Translate

الأحد، 17 نوفمبر 2024

تعريف علم مصطلح الحديث / وإطلاق كلمة "المسند" في مصطلح الحديث}

إطلاق كلمة "المسند" في مصطلح الحديث * الحمدُ لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله وآله وأصحابه أجمعين، وبعد: فلا غَرْوَ أن حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كلام الله عز وجل، أحسنُ ما نَطَق به ناطق، وأفضلُ ما سمِعه سامع، لم يتكلَّم بأفصح منه لسان، ولم تَسمع أبلغ منه آذانٌ، ما مِن أحد يوازي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الكلام ترتيبًا وتنسيقًا، أو يضاهي كلامَه حسنًا وتزيينًا، إنه كلام رسولِ الله عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطِقُ عن الهوى، إِنْ هو إلا وحي يوحى، إنه يُفسِّر القرآن، ويُمثِّل المصدر الثاني في تشريع الأحكام، ويُشكِّل سفينة النجاة بعد الفرقان؛ قد تفانَى صحبُه عليه السلام أولًا ثُم المُحدِّثون جيلًا بعد جيل، في سبيل ضبط أقواله وأفعاله واعتقاداته وأخلاقه، وسُكُوته عند قول الغير وفعله، بل حركاته وسَكَناته في يقظته ومنامه، وبذَلوا في سبيل ذلك قُصارى جهودِهم وأفضل ما في وُسْعهم، وأنفقوا غاليَهم ونفيسَهم؛ فمِنهم مَن سمع الحديث في صغره ونعومة أظفاره من الشيوخ الكبار والأئمة الأبرار، وعكَف عليه واشتغل به، ثم طال عمرُه ومات أقرانه، فأصبح شيخ الإسناد، وانتهى إليه علوُّ الإسناد، وازدحم عليه طلبةُ الحديث مِن عامة البلاد، ألحق الأصاغر بالأكابر، وملأ الأطراس بذكرٍ تُمْليه ألسنةُ الأقلام في أفواه المحابر، وساوى بين شباب تسامى للعلا وكهول، وجاء بأصح الأسانيد، إلا أنها لا تطول، حتى لُقِّب بمثل: المُسنِد، ومُسنِد الدنيا. ومع ذلك فإن تراجِمهم في كُتب الرجال منتشرة، وتحت أكمام الغبار مدفونة، لا يجد الباحث كتابًا يجمعهم، أو رسالةً سلَّط فيه أهلُ الفن على هذا المصطلح أنوارَهم، بما يُشبِع ويُسمِن ويُغنِي مِن جوع. وما ذكر في تعريف "المُسنِد" قاصرٌ في التعبير عن منزلتهم المرموقة وغير مُجْدٍ، وما دَعَتْني إلى جمعِ الموصوفين بهذا اللقب إلا نَفْس الحرقة، فسرَدْتُ تراجمَهم، ودرستُ أحوالهم، وبِعَوْن الله عز وجل تم التوصُّل إلى نتائجَ مُبتَدَعة، ونِكاتٍ مبتكرة، مع الاعتراف بأن بضاعتي في هذا الفن مُزْجاة، وأن قلمي لم يَزَل مُقيَّدًا بقيود مُرْخاة، فأسأل الله تعالى أن يُلهِمَني السداد والرشاد، وأن ينفعَ بهذه المقالة العبادَ، الخاصة والعامة في سائر البلاد، آمين. المُسنِد لغةً: السند مَا ارتفع من الأرض في قُبُل الجبل أو الوادي، والجمع أسناد، لا يُكسَّر على غير ذلك، وأسند الحديثَ: رفعَه، والإسنادَ في الحديث: رفعَه إلى قائله[2]. والمُسنِد بكسر النون اسمُ فاعل من أَسْنَدَ - رباعيًّا - الحديثَ إذا رواه بإسناده، والمُسْنَدِي - بفتحها - اسمُ مفعول؛ منه: عبدالله بن محمد شيخ البخاري[3]، قال الحاكم: سُمِّي المسندي؛ لأنه أولُ مَن جمع مُسنَد الصحابة بما وراء النهر[4]، وقال الحافظ الخطيب: قيل له المسندي؛ لأنه كان يطلُبُ الأحاديث المُسنَدة، ويَرغَبُ عن المقاطيع والمراسيل[5]، وصيغة المفعول تؤيِّد قول الحاكم. تعريف المُسنِد اصطلاحًا: قال عبدالرحمن بن أبي بكر جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ): المُسنِد بكسر النون، وهو مَن يروي الحديث بإسناده، سواءٌ كان عنده علمٌ به أو ليس له إلا مجرد رواية، وأما المُحدِّث، فهو أرفعُ منه[6]. وقال محمد بن محمد بن سويلم أبو شهبة (المتوفى: 1403 هـ) عند ما كان بصدد بيان ألقاب المشتغلين بالحديث: الراوي أو المُسنِد: هو ناقل الحديث بالإسناد، سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد الرواية[7]. وقال أبو الحسن عُبيدالله بن محمد عبدالسلام المباركفوري (ت 1414 هـ): المُسنِد - بكسر النون - هو مَن يروى الحديث بسنده، سواء كان عنده علم به أو ليس له إلا مجرد روايته، وتميَّز في ذلك حتى اشتَهر فيه[8]. وقال حسن محمد أيوب (المتوفى: 1429 هـ): المُسنِد - بكسر النون - وهو الذي يقتصر على سماع الأحاديث وإسماعها، مِن غير معرفة بعلومها أو إتقانٍ لها، وهو الرواية فقط[9]. إن هذه التعريفات التي ذُكِرت متقاربة تقريبًا، تتحدَّث عن ثلاثة أمور: 1 - أن المُسنِد من ألقاب الرواية؛ كما أشار إليه الشيخ حسن محمد أيوب. 2 - المُسنِد أدنى من المُحدِث؛ كما قال الحافظ السيوطي. 3 - وظيفة المُسنِد روايةُ الحديث بالإسنادِ والاعتناءُ بالأحاديث المسندة، حتى يتميَّز فيها، ويشتهر فيها، وإن لم يكن عارفًا بعلوم الحديث ولم يُتقِن لها. ولكن عندما قلَّبت كتب الرجال وتصفَّحتُها، ونقَّبت عمَّن لُقِّب بـ"المُسنِد"، وجمعتُهم مِن المراجع الأربعةِ للوهلة الأولى، وهي: (الوافي بالوَفيات)؛ للشيخ صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبدالله الصفدي (ت 764 هـ)، و(تاريخ الإسلام)؛ لشمس الدين أبي عبدالله محمد بن أحمد الذهبي (المتوفى: 748 هـ)، و(تذكرة الحفاظ)، و(سير أعلام النبلاء)، لاهتمامهما الأكثر بالألقاب، ثم تطرَّقتُ إلى مصادر أخرى للتوسع، فسرَدْتُ تراجمهم ودرستُها دراسة عميقة ناتجةً - انكشف لي ما يلي: • أنَّ مِن أهم الأمور التي تجلَّت لي في غضون هذه الدراسة - إن لم يكن أهمَها - هو أن تعريف المُسنِد الذي ذكره هؤلاءِ السادةُ العلماء والأئمة الفضلاء غيرُ معروفٍ عند المتقدمين، وليس بشائعٍ عند المتأخِّرين إلى نهاية القرن الثامن، مع أنه لُقِّب بـ"المُسنِد" مَن هو معدودٌ مِن المتقدِّمين، وجمعٌ غفير من المتأخرين؛ فهذا العلامة صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبدالله الصفدي (المتوفى: 764 هـ) يقول في تعريف المُسنِد - في مقدمة كتابه الفحل (الوافي بالوفيات 1/ 47) -: وتقول: "المُسنِد فِيمَن عُمِّر وَأَكْثر الرِّوَايَة". وأزيدك معلومة هي مِن الأهمية بمكان، وهي أن الشيوخ الذين ذكروا تعريف المُسنِد المعروف، كلُّهم عالةٌ على الحافظ زين الدين العراقي؛ فإنه نظَّم منظومته الشهيرة (التبصرة والتذكرة)، وقال فيها: نظمتُها تبصرةً للمبتدي ♦♦♦ تذكرةً للمنتهي والمُسنِد ثم شرَحَها، وعندما كان بصدد شرح هذا البيت، ذكر معنى المُسنِد اللُّغوي، وإن لم يتعرض لتعريفِه الاصطلاحي، فقال: المسنِدُ لغةً: بكسرِ النونِ فاعلُ أسندَ الحديثَ؛ أي: رواهُ بإسنادِه[10]. فكلُّ مَن جاء بعده وشرح منظومتَه اضطُرَّ إلى تعريفِ المُسنِد، واستند في الجزء الأول (الذي يروي الحديث بالإسناد) إلى قول العراقي، أو ارتشَفَه مِن قول الحافظ الخطيب البغدادي في أبي جعفر عبدالله بن محمد بن عبدالله المسندي الجُعْفي البخاري (228 هـ): "سُمِّي بالمُسنِدي؛ لأنه كان يطلب الأحاديث المسنَدة، ويرغَب عن المقاطيع والمراسيل[11]، وزاد عليه بعبارته ما فحواه: "سواء كان عالِمًا بعلوم الحديث أو لم يكُنْ"، فمنذ ذلك الحين ذاع التعريف في كتب مصطلح الحديث. مناقشة التعريف: سأقتحم مناقشة التعريف المعروف المذكور أعلاه، وإن كانت هذه مغامرةً علمية مستعصية بالنسبة لي، فأقول: إن التعريفَ المشهور يحتوي على جزأين: 1 - الذي يروي الحديث بالإسناد. 2 - سواء كان عنده علمٌ به أو ليس له إلا مجرد رواية. أما كون المدار في التلقيب بـ"المُسنِد" على الاعتناء بالمُسنَدات، ورواية الحديث بالإسناد فقط، ففيه نظر؛ فإن أبا محمد عبدالله بن مظاهر الأصبهاني (ت 304 هـ) كان اعتَنَى بالمُسنَدات إلى أن حفِظ الأحاديث المُسنَدة بخذافيرها، ثم بدأ بحفظ فتاوى الصحابة، قال الحافظ الذهبي: "بلَغنا أنه حفِظ المُسنَد جميعَه، ثم شرَع في حفظ أقوال الصحابة"[12]. فلو كان المدارُ في التلقيب بهذا اللقب على ذلك، لكان أَوْلَى بأن يُسمَّى بـ"المُسنِد"، ولكنه على الرغم من ذلك لم يُلقَّب بالمُسنِد؛ وذلك لأنه مات شابًّا. وزِدْ على ذلك أن روايةَ الحديث بالإسناد فحَسْب دون معرفةِ أنواع علوم الحديث المتنوعة وإتقانها، ليست مَزِيَّةً كبيرة إلى أن يُلقَّب بألقاب مرموقة رفيعة الشأن؛ مثل: مُسنِد العالَم، ومُسنِد الدنيا، ومُسنِد العصر، ومُسنِد الآفاق، وما عداها، وأن يشدَّ طلبةُ الحديث رِحالَهم من أصقاع الأرض وبقاعها، ومِن مشارقها ومغاربها، بل لا بد للوصولِ إلى هذه المنزلة أن يطول عمرُه ويتفرَّد بأن يموت أقرانه؛ ولذا قال الصفدي: "مَن عُمِّر". أما الجزء الثاني من التعريف: "سواء كان عنده علمٌ به أو ليس له إلا مجرد روايته" - فهو يشتملُ على صورتين: أولاهما: أن يكون عالِمًا بالحديث وعلومه. وثانيهما: أن يكون مُتجرِّدًا عن علم الحديث ومعرفة علومه. وسأذكر لإثباتِ الأولى ما يدلُّ على أن الراوي يكون مُسنِدًا ومُحدِّثًا، بل مُسنِدًا ومُفيدًا، بل مُسنِدًا وحافظًا، بل مُسنِدًا وأميرَ المؤمنين في الحديث، وسأسردُ الأمثلةَ بالترتيب؛ لأن بالمثال يتضح المقال: • فهذا الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي، أبو علي البغدادِي (م 150 هـ 257 هـ)، وصفه الحافظ الذهبي بـ"الإمام المُحدِّث المُسنِد أبو جعفر المزني الكوفي، وقال: وكان مِن علماء الحديث[13]. • ومحمد بن الفيض بن محمد بن الفياض، أبو الحسن الغساني، الدِّمَشقي (219هـ، 315 هـ)، حلاه الحافظ الذهبي بـ"المُحدِّث، المُعمَّر، المُسنِد"، وقال: "وكان صاحب حديث ومعرفة"[14]. • وهذا القُطَيعي، أبو الحسن، محمد بن أحمد بن عمر بن حسين (م 546 هـ 634 هـ)، نعته الحافظ الذهبي بـ"الشيخ، العالم، المُحدِّث، المُفِيد، المؤرِّخ، المُعمَّر، مُسنِد العراق، شيخ المستنصرية[15]. • وأبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون بن محمد النرسي، الكوفي، المُقرِئ، (م 424 هـ ت510 هـ)، لقَّبه الحافظ الذهبي بـ"الشيخ، الإمام، الحافظ، المُفِيد، المُسنِد، مُحدِّث الكوفة[16]. • وهذا عليُّ بن الجعد، أبو الحسن، الهاشمي الجوهري(م 134هـ ت 230 هـ) ذكره الحافظ الذهبي في تذكرة الحفاظ، وقال عنه: الحافظ، الثبت، المُسنِد، شيخ بغداد، العدني، الحافظ المُسنِد، وقال عَبْدُوس النيسابوري: ما أعلم أني رأيت أحفظ مِن علي بن الجعد[17]. • وهذا أبو محمد عبدالله الرحمن بن علي الديبع الشيباني العبدري وجيه الدين الشافعي (م866هـ - ت944 هـ)، وهو الشيخ الإمام الحافظ الحجَّة المتقن الإمام، أمير المؤمنين فِي حديث سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، حلاه محيي الدين عبدالقادر بن شيخ بن عبدالله العيدروس (المتوفى: 1038 هـ) بــ"مُسْنِد الدنيا"، وقال: كان تاليًا لكتاب الله تعالى عارفًا بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم[18]. • فاتَّضح مما سبق أنه ليس ضروريًّا أن يكون المُسنِد متجرِّدًا مِن معرفة علوم الحديث وإدراك معانيه ودقائقه، وليس هناك أي تنافٍ بين توصيف الراوي بالمُسنٍد وبين توصيفه بالمحدِّث، وبالمفيد، وبالحافظ، وبأميرِ المؤمنين في الحديث، بل يمكن الجمع بين التوصيف بالمسند والتوصيف بالألقاب المذكورة؛ لأن الحيثيات مختلفة، وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله. وسأذكُر للرد على كون المسند متجردًا مِن معرفة الحديث، قولُ الحافظ العراقي في منظومته: نظمتها تبصرة للمبتدي ♦♦♦ تذكرة للمنتهي والمسند لأن الحافظ العراقي لم يجعَلْ هذا الكتاب (التبصرة والتذكرة) تبصرةً للمسند مثل المبتدي حتى يتبصَّر به ما لم يعلمه، ويتعلَّم به ما لم يحصل عليه من أنواع علوم الحديث المذكورة في الكتاب، بل جعله تذكرةً له مثل المنتهي، وهذا دليلٌ ناطق على أنه أراد بقولِه هذا أن المُسنِد يكون عارفًا بالحديث وعلومه، وعالِمًا بما ذُكِر في الكتاب، وحاجته إلى هذا الكتاب أن يتذكَّر به ما علمه وغفل عنه مثل المنتهي، أما إذا قلنا: إن المسند يكون متجردًا عن هذه المعرفة، ويتبصَّر به ما لا يعرفه، فأصبح هذا الكتاب تبصرةً بالنسبة له بدلًا عن أن يكون تذكرة، وهذا ما يرضى به القائل. تعريف المسند عند العلامة الصفدي: عرَّف العلامة الشيخ خليل بن أيبك الصفديُّ المُسنِدَ في مقدمة كتابه (الوافي بالوفيات 1/ 47): بـ"المُسنِد مَن عُمِّر وأَكْثر الرِّواية". ولكن بعد شقِّ عُباب كتب الرجال والخوض في غمارِها، وجمع المُسنِدين مِن لُجَجها وأعماقها بعد أن كانت تراجمهم مبعثرةً في ثناياها وبطونها - أقول: إن تعريفَ الشيخ الصفدي أقرب إلى الصواب بالنسبة إلى التعريف المعروف، وإنه كاد يُعبِّر عن منزلة المُسنِدين السامية بتمامِها، إلا أنه ناقص؛ فإن الشيخ الصفدي ذكر في هذا التعريف أمرينِ: 1 - طول العمر. 2 - كثرة الرواية. ولكن هذان الشرطان لا يكفيانِ لتوصيف الشيخ بـ"المُسنِد"، بل لا بد من شرط ثالث سيأتي ذِكره، ويُزيل الغبارَ عن هذا الدعوى أقوالُ الحافظ الذهبي التي ذكَرها في الرواة الآتي ذكرُهم: • محمد بن يوسف بن بشر الهَرَوي الحافظ، الصادق، الرحَّال، أبو عبدالله الشافعي، الفقيه (م 230هـ ت330 هـ)، قال عنه الذهبي: "وإنما طلب هذا الشأن في الكُهُولة، ولو أنه سمِع في حداثته لصار أسند أهل زمانه[19]. • حمزة بن محمد بن علي، أبو يعلى، الهاشمي (م 407 هـت504 هـ)، قال الحافظ الذهبي عنه:"ولو أنَّ حمزة سُمِّع في صغره مثل أخيه طِراد، لسمع مِن أبي الحسين بن بشران، وهلال الحفَّار، ولصار مُسنِد الدنيا في عصره، وأنا أتعجَّب كيف لم يُسمِّعوه؟"؛ تاريخ الإسلام 11/ 50. • جمال الدين، أبو المحامد محمود بن أحمد بن عبدالسيد البخاري، الحصيري، التاجري، الحنفي (م 546 هـ - ت 636 هـ)، قال عنه الحافظ الذهبي: "وُلِد سنة ست وأربعين وخمسمائة، ولو أنه سُمِّع في صباه لصار مُسنِد زمانه، ولكنه سُمِّع في الكهولة"؛ سير أعلام النبلاء 23/ 53. • عبدالقادر بن عثمان بن أبي البركات التميمي، أَبُو مُحَمَّد البغدادي، (م 535 هـ ت 636 هـ)، قال عنه الحافظ الذهبي: "ولو سمَّعَه أَبُوه (أي في صِغَره) لصارَ مُسنِدَ الدنيا؛ فإنه أدركَ إجازةَ القاضي أَبِي بكر مُحَمَّد بن عبدالباقي الأنصاري، وأبي القاسم ابن السَّمرقندي، وأدركَ السماع مِن أصحاب أبي جعفر بن المُسْلِمَة، وابن هَزَارْمَرْد الصريفيني، ولكن ذهبَ تعميرُه ضَياعًا؛ تاريخ الإسلام 14/ 215. • الجبريلي، أبو أحمد، أسعد بن بلدرك بن أبي اللقاء الشيخ، المُعمَّر، أبو أحمد، أسعد بن بلدرك بن أبي اللقاء الجبريلي، (م 470 هـ - ت 574 هـ)، قال عنه الذهبي: " سُمِّع - وهو كبير - مِن أبي الخطاب بن الجراح، وأبي الحسن بن العلاف"[20]. وقال عنه في (العِبَر): "ولو سُمِّع في صِغَره لبقِي مُسنِد العالم"[21]. ومِن هذه التراجم وأقوال الحافظ الذهبي فيهم يمكنُنا أن نستشفَّ منها أمرين: 1 - هؤلاء الشيوخ الأفاضل والأجلاء كانت أعمارهم طويلةً، فالبعض منهم عمرُه كان تسعين سنةً، والبعض منهم عمِّر سبعًا وتسعين سنةً. وأما عبد القادر، والجبريلي، فقد تجاوزا المائة، ولكن مع ذلك لم يُفِدْهم طول أعمارهم من حيث أن يدركوا الأسانيد العالية، بل قال الحافظ الذهبي في الثالث: "ذهبَ تعميرُه ضَياعًا"! فإن هؤلاء الأئمة الأماثل أدركوا المُحدِّثين الكبار، وأدركوا زمنَ السماع منهم، ولكن لعدمِ السماع منهم في نعومةِ أظفارهم لم يَصِلُوا إلى هذه المنزلةِ المرموقة، ولم يصبحوا مُسنِدين، فعلِم مِن هذا أن إدراك الشيوخ والسماع منهم في الصغر أو الإجازة شرطٌ مع طول العمر وكثرة الرواية، وزدت عليه الإجازة؛ لأن محمد بن سعيد بن أحمد بن زرقون، (502 هـ = 586 هـ)، لُقِّب بـ "المُسنِد" بما أجاز له أبو عبدالله أحمد بن محمد الخولاني راوي (الموطأ) عام اثنتين وخمسمائة، وفيها وُلِد، وتفرَّد في وقته عنه، فارتحل الناس إليه لعلوِّه[22]. 2 - قصد الحافظ الذهبي بقولِه في محمد بن يوسف الهَرَوي: "وإنما طلب هذا الشأن في الكهولة، ولو أنه سُمِّع في حداثته لكان أسند أهل زمانه" - أنه أسند أهل زمانه علوًّا لا التزامًا بالمُسنَدات؛ كما يذكر في تعريف المُسنِد المعروف؛ لأنالحافظ الذهبي ذكر في ترجمة القفَّال أبيبكر عبدالله بن أحمد بن عبدالله المروزي: "ابتدأ بطلب العلم وقد صار ابن ثلاثين سنةً، فترك صنعته، وأقبل على العلم، مات في سنة سبع عشرة وأربعمائة في جمادى الآخرة، وله من العمر تسعون سنةً، وسماعاتُه نازلة؛ لأنه سمِع في الكهولة وقبلها"[23]. وسبب كون سماعات أبي بكر القفَّال نازلةً هو نَفْسُ السبب الذي حال بين محمد بن يوسف الهَرَوي وكونِه أسندَ أهل زمانه، وهو عدم السماع في الصغر، والسماعُ في الكهولة، فقال عن محمد بن يوسف الهروي: "ولو أنه سُمِّع في حداثته لصار أسند أهل زمانه"، وقال في أبي بكر القفَّال: "سماعاته نازلة "، والأشياء تُعرَف بأضدادها. وإذا عرَفْنا هذا يُمكِن التطرُّق إلى أن قصد الحافظ الذهبي من قولِه: "لصار مسند الدنيا، ولبقي مسند العالم" - أنه لو كان يسمع في الصغر لأصبح سندُه عاليًا في الدنيا، ويدلُّ على ذلك ما ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة أبي القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب بن مُطَير اللخمي الشامي الطبراني (م260 هـ - ت 360 هـ)، الموصوف بـ"مُسنِد الدنيا"، في قصة حكاية الأستاذ ابن العميد، يقول: ما كنتُ أظن أن في الدنيا حلاوةً ألذَّ مِن الرئاسة والوَزارة التي أنا فيها، حتى شاهدتُ مذاكرة أبي القاسم الطبراني وأبي بكر الجعابي بحضرتي، فكان الطبراني يغلب أبا بكر بكثرة حفظه، وكان أبو بكر يغلب بفطنتِه وذكائه، حتى ارتفعت أصواتُهما، ولا يكاد أحدهما يغلب صاحبه، فقال الجعابي: عندي حديثٌ ليس في الدنيا إلا عندي، فقال: هاتِ، فقال: حدثنا أبو خليفة الجمحي، حدثنا سليمان بن أيوب، وحدَّث بحديث، فقال الطبراني: أخبرنا سليمان بن أيوب، ومني سمِعه أبو خليفة، فاسمع مني حتى يعلو فيه إسنادك، فخجل الجعابي، فوددتُ أن الوَزارة لم تكن، وكنتُ أنا الطبراني، وفرِحتُ كفَرَحِه[24]. فعُلِم مِن هذا أن سند الطبراني كان أعلى في الدنيا، ولذا سُمِّي بمُسنِد الدنيا؛ فنظرًا إلى ما ذكره الشيخ الصفدي وإلى ما ذُكِرَ زيادة عليه يكون تعريف المُسنِد عند الباحث: تعريف المسند عند الباحث: "المُسنِد مَن سمِع حضورًا أو أُجِيز له بالرواية في صِغَره، ثُم عُمِّر وتفرَّد فعَلَا سندُه وكثُرَت روايته". شروط المسند: الشروطُ للتوصيف بهذا الوصف المستنبطة في هذه الدراسة قدر المستطاع، هي ما يلي: 1 - إدراك الشيخ والسماع منه في الصغر حضورًا في مجلسه، أو أن يُجِيز له الشيخُ بالرواية عنه حتى يُدرِك الأسانيد العالية، فإن لم يُدرِك، أو أردك ولم يسمع منهم، ولم يُجِز له بالرواية عنه - لا يُصبِح المُسنِد كما سبق. 2 - أن يُعَمَّر عمرًا طويلًا إلى أن مات أقرانه، وبقي وحدَه، وتفرَّد بالرواية عن شيوخه، فينتهي إليه علوُّ الإسناد، وأن تقصده الرحلة مِن مختلف البلاد لعلو الإسناد، وسأذكر بعض الأمثلة؛ فإن بالمثال يتضح الحال: • أبو القاسم علي بن أحمد بن محمد العمري الكاتب، المعروف بابن الرزاز البغدادي، (م 413هـ - ت 510 هـ)، أسمعه والده في صباه، وانفرد بالرواية عن أكثرهم، وعُمِّر، وصارت الرحلة إليه[25]. • أبو عليٍّ بن القيم، الحسن بن عمر بن الدمشقي الكردي (720 هـ)، أسمعه أبوه حضورًا في الرابعة مِن ابن اللتي كثيرًا، فخَفِي خبرُه غالبَ عُمرِه إلى سنة اثنتي عشرة وسبعمائة، فعُرِف بثبتٍ كان معه، فأقبل إليه الطلبة[26]. • وأما المُسنِد ابن الشحنة (م 620هـ ت 730 هـ) لم يظهر أمرُه للمُحدِّثين إلى أن وُجِدسماعه في أجزاء على أبي المنجا بن اللتي أولًا أثناء سنة ست وسبعمائة، ثم ظهر اسمُه في كراس أسماء السامعين بالجَبَل صحيحَ البخاري على ابن الزبيدي سنة ثلاثين، فحدَّث بالجامع بضعًا وسبعين مرةً، اشتَهر اسمه وبَعُدَ صِيتُه، وألحق الصغار بالكبار[27]. 3 - أن يُكثر الرواية بعد أن علا سندُه وارتفع شأنه حتى يلحق الصغار بالكبار، والأَبْنَاء بِالآبَاء، والأَحفَادَ بِالأَجدَادِ حسب المراتب، وإليك بعض الأمثلة: 1 - الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي، أبو علي العبدي، البغدادي، (م 150هـ - ت257 هـ)، عاش مائة وعشرَ سنين، كان يقول: كَتَب عني خمسةُ قرون، قال الحافظ الذهبي: يعني خمسَ طبقات: فالطبقة الأولى ابن أبي حاتم، والثانية ابن أبي الدنيا، والثالثة طبقة ابن خزيمة، والرابعة طبقة المحاملي، والخامسة الصفار. وصفه الحافظ الذهبي بـ"مُسنِد وقته، وانتهى علوُّ الإسناد اليوم، وهو عام خمسة وثلاثين إلى حديث الحسن بن عرفة، كما أنه كان سنة نيف وستين وستمائة أعلى شيء يكون"[28]. 2 - عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز، أبو القاسم، البغوي الأصل، البغدادي (م 214هـ - 317 هـ)، عاش مائة سنة وثلاث سنين، وصفه الذهبي بـ"مُسنِد الدنيا، وقال: حرَص عليه جدُّه، وأسمعه في الصِّغر، بحيث إنه كتب بخطه إملاءً، في ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائتين، فكانت سنُّه يومئذٍ عشر سنين ونصفًا، ولا نعلم أحدًا في ذلك العصر طلب الحديث وكتبه أصغر مِن أبي القاسم، فأدرك الأسانيد العالية"[29]. وقال الصفدي: وتفرَّد في الدنيا بعلو السند[30]. قال أبو محمد الرَّامَهُرْمُزي: لا يُعرَف في الإسلام مُحدِّث وازى البغوي في قِدَم السماع[31]. 3 - محمد بن عبدالله بن إبراهيم بن عبدويه، أبو بكر البغدادي، البزاز، صاحب الأجزاء (الغيلانيات) العالية، ، وراوي جزء ابن عَرَفة(م 260 هـ 354 هـ)، حلاه الذهبي بـ "مُسنِد العراق"، وقال عنه: "أول سماعِه في سنة ست وسبعين ومائتين، ومَن فاتَتْه (الغيلانيات)[32]، و(القطيعيات)[33]، وجزء الأنصاري - نزل حديثُه درجةً، ثم لم يجد شيئًا أعلى من حديث البغوي، ثم ابن صاعد، ومَن فاته حديث هذينِ نزل إلى حديث المحاملي، والأصم، وإسماعيل الصفار راوي جزء ابن عرفة. طال عمر أبي بكر الشافعي، وتفرد بالرواية عن جماعة، وتزاحم عليه الطلبة لإتقانه وعلو إسناده[34]. 4 - أبو محمد عبدالواحد بن عبد الرحمن بن القاسم الزبيري، البخاري، الوركي (ت 490)، وصفه الذهبي بـ"مُسنِد الدنيا، وبـ"قوله:رحل الناس إليه من الأقطار"، وقال أبو سعد السمعاني: "عمر الوركي مائة وثلاثين سنة، وبين كتابته للإملاء عن أبي ذر عمار بن محمد، صاحب يحيى بن صاعد، وبين موته مائة سنة وعشر سنين"[35]. 5 - علي بن أحمد بن محمد بن بيان أبو القاسم العمري الكاتب المعروف بابن الرزازالبغدادي، (412هـ 510 هـ)، وقال الحافظ الخطيب البغدادي: "أسمعه والده في صباه، وانفرد بالرواية عن أكثرشيوخه وعُمِّر، وصارت الرحلة إليه، وكتب عنه الأئمة والحفاظ، وروى عنه الكبار[36]، كان آخر مِن حدَّث بنسخة ابن عَرَفَة [37]. قال الصفدي " أسمعهُ وَالِده فِي صباه، لا يعرف في الإسلام محدث وازاه في قدم السماع. كان يقول: أنتم ما تطلبون الحديث والعلم، أنتم تطلبون العلو، وإلا ففي دربي جماعة سمعوه مني، فاسمعوه منهم، ومن أراد العلو، فليزن دينارا[38]. 6 - هبة الله بن محمد بن عبدالواحد، أبو القاسم الشيباني، الهمذاني الأصل، البغدادي، (م 432 هـ - ت 525 هـ)، بكَّر به أبوه وبأخيه عبدالواحد، فأسمعهما[39]، سماعه في سنة ست، وهو في الخامسة، واسع الرواية،وصفه الذهبي بـ"المُسنِد، الصدوق، مسند الآفاق"، وقال:وتفرَّد بروايةِ (مسند أحمد)، وفوائد أبي بكر الشافعي المشهورة بـ(الغيلانيات)، وبـ(اليشكريات)[40]، وقال الصفدي: "ألحق الأبناء والأحفاد بالأجداد، وهو آخر مَن روى ببغداد عن ابن غيلان وابن المذهب وحسن الأمير والتنوخي[41]. 7 - محمد بن سعيد بن أحمد بن سعيد الفقيه، أبو عبدالله بن أبي الطيب بن زرقون، (502 هـ - 586 هـ)، وصفه الصفدي بـ"المُسنِد"، وقال عنه: أجاز له الخولاني، وانفرَد في الدنيا بالرواية عنه، وكان مُسنِد الأندلس في وقته[42]. وقال الذهبي: أجاز له عامَ اثنتين وخمسمائة أبو عبدالله أحمد بن محمد الخولاني راوي (الموطأ)، وفيها وُلِد، وتفرَّد في وقته عنه، وسمع بمراكش من: أبي عمران موسى بن أبي تليد، فتفرد عنه أيضا، وارتحل الناس إليه لعلوِّه[43]. 8 - عبدالمنعم بن عبدالوهاب بن سعد، أبو الفرج الحراني الحنبلي البغدادي، (م 500 هـ 596 هـ)، قال عنه الصفدي: "بكر به في سماع الحديث، وعمرُه ست سنين من الشريف أبي طالب الحسين بن محمد بن علي الزينبي، وعلي بن أحمد بن محمد بن بيان، ومحمد بن سعيد بن نبهان، وإسماعيل بن محمد بن أحمد بن فله الإصبهاني، والمبارك بن الحسين بن أحمد الغسال المقرئ، ومحمد بن أحمد بن طاهر بن أحمد الخازن، وأحمد بن علي بن بدران الحلواني، وصاعد بن سيار بن محمد الإسحاقي الهَرَوي، وكان آخر مَن حدث عن هؤلاء على وجه الأرض، وكان مُسنِد العراق، ألحق الصغار بالكبار[44]. 9 - أحمد بن نعمة بن حسن البقاعي الديرمقري الدمشقي الصالحي، الحجار الخياط، الرحلة المُعمَّر)، شهاب الدين، أبو العباس، المعروف بابن الشحنة، (م 620 هـ - ت 730 هـ)، ووصفه الذهبي بـ"مُسنِد الدنيا"[45]، وقال: انفرد سنين بعلوِّ رواية جزء مِن حديث ابن عفان[46]، حدَّث بالجامع بضعًا وسبعين مرَّةً، واشتهر اسمُه، وبَعُدَ صِيتُه، وألحق الصغار بالكبار، ورأى العز والإكرام، ورُحِل إليه من البلاد، وسَمِع منه أممٌ لا يُحصَون، وتزاحموا عليه من سنة بضعَ عشرةَ وسبعمائة إلى أن تُوفِّي وهو ابن مائة عام[47]. ولَمَّا جمعتُ مئات المُسنِدين، ودرستُ تراجِمَهم، حتى ارتشفتُ منها هذه الشروط، فقد اكتفيتُ بذكر هؤلاء المسندين تجنُّبًا للتطويل، وليس المقصودُ سردَ تراجمهم بتمامها، بل المقصود ذكرُ ما يشير إلى الشروط المذكورة. هل المُسنِد مِن ألقاب الحفظ؟ الشروط التي ذُكرت للتوصيف بالمُسنِد تدلُّ على كون المسند مِن ألقاب الرواية؛ مثل الشمس الساطعة في رابعة النهار؛ لأنها تتعلَّق في نهاية المطاف بتحمُّل الحديث في الصِّغَر وأدائه في الشيخوخة، ولكن هل هذا اللقب من ألقابِ الحفظ أيضًا؟ سأسلِّط الضوء على ذلك في هذا المبحث بعون الله الموفِّق والمُعين، فأقول: ذكر الحافظ السيوطي أن المُحدِّث أرفع من المسند[48]. وذكره الشيخ الغماري خلال مراتب الحفظ، وجعله المرتبةَ الأولى من تلك المراتب؛ حيث قال:مراتب الحفظ خمس، هي: مسند، ثم محدث، ثم مفيد، ثم حافظ، ثم أمير المؤمنين في الحديث [49]. وقال محمد الأمين بن عبدالله الهَرَري: هو أدنى رتبةً من الحافظ والمحدث[50]. هذه الأقوال تدل على أمرين: 1 - المُسنِد أدنى من المُحدِّث. 2 - أنه مَن يشير إلى المرتبة الأولى من مراتب الحفظ. وقد وصل هؤلاء العلماء الأكابر إلى هذه النتيجة؛ لأنهم جعلوا المدار في التلقيب بـ"المُسنِد" على رواية الحديث بالإسناد فقط، وأنه ليست لذلك الراوي مَزِيَّة أخرى، فطبعًا يكون ذلك الراوي أدنى من المُحدِّث، وبما أن المُحدِّث مِن ألقاب الحفظ، فيكون المُسنِد أيضًا منها؛ لأن مِن شروط المحدث حفظَ المتون؛ كما أشار إليه الشيخ فتح الدين بن سيد الناس: "وأما المحدث في عصرنا، فهو مَن اشتغل بالحديث روايةً ودرايةً، وجمع رواةً، واطَّلع على كثيرٍ مِن الرواة والروايات في عصره، وتميَّز في ذلك حتى عُرِفَ فيه حفظُه، واشتَهر فيه ضبطُه"[51]. ولكن هذا كله إذا سلَّمنا أن مدار التوصيف بـ"المُسنِد" على رواية الحديث بالإسناد، والأمر ليس كذلك، ولقد تم الرد على هذا من قبلُ، فإذا عرَفنا أن المدارَ ليس على رواية الحديث بالإسناد، فلا يكون المُسنِد أدنى مِن المحدث، ولا يكون من ألقاب الحفظ من حيث إنه يشير إلى المرتبة الأولى، بل ليس هناك أي داعٍ للتقابل بين المُسنِد والمُحدِّث يمكن أن يكون الراوي محدثًا ومسندًا، بل أعلى من المُحدِّث؛ لأن ليس مِن شروطه حفظُ المتون والأحاديث، وشروطه تتعلق بتحمُّل الحديث في الصغر وروايتِه بالكثرة في الكِبَر مع علوِّ الإسناد وطول العمر. فعُلِم مِن ذلك أن المُسنِد ليس مِن ألقاب الحفظ؛ مِن حيث إنه يدل على المرتبة الأولى من مراتب الحفظ، وإنه أدنى من المحدث؛ لأن شروطَهما تختلف، وأنهما ليسا مِن نوع واحد حتى تكون بينهما المقارنة. أنواع المُسنِد: ومِن الجدير بالذكر في هذا المبحث أنه ليس مِن اللازم التساوي بين المُلَقَّبِينَ بـ"المُسنِد": فمنهم مَن عُمِّر وتفرَّد بجزء من أجزاء الحديث، أو بشيخ من شيوخه. ومنهم مَن تفرَّد بعامة شيوخه. ومنهم مَن ينحصِرُ تَفَرُّدُه في بلدٍ مُعيَّن. ومنهم مَن تفرَّد بشيوخه في العالم لا يشاركه فيهم مَن عداه، مات أقرانه وعلا سندُه، واشتَهَر اسمُه وبَعُد صِيتُه، ألحق الصغار بالكبار، والأبناء بالآباء، والأحفاد بالأجداد، قصده طَلبةُ الحديث مِن عامة البلاد حتى لُقِّب بـ"مُسنِد الدنيا"، و"مُسنِد العالم"، و"مُسنِد العصر"، و"مُسنِد الآفاق"، و"مُسنِد الوقت أو مُسنِد وقته"، وسأذكر مثالًا لكل هذه الكلمات لفا مرتبًا. • قال الشيخ الصفدي في ترجمة الحسن بن علي بن محمد أبي محمد الجوهري الشيرازي البغدادي (444 هـ): "مُسنِد العراق، بل مسند الدنيا في عصره"[52]، وسياق كلامه يدل على أن المُلقِّب بـ"المُسنِد" المنسوب إلى بلد من البلاد أدنى مِن الملقب بـ"مُسنِد الدنيا"، فيكون معنى كلامه: هو مُسنِد العراق، لا بل أعلى رتبةً مِن ذلك إنه مُسنِد الدنيا. • علي بن أحمد بن عبدالواحد المقدسي الصالحي الحنبلي (م 595 هـ ت 690 هـ)، وصفه الصفدي: "مُسنِد العالم، وقال: "وألحق الأحفاد بالأجداد، وهو آخر مَن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدنيا ثمانيةُ رجال ثقات"[53]. • أبو الوقت عبدالأول بن عيسى بن شعيب السجزي (م 458 هـ - ت 512 هـ)،لقَّبه الذهبي بـ"مُسنِد الآفاق"، سمِع في سنة خمس وستين وأربعمائة (أي في السابعة)، وتكاثر عليه الطلبةُ، واشتَهَر حديثه، وبَعُدَ صِيتُه، وانتهى إليه علوُّ الإسناد، عاش مائةً وثلاث سنين[54]. •محمد بن عبدالله بن أحمد، أبو بكر الأصبهاني المشهور بابن ريذة، (346 هـ ت 440 هـ)، عُمِّر دهرًا، وتفرَّد في الدنيا، وله أربع وتسعون سنة لقِّب بـ"مُسنِد العصر"[55]. • خلف أحمد بن علي بن عبدالله الشيرازي، أبو بكر الشيرازي، ثم النيسابوري، الأديب، مُسنِد وقته (م 398 هـ ت 487 هـ) [56]. فهؤلاء الشيوخ كلُّهم قد تفرَّدوا في الدنيا لا يُشارِكهم في الرواية عن شيوخهم بعد أن مات أقرانهم ومشاركوهم في شيوخهم؛ لأنهم قد طال عمرُهم، فمنهم مَن تجاوز المائة، ومنهم مَن تجاوز التسعين. وفي الأسطر الآتية سأذكر بعض الأمثلة للمسند الخاص ببلد ما: • أبو محمد عبدالرحمن بن محمد بن عتاب بن محسن القرطبي (م 433 هـ ت 531 هـ)، وصفه الذهبي في (العبر ج2، ص413) بـ"مُسنِد الأندلس"، وقال عنه خلف بن عبدالملك بن بشكوال (المتوفى: 578 هـ): هو آخر الشيوخ الأَجِلَّة الأكابر بالأندلس في علو الإسناد وسَعَة الرواية، وكانتِ الرحلةُ في وقته إليه، ومدارُ أصحاب الحديث عليه لثقتِه وجلالته وعلو إسناده وصحة كتبه، وطال عمره، وسمِع منه الآباء والأبناء، والكبار والصغار[57]. تميمُ بن أبي سعيد بن أبي العباس الجرجاني أبو القاسم الجرجاني (م بعد 540 هـ ت 530 / 531 هـ)، وصفه الذهبي بـ"مُسنِد هَرَاة"، وقال: انتهى إليه بهَرَاة علوُّ الإسناد، كان قد اعتنى به خالُه الحافظ عبدالله بن يوسف[58]. • أبو الحسن بن السمسار علي بن موسى الدمشقي (ت 433 هـ)، وصفه الذهبي بـ"مُسنِد الشام في وقته[59]، وقال عنه في (العبر ج2، ص 268): انتهى إليه علوُّ الإسناد بالشام. هناك جمع غفير لُقِّب كل واحد منهم بالمُسنِد المنسوب إلى بلد ما، ولكن أكتَفي بذكرِ هؤلاء الثلاثة لتوضيح المقال. الاستنتاجات: 1- تعريف المُسنِد المذكور في كتب المصطلح التي صنفت بعد القرن الثامن هو: "مَن يروي الحديثَ بالإسناد، سواء عنده علم بالحديث أو لم يكن عالِمًا به"، ولكن عندما صنف الحافظ زين الدين العراقي منظومتَه وذكر فيها: نظمتُها تبصرةً للمبتدي ♦♦♦ تذكرةً للمنتهي والمُسنِدِ فكلُّ مَن شرح منظومته اضطُرَّ إلى ذكر تعريف المُسنِد، فذكروا فيه ما ذكروا. 2- لو كان المدارُ في التلقيب بـ"المُسنِد" على الاعتناءِ بالمُسنَدات لَلُقِّب أبو محمد عبدالله بن مظاهر الأصبهاني (ت304 هـ)؛ لأنه حفِظ الأحاديث المُسنَدة بخذافيرها، ولكنه مع ذلك لم يُوصَفْ به؛ لأنه مات شابًّا، ولم يُعمَّر طويلًا. 3- قول الحافظ العراقي يردُّ على قولهم في تعريف المُسنِد: "سواء عنده علم بالحديث أو لم يكن عالِمًا به"؛ لأن جعل هذا الكتاب تذكرةً للمُسنِد يتذكَّر به ما غفل عنه مثل المنتهي، وهذا ما يمكن إلا إذا كان عالِمًا بما في الكتاب من أنواع علوم الحديث. 4- تعريفُ الشيخ الصفدي للمُسنِد: مَن عُمِّر وأكثر الرواية - ناقصٌ؛ لأن الراوي إذا لم يسمَع في الصِّغَر ولم يُجِزْ له أحدٌ بالرواية، تكون مسموعاتُه نازلةً بدل أن يُصبِح مُسندًا. 5- تعريفُ المُسنِد عند الباحث: (مَن سمع حضورًا أو أُجِيز له بالرواية في صغره، ثم عُمِّر وتفرد فعَلَا سندُه وكثرت روايته". 6- شروط التلقيب بالمسند ثلاثة: 1- إدراك الشيوخ والسماع منه في الصغر حضورًا في مجلسه، أو أن يُجِيز له الشيخ بالرواية عنه حتى يُدرِك الأسانيد العالية. 2- وأن يتفرَّد بالرواية عن شيوخِه بأن يُعَمَّر عمرًا طويلًا إلى أن مات أقرانُه ومشاركوه في الشيوخ، وأن ينتهي إليه علوُّ الإسناد، وأن تقصده الرحلة مِن مختلف البلاد لعلوِّ الإسناد. 3- أن يكثر الرواية بعد أن علا سندُه، وارتفع شأنه حتى يلحق الصغار بالكبار، والأَبْنَاء بالآبَاء، والأَحفَاد بالأَجدَاد. 7- ليس مِن اللازم التساوي بين المُلَقَّبِينَ بـ"المُسنِد": فمنهم مَن تفرد بجزء من أجزاء الحديث أو بشيخ من شيوخه. ومنهم مَن تفرد بعامة شيوخه. ومنهم مَن ينحصر تَفَرُّده في بلد معين فيُلَقَّب بـ"مُسنِد العراق"، و"مُسنِد الهَرَاة" مثلًا. وهناك مَن هو أعلى رتبةً مِن الجميع، فقد تفرد بشيوخه في العالم لا يشاركه فيهم مَن عداه، ولا يُوازِيه في قِدَم السماع من سواه، مات أقرانه وعلا سندُه، اشتَهَر اسمُه وبَعُدَ صِيتُه، ألحق الصغار بالكبار حتى لُقِّب بـ"مُسنِد الدنيا"، و"مُسنِد العالم"، و"مُسنِد العصر"، و"مُسنِد الآفاق"، و"مُسنِد الوقت أو مُسنِد وقته". المراجع والمصادر: • ألفيةُ العراقي المسماة بـ: (التبصرة والتذكرة في علوم الحديث)، أبو الفضل زين الدين عبدالرحيم بن الحسين بن عبدالرحمن العراقي (المتوفى: 806 هـ)، تقديم فضيلة الشيخ عبدالكريم بن عبدالله الخضير، مكتبة دار المنهاج للنشر والتوزيع، الرياض - المملكة العربية السعودية، ط: الثانية، 1428 هـ. • الأنساب، أبو سعد عبدالكريم بن محمد السمعاني (ت 562 هـ)، المحقق: عبدالرحمن بن يحيى المُعلِّمي وغيره، مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، ط: الأولى (1382 هـ - 1962 م) 12/ 265. • أعيان العصر وأعوان النصر؛ للشيخصلاح الدين خليل بن أيبك بن عبدالله الصفدي (ت 764 هـ)، المحقق الدكتور علي أبو زيد، ورفقاؤه، دار الفكر المعاصر، بيروت، ط: الأولى (1418 هـ - 1998 م). • تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، شمس الدين، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 هـ)، المحقق: الدكتور بشار عوَّاد معروف، دار الغرب الإسلامي. • تاريخ بغداد، أبو بكر، أحمد بن علي بن ثابت الخطيب البغدادي (ت 463 هـ)، المحقق: الدكتور بشار عواد معروف، دار الغرب الإسلامي - بيروت، ط: الأولى (1422 هـ - 2002 م). • تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي، عبدالرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، (ت 911 هـ)، حققه: أبو قتيبة نظر محمد الفاريابي، دار طيبة. • تذكرة الحفاظ للذهبي، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، ط: الأولى (1419هـ - 1998م). • تهذيب التهذيب، لأبي الفضل أحمد بن علي بن محمد، ابن حجر العسقلاني، (ت 852 هـ)، مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، ط: الأولى (1326 هـ). • الحديث في علوم القرآن والحديث، حسن محمد أيوب (ت 1429 هـ)، دار السلام - الإسكندرية، ط: الثانية (1425هـ - 2004م). • سير أعلام النبلاء لشمس الدين الذهبي، المحقق: مجموعة مِن المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، ط: الثالثة (1405 هـ - 1985 م). • شرح (التبصرة والتذكرة ألفية العراقي)، أبو الفضل زين الدين عبدالرحيم بن الحسين بن عبدالرحمن العراقي (المتوفى: 806 هـ)، المحقق: عبداللطيف الهميم - ماهر ياسين فحل، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط: الأولى (1423 هـ - 2002 م). • الصلة في تاريخ أئمة الأندلس؛ لأبي القاسم خلف بن عبدالملك بن بشكوال (المتوفى: 578 هـ)، تحقيق/ السيد عزت العطار الحسيني، مكتبة الخانجي، ط: الثانية (1374 هـ - 1955م). • العبر في خَبَر مَن غبر للذهبي، المحقق: أبو هاجر محمد السعيد بن بسيوني زغلول، دار الكتب العلمية - بيروت. • لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل، المعروف بابن منظور (المتوفى: 711 هـ) دار صادر، بيروت، ط: (الثالثة - 1414 هـ). • مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، أبو الحسن، عبيدالله بن محمد عبدالسلام، (ت 1414 هـ)، إدارة البحوث العلمية والدعوة بنارس الهند، ط: الثالثة (1404 هـ، 1984 م). • مفتاح السعيدية في شرح الألفية الحديثية، شمس الدين محمد بن عمار المالكي، المعروف بابن عمار (ت 844 هـ)، تحقيق: د/ شادي بن محمد، مركز النعمان للبحوث، صنعاء اليمن، ط: الأولى(1432 هـ - 2011 م). • النور السافر عن أخبار القرن العاشر، محيي الدين عبدالقادر بن شيخ بن عبدالله العَيْدَرُوس (ت 1038 هـ)، دار الكتب العلمية - بيروت، ط: الأولى (1405). • الوافي بالوفيات للصفدي، المحقق أحمد الأرنؤوط، وتركي مصطفى، دار إحياء التراث - بيروت. • الوسيط في علوم ومصطلح الحديث، محمد بن محمد (ت 1403 هـ)، دار الفكر العربي. ===================== تعريف علم مصطلح الحديث، والهدف من دراسته تعريف علم مصطلح الحديث: يعرَّف بأمرَيْن: الأول: باعتباره لقبًا لفنٍّ معين. الثاني: باعتبار مفرداته. أما الأول: فيعرف على أنه: "علم بأصول وقواعد يُعرف بها أحوال السند والمتن، من حيث القَبول والرد[1]". وأما الثاني: فيكون كما يلي: • العلم: وهو "إدراك الشيء على ما هو عليه، أو إن شئت فقل: معرفة الشيء على ما هو عليه[2]". • مصطلح: وهو لفظٌ لما يتَّفق عليه أهل كل فن بحسب اللُّغة العرفية. • الحديث: وهو "ما أضيف إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- من قولٍ أو فِعْل أو تقرير أو صفة[3] ". الهدَف من دراسة علم مصطلح الحديث[4]: إنَّ الهدَف من دراسة علم مصطلح الحديث، وهو من علوم الآلة؛ ذلك لأنَّه من الوسائل التي تخدم هذا العلم العظيم، فالهدف من مصطلح الحديث معرفة المقبول والمردود من السنة، ووسيلة إلى معرفة ما يقبل وما يرد من السنن، لكن كيف نعرف المقبول لنعمل به، والمردود لنجتنبه، إلاَّ بواسطة هذا العلم؟ فهو من أهم المهمات، يُقاربه قواعد التفسير، أو أصول الفقه كذلك، كلها تخدم وإن كانت من علوم الآلة، ومثلها علوم العربيَّة بفروعها، إلاَّ أنَّها مما يضطر إليه طالب العلم. [1] "تيسير مصطلح الحديث"، للدكتور محمود الطَّحَّان، ص 15. [2] "شرح نظم الورقات"، للشيخ محمد بن صالح العثيمين، ص 43. [3] "تيسير مصطلح الحديث"، للدكتور محمود الطَّحَّان، ص 15. [4] "مقارنة بين شروح الكتب الستة"، للشيخ الدكتور/ عبدالكريم الخُضير

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج1وج2.كتاب : الأذكياء لابن الجوزي

  كتاب : الأذكياء لابن الجوزي بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة المؤلف الحمد لله الذي أحلنا محلة الفهم وحلانا حلية العلم وملكنا عقال العق...