناسها؛
فتناسيتها؛ فلم أرد بعد ذلك شيئاً من الكلام إلا سهل على. فكان حفظه لتلك الخطب
رياضة لفهمه، وتهذيباً لطبعه، وتلقيحاً لذهنه، ومادة لفصاحته، وسبباً لبلاغته
ولسنه وخطابته.
طريقة العرب في التشبيه
واعلم أن العرب أودعت أشعارها من الأوصاف والتشبيهات
والحكم ما أحاطت به معرفتها، وأدركه عيانها، ومرت به تجاربها وهم أهل وبر: صحونهم
البوادي وسقوفهم السماء، فليست تعدو أوصافهم ما رأوه منها وفيها، وفي كل واحدة منهما
في فصول الزمان على اختلافها: من شتاء، وربيع، وصيف، وخريف، من ماء، وهواء، ونار،
وجبل، ونبات وحيوان، وجماد، وناطق، وصامت، ومتحرك، وساكن، وكل متولد من وقت نشوئه،
وفي حال نموه إلى حال انتهائه. فتضمنت أشعارها من التشبيهات ما أدركه من ذلك
عيانها وحسها، إلى ما في طبائعها وأنفسها من محمود الأخلاق ومذمومها، في رخائها
وشدتها، ورضاها وغضبها، وفرحها وغمها، وأمنها وخوفها، وصحتها وسقمها، والحلات
المتصرفة في خلقها، من حال الطفولة إلى حال الهرم، وفي حال الحياة إلى حال الموت.
فشبهت الشيء بمثله تشبيهاً صادقاً على ما ذهبت إليه في معانيها التي أرادتها فإذا
تألمت أشعارها وفتشت جميع تشبيهاتها وجدتها على ضروب مختلفة تتدرج أنواعها. فبعضها
أحسن من بعضه، وبعضها ألطف من بعض. فأحسن التشبيهات ما إذا عكس لم ينتقص، بل يكون كل
مشبه بصاحبه مثل صاحبه، ويكون صاحبه مثله مشتبهاً به صورة ومعنى. وربما أشبه الشيء
الشيء صورة وخالفه معنى، وربما أشبهه معنى وخالفه صورة، وربما قاربه وداناه أو
شامه. وأشبهه مجازاً لا حقيقة.
فإذا اتفق لك في أشعار العرب التي يحتج بها تشبيه لا
تتلقاه بالقبول، أو حكاية تستغر بها فابحث عنه ونقر عن معناه، فإنك لا تعدم أن تجد
تحته خبيئة إذا أثرتها عرفت فضل القوم بها، وعلمت أنهم أدق طبعاً من أن يلفظوا
بكلام لا معنى تحته. وربما خفى عليك مذهبهم في سنن يستعملونها بينهم في حالات
يصفونها في أشعارهم، فلا يمكنك استنباط ما تحت حكاياتهم، ولا تفهم مثلها إلا
سماعاً، فأذا وقفت على ما أرادوه لطف موقع ما تسمعه من ذلك عند فهمك.
والكلام الذي لا معنى له كالجسد الذي لا روح فيه. كما
قال بعض الحكماء: للكلام جسد وروح، فجسده النطق وروحه معناه. فأما ما وصفته العرب،
وشبهت بعضه ببعض فما أدركه عيانها فكثير لا يحصر عدده، وأنواعه كثيرة. وسنذكر بعض
ذلك ونبين حالاته وطبقاته إن شاء الله تعالى.
المثل الاخلاقية عند العرب
وبناء المدح والهجاء عليها
وأما ما وجدته في أخلاقها ومدحت به سواها، وذمت من كان
على ضد حاله فيه فخلال مشهورة كثيرة: منها في الخلق الجمال والبسطة، ومنها في
الخلق السخاء والشجاعة، والحلم والحزم والعزم، والوفاء، والعفاف، والبر، والعقل، والأمانة،
والقناعة، والغيرة، والصدق، والصبر، والورع، والشكر، والمداراة، والعفو، والعدل
والإحسان، وصلة الرحم، وكتم السر، والمواناة، وأصالة الرأي، والأنفة، والدهاء وعلو
الهمة، والتواضع، والبيان، والبشر، والجلد، والتجارب، والنقض والإبرام. وما يتفرع
من هذه الخلال التي ذكرناها من قرى الأضياف، وإعطاء العفاة، وحمل المغارم، وقمع
الأعداء، وكظم الغيظ، وفهم الأمور، ورعاية العهد، والفكرة في العواقب، والجد،
والتشمير، وقمع الشهوات، والإيثار على النفس، وحفظ الودائع، والمجازاة، ووضع
الأشياء مواضعها، والذب عن الحريم، واجتلاب المحبة، والتنزه عن الكذب، واطراح
الحرص، وإدخار المحامد والأجر، والاحتراز من العدو، وسيادة العشيرة، واجتناب
الحسد، والنكاية في الأعداء، وبلوغ الغابات، والاستكثار من الصدق، والقيام بالدية وكبت
الحساد، والإسراف في الخير، واستدامة النعمة، وإصلاح كل فاسد، واعتقاد المنن،
واستعباد الأحرار بها، وإيناس النافر، والإقدام على بصيرة، وحفظ الجار. وأضداد هذه
الخلال: البخل، والجبن، والطيش، والجهل، والغدر، والاغترار، والفشل، والفجور،
والعقوق، والخيانة، والحرص والمهانة، والكذب، والهلع، وسوء الخلق، ولؤم الظفر،
والخور، والإساءة، وقطيعة الرحم، والنميمة، والخلاف، والدناءة، والغفلة، والحسد،
والبغي، والكبر، والعبوس، والإضاعة، والقبح، والدمامة، والقماءة، والابتذال،
والخرف، والعجز، والعي.
ولتلك الخصال المحمودة حالات تؤكدها، وتضاعف حسنها،
وتزيد في جلالة المتمسك بها، كما أن لأضدادها أيضاً حالات تزيد في الحط ممن وسم
بشيء منها ونسب إلى استشعار مذمومها، والتمسك بفاضحها، كالجود في حال العسر موقعه
فوق موقعه في حال الجدة، وفي حال الصحو أحمد منه في حال السكر، كما أن البخل من
الوافر القادر أشنع منه من المضطر العاجز، والعفو في حال المقدرة أجل موقعاً منه في
حال العجز، والشجاعة في حال مبارزة الأقران أحمد منها في حال الإحراج ووقوع
الضرورة، والعفة في حال اعتراض الشهوات والتمكن من الهوى أفضل منها في حال فقدان
اللذات، واليأس من نيلها، والقناعة في حال تبرج الدنيا ومطامعها أحسن منها في حال
اليأس وانقطاع الرجاء منها.
وعلى هذا التمثيل، وجميع الخصال التي ذكرناها. فاستعملت
العرب هذه الخلال وأضدادها، ووصفت بها في حالي المدح والهجاء مع وصف ما يستعد به
لها ويتهأ لاستعماله فيها، وشعبت منها فنوناً من القول وضروباً من الأمثال وصنوفاً
من التشبيهات ستجدها على تفننها واختلاف وجوهها في الاختيار الذي جمعناه، فتسلك في
ذلك منهاجهم، وتحتذي على مثالهم إن شاء الله تعالى.
عيار الشعر
علة حسن الشعر
وعيار الشعر أن يورد على الفهم الثاقب، فما قبله واصطفاه
فهو راف، وما مجه ونفاه فهو ناقص. والعلة في قبول الفهم الناقد للشعر الحسن الذي
يرد عليه، ونفيه للقبيح منه، واهتزازه لما يقبله، وتكرهه لما ينفيه، إن كل حاسة من
حواس البدن إنما تتقبل ما يتصل بها مما طبعت له إذا كان وروده عليها وروداً لطيفاً
باعتدال لاجور فيه، وبموافقة لا مضادة معها، فالعين تألف المرأى الحسن، وتقذى
بالمرأى القبيح الكريه، والأنف يقبل المشم الطيب، ويتأذى بالمنتن الخبيث، والفم
يلتذ بالمذاق الحلو، ويمج البشع المر، والأذن تتشوف للصوت الخفيض الساكن وتتأذى
بالجهير الهائل، واليد تنعم بالملمس اللين الناعم، وتتأذى بالخشن المؤذي. والفهم
يأنس من الكلام بالعدل الصواب الحق، والجائز المعروف المألوف، ويتشوف إليه، ويتجلى
له، ويستوحش من الكلام الجائر، والخطأ الباطل، والمحال المجهول المنكر، وينفر منه،
ويصدأ له. فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوماً، مصفى من كدر العي، مقوماً من
أود الخطأ واللحن، سالماً من جور التأليف، موزوناً بميزان الصواب لفظاً ومعنى وتركيباً
اتسعت طرقه، ولطفت موالجه، فقبله الفهم وارتاح له، وأنس به. وإذا ورد عليه على ضد
هذه الصفة، وكان باطلا محالاً مجهولاً، انسدت طرقه ونفاه واستوحش عند حسه به،
وصدىء له، وتأذى به، كتأذى سائر الحواس بما يخالفها على ما شرحناه.
وعلة كل حسن مقبول الاعتدال، كما أن علة كل قبيح منفي الاضطراب.
والنفس تسكن إلى كل ما وافق هواها، وتقلق مما يخالفه، ولها أحوال تتصرف بها، فإذا
ورد عليها في حالة من حالاتها ما يوافقها اهتزت له وحدثت لها أريحية وطرب، فإذا
ورد عليها ما يخالفها قلقت وأستوحشت.
وللشعر الموزون إيقاع يطرب الفهم لصوابه ويرد عليه من
حسن تركيبه واعتدال اجزائه. فإذا اجتمع للفهم مع صحة وزن الشعر صحة المعنى وعذوبة اللفظ
فصفا مسموعه ومعقوله من الكدر تم قبوله له، واشتماله عليه، وإن نقص جزء من أجزائه
التي يعمل بها وهي: اعتدال الوزن، وصواب المعنى، وحسن الألفاظ، كان إنكار الفهم إياه
على قدر نقصان أجزائه. ومثال ذلك الغناء المطرب الذي يتضاعف له طرب مستعمه،
المتفهم لمعناه ولفظه مع طيب ألحانه. فأما المقتصر على طيب اللحن منه دون ما سواه
فناقص الطرب. وهذه حال الفهم فيما يرد عليه من الشعر الموزون مفهوماً أو مجهولاً.
وللأشعار الحسنة على اختلافها مواقع لطيفة عند الفهم لا تحد كيفيتها: كمواقع
الطعوم المركبة الخفية التركيب اللذيذة المذاق، وكالأراييح الفائحة المختلفة الطيب
والنسيم، وكالنقوش الملونة التقاسيم والأصباغ، وكالإيقاع المطرب المختلف التأليف،
وكالملامس اللذيذة الشهية الحس، فهي تلائمه إذا وردت عليه - أعني الأشعار الحسنة
للفهم - فيلتذها ويقبلها، ويرتشفها كارتشاف الصديان للبارد الزلال، لأن الحكمة
غذاء الروح، فأنجع الأغذية ألطفها. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر
حكمة وقال عليه السلام: ما خرج من القلب وقع القلب، وما خرج من اللسان لم يتعد
الآذان. فإذا صدق ورود القول نثراً ونظماً أثلج صدره. وقال بعض الفلاسفة: إن للنفس
كلمات روحانية من جنس ذاتها. وجعل ذلك برهاناً على نفع الرقى ونجعها فيما تستعمل
له.
فإذا ورد عليك الشعر اللطيف المعنى، الحلو اللفظ، التام
البيان، المعتدل الوزن، مازج الروح ولاءم الفهم، وكان أنفذ من نفث السحر، وأخفى
دبيباً من الرقى، وأشد إطراباً من الغناء، فسل السخائم، وحلل العقد، وسخى الشحيح،
وشجع الجبان، وكان كالخمر في لطف دبيبه وإلهائه، وهزه وإثارته. وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم: إن من البيان لسحراً.
علة أخرى
ولحسن الشعر وقبول الفهم إياه علة أخرى وهي موافقته للحال
التي يعد معناه لها؛ كالمدح في حال المفاخرة، وحضور من يكبت بانشاده من الأعداء،
ومن يسر به من الأولياء. وكالهجاء في حال مباراة المهاجى، والحط منه حيث ينكى فيه
استماعه له. وكالمراثي في حال جزع المصاب، وتذكر مناقب المفقود عند تأبينه،
والتعزية عنه. وكالاعتذار والتنصل من الذنب عند سل سخيمة المجني عليه، المعتذر
إليه. وكالتحريض على القتال عند التقاء الأقران وطلب المغالبة. وكالغزل والنسيب
عند شكوى العاشق، واهتياج شوقه وحنينه إلى من يهواه.
صدق العبارة
فإذا وافقت هذه الحالات، تضاعف حسن موقعها عند مستمعها،
لا سيما إذا أيدت بما يجذب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة
فيها، والتصريح بما كان يكتم منها، والاعتراف بالحق في جميعها.
والشعر هو ما إن عري من معنى بديع لم يعر من حسن
الديباجة. وما خالف هذا فليس بشعر. ومن أحسن المعاني والحكايات في الشعر وأشدها
استفزازاً لمن يسمعها، الابتداء بذكر ما يعلم السامع له إلى أي معنى يساق القول
فيه قبل استتمامه، وقبل توسط العبارة عنه، والتعريض الخفي الذي يكون بخفائه أبلغ
في معناه من التصريح الظاهر الذي لا ستر دونه. فموقع هذين عند الفهم كموقع البشرى عند
صاحبها لثقة الفهم بحلاوة ما يرد عليه من معناهما.
ضروب التشبيهات
والتشبيهات على ضروب مختلفة. فمنها: تشبيه الشيء بالشيء صورة وهيئة، ومنها
تشبيهه به معنى، ومنها تشبيهه به حركة، وبطئاً وسرعة، ومنها تشبيهه به لوناً،
ومنها تشبيهه به صوتاً. وربما امتزجت هذه المعاني بعضها ببعض، فإذا اتفق في الشيء
المشبه بالشيء معنيان أو ثلاثة معان من هذه الأوصاف قوي التشبيه وتأكد الصدق فيه،
وحسن الشعر به للشواهد الكثيرة المؤيدة له.
فأما تشبيه الشيء بالشيء صورة وهيئة فكقول امرىء القيس:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً ... لدى وكرها العناب
والحشف البالي
وكقوله:
كأن عيون الوحش حول خبائنا ... وأرحلنا الجزع الذي لم
يثقب
وكقول عدي بن الرقاع:
تزجى أغن كأن إبرة روقه ... قلم أصاب من الدواة مدادها
وأما تشبيه الشيء بالشيء لوناً وصورة فكقول امرىء القيس
يصف الدرع:
ومسرودة السك موضونة ... تضاءل في الطي كالمبرد
تفيض على المرء أردانها ... كفيض الأتي على الجدجد
وكقول النابغة:
تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... بردا أسف لثاته بالإثمد
كالأقحوان غداة غب سمائه ... جفت أعاليه وأسفله ندي
وكقول حميد بن ثور:
على أن سحقا من رماد كأنه ... حصى إثمد بين الصلاء سحيق
وأما تشبيه الشيء بالشيء صورة ولوناً وحركة وهيئة فكقول
ذي الرمة:
ما بال عينك منها الدمع ينسكب ... كأنه من كلى مفرية سرب
وفراء غرفية أثأى خوارزها ... مشلشل ضيعته بينها الكتب
وكقول الشماخ:
لليلى بالعنيزة ضوء نار ... تلوح كأنها الشعرى العبور
إذا ما قلت أخمدها زهاها ... سواد الليل والريح الدبور
وكقول ابن الشماخ: وهو جنادة بن جزي.
والشمس كالمرآة في كف الأشل وكقول امرىء القيس:
جمعت ردينياً كأن سنانه ... سنا لهب لم يتصل بدخان
وكقول ليلى الأخيلية:
قوم رباط الخيل وسط بيوتهم ... وأسنة زرق يخلن نجوما
وأما تشبيه الشيء بالشيء حركة وهيئة فكقول عنترة:
وترى الذباب بها يغني وحده ... هزجاً كفعل الشارب
المترنم
غرداً يحك ذراعه بذراعه ... قدح المكب على الزناد الأجذم
وكقول الأعشى.
غراء فرعاء مصقول عوارضها ... تمشي الهويني كما يمشي
الوجى الوجل
كأن مشيتها من بيت جارتها ... مر السحابة لا ريث ولا عجل
وكقول حميد بن ثور.
أرقت لبرق آخر الليل يلمع ... سرى دائبا فيه يهب ويهجع
دنا الليل واستن استنانا زفيفه ... كما استن في الغاب
الحريق المشيع
وكقوله:
خفا كإقتذاء الطير والليل مدبر ... بجثمانه والصبح قد
كان يسطع
وكقول ابن هرمة:
ترى ظلها عند الرواح كأنه ... إلى دفها رأل يخب جنيب
وكقول الآخر.
يضحى بها الحرباء وهو كأنه ... خصم معد للخصومة موفق
وكقول الآخر:
كأن أنوف الطير في عرصاتها ... خراطيم أقلام تخط وتعجم
وأما تشبيه الشيء بالشيء معنى لا صورة فكتشبيه الجواد
الكثير العطاء بالبحر والحيا، وتشبيه الشجاع بالأسد، وتشبيه الجميل الباهر الحسن
الرواء بالشمس، وتشبيه المهيب الماضي في الأمور بالسيف، وتشبيه العالي الهمة
بالنجم، وتشبيه الحليم الركين بالجبل، وتشبيه الحيي بالبكر، وتشبيه العزيز الصعب المرام
بالمتوقل في الجبال والسامي في العلو، وتشبيه الفائت بالحلم، وبأمس الذاهب. وتشبيه
أضداد هذه المعاني بأشكالها على هذا القياس: كاللئيم بالكلب، والجبان بالصفرد،
والطائش بالفراش، والذليل بالنقد وبالوتد، والقاسي بالحديد والصخر.
وقد فاز قوم بخلال شهروا بها من الخير والشر وصاروا
أعلاماً فيها فربما شبه بهم فيكونون في المعاني التي احتووا عليها وذكروا بشهرتها
نجوماً يقتدى بهم، وأعلاماً يشار إليهم كالسمو أل في الوفاء، وحاتم في السخاء،
والأحنف في الحلم، وسحبان في البلاغة، وقيس في الخطابة، ولقمان في الحكمة، فهم في
التشبيه يجرون مجرى ما قدمنا ذكره من البحر والحيا والشمس والقمر والسيف، ويكون
التشبيه بهم مدحاً كالتشبيه بها، وكذلك أضدادها. وقوم يذمون فيما شهروا به، يشبه
بهم في حال الذم، كما يشبه بهؤلاء في حال المدح: كباقل في العي وهنبقة في الحمق،
والكسعى في الندامة، والمنزوف صرطاً في الجبن.
فالشاعر الحاذق يمزج بين هذه المعاني في التشبيهات لتكثر
شواهدها ويتأكد حسنها، ويتوقى الاقتصار على ذكر المعاني التي يغير عليها دون
الإبداع فيها والتلطيف لها لئلا يكون كالشيء المعاد المملول.
أدوات التشبيه
فما كان من التشبيه صادقاً قلت في وصفه كأنه أو قلت
ككذا، وما قارب الصدق قلت فيه تراه أو تخاله أو يكاد. فمن التشبيه الصادق قول
أمرىء القيس:
نظرت إليها والنجوم كأنها ... مصابيح رهبان تشب لقفال
فشبه النجوم بمصابيح رهبان لفرط ضيائها وتعهد الرهبان
لمصابيحهم وقيامهم عليها لتزهر إلى الصبح، فكذلك النجوم زاهرة طول الليل وتتضاءل
للصباح كتضاؤل المصابيح له. وقال: تشب لقفال لأن أحياء العرب بالبادية إذا قفلت
إلى مواضعها التي تأوي إليها من مصيف إلى مشتى، ومن مشتى إلى مربع أوقدت نيراناً
على قدر كثرة منازلها وقلتها ليهتدي بها، فشبه النجوم ومواقعها من السماء بتفرق
تلك النيران واجتماعها في مكان بعد مكان على حسب منازل القفال من أحياء العرب،
ويهتدي بالنجوم كما يهتدي القفال بالنيران الموقدة لهم.
وأما تشبيه الشيء بالشيء معنى لا صورة فكقول: النابغة:
ألم تر أن الله أعطاك سورة ... ترى كل ملك دونها يتذبذب
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
وكقوله أيضاً:
فإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن المنتأى عنك
واسع
خطاطيف حجن في حبال متينة ... تمد بها أيد إليك نوازع
وكقوله:
وإنك غيث ينعش الناس سيبه ... وسيف أعيرته المنية قاطع
وكقول الأعشى:
كالهندواني لا يخزيك مشهده ... وسط السيوف إذا ما تضرب
البهم
وكقول زهير:
لو كنت من شيء سوى بشر ... كنت المنير لليلة البدر
ولأنت أجود بالعطاء من ال ... ريان لما جاد بالقطر
ولأنت أشجع من أسامة إذ ... رأب الصريخ ولج في الذعر
ولانت أحيا من مخدرة ... عذراء تقطن جانب الخدر
ولأنت أبين حين تنطق من ... لقمان لما عي بالمكر
وكقول النابغة الجعدي:
فقد بليت وأفنانى الزمان كما ... يفني تقلب أقطار الرحى
القطبا
وقال الراعي،
وكالسيف إن لاينته لأن متنه ... وحداه إن خاشنته خشنان
وكقول الراعي:
فما أم عبد الله إلا عطية ... من الله أعطاها امرءاً هو
شاكر
هي الشمس وافاها الهلال بنوهما ... نجوم بآفاق السماء
نظائر
تذكرها المعروف وهي حيية ... وذو اللب أحيانا مع الحلم
ذاكر
كما استقبلت غيثا جنوب ضعيفة ... فأسبل ريان الغمامة
ماطر
وأما تشبيه الشيء بالشيء حركة وبطئاً وسرعة فكقول الراعي:
كأن يديها بعد ما انضم بدنها ... وصوب حاد بالركاب يسوق
يدا ماتح عجلان رخو ملاطه ... له بكرة تحت الرشاء فلوق
وكقول امرىء القيس:
كأن الحصى من خلفها وأمامها ... إذا نجلته رجلها حذف
أعسرا
وكقول الآخر:
كأنما الرجلان واليدان ... طالبتا وتر وهاربان
وكقول الأخطل:
وهن عند اغترار القوم ثورتها ... يرهقن مجتمع الأعناق
والركب
فهن ثمت يزفى قذف أرجلها ... إهذاب أيد بها يضرين كالعذب
كلمع أيدي مثاكيل مثلبة ... ينعين فنيان ضرس الدهر
والخطب
وكقول حميد بن ثور:
من كل يعملة يظل زمامها ... يسعى كما هرب الشجاع المنفر
وكقول الشماخ.
وكلهن يباري ثني مطرد ... كحية الطود ولى غير مطرود
وكقول امرىء القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
أصاح ترى برقاً أريك وميضه ... كلمح اليدين في حبي مكلل
وأما تشبيه الشيء لوناً فكقول الأعشى.
وسبيئة مما تعتق بابل ... كدم الذبيح سلبتها جربالها
وكقول حميد بن ثور:
والليل قد ظهرت نحيزته ... والشمس في صفراء كالورس
وكقول الشماخ:
إذا ما الليل كان الصبح فيه ... أشق كمفرق الرأس الدهين
وكقول عبيد بن الأبرص:
يا من لبرق أبيت الليل أرقبه ... في عارض كمضيء الصبح
لماح
وكقول زهير:
زجرت عليه حرة أرحبية ... وقد صار لون الليل مثل الأرندج
وكقول امرىء القيس:
وليل كموج البحر أرخى سدوله ... علي بأنواع الهموم
ليبتلي
وكقول كعب بن زهير:
وليلة مشتاق كأن نجومها ... تفرقن منها في طيالسة خضر
وكقول ذي الرمة:
وليل كسربال الغراب ادرعته ... إليك كما احتث اليمامة
أجدل
وكقول ابن هرمة:
وقد لاح للساري الذي كحل السرى ... على أخريات الليل فتق
مشهر
كلون الحصان الأنبط البطن قائما ... تمايل عنه الجل
واللون أشقر
وكقوله:
إلي أن يشق الليل ورد كأنه ... وراء الدجى جاد أغر جواد
وأما تشبيه الشيء بالشيء صوتاً فكقول الشماخ:
أجد كأن صريفها بسديسها ... في البيد صارخة صرير الأخطب
وكقول الراعي:
كأن دوي الحلي تحت ثيابها ... حصاد السفا لاقى الرياح
الزعازعا
وكقول الشماخ:
كأن نهيفهن بكل فج ... إذا ارتحلوا تأوه نائحات
وكقوله:
إذا أنبض الراموان عنها ترنمت ... ترنم ثكلى أوجعتها
الجنائز
وكقول الأعشبي:
تسمع للحلى وسواساً إذا انصرفت ... كما استعان بريح عشرق
زجل
وأما الابتداء بما يحس السامع بما ينقاد إليه القول فيه
قبل استتمامه فكقول النابغة:
إذا ما غزوا بالجيش حلق فوقهم ... عصائب طير تهتدي
بعصائب
فقدم في هذا البيت معنى ما تحلق الطير من أجله، ثم أوضحه
بقوله:
يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم ... من الضاريات بالدماء
الذوارب
تراهن خلف القوم زوراً كأنها ... جلوس شيوخ في مسوك
الأرانب
جوانح قد أيقن أن قبيله ... إذا ما التقى الجمعان أول
غالب
لهن عليهم عادة قد عرفنها ... إذا عرضوا الخطي فوق
الكواثب
وقول الآخر:
لعمرك ما الناس أثنوا عليك ... ولا مدحوك ولا عظموا
ولو أنهم وجدوا مسلكا ... إلى أن يعيبوك ما أحجموا
فقدم معنى ما ساق إليه الإبتداء، فقال في تمامه:
ولكن صبرت لما ألزموك ... وجدت بما لم يكن يلزم
وأنت بفضلك ألجأتهم ... إلى أن يقولوا وأن يعظموا
وأما التعريض الذي ينوب عن التصريح، والاختصار الذي ينوب
عن الإطالة. فكقول عمرو بن معدي كرب:
فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ... نطقت، ولكن الرماح أجرت
أي لو أن قومي اعتنوا في القتال، وصدقوا المصاع، وطعنوا
أعداءهم برماحهم فأنطقتني بمدحهم وذكر حسن بلائهم نطقت، ولكن الرماح أجرت أي شقت
لساني كما يجر لسان الفصيل، يريد أسكتتني.
وكقول الآخر في معناه:
بني عمنا لا تذكروا الشعر بعدما ... دفنتم بصحراء الغمير
القوافيا
وكقول قيس بن خويلد في ضده:
وكنا أناساً أنطقتنا سيوفنا ... لنا في لقاء القوم جد
وكوكب
وكقول الآخر:
لعمري لنعم الحي حي بني كعب ... إذا نزل الخلخال منزلة
القلب
يقول: إذا ريعت صاحبة الخلخال فأبدت ساقها وشمرت للهرب.
والقلب السوار تبديه المرأة وتخفي الخلخال إذا لبستهن.
وقد قيل في معنى هذا البيت أيضاً إن المرأة إذا ريعت لبست الخلخال في يدها دهشاً.
وكقول حميد بن ثور:
أرى بصري قد رابني بعد صحة ... وحسبك داء أن تصح وتسلما
وكقول لبيد:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو
مضر
ومن الاختصار قول لبيد:
وبنو الريان أعداء للا ... وعلى ألسنتهم ذلت نعم
زينت أحسابهم أنسابهم ... وكذاك الحلم زين للكرم
ومن المدح البليغ الموجز قول امرئ القيس:
وتعرف فيه من أبيه شمائلا ... ومن خاله ومن يزيد ومن حجر
سماحة ذا وبر ذا ووفاء ذا ... وتأمل ذا إذا صحا وإذا سكر
وكقول محمد بن بشير الخارجي:
يا أيها المتمني أن يكون فتى ... مثل ابن زيد لقد خلى لك
السبلا
أعدد نظائر أخلاق عددن له ... هل سب من أحد أو سب أو
بخلا
وكقول الآخر:
علم الغيث الندى حتى إذا ... ما حكاه علم البأس الأسد
فله الغيث مقر بالندى ... وله الليث مقر بالجلد
وكقول الآخر:
يا من نؤمل أن تكون خصاله ... كخصال عبد الله أنصت
واستمع
فلأنصحنك في المشورة والذي ... حج الحجيج إليه فاقبل
أوفدع
أصدق وعف وبر واصبر واحتمل ... واحلم وكف ودار واسمع
واشجع
وكقول الآخر:
شبه الغيث فيه والليث والبد ... ر فسمح ومحرب وجميل
فهذه أمثلة لأنواع التشبيهات التي وعدنا شرحها، وفي كتاب
تهذيب الطبع ما يسد الخلل الذي فيها، ويأتي على ما أغفلنا وصفه والاستشهاد به من
هذا الفن إن شاء الله تعالى.
الأشعار المحكمة وأضدادها
ونذكر الآن أمثلة للأشعار المحكمة الرصف، المستوفاة
المعاني، السلسة الألفاظ، الحسنة الديباجة، وأمثلة لأضدادها. وننبه على الخلل
الواقع فيها، ونذكر التي قد زادت قريحة قاثليها فيها على عقولهم، والأبيات التي
أغرق قائلوها فيما ضمنوها من المعاني، والأبيات التي قصروا فيها عن الغايات التي
جروا إليها في الفنون التي وصفوها، والقوافي القلقة في مواضعها، والقوافي المتمكنة
في مواقعها، والألفاظ المستكرهة، النافرة الشائنة للمعاني التي اشتملت عليها،
والمعاني المسترذلة الشائنة للألفاظ المشغولة بها. والأبيات الرائقة سماعا،
الواهية تحصيلاً، والأبيات القبيحة نسجاً وعبارة، العجيبة معنى وحكمة وإصابة.
سنن العرب وتقاليدها
وأمثلة لسنن العرب المستعملة بينها، التي لا تفهم
معانيها إلا سماعاً، كإمساك العرب عن بكاء قتلاها حتى تطلب بثأرها، فإذا أدركته
بكت حينئذ قتلاها. وفي هذا المعنى:
من كان مسروراً بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء جواسراً يندبنه ... يطلمن أوجههن بالأسحار
قد كن يكنن الوجوه تستراً ... فالآن حين برزن للنظار
يقول: من كان مسروراً بمقتل مالك فليستدل ببكاء نسائنا
وندبهن إياه على أنا قد أخذنا بثأرنا وقتلنا قاتله.
وككيهم إذا أصاب إبلهم العر والجرب السليم منها ليذهب
العر عن السقيم. وفي ذلك يقول النابغة متمثلاً:
يكلفني ذنب امرئ وتركته ... كذي العر يكوى غيره وهو راتع
وكحكمهم إذا أحب الرجل منهم امرأة وأحبته، فلم يشق برقعها
ولم تشق هي رداءه فإن حبهما يفسد، وإذا فعلاه دام أمرهما. وفي ذلك يقول عبد بني
الحسحاس سحيم:
فكم قد شققنا من رداء محبر ... ومن برقع عن طفلة غير
عانس
إذا شق برد شق بالبرد مثله ... دواليك حتى كلنا غير لابس
وكتعليقهم الحلي والجلاجل على السليم ليفيق. وفي ذلك
يقول النابغة:
يسهد من ليل التمام سليمها ... لحلى النساء في يديه
قعاقع
ويقول رجل من عذرة:
كأني سليم ناله كلم حية ... ترى حوله حلي النساء موضعا
وكفقئهم عين الفحل إذا بلغت إبل أحدهم ألفا، فإن زادت عن
الألف فقأوا العين الأخرى، يقولون إن ذلك يدفع عنها الغارة والعين. وفي ذلك يقول
قائلهم يشكر ربه على ما وهب له:
وهبتها وأنت ذو امتنان ... يفقاً فيها أعين البعران
وقال بعض العرب ممن أدرك الإسلام يذكر أفعالهم:
وكان شكر القوم عند المنن ... كي الصحيحات وفقاً الأعين
وكسقيهم العاشق الماء على خرزة تسمى السلوان فيسلو، ففي
ذلك يقول القائل:
يا ليت أن لقلبي من يعلله ... أو ساقياً فسقاه اليوم
سلوانا
وقال آخر:
شربت على سلوانه ماء مزنة ... فلا وجديد العيش يا مي ما
أسلو
وكإيقادهم خلف المسافر الذي لا يحبون رجوعه ناراً،
ويقولون: أبعده الله وأسحقه. وأوقد ناراً إثره. وفي ذلك يقول شاعرهم.
وذمة أقوام حملت ولم نكن ... لنوقد ناراً إثرهم للتندم
وكضربهم الثور إذا امتنعت البقر من الماء، ويقولون إن
الجن تركب الثيران فتصد البقر عن الشراب. قال الأعشى:
فإني وما كلفتموني وربكم ... ليعلم من أمسى أحق وأحوبا
لكالثور والجني يركب ظهره ... وما ذنبه أن عافت الماء
مشربا
وما ذنبه أن عافت الماء باقر ... وما إن تعاف الماء إلا
ليضربا
وقال نهشل بن حري:
أتترك عامر وبنو عدي ... وتغرم دارم وهم براء
كذاك الثور يضرب بالهراوي ... إذا ما عافت البقر الظماء
وكزعمهم أن المقلات - وهي التي لا يبقى لها ولد - إذا
وطئت قتيلا شريفاً بقي ولدها. وفي ذلك يقول القائل:
تظل مقاليت النساء يطأنه ... يقلن ألا يلقى على المرء
مئزر
وقال الكميت:
وتظل المؤزرات المقاليت ... يطلن القعود بعد القيام
وإنما يفعل النساء ذلك بالشريف إذا كان مقتولاً غدراً أو
قوة.
وكزعمهم أن الرجل إذا خدرت رجله فذكر أحب الناس إليه ذهب
عنه الخدر.
وقال كثير:
إذا خدرت رجلي ذكرتك أشتفي ... بذكرك من خدر بها فيهون
وقالت امراة من بني بكر بن كلاب:
صب محب إذا ما رجله خدرت ... نادى كنيسة حتى يذهب الخدر
وكحذف الصبي منهم سنه إذا سقطت في عين الشمس، وقوله،
أبدليني بها أحسن منها، وليجر في ظلمها إياتك.
سقته إياه الشمس إلا لثاته ... أسف ولم يكمد عليه بإثمد
وقال أبو دؤاد:
ألقى عليه إياه الشمس أدرانا
وزعم العرب أن الصبي إذا فعل ذلك لم تنبت أسنانه عوجاً
ولا ثعلاً. وقال طرفة بن العبد في ذلك:
بدلته الشمس من منبته ... برداً أبيض مصقول الأشر
وكزعمهم أن المهقوع - وهو الفرس الذي به هقعة - وهي
دائرة تكون بالفرس فيقال فرس مهقوع إذا ركبه رجل فعرق الفرس اغتلمت امراته وطمحت
إلى غير بعلها. وقال بعض العرب لصاحب فرس مهقوع:
إذا عرق المهقوع بالمرء أنعظت ... حليلته وازداد حراً
عجانها
فأجابه:
وقد يركب المهقوع من لست مثله ... وقد يركب المهقوع زوج
حصان
كعقدهم السلع والعشر في أذناب الثيران؛ وإضرامهم النيران
فيها، وإصعادهم إياها على تلك الحالة في جبل يستسقون بذلك ويدعون الله. وهذا إذا
حبست السماء قطرها. وفي ذلك يقول أمية بن أبي الصلت الثقفي:
سنة ازمة تخيل بالنا ... س ترى للعضاه فيها صريرا
لا على كوكب نوء ولا ... ريح جنوب ولا ترى طحرورا
ويسوقون باقر السهل للطور ... مهازيل خشية ان تبورا
سلع ما ومثله عشر ما ... عائل وعالت البيقورا
أي أثقلت البقر بما حلمت من السلع والعشر. وفي هذا
المعنى للورل الطائي:
لا در در رجال خاب سعيهم ... يستمطرون لدى الأزمات
بالعشر
جاعل أنت بيقوراً مسلعة ... ذريعة لك بين الله والمطر
وكزعمهم أن من ولد في القمر رجعت قلفته إلى وراء. فكان
كالمختون. دخل امرؤ القيس على قيصر الحمام فرآه فقال فيه:
إني حلفت يميناً غير كاذبة ... إنك أقلف إلا ما جنى القمر
إذا طعنت به مالت عمامته ... كما تجمع تحت الفلكة الوبر
وكعقدهم خيطاً يسمونه الرتم في غصن شجرة أو ساقها، إذا
سافر أحدهم وتفقد ذلك الخيط عند رجوع المسافر منهم فإن وجده على حاله قضى بان أهله
لم تخنه، وإن رآه قد حل حكم بأنها قد خانته. وأنشد في هذا المعنى:
هل ينفعنك اليوم أن همت بهم ... كثرة ما توصي وانعقاد
الرتم
وفي معناه أيضاً:
خانته لما رأت شيباً بمفرقه ... وغرو خلفها والعقد الرتم
وقال الراجز:
به من الجوى لمم ... وغره عقد الرتم
وكزعمهم أن الرجل إذا أراد قرية فخاف وباءها فوقف على
بابها قبل أن يدخل فعثركما ينهق الحمار، ثم دخلها لم يصبه وباؤها. وقال عروة بن
الورد في ذلك، وكان خرج مع أصحابه له إلى خيبر يمتارون فخافوا وباءها، فعشروا وأبى
عروة أن يفعل، فلما دخلوها وامتاروا وانصرفوا نحو بلادهم لم يبلغوا مكانهم إلا وعامتهم
ميت أو مريض إلا عروة، فقال:
لعمري لئن عشرت من خشية الردى ... نهاق الحمير إنني
لجزوع
فلا وألت تلك النفوس ولا أتت ... على روضة الأجداد وهي
جميع
وكزعمهم أن من علق على نفسه كعب أرنب لم تقربه الجن. وفي
ذلك يقول الشاعر:
ولا ينفع التعشير إن حم واقع ... ولا دعدع يغني ولا كعب
أرنب
قال ابن الأعرابي: قلت لزيد بن كسوة: من علق على نفسه
كعب أرنب لم تقربه جنات الحمى وعمار الدار فقال إي والله وشيطان الحماط، وجان
العشيرة، وغول القفر، وكل الخوافي، إي والله وتطفأ عنه نيران السعالي وتبوخ.
وكزعمهم إذا أرادت جنية صبي قوم فلم تقدر عليه، من سن
ثعلب أو سن هرة، وأشباه ذلك. فلما رجعت إلى صواحباتها ضرطا من ذلك قالت: كانت عليه
نقرة ثعالب وهررة، والحيض حيض السمرة - وحيض السمرة شيء يسيل من السمرة في حمرة دم
الغزال، فإذا يبس كان أسود فإذا ديف بالماء عاد أحمر كما كان، ذلك يزابل صبيانهم.
حين تلد المرأة تخط به وجه الصبي ورأسه، وتنقط وجه أمه، تسميه نقطة الماء، واسم
هذا الخط الدودم فهذه الأشياء لا تفهم معانيها إلا سماعاً، وربما كانت لها نظائر
في أشعار المحدثين من وصف أشياء تعرض في حالات غامضة، إذا لم تكن المعرفة بها
متقدمة عسر استنباط معانيها واستبرد المسموع منها. وكقول أبي تمام:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت ... أعمارهم قبل نضج التين
والعنب
وكان القوم الذين وصفهم يتواعدون الجيش الذي كان بإزائهم
بالقتال، وأن ميعاد فنائهم وقت نضج التين والعنب وكانت مدة ذلك قريبة في ذلك
الوقت، فلما ظفر بهم حلى الطائي قولهم على جهة التقريع والشماتة، ولولا ما ذهب
إليه في هذا المعنى لكان ما أورده من أبرد الكلام وأغثه، على أن قوله: نضجت
أعمارهم، ليس بمستحسن ولا مقبول.
الأبيات المتفاوتة النسج
فأما هذه الأبيات المستكرهة الألفاظ المتفاوتة النسج،
القبيحة العبارة، التي يجب الاحتراز من مثلها فيقول الأعشى:
أفي الطوف خفت علي الردى ... وكم من رد أهله لم يرم
يريد لم يرم أهله.
وكقول الراعي:
فلما أتاها حبتر بسلاحه ... مضى غير مبهور ومنصله انتضى
يريد: وانتضى منصله.
وكقول عروة بن أذينة:
واسق العدو بكأسه واعلم له ... بالغيب ان قد كان قبل
سقاكها
واجز الكرامة من ترى أن لو ... له يوماً بذلت كرامة
لجزاكها
فقوله في البيت الأول: وأعلم له بالغيب كلام غث وله
رديئة الموقع بشعة المسمع، والبيت الثاني كان مخرجه أن يقول: واجز الكرامة من ترى،
أن لو بذلت له يوماً كرامة لجزاكها.
كقوله أيضاً:
وأعملت المطية في التصابي ... رهيص الخف دامية الأظل
أقول لها لهان علي فيما ... أحب فما اشتكاؤك أن تكلي
يريد: أقول لهان علي فيما أحب أن تكلي فما اشتكاؤك وكقول
النابغة:
يصاحبنهم حتى يغرن مغارهم ... من الضاريات بالدماء
الذوارب
يريد من الضاريات الذوارب بالدماء، وإنما يصح مثل هذا
إذا التبس بما قبله، لأن الدماء جمع والذوارب جمع، ولو كان من الضاريات بالدم
الذوارب لم يلتبس، وإن كانت هذه الكلمة حاجزة بين الكلمتين، أعني بين الضاريات
والذوارب اللتين يجب أن تقرنا معاً.
وكقول النابغة أيضاً:
يثرن الثرى حتى يباشرن برده ... إذا الشمس مجت ريقها
بالكلاكل
وكقول الشماخ:
تخامض عن برد الوشاح إذا مشت ... تخامص حافي الخيل في
الأمعز الوجى
يريد: تخامص حافي الخيل الوجى في الأمعز.
وكقول النابغة الجعدي:
وشمول قهوة بكارتها ... في التباشير من الصبح الأول
يريد: في التباشير الأول من الصبح.
وكقول ذي الرمة:
كأن أصوات من إيغالهن بنا ... أواخر الميس أصوات
الفراريج
يريد: كأن أصوات أواخر الميس أصوات الفراريج من إيغالهن
بنا. وكقوله أيضاً:
البرد عنه وهو من ذو جنونه ... أجاري تسهاك وصوت صلاصل
يريد: وهو من جنونه ذو أجاري وكقول عمرو بن قميئة.
لما رأت سانيد ما استعبرت ... لله در اليوم من لامها
يريد: لله در من لامها اليوم.
وكقول أبي حية النميري:
كما خط الكتاب بكف يوماً ... يهودي يقارب أو يزيل
يريد: كما خط الكتاب يوما بكف يهودي يقارب أو يزيل.
وكقول امرأة من قيس:
لها أخوا في الحرب من لا أخا له ... إذا خاف يوما نبوة
ودعاهما
وكقول الفرزدق:
وما مثله في الناس إلا مملكاً ... أبو أمه حي أبوه
يقاربه
فهذا هو الكلام الغث المستكره الغلق، وكذلك ما نقدمه،
فلا تجعلن هذا حجة ولتجتنب ما أشبهه.
والذي يحتمل فيه بعض هذا إذا ورد في الشعر هو ما يضطر
إليه الشاعر عند اقتصاص خبر أو حكاية كلام إن أزيل عن جهته لم يجز، ولم يكن صدقاً
ولا يكون للشاعر معه اختيار، لأن الكلام يملكه حينئذ فيحتاج إلى اتباعه والانقياد
له، فأما ما يمكن الشاعر فيه من تصريف القول وتهذيب الألفاظ واختصارها وتسهيل مخارجها،
فلا عذر له عند الإتيان بمثل ما وصفناه من هذه الأبيات المتقدمة.
وعلى الشاعر إذا اضطر إلى اقتصاص خبر في عشر دبره
تدبيراً يسلس له معه القول ويطرد فيه المعنى. فبنى شعره على وزنت يحتمل أن يخشى
بما يحتاج إلى اقتصاصه بزيادة من الكلام يخلط به، او نقص يحذف منه. وتكون الزيادة
والنقصان بسيرين غير مخدجين؛ لما يستعان فيه بهما وتكون الألفاظ المزيدة غير خارجة
من جنس ما يقتضيه، بل تكون مؤيدة له، وزائدة في رونقه وحسنه. كقول الأعشى فيما
اقتصه من خبر السموأل:
كن كالسموأل إذ طاف الهمام به ... في جحفل كرهاء الليل
جرار
بالأبلق الفرد من تيماء منزله ... حصن حصين وجار غير
غدار
إذ سامه خطتي خسف فقال له ... أعرض علي كذا أسمعهما حار
فقال: غدر وثكل أنت بينهما ... فاختر وما فيهما حظ
لمختار
فشك غير قليل ثم قال له: ... اقتل أسيرك إني مانع جاري
فإن له خلفاً إن كنت قاتله ... وإن قتلت كريماً غير غوار
مالاً كثيراً وعرضاً غير ذي دنس ... وأخوة مثله ليسوا
بأشرار
جروا على أدب مني فلا نزق ... ولا إذا شمر حرب بأغمار
وسوف يخلفه إن كنت قاتله ... رب كريم وبيض ذات أطهار
لا سرهن لدينا ضائع مذق ... وكاتمات إذا استودعن أسراري
فقال تقدمة إذ قام يقتله: ... أشرف سموأل فانظر للدم
الجاري
أأقتل ابنك صبراً أو تجيء بها ... طوعاً فأنكر هذا أي
انكار
فشك أو داجه والصدر في مضض ... عليه منطوياً كاللذع
بالنار
واختار أدرعه أن لا يسب بها ... ولم يكن عهده فيها بختار
وقال: لا أشتري عاراً بمكرمة ... فاختار مكرمة الدنيا
على العار
والصبر منه قديماً، شيمة خلق ... وزنده في يالوفاء
الثاقب الواري
فانظر إلى استواء هذا الكلام، وسهولة مخرجه، وتمام
معانيه وصدق الحكاية فيه، ووقوع كل كلمة موقعها الذي أريدت له من غير حشد مجتلب
ولا خلل شائن. وتأمل لطف الأعشى فيما حكاه واختصره في قوله: أأقتل ابنك صبراً أو
تجيء بها، فأضمر ضمير الهاء في قوله: واختار أدراعه أن لا يسب بها، فتلافى ذلك
الخلل بهذا الشرح، فاستغنى سامع هذه الأبيات عن استماع القصة فيها، ولا شتما لها على
الخبر كله بأوجز كلام، وأبلغ حكاية وأحسن تأليف، وألطف إيماءة.
عيار الشعر
الأبيات التي اغرق قائلوها في معانيها
فأما الأبياتُ التي أغرق قائلوها في معانيها فكقول
النابغة الجعدي:
بلغنا السماء نجدةً وتكرُّماً ... وإنا لنرجو فوق ذلك
مظهرا
وكقول الطرماح:
لو كان يُخفَى على الرحمن خافية ... من خلقه خفيتْ عنه
بنو أسد
قومُ أقامَ بدار الذُّل أوَّلهُم ... كما أقامت عليه
جِذمة الوتد
وقوله:
ولو أنَّ حرقوصاً يزقق مكةً ... إذا نهلت منه تميم
وعلَّتِ
ولو أنّ برغوثاً على ظهرِ نملةٍ ... يكرُّ على صَفَّيْ
تميمٍ لولَّت
ولو جَمَعَتْ عُليا تميمٍ جموعَها ... على ذرَّةٍ
معقولةٍ لاستقلَّت
ولو أنّ أمّ العنكبوتِ بنت لهم ... مظلّتها يوم الندى
لاستظلتِ
وكقول زهير:
أو كان يقعدُ فوق الشمسِ من كرمٍ ... قومٌ بأولهم أو
مجدهم قعدوا
وكقول أبي الطمحان القيني:
أضاءت لهم أحسابهُم ووجوهُهُم ... دجَى الليل حتى نظَّم
الجزْع ثاقبه
أو كقول امرىء القيس:
من القاصرات الطرفِ لو دبَّ محولٌ ... من الذرِّ فوق
الإِتبِ منها لأثَّرا
وكقول قيس بن الخطيم:
طعنتُ ابن عبد القيس طعنةَ ثائرٍ ... لها نفذٌ لولا
الشعاعُ أضاءها
ملكت بها كفّي فأنهرتُ فتقَهاً ... يُرى قائمٌ من دونها
ما وراءها
وقول الآخر:
ضربته في الملتقى ضربةً ... فزال عن منكبه الكاهلُ
فصار ما بينهما رهوةً ... يمشي بها الرامح والنابلُ
وقول أبي وجزة السعدي:
ألا عللاني والمعللُ أروَحُ ... وينطق ما شاح اللسان
المسرحُ
بإجَّانة لو أنه خرَّ بازلٌ ... من البُخْت فيها ظل
للشقِّ يسبح
وكقول النابغة:
وإنك كالليل الذي هو مدركي ... وإن خلت أن لمنتأى عنك
واسعُ
خطاطيف حُجْنٍ في حبال متينة ... تمد بها أيدٍ إليك
نوازع
وإنما قال: كالليل الذي هو مدركي ولم يقل: كالصبح، لأنه
وصفه في حال سخطه، فشبهه بالليل وهو له، فهي كلمة جامعة لمعان كثيرة.
ومثله للفرزدق:
لقد خفت حتى لو رأى الموت مقبلا ... ليأخذني والموت يكره
زائرُهْ
لكان من الحجاج أهونُ روعةً ... إذا هو أغفى وهو سام
نواظره
فانظر إلى لطفه في قوله: إذا هو أغفى ليكون أشد مبالغة
في الوصف إذا وصفه عند إغفاله بالموت، فما ظنك به ناظراً متأملاً يقظاً ثم نزهه عن
الإِغفاء فقال: وهو سام نواظره.
وكقول جرير:
ولو وُضِعتْ فِقاح بني نمير ... على خبث الحديد إذاً
لذابا
إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلَّهُمُ غضاباً
وقد سلك جماعة من الشعراء المحدثين سبيل الأوائل في
المعاني التي أغرقوا فيها.
وقال أبو نواس:
وأخَفَتَ أهل الشرك حتى أنه ... لتخافك النطفُ التي لم
تُخلقِ
وقال بكر بن النطاح:
لو صال من غضبٍ أبو دُلفٍ على ... بيض السيوف لذُبْنَ في
الأغماد
قال:
قالوا وينظمُ فارسين بطعنه ... يوم الهياج ولا يراه
جليلا
لا تعجبوا فلو أن طول قناته ... ميلٌ إذاً نظم الفوارس
ميلا
قال: فمن الأشعار المحكمة المتقنةِ المستوفاةِ المعاني، الحسنةِ
الرصف، السلسةِ الألفاظ، التي قد خرجت خروج النثر سهولة وانتظاماً، فلا استكراه في
قوافيها، ولا تكلف في معانيها، ولا داعيّ لأصحابها فيها قول زهير:
سئمت تكاليفَ الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أبالك
يسأمِ
رأيت المنايا خبط عشواء من تِصِبْ ... تُمِتْهُ ومن
تِخْطىءْ يعمَّر فيهرم
ومن لا يصانعْ في أمور كثيرة ... يضرَّس بأنياب ويوطأ
بمنسم
وأعلَمُ ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علم ما
في غدٍ عم
ومن يجعل المعروفَ من دون عرضه ... يِفَرْهُ ومن لا يتقِ
الشتمَ يُشتمِ
ومن يَكُ ذا فضل فيبخل بفضلهِ ... على قومه يستغنَ عنه
ويذمم
ومن يوفِ لا يذمم ومن يفض قلبُه ... إلى مطمئن البر لا
يتجمجم
ومن يعصَ أطراف الزّجاج فإنه ... يطيع العوالي رَكبِّت
كلَّ لهذم
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه ... يُهَدَّمْ ومن لا يظلمِ
الناسَ يظلم
ومن يغتربْ يحسبْ عدواً صديقه ... ومن لا يكرم نفسه لا
يُكرَّمٍ
كقوله:
هنالك إن يُسْتَخْبَلُوا المال يخبلُوا ... وأن
يُسْألُوا يعطوا وأن ييسروا يغلوا
وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجُوهُهم ... وأنديةٌ ينتابها القول
والفعلُ
على مُكْثريهم حقُّ من يعترِيهُم ... وعند المقلين
السماحة والبذْلُ
وإن جئتهم ألفيت حول بيوتهم ... مجالسَ قد يشفى
بأحخلامها الجَهْلُ
وإن قام منهم حامل قال قاعدٌ ... شُكِرْتَ فلا غرمٌ عليك
ولا جذلُ
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهُم ... فلم يفعلوا ولم يكتموا
ولم يألوا
وما يَكُ من خير أتوه فإنما ... توارثه آباءُ آبائهم
قَبْلُ
وهل ينبت الخطِّي إلا وشيجه ... وتُغرس إلا في منابتها
النخلُ
وكقول أبي ذؤيب:
أَمِنَ المنونِ وريبِها تتوجع ... والدهر ليس بمعتْب من
يَجْزعُ
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا
تَنْفَعُ
والنفسُ راغِبةٌ إذا رغَّبتها ... وإذا تردُّ إلى قليل
تقنعُ
وكقول أبي قيس بن الأسلت:
قالت ولم تقصد لقِيل الخنا ... مهلاً فقد أبلغت أسماعي
واستنكرت لوناً له شاحباً ... والحربُ غولٌ ذاتُ أوجاعِ
من يذقاِ الحربَ يجدْ طَعْمَها ... مُراً وَتُبْرِكُه
بِجعْجاع
قد حصِّت البيضَّةُ رأسي فما ... أطعم نوماً غير تهجاعِ
أسعى على جُلِّ بني مالِكِ ... كُلُّ امرىءٍ في شأنه
ساعِ
أعددت للأعداء فضفاضةً ... موضونةً كالنهيِ بالقاعِ
أُحفِّزها عنِّي بذي رونَقٍ ... أبيض مثل الملْحِ قطَّاع
صدقٍ حسامٍ وادقٍ حدُّه ... ومازنٍ أسمر قَرَّاعِ
بزِّ امرىءٍ مستبسلٍ حاذرٍ ... للدهر جلدٍ غير مِجْزَاع
الكيسُ والقوةُ خير من الإِ ... دهان والفكة والهَاعِ
ليس قطاً مثل قطيِّ ولا الم ... رعيُّ في الأقوامِ
كالراعي
لا نألمُ القتلَ ونجزي به الأعداء كيل الصاع بالصاعِ
بين يدي رجراجةٍ فخمةٍ ... ذات عرانين ودُفَّاع
كأنهم أسد لدى أشْبُلٍ ... تَهْتزُّ في غيلٍ وأجْزاع
هلاَّ سألت القوم إذْ قَلَّصتْ ... ما كان إبطائي
وإسراعي
هلْ أبذلُ المال على حقِّهِ ... فيهم وآبى دعوة الداعي
وأضربُ القونس يوم الوغى ... بالسيف لم يقصر به باعي
وكقول النمر بن تولب:
لعمري لقد أنكرت نفسي اربني ... مع الشيب أبذالي التي
أتبذَّلُ
فصولٌ أراها في أديمي بعد ما ... يكون كفافُ اللحمِ أو
هو أجْمَلُ
كأنَّ محطَّا في يدَيْ حارثيةٍ ... صناعٌ علت به
الجِلْدَ مِنْ عَلُ
تداركَ ما قبل الشبابِ وبَعده ... حوادثُ أيام تَمُرُّ
وأغْفُلُ
يودُّ الفتى طولَ السلامة جاهداً ... فكيف ترى طول
السلامة يفعَلُ
وكقول عنترة:
إني أمرؤٌ من خير عبسٍ منصباً ... شطري وأحمي سائري
بالمنصلِ
وإذا الكتيبةُ أحجمت وتلاحظت ... أُلْفيت خيراً من
مُعمٍّ مُخْولِ
والخيل تعلمُ والفوارسُ أنني ... فرقت جمعَهم بضربة
فَيْصَل
إذ لا أبادرُ في المضيقِ فوارسِي ... أو لا أوكَّلُ
بالرعيل الأوَّلِ
إن يلحقوا أكْرُرْ، وإن يستلحموا ... أشدد، وإن يلفوا
بضنكٍ أنزل
حين النزول يكون غايةُ مثلنا ... ويفرّ كلُّ مضللٍ
مستوِهلِ
ولقد أبيتِ على الطوى وأظلُّه ... حتى أنال به كريمَ
المأكلِ
بكرت تخوفَني الحتُوفَ كأنّني ... أصبحت عن غرض الحتوفِ
بمعزل
فأجبتها: إن المنية منهلٌ ... لا بُدَّ أن أُسقى بذاك
المنهلِ
إن المنية لو تُمَّثلُ مُثِّلَتْ ... مثلي إذا نزلوا
بضنك المنزلِ
والخيل ساهمةُ الوجوهِ كأنَّما ... تسقي فوارِسها نقيعَ
الحَنْظلِ
وكقول الأسود بن يعفر:
ماذا أؤملُ بعد آل محرِّقٍ ... تركوا منازلهم وبعد إيادِ
أرض تخيرها لطيب مقيلها ... كعبُ بنُ مامة وابنُ أم دؤاد
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشةٍ ... في ظلِّ ملكٍ ثابتِ
الأوتادِ
إمَّا تريني قد بليت وغاضني ... ما نِيل من بصري ومن
أجلادي
وعصيت أصحاب اللذاذة والصبا ... وأطعت عاذلتي وذلَّ
قيادي
فلقد أروح إلى التجار مرجَّلاً ... مذلاً بمالي ليناً
أجيادي
وكقول الخنساء:
لو أن للدهر مالا كان مُتْلِدَهُ ... لكان للدهر صخرٌ
مالَ قُنْيان
آبي النصيحةِ حمالُ العظيمةِ متلا ... فُ الكريمةِ لا
سقطٍ ولا وَان
حامي الحقيقةِ نسّالُ الوديقةِ ... مِعتاقُ الوثيقةِ
جلدٌ غيرُ ثُنيان
ربَّاءُ مرقبةٍ، مناعُ مغلقةٍ ... ورَّاد مشربةٍ، قطاع
أقرانِ
يعطيك مالا تكاد النفسُ تبذُله ... من التلادِ وهوبٌ
غيرُ منَّان
شهَّاد أنجيةٍ، حمَّالُ ألوية ... هبَّاط أوديةٍ، سرحان
قيعان
التاركُ القرنِ مخضوباً أناملُهُ ... كأن في ريطتيه نضخُ
أرْقَانِ
وكقول القطامي:
والعيش لا عيشَ إلا ما تقرُّ به ... عيناً ولا حالَ إلا
سوفَ تَنْتقِل
والناسُ من يلقَ خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأم
المخطىء الهبلُ
قد يدرك المتأنِّي بعضَ حاجتِهِ ... وقد يكون من
المستعجلِ الزلّلُ
وفيها يقول:
يمشين رهواً فلا الأعجازُ خاذلةٌ ... ولا الصدورُ على
الأعجاز تتكِلُ
فهن معترضات والحصى رِمضٌ ... والريحُ ساكنة والظِلُّ
مُعتدلُ
يتبعن ساميةَ العينين تحسبُها ... مجنونة أو ترى ما لا
ترى الإبِلُ
إن ترجعي من أبي عثمان منجحةً ... فقد يهون مع المستنجح
العَملُ
أهلُ المدينةِ لا يحزنك شأنهُمُ ... إذا تَخَطَّأ عبدَ
الواحِد الأجَلُ
وكقوله أيضاً:
يقتلَننا بحديثٍ ليس يعلمه ... من يتقين ولا مكتومهُ
بادي
فهن ينبذن من قولٍ يصبْن به ... مواقِعَ الماء من ذي
الغُلة الصادي
من مبلغٌ زفَرَ القيسيَّ مدحتَه ... من القطامِيِّ قولاً
غير أفنادِ
إني وإن كان قومي ليس بينهُمُ ... وبَيْنَ قومِك إلا
ضَربةَ الهادي
مثنِ عليك فما استيقنت معرفتي ... وقد تعرَّض مني مقتلٌ
بادي
فلن أُثيبَك بالنعماء مشتمةً ... ولن أبدِّل إحساناً
بإفسادِ
فإن هجوتك ما تمت مكارمتي ... وإن مدحتُ لقد أحسنت
إصْفادي
وإن قدرت على يوم جزيت به ... والله يجعل أقْواماً
بمرصادِ
أبلغْ ربيعةَ وأعلاها وأسفلها ... أنَّا وقيساً توَاعدنا
لميعادِ
نقريهم لهذميات نقُدُّ بِها ... ما كان خاط عليهم كلُّ
زرَّادِ
وكقول ذي الرمة:
من آل أبي موسى ترى القومَ حوله ... كأنهم الكراونُ
أبصرن بازياً
فما يغربون الضّحكَ إلا تبسماً ... ولا ينبسون القولَ
إلاَّ تناجيا
لدى ملكٍ يعلو الرجالَ بضوئه ... كما يبهر البدرُ النجوم
السواريا
إذا أمست الشِّعرى العبور كأنها ... مهاةٌ علت من رمْل
يبرين رابيا
فما مرتع الجيران إلا جفانكم ... تبارَوْنَ أنتم
والشمالُ تبارِيا
وكقول سلاَّمةَ بن جندل:
سَوَّى الثِّقَافُ قناها فهِي محكمةٌ ... قليلة الزْيع
من سَنِّ وتركيبِ
كأنها بأكفِّ القوم إذا لَحِقُوا ... مواتِحُ البئر أو
أشطانُ مطلوبِ
كُنَّا إذا ما أتانا صارخٌ فزعٌ ... كان الصراخُ له قرعَ
الظَّنابيب
وشَدَّ كورٍ على وجناءَ ناجيةٍ ... وشَدَّ لِبدٍ على
جرداء سرحوب
وكقول المغيرة بن حبناء:
فإن يكُ عاراًىما لقيت فربما ... أتى المرء يومُ السوءِ
من حيث لا يدري
ولم أرَ ذا عيش يدُومُ ولا أرى ... زمان الغنى إلا
قريباَ منَ الفقر
ومن يفتقرْ يعلمْ مكان صديقِهِ ... ومن يحيى لا يعدم
بلاءَ من الدَّهرِ
وإني لأستحيي إذا كنت معسِراً ... صديقي والخلانَ أن
يعلموا عُسْري
وأهجر خلاني وما خان عهدهم ... حياءً وإكراماً وما بي من
كِبر
وأكرم نفسي أن ترى بي حاجةً ... إلى أحدٍ دوني وإن كان
ذا وفر
ولما رأيتُ المالَ قد حيل دونه ... وصُدَّتْ وجوهٌ دون
أرحامها البترُ
جعلتُ حليفَ النفسِ عَصْباً ونثرةً ... وأزرقَ مشحوذاً
كحافية النسرِ
ولا خيْرَ في عيش أمرىءٍ لا ترى له ... وظيفة حق في ثناء
وفي أجر
وكقول الفرزدق:
ولو أن قوماً قاتلوا الدَّهر قبلنا ... بشيء لقاتلنا
المنية عن بشر
ولكن فجعنا والرَّزيئَةُ مثله ... بأبيضَ ميمونِ
النقيبةِ والأمرِ
أغرُّ أبو العاصي أبوه كأنما ... تفرجت الأثوابُ عن قمر
بدْرِ
فإلا تكُن هندٌ بكته فقد بكت ... عليه الثريا في كواكبها
الزُّهْرِ
وإنَّ أبا مروانَ بِشْرٌ أخاكُمُ ... ثوى غير متبوع بذمٍ
ولا غدْرِ
وما أحدٌ ذا فاقةٍ كان مثلنا ... إليه ولكن لا تقيةَ
للدهْرِ
ألم تَرَ أن الأرض هُدَّت جبالُها ... وأن نجومَ الليل
بعدك لا تسري
ضربت ولم أظْلم لبشرٍ بصارمٍ ... شوى فرسٍ بين الجنازة
والقبر
أغرَّ صريحياً فلا أعوجّ أمته ... طويلاً أمرَّته الجياد
على شَزْرِ
ألست شحيحاً إن ركبتك بعده ... ليوم رهانٍ لو غدوت معي
تجري
وقال يرثى بنيه:
ولو كان البكاءُ يردُّ شيئاً ... على الباكي بكيت على
صقوري
بنيّ أصابهُمُ قدرُ المنايا ... وما منهن من أحد مجيري
ولو كانوا بني جبلٍ فمانوا ... لأمسي وهو مختشعُ
الصُّخور
إذا حنّت نوارٌ تهيجُ منِّي ... حرارة مثل ملتهب
السَّعيرِ
حنين الوالهين إذا ذكرنا ... فؤادينا اللذين مع القبور
كأنَّ تشرُّبُ العبراتِ منها ... هراقةُ شنتين على
بَعيرِ
كأن الليل يحبسه علينا ... ضِرارٌ أو يكرُّ إلى نذورِ
كأنَّ نجومَهُ شولٌ تثنَّى ... لأدهم في مباركها عقيرِ
وكقوله:
ومحفورةٍ لا ماءَ فيها مهيبةٍ ... لغمِّي بأعواد المنية
بابُها
أناخ إليها أبْناي ضيفي مقامة ... إلى عصبة لا تُستعارُ
ثوابُها
وكانوا هم المال الذي لا أبيعُهُ ... ودرعي إذا ما
الحربُ هرْت كلابُها
وكم قاتلٍ للجوع قد كان فيهمُ ... ومن حيةٍ قد كان سماًّ
لُعابها
إذا ذكرت أسماؤهم أو دعوتُهم ... تكاد حيازيمي تفرُّ
صلابُها
وإني وأشرافي عليهم وما أرى ... كنفسي إذ هم في فؤادي
لبابُها
كراكز أرماحٍ تجزَّعنَ بعد ما ... أقيمت عواليها
وَشُدَّت حرابُها
إذا ذكرتْ عيني الذين هُم لها ... قذىً هيجَ مني
بالبكاءِ انسكابُها
بنو الأرض قد كانوا بنيَّ فعزَّني ... عليهم بآجالِ
المنايا كتابُها
وداعٍ عليَّ اللهُ لو متُّ قد رأى ... بدعوته ما يتقي لو
يُجابُها
ومن متمَنٍّ أن أموت وقد بنت ... حياتي له شمَّا عظاماً
قبابُها
بقيت وأبقت من قناتي مصيبتي ... عَشوْزَنةً زوراءَ
صُمَّا كعابُها
على حدث لو أن سلمى أصابها ... بمثل بنيَّ انفضّ عنها
هضابُها
وما زلت أرمي الحرب حتى تركتها ... كسير الجناح ما
تُدقُّ عقابُها
وكقول الراعي:
وإني وإياك والشكوى التي قصرت ... خطوي ونأيك والوجد
الذي أجدُ
لكالماءِ والظالِعِ الصديان يطلُبه ... هو الشفاء له
والريُّ لو يردُ
ضافي العطية راجيه وسائلُه ... سيان أفلح من يعطي ومن
يعدُ
أزرى بأموالنا قوم أمَرْتُهُم ... بالحق فينا فما أبقوا
وما قصدوا
أما الفقير الذي كانت حلوبته ... وفق العيال فلم يترك له
سبدُ
واختل ذو الوفر والمثرون قد بقيت ... علا التلاتلَ من
أموالهم عُقَدُ
فإن رفعت بهم رأساً نعشتهُم ... وإن لقوا مثلها في قابلٍ
فسدوا
وكقول أبي النجم العجلي:
والخيل تسبحُ بالكماةِ كأنها ... طيرٌ نمطر من ظلال
عَمَاءِ
يخرجن من رَهجٍ دُوَينَ ظلالهِ ... مثل الجنادب من حصي
المعزاءِ
يلفظنَ من وجعِ الشّكيم وعجمه ... زبداً خلطن بياضه
بدماءِ
كم من كريمةِ معشرٍ أيَّمنها ... وتركن صاحبها بدار
ثواءِ
إن الأعادي لن تنالَ قديمنا ... حتى تنالَ كواكبَ
الجوازاءِ
كم في لجيمٍ من أغرَّ كأنه ... صبحٌ يشقُّ طيالس
الظلماءِ
بحرٌ يكلل بالسديف جفانهُ ... حتى يموت شمالُ كل شتاءِ
ومجربٌ خضلُ السِّنانِ إذا التقى ... رجعت بخاطره صدُورُ
ظماءِ
صدىءُ القباءِ من الحديد كأنه ... جَملٌ تعمَّدَهُ عصيمُ
هَنَاءِ
إنَّا وجدِّكَ ما يكون سلاحُنا ... حجرُ الأكام ولا عصا
الطرفاءِ
نأوى إلى حلق الحديد وقَرَّحٍ ... قُبٍّ تشوَّقُ نَحو
كلِّ دُعَاءِ
ولقد غَدوْنَ على طهيَّةِ غدْوَةٍ ... حتى طرقن نساءنا
بنساءِ
تلكم مراكبُنا وفوق حبائنا ... بيض الغضون سوابغُ
الأثناء
قدِّرن من حلق كأن شعاعها ... ثلجٌ يطنّ على متون نهاءِ
تحمي الرماحُ لنا حمانا كلَّه ... وتبيحُ بعدُ مسارحَ
الأحماءِ
إن السيوفَ تجيرنا ونجيرُها ... كُلٌّ يجيرُ بعزةٍ
ووفاءِ
لا ينثنين ولا نردُّ حُدودَها ... عن حدِّ كلِّ كتيبةٍ
خرساءِ
إنا لتعملُ بالصفوف سيوفُنا ... عَمَلَ الحريقِ بيابس
الحَلْفَاءِ
وكقول عبد الشارق بن عبد العَزَى الجهني.
ألا حييت عنا يا رُدَيْنا ... نحييها وإن كرمت علينا
ردينةُ لو رأيت غداة جئنا ... على أضماتنا وقد احتوينا
فأرسلنا أبا عمرو ربيئاً ... فقال ألا انعموا بالقوم
عينا
ودَسُّوا فارساً منهم عشاءً ... فلم نغدرْ بفارسهم
لدَينا
فجاءُوا عارضاً برداً وجئنا ... كمثل السيل نركب
وازِعيْنَا
تنَادوا يا لِبُهثَةَ إذا رأونا ... فقلنا أحسني صبراً
جُهينا
سمعنا دعوةً عن ظهر غيبٍ ... فجلنا جَولةً ثم أرعوينا
فلما أن تواقفنا قليلا ... أنخنا للكلاكِلِ فارتمينا
فلما لم تَدَعْ قوساً وسهماً ... مشينا نحوهم ومشوا إلينا
تلألُؤ مزنةٍ برقت لأخرى ... إذا حجلوا بأسياف ردينا
شددنا شدةً فقتلت منهم ... ثلاثة فتيةً وقتلت قينا
وشدُّوا شدة أخرى فجرُّوا ... بأرجُل مثلهم ورَمَوْا
جُوَينا
وكان أخي جوينٌ ذا حفاظٍ ... وكان القتلُ للفتيان زينا
فآبوا بالرماح مكَسَّراتٍ ... وأبنا بالسيوف قد انحنينا
وباتوا بالصعيد لهم أحاحٌ ... ولو خفت لنا الكلمى
سَليْنا
وكقول المثقب العبدي:
أفاطِمُ قبل بيتِكِ متعيني ... ومنعك ما سألتُ كأنْ
تبيني
فلا تعدي مواعِدَ كاذباتِ ... تَمُرُّ بها رياحُ الصيف
دُوني
فإني لو تعاندني شمالي ... عنادَك ما وصلتُ بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني ... كذلك أجتوي من يجتويني
وفيها يقول:
وإما أن تكون أخي بحقِّ ... فأعرف منك غثِّي من سميني
وإلا فاطَّرِحْني واتخذني ... عدوًّا أتقيك وتتقيني
فما أدري إذا يمَّمت أرضاً ... أريد الخيرَ أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه ... أم الشرُّ الذي هو يبتغيني
وكقول نهشل بن حري المازني:
إنّا مُحيُّوكِ يا سلمى فحيينا ... وإن سقيت كرامَ الناس
فاسقينا
إنّا بني نهشلٍ لا ندعي لأب ... عنه ولا هو بالأبناء
يشرينا
إن تبتدر غاية يوماً لمكرمةٍ ... تلقَ السوابقَ منا
والمصلينا
وليس يهلكُ منا سيدٌ أبداً ... إلا افْتَلَيْنَا غلاماً
سيداً فينا
إنا لنرخصُ يومَ الروعِ أنفسنا ... ولو نسام بها في
الأين أغلينا
بيضٌ مفارقُنا تغلي مراجلُنا ... نأسو بأموالنا آثار
أيدينا
إني لمن معشرٍ أفنى أوائِلُهمُ ... قولُ الكماة أَلاَ
أين المحامونا
لو كان في الألف منّا واحدٌ فدَعوْا ... من فارسٌ خالهم
إياه يعنونا
إذا الكماةُ تَنَحَّوْا أن ينالَهُمُ ... حدُّ الظباة
وصلناها بأيدينا
ولا تراهم وإن جلَّت مصيبتُمُ ... مع البكاة على من فات
يبكونا
ونركب الكرهَ أحياناً فيفرجه ... عنّا الحفاظ وأسيافٌ
تواتينا
وكقول عدي بن زيد التميمي:
كفى واعظاً للمرء أيام دهره ... تروحُ له بالواعظات
وتغتدي
بليت وأبليت الرجال وأصبحت ... سنون طوالٌ قد أتت دون
مولدي
فلا أنا بدعٌ من حوادثَ تعتري ... رجالاً عرت من مثل
بؤسَى وأَسعُد
فنفسُك فاحفظها من الغيِّ والرَّدى ... متى تَغوها يغوِ
الذي بك يقتدى
وإن كانت النعماءُ عندك لا مرىءٍ ... فمثلاً بها فاجز
المطالب أو زِدِ
إن أنت لم تنفع بودك أهلَه ... ولم تنْكِ بالبؤسى عدوّك
فابعدِ
إذا أنت فاكهت الرجالَ فلا تلع ... وقل مثلما قالوا ولا
تتزيَّد
عن المرء لا تسأل وأبصرْ قرِينَهُ ... فإن القرين
بالمقارنِ مقتد
إذا أنت طالبت الرجال نوالهم ... فعفَّ ولا تطلبْ بجهدِ
فتنكدِ
ستدرك من ذي الفحش حقَّك كلَّه ... بحلمك في رفقٍ ولما
تشدَّدِ
فلا تقصرن من سعي من قد ورثته ... وما اسطعت من خيرٍ
لنفسك فازدد
وبالصدقْ فانطق إن نطقت ولا تلم ... وذا الذم فاذممه وذا
الحمد فاحمدِ
عسى سائلٌ ذو حاجة إن منعته ... من اليوم سؤلاً أن
يُيَسَّر في غد
وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضةً ... على المرء من وقع
الحسام المُهَنَّدِ
إذا ما رأيت الشرَّ يبعث أهله ... وقام جناة الشرّ للشر
فاقْعُد
وكقول عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثي:
تُعيِّرنا أنَّا قليل عديدنُا ... فقلت لها إن الكرام
قليل
وما قلَّ من كانت بقاياه مثلنا ... شباب تسامى للعلا
وكهولُ
وما ضرَّنا أنّا قليلٌ وجارُنا ... عزيزٌ وجار الأكثرين
ذليلٌ
لنا جبلٌ يحتله من نجيره ... منيعٌ يردَّ الطَّرف وهو
كليلُ
رسا أصله تحت الثرى وسما به إلى النجم فرعٌ لا ينالُ
طويلُ
ونحن أناسٌ لا نرى القتل سُبَّةً ... إذا ما رأته عامرٌ
وسلولُ
يقصِّر حبُّ الموتِ آجالنا لنا ... وتكرهه آجالهم فتطولُ
وما مات منا سيِّدٌ حتف أَنْفِهِ ... ولا طُلَّ منا حيث
كان قتيلُ
تسيل على حد الظُّباة نفوسنا ... وليست على غير الحديد
تسيلُ
وننكر إن شئنا على الناس قولهم ... ولا ينكرون القول حين
نقولُ
إذا سيِّدٌ منا خلا قام سيدٌ ... قئول لما قال الكرامُ
فعولُ
وما أُخمدت نارٌ لنا دون طارقٍ ... ولا ذمَّنا في
النازلين نزيلُ
وأيامُنا مشهودةٌ في عَدُوِّنا ... لها غررٌ معلومة
وحجولُ
وأسيافنا في كل شرقٍ ومغربٍ ... بها من قراع الدارعين
فلولُ
معوَّدةٌ ألا تُسَلَّ نصالُها ... فتغمد حتى يستباحَ
قَبيلُ
وكقول مروان بن أبي حفصة:
بنو مطرٍ يوم اللقاء كأنهم ... أسودٌ لها في غيَل خفان
أشبُلُ
هُمُ المانعون الجارَ حتى كأنما ... لجارهم بين السماكين
منزل
بها ليلُ في الإسلام سادوا ولم يكن ... كأوَّلهم في
الجاهلية أول
هم القومُ إن قالوا أصابوا وإن دعوا ... أجابوا وإن
أعطوا أطابوا وأجزلوا
ولا يستطيعُ الفاعلون فعالهم ... وإن أحسنوا في النائبات
وأجملوا
تُلاث بأمثال الجبال حُباهُم ... وأحلاهم منها لدى الوزن
أثقلُ
فهذه الأشعار وما شاكلها من أشعار القدماء والمحدثين
أصحاب البدائع والمعاني اللطيفة الدقيقة تجبُ روايتُها والتكثُر لحفظها.
الأشعار الغثة المتكلفة النسج
ومن الأشعار الغثة الألفاظ، الباردة المعاني، المتكلفة
النسج، القلقةِ القوافي، المضادة للأشعار التي قدمناها، قَولُ الأعشى:
بانت سعاد وأمسى حبلُها انقطعا ... واحتلت الغَمر
فالجدين فالفرعا
لا يسلم منها خمسة أبيات، ونكتبها ليوقَفَ على التكلف
الظاهر فيها:
بانت وقد أسأرت في النفس حاجتها ... بعد ائتلاف وخير
الودّ ما نفعا
تعصي الوشاة وكان الحبُّ آونةً ... مما يُزيِّن للمشغوفِ
ما صنعا
وكان شيءٌ إلى شيءٍ فغيَّرهُ ... دهرٌ يعود على تشتيت ما
جمعا
وأنكرتني وما كان الذي نكرتْ ... من الحوادثِ إلا الشيب
والصَّلعا
قد يترك الدهرُ في حلقاءَ راسيةٍ ... وهياً ويُنزلُ منها
الأعصمَ الصدعَا
وما طِلابُك شيئاً لست مُدركه ... إن كان عنك غرابُ
البين قد وقعا
تقول بنتي وقد قربت مرتحلاً ... يا ربِّ جنب أبي
الإتلافَ والوجعا
واستشفعتْ من سراةِ القومِ ذا شرف ... فقد عصاها أبوها
والذي شفعا
مهلاً بنيةُ إن المرءَ يبعثُه ... همٌّ إذا خالط الحيزوم
والضّلعَا
عليك مثل الذي صليت واغتمضي ... نوماً فإن لجنبِ المرء
مضطجعا
واستنجدي قافلَ الركبانِ وانتظري ... أوبَ المسافر إن
ريثاً وإن سَرَعَا
ولا تكوني كمن لا يرتجي أحداً ... لذي اغترابٍ ولا يرجو
له رجَعاَ
كوني كمثل الذي إذ غابَ واحِدُها ... أهدت له من بعيد
نظرةً جَزعا
ما نظّرت ذات أشفار كنظرتها ... حقَّاً كما صدق الذئبيُّ
إذ سجعا
إذ قلَّبت مقلةً ليست بمقرفةٍ ... إنسانَ عينٍ ومؤقاً لم
يكن قمعا
فنظّرت نظرةً ليست بكاذبة ... ورفَّع الآلُ رأس الكلب
فارتفعا
قالت أرى رجلاً في كفّه كتفٌ ... أو يخصف النعل ويلي
أيةٌ صنعا
فكذبوها بما قالت فصبَّحهم ذو آل ... جيشان يزجي الموت
والشِّرعا
فاستنزلوا أهل جُوّ من مساكنهم ... وهدَّموا شاخص
البنيان فاتضعا
وبلدةٍ يرهبُ الجُوَّابُ خشيتها ... حتى تراه عليها
يبتغي الشيعا
لا يسمعُ المرءُ فيها ما يؤنِّسهُ ... بالليل إلا نثيم
البُوم والضُّوَعا
كلفت عمياءَها نفسي وشيَّعني ... هَمِّي عليها إذا ما
آلَها لَمَعا
بذات لوثٍ عفرناة إذا عثرت ... فاللعن أولى لها من أن
يقال لعا
تخالُ حقَّا عليها كلما ضمرت ... بعد الكلالةِ أن تستوفي
النَّسعا
تُلوى بعذقِ خصابٍ كلما خَطَرت ... عن فرج معقومةٍ لم
تتبعِ ربُعَا
كأنها بعد ما أفضي النجادُ بها ... بالشَّيِّطين مهاةٌ
تبتغى دَرعا
أهَوى لها ضابىء في الأرض مفتحصٌ ... للصيدِ قدماً
خفِىُّ الشخصِ إذ خشعا
بأكلُبٍ كسراءِ النَّبلِ ضاريةٍ ... ترى من القِدِّفي
أعناقِها قطعا
فظلَّ يخدعُها عن نفس واحدِها ... ومثلُه مثلَها عن
واحدٍ خدَعا
حتى إذا غفلت عنه وما شعرت ... أن المنيةَ يوماً أرسلتِ
سَبُعاً
دارت لتطعمه لحماً ويفجعها ... بابن فقد أطعمت لحماً وقد
فجعا
فظل يأكلُ منه وهي لاهيةٌ ... صَدْر النهارِ تراعى ثيرةً
رُتَعَا
حتى إذا فيْقةٌ في ضرعها اجتمعت ... جاءت لترضع شق النفس
لو رضعا
عجلى إلى المعهد الأدنى ففاجأها ... أقطاعُ مسكٍ وسافتَ
من دمٍ دُفعا
فانصرفت والها ثكلى على عجلِ ... كلُّ دهاها وكلٌّ عندها
اجتمعا
وبات قطرٌ وشفانٌ يصفقها ... من ذا لهذا وقلبُ الشاةِ قد
صقعا
حتى إذا ذرَّ قرنُ الشمسِ صبَّحَها ... ذو آل بنهان يبغى
صحبه المتعا
بأكلبٍ كسراءِ النبلِ ضاربةٍ ... ترى من القِدِّ في
أعناقها قطَعَا
فتلك لم يترك من خلفها شبهاً ... إلا الدوائرَ والأظلافَ
والزِّمعا
أنضيتُها بعد ما طال الهبابُ بها ... تَؤُمُّ هوذةَ
لانِكسا ولا ورعا
يا هوذُ إنك من قومٍ أولى حسبٍ ... لا يفشلون إذا ما
آنسوا فزعا
هم الخضارمُ إن غابوا وإن شهدوا ... ولا يرون إلى
جاراتهم خُنُعا
قومٌ سيوفُهُم أمنٌ لجارهمُ ... يوماً إذا ضمت المحذورة
القزعا
وهم إذا الحربُ قد أبدت نواجذَها ... مثلَ السيوفِ وسمُّ
عاتق نقعا
من يعفُ هوذة أو يحللْ بساحته ... يكن عليه عيالاً طول
ما اجتمعا
وإن تجامعهْ في الجلَّى مجامعةً ... يكن لهوذةَ فيما
نابه تبعاً
ومن يَرَ هوذَة يسجدْ غير متئب ... إذا تعمم فوقَ التاجِ
أو وضعا
له اكاليلُ بالياقوت قصَّصها ... صواغُها لا ترى عيباً
ولا طبعا
وكلُّ زوجٍ من الديباج يلبسُه ... أبو قدامة محبُوًّا
بذاك معا
أغرُّ أبلجُ يُستسقى الغمامُ به ... لو قارعَ الناس عن
أحسابهم قرعا
لم ينقضِ الشيبُ منه فتل مِرَّته ... وقد تجاوز عنه
الجهل فانقشعا
قد حمَّلوه فَتِيَّ السن ما حملت ... أشياخهم فأطاق
الحملَ واضطلعا
وجرّبوه فما زادت تجاربهَم ... أبا قدامةَ إلا الحزم
فارتفعا
يرعى إلى قول ساداتِ الرجالِ إذا ... أبدوا له الحزمَ أو
أن شاء مبُتدعا
قد نالَ أهلُ شآم فضلَ سؤودَده ... وكاد يسمو إلى
الجوزاءِ واطَّلعا
ثم تناول كلباً في سماوتها ... قدماً سما لجسيمِ الأمر
فافترعا
قاد الجياد من الجوَّين منعلةً ... إلى المدائنِ خاض
الموت وادَّرعا
لا يرقعُ الناسُ ما أوهى وإن جهدوا ... طولَ الحياةِ ولا
يوهون ما رقعا
وما يردَ جميعٌ بعدَ فرَّقه ... وما يرد بعدُ من ذي
فرقةٍ جمعا
وما مجاورُ هيتٍ إذ طغى فطما ... يَدقُّ آذيُّه البوصيَّ
والشرعا
يجيشُ طوفانُه إذ عبَّ محتفلاً ... يكاد يعلو ربا
الجرفين مطَّلعا
هبت له الريحُ فامتدت غوار بُه ... ترى حوالبَهُ من
مدِّهِ تُرعا
يوماً بأجودَ منه حين تسأله ... إن ضَنَّ ذو الوفرِ
بالإِعطاءِ أو خدعا
ومثلُ هوذةُ أعطى المالَ سائلهُ ... ومثلُ أخلاقِه من
سيءِ منعا
تلقى له سادة الأقوامِ تابعة ... كلٌّ سيرضى بأن يُدعى
له تبعا
يا هوذُ يا خيرَ من يمشى على قدم ... بحر المواهب
للوُرَّادِ والشِّرعا
سائل تميماً بِهم أيامَ صفقتِهم ... لما أتوه أسارى كلهم
ضُرَعا
وسط المشقَّر في عشواءَ مظلمة ... لا يستطيعون بعد
الضّرِّ منتفعا
لو أطعموا المنَّ والسلوى مكانُهُم ... لما رأى الناس
فيهم مطعما نجعا
بظلمهم ينطاع الملك إذ غدروا ... فقد حسوا بعد من
أنفاسِه جُرَعا
وقال لِلملك أطلقْ منهُمُ مائةً ... رسلاً من القول
مخفوضاً وما رفعَا
ففكَّ عن مائةٍ منهم أسارهم ... فكُلُّهم عانيا من غلة
خلعا
به تقرب يوم الفصح محتسباً ... يرجوا إلاله بما أسدى وما
صنَعَا
وما أرادَ بها نعمى يثابُ بها ... إن قال كلمةَ معروف
بها نَفَعا
فلا يرون بذاكم نعمةً سبقت ... إن قال قائلُنا حقا بها
وسَعَى
فهذه القصيدة ستة وسبعون بيتاً التكلف فيها ظاهرٌ بيِّنٌ
إلا في ستة أبيات وهي:
تقول بِنتي وقد قرَّبتُ مرتحلاً ... يا رب جنِّب أبي
الإِتلاف والوجعَا
بذات لوثٍ عفرناة إذا عثرت ... فاللعن أدنى لها من أن
أقول لعا
بأكلب كسراءٍ النبْل ضاربة ... ترى من القِدِّ في
أعناقها قطعاً
يا هوذ إنك من قومٍ أولى حسبٍ ... لا يفشلون إذا ما
آنسوا فزعاً
أغرُّ أبلجٌ يستسقى الغمامُ به ... لو قارع الناس عن
أحسابهم قرعا
لا يرقعُ الناسُ ما أوهى وإن جهدوا ... طول الحياةِ ولا
يوهون ما وقعا
وفيها خللٌ ظاهر، ولكنها بالإضافة الى سائرِ الأبيات
نقيةٌ بعيدةٌ عن التكلف. والذي يوجبه نسجُ الشعرِ أن يقول: يا رب جنب أبي الاتلاف
والأوجاع أو التلف والوجع.
ومثل هذه القصيدة في التكلف وبشاعةِ القولِ قولُه أيضاً
في قصيدته:
لعمرك ما طول هذا الزمن
فإن يتبعوا أمره يُرشدوا ... وإن يسألوا مالهُ لا يَضِنْ
وما إن على قلبه غمرةٌ ... وما إن بعظم له من وهَنْ
وما إن على جاره تَلْفةٌ ... يساقطها كسقاط اللَّجَنْ
ولم يسعَ في الحرب سعي امرىءٍ ... إذا بِطْنَةٌ راجعته
سكنْ
عليها وإن فاته أكلةٌ ... تلافى لأخرى عظيم العُكَنْ
يرى هَمَّه أبداً خصرهُ ... وهَمُّكَ في الغزو لا في
السِّمَنْ
فمثل هذا الشعر وما شاكله يصدىء الفهم ويورث الغم، لا
كما يجلو الهم ويشحذ الفهم من قول أحمد بن أبي طاهر:
إذا أبو أحمَد جادت لنا يدُهُ ... لم يحمد الأجودان
البحرُ والمَطَرُ
وإن أضاء لنا نورٌ بغرته ... تضاءلَ الأنور ان الشمسُ
والقمرُ
وإن مضى رأيه أو جدَّ عزمتَه ... تأخر الماضيان السيفُ
والقدَرُ
من لم يكن حذِراً من حدِّ سطوتِه ... لم يدر ما المزعجان
الخوفُ والحذرُ
حلو إذا أنت لم تبعث مرارته ... فإن أمِرَّ فحلوٌ عنده
الصبرُ
سهل الخلائق إلا أنه خشِنٌ ... لين المهزة إلا أنه حجرُ
لا حَيَّةٌ ذكر في مثل صولته ... إن صال يوماً ولا
الصمصامة الذكرُ
إذا الرجال طغوا أو إذ هم وعدوا ... بالأمر رُدَّ عليه
الرأي والنظَرُ
الجودُ منه عيانٌ لا ارتيابَ به ... إذ جودُ كلِ جوادٍ
عنده خبَرُ
فهذا الشعر من الصفو الذي لا كدرَ فيه.
وأكثر من يستحسن الشعر تقليداً على حسب شهرة الشاعر وتقدم
زمانه، وإلا فهذا الشعر أولى بالاستحسان والاستجادة من كل شعر تقدمه.
المعاني المشتركة السرقات
وإذا تناول الشاعر المعانيَ التي قد سُبقَ إليها فأبرزها
في أحسن من الكسوة التي عليها لم يعب بل وجَبَ له فضل لطفه وإحسانه فيه..
كقول أبي نواس:
وإن جرت الألفاظُ منا بمدحةٍ ... لغيرك إنساناً فأنت
الذي نعني
أخذه من الأحوص حيث يقول:
متى ما أقلْ في آخرِ الدهرِ مدحةً ... فما هي إلا لابن
ليلى المكرَّمِ
وكقول دعبل:
أحبُّ الشيبَ لما قيل ضيفٌ ... كحبّي للضيوف النازلينا
أخذه من قول الأحوص أيضاً حيث يقول:
فبان مني شبابي بعد لذتهِ ... كأنما كان ضيفاً نازلاً
رحلا
وكقول دعبل أيضاً:
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيبُ برأسه فبكى
أخذه من قول الحسين بن مطير:
كل يوم بأقحوان جديد ... تضحك الأرض من بكاء السماءِ
وكقول أبي نواس:
تدور علينا الراح في عسجديةً ... حبتها بأنواع التصاوير
فارس
قرارتُها كسرى وفي جنباتها ... مها تدَّريها بالقسيِّ
الفوارس
فللخمر ما زرّت عليه جيوبها ... وللماء ما حازت عليه
القلانس
أخذه أبو الحسين بن أحمد بن يحيى الكاتب فقال:
ومدامةٍ لا يبتغي من ربِّه ... أحدٌ جَبَاه بها لديه
مزيدا
في كأسها صورٌ يُظنُّ لحسنها ... عُرباً برزن من الجنان
وغيدا
قد صُفَّ في كاساتها صورٌ حلت ... للشاربين بها كواِعِبُ
غيدا
فإذا جرى فيها المزاج تقسمت ... ذهباً ودرًّا توأماً
وفريدا
فكأنَّهن لبسن ذاك مجاسداً ... وجعلن ذا لنحورهن عقودا
فهذا من أبدع ما قيل في هذا المعنى وأحسنه.
ويحتاج من سلك هذه السبيل إلى الطاف الحيلة وتدقيق النظر
في تناول المعاني واستعارتها، وتلبيسها حتى تخفى على نقادها والبصراءِ بها، وينفرد
بشهرتها كأنه غير مسبوق إليها، فيستعمل المعاني المأخوذة في غير الجنس الذي
تناولها منه، فإذا وجد معنىً لطيفاً في تشبيب أو غزل استعمله في المديح، وإن وجده في
المديح استعمله في الهجاء؛ وإن وجده في وصف ناقة أو فرس استعمله في وصف الإِنسان،
وإن وجده في وصف إنسان استعمله في وصف بهيمة، فإن عكس المعاني على اختلاف وجوهها
غير متعذر على من أحسن عكسها واستعمالها في الأبواب التي يحتاج إليها فيها، وإن
وجد المعنى اللطيف في المنثور من الكلام، أو في الخطب والرسائل فتناوله وجعله
شعراً كان أخفى وأحسن. ويكون ذلك كالصائغ الذي يذيب الذهب والفضة المصوغين فيعيد
صياغتهما بأحسن مما كانا عليه، وكالصباغ الذي يصبغ الثوب على ما رأى من الأصباغ
الحسنة.
فإذا أبرز الصائغ ما صاغه في غير الهيئة التي عهد عليها،
وأظهر الصباغ ما صبغه على غير اللون الذي عهد قبل، التبس الأمر في المصوغ وفي
المصبوغ على رائيهما، فكذلك المعاني وأخذها واستعمالها في الأشعار على اختلاف فنون
القول فيها. قيل للعتابي: بماذا قدرت على البلاغة فقال: بحل معقود الكلام؛ فالشعرُ رسائلُ
معقودة، والرسائلُ شعرٌ، وإذا فتشت أشعار الشعراء كلها وجدتها متناسبة، إما
تناسباً قريباً أو بعيداً. وتجدها مناسبة لكلام الخطباء، وخطب البلغاء، وفقر
الحكماء. وسنذكر من ذلك ما يكون شاهداً على ما نقول.
من ذلك أن عطاء بن أبي صيفي الثقفي دخل على يزيد بن
معاوية فعزاه عن أبيه وهنأه بالخلافة، وهو أول من عزى وهنأ في مقام واحد فقال:
أصبحت رزيت خليفة اللَّه، وأعطيت خلافة اللَّه، قضى معاوية نحبه فيغفر اللَّه
ذنبه، ووليت الرياسة وكنت أحق بالسياسة فاشكر اللَّه على عظيم العطية، واحتسب عند اللَّه
جليل الرَّزية، وأعظم اللَّه في معاوية أجرك، وأجزل على الخلافة عونك. فأخذه أبو
دلامة فقال يرثي المنصور ويمدح المهدي:
عيناي واحدةٌ تُرى مسرورةً ... بإمامها جذلى، وأخرى
تذرفُ
تبكي وتضحك تارة يسؤوها ... ما أنكرت ويسرها ما تعرفُ
فيسوءها موتُ الخليفةِ أولاً ... ويسرها أن قام هذا
الأرأفُ
ما إن سمعتُ ولا رأيتُ كما أرى ... شعراً أرجله وآخر
أنتفُ
هلك الخليفةُ يال أمة أحمد ... وأتاكم من بعده من يخلفُ
أهدى لهذا اللَّه فضلَ خلافةٍ ... ولذاك جناتُ النعيم
وزخرفُ
فابكوا لمصرع خيرِكم ووليكم ... واستبشروا بقيام ذا
وتشرفوا
فأخذه أبو الشيص فقال يرثي الرشيد ويمدح المخلوع:
جرت جوادٍ بالسعد والنحس ... فنحن في وحشةٍ وفي أنْسِ
فالعينُ تبكي والسنُ ضاحكةٌ ... فنحن في مأتم وفي عُرس
يضحكنا القائمُ الأمينُ ... وتبكينا وفاةُ الإِمام
بالأمسِ
بدرانِ، هذا أمس ببغداد في ... الخلْد وهذا بطوس في
رمْسِ
ولما مات الاسكندر ندبه أرسططاليس فقال: طالما كان هذا
الشخص واعظاً بليغاً. وما وعظ بكلامه موعظة قط أبلغ من وعظه بسكوته: فأخذه صالح بن
القدوس فقال:
وينادونه وقد صم عنهُمُ ... ثم قالوا وللنساء نحيبُ
من الذي عاق أن تردَّ جوابا ... أيها المقولُ الألدُّ
الخطيبُ
إن تكن لا تطيقُ رجعَ جوابٍ ... فيما قد ترى وانت خطيبُ
ذو عظات وما وعظت بشيء ... مثل وعظِ السكوتِ إذ لا
تُجيبُ
فاختصره أبو العتاهية في بيت فقال:
وكانت في حياتك لي عظاتٌ ... فأنت اليَوم أوعظُ منك حيا
وقال ابن عائشة: انصرفت من مجلس فقال لي أبي: ما حدثكم
حماد فقلت: حدثنا أن النبي - صلى اللَّه عليه وسلم - قال: لو لم يلفَ ابن آدم إلا
على الصحة والسلامة لكفى بهما داءً. فقال أبي: قاتل اللَّه حميد بن ثور حيث يقول:
أرى بصري قد خانني بعد صحةٍ ... وحسبك داءً أن تصحَّ
وتَسْلمَا
وللَّه درُّ النمر بن تولب حيث يقول:
كانت قناتي لا تليين لغامزٍ ... فألانها الإِصباحُ
والإِمساءُ
ودعوت ربي بالسلامة جاهداً ... ليُصبحَني فإذا السلامةُ
داءُ
وحيث يقول أيضاً:
يودُّ الفتى طولَ السلامةِ جاهداً ... فكيف تُرى طولُ
السلامةِ يفْعَلُ
وللَّه در القائل:
لا يعجبُ المرءُ أن يُقال له ... أمسى فلانٌ لأهله حكَما
إن سرَّهُ طولُ عيشِهِ فلقد ... أضحى على الوجه طولَ ما
سَلمَا
فسمع محمودُ الواراق هذه الأبيات فقال:
يهوى البقاءَ فإن مدَّ البقاءُ له ... وساعدت نفسه فيها
أمانيها
أبقى البقاءُ له في نفسه شُغُلا ... لما يرى من تصاريف
البِلى فيها
فأخذه عبد الصمد بن المعذَّل فقال:
يهوى البقاءَ رهبة الفناءِ ... وإنما يفنى من البقاء
وربما أحسن الشاعر في معنى ببدعه فيكرره في شعره على
عبارات مختلفة، وإذا انقلبت الحالةُ التي يصفُ فيها ما يصف، قلب ذلك المعنى ولم
يخرج عن حد الإِصابة فيه، كما قال عبد الصمد بن المعذَّل في مدح سعيد بن سلم
الباهلي:
ألا قل لسارقِ الليل لا تخشَ ضَلَّةً ... سعيد بن سلمٍ
ضوءُ كلِّ بِلاد
فلما مات رثاه فقال:
يا ساريا حيرة ضَلالُه ... ضوءُ البلادِ قد خبا ذُبالُه
وكما قال عليُّ بنُ الجهم:
قالوا حُبست فقلتُ ليس بضائري ... حبس وأيُّ مهنَّدٍ لا
يُغْمدُ
أو ما رأيتُ الليث يألف غيلَهُ ... كِبْراً وأوباش
السِّباعِ تردَّدُ
فلما نُصبَ للناس وعُري بالشاذياخ قال:
نصبوا بحمد اللَّه ملءَ عيونهم ... حسناً وملءَ صدورهم
تبجيلا
ما غابهُ أن بُزَّ عنه ثِيابُه ... فالسيفُ أهولُ ما
يُرى مسلُولا
فتشبه في حال حبسه بالسيف مغمدا، وفي حال تعريته بالسيف
مسلولا وبالليث إلفا لغيله تارة، ومفارقاً لغيله تارة.
ومما يستحسن جدّاً قول علي بن محمود بن نصر:
لا أظلمُ الليلَ ولا أدَّعي ... أن نجومَ الليلِ ليست
تغُورُ
ليلي كما شاءَتْ فإن لم تَزُرْ ... طالَ وإن زارت فليلي
قَصِيرُ
وأخذ هذا المعنى من قول الرجل لمعاوية حيث سأله: كيف
الزمان عليك فقال: يا أمير المؤمنين أنت الزمان، إذا صلحت صلح الزمان، وإذا فسدت
فسد الزمان.
وكل ما أودعناه هذا الكتاب فأمثلةٌ يقاس عليها أشكالُها،
وفيها مقنع لمن دَقَّ نَظَرَه ولطف فهمه، ولو ذهبنا نستقصي كلَّ باب من الأبواب
التي أودعناها كتابنا لطال وطال النظر فيه، وف فاستشهدنا بالجزء على الكل، وآثرنا الاختصار
على التطويل.
الشعر الحسنُ اللفظ الواهي المعنى
ومن الأبيات الحسنةِ الألفاظ المستعذبة الرائقة سماعاً،
الواهيةِ تحصيلا ومعنى، وإِنَّما يستحسن منها اتفاق الحالات التي وُضِعَت فيها،
وتذكر اللذات بمعانيها. والعبارة عما كان في الضمير منها، وحكايات ما جرى من
حقائقها دون نسج الشعر وجودته، وإحكام وصفه وإتقان معناه قول جميل:
فيا حسنها إذ يغسل الدمعُ كحلَها ... وإذ هي تذري الدمعَ
منها الأنامِلُ
عشيةَ قالت في العتاب قتلتني ... وقتلي بما قالت هناك
تحاولُ
وكقول جرير:
إن الذين غدوا بلبك غادروا ... وشلاً بعينك لا يزال
معينا
غيَّضنَ من عبراتهِن وقلن لي ... ماذا لقيت من الهوَى
ولقينا
وكقول الأعشى:
قالت هريرةُ لما جئت زائرُها ... ويلي عليك وويلي منك يا
رجُلُ
ويلي الأولى تهدد، وويلي الثانية استكانه.
وكقول قيس بن ذريح:
خليليَّ هَذِي زفرةٌ قد غلبتُها ... فمن لي بأخرى مثلها
قد أطلُّت
وبي زفراتٌ لو يدمن قتلتني ... تسوق التي تأتي التي قد توّلَّتِ
وكقول عمر بن أبي ربيعة:
غفلن عن الليل حتى بدا ... تباشير من واضحٍ أسفْراً
ففممن يعفِّينَ آثارنا ... بأكسية الخزِّ أن تُقْفِراً
فالمستحسن من هذه الأبيات حقائق معانيها الواقعة
لأصحابها الواصفين لها دون صنعة الشعر وأحكامه، فأما قول القائل:
ولما قضينا من مِنى كلَّ حاجةٍ ... ومسَّح بالأركان من
هو ماسح
وشُدَّت على حُدْبِ المهاري رحالُنا ... ولا ينظر الغادي
الذي هو رائح
أخذنا بأطرافِ الأحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطيِّ
الأباطحُ
هذا الشعرُ هو استشعارُ قائِله لفرحةِ قفوله إلى بلده
وسروره بالحاجة التي وصفها، من قضاء حجة وأنسه برفقائه، ومحادثتهم ووصفه سيل
الأباطح بأعناق المطي كما تسيل بالمياه. فهو معنى مستوفى على قدر مراد الشاعر.
وأما المعرض الحسن الذي ابتذل على ما يشاكله من المعاني
فكقول كثير.
فقلت لها يا عزُّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يوما
لها النفس ذلَّت
قد قالت العلماء لو أن كثيراً جعل هذا البيت في وصف حرب
لكان أشعر الناس.
وكقول القطامى في وصف النوق:
يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلةٌ ... ولا الصدور على
الأعجاز تتكِلُ
لو جعل هذا الوصف للنساء دون النوق كان أحسن. وكقول كثير
أيضاً:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ... إلينا مقليَّة إذا ما
تقلَّتِ
قالت العلماء لو قال: البيت في وصف الدنيا لكان أشعر
الناس.
ومن الأبيات التي تخلب معانيها للطافة الكلام فيها قول
زهير:
تراه إذا ما جئته متهلِلاً ... كأنَك تعطيه الذي أنت
سائِلُه
أخى ثقةٍ ما تُهلكُ الخمرُ مالَه ... ولكنه قد يُهلكُ
المالَ نائِلُهْ
غدوتُ عليه غدوةً فرأيتُه ... قعوداً لديه بالصريم
عواذلُهْ
يفديِّنه طوراً وطوراً يلمنَهُ ... وأعيا فما يدرين أين
مخاتلُهْ
فأعرض منه عن كريمٍ مُرَّزءٍ ... فعُولٍ إذا ما وجدَّ
بالأمر فاعِلُهْ
وقول طفيل الغنوي:
جزى الله عنا جعفراً حين أزلفت ... بنا فَعْلُنَا في
الواطئين فزلَّتِ
أبوا أن يملُّوتا ولو أن أُمَّنا ... تلاقي الذي لاقوهُ
منا لملَّمتِ
وكقول كثير بن عبد الرحمن الخزاعي:
إذا ما أورد الغزوَ لم تثن هَمَّهُ ... حصَانٌ عليها نظم
دُرَّ يزينُها
نهَتْهُ فلما لم تر النهيَ عاقَةُ ... بكت فبكى مما
شجاها قطينُها
وقول ابن هرمة
إنى نذرت لئن لقيتك سالماً ... أن لا أعالجَ بعدَكَ
الأسفارا
وقول حمزة بن بيض:
تقول لي والعيونُ هاجعةٌ ... أقم علينا يوماً فلم أقُمِ
أيَّ الوجوهِ انتجعتَ قلت لَها ... وأيَّ وجه إلاَّ إلى
الحكم
متى يقلْ صاحبا سرادقة ... هذا ابن بيضٍ بالباب
يَبْتَسمِ
قد كنت أسلمت فيك مقتبلاً ... فهات إذا حَلَّ أعْطني
سَلَمي
وقول الآخر:
نقلِّبه لِنَبْلُوَ حالتَيْهِ ... فتخبر منهما كرماً
ولينا
نميلُ على جوانبِه كأنَّا ... نميل إذا نميلُ على أبينا
وقول أبي العتاهية:
إن المطايا تشتكيك لأنها ... تفري إليك سباسباً ورمالا
فإذا أتين بنا أتين مخفَّةً ... وإذا رجعنَ بنا رجعنَ
ثقالا
الشعر الصحيح المعنى، الرث الصياغة
ومن الحكم العجيبة، والمعاني الصحيحة الرثة الكسوية،
التي لم يتنوق في معرضها الذي أبرزت فيه قول القائل:
نُرَاع إذا الجنائزُ قابلتنا ... ونسكن حين تمضي ذاهباتِ
كروعة ثلةٍ لمغارِ ذِئْبٍ ... فلما غاب عادت رَائعاتِ
وكقول الآخر:
وما المرءُ إلا كالشهاب وضوؤهُ ... يحورُ رماداً بعد إذ
هو ساطِعُ
وما المالُ والأهلونَ إلا وديعةٌ ... ولا بُدَّ أن
تُردَّ الودائِعُ
وكقول الآخر:
دار العدُوَّ تَنَظُّرا ... بِهمُ غدا فِعْلَ المُوارِبْ
فإذا ظفرت بهمْ ظِفرْ ... تَ بمَّنةٍ إن لم تعاقبْ
وكقول الآخر:
قدرتَ على نفسي فأزمعتَ قتلها ... فأنت رخيُّ البال
والنفسُ تَذْهبُ
كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يَسومُها ... ورودَ حياضِ الموتِ
والطفلُ يَلْعبُ
وكقول الآخر:
من يَلُمِ الدَّهرَ ألا ... فالدهرُ غيرُ مُعْتبهْ
أو يتعجَّبْ لصرو ... فِ الدهر أو تَقلُّبهْ
ومن يصاحبْ صاحباً ... ينسب إلى مصطحبهْ
بزائناتِ رشدْهِ ... أو شائناتِ ريبهْ
وَربما غرَّ صحيحاً ... جَرِبَ بِجَربِهْ
تعرفْ ما حالُ الفتى ... في لبسه ومركبهْ
وفي شمأزيزته ... عَنْك وفي توثُّبِهْ
عليكَ أو إصغائِه ... إليك أو تحبُّبِهْ
والمرء قد يُدْركُه ... يوماً خمولُ منصبِهْ
المعنى البارع في المعرض الحسن
فأما المعنى الصحيح البارع الحسن، الذي قد أبرز في أحسن
معرض وأبهى كسوة، وأرق لفظ، فقول مسلم بن الوليد الأنصاري:
وإني وإسماعيلُ بعد فراقِه ... لكالغمدِ يوم الروعِ
زايله النصْلُ
فإن أغش قوماً بعده أو أزرهُمُ ... فالكالوحش يدنيها منَ
الأنس المحْلُ
التشبيهات البعيدة الغلو
ومن التشبيهات البعيدة التي لم يطلف أصحابها فيها، ولم
يخرج كلامهم في العبارة عنها سلساً سهلا قول النابغة:
تخْدى بهم أُدُمٌ كأنَّ رِحالها ... عَلَقٌ أريق على
مُتونِ صوارِ
وكقول زهير بن أبي سلمى:
فزلَّ عنها وأوفى رأسَ رقبتِهِ ... كمنصل العترِ دمَّى
رأسهُ النُّسكُ
وكقول خفاف بن ندبه:
أبقى لها التعداءُ من عتداتها ... ومتونها كخيوطه
الكتَّانُ
والعتدات القوائم. أراد أن قوائمها دقت حتى عادت كأنها
الخيوط، وأراد ضلوعها فقال متونها وقول بشر بن أبي خازم:
وجرَّ الرامسات بها ذيولا ... كأنَّ شمالها بعد الدبورِ
رمادٌ بين أظّارٍ ثلاثٍ ... كما وشِمَ النواشِرُ
بالنؤورِ
فشبه الشمال والدبور بالرماد.
وكقول أوس بن حجر:
كأن هِرّاً جنينا عند غُرضَتِها ... والتفَّ ديكٌ برجلها
وخنزيرْ
وكقول لبيد بن ربيعة:
فخمةٌ زفراءُ ترتِي بالعُرى ... قردمانيّاً وتركا
كالبصَلْ
وكقول النابغة الجعدي:
كأنَّ حجاجَ مقلتها قليبٌ ... من السمقين أخلقَ مستقاها
والحجاج لا يغور لأنه العظم الذي ينبت عليه شعر الحاجب
وقول ساعدة بن جؤية:
كساها رطيبُ الريش فاعتدلت لها ... قداحٌ كأعناقِ الظباء
الفوارِقِ
شبه الهام بأعناق الظباء، ولو وصفها بالدقة كان أولى.
الأبيات التي زادت قريحة قائليها على عقولهم
ومن الأبيات التي زادت قريحة قائليها على عقولهم قول
كثير:
فإنّ أمير المؤمنين برفقه ... غزا كامنات الودِّ مني
فنالها
وقوله أيضاً يخاطب عبد الملك:
وما زالت رقاك تسلُّ ضغني ... وتخرج من مكامنها ضِبابي
ويرقيني لك الحاوون حتى ... أجابت حيَّة تحَت الحجابِ
وقوله أيضاً:
ألا ليتنا يا عزُّ من غير ريبةٍ ... بعيران نرعى في
الخلاء ونعزُبُ
كِلانا به عَرٌّ فمن يَرنا يقُلْ ... على حسنها جرباءُ
تعدى وأجربُ
نكون لذي مالٍ كثيرٍ مغَفَّل ... فلا هو يرعانا ولا نحن
نُطلبُ
إذا ما وردنا مَنْهلاً صاحَ أهلُهُ ... علينا فلا ننفكُّ
نرمى ونضربُ
وددت وبيتِ الله أنك بكرةٌ ... هجانٌ وأني مصعب ثم نهربُ
فقال له عزة: لقد أردت بي الشقاء الطويل، ومن المنية ما
هو أوطأ من هذه الحال.
وكقول الآخر في زبيدة أم محمد الأمين:
أزبيدة ابنة جعفرٍ ... طوبى لسائِلكِ المثابْ
تُعطين من رجليكِ ما ... تُعْطى الأكفُّ من الرِّغابْ
وكقول جرير بن عطية:
هذا ابن عمي في دمشقَ خليفةٌ ... لو شئت ساقكُمُ إليّ
قطينا
فقيل له: يا أبا حزرة لم تصنع شيئاً، أعجزت أن تفخر
بقومك حتى تعديت إلى ذكر الخلفاء! وقال له عمر بن عبد العزيز: جعلتني شرطياً لك.
أما لو قلت: لو شاء ساقكم إلي قطينا، لسقتهم إليك عن آخر.
يا بشرُ حُقَّ لوجْهِكَ التبشيرُ ... هلا غضبتَ لنا وأنت
أميرُ
قد كان حقُّك أن تقولَ لبارقِ ... يا آل بارقَ فيمَ
سُبَّ جَريرُ
فقال بشر: أما وجد ابن اللخناء رسولاً غيري وقال: وكقول
الأخطل:
ألا سائِلِ الجحَّافَ هَلْ هوثائِرٌ ... لقتلي أصيبتْ من
سَليمٍ وعامِر
فقدر أن يعير الجحاف بهذا القول ويقصر به فيه، فأجراه
الجحاف مجرى التحريض، ففعل بقومه ما دعى الأخطل إلى أن يقول:
لقد أوقعَ الجحافُ بالبِشْرِ وقْعةً ... إلى اله منها
المشتكى والمعَوَّلُ
فلو سكت عن هذا بعد ذلك القول الأول لكان أجمل به، ثم لم
يرض حتى أوعد وتهدد عند ذلك الخليفة فقال:
فإن لم تُغَيِّرها قُريشٌ بملكها ... يكُنْ عن قُريشٍ
مستَمارُ ومرحَلُ
وكقوله أيضاً:
فلا هَدَى الله قيساً من ضَلالتها ... ولا لعاً لبني
ذكوان إذ عثروا
ضجُّوا من الحرب إذا عضت غَواربَهم ... وقيس عيلان من
أخلاقِهم الضَّجرُ
فقال له عبد الملك: لو كان كما زعمت لما قلت:
لقد أوقع الجحافُ بالبشر وقعة ... الى الله منها
المشتكيَّ والمعوَّلُ
وكقول الفرزدق
أوجدْت فينا غيرَ غدْرِ مُجاشِعِ ... ومجُرَّ جعثِنُ
والزبير مقالا
فأقر بأشياء لو سكت عنها كان أستر.
قال: وكقوله أيضاً:
وإن تميماً كلها غير سعدِها ... زعانفُ لولا عزُّ سعدٍ
لذلَّتِ
وقد وضع من قومه وهجاهم بهذا القول قال: وكقول بشر:
تكن لك في قومي بدٌ يشكرونها ... وأيدي الندي في
الصالحين فروضُ
وقول النابغة الجعدي:
وما رابها من ريبةٍ غير أنها ... رأت لمتي شَابتْ وشابت
لِداتيا
وأي ريبة أعظم من أن رأته قد شاب: وقول الأعشى:
رأت رجلاً غائرَ الوافدين ... منتشلُ النحضِ أعمى ضريراً
وقوله:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادثِ إلا الشّيبَ
والصلعا
وقوله:
صَدَّت هريرةُ ما تكلِّمنا ... جهلاً بأمِّ خليدٍ حَبْلَ
من تَصِلُ
أأن رأت رجلاً أعشى أضرَّ به ... ريبُ المنون ودهرٌ
خاتِلُ خَبِل
وكقول الكميت:
إليك يا خيرَ من تضمنتِ الأرضُ ... وإن عاب قولي
العُيُبُ
يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولايعيب قوله في
وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم عائب إلا كافر بالله مشرك.
وقول حسان:
أكرم بقومٍ رسولُ الله شعيتُهم ... إذا تفرقت الأهواءُ
والشيعُ
كان يجب أن يقول: هم شيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم
لأن في هذا الكلام جفاء.
وقول جنادة بن نجية:
من حُبِّها أتمنى أن يُلاقيَني ... من نحو بلدتها ناع
فينعاها
لكي أقول فراقٌ لا لقاءَ له ... أو تضمن النفسُ يأساً ثم
تسلاها
الشعر القاصر عن الغايات
ومن الأبيات التي قصر فيها أصحابها عن الغايات التي
أجروا إليها ولم يسدوا الخلل الواقع فيها معنى ولفظاً قول امريء القيس:
فللساق أُلُهوبٌ وللسوطِ درَّةٌ ... وللزجر منه وقعُ
أخرج مهذبِ
فقيل له: إن فرساً يحتاج إلى أن يستعان عليه بهذه
الأشياء لغير جواد.
وقول المسيب بن علس:
وقد أتناسى الهمَّ عند احتضاره ... بناجٍ عليه الصعيرية
مكدمِ
فسمعه طرفة فقال: استنوق الجمل. والصعيرية من سمات النوق.
وقول الشماخ:
فنعم المعترى رحلت إليه ... رحى حيزومها كرحى الطحينِ
وإنما توصف النجائب بصغر الكركرة ولطف الخف.
وقوله:
وأعددت للساقين والرَّجل والنسا ... لجاماً وسرجاً فوق
أعوجَ مختالِ
وإنما يلجم الشدقان لا الساقان. وقول الأعشى
وما مزبدٌ من خليج الفراتِ ... جونٌ غواربه تلتطمْ
بأجود منه بما عونِه ... إذا ما سماؤهم لم تغِمْ
يمدح ملكاً ويذكر أنه إنما يجود بالماعون.
وقوله:
شتَان ما يومي على كورها ... ويوم حيانَ أخي جابر
وكان حيان أشهر وأعلى ذكراً من جابر فأضافه إليه اضطرارا.
وقول عدي بن زيد:
ولقد عديت دوسرةً ... كصلاةِ القينِ مِذكارا
والمذكار التي تلد الذكران، والمثنات عندهم أحمد.
وقال الشماخ:
بانت سعاد ففي العينين ملمولُ ... وكان في قصرٍ من عهدها
طولُ
كان ينبغي أن يقول: وكان في طول من عهدها قصر، أو يقول:
وصاري في قصر من عهدها طول.
وقول أبي داؤد الإيلدي:
لو أنَّها بذلت لذي سقم ... مَرْةِ الفؤادِ مشارفُ
القبضِ
أنُسُ الحديثِ لظلَّ مكتئباً ... حَرَّانَ من وجدٍ بها
مضٍّ
لو أنه قال: يذهب سقمه، لكان أبلغ لنعتها.
وقول أبي ذؤيب:
ولا يُهنئ الواشين أن قد هجرتُها ... وأظلم دوني ليلَها
ونهارُها
كان ينبغي أن يقول: وأظلم دونها ليلي ونهاري.
وقوله:
عصاني إليها القلبُ إني لأمره ... سميعٌ فما أدري أرشدٌ
طلابُها
كان ينبغي أن يقول: أم غي، فنقص العبارة.
وقول ساعدة بن جؤبة:
فلو نبأتَك الأرضُ أو لو سمعتَهُ ... لآيقنت أني كدت
بعدك أكمدُ
لو قال: إني بعدك كمد، لكان أبلغ من قوله: كدت أكمد.
وقول أبن أحمر:
غادرني سهمه أعشى وغادرهُ ... سيف ابن أحمر يشكو الرأسَ
والكبدا
أراد: غادرني سهمه أعور فلم يمكنه، فقال أعشى.
وقول طرفة:
كأن جناحي مضرحيِّ تكنَّفا ... حفافيه شكا في العسيبِ
بمسردِ
وإنما توصف النجائب بدقة شعر الذنب وخفته، وجعله هذا
كثيفاً طويلا عريضاً.
وقول امرئ القيس:
وأركب في الروعِ خيفانةً ... كسا وجَهها سعفٌ مُنْتشرْ
شبه ناصيتها بسعف النخل لطولها، وإذا غطى الشعر العين لم
يكن الفرس كريماً: وقول الحطيئة:
ومن يطلب مساعي آل لأي ... تصعّده الأمورُ إلى علاها
كان ينبغي أن يقول: من طلب مساعيهم عجز عنها وقصر ن
بلوغها فأما إذا تساوى بهم غيرهم فأي فضل لهم. وقوله:
صفوفٌ وماذيُّ الحديد عليهم ... وبيضٌ كأولاد النعام
كثيف
شبه البيض باولاد النعام، أراد بيض النعام.
وقول لبيد العامري:
ولقد أُعْوِصُ بالخصمِ وقد ... أملأ الجفنةَ من شحم
القُلَلْ
أراد السنام، ولا يسمى السنام شحما وقوله:
لو يقومُ الفيلُ أو فيالُهُ ... زَلَّ عن مثل مقامي
وزَحَلْ
وليس للفيال مثل أيد الفيل فيذكره.
ولقوله النابغة الذبياني:
ماضي الجنانِ أخي صبر إذا نَزلت ... حربٌ يوائل منها كلُّ
تنبالِ
التنبال القصير من الرجال، فإن كان كذلك فكيف صار القصير
أولى بطلب الموئل من الطويل، وإن جعل التنبال الجبان فهو أعيب لأن الجبان خائف
وجل، اشتدت به الحرب أم سكنت، وإن كان عن مثل قول الهمذاني:
يكرُّ على المصاف إذا تعادى ... من الأهوال شجعانُ
الرجالِ
وقول طرفة بن العبد:
من الزمرات أسبل قادماها ... وضرتها مركنَّةٌ ذرورُ
لا يكون القادمان إلا لما له آخرون، وتلك الناقة التي
لها أربعة أخلاف. ومثله قول امرئ القيس:
إذا مسَّتْ قوادمها أرنَّتْ ... كأنَّ الحيَّ بينهُمُ
نِعيُّ
وقول المسيب بن علس:
فتسلَّ حاجتها إذا هي أعرضت ... بخميصةٍ سرح اليدين
وساعِ
وكأن قنطرة بموضع كورها ... ملساءَ بين عوامض الأنساعِ
وإذا أطفْت بها أطفت بكلكلٍ ... نبض الفرائض مجفر
الأضلاعِ
فكيف تكون خميصة وقد شبهها بالقنطرة لا تكون إلا عظيمة،
وقال هي مجفرة الأضلاع، فكل هذا ينقض ما ذكره من الخمص.
قال: وقول الحطيئة:
حرجُ يلاوذُ بالكناسِ كأنه ... متطرفُ حتى الصباح يدورُ
حتى إذا ما الصبحُ شق عمودَهُ ... وعلاه أسطع لا يردُّ
منيرُ
وحصى الكثيبِ بصفحتيه كأنَّهُ ... صدأُ الحديدِ أطارهن
الكيرُ
زعم أنه لم يزل يطوف حتى أصبح وأشرف على الكثيب فمن أين
الحصى بصفحتيه.
الشعر الرديء النسج
ومن الأبيات المستكرهة الألفاظ القلقة القوافي، الرديئة
النسح فليست تسلم من عيب يلحقها في حشوها أو قوافيها، أو ألفاظها، او معانيها، قول
أبي العيال الهذلي:
ذكرتُ أخي فعاودني ... صداع الرأسِ والوصبُ
فذكر الرأس مع الصداع فضل.
وقول أوس بن حجر:
وهم لمقلِّ المالِ أولادُ علّةِ ... وإن كان محضاً في
العمومة مخولا
فقوله المال مع مقل فضل.
وكقول عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الخزرجي:
قيدت وقد لان هاديِهَا وحارِكها ... والقلبُ منها مطارُ
القلب محذورُ
وكقول الآخر:
ألا حبذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ ... وهندُ أتى من دونها
النأيُ والبعدُ
فقوله البعد مع ذكر النأي فضل.
وكقول الأعشى:
فرميت غفلةَ عينهِ عن شأتِه ... فأصبتُ حبةَ قلبِها
وطحالها
وقوله:
استأثر اللهُ فالوفاءِ وبالعدل ... وأولى الملامةَ
الرجلا
وقول الحطيئة:
قَرَوْا جارك العيمان لما جفوته ... وقلَّص عن برد
الشارب مشافرُهُ
أراد شفتيه.
وقول المزرد داعي الزنج:
فما برح الولدان حتى رأيته ... على البكرِ يمريه بساقٍ
وحافِر
يريد بساق وقدم.
وقول حسان:
وتكلفي اليومَ الطويلَ وقد ... صَرَّت جنادبُه من الظهرِ
أراد بالظهر حر الظهيرة.
وقول المتلمس
إن تسلكي سبلَ الموماةِ منجدةً ... ما عاش عمرو، وما
عمَّرت قابوسْ
أراد ما عاش عمرو وما عمر قابوس.
وقوله:
من القاصرات سجوفُ الحِجال ... لم ترَ شمْساً ولا
زمهريرا
أراد لم تر شمساً ولا قمراً، ولم يصبها حر ولا برد.
وقول علقمة بن عبدة:
كأنهم صابتْ عليهم ساحبةُ ... صَواعقُها لطيرهنّ دبيبُ
وقوله:
يحملن أترجةً نضحَ العبيرُ بها ... كأنَ تطيابها في
الأنف مشمومُ
وقول عامر بن الطفيل:
تناولته فاحتل سيفي ذبابَة ... شرا سيفِهِ العليا وجذَّ
المعاصما
وقول خفاف بن ندبة:
إن تعرضي وتضني بالنوالِ لنا ... فواصلين إذا واصلت
أمْثالي
وقول علقمة بن عبدة:
طحابكَ قلبٌ في الحسان طروبُ ... بُعيدَ الشباب عصرَ حان
مشيبُ
الشعر المحكم النسج
ومن القوافي الواقعة في مواضعها، المتمكنة من مواقعها،
قول أمرئ القيس في قصديته التي يقول فيها:
وقد أغتدى قبل العُطاسِ بهيكل ... شديدٍ مَشكِّ الغضا
الجَنْبِ فَعْمِ المُنطَّقِ
قوله:
بعثنا ربيثاً قبل ذلك محملاً ... كذئبِ الغضا يمشي
الضَّراء ويتقي
فوقعت يتقي موقعاً حسناً.
وكذلك قول النابغة:
تجلو بقادمتي حمامة أيكة ... برداً أُسِفَّ لَثَاتُهُ
بالإِثْمدِ
كالأقحوانِ غداةَ غبّ سمائِه ... جفتْ أعاليهُ وأسفلُهُ
ندي
زعم الهمامُ بأن فاها باردٌ ... عذبٌ إذا ما ذقته قلت
ازْدَدِ
زعم الهمامُ ولم أذقه أنه ... يروى بريِّقها من العَطش
الصدي
فقوله وأسفله ندي: ومن العطش الصدي وقعا موقعين عجيبين.
وقول زهير:
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ... ولكنني عن علمِ ما في
غدٍ عَمِ
فقوله: عم واقعة موقعاً حسناً.
وكقوله:
صحا القلبُ عن سلمى فقد كان لا يصحو ... واقفرَ من سلمى
التعانيقُ فالثقلُ
وقد كنت من سلمى سنينا ثمانياً ... على صيرِ أمرٍ ما
يمرُّ وما يحلوُ
فقوله: يحلو حسنة الموقع.
وكقوله في قصيدته التي يقول فيها:
لذي الحلمِ من ذبيانَ عندي مودةٌ ... وحفظٌ ومَن يُلْحم
إلى الشرِّ أنشج
قوله:
مخوف كأنَّ الطَّير في مَنزلاتِه ... على جيَف الحْسرَى
مجَالسُ تنتْجي
فقوله: تنتجي حسنة الموقع جداً.
وكقوله:
ولنعم حَشْوُ الدِّرعِ أنت إذا ... دُعيت نزَالِ وَلُجِّ
في الذُّعْرِ
وإنَّك تفري ما خلقت وبع ... ض القوم يخْلْقُ ثم لا
يَغري
ولأنت أشجع حين يتَّجهُ الأب ... طالُ من ليثِ أبي أجْري
فقوله: ثم لا يفري وأبي أجري حسنان في موقعهما.
وكقول بشر:
فما صدعٌ بحيَّةَ أو بشرجِ ... على زَلَقِ زوالقُ ذي
كهافِ
تَزلُّ اللقوةُ الشغْواءُ عنها ... مخالبُها كأطرافِ
الأسافي
بأحرزَ موئلا من جارِ أوسِ ... إذا ما ضيم جيرانُ
الضِّعافِ
فقوله: كأطراف الأسافي حسنة الموقع.
وكقول الأعشى:
وإذا تكونُ كتيبةٌ ملمومةٌ ... خرساءُ يخشى الذائدون
نصالَها
كنت المقدَّم غير لابس جُنَّةٍ ... بالسيف تضرب معلما
أبْطالَها
وعلمتَ أن النفس تلقى حتفَها ... ما كان خالقُها المليكُ
قضى لها
فقوله: قضى لها عجيبة الموقع.
وكقوله:
ومثلُ الذي تُولونني في بيُوتِكم ... يُروِّي سناناً
كالقُدامَى وثَعْلبَا
وما عنده زرفى علمتُ دلالَه ... علي من الريح الجنوب ولا
الصبا
وكذلك قوله:
وكأسٍ شربتُ على لذةٍ ... وأخرى تداويت منها بِها
لكي يعلَم الناسُ أنِّي أمرؤٌ ... أتيت الفُتوةَ من
بابِها
فقوله: منها بها لطيفة حسنة الموقع جداً.
وكقول أبي كبير الهذلي:
ولقد ربأتُ إلى الصحابِ تواكلوا ... جَمْر الظهيرةِ في
اليفاع الأطولِ
في رأسِ مشرفةِ القذالِ كأنها ... جمرٌ بمسبكةٍ تُشَبُّ
لمصطلي
وكقول أبي خراش:
ولم أدْرِ من ألقى عليه رداءَه ... سوى أنه قد سُلَّ عن
ماجدٍ محضِ
بلى إنها تعفو الكلُوم وإنما ... تُوكَّلُ بالأدنى وإن
جل ما يمضي
فقوله يمضي حسنة جيداً.
وكقول عروة بن أذينة:
وكلُّ هوىً دان عني زمانا ... له من بعد ميعته تجَلي
كأني لم أكن من بعد ألفٍ ... عذلتُ النفسَ قبلُ على هوىً
لي
فإن أقصرْ فقد أجريت عصراً ... وبلَّاني الهوى فيمن
يُبَلي
فقوله هوى لي لطيفة الموقع.
وكقول ذي الرمة في قصيدته:
أراح فريقُ جيرتِك الجمالا ... كأنهم يريدون احتمالا
فكدت أموت من حزنٍ عليهم ... ولم أرَ نادي الآظعان بالي
فقوله: بالي عجيبة الموقع.
وكقول الفرزدق:
فإن تهجُ آل الزبرقان فإنما ... هجوتَ الطوالَ الشمَّ من
هضب يذبلِ
وقد ينبح الكلبُ النجومَ ودونه ... فراسخُ تنضي الطرف
للمتأمِّلِ
أرى الليلَ يجلوه النهارُ ولا أرى ... عِظامَ المخازي عن
عَطيَّة تنجَلي
فقوله: تنجلي متمكنة في موضعها.
وكقول الحطيئة:
من يفعل الخيرَ لا يعدم جوازيه ... لا يذهبُ العرفُ بين
الله والناسِ
دعِ المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنَّك أنت
الطَّاعم الكاسي
فقوله: الكاسي عجيبة الموقع.
وكقوله:
إذا نزلَ الشتاءُ بأرض قوْمٍ ... تجَّنبَ جارَ بيتهِمُ
الشتاءُ
هم القوُم الذين إذا ألمَّت ... من الأيامِ مظلمةٌ
أضاءوا
فقوله: أضاءوا حسنة الموقع.
فهذه أمثله قد احتذى عليها المحدثون من الشعراء وسلكوا
منهاج من تقدمهم فيها، وأبدعوا في أشياء منها ستعثر بها في أشعارهم كقول أبي عيينة
المهلبي:
دنيا دعوتكِ مسمعاً فأجيبي ... وبما اصطفيتك للهوى
فأثيبي
دومى أدُمْ لك بالوفاء على الصَّفا ... إنِّي بعهدك
واثقٌ فثقي بي
فقوله: فثقي بي لطيفة جداً يستدل بها على حذق قائلها
بنسج الشعر.
التخلص
ومن الأبيات التي تخلص بها قائلوها إلى المعاني التي
أرادوها من مديح أو هجاء أو افتخار او غير ذلك، ولطفوا في صلة ما بعدها بهافصارت
غير منقطعة عنها، ما أبدعه المحدثون من الشعراء دون من تقدمهم، لأن مذهب الأوائل
في ذلك واحد، وهو قولهم عند وصف الفيافي وقطعها بسير النوق، وحكاية ما عانوا في أسفارهم:
إنا تجشمنا ذلك إلى فلان يعنون الممدوح: كقول الأعشى:
إلى هوذةِ الوَهَّابِ أزجي مطيتي ... أُرجِّي عطاء
صالحاً من نوالكا
وكقوله:
أنضيتُها بعدما طال الهبابُ بها ... نؤمُّ هوذَة لا
نكساً ولا وَرَعا
يا هوذُ إنك من قومِ أولى حسبٍ ... لا يفشلون إذا ما
آنسوا فَزَعا
وكقوله:
فذلك شبهته ناقتي ... وما إن لغيرك إعمالُها
فمنك تؤوب إذا أدبرت ... وقصدكَ يعطفُ إقبالُها
وكقوله:
فعلى مثلها أزورُ بني قي ... سَ إذا شطَّ بالحبيبِ
الفراقُ
وكقوله:
إليكَ ابنَ جفنةَ من شقةٍ ... دأبتُ السَّرى وحسرتُ
القَلوصَا
تَشكَّى إليَّ فلم أشُكها ... مناسمَ تَدمى وخُفّاً
رهيصا
يَراك الأعادي على رَغْمهم ... تحُلُّ عليهم محلاَّ
عويصا
وكقوله:
وإلى ابن سُلمى حارثٌ قطعَتْ ... عرضَ السِّخالِ مطيَّتي
تَضعُ
ورثَ السيادةَ عن أوائِله ... فأتمَّ أحسَنَ ما هُمُ
صَنَعُوا
وكقوله:
إلى المرءِ قيسٍ أطُيلُ السَّرى ... وآخذُ من كلِّ حيٍّ
عُصمْ
أو يستأنف الكلام بعد انقضاء التشبيب ووصف القبائل
والنوق وغيرها فيقطع عما قبله ويبدأ بمعنى المديح: قول زهير:
وأبيضَ فياضٍ يداه غمامةٌ ... على معتفيه ما تغِبُّ
نوافِلُه
أو يتوصل إلى المديح بعد شكوى الزمان ووصف محنه وخطوبه
فيستجار منه بالممدوح.
أو يستأنف وصف السحاب أو البحر أو الأسد أو الشمس
أوالقمر. فيقال: فما عرض أو فما مزيداً أو فما مخدراً أو فما الشمس والقمر أو
البدر باجود بأشجع أو بأحسن من فلان، يعنون الممدوح، فسلك المحدثون غير هذه السبيل
ولطفوا القول في معنى التخلص إلى المعاني التي أرادوها، فمن ذلك قول منصور النمري:
إذا امتنعَ المقالُ عليك فأمدح ... أميرَ المؤمنين تجدْ
مقالاً
فتى ما إن تزالُ به ركابٌ ... وضعنَ مدائحاً وحملنَ مالا
وقول أبي الشيص:
أكلَ الوجيفُ لحومَها ولحومَهم ... فاتوك أنقاضاً على
أنقاضِ
ولقد أتتك على الخطوب سواخطا ... ورجعن عنك وهن عنه
رواضِ
وكقول محمد بن وهب:
حتى استردَ الليلُ خلعته ... وبدا خلالَ سوادِهِ وضحُ
وبدا الصباحُ كأنَ غرتَهُ ... وجهُ الخليفةِ حين يمُتدحُ
وكقوله في تخلصه من وصف الديار إل وصف شوقه:
طللانِ طالَ عليهما الأمدُ ... دَثَرا فلا عَلَمٌ ولا
نَضَدُ
لبسا البلى فكأنما وجَدَا ... بعد الأحبةِ مثل ما أجِدُ
وكقول بكر بن النطاح في تخلصه إلى الافتخار:
ودوِّيَّةٍ خلقت للسرا ... بِ فأمواجُه بينها تزخَرُ
ترى جِنَّها بين أضعافِها ... حُلُولاً كأنمهم البرْبَرُ
كأن حنيفةَ تحميهُمُ ... فألينهُمُ خَشِنٌ أزوْرُ
وكقوله:
يا من يريدُ بأنَّ تكلمَه الندى ... بلسانِ قاسمِهِ
الندى يتكلَّمُ
مَدْحُ ابن عيسى قاسمٍ فاسددْ به ... كلتا يديك
الكيمياءُ الأعظمُ
وكقول دعبل:
وميثاءَ خضراءَ زريبة ... بها النَّوْرُ يُزْهرُ من كلِّ
فَنْ
ضحوكاً إذا لاعبَتْهُ الرَّياحُ ... تأوَّدَ كالشَّاِرب
المرْجحن
فشبَّه صحْبي نوارَهُ ... بديباجِ كسرى وعَصْبِ اليَمنْ
فقلتُ بعُدتُم ولكنَّنى ... أشُبِّهُهُ بجنابِ الحَسنْ
فتَى لا يرىالمال إلا العطَاءَ ... ولا الكنزَ إلا
اعتقاد المنن
وكقوله:
قالت وقد ذكرتُها عهد الصبا ... باليأس تُقطعُ عادةُ
المعتادِ
إلا الإِمَام فإن عادة جودِه ... موصولةٌ بزيادة
المزدادِ
وكقول عبد الرحمن بن محمد الغساني:
وكأنَّ الرسومَ أخنى عليها ... بعضُ غاراتنا على
الأعداءِ
كقوله في تخلصه الى الافتخار أيضاً:
وانهي جمالك ان ينال مقاتلي ... فتصيب قومك سطوة من
معشري
وكقول أبي تمام الطائي:
صُب الفراقِ علينا صَبَّ من كثبٍ ... عليه اسحقُ يوم
الروع منتقما
وكقول البحتري:
شقائقُ يحملنَ الندى فكأنه ... دموعُ التصابي في خدود
الخرائدِ
كأن يد الفتحِ بن خاقانِ أقبلت ... تليها بتلك البارقات
الرواعِدِ
وكقوله:
بين الشقيقةِ فاللِّوى فالأجرعِ ... دمِنٌ حُبِسْنَ على
الرياح الأرْبَعِ
فكأنما ضَمِنتْ معالَمها الذي ... ضمنته أحشاءُ المحبِ
الموجَعِ
وكقوله:
يجرُّ على الغيثِ هدابَ مزنةِ ... وآخرُهُ فيه وأولُهُ
عندي
تعجَّلَ عن ميقاته فكأنه ... أبو صالح قد بت منه على
وعْدِ
وكقوله:
أقول لثجاجِ الغمامِ وقد سرى ... بمحتفل الشؤبوب صاب
فأفعما
أقلَّ وأكثر لَست تبلَعُ غاية ... تبين بها حتى تضارعَ
هيثما
فتى لَبِستْ منه الليالي محاسنا ... أضاءَ لها الأفقُ
الذي كان مظلما
وكقوله:
لعمرك ما الدنيا بناقصةِ الجَداً ... إذ بقي الفتح بن
خاقان والقَطْرُ
وكقوله:
أبَرقٌ تجلى أم بَدَا ابنُ مدبّرٍ ... بغرّةِ مسؤولٍ رأى
البِشرَ سائلُه
وكقوله:
أدارُهُمُ الأولى بدارةِ جُلْجلِ ... سقاكِ الحيا روحاته
وبواكرُهْ
وجاءك يحكي يوسفَ بن محمدٍ ... فروّتكِ ريَّاهُ وجادكِ
ماطِرُهْ
وكقوله:
كأن سناها بالعشِّي لِشرْبها ... تبلُّجُ عيسى حين يلفظُ
بالوعْدِ
وكقوله:
آليتُ لا أجعلُ الإعدامَ حادثةً ... تخُشى وعيسى بنُ
إبراهيم لي سَنَدُ
وكقول وهب الهمداني:
وأطلبِ الرَّيفَ يا نديمي والر ... يفُ في الأرض حيث
اسماعيل
وكقوله:
أيامُ غصنِ الشبابِ يهتزُّ ... كالأسمرِ في راحةِ ابنِ
حَمَّادِ
وكقوله:
لا والذي سنَّ للمدامةِ وال ... مِاء نكاحاً بغير تطليقِ
ما مقلَتْ مقلتايَ اسمعُ في الع ... الم من أحمد بن
مسروِق
وكقول علي بن جبلة:
وغيثٍ تألفَّهُ نوُءهُ ... وألبسهُ غَلَلا أرمدا
تظلُّ الرياحُ تُهادي به ... إذا ما تحير أو عَرَّدا
صَدوق المخيلةِ وإني الظلا ... ل قد وعد الأرض أن تَرغدا
كأنّ تواليه بالعَرا ... ءِ أهوى إلى الجلمدِ الجلمدا
تداعي تميمٍ غداة الجفار ... تدعو زرارة أو مَعْبَداً
وكقول علي بن الجهم:
وساريةٍ ترتادُ أرضا تجودُها ... شغلت بها عيناً قليلاً
هجودها
أتتنا بها ريحُ الصبا وكأنها ... فتاةٌ تزجَّيها عجوزٌ
تقودُها
فما برحت بغداد حتَّى تفجرت ... بأوديةٍ ما تستفيقُ
مُدودُها
فلما قضت حقَّ العراقِ وأهْلَهُ ... أتاها من الريح
الشمالِ يُريدُها
فمرت كفوْت الطرفِ سعياً كأنهَّا ... جنودُ عبيد الله
ولَّت بنودُها
وكقوله:
وترن وللصباح معقباتٌ ... تُقلِّصُ عنه أعجازَ الظلامِ
فلما أن تجلىّ قال صحبي ... أَضَوْءُ الصبحِ أم ضوء الإِمامِ
وقول أبي الغمر هارون بن محمد الرازي:
مكفهرُّ ترنَحُ أعطافُهُ رجاً ... كما جاوب المطىَّ
المطيٌّ
وتلالا كأنّما في حشاهُ ... حَبَلٌ حانَ وضْعُهَ
حَوْلىُّ
ظلّ يحكي بجودِهِ جودَ كَفَّيْ ... مَلكٍ سيبُه هنِيُّ
مَرِيُّ
وكقول البحتري:
سقيت رباك بكل نوءِ جَاعلٍ ... من وبله حقَّا لها معلوما
فلو أنني أُعْطيتُ فيهنّ المنى ... لسقيتُهُنَّ بكفِّ
إبراهيما
وكقوله:
قل لداعى الغمام: لبيك واحلُلْ ... عُقلَ العيسِ كي
تجيبَ الدعَاءَ
عارضٌ من أبي سعيدِ دعَاني ... بسنا بَرْقِهِ غداةَ
تَراءَى
وقول أبي تمام:
إساءةَ الحادثاتِ اسْتَبْطِنِي نفقا ... فقد أَظَلَّكِ
إحسانُ ابن حسَّانِ
وكقوله:
يا صاحبيَّ تقصيا نظريكما ... تريا وجوهَ الأرضِ كيف
تصوَّرُ
تًريًا نًهاراً مُشرِقْاً قد شابَهُ ... زهرُ الرُّبَا
فكأنما و مُقْمِرُ
خَلَقٌ أطلَّ من الربيع كأنَّه ... خُلقُ الإِمامِ
وهْديُهُ المتيسرُ
وقوله:
إن الذي خلق الخلائِقَ قاتَها ... أقْواتها لتصرُّفِ
الأحراسِ
فالأرضُ معروفُ السماءِ قِرىً لها ... وبنو الرجاءِ لُهم
بنو العبَّاسِ
القومُ ظلُّ اللهِ أسكنَ دينَهُ ... فيهم وهم جَبَلُ
الملوك الراسي
وقوله:
يجاهدُ الشوقَ طوراً ثم يتبعه ... مجاهداتُ القوافِي في
أبي دلفا
وكقوله:
إذا العيسُ وافت بي أبادلفٍ فقد ... تقطّع ما بيني وبين
النوائبِ
وقوله:
تداوَ من شوقك الأقصى بما صنعت ... خيلُ ابن يوسف
والأبطالُ تَطَّرِدُ
ذَاك السرورُ الذي آلَتْ بشَاشتُهُ ... أَلاَّ يجاورَها
في مهجةٍ كمدُ
وقوله:
لم يجتمْع قطُّ في مصر ولا طرفٍ ... محمدُ بن أبي مروان
والنُّوبُ
وكقوله:
ولقد بَلَون خلائِقي فوجَدْتني ... سمْحَ اليدينِ
بِبَذْل ودٍّ مُضمرَ
يَعجبْن مني إن سمحتُ بمهجتي ... وكذاك أعجبُ من سماحةِ
جعفرِ
ملكٌ إذا الحاجاتُ لذن بحقْوهِ ... صافحن كفِّ نواله
المُيَسرِ
الشعر البعيد الغلق
وينبغي للشاعر أن يجتنب الإشارات البعيدة، والحكايات
الغلقة، والإيماء المشكل، ويتعمد ما خالف ذلك، ويستعمل من المجاز ما يقارب
الحقيقة، ولا يبعد عنها، ومن الاستعارات ما يليق بالمعاني التي يأتي بها، فمن
الحكايات الغلقة والإشارات البعيدة قول المثقب في وصف ناقته:
تقولُ وقد درأتُ لها وضيني ... أهذا دينُهُ أبداً وديني
أكلُّ الدهرِ حلٌّ وارتحالٌ ... أما يُبْقي عَليَّ ولا
يقيني
فهذه الحكاية كلها عن ناقته من المجاز المباعد للحقيقة،
وإنما أراد الشاعر أن الناقة لو تكلمت لأعربت عن شكواها بمثل هذا القول. والذي يقارب
الحقيقة قول عنترة في وصف فرسه:
فازوَّر عن وقعِ القنا بلبانِهِ ... وشكا إليَّ بِعبرة
وتحَمْحُمٍ
وقول بشار:
غدتْ عانةٌ تشكو بأبصارها الصَدى ... إلى الجأتب إلا
أنَّها لا تخاطُبه
ومن الإيماء المشكل الذي لا يفهم، وقد أفرط في حكايته
قول الآخر:
أومت بكفيها منَ الهَوْدج ... لولاك هذا العام لم أحْججِ
أنت إلى مكةَ أخرجتني ... خُبيّاً ولولا أنتَ لم أخرجِ
فهذا الكلام كله ليس مما يدل عليه إيماء ولا تعبر عنه
إشارة.
ملاءمة معاني الشعر لمبانيه
وليست تخلو الأشعار من أن يقتص فيها أشياء هي قائمة في
النفوس والعقول، فيحسن العبارة عنها وإظهار ما يكمن في الضمائر منها فيبتهج السامع
لما يريد عليه مما قد عرفه طبعه وقبله فهمه، فيثار بذلك ما كان دفيناً ويبرز به ما
كان مكنوناً، فينكشف للفهم غطاؤه، فيتمكن من وجدانه بعد العناء في نشدانه، أو تودع
حكمة تألفها النفوس، وترتاح لصدق القول فها وما أتت به التجارب منها، أو تضمن صفات
صادقة وتشبيهات موافقة، وأمثالاً مطابقة تصاب حقائقها، ويلطف في تقريب البعيد
منها، فيؤنس النافر الوحشي حتى يعود مألوفاً محبوباً، ويبعد المألوف المأنوس به
حتى يصير وحشياً غريباً، فإن السمع إذا ورد عليه ما قد مله من المعاني المكررة
والصفات المشهورة التي قد كثر وردوها عليه مجه وثقل عليه رعيه، فإذا لطف الشاعر
لشوب ذلك بما يلبسه عليه، فقرب منه بعيداً أو بعد منه قريباً، أو جلل لطفياً، أو
لطف جليلاً أصغى إليه ودعاه واستحسنه السامع واجتباه. وهذا تطريق إلى تناول
المعاني واستعارتها، والتلطف في استعمالها على اختلاف جهاتها التي تتناول منها،
كما نبهنا عليه قبل، أو تضمن أشياء يوجبها أحوال الزمان على اختلافه وحوادثه على
تصرفها، فيكون فيها غرائب مستحسنة وعجائب بديعة مستطرفة، من صفات وحكايات ومخاطبات
في كل فن توجبه الحال التي ينشأ قول الشعر من أجلها، فتدفع به العظائم وتسل به
السخائم، وتخلب به العقول، وتسحر به الألباب لما يشتمل عليه من دقيق اللفظ ولطيف
المعنى. وإذ قد قالت الحكماء إن للكلام الواحد جسداً وروحاً. فجسده النطق وروحه معناه، فواجب على
صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة، لطيفة مقبولة حسنة، مجتلبة لمحبة السامع له
والناظر بعقله إليه، مستدعية لعشق المتأمل في محاسنه، والمتفرس في بدائعه، فيحسه
جسماً ويحققه روحاً، أي يتيقنه لفظاً، ويبدعه معنى، ويجتنب إخراجه على ضد هذه
الصفة فيكسوه قبحاً ويبرزه مسخاً، بل يسوي أعضاءه وزناً، ويعدل أجزاءه تأليفاً،
ويحسن صورته إصابه، ويكثر رونقه اختصاراً، ويكرم عنصره صدقاً، ويفيده القبول رقة
ويحصنه جزالة، ويدنيه سلاسة وينأى به إعجازاً، ويعلم أنه نتيجة عقله، وثمرة لبه وصورة
علمه، والحاكم عليه أوله.
مفتتح الشعر مطلعه
وينبغي للشاعر أن يحترز في أشعاره ومفتتح أقواله مما
يتطير به أو يستجفى من الكلام والمخاطبات، كذكر البكاء ووصف إقفار الديار، وتشتت
الألاف ونعي الشباب، وذم الزمان. لا سيما في القصائد التي تضمن المدائح أو
التهاني. وتستعمل هذه المعاني في المراثي ووصف الخطوب الحادثة، فإن الكلام إذا كان
مؤسساَ على هذا المثال تطير منه سامعه، وإن كان يعلم أن الشاعر إنما يخاطب نفسه
دون الممدوح، فيجتنب، مثل ابتداء قول الأعشى:
ما بكاء الكبير بالأطلال ... وسؤالي وهل ترد سؤالي
دمنة قفرة تعاورها الصي ... ف بريحين من صباً وشمال
ومثل قول ذي الرمة:
ما بال عينك منها الدمع ينسكب ... كأنه من كلى مفرية سرب
وقد أنكر الفضل بن يحيى البرمكي على أبي نواس قوله:
أربع البلى إن الخشوع لبادي ... عليك وإني لم أخنك ودادي
وتطير منه فلما انتهى إلى قوله:
سلام على الدنيا إذا ما فقدتم ... بني برمك من رائحين
وغادي
استحكم تطيره، فيقال إنه لم ينقص إلا أسبوع حتى نزلت به
النازلة. وأنشد البحتري أبا سعيد محمد بن يوسف الثغري قصيدته التي أولها:
لك الويل من ليل تطاول آخره ... ووشك نوى حي تزم أباعره
فقال له أبو سعيد: الويل لك والحرب.
وليجتنب في التشبيب من يوافق اسمها بعض نساء الممدوح من
أمة أو قرابة أو غيرها، وكذلك ما يتصل به سببه أو يتعلق به وهمه، فإن أرطأة بن
سهية الشاعر دخل على عبد الملك بن مروان فقال له: ما بقي من شعرك فقال: ما أطرب
ولا أحزن يا أمير المؤمنين وإنما يقال الشعر لأحدهما. ولكني قد قلت:
رأيت الدهر يأكل كل حي ... كأكل الأرض ساقطة الحديد
وما تبغي المنية حين تغدو ... سوى نفس ابن آدم من مزيد
وأحسب أنها ستكر يوماً ... توفي نذرها بأبي الوليد
فقال له عبد الملك: ما تقول ثكلتك أمك فقال: أنا أبو
الوليد يا أمير المؤمنين. وكان عبد الملك يكنى أبا الوليد أيضاً، فلم يزل يعرف كراهة
شعره في وجه عبد الملك إلى أن مات.
فليجتنب الشاعر هذا وما شاكله مما سبيله كسبيله، وإذا مر
له معنى يستبشع اللفظ به لطف في الكناية عنه وأجل المخاطب عن استقباله بما يتكرهه
منه وعدل اللفظ عن كاف المخاطبة إلى ياء الإضافة إلى نفسه إن لم ينكر الشعر، او
احتال في ذلك بما يحتزز به مما ذممناه ويوقف به على أرب نفسه ولطف فهمه كقول
القائل:
ولا تحسبن الحزن يبقي فإنه ... شهاب حريق واقد ثم خامد
سآلف فقدان الذي قد فقدته ... كإلفك وجدان الذي أنت واجد
وإنما أراد الشاعر: ستألف فقدان الذي قد فقدته كإلفك
وجدان الذي قد وجدته؛ أي تتعزى عن مصيبتك بالسلو فانظر إليه كيف لطف في إضافة ذكر
المفقود الذي يتطير منه إلى نفسه، وما يتفاءل إليه من الوجدان إلى المخاطب، فجعل
الموجود المألوف للمعزى، والمفقود لنفسه.
ويحكى أن أبا دلف استنشد أبا حكيمة راشداً الكاتب بعض ما
رثى أيره وأعجب بما سمعه من معاني قوله في ذلك الفن فانشده:
ألا ذهب الأير الذي كنت تعرف
فقال له أبو دلف: أمك كانت تعرف.
تأليف الشعر
وينبغي للشاعر أن يتأمل تأليف شعره، وتنسيق أبياته، ويقف
على حسن تجاورها أو قبحه فيلائم بينها لتنتظم له معانيها، ويتصل كلامه فيها، ولا
يجعل بين ما قد ابتدأ وصفه وبين تمامه فضلاً من حشو ليس من جنس ما هو فيه، فينسي
السامع المعنى الذي يسوق القول إليه، كما أنه يحترز من ذلك في كل بيت، فلا يباعد كلمة
من أختها، ولا يحجز بينها وبين تمامها بحشو يشينها، ويتفقد كل مصراع، هل يشاكل ما
قبله، فربما اتفق للشاعر بيتان يضع مصراع كل واحد منهما في موضع الآخر، فلا يتنبه
على ذلك إلا من دق نظره ولطف فهمه. وربما وقع الخلل في الشعر من جهة الرواة
والناقلين له فيسمعون على جهة ويؤدونه على غيرها سهواً، ولايتذكرون حقيقة ما سمعوه
منه، كقول أمرئ القيس:
كأني لم أركب جواداً للذة ... ولم أتبطن كاعباً ذات
خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد
إجفال
هكذا الرواية وهما بيتان حسنان، ولو وضع مصراع كل واحد
منهما في موضع الآخر كان أشكل وأدخل في استواء النسج فكان يروي:
كأني لم أركب جواداً ولم أقل ... لخيلي كري كرة بعد
إجفال
ولم أسبأ الزق الروي للذة ... ولم وأتبطن كاعباً ذات
خلخال
وكقول ابن هرمة:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زناداً شحاحاً
كتاركة بيضها في العراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
وقال الفرزدق:
وإنك إذ تهجو تميماً وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق
العمائم
كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب اذاعته رياح السمائم
كان يجب أن يكون بيت لابن هرمة مع بيت للفرزدق، وبيت
للفرزدق مع بيت لابن هرمة فيقال:
وإني وتركي ندى الأكرمين ... وقدحي بكفي زناداً شحاحا
كمهريق ماء بالفلاة وغره ... سراب أذاعته رياح السمائم
ويقال:
وإنك إذا تهجو تميما وترتشي ... سرابيل قيس أو سحوق
العمائم
كتاركة بيضها بالعراء ... وملبسة بيض أخرى جناحا
حتى يصح التشبيه للشاعرين جميعاً وإلا كان تشبيهاً
بعيداً غير واقع موقعه الذي أريد له. وإذا تأملت أشعار القدماء لم تعدم فيها
أبياتاً مختلفة المصاريع. كقول طرفة:
ولست بحلال التلاع مخافة ... ولكن متى يسترفد القوم ارفد
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول، كقول الأعشى:
وإن امرءاً أهواه بيني وبينه ... فيأف تنوفات وبهماء
خيفق
لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ... وأن تعلمي أن المعان موفق
فقوله: وأن تعلمي أن المعان موفق غير مشاكل لما قبله.
وكقوله:
أغر أبيض يستسقي الغمام به ... لو قارع الناس عن أحسابهم
قرعا
فالمصراع الثاني غير مشاكل للأول وإن كان كل واحد منهما
قائماً بنفسه. وأحسن الشعر ما ينتظم القول فيه انتظاماً يتسق به أوله مع آخره على
ما ينسقه قائله، فإن قدم بيت على بيت دخله الخلل كما يدخل الرسائل والخطب إذا نفض
تأليفها، فإن الشعر إذا أسس فصول الرسائل القائمة بأنفسها، وكلمات الحكمة المستقلة
بذاتها، والأمثال السائرة الموسومة باختصارها لم يحسن نظمه، بل يجب أن تكون القصيدة
كلها ككلمة واحدة في اشتباه أولها بآخرها، نسجاً وحسناً وفصاحة، وجزالة ألفاظ،
ودقة معان وصواب تأليف، ويكون خروج الشاعر من كل معنى يصنعه إلى غيره من المعاني
خروجاً لطيفاً على ما شرطناه في أول الكتاب، حتى تخرج القصيدة كأنها مفرغة
إفراغاً، كالأشعار التي استشهدنا بها في الجودة والحسن واستواء النظم، لا تناقض في
معانيها، ولا وهي في مبانيها، ولا تكلف في نسجها، تقتضي كل كلمة ما بعدها، ويكون
ما بعدها متعلقاً بها مفتقراً إليها.
فإذا كان الشعر على هذا المثال سبق السامع إلى قوافيه
قبل أن ينتهي إليها رواية، وربما سبق إلى إتمام مصراع منه إصراراً يوجبه تأسيس
الشعر كقول البحتري:
سليل البيض قبرها فأقاموا ... لظباها التأويل والتنزيلا
فيقتضي هذا المصراع أن يكون تمامه: وإذا سالموا أعزوا
ذليلا وكقوله:
أحلت دمي من غير جرم وحرمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامي
فداؤك ما أبقيت مني فإنه ... حشاشة صب في نحول عظامي
صلي مغرماً قد واتر الشوق دمعه ... سجاما على الخدين بعد
سجام
فليس الذي حللته بمحلل.
يقتضي أن يكون تمامه: وليس الذي حرمته بحرام.
وأحسن الشعر ما يوضع فيه كل كلمة موضعها حتى يطابق
المعنى الذي أريدت له ويكون شاهدها معها لا تحتاج إلى تفسير من غير ذاتها كقول
جنوب أخت عمرو ذي الكلب:
فأقسمت يا عمرو لو نبأك ... إذاً نبها منك داه عضالا
إذا نبها ليث عريسة ... مقيتاً، مفيداً نفوساً ومالا
وخرق تجاوزت مجهوله ... بوجناء حرف تشكى الكلالا
فكنت النهار به شمسه ... وكنت دجى الليل فيه الهلالا
فتأمل تنسيق هذا الكلام وحسنه. وقولها مقيتاً ثم فسرت
ذلك فقالت نفوساً ومالا، ووصفته نهاراً بالشمس، وليلاً بالهلال، فعلى هذا المثال
يجب أن ينسق الكلام صدقاً لا كذب فيه، وحقيقة لا مجاز معها فلسفياً كقول القائل:
وفي أربع مني حلت منك أربع ... فما أنا دار أيها هاج لي
كربي
أوجهك في عيني أم الريق في فمي ... أم النطق في سمعي أم
الحب في قلبي
القوافي
وسألت أسعدك الله عن حدود القوافي، وعلى كم وجه تتصرف
قوافي الشعر قوافي الشعر كلها تنقسم على سبعة أقسام: أما أن تكون على فاعل مثل
كاتب وحاسب وضارب، أو على فعال مثل كتاب وحساب وجواب، أو على مفعل مثل مكتب ومضرب
ومركب، أو على فعيل مثل حبيب وكئيب وطبيب. أو على فعل مثل ذهب، وحسب وطرب، أو على
فعل مثل ضرب، وقلب، وقطب. أو على فعيل مثل كليب، ونصيب وعذيب. على هذا حتى تأتي على
الحروف الثمانية والعشرين، فمنها ما يطلق ومنها ما يقيد ثم يضاف كل بناء منها إلى
هائها المذكر أو المئنث، فيقول كاتبه أو كاتبها، أو كتابها، أو مركبة، أو مركبها،
أو حبيبه، أو حبيبها، أو ذهبه أو ذهبها أو ضربه أو ضربها، أو كليبه أو كليبها،
ويتفق هذا في الرجز. فهذه حدود القوافي التي لم يذكرها أحد ممن تقدم، فأدرها على
جميع الحروف واختر من بيتها أعذبها وأشكلها للمعنى الذي تروم بناء الشعر عليه إن
شاء الله. نفعك الله بفهمك ومتعك بعلمك وأسعدك في الدارين بمنه ورأفته.
Translate
الجمعة، 22 نوفمبر 2024
كتاب : عيار الشعر المؤلف : ابن طباطبا العلوي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ج1وج2.كتاب : الأذكياء لابن الجوزي
كتاب : الأذكياء لابن الجوزي بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد لله الذي أحلنا محلة الفهم وحلانا حلية العلم وملكنا عقال العق...
-
معنى الحديث الغريب الجواب: هذا معناه عند أهل العلم تارة يكون معنى الغريب الذي جاء من طريق واحدة، وتارة معنى الغريب أنه من طريق فلان ا...
-
من موقع الالوكة الموجز من علم مصطلح الحديث المقدمة الحمد لله الذي نزَّل الكتاب تِبيانًا لكل شيء، وهدىً ورحمة وبُشرى للمسلمين، والصلاة وا...
-
🆀ديوان مصطلح الحديث۱. كتاب الكبائر_لمحمد بن عث...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق