ج19و20و21. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
= قال ابن المعتز وحدثني علي بن الحسين أن عريب
كانت تتعشق أبا عيسى بن الرشيد وروى غيره أنها كانت لا تضرب المثل إلا بحسن وجه
أبي عيسى وحسن غنائه وكانت تزعم أنها ما عشقت أحدا من بني هاشم وأصفته المحبة من
الخلفاء وأولادهم سواه قال ابن المعتز وحدثني بعض جوارينا أن عريب كانت تتعشق
صالحا المنذري الخادم وتزوجته سرا فوجه به المتوكل إلى مكان بعيد في حاجة له فقالت
فيه شعرا وصاغت لحنه في خفيف الثقيل وهو صوت ( أَمَّا الحبيبُ فقد مضى ... بالرغم
منّيَ لا الرّضا ) ( أخطأت ُ في تركِي لمن ... لم ألق منه مُعَوّضا ) قال فغنته يوما
بين يدي المتوكل فاستعاده وجعل جواريه يتغامزن ويضحكن فأصغت إليهن سرا من المتوكل
فقالت يا سحاقات هذا خير من عملكن قال وحدثت عن بعض جواري المتوكل أنها دخلت يوما
على عريب فقالت لها تعالي ويحك إلي فجاءت قال فقالت قبلي هذا الموضع مني فإنك
تجدين ريح الجنة فأومأت إلى سالفتها ففعلت ثم قالت لها ما السبب في هذا قالت قبلني
صالح المنذري في ذلك الموضع قال ابن المعتز وأخبرني أبو عبد الله الهشامي قال
حدثني حمدون بن إسماعيل قال حدثني محمد بن يحيى الواثقي قال قال لي محمد بن حامد
ليلة أحب أن تفرغ لي مضربك فإني أريد أن أجيئك فأقيم عندك ففعلت ووافاني فلما جلس
جاءت عريب فدخلت وقد حدثني به جحظة قال حدثني أبو عبد الله بن حمدون أن عريب زارت
محمد بن حامد وجلسا جميعا فجعل يعاتبها ويقول فعلت كذا وفعلت كذا فقالت لي يا محمد
هذا عندك رأي ثم أقبلت عليه فقالت يا عاجز خذ بنا فيما نحن فيه وفيما جئنا إليه وقال
جحظة في خبره اجعل سراويلي مخنقتي وألصق خلخالي بقرطي فإذا كان غد فاكتب إلي
بعتابك في طومار حتى أكتب إليك بعذري في ثلاثة ودع هذا الفضول فقد قال الشاعر صوت ( دَعِي عَدَّ
الذّنوب إذا التقينا ... تعاليْ لا أعدُّ ولا تعدِّي ) وتمام هذا قوله ( فأقسِم لو هممت بمدّ شعري ... إلى نار
الجحيم لقُلْتِ مُدِّي ) الشعر للمؤمل والغناء لعريب خفيف رمل وفيه لعلوية رمل بالبنصر
من رواية عمرو بن بانة عاشرت ثمانية من الخلفاء أخبرني أبو يعقوب إسحاق بن الضحاك
بن الخصيب قال حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن الفرات قال كنت يوما عند أخي أبي
العباس وعنده عريب جالسة على دست مفرد لها وجواريها يغنين بين يدينا وخلف ستارتنا فقلت
لأخي وقد جرى ذكر الخلفاء قالت لي عريب ناكني منهم ثمانية ما اشتهيت منهم أحدا إلا
المعتز فإنه كان يشبه أبا عيسى بن الرشيد قال ابن الفرات فأصغيت إلى بعض بني أخي
فقلت له فكيف ترى شهوتها الساعة فضحك ولمحته فقالت أي شيء قلتم فجحدتها فقالت
لجواريها أمسكن ففعلن فقالت هن حرائر لئن لم تخبراني بما قلتما لينصرفن جميعا وهن
حرائر إن حردت من شيء جرى ولو أنها تسفيل فصدقتها فقالت وأي شيء في هذا أما الشهوة
فبحالها ولكن الآلة قد بطلت أو قالت قد كلت عودوا إلى ما كنتم فيه شرطان فاحشان
وحدثني الحسن بن علي بن مودة قال حدثني إبراهيم بن أبي العبيس قال حدثنا أبي قال دخلنا
على عريب يوما مسلمين فقالت أقيموا اليوم عندي حتى أطعمكم لوزينجة صنعتها بدعة
بيدها من لوز رطب وما حضر من الوظيفة وأغنيكم أنا وهي قال فقلت لها على شريطة قالت
وما هي قلت شيء أريد أن أسألك عنه منذ سنين وأنا أهابك قالت ذاك لك وأنا أقدم
الجواب قبل أن تسأل فقد علمت ما هو فعجبت لها وقلت فقولي فقالت تريد أن تسألني عن
شرطي أي شرط هو فقلت إي والله ذاك الذي أردت قالت شرطي أير صلب ونكهة طيبة فإن
انضاف إلى ذلك حسن يوصف وجمال يحمد فقد زاد قدره عندي وإلا فهذان ما لا بد لي
منهما وحدثني الحسن بن علي عن محمد بن ذي السيفين إسحاق بن كنداجيق عن أبيه قال كانت
عريب تولع بي وأنا حديث السن فقالت لي يوما يا إسحاق قد بلغني أن عندك دعوة فابعث
إلي نصيبي منها قال فاستأنفت طعاما كثيرا وبعثت إليها منه شيئا كثيرا فأقبل رسولي
من عندها مسرعا فقال لي لما بلغت إلى بابها وعرفت خبري أمرت بالطعام فأنهب وقد
وجهت إليك برسول وهو معي فتحيرت وظننت أنها قد استقصرت فعلي فدخل الخادم ومعه شيء
مشدود في منديل ورقعة فقرأتها فإذا فيها بسم الله الرحمن الرحيم يا عجمي يا غبي
ظننت أني من الأتراك ووخش الجند فبعثت إلي بخبز ولحم وحلواء الله المستعان عليك يا
فدتك نفسي قد وجهت إليك زلة من حضرتي فتعلم ذلك من الأخلاق ونحوه من الأفعال ولا
تستعمل أخلاق العامة في رد الظرف فيزداد العيب والعتب عليك إن شاء الله فكشفت
المنديل فإذا طبق ومكبة من ذهب منسوج على عمل الخلاف وفيه زبدية فيها لقمتان من
رقاق وقد عصبت طرفيهما وفيها قطعتان من صدر دراج مشوي ونقل وطلع وملح وانصرف
رسولها تحلم ثلاث مرات في النوم بحبيبها قال ابن المعتز حدثني الهشامي أبو عبد الله
عن رجل ذكره عن علوية قال أمرني المأمون وسائر المغنين في ليلة من الليالي أن نصير
إليه بكرة ليصطبح فغدونا ولقيني المراكبي مولى عريب وهي يومئذ عنده فقال لي يأيها
الرجل الظالم المعتدي أما ترق ولا ترحم ولا تستحي عريب هائمة تحلم بك في النوم ثلاث
مرات في كل ليلة قال علوية فقلت أم الخلافة زانية ومضيت معه فحين دخلت قلت استوثق
من الباب فإني أعرف خلق الله بفضول البوابين والحجاب وإذا عريب جالسة على كرسي
تطبخ وبين يديها ثلاث قدور من دجاج فلما رأتني قامت تعانقني وتقبلني ثم قالت أيما
أحب إليك أن تأكل من هذه القدور أو تشتهي شيئا يطبخ لك فقلت بل قدر من هذه تكفينا
فغرفت قدرا منها وجعلتها بيني وبينها فأكلنا ودعونا بالنبيذ فجلسنا نشرب حتى سكرنا
ثم قالت يا أبا الحسن صنعت البارحة صوتا في شعر لأبي العتاهية فقلت وما هو فقالت
هو ( عَذِيري
من الإنسان لا إن جفوته ... صَفا لي ولا إن كنت طوعَ يديه ) وقالت لي قد بقي فيه شيء فلم نزل
نردده أنا وهي حتى استوى ثم جاء الحجاب فكسروا باب المراكبي واستخرجوني فدخلت على
المأمون فلما رأيته أقبلت أمشي إليه برقص وتصفيق وأنا أغني الصوت فسمع وسمع من
عنده ما لم يعرفوه واستظرفوه وسألني المأمون عن خبره فشرحته له فقال لي ادن وردده
فرددته عليه سبع مرات فقال في آخر مرة يا علوية خذ الخلافة واعطني هذا الصاحب نسبة
هذا الصوت صوت ( عَذِيري من الإنسان لا إن جَفَوتُه ... صفا لي ولا إن كُنتُ طَوعَ
يديه ) ( وإنّي لمشتاقٌ إلى قُربِ صاحِبٍ ... يَرُوق ويَصْفُو إن كَدرْتُ عليه ) الشعر من الطويل
وهو لأبي العتاهية والغناء لعريب خفيف ثقيل أول بالوسطى ونسبه عمرو بن بانة في هذه
الطريقة والأصبغ إلى علويه سبب غضب الواثق والمعتصم عليها قال ابن المعتز وحدثني
القاسم ين زرزور قال حدثتني عريب قالت كنت في أيام محمد ابنة أربع عشرة سنة وأنا
حينئذ أصوغ الغناء قال القاسم وكانت عريب تكايد الواثق فيما يصوغه من الألحان
وتصوغ في ذلك الشعر بعينه لحنا فيكون أجود من لحنه فمن ذلك ( لم آتِ عامدةً ذَنْباً إليك بَلَى ...
أُقِرّ بالذنب فاعفُ اليوم عن زَللي
) لحنها فيه خفيف ثقيل ولحن الواثق رمل ولحنها أجود من
لحنه ومنها ( أشكو إلى الله ما أَلْقَى من الكَمَدِ ... حَسْبِي بِرَبِّي ولا أشكو إلى أحَدِ ) لحنها ولحن
الواثق جميعا من الثقيل الأول ولحنها أجود من لحنه نسبة هذين الصوتين صوت ( لم آتِ
عامدةً ذنباً إليك بلى ... أُقِرُّ بالذّنب فاعفُ اليوم عن زللي ) ( فالصّفح من
سَيّدٍ أولى لمُعتَذرٍ ... وقاك رَبُّك يوم الخوفِ والوَجَلِ ) الغناء للواثق رمل ولعريب خفيف ثقيل
وذكر ذكاء وجه الرزة أن لطالب ابن يزداد فيه هزجا مطلقا صوت ( أشكو إلى الله ما ألقَى من الكَمَد ...
حَسْبي بربي ولا أشكُو إلى أحد
) ( أين الزمان الذي قد كنت ناعمةً ... في ظِلّه بدنُوّي
منك يا سَندي ) ( وأسأَلُ الله يوما منك يُفْرِحني ... فقد كحلتُ جفونُ العين
بالسَّهَد ) ( شوقا إليك وما تدري بما لقيت ... نفسي عليك وما بالقلب من كمد ) الغناء لعريب
ثقيل أول بالوسطى وللواثق ثقيل أول بالبنصر قال ابن المعتز وكان سبب انحراف الواثق
عنها وكيادها إياه وانحراف المعتصم عنها أنه وجد لها كتابا إلى العباس بن المأمون
ببلد الروم اقتل أنت العلج ثم حتى أقتل أنا الأعور الليلي ها هنا تعني الواثق وكان
يسهر بالليل وكان المعتصم استخلفه ببغداد قال وحدثني أبو العبيس بن حمدون قال غضبت
عريب على بعض جواريها المذكورات وسماها لي فجئت إليها يوما وسألتها أن تعفو عنها
فقالت في بعض ما تقوله مما تعتد به عليها من ذنوبها يا أبا العبيس إن كنت تشتهي أن
ترى زناي وصفاقة وجهي وجراءتي على كل عظيمة أيام شبابي فانظر إليها واعرف أخبارها أجادت
ركوب الخيل قال ابن المعتز وحدثني القاسم بن زرزور قال حدثني المعتمد قال حدثتني
عريب أنها كانت في شبابها يقدم إليها برذون فتطفر عليه بلا ركاب قال وحدثني الأسدي
قال حدثني صالح بن علي بن الرشيد المعروف بزعفرانة قال تمارى خالي أبو علي مع
المأمون في صوت فقال المأمون أين عريب فجاءت وهي محمومة فسألها عن الصوت فقالت فيه
بعلمها فقال لها غنيه فولت لتجيء بعود فقال لها غنيه بغير عود فاعتمدت على الحائط
للحمى وغنت فأقبلت عقرب فرأيتها قد لسعت يدها مرتين أو ثلاثا فما نحت يدها ولا
سكتت حتى فرغت من الصوت ثم سقطت وقد غشي عليها قال ابن المعتز وحدثني أبو العباس
بن الفرات قال قالت لي تحفة جارية عريب كانت عريب تجد في رأسها بردا فكانت تغلف
شعرها مكان العلة بستين مثقالا مسكا وعنبرا وتغسله من جمعة إلى جمعة فإذا غسلته أعادته
وتتقسم الجواري غسالة رأسها بالقوارير وما تسرحه منه بالميزان حدثني أحمد بن جعفر
جحظة عن علي بن يحيى المنجم قال دخلت يوما على عريب مسلما عليها فلما اطمأننت
جالسا هطلت السماء بمطر عظيم فقالت أقم عندي اليوم حتى أغنيك أنا وجواري وابعث إلي
من أحببت من إخوانك فأمرت بدوابي فردت وجلسنا نتحدث فسألتني عن خبرنا بالأمس في
مجلس الخليفة ومن كان يغنينا وأي شيء استحسنا من الغناء فأخبرتها أن صوت الخليفة
كان لحنا صنعه بنان من الماخوري فقالت وما هو فأخبرتها أنه صوت ( تُجافِي ثم
تَنطَبِقُ ... جفونٌ حَشوُها الأرقُ
) ( وذي كَلَفٍ بكى جَزَعاً ... وسَفْرُ القوم مُنطلِقُ ) ( به قَلَقٌ
يُمَلْمِلُه ... وكان وما به قَلَقُ
) ( جوانحُهُ على خَطَرٍ ... بِنارِ الشَّوق تَحترِقُ ) فوجهت رسولا إلى
بنان فحضر من وقته وقد بلته السماء فأمرت بخلع فاخرة فخلعت عليه وقدم له طعام فاخر
فأكل وجلس يشرب معنا وسألته عن الصوت فغناها إياه فأخذت دواة ورقعة وكتبت فيها ( أجاب الوابِلُ
الغَدِقُ ... وصاح النّرجس الغَرقُ
) ( وقد غنّى بنان لنَا ... جُفونٌ حَشوُها الأَرقُ ) ( فهاتِ الكأسَ
مُترعةً ... كَأنَّ حُبابَها حدَقْ
) قال علي بن يحيى فما شربنا بقية يومنا إلا على هذه
الأبيات ترد على من دعاها برموز حدثني محمد بن خلف بن المرزبان عن عبد الله بن
محمد المروزي قال قال لي الفضل بن العباس بن المأمون زارتني عريب يوما ومعها عدة
من جواريها فوافتنا ونحن على شرابنا فتحادثنا ساعة وسألتها أن تقيم عندي فأبت
وقالت دعاني جماعة من إخواني من أهل الأدب والظرف وهم مجتمعون في جزيرة المؤيد فيهم
إبراهيم بن المدبر وسعيد بن حميد ويحيى بن عيسى بن منارة وقد عزمت على المسير
إليهم فحلفت عليها فأقامت عندنا ودعت بداوة وقرطاس فكتبت بسم الله الرحمن الرحيم
وكتبت بعد ذلك في سطر واحد ثلاثة أحرف متفرقة لم تزد عليها وهي أردت ولولا ولعلي ووجهت
به إليهم فلما وصلت الرقعة عيوا بجوابها فأخذ إبراهيم بن المدبر الرقعة فكتب تحت
أردت ليت وتحت لولا ماذا وتحت لعلي أرجو ووجهوا بالرقعة فصفقت ونعرت وشربت رطلا
وقالت لنا أأترك هؤلاء وأقعد عندكم إذا تركني الله من يديه ولكني أخلف عندكم من
جواري من يكفيكم وأقوم إليهم ففعلت ذلك وخلفت عندنا بعض جواريها وأخذت معها بعضهن
وانصرفت أخبرنا محمد بن خلف عن سعيد بن عثمان بن أبي العلاء عن أبيه قال عتب
المأمون على عريب فهجرها أياما ثم اعتلت فعادها فقال لها كيف وجدت طعم الهجر فقالت
يا أمير المؤمنين لولا مرارة الهجر ما عرفت حلاوة الوصل ومن ذم بدء الغضب أحمد
عاقبة الرضا قال فخرج المأمون إلى جلسائه فحدثهم بالقصة ثم قال أترى هذا لو كان من
كلام النظام ألم يكن كبيرا هجرت المأمون أياما لأنها غضبت منه حدثني محمد بن خلف
عن أبي العيناء عن أحمد بن أبي دؤاد قال جرى بين عريب وبين المأمون كلام فكلمها
المأمون بشيء غضبت منه فهجرته أياما قال أحمد بن أبي داود فدخلت على المأمون فقال
لي يا أحمد اقض بيننا فقالت عريب لا حاجة لي في قضائه ودخوله فيما بيننا وأنشأت
تقول ( وتخلِط الهجرَ بالوصال ولا ... يدْخُل في الصُّلح بَينَنا أَحدُ ) حدثني محمد بن
خلف قال حدثني محمد بن عبد الرحمن عن أحمد بن حمدون عن أبيه قال كنت حاضرا مجلس
المأمون ببلاد الروم بعد صلاة العشاء الآخرة في ليلة ظلماء ذات رعود وبروق فقال لي
المأمون اركب الساعة فرس النوبة وسر إلى عسكر أبي إسحاق يعني المعتصم فأد إليه
رسالتي في كيت وكيت قال فركبت ولم تثبت معي شمعة وسمعت وقع حافر دابة فرهبت ذلك
وجعلت أتوقاه حتى صك ركابي ركاب تلك الدابة وبرقت بارقة فأضاءت وجه الراكب فإذا
عريب فقلت عريب قالت نعم حمدون قلت نعم ثم قلت من أين أقبلت في هذا الوقت قالت من
عند محمد ابن حامد قلت وما صنعت عنده قالت عريب ياتكش عريب تجيء من عند محمد بن
حامد في هذا الوقت خارجة من مضرب الخليفة وراجعة إليه تقول لها أي شيء عملت عنده
صليت معه التراويح أوقرأت عليه أجزاء من القرآن أو دارسته شيئا من الفقه يا أحمق
تعاتبنا وتحادثنا واصطلحنا ولعبنا وشربنا وغنينا وتنايكنا وانصرفنا فأخجلتني وغاظتني
وافترقنا ومضيت فأديت الرسالة ثم عدت إلى المأمون وأخذنا في الحديث وتناشد الأشعار
وهممت والله أن أحدثه حديثها ثم هبته فقلت أقدم قبل ذلك تعريضا بشيء من الشعر
فأنشدته ( ألا حيِّ أطلالاً لواسعة الحبل ... أَلوفٍ تسوّي صالح القوم بالرَّذْل ) ( فلو أَن من
أَمسَى بجانب تلعَة ... إلى جبليْ طيٍّ فساقطة الحَبْلِ ) ( جلوس إلى أَن يَقْصر الظّلّ عندها
... لراحوا وكُلّ القوم منها على وصْل
) فقال لي المأمون اخفض صوتك لا تسمعك عريب فتغضب وتظن
أنا في حديثها فأمسكت عما أردت أن أخبره وخار الله لي في ذلك حدثني محمد بن أحمد
الحكيمي قال أخبرني ميمون بن هارون قال قال لي ابن اليزيدي حدثني أبي قال خرجنا مع
المأمون في خروجه إلى بلد الروم فرأيت عريب في هودج فلما رأتني قالت لي يا يزيدي
أنشدني شعرا قلته حتى أصنع فيه لحنا فأنشدتها ( ماذا بقلبي من دوامِ الخفْق ... إذَا
رأَيتُ لمعانَ البَرْقِ ) ( من قِبَل الأردُنِّ أو دِمشْق ... لأَنّ من أَهوَى بذاك الأفْق ) ( فإنّ فيه وهو
أَعزّ الخَلْق ... عليّ والزّورُ خلاف الحقّ ) ( ذاك الذي يَملِك بني رِقِّي ...
ولست أَبغِي ما حَييتُ عِتْقِي
) قال فتنفست تنفسا ظننت أن ضلوعها قد تقصفت منه فقلت
هذا والله تنفس أعشق فقالت اسكت يا عاجز أنا عاشق والله لقد نظرت نظرة مريبة في
مجلس فادعاها من أهل المجلس عشرون رئيسا طريفا شعر لعباس بن الأحنف يصلح بينها
وبين حبيبها حدثني محمد بن خلف قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أحمد بن
حمدون قال وقع بين عريب وبين محمد بن حامد شر وكان يجد بها الوجد كله فكادا يخرجان
من شرهما إلى القطيعة وكان في قلبها منه أكثر مما في قلبه منها فلقيته يوما فقالت
له كيف قلبك يا محمد قال أشقى والله ما كان وأقرحه فقالت له استبدل تسل فقال لها
لو كانت البلوى باختيار لفعلت فقالت لقد طال إذا تعبك فقال وما يكون أصبر مكرها
أما سمعت قول العباس بن الأحنف (
تَعَبٌ يطول مع الرجاء بذي الهَوى ... خَيرٌ له من
رَاحةٍ في الياسِ ) ( لولا كرامتُكم لما عاتَبتكُم ... ولكنتُمُ عندي كبَعْضِ
النّاسِ ) قال فذرفت عيناها واعتذرت إليه وأعتبته واصطلحا وعادا إلى أفضل ما كانا عليه
اختلاف في تقييم فنها حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال قال لي أبو العباس بن حمدون وقد
تجاذبنا غناء عريب ليس غناؤها مما يعتد بكثرته لأن سقطه كثير وصنعتها ساذجة فقلت
له ومن يعرف في الناس كلهم من مغني الدولة العباسية سلمت صنعته كلها حتى تكون مثله
ثم جعلت أعد ما أعرفه من جيد صنعتها ومتقدمها وهو يعترف بذلك حتى عددت نحوا من
مائة صوت مثل لحنها في ( يا عزّ هل لك في شيخٍ فتًى أبدا ... ) و ( سيسليك عما فات دولةَ مفضل ... ) و ( صاح قد لمت ظالما
... ) و ( وضحك الزمان وأشرقت ...
) ونحو هذا ثم قال لي ما خلفت عريب بعدها امرأة مثلها في
الغناء والرواية والصنعة فقلت له لا ولا كثيرا من الرجال أيضا ولعريب في صنعتها ( يا عزّ هل لكِ في
شيخٍ فتى أبدا ... ) خبر أخبرني ببعضه أحمد بن عبيد الله بن عمار عن ميمون بن هارون
وذكر ابن المعتز أن عبد الواحد بن إبراهيم بن الخصيب حدثه عمن يثق به عن أحمد بن
عبد الله بن إسماعيل المراكبي قال قالت لي عريب حج بي أبوك وكان مضعوفا فكان عديلي
وكنت في طريقي أطلب الأعراب فأستنشدهم الأشعار وأكتب عنهم النوادر وسائر ما أسمعه
منهم فوقف شيخ من الأعراب علينا يسأل فاستنشدته فأنشدني ( يا عزّ هل لك في شيخ فَتًى أبدا ...
وقد يكون شَبابٌ غَيرُ فِتيان )
فاستحسنته ولم أكن سمعته قبل ذلك قلت فأنشدني باقي الشعر
فقال لي هو يتيم فاستحسنت قوله وبررته وحفظت البيت وغنيت فيه صوتا من الثقيل الأول
ومولاي لا يعلم بذلك لضعفه فلما كان في ذلك اليوم عشيا قال لي ما كان أحسن ذلك
البيت الذي أنشدك إياه الأعرابي وقال لك إنه يتيم أنشدينيه إن كنت حفظته فأنشدته
إياه وأعلمته أني قد غنيت فيه ثم غنيته له فوهب لي ألف درهم بهذا السبب وفرح
بالصوت فرحا شديدا قال ابن المعتز قال ابن الخصيب فحدثني هذا المحدث أنه قد حضر
بعد ذلك بمجلس أبي عيسى بن المتوكل ومن ها هنا تتصل رواية ابن عمار عن ميمون وقد
جمعت الروايتين إلا أن ميمون بن هارون ذكر أنهم كانوا عند جعفر بن المأمون وعندهم
أبو عيسى وكان عندهم علي ابن يحيى وبدعة جارية عريب تغنيهم فذكر علي بن يحيى أن
الصنعة فيه لغير عريب وذكر أنها لا تدعي هذا وكابر فيه فقام جعفر بن المأمون فكتب
رقعة إلى عريب ونحن لا نعلم يسألها عن أمر الصوت وأن تكتب إليه بالقصة ففعلت فكتبت
إليه بخطها بسم الله الرحمن الرحيم (
هَنِيًّا لأرباب البيوت بُيوتُهم ... وللعَزَب المسكين
ما يَتَلمَّسُ ) أنا المسكينة وحيدة فريدة بغير مؤنس وأنتم فيما أنتم وقد أخذتم
أنسي ومن كان يلهيني تعني جاريتيها بدعة وتحفة فأنتم في القصف والعزف وأنا في خلاف
ذلك هناكم الله وأبقاكم وسألت مد الله في عمرك عما اعترض فيه فلان والقصة في هذا
الصوت كذا وكذا وقصت قصتها مع الأعرابي كما حدثت به ولم تخرم حرفا منها فجاء
الجواب إلى جعفر بن المأمون فقرأه وضحك ثم رمى به إلى أبي عيسى ورمى به أبو عيسى
إلي وقال اقرأه وكان علي بن يحيى جالسا إلى جنبي فأراد أن يستلب الرقعة فمنعته
وقمت ناحية فقرأتها فأنكر ذلك وقال ما هذا فورينا الأمر عنه لئلا تقع عربدة وكان
عفا الله عنا وعنه مبغضا لها تعرف خبر صوت لا يعرفه أحد على وجه الأرض قال ابن
المعتز وحدثني أبو الخطاب العباس بن أحمد بن الفرات قال حدثني أبي قال كنا يوما
عند جعفر بن المأمون نشرب وعريب حاضرة إذ غنى بعض من كان هناك ( يا بدرُ إنّك قد
كُسِيت مشابِهاً ... من وجه ذاك المستنيرِ اللاّئحِ ) ( وأَراك تمصَح بالمحاق وحسنُها ...
باقٍ على الأيام ليس ببارح ) فضحكت عريب وصفقت وقالت ما على وجه الأرض أحد يعرف خبر هذا
الصوت غيري فلم يقدم أحد منا على مسألتها عنه غيري فسألتها فقالت أنا أخبركم بقصته
ولولا أن صاحب القصة قد مات لما أخبرتكم إن أبا محلم قدم بغداد فنزل بقرب دار صالح
المسكين في خان هناك فاطلعت أم محمد ابنة صالح يوما فرأته يبول فأعجبها متاعه
وأحبت مواصلته فجعلت لذلك علة بأن وجهت إليه تقترض منه مالا وتعلمه أنها في ضيقة
وأنها ترده إليه بعد جمعة فبعث إليها عشرة آلاف درهم وحلف أنه لو ملك غيرها لبعث
به فاستحسنت ذلك وواصلته وجعلت القرض سببا للوصلة فكانت تدخله إليها ليلا وكنت أنا
أغني لهم فشربنا ليلة في القمر وجعل أبو محلم ينظر إليه ثم دعا بدواة ورقعة وكتب
فيها قوله ( يا بدرُ إنك قد كُسِيتَ مشابها ... من وَجْهِ أُمّ محمد ابنةِ صَالحَ ) والبيت الآخر
وقال لي غني فيه ففعلت واستحسناه وشربنا عليه فقالت لي أم محمد في آخر المجلس يا
أختي قد تنبلت في هذا الشعر إلا أنه سيبقى علي فضيحة آخر الدهر فقال أبو محلم وأنا
أغيره فجعل مكان أم محمد ابنة صالح (
ذاك المستنير الائح ... ) وغنيته كما غيره وأخذه الناس عني
ولو كانت أم محمد حية لما أخبرتكم بالخبر فأما نسبة هذا الصوت فإن الشعر لأبي محلم
النسابة والغناء لعريب ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى من رواية الهشامي وغيره وأبو
محلم اسمه عوف بن محلم كتبت إلى حبيبها تستزيره أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن
ميمون بن هارون قال كتبت عريب إلى محمد بن حامد الذي كانت تهواه تستزيره فكتب
إليها إني أخاف على نفسي فكتبت إليه صوت ( إذا كنتَ تحذرُ ما تحذرُ ... وتزعُم أنك
لا تَجسُرُ ) ( فمالي أُقيِمُ على صَبْوَتي ... ويَومُ لِقائِك لا يُقدَرُ ) فصار إليها من
وقته لعريب في هذين البيتين وبيتين آخرين بعدهما لم يذكرا في الخبر رمل ولشارية خفيف
رمل جمعا من رواية ابن المعتز والبيتان الآخران ( تبيَّنتَ عذري وما تَعذِر ... وأبليتَ
جسمي وما تشعرُ ) ( ألِفْتَ السُّرورَ وخَلَّيْتَني ... ودَمْعِي من العين ما
يَفترُ ) وذكر ميمون في هذا الخبر أن محمد بن حامد كتب إليها يعاتبها في شيء كرهه فكتبت
إليه تعتذر فلم يقبل فكتبت إليه بهذين البيتين الآخرين اللذين ذكرتهما بعد نسبة
هذا الصوت صوت ( أَحببتُ من شعر بَشّار لحبكمُ ... بَيْتا كلِفت به من شِعْرِ
بَشّار ) ( يا رحمةَ اللّهِ حُلِّي في مَنازِلنا ... وجاوِرِينا فدَتْكِ النَّفسُ من جارِ ) ( إذا ابتهلتُ
سألتُ اللَّهَ رحمتَه ... كنيتُ عنك وما يَعدُوك إضماري ) الشعر لأبي نواس منه البيت الأول
والثاني لبشار ضمنه أبو نواس والغناء لعريب ثقيل أول بالبنصر ولعمرو بن بانة في
الثاني والثالث رمل وهذا الشعر يقوله أبو نواس في رحمة ابن نجاح عم نجاح بن سلمة
الكاتب أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن يزيد النحوي قال كان بشار
يشبب بامرأة يقال لها رحمة وكان أبو نواس يتعشق غلاما اسمه رحمة بن نجاح عم نجاح
بن سلمة الكاتب وكان متقدما في جماله وكان أبوه قد ألزمه وأخاه رجلا مدنيا وكان
معهم كأحدهم وأكثر أبو نواس التشبيب برحمة في إقامته ببغداد وشخوصه عنها وكان بشار
قد قال في رحمة المرأة التي يهواها (
يا رحمةَ اللّه حُلّي في منازلنا ... حَسْبي برائحة
الفِرْدَوْس من فِيك ) ( يا أطيبَ الناسِ ريقاً غيرَ مُخْتَبَرٍ ... إلا شِهادةَ أطرافِ
المساويكِ ) فقال أبو نواس وضمن بيت بشار (
أحببت من شعر بشار لُحبِّكم ... بَيْتا كَلِفْت به من
شِعْر بَشّار ) الأبيات الثلاثة وقال فيه ( يا مَن تأهّب مُزمعاً لِرواحَ ...
مُتَيَمّما بغدادَ غيرَ مُلاحِ
) ( في بَطْن جَارية كَفَتْك بسَيْرها ... رَمَلاً وكلَّ
سِباحة السَّبّاح ) ( بُنيت على قَدَرٍ ولاءم بينها ... صِنْفان من قارٍ ومن ألواحِ ) ( وكأنها والماء
ينضح صدرَها ... والخَيزُرانة في يَدِ الملاَّحِ ) ( جُونٌ من الغِربان يبتدر الدّجى ...
يَهْوِي بصَوْتٍ واصطِفاقِ جَناحِ
) ( سلّم على شاطئ الصّراة وأهلِها ... واخصُص هناك
مَدِينةَ الوَضَّاح ) ( واقصدْ هُديت ولا تكن متحيّرا ... في مقصِدٍ عن ظَبْي آل
نَجاحِ ) ( عن رحمة الرحمن واسأل مَنْ ترى ... سِيماه سيما شارِب للرّاح ) ( فإذا دُفِعْتَ
إلى أغنَّ وألثغٍ ... ومُنَعَّم ومُكَحَّل ورَداح ) ( وكشَمْسِنا وكبدرنا حاشى التي ...
سَمَّيْتَها منه بنَوْر أَقاحي
) ( فاقصِد لوقت لِقائه في خَلْوة ... لِتَبوح عني ثَمَّ
كلّ مباحِ )
( واخبرْ بما أحبَبْت عن حالي التي ... ممسَايَ فيها
واحدٌ وصبَاحِي ) قال فافتدى أبو رحمة من أبي نواس ذكر ابنه بأن عقد بينه وبينه
حرمة ودعاه إلى منزله فجاءه أبو نواس والمديني لا يعرفه فمازحه مزاحا أسرف عليه
فيه فقام إليه رحمة فعرفه أنه أبو نواس فأشفق المديني من ذلك وخاف أن يهجوه ويشهر
اسمه فسأل رحمة أن يكلمه في الصفح له والإغضاء عن الانتقام فأجابه أبو نواس وقال ( اذهبْ سلمتَ من
الهجاء ولذعِه ... وأَمَا ولَثغةِ رحمةَ بنِ نجاح ) ( لولا فُتورٌ في كلامك يُشتَهى ...
وتَرفُّقِي لك بعدُ واستِملاحِي
) ( وَتكَسُّرٌ في مقلتيك هو الذي ... عَطَف الفُؤاد
عليكَ بعد جِماح ) ( لعَلِمت أنك لا تمازِح شاعِراً ... في ساعةٍ ليست بحينِ مُزاحِ ) صوت ( أَأبكاك
بالعُرُف المنزلُ ... وما أنت والطَّلَلُ المُحولُ ) ( وما أنتَ ويْك ورسمُ الدّيَارِ ...
وسِنُّك قد قاربت تَكمُلُ ) عروضه من المتقارب والشعر للكميت بن زيد الأسدي والغناء لمعقل
بن عيسى أخي أبي دلف العجلي ولحنه من الثقيل الأول بالبنصر وهذان البيتان من قصيدة
مدح الكميت بهما عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاصي بن أمية أخبرني الحسن بن
علي قال حدثني الحسن بن عليل العنزي عن علي بن هشام عن محمد بن عبد الأعلى بن
كناسة قال كان بين بني أسد وبين طيء بالحص وهي قريبة من قادسية الكوفة حرب
فاصطلحوا وبقي لطيء دماء رجلين فاحتمل ذلك رجل من بني أسد فمات قبل أن يؤديه
فاحتمله الكميت بن زيد فأعانه فيه عبد الرحمن بن عنبسة فمدحه بقوله ( أَأبكاك بالعُرُفِ
المنزلُ ... وما أنت والطّلل المحوِلُ
) فأعانه الحكم بن الصلت الثقفي فمدحه بقصيدته التي
أولها ( رأيت الغوانيَ وحشا نَفُورا
... ) وأعانه زياد بن المغفل الأسدي فمدحه بقصيدته التي
أولها ( هل للشباب الذي قد فات من طلب
... ) ثم جلس الكميت وقد خرج العطاء فأقبل الرجل يعطي
الكميت المائتين والثلاث المائة وأكثر وأقل قال وكانت دية الأعاربي حينئذ ألف بعير
ودية الحضري عشرة آلاف درهم وكانت قيمة الجمل عشرة دراهم فأدى الكميت عشرين ألفا
عن قيمة ألفي بعير نسبة ما في أشعار الكميت هذه من الأغاني صوت منها ( هل للشباب الذي
قد فات من طلبِ ... أم ليس غابرُه الماضي بمُنقلبِ ) ( دَعِ البكاء على ما فات من طلب ...
فالدّهر يأتي بألوان من العَجبِ
) غناه إبراهيم الموصلي خفيف رمل بالسبابة في مجرى
الوسطى من رواية إسحاق ذكر معقل بن عيسى كان شاعرا ومغنيا كان معقل بن عيسى فارسا
شاعرا جوادا مغنيا فهما بالنغم والوتر وذكره الجاحظ مع ذكر أخيه أبي دلف وتقريظه
في المعرفة بالنغم وقال إنه من أحسن أهل زمانه وأجود طبقته صنعة إذ سلم ذلك له
أخوه معقل وإنما أخمل ذكره ارتفاع شأن أخيه وهو القائل لأبي دلف في عتب عتبه عليه ( أُخَيَّ مالكَ
ترميني فتُقصِدَني ... وإن رَمَيتُك سهماً لم يجزْ كبدِي ) ( أُخيَّ مالَكَ مجبولاً على تِرتي
... كأن أجسادنا لم تُغْذَ من جسدِ
) وهو القائل لمخارق وقد كان زار أبا دلف إلى الجبل ثم
رجع إلى العراق أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش عن أبي سعيد السكري صوت ( لعمري
لئن قَرَّتْ بقُربك أعينٌ ... لقد سَخِنت بالبَيْن منك عُيونُ ) ( فَسِرْ أو
أقِم وقفٌ عليك محبَّتي ... مكانُك من قلبي عليك مَصونُ ) ( فما أوحشَ الدنيا إذا كنتَ نازحاً
... وما أحسنَ الدنيا بحيثُ تكونُ
) عروضه من الطويل والشعر لمعقل بن عيسى والغناء لمخارق
ولحنه من الثقيل الأول بالوسطى وفيه لحن لمعقل بن عيسى خفيف رمل وفيه ثاني ثقيل
يقال إنه لمخارق ويقال إنه لمعقل ومن شعر معقل قوله يمتدح المعتصم وفيه غناء
للزبير بن دحمان من الثقيل الأول بالبنصر صوت ( الدارُ هاجك رسمُها وطلولُها ...
أم بَيْنُ سُعْدَى يوم جَدَّ رحِيلُها
) ( كُلٌّ شجاك فقل لعينك أَعوِلي ... إن كان يُغنِي في
الديار عَوِيلُها ) ( ومحمدٌ زينُ الخَلائِف والذي ... سَنَّ المكارمَ فاستَبان
سَبِيلُها ) صوت ( أليسَ إلى أجبال شمخٍ إلى اللّوى ... لِوَى الرَّمل يوما
للنُّفوس مَعادُ ) ( بِلادٌ بها كُنّا وكنا مِنَ أهلِها ... إذِ النّاسُ ناسٌ
والبلادُ بلادُ ) الشعر لرجل من عاد فيما ذكروا والغناء لابن محرز ولحنه من
الثقيل الأول بالبنصر عن ابن المكي وقيل إنه من منحوله إليه أخبرني ابن عمار عن
أبي سعد عن محمد بن الصباح قال حدثنا يحيى بن سلمة بن أبي الأشهب التيمي عن الهيثم
بن عدي قال أخبرني حماد الراوية قال حدثني ابن أخت لنا من مراد قال وليت صدقات قوم
من العرب فبينا أنا أقسمها في أهلها إذ قال لي رجل منهم ألا أريك عجبا قلت بلى
فأدخلني في شعب من جبل فإذا أنا بسهم من سهام عاد من فتى قد نشب في ذروة الشعب
وإذا على الجبل تجاهي مكتوب ( ألا هَلْ إلى أبياتِ شمخ إلى اللّوى ... لِوى الرّمل يوماً
للنفوس معادُ ) ( بلاد بها كُنَّا وكنا مِنَ أهلها ... اذِ النّاسُ ناسٌ والبلاد
بلادُ ) ثم أخرجني إلى ساحل البحر وإذا أنا بحجر يعلوه الماء طورا ويظهر تارة وإذا
عليه مكتوب يا بن آدم يا بن عبد ربه اتق الله ولا تعجل في أمرك فإنك لن تسبق رزقك
ولن ترزق ما ليس لك ومن البصرة إلى الديل ستمائة فرسخ فمن لم يصدق بذلك فليمش
الطريق على الساحل حتى يتحققه فإن لم يقدر على ذلك فلينطح برأسه هذا الحجر صوت ( يا بيت عاتكَة
الذي أتعَزَّل ... حَذَر العِدا وبه الفُؤادُ موكَّلُ ) ( إني لأمنحُكَ الصّدودَ وإنني ...
قَسماً إليك مع الصّدود لأميَلُ
) أتعزله أتجنبه وأكون بمعزل عنه العدا جمع عدو ويقال
عدا بالضم وعدا بالكسر وأمنحك أعطيك والمنيحة العطية وفي الحديث أن رجلا منح بعض
ولده شيئا من ماله فقال له النبي أكل ولدك منحت مثل هذا قال لا قال فارجعه الشعر
للأحوص بن محمد الأنصاري من قصيدة يمدح بها عمر بن عبد العزيز الغناء لمعبد ثاني
ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق ويونس وغيرهما وفيه لابن سريج خفيف ثقيل
الأول بالبنصر عن الهشامي وابن المكي وعلي بن يحيى الأحوص وبعض أخباره سرق أبيات
سليمان بأعيانها وأدخلها في شعره وغير قوافيها فقط أخبرني بخبر الأحوص في هذا
الشعر الحرمي عن الزبير قال حدثني عمر بن أبي بكر المؤملي وأخبرنا به الحسين بن
يحيى عن حماد عن أبيه عن مصعب الزبيري عن المؤملي عن عمر بن أبي بكر الموصلي عن
عبد الله بن أبي عبيدة بن عمار بن ياسر قال خرجت أنا والأحوص بن محمد مع عبد الله
بن الحسن بن الحسن إلى الحج فلما كنا بقديد قلنا لعبد الله بن الحسن لو أرسلت إلى
سليمان بن أبي دباكل فأنشدنا شيئا من شعره فأرسل إليه فأتانا فاستنشدناه فأنشدنا
قصيدته التي يقول فيها ( يا بيتَ خَنْساءَ الذي أتجنَّب ... ذهب الشباب وحُبُّها لا
يَذْهب ) ( أصبحت أمنَحُكِ الصدودَ وإنّني ... قَسماً إليك مع الصّدود لأجنُبُ ) ( ما لي أحنّ
إلى جِمالِك قُرِّبت ... وأصُدُّ عنك وأنت مِنّيَ أقربُ ) ( لله درُّك هل لديك مُعوَّلٌ ...
لمتَيَّم أم هل لوُدّك مَطلبُ )
( فلقد رأيتك قبل ذاكَ وإنني ... لمُوكَّل بهواك أو
مُتَقَرّب ) ( إذ نحن في الزمن الرخيّ وأنتُم ... متجاورون كلامُكم لا
يُرقَبُ ) ( تبكي الحمامةُ شَجوها فتَهِيجُني ... ويروح عازبُ همِّيَ المتأوِّبُ ) ( وتَهبُّ
جاريةُ الرياح مِنَ أرضكم ... فأرى البلاد لها تُطِلُّ وتُخصِب ) ( وأرى السّمية
باسمكم فيزيدُني ... شوقاً إليك رجاؤك المُتَنسّبُ ) ( وأرى العدوَّ يودّكم فأودّه ... إن
كان يُنسب منك أو لا يُنسبُ ) (
وأُخالِف الوَاشِينَ فيك تجمُّلا ... وهُم عليَّ ذَوُو
ضغائِن دُؤَّبُ ) ( ثم اتخذتِهم عليَّ وَليجةً ... حتى غَضِبت ومثلُ ذلك يُغضِبُ ) قال فلما كان من
قابل حج أبو بكر بن عبد العزيز بن مروان فقدم المدينة فدخل عليه الأحوص واستصحبه
فأصحبه فلما خرج الأحوص قال له بعض من عنده ماذا تريد بنفسك تقدم بالأحوص الشام
وبها من ينافسك من بني أبيك وهو من الأفن والسفه على ما قد علمت فيعيبونك به فلما
رجع أبو بكر من الحج دخل عليه الأحوص متنجزا لما وعده من الصحابة فدعا له بمائة
دينار وأثواب وقال يا خال إني نظرت فيما سألتني من الصحابة فكرهت أن أهجم بك على
أمير المؤمنين من غير إذنه فيجبهك فيشمت بك عدوي من أهل بيتي ولكن خذ هذه الثياب
والدنانير وأنا مستأذن لك أمير المؤمنين فإذا أذن لك كتبت إليك فقدمت علي فقال له
الأحوص لا ولكن قد سبعت عندك ولا حاجة لي بعطيتك ثم خرج من عنده فبلغ ذلك عمر بن
عبد العزيز فأرسل إلى الأحوص وهو يومئذ أمير المدينة فلما دخل عليه أعطاه مائة
دينار وكساه ثيابا فأخذ ذلك ثم قال له يا أخي هب لي عرض أبي بكر قال هو لك ثم خرج
الأحوص فقال في عروض قصيدة سليمان بن أبي دباكل قصيدة مدح بها عمر بن عبد العزيز وقال
حماد قال أبي سرق أبيات سليمان بأعيانها فأدخلها في شعره وغير قوافيها فقط فقال ( يا بيتَ عاتكة
الذي أتعزَّل ... حذَر العِدَا وبه الفؤاد موكَّل ) ( أصبحتُ أمنحُك الصّدودَ وإنَّني ...
قسَماً إليك مع الصّدود لأَمْيَل
) ( فصددتُ عنك وما صددتُ لِبغْضةٍ ... أخشى مقالةَ
كاشحٍ لا يَعْقِلُ ) ( هل عيشُنا بك في زمانك راجعٌ ... فلقد تفاحش بعدك المتعلّل ) ( إني إذا قُلتُ
استقام يحُطُّه ... خُلْفٌ كما نظر الخِلافَ الأقبَلُ ) ( لو بالّذي عالجت ليِنَ فؤاده ...
فأبَى يُلانُ بِه لَلانَ الْجَنْدلُ
) ( وتَجنُّبي بَيتَ الحبيبِ أودُّه ... أُرضِي البغيضَ
به حديثٌ مُعْضِلُ ) ( ولئن صددتُ لأنتِ لولا رِقبتي ... أهوَى من اللائي أزورُ
وأدْخُل ) ( إنّ الشَّبابَ وعيشَنا اللذَّ الذي ... كُنَّا به زمنا نُسرُّ ونَجذَلُ ) ( ذهبت بشاشتُه
وأَصبَح ذكرُه ... حُزْنا يُعلُّ به الفؤاد وينهلُ ) ( إلاَّ تَذَكُّرَ ما مضى وصبابة ...
مُنِيَتْ لقلْب متيَّمٍ لا يَذْهلُ
) ( أودَى الشبابُ وأخلقَتْ لذَّاتُه ... وأنا الحزِينُ
على الشباب المُعْوِلُ ) ( يبكِي لما قَلَب الزمانُ جديدَه ... خَلقاً وليس على الزّمان
مُعوَّلُ ) ( والرأس شامِلُه البَياضُ كأنه ... بعد السّواد به الثَّغامُ المُحْجِل ) ( وسفيهةٍ هبَّت
عليَّ بسُحْرةٍ ... جَهْلاً تلوم على الثّواء وتعذلُ ) ( فأجبتُها أن قلتُ لستِ مُطاعةً ...
فذرِي تنصُّحكَ الذي لا يُقبَلُ
) ( إنّي كَفانِي أن أعالج رِحْلَةً ... عُمَرٌ ونبوةُ
من يضنّ ويبخل ) ( بِنَوال ذي فجرٍ تكون سِجالُه ... عَمَمًا إذا نزل الزَّمانُ
الممحلُ ) ( ماضٍ على حدث الأمور كأنه ... ذو رَوْنق عَضْبٌ جَلاهُ الصَّيْقَلُ ) ( تُبدي الرجال
إذا بدا إعظامه ... حذَرّ البُغاث هَوَى لهنّ الأجْدَلُ ) ( فيرون أنّ له عليهم سورةً ...
وفضيلَةً سَبَقَت له لا تُجْهَلُ
) ( مُتَحمِّل ثِقَلَ الأمورِ حوى له ... سبقَ المكارم
سابِقٌ مُتَمَهّلُ ) ( وله إذا نُسِبَت قريشٌ منهم ... مجد الأرومة والفَعالُ الأفضلُ ) ( وله بمكة إذْ
أميّة أهلُها ... إرثٌ إذا عُدَّ القديمُ مُؤثّلُ ) ( أعيت قرابَتُه وكان لُزومُه ...
أمْراً أبانَ رَشَادَه مَنْ يَعْقِل
) ( وسموتَ عن أخلاقهم فتركتهم ... لنداك إنّ الحازمَ
المتحوّلُ ) ( ولقد بدأتُ أريدُ وُدَّ معاشِرٍ ... وَعَدُوا مواعِدَ أخلفت إن
حُصِّلوا ) ( حتى إذا رجع اليقينُ مطامِعي ... يأساً وأخلَفَني الذين أُؤمّلُ ) ( زايلتُ ما
صَنَعوا إليك برحلةٍ ... عَجْلَى وعندك عنهمُ مُتَحوَّلُ ) ( ووعدتَني في حاجةٍ فصَدَقْتَني ...
ووفيتَ إذ كَذَبُوا الحديثَ وبَدَّلوا )
( وشكوتُ غُرماً فادحاً فحملتَه ... عَنِّي وأنت لمثلِه
مُتَحمِّل ) ( فلأشكرنَّ لك الذي أوليتَني ... شُكراً تُحلُّ به المطيُّ
وتُرحَلُ ) ( مِدَحاً تكون لكم غرائبُ شعرها ... مَبْذُولَةً ولغيركم لا تبذل ) ( فإذا
تَنَحَّلْتُ القريضَ فإنّه ... لكم يكون خِيارُ ما أَتَنَحَّلُ ) ( ولعمرُ مَن
حَجَّ الحجيجُ لِبَيْته ... تَهْوِي به قُلُص المَطِيّ الذُّمَّلُ ) ( إنَّ امرأً قد
نال منك قرابةً ... يَبْغي منافِعَ غيرها لمُضَلَّلُ ) ( تَعْفُو إذا جَهِلُوا بحملك عنهم
... وتُنِيل إن طلبوا النّوال فتُجزِلُ
) ( وتكون مَعْقِلَهمْ إذا لم يُنجِهم ... من شَرّ ما
يخشون إلاّ المَعْقِل ) ( حتى كأنك يُتَّقى بك دونهمْ ... من أُسْدِ بِيشة خادِرٌ
مُتَبَسِّل ) ( وأَراكَ تفعلُ ما تقول وبَعضُهم ... مَذِقُ الحديث يقول ما لا
يَفْعل ) ( وأرى المدينةَ حين صِرْت أميرَها ... أمِنَ البَرِيءُ بها ونام الأعزل ) فقال عمر ما
أراك أعفيتني مما استعفيت منه قال لأنه مدح عمر وعرض بأخيه أبي بكر نسبة ما مضى في
هذه الأخبار من الأغاني صوت ( مالي أحِنُّ إذا جِمالُك قُرِّبت ... وأصدّ عنك وأنت
مني أقربُ ) ( وأرى البلادَ إذا حللتِ بغيرها ... وَحْشاً وإن كانت تُظَلّ
وتُخصِبُ ) ( يا بيت خنساءَ الذي أتجنَّب ... ذهب الشباب وحُبُّها لا يذهَبُ ) ( تبكي الحمامةُ
شجوَها فتَهيجُني ... ويَرُوحُ عازب هَمِّيَ المتأوِّبُ ) الشعر لسليمان بن أبي دباكل والغناء
لمعبد خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وقال ابن المكي فيه خفيف ثقيل آخر لابن محرز
وأوله ( تبكي الحمامة شجوها فتهيجني
... ) من هي عاتكة التي يذكرها الأحوص في شعره أخبرني
الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي وقال محمد بن كناسة حدثني أبو دكين بن
زكريا بن محمد بن عمار بن ياسر قال رأيت عاتكة التي يقول فيها الأحوص ( يا بيت عاتكة
الذي أَتعزل ... ) وهي عجوز كبيرة وقد جعلت بين عينيها هلالا من نيلج تتملح به أخبرني
الحرمي عن الزبير عن محمد بن محمد العمري قال عاتكة التي يشبب بها الأحوص عاتكة
بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية أخبرني الحرمي عن الزبير عن إسحاق بن عبد الملك أن
الأحوص كان لينا وأن عاتكة التي ينسب بها ليست عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن
معاوية وإنما هو رجل كان ينزل قرى كانت بين الأشراف كنى عنه بعاتكة أخبرني الحرمي
عن الزبيري عن يعقوب بن حكيم قال كان الأحوص لينا وكان يلزم نازلا بالأشراف فنهاه
أخوه عن ذلك فتركه فرقا من أخيه وكان يمر قريبا من خيمة النازل بالأشراف ويقول ( يا بيت عاتكة
الذي أتعزّل ... حذر العدا وبه الفؤاد موكل ) يكني عنه بعاتكة ولا يقدر أن يدخل
عليه الفرزدق وكثير يزوران الأحوص أخبرني الحرمي عن الزبيري عن محمد بن إسماعيل بن
جعفر بن إبراهيم قال حدثني عبد العزيز بن عمران قال قدم الفرزدق المدينة فقال
لكثير هل لك بنا في الأحوص نأتيه ونتحدث عنده فقال له وما نصنع به إذا والله نجد
عنده عبدا حالكا أسود حلوكا يؤثره علينا ويبيت مضاجعه ليلته حتى يصبح قال الفرزدق
فقلت إن هذا من عداوة الشعراء بعضهم لبعض قال فانهض بنا إليه إذا لا أب لغيرك قال
الفرزدق فأردفت كثيرا ورائي على بغلتي وقلت تلفف يا أبا صخر فمثلك لا يكون رديفا
فخمر رأسه وألصق في وجهه فجعلت لا أجتاز بمجلس قوم إلا قالوا من هذا وراءك يا أبا
فراس فأقول جارية وهبها لي الأمير فلما أكثرت عليه من ذلك واجتاز على بني زريق وكان
يبغضهم فقلت لهم ما كنت أقول قبل ذلك كشف عن رأسه وأومض وقال كذب ولكني كرهت أن
أكون له رديفا وكان حديثه لي معجبا فركبت وراءه ولم تكن لي دابة أركبها إلا دابته
فقالوا لا تعجل يا أبا صخر ههنا دواب كثيرة تركب منها ما أردت فقال دوابكم والله
أبغض إلي من ردفه فسكتوا عنه وجعل يتغشم عليهم حتى جاوز أبصارهم فقلت والله ما
قالوا لك بأسا فما الذي أغضبك عليهم فقال والله ما أعلم نفرا أشد تعصبا للقرشيين
من نفر اجتزت بهم قال فقلت له وما أنت لا أم لك ولقريش قال أنا والله أحدهم قلت إن
كنت أحدهم فأنت والله دعيهم قال دعيهم خير من صحيح نسب العرب وإلا فأنا والله من
أكرم بيوتهم أنا أحد بني الصلت بن النضر قلت إنما قريش ولد فهر بن مالك فقال كذبت فقال
ما علمك يا بن الجعراء بقريش هم بنو النضر بن كنانة ألم تر إلى النبي انتسب إلى
النضر بن كنانة ولم يكن ليجاوز أكرم نسبه قال فخرجنا حتى أتينا الأحوص فوجدناه في
مشربة له فقلنا له أنرقى إليك أم تنزل إلينا قال لا أقدر على ذلك عندي أم جعفر ولم
أرها منذ أيام ولي فيها شغل فقال كثير أم جعفر والله بعض عبيد الزرانيق فقلنا له
فأنشدنا بعض ما أحدثت به فأنشدنا قوله (
يا بَيْتَ عاتكةَ الذي أتعزّل ... حذرَ العِدا وبه
الفُؤادُ مُوكَّل ) حتى أتى على آخرها فقلت لكثير قاتله الله ما أشعره لولا ما
أفسد به نفسه قال ليس هذا إفسادا هذا خسف إلى التخوم فقلت صدقت وانصرفنا من عنده
فقال أين تريد فقلت إن شئت فمنزلي وأحملك على البغلة وأهب لك المطرف وإن شئت فمنزلك
ولا أرزؤك شيئا فقال بل منزلي وأبذل لك ما قدرت عليه وانصرفنا إلى منزله فجعل
يحدثني وينشدني حتى جاءت الظهر فدعا لي بعشرين دينارا وقال استعن بهذه يا أبا فراس
على مقدمك قلت هذا أشد من حملان بني زريق قال والله إنك ما تأنف من أخذ هذا من أحد
غير الخليفة قال الفرزدق فجعلت أقول في نفسي تالله إنه لمن قريش وهممت ألا أقبل
منه فدعتني نفسي وهي طمعة إلى أخذها منه فأخذتها معنى قول كثير للفرزدق يا بن
الجعراء يعيره بدغة وهي أم عمرو بن تميم وبها يضرب المثل في الحماقة فيقال هي أحمق
من دغة وكانت حاملا فدخلت الخلاء فولدت وهي لا تعلم ما الولد وخرجت وسلاها بين
رجليها وقد استهل ولدها فقالت يا جارتا أيفتح الجعر فاه فقالت جارتها نعم يا حمقاء
ويدعو أباه فبنو تميم يعيرون بذلك ويقال للمنسوب منهم يا بن الجعراء ملاحاة بينه
وبين السري بن عبد الرحمن أخبرني الحرمي عن الزبير قال حدثني سليمان بن داود
المجمعي قال اجتاز السري بن عبد الرحمن بن عتبة بن عويم بن ساعدة الأنصاري بالأحوص
وهو ينشد قوله ( يا بيتَ عاتكةَ الذي أتعزّل ... ) فقال السري ( يا بيت عاتكة المُنَوَّهَ باسْمِه ...
اقعُد على مَنْ تحتَ سَقْفِك واعْجَل
) فواثبه الأحوص وقال في ذلك ( فأنت وشتمي في أَكارِيسِ مالك ...
وسَبّي به كالكَلْب إذ يَنبح النَّجْما ) ( تَداعَى إلى زَيْد وما أنتَ منهم ...
تَحُقُّ أَباً إلاّ الولاءَ ولا أما )
( وإنَّك لو عَدَّدْتَ أَحسابَ مالك ... وأيامها فيها
ولم تنطق الرَّجْما ) ( أعادتْك عَبْداً أو تنَقَّلت كاذِباً ... تَلمَّسُ في حيٍّ سوى
مالك جِذْما ) ( وما أنا بالمحْسوس في جِذْمِ مالك ... ولا بالمُسمَّى ثم يلتزم
الإِسْمَا ) ( ولكن أَبِي لَوْ قد سألتَ وجدتَه ... توسَّط منها العِزَّ
والحَسَب الضَّخْما ) فأجابه السري فقال (
سألتُ جميعَ هذا الخلق طُرًّا ... متى كان الأُحَيْوص من
رجالي ) وهي أبيات ليست بجيدة ولا مختارة فألغيت ذكرها شعره يسعف دليل المنصور
أخبرني محمد بن أحمد بن الطلاس أبو الطيب عن أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني
وأخبرني به الحرمي عن الزبير قال حدثني عمي وقد جمعت روايتيهما أن المنصور أمر
الربيع لما حج أن يسايره برجل يعرف المدينة وأهلها وطرقها ودورها وحيطانها فكان
رجل من أهلها قد انقطع إلى الربيع زمانا وهو رجل من الأنصار فقال له تهيأ فإني أظن
جدك قد تحرك إن أمير المؤمنين قد أمرني أن أسايره برجل يعرف المدينة وأهلها وطرقها
وحيطانها ودورها فتحسس موافقته ولا تبتدئه بشيء حتى يسألك ولا تكتمه شيئا ولا
تسأله حاجة فغدا عليه بالرجل وصلى المنصور فقال يا ربيع الرجل فقال ها هو ذا فسار معه
يخبره عما سأل حتى ندر من أبيات المدينة فأقبل عليه المنصور فقال من أنت أولا فقال
من لا تبلغه معرفتك هكذا ذكر الخراز وليس في رواية الزبير فقال مالك من الأهل
والولد فقال والله ما تزوجت ولا لي خادم قال فأين منزلك قال ليس لي منزل قال فإن
أمير المؤمنين قد أمر لك بأربعة آلاف درهم فرمى بنفسه فقبل رجله فقال له اركب فركب
فلما أراد الانصراف قال للربيع يا أبا الفضل قد أمر لي أمير المؤمنين بصلة قال إيه
قال إن رأيت أن تنجزها لي قال هيهات قال فأصنع ماذا قال لا أدري والله وفي رواية
الخراز أنه قال ما أمر لك بشيء ولو أمر به لدعاني فقال أعطه أو وقع إلي فقال الفتى
هذا هم لم يكن في الحساب فلبثت أياما ثم قال المنصور للربيع ما فعل الرجل قال حاضر
قال سايرنا به الغداة ففعل وقال له الربيع إنه خارج بعد غد فاحتل لنفسك فإنه والله
إن فاتك فإنه آخر العهد به فسار معه فجعل لا يمكنه شيء حتى انتهى إلى مسيره ثم رجع
وهو كالمعرض عنه فلما خاف فوته أقبل عليه فقال يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة قال
وما بيت عاتكة قال إن أمرأ الذي يقول فيه الأحوص ( يا بيتَ عاتكة الذي أتعزل ... ) قال فمه قال
إنه يقول فيها ( أنّ أمراً قد نال منك وسيلةً ... يرجُو منافعَ غَيرِها لمضلّلُ ) ( وأراكَ تفعَلُ
ما تقول وبَعضُهم ... مَذِقُ الحديث يقول ما لا يَفْعَل ) فقال الزبير في خبره فقال له لقد
رأيتك أذكرت بنفسك يا سليمان ابن مخلد أعطه أربعة آلاف درهم فأعطاه إياها وقال
الخراز في خبره فضحك المنصور وقال قاتلك الله ما أظرفك يا ربيع أعطه ألف درهم فقال
يا أمير المؤمنين إنها كانت أربعة آلاف درهم فقال ألف يحصل خير من أربعة آلاف لا تحصل
وقال الخراز في خبره حدثني المدائني قال أخذ قوم من الزنادقة وفيهم ابن لابن
المقفع فمر بهم على أصحاب المدائن فلما رآهم ابن المقفع خشي أن يسلم عليهم فيؤخذ
فتمثل ( يا بيتَ عاتكةَ الذي أتعزَّلُ ... حذرَ العِدا وبه الفؤادُ مُوكَّلُ ) الأبيات ففطنوا
لما أراد فلم يسلموا عليه ومضى هو ومعبد المغني في حضرة يزيد بن عبد الملك أخبرني
أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة قال بلغني أن يزيد بن عبد الملك كتب إلى
عامله أن يجهز إليه الأحوص الشاعر ومعبدا المغني فأخبرنا محمد بن خلف وكيع قال
حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني إسماعيل بن أبي أويس قال حدثني أبي قال حدثنا
سلمة بن صفوان الزرقي عن الأحوص الشاعر وذكر إسماعيل بن سعيد الدمشقي أن الزبير بن
بكار حدثه عن ابن أبي أويس عن أبيه عن مسلمة بن صفوان عن الأحوص وأخبرني به الحرمي
عن الزبير عن عمه عن جرير المديني المغني وأبو مسكين قالوا جميعا كتب يزيد بن عبد
الملك في خلافته إلى أمير المدينة وهو عبد الواحد ابن عبد الله النصري أن يحمل
إليه الأحوص الشاعر ومعبدا المغني مولى ابن قطن قال فجهزنا وحملنا إليه فلما نزلنا
عمان أبصرنا غديرا وقصورا فقعدنا على الغدير وتحدثنا وذكرنا المدينة فخرجت جارية
من بعض تلك القصور ومعها جرة تريد أن تستقي فيها ماء قال الأحوص فتغنت بمدحي في
عمر بن عبد العزيز ( يا بيت عاتكةَ الذي أتعزل ... ) فتغنت بأحسن صوت ما سمعته قط ثم
طربت فألقت الجرة فكسرتها فقال معبد غنائي والله وقلت شعري والله فوثبنا إليها
وقلنا لها لمن أنت يا جارية قالت لآل سعيد بن العاص وفي خبر جرير المغني لآل
الوليد بن عقبة ثم اشتراني رجل من آل الوحيد بخمسين ألف درهم وشغف بي فغلبته بنت
عم له طرأت عليه فتزوجها على أمري فعاقبت منزلتها منزلتي ثم علا مكانها مكاني فلم
تزدها الأيام إلا ارتفاعا ولم تزدني إلا اتضاعا فلم ترض منه إلا بأن أخدمها
فوكلتني باستقاء الماء فأنا على ما تريان أخرج أستقي الماء فإذا رأيت هذه القصور
والغدران ذكرت المدينة فطربت إليها فكسرت جرتي فيعذلني أهلي ويلومونني قال فقلت
لها أنا الأحوص والشعر لي وهذا معبد والغناء له ونحن ماضيان إلى أمير المؤمنين
وسنذكرك له أحسن ذكر وقال جرير في خبره ووافقه وكيع ورواية عمر بن شبة قالوا
فأنشأت الجارية تقول ( إن تروني الغداةَ أسعى بجرٍّ ... أستَقِي الماءَ نحو هذا
الغدير ) ( فلقد كنتُ في رخاء من العيش ... وفي كل نعمةٍ وسُرورِ ) ( ثم قد
تُبصِران ما فيه أمْسَيْتُ ... وماذا إليه صار مَصِيري ) ( فإلى الله أَشتكي ما ألاقي ... من
هَوانٍ وما يُجِنُّ ضَمِيري ) (
أبلغا عَنّي الإمامَ وما يعرف ... صِدقَ الحَديث غيرُ
الخَبير ) ( أنني أَضرَبُ الخَلائِق بالعُود ... وأَحْكاهُم بِبَمٍّ وزِير ) ( فلعلّ الإلهَ
يُنقِذ مما ... أنَا فيه فإنّني كالأسير ) ( ليتني مِتّ يوم فارقتُ أهلي ...
وبلادي فزُرت أهلَ القُبورِ ) (
فاسمعا ما أقول لفَّا كما ... الله نجاحاً في أحسن
التيسير ) فقال الأحوص من وقته صوت ( إنّ زينَ الغدير من كسر الجرْ ... وَغَنَّى
غِناء فحلٍ مُجِيد ) ( قلتُ من أنتِ يا ظعينُ فقالت ... كنتُ فيما مضى لآل الوليدِ ) وفي رواية
الدمشقي ( قلت من أَيْن يا خَلوبُ فقالت ... كنتُ فيما مضى لآل سعيد ) ( ثم أصبحْتُ
بعد حَيِّ قريشٍ ... في بني خالد لآل الوحيد ) ( فغِنائي لمعبَد ونَشِيدي ... لفتى
الناس الأحْوَص الصِنّديد ) ( فتباكيْتُ ثم قلت أنا الأحْوص ... والشيخ مَعْبَدٌ فأعِيدي ) ( فأعادت لنا
بصوتٍ شجِيٍّ ... يتركُ الشيخَ في الصِّبا كالوَليدِ ) وفي رواية أبي زيد ( فأعادت فأحسنَتْ
ثم ولَّتْ ... تَتهادَى فقلتُ قولَ عميدِ ) ( يعجِزُ المالُ عن شِراكِ ولكن ...
أنتِ في ذِمّة الهُمام يزيدِ )
( ولك اليومَ ذِمّتي بوفاءٍ ... وعلى ذاكِ من عِظام
العهودِ ) ( أَنْ سَيجْرِي لك الحديثُ بِصوت ... مَعبديّ يَرُدُّ حَبْلَ الوريدِ ) ( يفعل الله ما
يشاء فَظُنِّي ... كُلَّ خير بنا هناكَ وزيدِي ) ( قالت القَينةُ الكَعَابُ إلى ...
اللَّهِ أُمورِي وأرتْجِي تَسْديدِي
) غناه معبد ثاني ثقيل بالبنصر من رواية حبش والهشامي
وغيرهما وهي طريقة هذا الصوت وأهل العلم بالغناء لا يصححونه لمعبد قال الأحوص وضع
فيه معبد لحنا فأجاده فلما قدمنا على يزيد قال يا معبد أسمعني أحدث غناء غنيت
وأطراه فغناه معبد ( إنّ زيَن الغدير من كَسَرَ الجرَّ ... وغنى غناء فحْل مُجيدِ ) فقال يزيد إن
لهذا لقصة فأخبراني بها فأخبراه فكتب لعامله بتلك الناحية إن لآل فلان جارية من
حالها ذيت وذيت فاشترها بما بلغت فاشتراها بمائة ألف درهم وبعث بها هدية وبعث معها
بألطاف كثيرة فلما قدمت على يزيد رأى فضلا بارعا فأعجب بها وأجازها وأخدمها
وأقطعها وأفرد لها قصرا قال فوالله ما برحنا حتى جاءتنا منها جوائز وكسا وطرف وقال
الزبير في خبره عن عمه قال أظن القصة كلها مصنوعة وليس يشبه الشعر شعر الأحوص ولا
هو من طرازه وكذلك ذكر عمر بن شبة في خبره أخبرني الحرمي عن الزبير قال سمعت هشام
بن عبد الله بن عكرمة يحدث عن عتبة بن عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال ينذر
بزوال الدولة الأموية كنت مع يزيد بن عمر بن هبيرة ليلة الفرات فلما انهزم الناس
التفت إلي فقال يا أبا الحارث أمسينا والله وهم كما قال الأحوص ( أبْكِي لما
قَلَبَ الزمانُ جديدَه ... خَلَقاً وليس على الزمان مُعَوَّلُ ) أخبرني الحرمي عن
الزبير عن محمد بن محمد العمري أن عاتكة بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية رئيت في
النوم قبل ظهور دولة بني العباس على بني أمية كأنها عريانة ناشرة شعرها تقول ( أين الشَّبابُ
وعيشُنا اللّذُّ الذي ... كُنَّا به زَمناً نُسَرُّ ونُجذَل ) ( ذهبت بَشاشتُه وأصبَح ذِكرُه ...
حُزْناً يُعَلُّ به الفؤادُ ويُنْهَل
) فتأول الناس ذلك بزوال دنيا بني أمية فكان كما قالوا أخبرني
بهذا الخبر الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الجمحي عن شيخ من قريش أنه رأى في
النوم امرأة من ولد عثمان بن عفان على منايم على دار عثمان المقبلة على المسجد وهي
حاسرة في يديها عود وهي تضرب به وتغني (
أينَ الشباب وعيشنا اللّذ الذي ... كنا به يوماً نُسرّ
ونجذل ) ( ذهبت بشاشته وأصبح ذكره ... حُزناً يُعلَّ به الفؤاد وينهل ) قال فما لبثنا
إلا يسيرا حتى خرج الأمر عن أيديهم وقتل مروان قال إسحاق المنامة الدكان وجمعها
منايم صوت ( يا هندُ إنَّكِ لو علمتِ ... بعاذلَيْنِ تتابعا ) ( قالا فلمْ أسْمَعْ لِمَا ... قالا
وقلتُ بل اسْمَعا ) ( هندٌ أحبُّ إِليَّ من ... مالي وروحيَ فارْجِعَا ) ( ولقد عَصَيْتُ
عَواذِلي ... وأطعْتُ قلباً مُوجَعا
) الشعر لعبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم السلام
والغناء لابن سريج ولحنه فيه لحنان أحدهما من القدر الأوسط من الثقيل الأول
بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر رمل بالوسطى عن عمرو وفيه خفيف ثقيل ذكر
أبو العبيس أنه لابن سريج وذكر الهشامي وابن المكي أنه للغريض وذكر حبش أن
لإبراهيم فيه رملا آخر بالبنصر وقال أحمد بن عبيد الذي صح فيه ثقيل الأول وخفيفه
ورمله وذكر إبراهيم أن فيه لحنا لابن عباد ذكر عبد الله بن الحسن بن الحسن عليهم
السلام ونسبه وأخباره وخبر هذا الشعر عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي
طالب عليهم السلام وقد مضى نسبه في أخبار عمه الحسين صلوات الله عليه في شعره الذي
يقول فيه ( لعمرُكَ إنني لأُحِبُّ دارا ... تَحلُّ بِهَا سُكَيْنَةُ والرَّبابُ ) ويكنى عبد الله
بن الحسن أبا محمد وأم عبد الله بن الحسن بن الحسن فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي
طالب عليهم السلام وأمها أم إسحاق بنت طلحة بن عبيد الله وأمها الجرباء بنت قسامة
بن رومان عن طيء لماذا سميت جدته الجرباء أخبرني أحمد بن سعيد قال حدثنا يحيى بن
الحسن قال إنما سميت الجرباء لحسنها كانت لا تقف إلى جنبها امرأة وإن كانت جميلة
إلا استقبح منظرها لجمالها وكان النساء يتحامين أن يقفن إلى جنبها فشبهت بالناقة
الجرباء التي تتوقاها الإبل مخافة أن تعديها وكانت أم إسحاق من أجمل نساء قريش
وأسوئهن خلقا ويقال إن نساء بني تيم كانت لهن حظوة عند أزواجهن على سوء أخلاقهن
ويروى أن أم إسحاق كانت ربما حملت وولدت وهي لا تكلم زوجها أخبرني الحرمي بن أبي
العلاء عن الزبير بن بكار عن عمه بذلك قال وقد كانت أم إسحاق عند الحسن بن علي بن
أبي طالب صلوات الله عليه قبل أخيه الحسين عليه السلام فلما حضرته الوفاة دعا
بالحسين صلوات الله عليه فقال له يا أخي إني أرضى هذه المرأة لك فلا تخرجن من
بيوتكم فإذا انقضت عدتها فتزوجها فلما توفي الحسن عنها تزوجها الحسين عليه السلام
وقد كانت ولدت من الحسن عليه السلام ابنه طلحة بن الحسن فهو أخو فاطمة لأمها وابن
عمها وقد درج طلحة ولا عقب له ومن طرائف أخبار التيميات من نساء قريش في حظوتهن
وسوء أخلاقهن ما أخبرنا به الحرمي بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار عن محمد بن عبد
الله قال كانت أم سلمة بنت محمد بن طلحة عند عبد الله بن الحسن وكانت تقسو عليه
قسوة عظيمة وتغلظ له ويفرق منها ولا يخالفها فرأى يوما منها طيب نفس فأراد أن يشكو
إليها قسوتها فقال لها يا بنت محمد قد أحرق والله قلبي فحددت له النظر وجمعت وجهها
وقالت له أحرق قلبك ماذا فخافها فلم يقدر على أن يقول لها سوء خلقك فقال لها حب
أبي بكر الصديق فأمسكت عنه وتزوج الحسن بن الحسن فاطمة بنت الحسين في حياة عمه وهو
عليه السلام زوجه إياها زواجه فاطمة بنت الحسين أخبرني الطوسي والحرمي عن الزبير
عن عمه بذلك وحدثني أحمد ابن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن إسماعيل بن يعقوب
قال حدثني جدي عبد الله بن موسى بن عبد الله بن الحسن قال خطب الحسن بن الحسن إلى
عمه الحسين صلوات الله عليه وسأله أن يزوجه إحدى ابنتيه فقال له الحسين عليه
السلام اختر يا بني أحبهما إليك فاستحيا الحسن ولم يحر جوابا فقال له الحسين عليه السلام
فإني اخترت منهما لك ابنتي فاطمة فهي أكثر شبها بأمي فاطمة بنت رسول الله أخبرني
الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه مصعب أن الحسن لما خيره عمه اختار فاطمة وكانوا
يقولون إن امرأة سكينة مردودتها لمنقطعة القرين في الجمال أخبرني الطوسي والحرمي
بن أبي العلاء عن الزبير بن بكار وأخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن يحيى
وأحمد بن زهير عن الزبير وأخبرني أحمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن الزبير بن بكار
واللفظ للحسن بن علي وخبره أتم قال قال الزبير حدثني عمي مصعب ولم يذكر أحدا ماذا
قال حين حضرته الوفاة وأخبرني محمد بن يحيى عن أيوب عن عمر بن أبي الموالي قال
الزبير وحدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن يوسف بن الماجشون وقد دخل حديث بعضهم في
بعض حديث الآخرين أن الحسن بن الحسن لما حضرته الوفاة جزع وجعل يقول إني لأجد كربا
ليس إلا هو كرب الموت وأعاد ذلك دفعات فقال له بعض أهله ما هذا الجزع تقدم على
رسول الله وهو جدك وعلى علي والحسن والحسين صلوات الله عليهم وهم آباؤك فقال لعمري
إن الأمر لكذلك ولكن كأني بعبد الله بن عمرو بن عثمان حين أموت وقد جاء في مضرجتين
أو ممصرتين وهو يرجل جمته يقول أنا من بني عبد مناف جئت لأشهد ابن عمي وما به إلا
أن يخطب فاطمة بنت الحسين فإذا جاء فلا يدخل علي فصاحت فاطمة أتسمع قال نعم قالت
أعتقت كل مملوك لي وتصدقت بكل ملك لي إن أنا تزوجت بعدك أحدا أبدا قال فسكن الحسن
وما تنفس ولا تحرك حتى قضى فلما ارتفع الصياح أقبل عبد الله على الصفة التي ذكرها
الحسن فقال بعض القوم ندخله وقال بعضهم لا يدخل وقال قوم لا يضر دخوله فدخل وفاطمة
تصك وجهها فأرسل إليها وصيفا كان معه فجاء يتخطى الناس حتى دنا منها فقال لها يقول
لك مولاي أبقي على وجهك فإن لنا فيه أربا قال فأرسلت يدها في كمها واختمرت وعرف
ذلك منها فما لطمت وجهها حتى دفن صلوات الله عليه فلما انقضت عدتها خطبها فقالت
فكيف لي بنذري ويميني فقال نخلف عليك بكل عبد عبدين وبكل شيء شيئين ففعل وتزوجته
وقد قيل في تزويجه إياها غير هذا أخبرني به أحمد بن محمد بن إسماعيل الهمداني عن
يحيى بن الحسن العلوي عن أخيه أبي جعفر عن إسماعيل بن يعقوب عن محمد بن عبد الله
البكري أن فاطمة لما خطبها عبد الله أبت أن تتزوجه فحلفت عليها أمها لتتزوجنه وقامت
في الشمس وآلت لا تبرح حتى تتزوجه فكرهت فاطمة أن تحرج فتزوجته وكان عبد الله بن
الحسن بن الحسن شيخ أهله وسيدا من ساداتهم ومقدما فيهم فصلا وعلما وكرما وحبسه أبو
جعفر المنصور في الهاشمية بالكوفة لما خرج عليه ابناه محمد وإبراهيم فمات في الحبس
وقيل إنه سقط عليه وقيل غير ذلك انتهى كل حسن إليه أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد عن
يحيى بن الحسن عن علي بن أحمد الباهلي قال سمعت مصعبا الزبيري يقول انتهى كل حسن
إلى عبد الله بن حسن وكان يقال من أحسن الناس فيقال عبد الله بن الحسن ويقال من
أفضل الناس فيقال عبد الله بن الحسن حدثني محمد بن الحسن الخثعمي الأشناني والحسن
بن علي السلولي قالا حدثنا عباد بن يعقوب قال حدثنا تلميذ بن سليمان قال رأيت عبد
الله بن الحسن وسمعته يقول أنا أقرب الناس إلى رسول الله ولدتني بنت رسول الله
مرتين حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن إسماعيل ابن يعقوب عن عبد الله
بن موسى قال أول من اجتمعت له ولادة الحسن عليه السلام والحسين صلوات الله عليهما
عبد الله بن الحسن عليه السلام حدثني محمد بن الحسن الأشناني عن عبد الله بن يعقوب
عن بندقة ابن محمد بن حجازة الدهان قال رأيت عبد الله بن الحسن فقلت هذا والله سيد
الناس كان مكسوا نورا من قرنه إلى قدمه قال علي بن الحسين وقد روي ذلك في أخبار
أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام وأمه أم عبد الله بنت الحسن بن علي عليه السلام حدثني
أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن عن القاسم بن عبد الرزاق قال جاء منظور بن
زيان الفزاري إلى حسن بن حسن وهو جده أبو أمه فقال له لعلك أحدثت بعدي أهلا قال
نعم تزوجت بنت عمي الحسين ابن علي عليهما السلام قال بئسما صنعت أما علمت أن
الأرحام إذا التقت أضوت كان ينبغي أن تتزوج في الغرب قال فإن الله جل وعز قد رزقني
منها ولدا قال أرنيه فأخرج إليه عبد الله بن الحسن فسر به وقال أنجبت هذا والله
ليث غاب ومعدو عليه قال فإن الله تعالى قد رزقني منها ولدا ثانيا قال فأرنيه فأخرج
إليه حسن بن حسن بن حسن فسر به وقال أنجبت وهذا دون الأول قال فإن الله قد رزقني
منها ولدا ثالثا قال فأرنيه فأراه إبراهيم بن الحسن حدثني أبو عبيد محمد بن أحمد
الصيرفي قال حدثنا محمد بن علي ابن خلف قال حدثنا عمر بن عبد الغفار قال حدثنا
سعيد بن أبان القرشي قال كنت عند عمر بن عبد العزيز فدخل عبد الله بن الحسن عليه
وهو يومئذ شاب في إزار ورداء فرحب به وأدناه وحياه وأجلسه إلى جنبه وضاحكه ثم غمز
عكنة من بطنه وليس في البيت حينئذ إلا أموي فقيل له ما حملك على غمز بطن هذا الفتى
قال إني لأرجو بها شفاعة محمد حدثني عمر بن عبد الله بن جميل العتكي عن عمر بن شبة
عن إسماعيل بن جعفر الجعفري قال حدثني سعيد بن عقبة الجهني قال إني لعند عبد الله
بن الحسن إذ أتاني آت فقال هذا رجل يدعوك فخرجت فإذا أنا بأبي عدي الشاعر الأموي
فقال أعلم أبا محمد فخرج إليه عبد الله وهم خائفون فأمر له بأربعمائة دينار وهند
بمائتي دينار فخرج بستمائة دينار وقد روى مالك ابن أنس عن عبد الله بن الحسن
الحديث كان يسدل شعره حدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن قال حدثنا علي
بن أحمد الباهلي عن مصعب بن عبد الله قال سئل مالك عن السدل قال رأيت من يرضى
بفعله عبد الله بن الحسن يفعله والسبب في حبس عبد الله بن الحسن وخروج ابنيه
وقتلهما يطول ذكره وقد أتى عمر بن شبة منه بما لا يزيد عليه أحد إلا اليسير ولكن
من أخباره ما يحسن ذكره ها هنا فنذكره أخبرني عمر بن عبد الله العتكي عن عمر بن
شبة قال حدثني موسى ابن سعيد بن عبد الرحمن وأيوب بن عمر عن إسماعيل بن أبي عمرو
قالوا شعر تمثل به لما بنى أبو العباس بناءه بالأنبار الذي يدعى الرصافة رصافة أبي
العباس قال لعبد الله بن الحسن ادخل فانظر ودخل معه فلما رآه تمثل ( ألم ترَ
حَوْشَباً أمْسَى يُبَنِّي ... بِناءً نَفعُه لبنِي نُفَيْله ) ( يُؤمّل أن يُعَمَّر عُمْرَ نُوحٍ
... وأمرُ اللّهِ يحدُث كلَّ لَيْلَة
) فاحتمله أبو العباس ولم يبكته بها أخبرني عمي عن ابن
شبة عن يعقوب بن القاسم عن عمرو بن شهاب وحدثني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن
الحسن عن الزبير عن محمد ابن الضحاك عن أبيه قالوا إن أبا العباس كتب إلى عبد الله
بن الحسن في تغيب ابنيه ( أرِيد حَياتَه ويُرِيد قَتلِي ... عَذيرَك من خَلِيلك من
مُرادِ ) قال عمر بن شبة وإنما كتب بها إلى محمد قال عمر بن شبة فبعثوا إلى عبد الرحمن
بن مسعود مولى أبي حنين فأجابه (
وكيف يُرِيدُ ذاكَ وأنتَ منه ... بِمنزلة النِّياط من
الفُؤادِ ) ( وكيف يُريد ذاكَ وأنتَ منه ... وزَنْدُك حين تقدح من زِنادِ ) ( وكيف يُرِيد
ذاك وأنتَ منه ... وأنتَ لِهَاشمٍ رأسٌ وَهادِ ) أخبرني عمر بن عبد الله بن شبة عن
عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليهم السلام عن الحسن بن زيد
عن عبد الله بن الحسن قال بينا أنا في سمر أبي العباس وكان إذا تثاءب أو ألقى
المروحة من يده قمنا فألقاها ليلة فقمنا فأمسكني فلم يبق غيري فأدخل يده تحت فراشه
وأخرج إضبارة كتب وقال اقرأ يا أبا محمد فقرأت فإذا كتاب من محمد بن هشام بن عمرو التغلبي
يدعوه إلى نفسه فلما قرأته قلت له يا أمير المؤمنين لك عهد الله وميثاقه ألا ترى
منهما شيئا تكرهه ما كانا في الدنيا أخبرنا العتكي عن ابن شبة عن محمد بن إسماعيل
عن عبد العزيز بن عمر عن عبد الله بن عبدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال لما استخلف
أبو جعفر ألح في طلب محمد والمسألة عنه وعمن يؤويه فدعا بني هاشم رجلا رجلا فسألهم
عنه فكلهم يقول قد علم أمير المؤمنين أنك قد عرفته بطلب هذا الشأن قبل اليوم فهو
يخافك على نفسه ولا يريد لك خلافا ولا يحب لك معصية إلا الحسن بن زيد فإنه أخبره
خبره فقال والله ما آمن وثوبه عليك وأنه لا ينام فيه فر رأيك فيه قال ابن أبي
عبيدة فأيقظ من لا ينام أخبرني عمر بن عبد الله بن شبة عن عيسى بن عبد الله بن
محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عليه السلام عن محمد بن عمران عن عقبة بن سلم أن
أبا جعفر دعاه فسأله عن اسمه ونسبه فقال أنا عقبة بن سلم بن نافع بن الأزدهاني قال
إني أرى لك هيئة وموضعا وإني لأريدك لأمر أنا به معني قال أرجو أن أصدق ظن أمير
المؤمنين قال فأخف شخصك وائتني في يوم كذا وكذا فأتيته فقال إن بني عمنا هؤلاء قد
أبوا إلا كيدا بملكنا ولهم شيعة بخراسان بقرية كذا وكذا يكاتبونهم ويرسلون إليهم
بصدقات وألطاف فاذهب حتى تأتيهم متنكرا بكتاب تكتبه عن أهل تلك القرية ثم تسير
ناحيتهم فإن كانوا نزعوا عن رأيهم علمت ذلك وكنت على حذر منهم حتى تلقى عبد الله
بن الحسن متخشعا وإن جبهك وهو فاعل فاصبر وعاوده أبدا حتى يأنس بك فإذا ظهر لك ما
في قلبه فاعجل إلي ففعل ذلك وفعل به حتى أنس عبد الله بناحيته فقال له عقبة الجواب
فقال له أما الكتاب فإني لا أكتب إلى أحد ولكن أنت كتابي إليهم فأقرئهم السلام وأخبرهم
أن ابني خارج لوقت كذا وكذا فشخص عقبة حتى قدم على أبي جعفر فأخبره الخبر بماذا
أجاب أبا جعفر عندما سأله عن ابنيه أخبرني العتكي عن عمر بن محمد بن يحيى بن
الحارث بن إسحاق قال سأل أبو جعفر عبد الله بن الحسن عن ابنيه لما حج فقال لا أعلم
بهما حتى تغالظا فأمضه أبو جعفر فقال له يا أبا جعفر بأي أمهاتي تمضني أبخديجة بنت
خويلد أم بفاطمة بنت رسول الله أم بفاطمة بنت الحسين عليهم السلام أم بأم إسحاق
بنت طلحة قال لا ولا بواحدة منهن ولكن بالجرباء بنت قسامة فوثب المسيب بن زهير
فقال يا أمير المؤمنين دعني أضرب عنق ابن الفاعلة فقام زياد بن عبيد الله فألقى
عليه رداءه وقال يا أمير المؤمنين هبه لي فأنا المستخرج لك ابنيه فتخلصه منه قال
ابن شبة وحدثني بكر بن عبد الله مولى أبي بكر عن علي بن رباح أخي إبراهيم بن رباح
عن صاحب المصلى قال إني لواقف على رأس أبي جعفر وهو يتغدى بأوطاس وهو متوجه إلى
مكة ومعه على مائدته عبد الله بن الحسن وأبو الكرام الجعفري وجماعة من بني العباس
فأقبل على عبد الله بن الحسن فقال يا أبا محمد محمد وإبراهيم أراهما قد استوحشا من
ناحيتي وإني لأحب أن يأنسا بي ويأتياني فأصلهما وأزوجهما وأخلطهما بنفسي قال وعبد
الله يطرق طويلا ثم يرفع رأسه ويقول وحقك يا أمير المؤمنين مالي بهما ولا بموضعهما
من البلاد علم ولقد خرجا عن يدي فيقول لا تفعل يا أبا محمد اكتب إليهما وإلى من
يوصل كتابك إليهما قال وامتنع أبو جعفر عن عامة غدائه ذلك اليوم إقبالا على عبد
الله وعبد الله يحلف أنه لا يعرف موضعهما وأبو جعفر يكرر عليه لا تفعل يا أبا محمد
قال ابن شبة فحدثني محمد بن عباد عن السندي بن شاهك أن أبا جعفر قال لعقبة بن سلم
إذا فرغنا من الطعام فلحظتك فامثل بين يدي عبد الله فإنه سيصرف بصره عنك فدر حتى
تغمز ظهره بإبهام رجلك حتى يملأ عينيه منك ثم حسبك وإياك أن يراك ما دام يأكل ففعل
ذلك عقبة فلما رآه عبد الله وثب حتى جثا بين يدي أبي جعفر وقال يا أمير المؤمنين
أقلني أقالك الله قال لا أقالني الله إن أقلتك ثم أمر بحبسه قال ابن شبة فحدثني
أيوب بن عمر عن محمد بن خلف المخزومي قال أخبرني العباس بن محمد بن علي بن عبد
الله بن عباس قال لما حج أبو جعفر في سنة أربعين ومائة أتاه عبد الله وحسن ابنا
حسن فإنهما وإياي لعنده وهو مشغول بكتاب ينظر فيه إذ تكلم المهدي فلحن فقال عبد
اله يا أمير المؤمنين ألا تأمر بهذا من يعدل لسانه فإنه يفعل فعل الأمة فلم يفهم وغمزت
عبد الله فلم ينتبه وعاد لأبي جعفر فأحفظ من ذلك وقال له أين ابنك قال لا أدري قال
لتأتيني به قال لو كان تحت قدمي ما رفعتهما عنه قال يا ربيع فمر به إلى الحبس توفي
في محبسه بالهاشمية أخبرني أحمد بن محمد بن سعيد عن يحيى بن الحسن قال توفي عبد
الله في محبسه بالهاشمية وهو ابن خمس وسبعين سنة في سنة خمس وأربعين ومائة وهند
التي عناها عبد الله في شعره الذي فيه الغناؤ زوجته هند بنت أبي عبيدة بن عبد الله
بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي وأمها قرينة بنت يزيد بن
عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود بن الطلب وكان أبو عبيدة جوادا وممدحا وكانت
هند قبل عبد الله بن الحسن تحت عبد الله بن عبد الملك بن مروان فمات عنها فأخبرني
الحرمي عن الزبير عن سليمان بن عياش السعدي قال لما توفي أبو عبيدة وجدت ابنته هند
وجدا شديدا فكلم عبد الله بن الحسن محمد بن بشير الخارجي أن يدخل على هند بنت أبي
عبيدة فيعزيها ويؤسيها عن أبيها فدخل معه عليها فلما نظر إليها صاح بأبعد صوته ( قومي اضربي عينيك
يا هندُ لن تَرَىْ ... أَباً مثلَه تسمُو إليه المَفاخِرُ ) ( وكنت إذا أَسبَلْتِ فوقك والدا ...
تَزِيني كما زان اليدين الأساورُ
) فصكت وجهها وصاحت بحربها وجهدها فقال له عبد الله بن
الحسن ألهذا دخلت فقال الخارجي وكيف أعزي عن أبي عبيدة وأنا أعزى به أخبرني العتكي
عن شبة قال حدثني عبد الرحمن بن جعفر بن سليمان عن علي بن صالح قال زوج عبد الملك
بن مروان ابنه عبد الله هند بنت أبي عبيدة وريطة بنت عبد الله بن عبد المدان لما
كان يقال إنه كائن في أولادهما فمات عنهما عبد الله أو طلقهما فتزوج هندا عبد الله
ابن الحسن وتزوج ريطة محمد بن علي فجاءت بأبي العباس السفاح أخبرني العتكي عن عمر
بن شبة عن ابن داجة عن أبيه قال لما مات عبد الله بن عبد الملك رجعت هند بميراثها
منه فقال عبد الله بن حسن لأمه فاطمة اخطبي علي هندا فقالت إذا تردك أتطمع في هند
وقد ورثت ما ورثته وأنت ترب لا مال لك فتركها ومضى إلى أبي عبيدة أبي هند فخطبها
إليه فقال في الرحب والسعة أما مني فقد زوجتك مكانك لا تبرح ودخل على هند فقال يا
بنية هذا عبد الله بن حسن أتاك خاطبا قالت فما قلت له قال زوجته قالت أحسنت قد
أجزت ما صنعت وأرسلت إلى عبد الله لا تبرح حتى تدخل على أهلك قال فتزينت له فبات
بها معرسا من ليلته ولا تشعر أمه فأقام سبعا ثم أصبح يوم سابعه غاديا على أمه
وعليه ردع الطيب وفي غير ثيابه التي تعرف فقالت له يا بني من أين لك هذا قال من
عند التي زعمت أنها لا تريدني أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي عبد العزيز بن أحمد
بن بكار قالا حدثنا الزبير قال حدثتني ظبية مولاة فاطمة قالت كان جدك عبد الله بن
مصعب يستنشدني كثيرا أبيات عبد الله بن حسن ويعجب بها ( إنّ عيني تعوّدت كُحْل هِنْدٍ ...
جَمَعت كَفُّها مع الرِّفق لِينا
) صوت ( يا عِيدُ مالكَ من شوقٍ وإيراقِ ... ومرِّ
طَيْفٍ على الأهوال طَراقِ ) ( يَسْرِي على الأيْنِ والحيَّات مُحْتفياً ... نفسي فِداؤُك من
سارٍ على ساقِ ) عروضه من البسيط العيد ما اعتاد الإنسان من هم أو شوق أو مرض
أو ذكر والأين والأيم ضرب من الحيات والأين الإعياء أيضا وروى أبو عمرو ( يا عيد قلبُك من
شوق وإيراق ... ) الشعر لتأبط شرا والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى من رواية
يحيى المكي وحبش وذكر الهشامي أنه من منحول يحيى إلى ابن محرز أخبار تأبط شرا
ونسبه هو ثابت بن جابر بن سفيان بن عميثل بن عدي بن كعب بن حزن وقيل حرب بن تميم
بن سعد بن فهم بن عمرو بن قيس عيلان بن مضر بن نزار وأمه امرأة يقال لها أميمة
يقال إنها من بني القين بطن من فهم ولدت خمسة نفر تأبط شرا وريش بلغب وريش نسر
وكعب جدر ولا بواكي له وقيل إنها ولدت سادسا اسمه عمرو لقبه وسببه وتأبط شرا لقب
لقب به ذكر الرواة أنه كان رأى كبشا في الصحراء فاحتمله تحت إبطه فجعل يبول عليه
طول طريقه فلما قرب من الحي ثقل عليه الكبش فلم يقله فرمى به فإذا هو الغول فقال
له قومه ما تأبطت يا ثابت قال الغول قالوا لقد تأبطت شرا فسمي بذلك وقيل بل قالت
له أمه كل إخوتك يأتيني بشيء إذا راح غيرك فقال لها سآتيك الليلة بشيء ومضى فصاد
أفاعي كثيرة من أكبر ما قدر عليه فلما راح أتى بهن في جراب متأبطا له فألقاه بين
يديها ففتحته فتساعين في بيتها فوثبت وخرجت فقال لها نساء الحي ماذا أتاك به ثابت
فقالت أتاني بأفاع في جراب قلن وكيف حملها قالت تأبطها قلن لقد تأبط شرا فلزمه
تأبط شرا حدثني عمي قال حدثني علي بن الحسين بن عبد الأعلى عن أبي محلم بمثل هذه الحكاية
وزاد فيها أن أمه قالت له في زمن الكمأة ألا ترى غلمان الحي يجتنون لأهليهم الكمأة
فيروحون بها فقال أعطيني جرابك حتى أجتني لك فيه فأعطته فملأه لها أفاعي وذكر باقي
الخبر مثل ما تقدم ومن ذكر أنه إنما جاءها بالغول يحتج بكثرة أشعاره في هذا المعنى
فإنه يصف لقاءه إياها في شعره كثيرا فمن ذلك قوله ( فأَصبحت الغُولُ لي جارةً ... فيا
جارتا لك ما أَهولا ) ( فطالبتُها بُضْعَها فالتوت ... عليَّ وحاولتُ أن أَفعلا ) ( فمن كان يسأل
عن جارتي ... فإنّ لها باللَّوى مَنْزلَا ) كان أحد العدائين المعدودين أخبرني
عمي عن الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال نزلت على حي من فهم إخوة بني
عدوان من قيس فسألتهم عن خبر تأبط شرا فقال لي بعضهم وما سؤالك عنه أتريد أن تكون
لصا قلت لا ولكن أريد أن أعرف أخبار هؤلاء العدائين فأتحدث بها فقالوا نحدثك بخبره
إن تأبط شرا كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين وكان إذا جاع لم تقم له قائمة
فكان ينظر إلى الظباء فينتقي على نظره أسمنها لم يجري خلفه فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه
بسيفه ثم يشويه فيأكله وإنما سمي تأبط شرا لأنه فيما حكي لنا لقي الغول في ليلة
ظلماء في موضع يقال له رحى بَطان في بلاد هذيل فأخذت عليه الطريق فلم يزل بها حتى
قتلها وبات عليها فلما أصبح حملها تحت إبطه وجاء بها إلى أصحابه فقالوا له لقد تأبطت
شرا فقال في ذلك شعره في غول تأبطها ( تأَبَّط شراً ثم راح أو اغْتَدى ... تُوائم
غُنْما أو يَشِيف على ذَحْل ) يوائم يوافق ويشيف يقتدر وقال أيضا في ذلك ( ألا مَنْ مُبلغٌ
فِتيانَ فَهمٍ ... بما لاقيتُ عند رَحَى بطانِ ) ( وأنِّي قد لقيتُ الغولَ تهوي ...
بسَهْب كالصحيفة صحصحانِ ) ( فقلت لها : كلانا نِضْو أَيْنٍ ... أخو سفر فخلّى لي مكاني ) ( فشدَّت شدَّةً
نحوي فاَهْوَى ... لها كفّي بمصقولٍ يَمانِي ) ( فأَضربها بلا دَهَشٍ فَخَرّت ...
صريعاً لليدين وللجِرانِ ) ( فقالت عُد فقلت لها رُوَيْداً ... مكانَك إنني ثَبْت الجنانِ ) ( فلم أنفكَّ
مُتّكِئاً عليها ... لأنظر مُصبِحاً ماذا أتاني ) ( إذا عينان في رأسٍ قبيح ... كرأس
الهِرِّ مَشْقوق اللِّسان ) ( وساقا مُخدجٍ وشواةُ كلْب ... وثوب من عَباءٍ أو شِنان ) أخبرنا الحسين
بن يحيى قال قرأت على حماد وحدثك أبوك عن حمزة ابن عتبة اللهبي قال قيل لتأبط شرا
هذه الرجال غلبتها فكيف لا تنهشك الحيات في سراك فقال إني لأسري البردين يعني أول
الليل لأنها تمور خارجة من حجرتها وآخر الليل تمور مقبلة إليها قال حمزة ولقي تأبط
شرا ذات يوم رجلا من ثقيف يقال له أبو وهب كان جبانا أهوج وعليه حلة جيدة فقال أبو
وهب لتأبط شرا بم تغلب الرجال يا ثابت وأنت كما أرى دميم ضئيل قال باسمي إنما أقول
ساعة ما ألقى الرجل أنا تأبط شرا فينخلع قلبه حتى أنال منه ما أردت فقال له الثقفي
أقط قال قط قال فهل لك أن تبيعني اسمك قال نعم فبم تبتاعه قال بهذه الحلة وبكنيتك
قال له أفعل ففعل وقال له تأبط شرا لك اسمي ولي كنيتك وأخذ حلته وأعطاه طمرية ثم
انصرف وقال في ذلك يخاطب زوجة الثقفي (
ألا هل أتى الحسناءَ أنّ حَلِيلهَا ... تأَبّط شَراًّ
واكتنيتُ أبّا وَهْب ) ( فهبه تَسمْى اسْمي وسُمِّيتُ باسمِه ... فأَين له صبري على
مُعْظَمِ الخطب ) ( وأين له بأْسٌ كَبَأْسي وسَوْرتي ... وأين له في كل فادحةٍ
قَلْبي ) أحب جارية وعجز عنها قال حمزة وأحب تأبط شرا جارية من قومه فطلبها زمانا
لا يقدر عليها ثم لقيته ذات ليلة فأجابته وأرادها فعجز عنها فلما رأت جزعه من ذلك
تناومت عليه فآنسته وهدأ ثم جعل يقول (
مالكَ من أيْرٍ سُلِبْتَ الخلّه ... عجَزْت عن جارية
رِفْلّه ) ( تمشي إليك مشيةً خوزلّه ... كمشية الأَرخِ تريد العلّهْ ) الأرخ الأنثى من
البقر التي لم تنتج العلة تريد أن تعل بعد النهل أي أنها قد رويت فمشيتها ثقيلة والعل
الشرب الثاني ( لو أنها راعِيةٌ في في ثُلَّه ... تحمل قِلْعَين لها قبَلّه ) ( لصرتُ
كالهراوة العُتُلّه ... ) خبره مع بجيلة أخبرني الحسن بن علي عن عبد الله بن أبي سعد عن
أحمد بن عمر عن أبي بركة الأشعجي قال أغار تأبط شرا وهو ثابت بن العميثل الفهمي
ومعه ابن براق الفهمي على بجيلة فأطردا لهم نعما ونذرت بهما بجيلة فخرجت في
آثارهما ومضيا هاربين في جبال السراة وركبا الحزن وعارضتهما بجيلة في السهل
فسبقوهما إلى الوهط وهو ماء لعمرو بن العاص بالطائف فدخلوا لهما في قصبة العين
وجاءا وقد بلغ العطش منهما إلى العين فلما وقفا عليها قال تأبط شرا لابن براق أقل
من الشراب فإنها ليلة طرد قال وما يدريك قال والذي أعدو بطيره إني لأسمع وجيب قلوب
الرجال تحت قدمي وكان من أسمع العرب وأكيدهم فقال له ابن براق ذلك وجيب قلبك فقال
له تأبط شرا والله ما وجب قط ولا كان وجابا وضرب بيده عليه وأصاخ نحو الأرض يستمع
فقال والذي أعدو بطيره إني لأسمع وجيب قلوب الرجال فقال له براق فأنا أنزل قبلك
فنزل فبرك وشرب وكان أكل القوم عند بجيلة شوكة فتركوه وهم في الظلمة ونزل ثابت
فلما توسط الماء وثبوا عليه فأخذوه وأخرجوه من العين مكتوفا وابن براق قريب منهم
لا يطمعون فيه لما يعلمون من عدوه فقال لهم ثابت إنه من أصلف الناس وأشدهم عجبا
بعدوه وسأقول له أستأسر معي فسيدعوه عجبه بعدوه إلى أن يعدو من بين أيديكم وله
ثلاثة أطلاق أولها كالريح الهابة والثاني كالفرس الجواد والثالث يكبو فيه ويعثر
فإذا رأيتم منه ذلك فخذوه فإني أحب أن يصير في أيديكم كما صرت إذ خالفني ولم يقبل
رأيي ونصحي له قالوا فافعل فصاح به تأبط شرا أنت أخي في الشدة والرخاء وقد وعدني
القوم أن يمنوا عليك وعلي فاستأسر وواسني بنفسك في الشدة كما كنت أخي في الرخاء
فضحك ابن براق وعلم انه قد كادهم وقال مهلا يا ثابت أيستأسر من عنده هذا العدو ثم
عدا فعدا أول طلق مثل الريح الهابة كما وصف لهم والثاني كالفرس الجواد والثالث جعل
يكبو ويعثر ويقع على وجهه فقال ثابت خذوه فعدوا بأجمعهم فلما أن نفسهم عنه شيئا
عدا تأبط شرا في كتافه وعارضه ابن براق فقطع كتافه وأفلتا جميعا فقال تأبط شرا
قصيدته القافية في ذلك ( يا عيدُ مالك من شوقٍ وإبراقِ ... ومَرّ طيفٍ على الأهوال
طرَّاقِ ) ( يسري على الأّيْن والحيّاتِ محتفِياً ... نفسي فداؤُك من سارٍ على ساقِ ) ( طيْف ابنة
الحُرِّ إذ كنّا نواصلُها ... ثم اجْتُنِبْتُ بها من بعد تَفراقِ ) ( لتَقرعِنَّ
عليَّ السِّنَّ من نَدَمٍ ... إذا تذكّرتِ يوماً بعضَ أخلاقي ) ( تالله آمنُ أنثى بعدما حَلَفَتْ ...
أسماءُ بالله من عهدٍ وميثاقِ )
( ممزوجَةَ الودِّ بينا واصلَتْ صَرمَتْ ... الأوَّلُ
اللّذْ مَضَى والآخِر الباقِي )
( فالأوّلُ اللَّذْ مضى قالٍ مودّتَها ... واللَّذُّ
منها هْذاءٌ غير إحقاقِ ) ( تُعْطِيك وعدَ أمانيٍّ تَغُرُّ به ... كالقَطْر مَرَّ على
صَخْبَانَ برّاقِ ) ( إنّي إذا حُلّةٌ ضَنَّتَ بنائلها ... وأَمْسَكِت بضعيف الحَبْل
أحْذَاقِ ) ( نجوْتُ منها نجائي من بجيلةَ إذ ... ألقيْتُ للقوم يوم الرْوع أرواقي ) وذكرها ابن أبي
سعيد في الخبر إلى آخرها وأما المفضل الضبي فذكر أن تأبط شرا وعمرو بن براق
والشنفرى وغيره يجعل مكان الشنفرى السليك بن السلكة غزوا بجيلة فلم يظفروا منهم
بغرة وثاروا إليهم فأسروا عمرا وكتفوه وأفلتهم الآخران عدوا فلم يقدروا عليهما
فلما علما أن ابن براق قد أسر قال تأبط شرا لصاحبه امض فكن قريبا من عمرو فإني سأتراءى
لهم وأطمعهم في نفسي حتى يتباعدوا عنه فإذا فعلوا ذلك فحل كتافه وانجوا ففعل ما
أمره به وأقبل تأبط شرا حتى تراءى لبجيلة فلما رأوه طمعوا فيه فطلبوه وجعل يطمعهم
في نفسه ويعدو عدوا خفيفا يقرب فيه ويسألهم تخفيف الفدية وإعطاءه الأمان حتى
يستأسر لهم وهم يجيبونه إلى ذلك ويطلبونه وهو يحضر إحضارا خفيفا ولا يتباعد حتى
علا تلعة أشرف منها على صاحبيه فإذا هما قد نجوا ففطنت لهما بجيلة فألحقتهما طلبا
ففاتاهم فقال يا معشر بجيلة أأعجبكم عدو ابن براق اليوم والله لأعدون لكم عدوا
أنسيكم به عدوه ثم عدا عدوا شديدا ومضى وذلك قوله ( يا عيدُ مالَك من شَوقٍ وإبراقٍ ... ) وأما
الأصمعي فإنه ذكر فيما أخبرني به ابن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن عمه أن
بجيلة أمهلتهم حتى وردوا الماء وشربوا وناموا ثم شدوا عليهم فأخذوا تأبط شرا فقال
لهم إن ابن براق دلاني في هذا وإنه لا يقدر على العدو لعقر في رجليه فإن تبعتموه
أخذتموه فكتفوا تأبط شرا ومضوا في أثر ابن براق فلما بعدوا عنه عدا في كتافه
ففاتهم ورجعوا أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا
ابن الأثرم وعن أبيه وحدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو قالا كان تأبط شرا يعدو على
رجليه وكان فاتكا شديدا فبات ليلة ذات ظلمة وبرق ورعد في قاع يقال له رحى بطان
فلقيته الغول فما زال يقاتلها ليلته إلى أن أصبح وهي تطلبه قال والغول سبع من سباع
الجن وجعل يراوغها وهي تطلبه وتلتمس غرة منه فلا تقدر عليه إلى أن أصبح فقال تأبط
شرا ( ألا مَنْ مُبلغٌ فِتيانَ فَهمٍ ... بما لاقيتُ عند رَحَى بِطانِ ) ( بأنّي قد
لقيتَ الغولَ تَهوِي ... بسهْبٍ كالصحيفة صَحصحانِ ) ( فقلت لها كلانا نِضْوُأينٍ ... أخو
سَفَر فخَلِّي لي مكاني ) ( فشدّت شدّةً نحوي فأهوى ... لها كفّي بمصقولٍ يمانِي ) ( فأضربها بلا
دَهَشٍ فخّرَّت ... صريعاً لليدين وللجِرانِ ) ( فقالت عُدْ فقلتُ لها رويداً ...
مكانَك إنني ثَبْتُ الجَنانِ )
( فلم أنفكَّ متّكئاً عليها ... لأنظُرَ مُصبِحاً ماذا
أتاني ) ( إذا عينان في رأسٍ قبيحٍ ... كرأْس الهِرِّ مشقوق اللّسان ) ( وساقا
مُخْدِجٍ وشواةُ كلب ... وثوبٌ من عَباءٍ أو شِنان ) غزا بجيلة فقتل رجلا واستاق غنما
قالوا وكان من حديثه انه خرج غازيا يريد بجيلة هو ورجل معه وهو يريد أن يغترهم
فيصيب حاجته فأتى ناحية منهم فقتل رجلا ثم استاق غنما كثيرة فنذروا به فتبعه بعضهم
على خيل وبعضهم رجالة وهم كثير فلما رآهم وكان من أبصر الناس عرف وجوههم فقال
لصاحبه هؤلاء قوم قد عرفتهم ولن يفارقونا اليوم حتى يقاتلونا أو يظفروا بحاجتهم
فجعل صاحبه ينظر فيقول ما أتبين أحدا حتى إذ دهموهما قال لصاحبه اشتد فإني سأمنعك
ما دام في يدي سهم فاشتد الرجل ولقيهم تأبط شرا وجعل يرميهم حتى نفذت نبله ثم إنه اشتد
فمر بصاحبه فلم يطق شدة فقتل صاحبه وهو ابن عم لزوجته فلما رجع تأبط شرا وليس
صاحبه معه عرفوا أنه قد قتل فقالت له امرأته تركت صاحبك وجئت متباطئا فقال تأبط
شرا في ذلك ( ألا تلكما عرسى منيعةُ ضُمِّنت ... من اللَّهِ إثماً مُستِسراً وعالِنا ) ( تقول تركتَ
صاحباً لك ضائعاً ... وجئت إلينا فارقاً مُتبَاطِنا ) ( إذا ما تركتُ صاحبي لثلاثة ... أو
اثْنَيْنِ مثْلَينا فلا أُبْتُ آمِنا
) ( وما كنت أبّاء على الخِلّ إذ دعا ... ولا المرءِ
يدعوني مُمِرّا مُداهِنا ) ( وكَرّي إذا أُكْرِهتُ رهطاً وأَهلَه ... وأرضا يكون العَوْصُ
فيها عُجاهِنَا ) ( ولمّا سمعت العَوصَ تدعو تنفّرت ... عصافيرُ رأسي من غُواةٍ
فَراتِنا ) ( ولم أنتظر أن يَدهموني كأنهم ... ورائيَ نَحْل في الخليّة واكِنَا ) ( ولا أن تُصِيب
النافذاتُ مقاتلي ... ولم أَكُ بالشدِّ الذِليق مُداينا ) ( فأرسلتُ مثنيًّا عن الشدّ واهِناً
... وقلتُ تزحزحْ لا تكوننّ حَائِنا
) ( وحثحثتُ مشعوفَ النَّجاء كأنه ... هِجفّ رأى قصراً
سِمالاً وداجنا ) ( من الحُصِّ هِزْروفٌ يطير عِفاؤه ... إذا استدرج الفَيْفا
ومّدَ المغابنا ) ( أزجُّ زَلوجٌ هذر في زفازفٌ ... هِزَفٌّ يبذُ الناجيات
الصوَّافِنا ) ( فزحزت عنهم أو تجِئْني مَنِيَّتي ... بغبراءَ أو عرفاءَ تَفْري
الدَّفائنا ) ( كأنّي أراها الموتَ لا درّ دَرُّها ... إذا أمكنَتْ أنيابَها
والبراثنا ) ( وقالت لأخرى خلفها وبناتها ... حتوف تُنَقِّي مخّ مَنْ كان
واهنا ) ( أخاليجُ ورَّادٍ على ذي محافل ... إذا نزعوا مدّوا الدِّلا والشّواطنا ) وقال غيره بل
خرج تأبط شرا هو وصاحبان له حتى أغاروا على العوص من بجيلة فأخذوا نعما لهم
واتبعتهم العوص فأدركوهم وقد كانوا استأجروا لهم رجالا كثيرة فلما رأى تأبط شرا
ألا طاقة لهم بهم شمر وتركهما فقتل صاحباه وأخذت النعم وأفلت حتى أتى بني القين من
فهم فبات عند امرأة منهم يتحدث إليها فلما أراد أن يأتي قومه دهنته ورجلته فجاء
إليهم وهم يبكون فقالت له امرأته لعنك الله تركت صاحبيك وجئت مدهنا وإنه إنما قال
هذه القصيدة في هذا الشأن وقال تأبط شرا يرثيهما وكان اسم أحدهما عمرا ( أبعد قتيل
العَوصْ آسَى على فتىً ... وصاحِبه أو يأمُلُ الزّادَ طارقُ ) ( أأطْرُد فهماً آخر الليل أبتغِي ...
عُلالة يوم أن تَعُوقَ العوائق
) ( لَعَمرُ فتىً نِلتم كأنّ رداءه ... على سرحةٍ من سرح
دومة سامق ) ( لأطرُد نَهْباً أو نرودَ بفِتْيةٍ ... بأيمانهم سُمْر القَنا
والعقائق ) ( مَساعَرةُ شُعْثٌ كأنّ عيونهم ... حريقُ الغضا تُلْفَى عليها الشقّائق ) ( فعُدُّوا
شهورَ الحُرْمِ ثم تعرّفوا ... قتيل أناسٍ أو فتاةٍ تعانقُ ) محاولة قتله هو وأصحابه بالسم قال
الأثرم قال أبو عمرو في هذه الرواية وخرج تأبط شرا يريد أن يغزو هذيلا في رهط فنزل
على الأحل بن قنصل رجل من بجيلة وكان بينهما حلف فأنزلهم ورحب بهم ثم إنه ابتغى
لهم الذراريح ليسقيهم فيستريح منهم ففطن له تأبط شرا فقام إلى أصحابه فقال إني أحب
ألا يعلم أنا قد فطنا له ولكن سابوه حتى نحلف ألا نأكل من طعامه ثم أغتره فأقتله
لأنه إن علم حذرني وقد كان مالأ ابن قنصل رجل منهم يقال له لكيز قتلت فهم أخاه
فاعتل عليه وعلى أصحابه فسبوه وحلفوا ألا يذوقوا من طعامه ولا من شرابه ثم خرج في
وجهه وأخذ في بطن واد فيه النمور وهي لا يكاد يسلم منها أحد والعرب تسمي النمر ذا
اللونين وبعضهم يسميه البسنتى فنزل في بطنه وقال لأصحابه انطلقوا جميعا فتصيدوا
فهذا الوادي كثير الأروى فخرجوا وصادوا وتركوه في بطن الوادي فجاءوا فوجدوه قد قتل
نمرا وحده وغزا هديلا فغنم وأصاب فقال تأبط شرا في ذلك ( أقسمتُ لا أنسى وإن طال عيشُنا ...
صنيع لكُيْزٍ والأَحلّ بن قنصل
) ( نزلنا به يوماً فساء صَبَاحُنا ... فإنك عَمْري قد
ترى أيّ منزل ) ( بَكَى إذ رآنا نازلين ببابه ... وكَيف بُكاءُ ذي القليل
المُعَيَّل ) ( فلا وأبيك ما نَزَلنا بعامرٍ ... ولا عامر ولا الرئيس ابن
قَوقل ) عامر بن مالك أبو براء ملاعب الأسنة وعامر بن الطفيل وابن قوقل مالك بن ثعلبة
أحد بني عوف بن الخزرج ( ولا بالشّليل ربّ مروان قاعداً ... بأحسن عَيْش والنُّفاثيّ
نوفَلِ ) رب مروان جرير بن عبد الله البجلي ونوفل بن معاوية بن عروة بن صخر بن يعمر
أحد بني الديل بن بكر ( ولا ابن وَهيب كاسبِ الحمد والعُلاَ ... ولا ابن ضُبَيْعٍ وسط
آل المُخبَّل ) ( ولا ابنِ حُلَيْسٍ قاعدا في لِقاحه ... ولا ابن جُرَيٍّ وسط آل
المغفّل ) ( ولا ابنِ رياحٍ بالزُّليفات دارُه ... رِياح بن سعد لا رياح بن مَعْقلِ ) ( أولِئك أَعطَى
للوَلائد خِلْفَةً ... وأَدْعَى إلى شحم السَّديف المُرَعْبَل ) نجاته من موت
محتم وقال أيضا في هذه الرواية كان تأبط شرا يشتار عسلا في غار من بلاد هذيل يأتيه
كل عام وأن هذيلا ذكرته فرصدوه لإبان ذلك حتى إذا جاء هو وأصحابه تدلى فدخل الغار
وقد أغاروا عليهم فأنفروهم فسبقوهم ووقفوا على الغار فحركوا الحبل فأطلع تأبط شرا
رأسه فقالوا اصعد فقال ألا أراكم قالوا بلى قد رأيتنا فقال فعلام أصعد أعلى
الطلاقة أم الفداء قالوا لا شرط لك قال فأراكم قاتلي وآكلي جناي لا والله لا أفعل
قال وكان قبل ذلك نقب في الغار نقبا أعده للهرب فجعل يسيل العسل من الغار ويهريقه
ثم عمد إلى الزق فشده على صدره ثم لصق بالعسل فلم يبرح ينزلق عليه حتى خرج سليما
وفاتهم وبين موضعه الذي وقع فيه وبين القوم مسيرة ثلاث فقال تأبط شرا في ذلك ( أقول للحيانٍ وقد
صَفِرت لهم ... وِطابي ويَوْمي ضَيّق الحَجْر مُعوِرُ ) ( هما خُطَّتا إما إسارٌ ومِنَّةٌ ...
وإما دَمٌ والقتلُ بالحُرّ أجدَرُ
) ( وأُخرى أصادِي النّفسَ عنها وإنها ... لمورِدُ حَزْم
إن ظَفِرت ومَصدَرُ ) ( فرَشْتُ لها صدري فزَلّ عن الصّفا ... به جؤجؤٌ صَلْبٌ ومتنُ
مُخصَّرُ ) ( فخالطَ سهلَ الأرض لم يكدح الصَّفا ... به كَدْحَةً والموتُ خَزيانُ يَنْظُر ) ( فأُبْتُ إلى
فَهمٍ وما كُنتُ آئباً ... وكم مثلها فارقتُها وهي تَصْفِر ) ( إذا المرء لم يَحْتلْ وقد جَدّ
جِدّه ... أضاع وقاسَى أمرَه وهو مُدبِر ) ( ولكن أَخْو الحَزْم الذي ليس نازلاً
... به الأمرُ إلا وهْو للحزم مُبْصِرُ
) ( فذاك قَريعُ الدَّهر ما كان حوَّلا ... إذا سُدّ منه
مَنْخِرٌ جاش مَنْخرُ ) ( فإنّك لو قَايَسْت باللِّصب حِيلَتي ... بلُقْمان لم يُقصِر بي
الدهرَ مُقْصِرُ ) قتل هو وأصحابه نفرا من العوص وقال أيضا في حديث تأبط شرا إنه
خرج في عدة عن فهم فيهم عامر ابن الأخنس والشنفرى والمسيب وعمرو بن براق ومرة بن
خليف حتى بيتوا العوص وهم حي من بجيلة فقتلوا منهم نفرا وأخذوا لهم إبلا فساقوها حتى
كانوا من بلادهم على يوم وليلة فاعترضت لهم خثعم وفيهم ابن حاجز وهو رئيس القوم
وهم يومئذ نحو من أربعين رجلا فلما نظرت إليهم صعاليك فهم قالوا لعامر بن الأخنس
ماذا ترى قال لا أرى لكم إلا صدق الضراب فإن ظفرتم فذاك وإن قتلتم كنتم قد أخذتم
ثأركم قال تأبط شرا بأبي أنت وأمي فنعم رئيس القوم أنت إذا جد الجد وإذا كان قد
أجمع رأيكم على هذا فإني أرى لكم أن تحملوا على القوم حملة واحدة فإنكم قليل
والقوم كثير ومتى افترقتم كثركم القوم فحملوا عليهم فقتلوا منهم في حملتهم فحملوا
ثانية فانهزمت خثعم وتفرقت وأقبل ابن حاجز فأسند في الجبل فأعجز فقال تأبط شرا في
ذلك ( جَزَى الله فِتيانا على العوْص أمطرت ... سَماؤُهُم تحت العَجاجة بالدَّم ) ( وقد لاح ضَوءُ
الفجر عَرْضا كأنه ... بلَمْحته إقراب أبْلَق أدْهَم ) ( فإنَّ شِفَاء الداء إدراك ذَحْلةً
... صباحاً على آثار حوم عَرَمْرَم
) ( وضاربْتُهم بالسفحِ إذ عارَضَتْهُمُ ... قبائلُ من
أبناء قسرٍ وخثعم ) ( ضِرابا عَدَا منه ابنُ حاجز هاربا ... ذُرا الصَّخر في جوف
الوجين المُديَّم ) وقال الشنفرى في ذلك ( دَعيني وقُولي بَعدُ ما شئتِ إنّني ...
سَيُغدّى بنَعْشِي مرةً فأُغيَّب
) ( خرجنَا فلم نعهد وقَلَّت وصاتنا ... ثمانيةٌ ما
بعدها مُتعَتَّب ) ( سراحينُ فتيانٍ كأن وُجوهَهم ... مصابيحُ أو لونٌ من الماء
مذهب ) ( نَمُرّ برَهوْ الماء صَفْحاً وقد طَوَتْ ... ثمائِلُنا والزّادُ ظَنٌّ مُغَيَّبُ ) ( ثلاثاً على
الأَقدام حتى سما بنا ... على العَوْص شَعْشاعٌ من القوم مِحْربُ ) ( فثاروا إلينا
في السواد فَهجْهَجُوا ... وصَوَّت فينا بالصّباح المُثوّب ) ( فشنَّ عليهم هذة السيف ثابِتٌ ...
وصَمَّم فيهم بالحُسام المُسيِّبُ
) ( وظَلْتُ بفتيانٍ معي أتّقيهمُ ... بهنّ قليلا ساعة
ثم جنبوا ) ( وقد خَرّ منهم راجلان وفارسٌ ... كميّ صرعناه وحَوْم مسلّب ) ( يَشُقُّ إليه
كلّ رَبْعٍ وقَلْعَةٍ ... ثمانيةٌ والقوم رَجْلٌ ومِقْنبُ ) ( فلما رآنا قومنا قيل أفلَحُوا ...
فقلنا : اسألوا عن قائل لا يُكَذَّبُ
) وقال تأبط شرا في ذلك ( أرى قدمَيَّ وقَعهُما خَفيفٌ ...
كتحليل الظَّليم حَدَا رِئالَه
) ( أرى بهما عذاباً كلّ يومٍ ... بخَثْعَم أو بَجِيلَةَ
أو ثُمالَه ) ففرق تأبط شرا أصحابه ولم يزالوا يقاتلونهم حتى انهزمت خثعم وساق تأبط شرا
وأصحابه الإبل حتى قدم بها عليا مكة وقال غيره إنما سمي تأبط شرا ببيت قاله وهو ( تأبط شراً ثم راح
أو اغتدىَ ... يُوائِم غُنْما أو يَشِيفُ على ذَحْل ) شعره عندما هرب من مراد إلى قومه قال
وخرج تأبط شرا يوما يريد الغارة فلقى سرحا لمراد فأطرده ونذرت به مراد فخرجوا في
طلبه فسبقهم إلى قومه وقال في ذلك (
إذا لاقيتَ يومَ الصّدق فارْبَع ... عليه ولا يَهمّك
يومُ سَوِّ ) ( على أنِّي بِسَرْح بني مرادٍ ... شجوتهُم سِباقاً أيَّ شجوِ ) ( وآخر مثله لا
عيبَ فيه ... بَصَرتُ به ليوم غيرِ زوِّ ) ( خَفَضتُ بساحةٍ تجري علينا ...
أباريق الكرامة يومَ لَهْوِ ) أغار تأبط شرا وحده على خثعم فبينا هو يطوف إذ مر بغلام يتصيد
الأرانب معه قوسه ونبله فلما رآه تأبط شرا أهوى ليأخذه فرماه الغلام فأصاب يده
اليسرى وضربه تأبط شرا فقتله وقال في ذلك ( وكادت وبيتِ الله أطناب ثابت ...
تقوّضُ عن لَيْلَى وتبكي النَّوائح
) ( تمنّى فتى منّا يلاقي ولم يَكد ... غلامٌ نَمَتْه
المُحْصنات الصّرائِح ) ( غلام نَمى فوق الخماسيِّ قدره ... ودون الذي قد تَرْتَجِيه
النّوَّاكحُ ) ( فإن تك نالته خطاطِيف كفّه ... بأبيض قصّال نمى وهو فادح ) ( فقد شد في
إحدى يديه كِنانه ... يُداوَى لها في أسود القلب قادح ) هذه الأبيات أن تكون لقوم المقتول
أشبه منها بتأبط شرا خبره مع امرأة من هذيل قال وخطب تأبط شرا امرأة من هذيل من
بني سهم فقال لها قائل لا تنكحيه فإنه لأول غدا يفقد فقال تأبط شرا ( وقالوا لها لا
تَنكَحِيه فإنّه ... لأول نَصْل أن يُلاقى مَجمَعا ) ( فلم تَرَ مِنْ رأيٍ فتيلا وحاذرت
... تأَيّمها من لابس الليلِ أَرْوَعا
) ( قليل غِرارِ النّوم أكبر هَمّه ... دَمُ الثّأر أو
يلقى كَمِيا مُقَنَّعا ) ( قليلِ ادّخَارِ الزَّادِ إلاّ تَعِلَّة ... وقد نَشَزَ
الشُّرسُوفُ والتصق المِعَى ) (
تُناضِله كلٌّ يشجّع نفسَه ... وما طبُّه في طرْقه أن
يُشجَّعا ) ( يبيت بمغنى الوحش حتى ألفْنه ... ويصبح لا يحمي لها الدهرَ مرتعا ) ( رأين فتىً لا
صَيْدُ وحش يَهمّه ... فَلَوْ صافحت إنْسا لصافَحْنَه معا ) ( ولكنّ أربابَ المخاض يشقّهم ... إذا
افتقدوه أو رأوه مُشيّعا ) ( وإني ولا عِلمٌ لأَعلَمُ أنني ... سألقَى سِنانَ الموت يرشُق
أضلعا ) ( على غِرّةٍ أو جَهْرةٍ من مُكاثِرٍ ... أطال نِزالَ الموت حتى تَسَعْسَعا ) تسعسع فني وذهب يقال
قد تسعسع الشهر ومنه حديث عمر رضي الله عنه حين ذكر شهر رمضان فقال ( إن هذا الشهر قد
تسعسع ) ( وكنت أظن الموت في الحي أو أرى ... أَلَذّ وأُكرَى أو أَمُوتَ مُقَنَّعا ) ( ولست أبيتُ
الدَّهر إلا على فتى ... أسلِّبه أو أُذغِرُ السِرْبَ أجمَعَا ) ( ومن يَضربُ
الأبطالَ لا بدّ أنه ... سيَلْقى بهم من مَصْرع الموت مَصْرعا ) قال وخرج تأبط
شرا ومعه صاحبان له عمرو بن كلاب أخو المسيب وسعد بن الأشرس وهم يريدون الغارة على
بجيلة فنذروا بهم وهم في جبل ليس لهم طريق عليهم فأحاطوا بهم وأخذوا عليهم الطريق
فقاتلوهم فقتل صاحبا تأبط شرا ونجا ولم يكد حتى أتى قومه فقالت له امرأته وهي أخت
عمرو بن كلاب إحدى نساء كعب بن علي بن إبراهيم بن رياح هربت عن أخي وتركته وغررته
أما والله لو كنت كريما لما أسلمته فقال تأبط شرا في ذلك ( ألا تِلكما عِرْسي مَنيعة ضُمِّنَت ...
من الله خِزياً مُسْتسرّاً وعاهنا )
وذكر باقي الأبيات وإنما دعا امرأته إلى أن عيرته أنه
لما رجع بعد مقتل صاحبيه انطلق إلى امرأة كان يتحدث عندها وهي من بني القين بن فهم
فبات عندها فلما أصبح غدا إلى امرأته وهو مدهن مترجل فلما رأته في تلك الحال علمت
أين بات فغارت عليه فعيرته غارته على خثعم وذكروا أن تأبط شرا أغار على خثعم فقال
كاهن لهم أروني أثره حتى آخذه لكم فلا يبرح حتى تأخذوه فكفئوا على أثره جفنة ثم
أرسلوا إلى الكاهن فلما رأى أثره قال هذا ما لا يجوز في صاحبه الأخذ فقال تأبط شرا
( ألا
أبلغ بني فَهْم بن عمرو ... على طولِ التَّنائي والمقَالَهْ ) ( مقَال الكاهن الجامِيّ لمّا ... رأى
أثري وقد أُنهِبتُ مالَهْ ) ( رأى قدمَيّ وقعُهما حثيثٌ ... كتحليل الظليم دعا رئاله ) ( أرى بهما
عذاباً كلَّ عام ... لخثعمَ أو بجيلةَ أو ثُمالهْ ) ( وشرٌّ كان صُبَّ على هذيل ... إذا
علقت حِبالهمُ حِبالَه ) ( ويَومُ الأزد منهم شرّ يوم ... إذا بَعُدوا فقد صَدَّقتُ قاله ) فزعموا أن ناسا
من الأزد بئوا لتأبط شرا ربيئة وقالوا هذا مضيق ليس له سبيل إليكم من غيره فأقيموا
فيه حتى يأتيكم فلما دنا من القوم توجس ثم انصرف ثم عاد فنهضوا في أثره حين رأوه
لا يجوز ومر قريبا فطمعوا فيه وفيهم رجل يقال له حاجز ليث من ليوثهم سريع فأغروه
به فلم يلحقه فقال تأبط شرا في ذلك (
تَتعتعتُ حِضْنَيْ حاجزٍ وصحابِه ... وقد نبذوا
خُلقانَهم وتشنَّعوا ) ( أَظن وإن صادفتُ وعثاً وأَنْ جرّى ... بِيَ السّهلُ أو متنٌ من
الأرض مَهْيَع ) ( أُجارِي ظلالَ الطير لو فات واحدٌ ... ولو صدقوا قالوا له هو
أسرع ) ( فلو كان من فتيان قيسٍ وخِنْدفٍ ... أَطاف به القُنَّاصُ من حيث أُفزِعوا ) ( وجاب بلادا نصف
يوم وليلة ... لآب إليهم وهو أشوس أروع
) ( فلو كان منكم واحدٌ لكُفِيتُه ... وما ارتجعوا لو
كان في القوم مطمع ) فأجابه حاجز (
فإن تك جاريْتَ الظلال فربما ... سُبِقْتَ ويومُ القِرْن
عُريان أسْنَع ) ( وخلَّيْتَ إخوان الصفاء كأنهم ... ذبائحُ عَنزٍ أو فَحِيلٌ
مُصرَّع ) ( تبكيِّهمُ شجوَ الحمامة بعدما ... أرحْتَ ولَم تُرفَع لهم منك إصْبَع ) ( فهذي ثلاثٌ قد
حويت نجاتَها ... وإن تنجُ أخرى فهي عندك أربع ) خير أيامه أخبرني عمي قال حدثنا عبد
الله بن أبي سعد قال ذكر علي بن محمد المدائني عن ابن دأب قال سئل تأبط شرا أي يوم
مر بك خير قال خرجت حتى كنت في بلاد بجيلة أضاءت لي النار رجلا جالسا إلى امرأة فعمدت
إلى سيفي فدفنته قريبا ثم أقبلت حتى استأنست فنبحني الكلب فقال ما هذا فقلت بائس فقال
ادنه فدنوت فإذا رجل جلحاب آدم وإذا أضوى الناس إلى جانبه فشكوت إليه الجوع
والحاجة فقال اكشف تلك القصعة فأتيت قصعة إلى جنب إبله فإذا فيها تمر ولبن فأكلت
منه حتى شبعت ثم خررت متناوما فو الله ما شئت أن أضطجع حتى أضطجع هو ورفع رجله على
رجله ثم اندفع يغني وهو يقول ( خَيرُ اللَّيالي إن سألت بليلة ... ليل بخيْمة بين بِيشَ
وعَثّرِ ) ( لِضجيعِ آنسةٍ كأَنَّ حَدِيثَها ... شَهدٌ يُشاب بمزجةٍ من عَنْبر ) ( وضجيعِ لاهيةٍ
أُلاعِب مِثلَها ... بيضاءَ واضحةٍ كَظِيظ المِئْزَر ) ( ولأَنْت مثلُهما وخَيرٌ منهما ...
بعد الرُّقاد وقبل أَن لم تُسْحِري
) قال ثم انحرف فنام ومالت فنامت فقلت ما رأيت كالليلة
في الغرة فإذا عشر عشراوات بين أثلاث فيها عبد واحد وأمه فوثبت فانتضيت سيفي
وانتحيت للعبد فقتلته وهو نائم ثم انحرفت إلى الرجل فوضعت سيفي على كبده حتى
أخرجته من صلبه ثم ضربت فخذ المرأة فجلست فلما رأته مقتولا جزعت فقلت لا تخافي أنا
خير لك منه قال وقمت إلى جل متاعها فرحلته على بعض الإبل أنا والأمة فما حللت عقده
حتى نزلت بصعدة بني عوف بن فهر وأعرست بالمرأة هناك وحين اضطجعت فتحت عقيرتي وغنيت
( بحَليلة
البجليّ بِتْ من ليلِها ... بين الإِزار وكَشِحْها ثم الصَقِ ) ( بأَنسيةٍ طُوِيت على مَطْويّها ...
طيَّ الحمالةِ أو كطيّ المِنْطَقِ
) ( فإذا تقوم فصَعدةٌ في رَمْلَة ... لبَدَت برِيّق دِيمة
لم تُغدِق ) ( وإذا تجيءُ تجيء شحب خلفها ... كالأَيْم أصْعَد في كَثِيبٍ
يَرْتَقِي ) ( كَذَب الكوَاهِنُ والسَّواحِرُ والهُنا ... أن لا وفاء لعاجِزٍ
لا يَتَّقِي ) قال فهذا خير يوم لقيته وشر يوم لقيت أني خرجت حتى إذا كنت في
بلاد ثمالة أطوف حتى إذا كنت من الفقير عشيا إذا بسبع خلفات فيهن عبد فأقبلت نحوه
وكأني لا أريده وحذرني فجعل يلوذ بناقة فيها حمراء فقلت في نفسي والله إنه ليثق
بها فأفوق له ووضع رجله في أرجلها وجعل يدور معها فإذا هو على عجزها وأرميه حين
أشرف فوضعت سهمي في قلبه فخر وندت الناقة شيئا وأتبعتها فرجعت فسقتهن شيئا ثم قلت
والله لو ركبت الناقة وطردتهن وأخذت بعثنون الحمراء فوثبت فساعة استويت عليها كرت
نحو الحي تريع وتبعتها الخلفات وجلعت أسكنها وذهبت فلما خشيت أن تطرحني في أيدي
القوم رميت بنفسي عنها فانكسرت رجلي وانطلقت والذود معها فخرجت أعرج حتى انخنست في
طرف كثيب وجازني الطلب فمكثت مكاني حتى أظلمت وشبت لي ثلاثة أنوار فإذا نار عظيمة
ظننت أن لها أهلا كثيرا ونار دونها ونويرة صغيره فهويت للصغرى وأنا أجمر فلما
نبحني الكلب نادى رجل فقال من هذا فقلت بائس فقال ادنه فدنوت وجلست وجعل يسائلني
إلى أن قال والله إني لأجد منك ريح دم فقلت لا والله ما بي دم فوثب إلي فنفضني ثم
نظر في جعبتي فإذا السهم فقلت رميت العشية أرنبا فقال كذبت هذا ريح دم إنسان ثم
وثب إلي ولا أدفع الشر عن نفسي فأوثقني كتافا ثم علق جعبتي وقوسي وطرحني في كسر
البيت ونام فلما أسحرت حركت رجلي فإذا هي صالحة وانفتل الرباط فحللته ثم وثبت إلى قوسي
وجعبتي فأخذتهما ثم هممت بقتله فقلت أنا ضمن الرجل وأنا أخشى أن أطلب فأدرك ولم
أقتل أحدا أحب إلي فوليت ومضيت فو الله إني لفي الصحراء أحدث نفسي إذا أنا به على
ناقة يتبعني فلما رأيته قد دنا مني جلست على قوسي وجعبتي وأمنته وأقبل فأناخ
راحلته ثم علقها ثم أقبل إلي وعهده بي عهده فقلت له ويلك ما تريد مني فأقبل يشتمني
حتى إذا أمكنني وثبت عليه فما ألبثته أن ضربت به الأرض وبركت عليه أربطه فجعل يصيح
يا لثمالة لم أر كاليوم فجنبته إلى ناقته وركبتها فما نزعت حتى أحللته في الحي وقلت
( أغرّكَ
منّي يا بن فَعْلة عِلَّتي ... عَشِيَّةَ أَن رابت عليَّ روائِبِي ) ( وَ موقد نيران
ثَلاثٍ فشَرُّهَا ... وألأَمُها إذ قُدْتُها غير عازِبِ ) ( سلبتَ سِلاحِي بَائِساً
وشَتَمْتَنِي ... فيا خَيْر مَسْلُوب ويا شَرَّ سَالِب ) ( فإن أَكُ لم أخْضِبك فيها فإنَّها
... نُيوبُ أساوِيد وشَوْل عَقارِب
) ( ويا رَكْبة الحَمْراء شَرَّة رَكْبةٍ ... وكادَتْ
تكون شَرّ ركبةِ راكِبِ ) غارته على الأزد قال وخرج تأبط غازيا يريد الغارة على الأزد في
بعض ما كان يغير عليهم وحده فنذرت به الأزد فأهملوا له إبلا وأمروا ثلاثة من ذوي
بأسهم حاجزين أبي وسواد بن عمرو بن مالك وعوف بن عبد الله أن يتبعوه حتى ينام فيأخذوه
أخذا فكمنوا له مكمنا وأقبل تأبط شرا فبصر بالإبل فطردها بعض يومه ثم تركها ونهض
في شعب لينظر هل يطلبه أحد فكمن القوم حين رأوه ولم يرهم فلما لم ير أحدا في أثره
عاود الإبل فشلها يومه وليلته والغد حتى أمسى ثم عقلها وصنع طعاما فأكله والقوم
ينظرون إليه في ظله ثم هيأ مضطجعا على النار ثم أخمدها وزحف على بطنه ومعه قوسه
حتى دخل بين الإبل وخشي أن يكون رآه أحد وهو لا يعلم ويأبى إلا الحذر والأخذ
بالحزم فمكث ساعة وقد هيأ سهما على كبد قوسه فلما أحسوا نومه أقبلوا ثلاثتهم يؤمون
المهاد الذي رأوه هيأه فإذا هو يرمي أحدهم فيقتله وجال الآخران ورمى آخر فقتله
وأفلت حاجز هاربا وأخذ سلب الرجلين وأطلق عقل الإبل وشلها حتى جاء بها قومه وقال
تأبط في ذلك ( تُرَجِّى نِساءُ الأَزْدِ طلعةَ ثابتِ ... أسِيراً ولم
يَدْرِين كيف حَوِيلي ) ( فإنّ الأُلي أَوصَيْتُم بَيْن هارِبٍ ... طَرِيدٍ ومَسْفُوح
الدَّماءِ قَتِيلَ ) ( وخدتُ بهم حتى إذا طال وَخْدُهم ... ورابَ عليهم مَضْجَعِي
وَمَقِيلِي ) ( مَهدتُ لهم حتى إذا طاب رَوعُهم ... إلى المهْد خَاتلْت
الضِّيا بِخَتِيل ) ( فلما أحسُّوا النَّوم جاءُوا كأنَّهم ... سِباعٌ أَصابت هجمةً
بِسَلِيلِ ) ( فَقلّدتُ سَوَّارَ بنَ عَمْرو بنِ مَالِكٍ ... بأَسْمَر جَسْر القُذَّتَين
طَمِيل ) ( فخَرَّ كأنّ الفِيَل ألقى جِرانَه ... عليه بريّان القِواء أسيلِ ) ( وظل رعاع
المَتْن من وقع حاجِزٍ ... يخرُّ ولو نَهْنَهْتَ غَيْر قَلِيل ) ( لأبتَ كما آبا
ولو كُنتَ قَارِناً ... لجئتَ وما مالكتَ طول ذَميلِي ) ( فسرك ندماناك لما تتابعا ... وأنك
لم ترجع بعوص قتيل ) ( سَتأتي إلى فَهْمٍ غَنِيمَةُ خلْسَة ... وفي الأزد نَوْحُ
وَيْلةٍ بِعَوِيلِ ) فقال حاجز بن أبي الأزدي يجيبه ( سألت فلم تُكلِّمني الرُّسوم ... ) وهي في
أشعار الأزد فأجابه تأبط شرا ( لقد قال الخِليُّ وقال خَلْساً ... بظهر الليل شُدَّ به
العُكومُ ) ( لِطَيفٍ من سُعادَ عَناك منها ... مُراعاةُ النُّجوم ومَنْ يَهِيمُ ) ( وتلك لئن
عُنِيتَ بها رَداحٌ ... من النّسوان مَنْطِقُها رَخِيمُ ) ( نِياقُ القُرطِ غَرَّاءُ الثَّنايَا
... ورَيْداءُ الشَّباب ونِعْم خِيم
) ( ولكن فاتَ صاحبُ بَطْن رَهْوٍ ... وصاحبه فأنتَ به
زَعِيم ) ( أُؤاخِذُ خُطَّة فيها سواء ... أَبِيتُ وَليلُ واترها نَؤُومُ ) ( ثأرتُ بها وما
اقْتَرفَت يَدَاه ... فَظلَّ لها بنا يومٌ غَشُومُ ) ( نَحزُّ رِقابَهم حتى نَزَعْنا ...
وأنفُ المَوْت مَنْخِرُه رَمِيمُ
) ( وإن تَقع النّسورُ عليَّ يوْماً ... فلَحْم
المعنْفِي لَحْم كَرِيمُ ) ( وَذِي رَحمٍ أحالَ الدَّهْر عنه ... فلَيْس له لذي رَحِمِ
حَرِيم ) ( أصاب الدَّهرُ آمنَ مَرْوَتَيْه ... فألقاه المصاحِب والحَمِيمُ ) ( مَددتُ له
يَميناً من جَناحي ... لها وَفرُ وكافَيةٌ رَحُومُ ) ( أُواسيه على الأيَّام إني ... إذا
قَعَدت به اللُّؤَما أَلومُ ) رثاؤه لأخيه عمرو ذكروا انه لما انصرف الناس عن المستغل وهي
سوق كانت العرب تجتمع بها قال عمرو بن جابر بن أخو سفيان تأبط شرا لمن حضر من قومه
لا واللات والعزى لا أرجع حتى أغير على بني عتير من هذيل ومعه رجلان من قومه هو
ثالثهما فأطردوا إبلا لبني عتير فأتبعهم أرباب الإبل فقال عمرو أنا كار على القوم
ومنهنهم عنكما فامضيا بالإبل فكر عليهم فنهنهم طويلا فجرح في القوم رئيسا ورماه
رجل من بني عتير بسهم فقتله فقالت بنو عتير هذا عمرو بن جابر ما تصنعون أن تلحقوا
بأصحابه أبعدها الله من إبل فإنا نخشى أن نلحقهم فيقتل القوم منا فيكونوا قد أخذوا
الثأر فرجعوا ولم يجاوزوه وكانوا يظنون أن معه أناسا كثيرا فقال تأبط لما بلغه قتل
أخيه ( وحرّمتُ النساءَ وإن أُحِلّت ... بشَور أو بمزج أو لَصابِ ) ( حياتي أو أزور
بني عُتَير ... وكاهلها بَجمْع ذي ضباب
) ( إذا وَقَعت لكَعْب أو خثيمٍ ... وسيار يَسُوغ لها
شَرابِي ) ( أَظُنّي مَيِّتا كَمداً ولَمّا ... أطالِعْ طلعةً أهلَ الكِراب ) ( ودُمْتُ
مُسَيَّرا أهدِي رعيلا ... أؤم سوادَ طَوْدٍ ذِي نِقاب ) فأجابه أنس بن حذيفة الهذلي ( لعلّك أن تَجِيء
بك المَنايَا ... تُساق لِفِتْية منا غضابِ ) ( فتنزلَ في مَكَرِّهُم صريعاً ...
وتنزلَ طُرْقةَ الضَّبعُ السّغابِ
) ( تأبَّطَ سَوْأةً وحملتَ شَرًّا ... لعلك أن تكون من
المُصاب ) ثم أن السمع بن جابر أخا تابط شرا خرج في صعاليك من قومه يريد الغارة على بني
عتير ليثأر بأخيه عمرو بن جابر حتى إذا كان ببلاد هذيل لقي راعيا لهم فسأله عنهم
فأخبره بأهل بيت من عتير كثير مالهم فبيتهم فلم يفلت منهم مخبر واستاقوا أموالهم
فقال في ذلك السمع بن جابر ( بأعلى ذي جماجم أهلُ دارٍ ... إذا ظَعنَت عشيرتُهم أقاموا ) ( طرقْتُهمُ
بفتيانٍ كِرامٍ ... مَساعِيرٍ إذا حَمِي المُقامُ ) ( متى ما أدعُ من فَهْم تُجِبْني ...
وعدوان الحماةِ لهم نِظامُ ) أصابته في غارته غلى الأزد ذكروا أن تأبط شرا خرج ومعه مرة بن
خليف يريدان الغارة على الأزد وقد جعلا الهداية بينهما فلما كانت هداية مرة نعس
فجار عن الطريق ومضيا حتى وقعا بين جبال ليس فيها جبل متقارب وإذا فيها مياه يصيح الطير
عليها وإذا البيض والفراخ بظهور الأكم فقال تأبط شرا هلكنا واللات يا مرة ما وطيء
هذا المكان إنس قبلنا ولو وطئته إنس ما باضت الطير بالأرض فاختر أية هاتين القنتين
شئت وهما أطول شيء يريان من الجبال فأصعد إحداهما وتصعد أنت الأخرى فإن رأيت
الحياة فألح بالثوب وإن رأيت الموت فألح بالسيف فإني فاعل مثل ذلك فأقاما يومين ثم
إن تأبط شرا ألاح بالثوب وانحدرا حتى التقيا في سفح الجبل فقال مرة ما رأيت يا
ثابت قال دخانا أو جرادا قال مرة إنك إن جزعت منه هلكنا فقال تأبط شرا أما أنا
فإني سأخرم بك من حيث تهتدي الريح فمكثا بذلك يومين وليلتين ثم تبعا الصوت فقال
تأبط شرا النعم والناس أما والله لئن عرفنا لنقتلن ولئن أغرنا لندركن فأت الحي من
طرف وأنا من الآخر ثم كن ضيفا ثلاثا فإن لم يرجع إليك قلبك فلا رجع ثم أغر على ما
قبلك إذا تدلت الشمس فكانت قدر قامة وموعدك الطريق ففعلا حتى إذا كان اليوم الثالث
أغار كل واحد منهما على ما يليه فاستاقا النعم والغنم وطردا يوما وليلة طردا عنيفا
حتى أمسيا الليلة الثانية دخلا شعبا فنحرا قلوصا فبينا هما يشويان إذ سمعا حسا على
باب الشعب فقال تأبط الطلب يا مرة إن ثبت فلم يدخل فهم مجيزون وإن دخل فهو الطلب
فلم يلبث أن سمع الحس يدخل فقال مرة هلكنا ووضع تأبط شرا يده على عضد مرة فإذا هي
ترعد فقال ما أرعدت عضدك إلا من قبل أمك الوابشية من هذيل خذ بظهري فإن نجوت نجوت
وإن قتلت وقيتك فلما دنا القوم أخذ مرة بظهر تأبط وحمل تأبط فقتل رجلا ورموه بسهم
فأعلقوه فيه وأفلتا جميعا بأنفسهما فلما أمنا وكان من آخر الليل قال مرة ما رأيت كاليوم
عنيمة أخذت على حين أشرافنا على أهلنا وعض مرة عضده وكان الحي الذين أغاروا عليهم
بجيلة وأتى تأبط امرأته فلما رأت جراحته ولولت فقال تأبط في ذلك ( وبالشِّعب إذ
سدّت بجِيلةُ فَجَّهُ ... ومِن خَلفه هَضبٌ صغار وجامل ) ( شدّدْتُ لنفس المرء مُرَّةَ حَزْمَه
... وقد نُصِبت دون النَّجاء الحبائل )
( وقلت له كن خلفَ ظهري فإنني ... سأفديك وانظر بعدُ ما
أنتَ فاعِل ) ( فعاذ بَحدّ السيف صاحبُ أمرهم ... وَخلَّوْا عن الشيء الذي لم
يحاولوا ) ( وأخطأهم قَتِلى ورفَّعتُ صاحبي ... على الليل لم تُؤخذ عليه المخاتلُ ) ( واخطأ غُنْم
الحَيّ مُرَّة بعدما ... حوته إليه كفُّه والأناملُ ) ( يعض على أطرافه كيف زَوْلُه ...
ودون الملا سهلٌ من الأرض ماثل
) ( فقلت له هذي بتلك وقد يَرَى ... لها ثَمَنا من نفسه
ما يُزاول ) ( تُوَلْوِل سُعدى أن أتيتُ مُجرَّحا ... إليها وقد مَنَّت عليّ
المَقاتلُ ) ( وكائِنْ أتاها هارِباً قبل هذه ... ومن غانمٍ فأين مِنْكِ
الوَلاوِل ) أراد هو وأصحابه الأخذ بثأر صاحبيهم فلما انقضت الأشهر الحرم وخرج تأبط والمسيب
بن كلاب في ستة نفر يريدون الغارة على بجيلة والأخذ بثأر صاحبيهم عمرو بن كلاب
وسعد بن الأشرس فخرج تأبط والمسيب بن كلاب وعامر بن الأخنس وعمرو بن براق ومرة ابن
خليف والشنفرى بن مالك والسمع وكعب بن حدار ابنا جابر أخوا تأبط فمضوا حتى أغاروا
على العوص فقتلوا منهم ثلاثة نفر فارسين وراجلا وأطردوا لهم إبلا وأخذوا منهم
امرأتين فمضوا بما غنموا حتى إذا كانوا على يوم وليلة من قومهم عرضت لهم خثعم في
نحو من أربعين رجلا فيهم أبي بن جابر الخثعمي وهو رئيس القوم فقال تأبط يا قوم لا
تسلموا لهم ما في أيديكم حتى تبلوا عذرا وقال عامر بن الأخنس عليكم بصدق الضراب
وقد أدركتم بثأركم وقال المسيب اصدقوا القوم الحملة وإياكم والفشل وقال عمرو بن
براق ابذلوا مهجكم ساعة فإن النصر عند الصبر وقال الشنفرى ( نحن الصَّعالِيك الحُماةُ البُزَّلُ
... إذا لَقِينا لا نُرَى نُهَلّلُ
) وقال مرة بن خليف ( يا ثابتَ الخَيْر ويا بنَ الأخنسِ ...
ويا بنَ بَرّاق الكَريمِ الأشْوسِ
) ( والشّنفَرى عند حُيودِ الأنفسِ ... أنا ابن حَامِي
السِّربِ في المغمَّسِ ) ( نحن مساعِيرُ الحُروبِ الضُّرّس ... ) وقال كعب حدار أخو تأبط ( يا قوم أَمَّا إذ
لَقِيتم فاصْبِرُوا ... ولا تَخيِمُوا جزَعاً فتُدْبِروا ) وقال السمع أخو تأبط ( يا قوم كونوا
عندها أَحْرارا ... لا تُسلِموا العُونَ ولا البِكارا ) ( ولا القَنَاعيسَ ولا العِشَارا ...
لخَثْعمٍ وقد دَعَوْا غِرَارَا
) ( ساقوهُم المَوْت معاً أحرارا ... وافتخِرُوا
الدَّهْر بها افْتِخارا ) فلما سمع تأبط مقالتهم قال بأبي أنتم وأمي نعم الحماة إذا جد
الجد أما إذا أجمع رأيكم على قتال القوم فاحملوا ولا تتفرقوا فإن القوم أكثر منكم
فحملوا عليهم فقتلوا منهم ثم كروا الثانية فقتلوا ثم كروا الثالثة فقتلوا فانهزمت خثعم
وتفرقت في رؤوس الجبال ومضى تأبط وأصحابه بما غنموا وأسلاب من قتلوا فقال تأبط في
ذلك ( جَزَى اللَّهُ على فِتْياناً على العَوْصِ أشرقت ... سيوفهم تحت العَجاجَة
بالدَّمِ ) الأبيات وقال الشنفرى في ذلك (
دَعِيني وقُولي بعد ما شئتِ إنني ... سيفدى بنَفْسي
مَرَّةً فأُغيَّبُ ) الأبيات وقال الشنفرى أيضا ( ألا هل أَتَى عَنَّا سُعادَ ودُونَها
... مهامِهُ بِيدٍ تعْتَلي بالصعالِكِ
) ( بأَنّا صَبَحْنا القوم في حُرّ دارِهِم ... حِمامَ
المنايا بالسُّيوف البَواتِك )
( قَتَلْنا بعمرو منهمُ خيْرَ فارس ... يزيدَ وسعدا
وابنَ عوفٍ بمالك ) ( ظَلَلْنا نُفَرِّي بالسّيوف رُؤوُسَهم ... ونَرشُقهم بالنَّبْل
بين الدَّكَادِك ) كان ضعيفا أمام النساء قال وخرج تأبط في سرية من قومه فيهم
عمرو بن براق ومرة بن خليف والمسيب بن كلاب وعامر بن الأخنس وهو رأس القوم وكعب حدار
وريش كعب والسمع وشريس بنو جابر إخوة تأبط شرا وسعد ومالك ابنا الأقرع حتى مروا
ببني نفاثة بن الديل وهم يريدون الغارة عليهم فباتوا في جبل مطل عليهم فلما كان في
وجه السحر أخذ عامر بن الأخنس قوسه فوجد وترها مسترخيا فجعل يوترها ويقول له تأبط
بعض حطيط وترك يا عامر وسمعه شيخ من بني نفاثة فقال لبنات له أنصتن فهذه والله
غارة لبني ليث وكان الذي بينهم يومئذ متفاقما في قتل حميصة بن قيس أخي بلعاء
وكانوا أصابوه خطأ وكانت بنو نفاثة في غزوة والحي خلوف وليس عندهم غير أشياخ
وغلمان لا طباخ بهم فقالت امرأة منهم اجهروا الكلام والبسوا السلاح فإن لنا عدة فو
اللات ما هم إلا تأبط وأصحابه فبرزن مع نوفل وأصحابه فلما بصر بهم قال انصرفوا فإن
القوم قد نذروا بكم فأبوا عليه إلا الغارة فسل تأبط سيفه وقال لئن أغرتم عليهم
لأتكئن على سيفي حتى أنفذه من ظهري فانصرفوا ولا يحسبون إلا أن النساء رجال حتى
مروا بإبل البلعاء بن قيس بقرب المنازل فأطردوها فلحقهم غلام من بني جندع بن ليث
فقال يا عامر بن الأخنس أتهاب نساء بني نفاثة وتغير على رجال بني ليث هذه والله
إبل لبلعاء بن قيس فقال له عامر أو كان رجالهم خلوفا قال نعم قال أقرئ بلعاء مني
السلام وأخبره بردي إبله وأعلمه أني قد حبست منها بكرا لأصحابي فإنا قد أرملنا فقال
الغلام لئن حبست منها هلبة لأعلمنه ولا أطرد منها بعيرا أبدا فحمل عليه تأبط فقتله
ومضوا بالإبل إلى قومهم فقال في ذلك تأبط ( ألا عَجِب الفِتْيان من أمّ مالك ...
تقول أراك اليوم أشعثَ أغبرا )
( تَبوعاً لآثار السَّريَّة بعد ما ... رأيتُك بَرَّاق
المَفارق أَيْسرا ) ( فقلتُ له يَوْمان يَومُ إقامة ... أهزّ به غُصْناً من البانِ
أخضرا ) ( ويومٌ أهزّ السَّيفَ في جيد أغيد ... له نِسوةٌ لم تلق مثلي أنكرا ) ( يخفن عليه وهو
ينزِع نفسَه ... لقد كنت أبّاء الظلامة قَسْورا ) ( وقد صِحْت في آثار حَوْم كأنها ...
عَذارَى عُقيل أو بَكارةُ حِمْيرا
) ( أبعد النّفاثيَين آمل طرقةً ... وآسَى على شيء إذا
هو أَدْبَرا ) ( أكفكِف عنهم صُحْبَتي وإخالهم ... من الذلّ يَعْراً بالتّلاعة
أَعْفَرَا ) ( فلو نالت الكَفَّان أصحابَ نوفل ... بمهمهةٍ من بطن ظَرْء
فعَرْعَرَا )
( ولمّا أَبَى الليثيُّ إلا تَهَكُّماً ... بِعرضي وكان
العِرضُ عِرضي أوفرا ) ( فقلت له حقَّ الثناءُ فإنّني ... سأذهب حتى لم أجد متأخَّرَا ) ( ولما رأيتُ
الجَهْلَ زاد لَجاجةً ... يقول فلا يأْلوك أَن تَتَشَوَّرَا ) ( دنوت له حتى كَأنَّ قَميصَه ...
تَشرَّب من نضح الأَخادِع عُصْفُرا
) ( فمن مُبَلغٌ ليثُ بنَ بكرٍ بأننَّا ... تركنا أخاهم
يوم قِرْنٍ مُعَفَّرا ) قال غزا تأبط بني نفاثة بن الديل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة
وهم خلوف ليس في دارهم رجل وكان الخبر قد أتى تأبط فأشرف فوق جبل ينظر إلى الحي
وهم أسفل منه فرأته امرأة فطرح نفسه فعلمت المرأة أنه تأبط وكانت عاقلة فأمرت النساء
فلبسن لبسة الرجال ثم خرجن كأنهن يطلبن الضالة وكان أصحابه يتفلتون ويقولون اغز
وإنما كان في سرية من بين الستة إلى السبعة فأبى أن يدعهم وخرج يريد هذيلا وانصرف
عن النفاثيين فبينا هو يتردد في تلك الجبال إذ لقي حليفا له من هذيل فقال له العجب
لك يا تأبط قال وما هو قال إن رجال بني نفاثة كانوا خلوفا فمكرت بك امرأة وأنهم قد
رجعوا ففي ذلك يقول ( ألا عَجِب الفِتيان من أمّ مالك ... تقول لقد أصبحت أشعثَ
أغبرا ) وذكر باقي الأبيات المتقدمة وقال غيره لا بل قال هذه القصيدة في عامر بن
الأخنس الفهمي وكان من حديث عامر بن الأخنس انه غزا في نفر بضعة وعشرين رجلا فيهم
عامر بن الأخنس وكان سيدا فيهم وكان إذا خرج في غزو رأسهم وكان يقال له سيد
الصعاليك فخرج بهم حتى باتوا على بني نفاثة بن عدي بن الديل ممسين ينتظرون أن ينام
الحي حتى إذا كان في سواد الليل مر بهم راع من الحي قد أغدر فمعه غديرته يسوقها
فبصر بهم وبمكانهم فخلى الغديرة وتبع الضراء ضراء الوادي حتى جاء الحي فأخبرهم بمكان
القوم وحيث رآهم فقاموا فاختاروا فتيان الحي فسلحوهم وأقبلوا نحوهم حتى إذا دنوا
منهم قال رجل من النفاثيين والله ما قوسي بموترة فقالوا فأوتر قوسك فوضع قوسه
فأوترها فقال تأبط لأصحابه اسكتوا واستمع فقال أتيتم والله قالوا وما ذلك قال أنا
والله أسمع حطيط وترقوس قالوا والله ما نسمع شيئا قال بلى والله إني لأسمعه يا قوم
النجاء قالوا لا والله ما سمعت شيئا فوثب فانطلق وتركهم ووثب معه نفر وبيتهم بنو
نفاثة فلم يفلت منهم إنسان وخرج هو وأصحابه الذين انطلقوا معه وقتل تلك الليلة
عامر بن الأخنس قال ابن عمير وسألت أهل الحجاز عن عامر بن الأخنس فزعموا أنه مات
على فراشه فلما رجع تأبط قالت له امرأته تركت أصحابك فقال حينئذ ( ألا عَجِب
الفِتيان من أُمّ مالِك ... تقول لقد أصبحْتَ أشعثَ أغْبَرا ) مصرعه على يد غلام فلما رجع تأبط
وبلغه ما لقي أصحابه قال والله ما يمس رأسي غسل ولادهن حتى أثأر بهم فخرج في نفر
من قومه حتى عرض لهم بيت من هذيل بين صوى جبل فقال اغنموا هذا البيت أولا قالوا لا
والله ما لنا فيه أرب ولئن كانت فيه غنيمة ما نستطيع أن نسوقها فقال إني أتفاءل أن
أنزل ووقف وأتت به ضبع من يساره فكرهها وعاف على غير الذي رأى فقال أبشري أشبعك من
القوم غدا فقال له أصحابه ويحك انطلق فو الله ما نرى أن نقيم عليها قال لا والله
لا أريم حتى أصبح وأتت به ضبع عن يساره فقال أشبعك من القوم غدا فقال أحد القوم
والله إني أرى هاتين غدا بك فقال لا والله لا أريم حتى أصبح فبات حتى إذا كان في
وجه الصبح وقد رأى أهل البيت وعدهم على النار وأبصر سواد غلام من القوم دون
المحتلم وغدوا على القوم فقتلوا شيخا وعجوزا وحازوا جاريتين وإبلا ثم قال تأبط إني
قد رأيت معهم غلاما فأين الغلام الذي كان معهم فأبصر أثره فاتبعه فقال له أصحابه
ويلك دعه فإنك لا تريد منه شيئا فاتبعه واستتر الغلام بقتادة إلى جنب صخرة وأقبل
تأبط يقصه وفوق الغلام سهما حين رأى انه لا ينجيه شيء وأمهله حتى إذا دنا منه قفز
قفزة فوثب على الصخرة وأرسل السهم فلم يسمع تأبط إلى الحبضة فرفع رأسه فانتظم
السهم قلبه وأقبل نحوه وهو يقول لا بأس فقال الغلام لا بأس والله لقد وضعته حيث
تكره وغشيه تأبط بالسيف وجعل الغلام يلوذ بالقتادة ويضر بها تأبط بحشاشته فيأخذ ما
أصابت الضربة منها حتى خلص إليه فقتله ثم نزل إلى أصحابه يجر رجله فلما رأوه وثبوا
ولم يدروا ما أصابه فقالوا مالك فلم ينطق ومات في أيديهم فانطلقوا وتركوه فجعل لا
يأكل منه سبع ولا طائر إلا مات فاحتملته هذيل فألقته في غار يقال له غار رخمان
فقالت ريطة أخته وهي يومئذ متزوجة في بني الديل ( نِعْم الفَتَى غادَرتُم برُخمانْ ...
ثابتٌ بنُ جابرِ بنِ سُفْيانْ )
وقال مرة بن خليف يرثيه ( إن العَزيمةَ والعَزَّاءَ قد ثَوَيا
... أكفانَ ميت غدا في غار رُخْمانِ
) ( إلاّ يَكُن كُرسفٌ كُفِّنتَ جَيّدَه ... ولا يكن
كَفَنٌ من ثَوْبِ كَتَّانِ ) ( فإن حُراًّ من الأَنْساب ألبسه ... ريش الندى والنَّدَى من خير
أَكفان ) ( وليلةٍ رأسُ أفعاها إلى حجرٍ ... ويومِ أورِ من الجوزاءِ رنَّان ) ( أمضيتَ أولَ
رهطٍ عند آخره ... فَي إثر عاديةٍ أو إثر فتيان ) وقالت أم تأبط ترثيه ( وابناهُ وابنَ
اللَّيْل ... ) قال أبو عمرو الشيباني لا بل كان من شأن تأبط وهو ثابت بن جابر
بن سفيان وكان جزيئا شاعرا فاتكا انه خرج من أهله بغارة من قومه يريدون بني صاهلة
بن كاهل بن الحارث بن سعيد بن هذيل وذلك في عقب شهر حرام مما كان يحرم أهل الجاهلية
حتى هبط صدر أدم وخفض عن جماعة بني صاهلة فاستقبل التلاعة فوجد بها دارا من بني
نفاثة بن عدي ليس فيها إلا النساء غير رجل واحد فبصر الرجل بتأبط وخشيه وذلك في
الضحى فقام الرجل إلى النساء فأمرهن فجعلن رؤوسهن جمما وجعلن دروعهن أردية وأخذن
من بيوتهن عمدا كهيئة السيوف فجعلن لها حمائل ثم تأبطنها ثم نهض ونهضن معه يغريهن
كما يغري القوم وأمرهن أن لا يبرزن خدا وجعل هو يبرز للقوم ليروه وطفق يغري ويصيح
على القوم حتى أفزع تأبط شرا وأصحابه وهو على ذلك يغري في بقية ليلة أوليلتين من
الشهر الحرام فنهضوا في شعب يقال له شعب وشل وتأبط ينهض في الشعب مع أصحابه ثم يقف
في آخرهم ثم يقول يا قوم لكأنما يطردكم النساء فيصيح عليه أصحابه فيقولون انج
أدركك القوم وتأبى نفسه فلم يزل به أصحابه حتى مضى معهم فقال تأبط في ذلك ( أبعد النّفاثيين
أزجر طائرا ... وآسَى على شيء إذا هو أدبرا ) ( أُنهنهِ رِجلي عنهم وإخالهم ... من
الذّلَ يعراً بالتّلاعة أعفرا )
( ولو نالت الكَفّان أصحابَ نوفل ... بمَهْمَهَة من بين
ظَرْء وعرعرا ) قال ثم طلعوا الصدر حين أصبحوا فوجدوا أهل بيت شاذ من بني قريم
ذنب نمار فظل يراقبهم حتى أمسوا وذلك البيت لساعدة بن سفيان أحد بني حارثة بن قريم
فحصرهم تأبط وأصحابه حتى أمسوا قال وقد كانت قالت وليدة لساعدة إني قد رأيت اليوم
القوم أو النفر بهذا الجبل فبات الشيخ حذرا قائما بسيفه بساحة أهله وانتظر تأبط
وأصحابه أن يغفل الشيخ وذلك آخر ليلة من الشهر الحرام فلما خشوا أن يفضحهم الصبح
ولم يقدروا على غرة مشوا إليه وغروه ببقية الشهر الحرام وأعطوه من مواثيقهم ما
أقنعه وشكوا إليه الجوع فلما اطمأن إليهم وثبوا عليه فقتلوه وابنا له صغيرا حين
مشى قال ومضى تأبط شرا إلى ابن له ذي ذؤابة كان أبوه قد أمره فارتبأ من وراء ماله
يقال له سفيان بن ساعدة فأقبل إليه تأبط شرا مستترا بمجنة فلما خشي الغلام أن
يناله تأبط بسيفه مع الغلام سيف وهو مفوق سهما رمى مجن تأبط بحجر فظن تأبط انه قد
أرسل سهمه فرمى مجنة عن يده ومشى إليه فأرسل الغلام سهمه فلم يخط لبته حتى خرج منه
السهم ووقع في البطحاء حذو القوم وأبوه ممسك فقال أبو الغلام حين وقع السهم أخاطئه
سفيان فحرد القوم فذلك حين قتلوا الشيخ وابنه الصغير ومات تأبط أمه ترثيه فقالت
أمه وكانت امرأة من بني القين بن جسر بن قضاعة ترثيه ( قتِيلٌ ما قتِيلُ بني قُرَيْمٍ ... إذا
ضَنّت جُمادى بالقَطارِ ) ( فتى فَهْمٍ جميعا غادَروُه ... مقيما بالحُرَيْضَةِ من نُمارِ ) وقالت أمه ترثيه
أيضا ( ويلُ امِّ طِرف غادروا برُخْمانْ ... بثابت بن جابر بن سفيان ) ( يجدِّل
القرِنَ ويُروِي النَّدمانْ ... ذو مأْقِطٍ يحمي وراء الإِخوان ) وقالت ترثيه
أيضا وابناه ابن الليل ليس بزميل شروب للقيل رقود بالليل وواد ذي هول أجزت بالليل
تضرب بالذيل برجل كالثول قال وكان تأبط شرا يقول قبل ذلك ( ولقد علمتُ لتعدُوَنَّم ... عليّ شتْمٌ
كالحساكل ) ( ياكلنَ أوصالا ولحما ... كالشَّكاعِي غيرَ جاذِل ) ( يا طيرُ كُلْنَ فإنني ... سُمٌّ
لَكُنّ وذو دَغَاوِل ) وقال قبل موته (
لعلي ميِّتٌ كمداً ولَّما ... أطالع أهلَ ضيم فالكرابِ ) ( وإن لم آتِ
جمع بني خُثيم ... وكاهلها برَجْل كالضّباب ) ( إذا وقعتُ بكعب أو قُرَيْمٍ ...
وسيَّارٍ فياسَوْغَ الشّراب ) فأجابه شاعر من بني قريم ( تأَبّطَ سَوْأَةً وحملْتَ شرًّا ...
لعلك أن تكونَ من المُصابِ ) ( لعلك أن تجيءَ بك المنايا ... تُساقُ لفتيةٍ منا غِضاب ) ( فتُصْبحَ في
مَكَرِّهمُ صريعاً ... وتصبحَ طرفة الضَّبُعِ السَّغاب ) ( فزلتم تهربون ولو كرهتم ... تسوقون
الحَرائمَ بالنقاب ) ( وزال بأَرضكم منّا غلامٌ ... طليعةُ فتْيَةٍ غُلْبِ الرقاب ) ونذكر ها هنا
بعد أخبار تأبط شرا أخبار صاحبيه عمرو بن براق والشنفرى ونبدأ بما يغنى فيه من
شعريهما ونتبعه بالأخبار فأما عمرو بن براق فمما يغنى فيه من شعره قوله صوت ( متى
تجمع القلبَ الذكيَّ وصارما ... وأنفا حَمِيَّا تجتنبْك المَظالِمُ ) ( وكنت إذا قومٌ
غَزوْني غَزَوتهم ... فهل أنا في ذا يا لَهَمْدَانَ ظَالِم ) ( كذبتُم وبيتِ الله لا تأخذونها ...
مراغمةً ما دام للسيف قائِم ) (
ولا صُلْحَ حتى تعثُر الخَيلُ بالقَنا ... وتُضْرَبَ
بالبِيضِ الرّقاقِ الجَماجِمُ )
عروضه من الطويل الشعر لابن براق وقيل ابن براقة والغناء
لمحمد ابن إسحاق بن عمرو بن بزيع ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى عن الهشامي عمرو بن
براق أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا السكري عن ابن حبيب قال واخبرنا
الهمداني ثعلب عن ابن الأعرابي عن المفضل قالا سلب منه ماله ثم استرده فقال في ذلك
أغار رجل من همدان يقال له حريم على إبل لعمرو بن براق وخيل فذهب بها فأتى عمرو
امرأة كان يتحدث إليها ويزورها فأخبرها أن حريما أغار على إبله وخيله فذهب بها
وأنه يريد الغارة عليه فقالت له المرأة ويحك لا تعرض لتلفات حريم فإني أخافه عليك
قال فخالفها وأغار عليه فاستاق كل شيء كان له فأتاه حريم بعد ذلك يطلب إليه أن يرد
عليه ما أخذه منه فقال لا أفعل وأبى عليه فانصرف فقال عمرو في ذلك ( تقول سُلَيمى لا
تعَرَّضْ لتَلفةٍ ... وليلُك عن ليل الصعاليك نائمُ ) ( وكيف ينامُ الليلَ من جُلّ مالِهِ
... حُسامٌ كلون المِلح أَبيضُ صارمُ
) ( صَمُوتٌ إذا عضَّ الكريهةَ لم يَدَعْ ... لها طَمعاً
طوعُ اليمينِ ملازمُ ) ( نَقدْتُ به ألْفاً وسامحتُ دونه ... على النقدِ إذ لا تُستطاع
الدراهمُ ) ( ألم تَعلمي أنّ الصعاليكَ نومُهم ... قليلٌ إذا نام الدَّثُور المُسالِمْ ) ( إذا الليل أدجى
واكفهرّت نجومه ... وصاح من الإِفراطِ هامٌ جواثم ) ( ومال بأصحاب الكرى غالباتُه ...
فإني على أمر الغَواية حازم ) (
كذبتم وبيتِ الله لا تأخذونها ... مُراغمةً ما دام للسيف
قائمُ ) ( تَحالفَ أقوامٌ عليّ ليسمَنُوا ... وجروا عليَّ الحَرْبَ إذا أَنَا سَالِمُ ) ( أَفَالآن
أُدْعى للهَوادة بعدما ... أُجِيل على الحيّ المَذاكِي الصَّلادمُ ) ( كأنّ حُريماً
إذ رجا أن يَضُمَّها ... ويُذْهِبَ مالي يا بنَة القوم حالِمُ ) ( متى تجمعِ
القلبَ الذَّكِيَّ وصارِماً ... وأنفاً حَميًّا تَجْتَنْبك المظالِمُ ) ( ومَن يَطلبِ
المالَ المُمَنَّع بالقَنَا ... يَعِشْ ذا غِنىً أو تَخْتَرِمْه المَخارِمُ ) ( وكنتُ إذا
قومٌ غَزوني غزَوْتُهم ... فهل أنا في ذا يالَهمْدان ظالم ) ( فلا صُلْح حتى تعثر الخَيل بالقنا
... وتُضْرب بالبِيض الرِّقاقِ الجَماجِمُ ) وأما الشنفرى فإنه رجل من الأزد ثم من
الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد ومما يغنى فيه من شعره قوله صوت ( ألا أمٍّ
عَمْرو أزمعت فاستقَلَّت ... وما ودَّعت جِيرانها إذ تولّت ) ( فوانَدَما بانَت أُمامةُ بعدما ...
طَمِعتُ فهَبْها نِعْمةً قد تولّتِ
) ( وقد أعجَبتْنِي لا سَقُوطاً خِمارُها ... إذا ما
مشَت ولا بذاتِ تَلَفُّتِ ) غنى في هذه الأبيات إبراهيم ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو بن بانة
أخبار الشنفرى ونسبه أخبار في غير قومه وأخبرني بخبره الحرمي بن أبي العلاء قال
حدثنا أبو يحيى المؤدب وأحمد ابن أبي المنهال المهلبي عن مؤرج عن أبي هشام محمد بن
هشام النميري أن الشنفرى كان من الأواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد بن الغوث أسرته
بنو شبابة بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان فلم يزل فيهم حتى أسرت بنو سلامان بن مفرج
بن عوف بن ميدعان بن مالك بن الأزد رجلا من فهم أحد بني شبابة ففدته بنو شبابة
بالشنفرى قال فكان الشنفرى في بني سلامان بن مفرج لا تحسبه إلا أحدهم حتى نازعته
بنت الرجل الذي كان في حجره وكان السلامي اتخذه ولدا وأحسن إليه وأعطاه فقال لها
الشنفرى اغسلي رأسي يا أخية وهو لا يشك في أنها أخته فأنكرت أن يكون أخاها ولطمته
فذهب مغاضبا حتى أتى الذي اشتراه من فهم فقال له الشنفرى اصدقني ممن أنا قال أنت
من الأواس بن الحجر فقال أما إني لن أدعكم حتى أقتل منكم مائة بما استعبدتموني ثم
إنه ما زال يقتلهم حتى قتل تسعة وتسعين رجلا وقال الشنفرى للجارية السلامية التي
لطمته وقالت لست بأخي ( ألا ليتَ شِعْري والتّلَهّفُ ضَلّةٌ ... بما ضَربتْ كَفُّ
الفتاة هَجِينَها ) ( ولو علمت قُعسوسُ أنساب والدي ... ووالدِها ظَلّت تقاصَرُ
دونها ) ( أنا ابن خيار الحُجْر بيتا ومَنْصِبا ... وأمي ابنةُ الأحرار لوْ تعْرِفينها ) قال ثم لزم
الشنفرى دار فهم فكان يغير على الأزد على رجليه فيمن تبعه من فهم وكان يغير وحده
أكثر من ذلك وقال الشنفرى لبني سلامان (
وإني لأهوىَ أن أَلُفَّ عجَاجتي ... على ذي كساء من
سَلامانَ أَو بُرد ) ( وأصبحَ بالعضْدَاء أبغي سَراتَهم ... وأسلكَ خَلاًّ بين أَرباع
والسّرد ) فكان يقتل بني سلامان بن مفرج حتى قعد له رهط من الغامديين من بني الرمداء
فأعجزهم فأشلوا عليه كلبا لهم يقال له حبيش ولم يضعوا له شيئا ومر وهو هارب بقرية
يقال لها دحيس برجلين من بني سلامان بن مفرج فأرادهما ثم خشي الطلب فقال ( قتيلَيْ فِجارٍ
أنتُما إن قُتِلتُما ... بجوف دَحِيس أو تبالةَ يا اسمعا ) يريد يا هذان اسمعا وقال فيما كان
يطالب به بني سلامان ( فإلا تزرني حَتْفتي أو تُلاقني ... أُمشِّ بدَهْرٍ أو عذافَ
فنوَّرا ) ( أمشي بأطراف الحماطِ وتارةً ... تُنفِّضُ رجلي بَسْبُطاً فعَصَنْصَرا ) ( وأبغي بني
صَعب بن مُرّ بلادَهم ... وسوف أُلاقيهم إنِ اللَّهُ يسّرا ) ( ويوما بذاتِ الرَّأس أو بطن مِنجَلٍ
... هنالك تَلْقى القاصيَ المُتِغَوّرا
) سملوا عينه ثم قتلوه قال ثم قعد له بعد ذلك أسيد بن
جابر السلاماني وخازم الفهمي بالناصف من أبيدة ومع أسيد ابن أخيه فمر عليهم
الشنفرى فأبصر السواد بالليل فرماه وكان لا يرى سوادا إلا رماه كائنا ما كان فشك
ذراع ابن أخي أسيد إلى عضده فلم يتكلم فقال الشنفرى إن كنت شيئا فقد أصبتك وإن لم
تكن شيئا فقد أمنتك وكان خازم باطحا يعني منبطحا بالطريق يرصده فنادى أسيد يا خازم
أصلت يعني اسلل سيفك فقال الشنفرى لكل أصلت فأصلت الشنفرى فقطع إصبعين من أصابع
خازم الخنصر والبنصر وضبطه خازم حتى لحقه أسيد وابن أخيه نجدة فأخذ أسيد سلاح
الشنفرى وقد صرع الشنفرى خازما وابن أخي أسيد فضبطاه وهما تحته وأخذ أسيد برجل ابن
أخيه فقال أسيد رجل من هذه فقل الشنفرى رجلي فقال ابن أخي أسيد بل هي رجلي يا عم
فأسروا الشنفرى وأدوه إلى أهلهم وقالوا له أنشدنا فقال إنما النشيد على المسرة
فذهبت مثلا ثم ضربوا يده فتعرضت أي اضطربت فقال الشنفرى في ذلك ( لا تَبْعَدي
إِمّا ذَهَبْتِ شامَهْ ... فرُبّ وادٍ نَفَرَتْ حَمامَه ) ( ورُبَّ قِرْنٍ فَصَلتْ عِظامَهْ ... ) ثم قال له
السلامي أأطرفك ثم رماه في عينه فقال الشنفرى له كأن كنا نفعل أي كذلك كنا نفعل
وكان الشنفرى إذا رمى رجلا منهم قال له أأطرفك ثم يرمي عينه ثم قالوا له حين
أرادوا قتله أين نقبرك فقال ( لا تَقبُروني إنّ قَبري مُحرَّم ... عليكم ولكن أبشرِي أُمَّ
عامر ) ( إذا احْتمَلَتْ رأسي وفي الرأس أكثَري ... وغُودِر عند المُلْتَقَى ثَمّ سائِرِي ) ( هنالك لا أرجو
حياةً تَسُرُّنِي ... سَمِيرَ الليالي مُبْسَلاً بالجَرَائِر ) تأبط شرا يرثيه وقال تأبط شرا يرثي
الشنفرى ( على الشَّنْفَرَى ساري الغمام ورائحٌ ... غزيرُ الكلى وَصَيِّبُ الماء باكر ) ( عليك جزاءٌ
مثلُ يومِكَ بالجَبَا ... وقد أُرعِفتْ منك السُّيوفُ البواتر ) ( ويومِكَ يومِ
العَيْكَتَيْن وعطفةٍ ... عطفتَ وقد مَسَّ القلُوبَ الحناجِرُ ) ( تجول ببز
الموت فيهم كأَنهم ... بشوكتك الحُدّى ضَئِينٌ نوافرُ ) ( فإنك لو لاقيتني بعدما ترى ... وهل
يُلقَيْن مَنْ غَيَّبته المقابر
) ( لألفيتني في غارة أنتمي بها ... إِليك وإمّا راجعاً
أنا ثاِئرُ ) ( وإن تكُ مأْسورا وظلْت مُخَيِّماً ... وأبْليت حتى ما يكيدك
واتِرُ ) ( وحتى رماك الشَّيبُ في الرأس عانسا ... وخيرُك مبسوطٌ وزادك حاضر ) ( وأجملُ موتِ
المرء إذ كان ميتا ... ولا بد يوما مَوتُه وهو صابر ) ( فلا يَبعَدنّ الشَّنْفَري وسِلاحُه
الْحَديدُ ... وَشدٌّ خَطْوُه متواتر
) ( إذا راع رَوْعُ الموت راع وإن حَمَى ... معه حُرٌّ
كريم مُصابِرُ ) خبر آخر عن سبب اسره ومقتله قال وقال غيره لا بل كان من أمر
الشنفرى وسبب أسره ومقتله أن الأزد قتلت الحارث بن السائب الفهمي فأبوا أن يبوءوا
بقتله فباء بقتله رجل منهم يقال له حزام بن جابر قبل ذلك فمات أخو الشنفرى فأنشأت أمه
تبكيه فقال الشنفرى وكان أول ما قاله من الشعر ( ليس لوالدة هوءُها ... ولا قولُها
لابنها دَعْدَع ) ( تُطيف وتُحدِث أحوالهَ ... وغيْرُكِ أملكُ بالمَصْرَع ) قال فلما ترعرع
الشنفرى جعل يغير على الأزد مع فهم فيقتل من أدرك منهم ثم قدم منى وبها حزام بن
جابر فقيل له هذا قاتل أبيك فشد عليه فقتله ثم سبق الناس على رجليه فقال ( قتلتُ حزاماً
مُهْدِياً بمُلَبِّدٍ ... ببطن مِنىً وسْط الحجيج المُصَوّتِ ) قال ثم إن رجلا من الأزد أتى أسيد بن
جابر وهو أخو حزام المقتول فقال تركت الشنفرى بسوق حباشة فقال أسيد بن جابر والله
لئن كنت صادقا لا نرجع حتى نأكل من جنى أليف أبيدة فقعد له على الطريق هو وابنا
حزام فأحسوه في جوف الليل وقد نزع نعلا ولبس نعلا ليخفي وطأه فلما سمع الغلامان
وطأه قالا هذه الضبع فقال أسيد ليست الضبع ولكنه الشنفرى ليضع كل واحد منكما نعله
على مقتله حتى إذا رأى سوادهم نكص مليا لينظر هل يتبعه أحد ثم رجع حتى دنا منهم فقال
الغلامان أبصرنا فقال عمهما لا والله ما أبصركما ولكنه أطرد لكيما تتبعاه فليضع كل
وحدا منكما نعله على مقتله فرماهم الشنفرى فخسق في النعل ولم يتحرك المرمي ثم رمى
فانتظم ساقي أسيد فلما رأى ذلك أقبل حتى كان بينهم فوثبوا عليه فأخذوه فشدوه وثاقا
ثم إنهم انطلقوا به إلى قومهم فطرحوه وسطهم فتماروا بينهم في قتله فبعضهم يقول
أخوكم وابنكم فلما رأى ذلك أحد بني حزام ضربه ضربة فقطع يده من الكوع وكانت بها
شامة سوداء فقال الشنفرى حين قطعت يده (
لا تَبَعدي إمّا هلكت شامَهْ ... فربَّ خَرقٍ قَطَعتُ
قتامَهْ ) ( وربَّ قِرْنٍ فصَلت عظامَه
... ) وقال تأبط شرا يرثيه ( لا يبعَدنَّ الشَّنفرى وسلاحُه الحديدُ
... وشَدٌّ خَطْوُه مُتواتر ) (
إذا راع رَوْعَ الموت رِاعَ وإن حَمى ... حَمى معه حُرٌّ
كريمٌ مُصابِرُ ) قال وذرع خطو الشنفرى ليلة قتل فوجد أول نزوة نزاها إحدى
وعشرين خطوة ثم الثانية سبع عشرة خطوة قال وقال ظالم العامر في الشنفرى وغاراته
على الأزد وعجزهم عنه ويحمد أسيد بن جابر في قتله الشنفرى ( فما لَكُم لم تدركوا رٍِجْلَ شنفرى ...
وأنتم خِفاف مثلُ أجنحة الغُرْبِ
) ( تعاديتم حتى إذا ما لحقتُم ... تباطأَ عنكم طالبٌ
وأبو سَقْب ) ( لعمركَ للَسَّاعي أُسَيدُ بن جابِرٍ ... أحقُّ بها مِنْكم
بَنِي عقبِ الكلب ) قال ولما قتل الشنفرى وطرح رأسه مر به رجل منهم فضرب جمجمة
الشنفرى بقدمه فعقرت قدمه فمات منها فتمت به المائة شعره لما قتل حزاما قاتل أبيه
وكان مما قاله الشنفرى فيهم من الشعر وفي لطمه المرأة التي أنكرته الذي ذكرته
واستغني عن إعادته مما تقدم ذكره من شعر الشنفرى وقال الشنفرى في قتله حزاما قاتل
أبيه ( أرى أُمَّ عمرو أجمعت فاستقلَّتِ ... وما ودّعت جيرانَها إذْ تولّتِ ) ( فقد سبقتنا
أُمُّ عمرو بأَمرها ... وقد كان أعناقُ المَطيِّ أظلَّت ) ( فواندمَا على أميمةَ بعدما ...
طمِعتُ فَهبْها نِعمةَ العيش ولَّت
) ( أُميمةُ لا يُخزِي نَثاها حَليلها ... إذا ذُكِر
النسوان عَفَّت وجَلّت ) ( يَحُلّ بمنجاةٍ من اللّوم بيتُها ... إذا ما بُيوتٌ بالمَلامة
حُلَّت ) ( فقد أعجبتني لا سَقُوطٌ قِناعُها ... إذا ما مَشت ولا بذات تَلَفُّت ) ( كأَنّ لها في
الأرض نِسْياً تَقُصُّه ... إذا ما مشت وإن تُحدِّثْك تَبْلِت ) النسي الذي يسقط
من الإنسان وهو لا يدري أين هو يصفها بالحياء وأنها لا تلتفت يمينا ولا شمالا ولا
تبرج ويروى ( تقصه على أمها وإن تُكلِّمك
... ) ( فدَقَّت وجلَّت واسْبَكرَّت وأُكمَلتْ ... فلو
جَنَّ إنسانٌ من الحُسْن جُنَّتِ
) ( تبيتُ بُعَيْدَ النوم تُهدِي غَبُوبَها ... لجاراتِها
إذا الهديّة قَلَّت ) الغبوب ما غب عندها من الطعام أي بات ويروى غبوقها ( فبتنا كأنَّ
البيت حُجِّر حولنا ... بريحانةٍ راحت عِشاءً وطُلَّتِ ) ( بريحانةٍ من بطن حلْيةَ أُمْرِعت
... لها أرجُ مِنْ حَولِها غيْرُ مُسْنت ) ( غدوتُ من الوادي الذي بين مَشْعَل
... وبين الجبَا هيهات أنْسأتُ سُربتي
) ( أمشِّي على الأرض التي لن تضيرَني ... لأكسِبَ مالا
أو أُلاقِيَ حُمَّتِي ) ( إذا ما أتتني حَتْفتي لم أُبالها ... ولم تُذْرِ خالاتي الدموع
وعَمَّتِي ) ( وهُنِّيءَ بي قومٌ وما إن هنأْتُهم ... وأصبحت في قوم وليسوا
بمنْبِتي ) ( وأُمَّ عيالٍ قد شهدتُ تَقُوتُهم ... إذا أطَعَمتْهم أوْتَحَتْ وأقلَّت ) ( تخاف علينا
الجوعَ إن هيَ أكثرت ... ونحن جياعٌ أيَّ أَلْيٍ تأَلَّت ) ( عُفَاهيَةٌ لا يقصرُ السّترُ دونها
... ولا تُرتَجى للبَيْت إن لم تُبَيَّت ) ( لها وَفْضَةٌ فيها ثلاثون سَلْجَماً
... إذَا ما رأَت أُولى العَدِي اقْشَعَرَّت ) ( وتأتي العَدِيَّ بارزاً نصفُ ساقِها
... كَعدْو حِمار العانةِ المتفَلِّت )
( إذا فُزِّعت طارت بأَبيضَ صارمٍ ... وراحت بما في
جُفرها ثم سَلَّت ) ( حُسامٍ كلون الملح صافٍ حديدُه ... جُرَازٍ من أقطار الحديد
المنعَّت ) ( تراها كأَذناب المَطِيّ صوادراً ... وقد نهِلتْ منَ الدّماء وعلّت ) ( سنجزي
سَلامانَ بنَ مُفْرِجَ قرضَهم ... بما قدَّمت أيديهم وأَزَلَّت ) ( شفَيْنا بعبد
الله بعضَ غليلِنا ... وعوفٍ لدى لمَعْدَى أوانَ استهلَّت ) ( قتلنا حزاما مُهدِيا بمُلَبّدٍ ...
محلّهما بين الحجيج المصوِّت )
( فإن تُقبلوا تُقبِل بمَنْ نِيلَ منهمُ ... وإن تُدبروا
فأُمّ مَنْ نيلَ فُتّت ) ( ألا لا تزرني إن تشكيت خُلَّتي ... كفاني بأَعلى ذي الحُمَيرةِ
عُدْوَتي ) ( وإني لُحلوٌ إن أُرِيدت حلاوتي ... ومُرٌّ إذا النفس الصَّدوفُ استَمرَّت ) ( أبيّ لما آبى
وشيكٌ مَفِيئَتي ... إلى كُلِّ نفس تَنْتَحِي بمودّتي ) وقال الشنفرى أيضا ( ومرقبةٍ عَنْقاء
يَقصُرُ دونها ... أخو الضَّرْوة الرّجْل الخفيُّ المخَفَّف ) ( نَميتُ إلى أعلى ذراها وقد دنا ...
من الليل ملتَفُّ الحدِيقةِ أسدَف
) ( فبِتُّ على حَدّ الذّراعين أحدباً ... كما
يَتَطَوَّى الأرقَم المُتَعَطِّفُ
) ( قليلُ جَهازِي غيرُ نعلين أَسحقَت ... صُدورُهما
مخصورةً لا تُخصَّفُ ) ( ومِلْحَفَةٍ دَرْسٍ وَجَرْدِ مُلاَءةٍ ... إذا أنهجت من جانب
لا تَكفّفُ ) ( وأبيضُ من ماء الحديد مهنّدُ ... مِجدٌّ لأطراف السّواعد
مِقطفُ ) ( وصفراءُ من نبعٍ أبيُّ ظَهيرةٌ ... تُرِنّ كإرنان الشّجيَ وَتَهْتِفُ ) ( إذا طال فيها
النزع تأتي بعَجْسها ... وترمي بذَرْوَيْهَا بهنّ فتَقْذِفُ ) ( كأَنّ حفِيفَ النَّبل من فوق عَجْسها
... عوازبُ نحلٍ أخطأَ الغارَ مُطْنِفُ
) ( نأت أمُّ قيسِ المرْبَعَين كليهما ... وتحذَر أن
يَنأَى بها المتصيَّفُ ) ( وإنك لو تَدرينَ أنْ رُبَّ مشربٍ ... مخوفٍ كداء البطن أو هو
أخوفُ ) ( وردتُ بمأثورٍ ونبِلٍ وضالةٍ ... تخيَّرتها مما أَرِيش وأرصُفُ ) ( أُركِّبها في
كل أحمر عاتِرٍ ... وأقذف منهن الذي هو مقرِف ) ( وتابعتُ فيه البّرْيَ حتى تركتُه
... يَزِفُّ إِذا أنفذتُه ويزفزفُ
) ( بِكفّيَ منها للبغيض عُراضَةٌ ... إذا بعتُ خلاَّ ما
له مُتَخَوَّفُ ) ( ووادٍ بعيدِ العُمق ضنكٍ جِماعُه ... بواطِنُه للجنّ والأسْدِ
مأْلَفُ ) ( تعسَّفتُ منه بعد ما سقط الندى ... غَماليل يخشى غِيلَها المُتعسِّفُ ) ( وإني إذا
خَامَ الجبانُ عن الرّدى ... فلِي حيث يُخشى أن يُجاوزَ مخسَف ) ( وإن امرأً
أجار سعدَ بنَ مالكٍ ... عليّ وأثوابِ الأُقَيْصِرِ يَعْنُف ) وقال الشنفرى أيضا ( ومُستبسلٍ ضافي
القميصِ ضَغَتُّه ... بأَزرقَ لا نِكسٍ ولا مُتَعَوِّج ) ( عليه نُسارِيٌ على خُوطِ نَبْعةٍ
... وفُوقٌ كعرقوب القطاة مُحَدْرَج
) ( وقاربتُ من كفَّيَّ ثم فَرَجتها ... بنزع إذا ما
استُكرِه النزعُ مُخْلِج ) ( فصاحت بكفي صيحةً ثم رجَّعَت ... أنينَ الأمِيم ذي الجراح
المُشجَّج ) وقد روى فناحت بكفي نوحة رواية ثالثة في مقتله وقال غيره لا بل كان من أمر
الشنفرى انه سبت بنو سلامان بن مفرج ابن مالك بن هوازن بن كعب بن عبد الله بن مالك
بن نصر بن الأزد الشنفرى وهو أحد بني ربيعة بن الحجر بن عمران بن عمرو بن حارثة بن
ثعلبة بن امرئ القيس بن مازن بن الأزد وهو غلام فجعله الذي سباه في بهمة يرعاها مع
ابنه له فلما خلا بها الشنفرى أهوى ليقبلها فصكت وجهه ثم سعت إلى أبيها فأخبرته فخرج
إليه ليقتله فوجده وهو يقول ( أَلاَ هل أَتى فِتيانَ قومي جَماعةً ... بما لطمت كفُّ الفتاة
هجينها ) ( ولو علمتْ تلك الفتاةُ مَناسبي ... ونسبتها ظلَّت تقَاصَرُ دونها ) ( أليس أبي خيرَ
الأَواسِ وغيرِها ... وأُميّ ابنةُ الخَيْرِينَ لو تَعلمينها ) ( إذا ما أَرُومُ الودَّ بيني وبينها
... يؤمُّ بياضُ الوجه منّي يمينَها
) قال فلما سمع قوله سأله ممن هو فقال أنا الشنفرى أخو
بني الحارث بن ربيعة وكان من أقبح الناس وجها فقال له لولا أني أخاف أن يقتلني بنو
سلامان لأنكحتك ابنتي فقال علي إن قتلوك أن أقتل بك مائة رجل منهم فأنكحه ابنته
وخلى سبيله فسار بها إلى قومه فشدت بنو سلامان خلافه على الرجل فقتلوه فلما بلغه
ذلك سكت ولم يظهر جزعا عليه وطفق يصنع النبل ويجعل أفواقها من القرون والعظام ثم
إن امرأته بنت السلاماني قالت له ذات يوم لقد خست بميثاق أبي عليك فقال ( كأَن قَدْ فلا
يغْرُرْكِ مني تمَكُّثِي ... سلكتُ طريقا بين يُرْبَغ فالسَّردِ ) ( وإنِّي زعيمٌ
أن تثور عَجاَجتي ... على ذي كِساءٍ من سَلامان أو بُرد ) ( همُ عرفوني ناشئاً ذا مَخيِلة ...
أُمشِّي خلال الدار كالفرس الوَرْدِ
) ( كأَني إذا لم يُمسِ في الحي مالك ... بتيهاء لا
أُهدَي السَّبِيلَ ولا أَهدِي )
قال ثم غزاهم فجعل يقتلهم ويعرفون نبله بأفواقها في
قتلاهم حتى قتل منهم تسعة وتسعين رجلا ثم غزاهم غزوة فنذروا به فخرج هاربا وخرجوا
في إثره فمر بامرأة منهم يلتمس الماء فعرفته فأطعمته أقطا ليزيد عطشا ثم استسقى
فسقته رائبا ثم غيبت عنه الماء ثم خرج من عندها وجاءها القوم فأخبرتهم خبره ووصفت صفته
وصفة نبله فعرفوه فرصدوه على ركي لهم وهو ركي ليس لهم ماء غيره فلما جن عليه الليل
أقبل إلى الماء فلما دنا منه قال إني أراكم وليس يرى أحدا إنما يريد بذلك أن يخرج
رصدا إن كان ثم فأصاخ القوم وسكتوا ورأى سوادا وقد كانوا أجمعوا قبل إن قتل منهم
قتيل أن يمسكه الذي إلى جنبه لئلا تكون حركة قال فرمى لما أبصر السواد فأصاب رجلا
فقتله فلم يتحرك أحد فلما رأى ذلك أمن في نفسه وأقبل إلى الركي فوضع سلاحه ثم
انحدر فيه فلم يرعه إلا بهم على رأسه قد أخذوا سلاحه فنزا ليخرج فضرب بعضهم شماله
فسقطت فأخذها فرمى بها كبد الرجل فخر عنده في القليب فوطئ على رقبته فدقها وقال في
قطع شماله ( لا تبعَدِي إِمَّا ذهبتِ شامهْ ... فرُبَّ وادٍ نَفَرتْ حَمَامَهُ ) ( وربّ قِرْنٍ
فَصَلَتْ عظامَهْ ... وربَّ حيٍّ فرَّقت سَوامَهْ ) قال ثم خرج إليهم فقتلوه وصلبوه فلبث
عاما أو عامين مصلوبا وعليه من نذره رجل قال فجاء رجل منهم كان غائبا فمر به وقد
سقط فركض رأسه برجله فدخل فيها عظم من رأسه فعلت عليه فمات منها فكان ذلك الرجل هو
تمام المائة صوت ( ألا طرقتْ في الدّجى زينبُ ... وأحببْ بزينبَ إذ تَطْرُقُ ) ( عجبتُ لزينبَ
أَنَّى سَرَت ... وزينبُ من ظلّها تَفرَق ) عروضه من المتقارب الشعر لابن رهيمة
والغناء لخليل المعلم رمل بالبنصر عن الهشامي وأبي أيوب المدني أخبار الخليل ونسبه
هو الخليل بن عمرو مكي مولى بني عامر بن لؤي مقل لا تعرف له صنعة غير هذا الصوت أخبرني
الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد
قال حدثني القطراني المغني عن محمد بن حسين قال عمل في تأديب الصبيان وتعليم
الجواري الغناء كان خليل المعلم يلقب خليلان وكان يؤدب الصبيان ويلقنهم القرآن
والخط ويعلم الجواري الغناء في موضع واحد فحدثني من حضره قال كنت يوما عنده وهو
يردد على صبي يقرأ بين يديه ( ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله
بغير علم ) ثم يلتفت إلى صبية بين يديه فيردد عليها ( اعتادَ هذا القلبَ بلبالُهُ ... أن
قُرِّبتْ للبَيْنِ أَجمالُهُ ) فضحكت ضحكا مفرطا لما فعله فالتفت الي فقال ويلك مالك فقلت
أتنكر ضحكي مما تفعل والله ما سبقك إلى هذا أحد ثم قلت أنظر أي شيء أخذت على الصبي
من القرآن وأي شيء هوذا على الصبية والله إني لأظنك ممن يشتري لهو الحديث ليضل عن
سبيل الله فقال أرجو ألا أكون كذلك إن شاء الله أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال
حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثني عبد الصمد بن المعذل قال كان خليلان المعلم
أحسن الناس غناء وأفتاهم وأفصحهم فدخل يوما على عقبة بن سلم الأزدي الهنائي
فاحتبسه عنده فأكل معه ثم شرب وحانت منة التفاتة فرأى عودا معلقا فعلم أنه عرض له
به فدعا به وأخذه فغناهم ( يا بنةَ الأزديّ قلبي كَئِيبُ ... مُستَهام عندها ما يُنيِبُ ) وحانت منه التفاتة
فرأى وجه عقبة بن سلم متغيرا وقد ظن أنه عرض به ففطن لما أراد فغنى ( ألا هّزِئت بِنا
قُرَشِيَّة ... يهتزُّ موكِبُها
) فسري عن عقبة وشرب فلما فرغ وضع العود من حجره وحلف
بالطلاق ثلاثا أنه لا يغني بعد يومه ذلك إلا لمن يجوز حكمه عليه نسبة هذين الصوتين
( يا بنةَ الأَزدْيِّ قلبي كئيبُ ... مستهام عندها ما يُنِيبُ ) ( ولقد لاموا
فقلتُ دعوني ... إنّ مَنْ تَنهوْنَ عنه حَبِيبُ ) ( إنما أبلَى عِظامِي وجٍسْمِي ...
حُبُّها والحُبُّ شيءٌ عَجِيبُ
) ( أيها العائِبُ عندي هواهاَ ... أنتَ تَفدي مَن أراك
تَعِيبُ ) عروضه من المديد والشعر لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه والغناء
لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه لمالك خفيف ثقيل أول
بالخنصر في مجرى البنصر عنه وفيه خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى لم ينسبه إسحاق
إلى أحد ووجدته في روايات لا أثق بها منسوبا إلى حنين وقد ذكر يونس أن فيه لحنين
ولمالك كلاهما ولعل هذا أحدهما وذكر حبش أن خفيف الرمل لابن سريج وذكر الهشامي
وعلي بن يحيى أن لحن مالك الآخر ثاني ثقيل وذكر الهشامي أن فيه لطويس هزجا مطلقا
في مجرى البنصر وذكر عمرو بن بانة أن لمالك فيه ثقيلا أول وخفيفه ولمعبد خفيف ثقيل
آخر صوت ( ألا هزِئت بنا قُرَشِيَّةٌ ... يهتزُّ موكبُها ) ( رأت بي شيْبَةً في الرأس ... منّي
ما أُغَيّبُها ) ( فقالت لي ابنُ قَيْسٍ ذا ... وبَعضُ الشيب يُعجِبها ) ( لها بعلٌ
خَبِيثُ النَّفْس ... يحصُرُها ويحْجُبُها ) ( يراني هكذا أمشي ... فيُوعِدُها
ويَضْرِبُها ) عروضه من الوافر الشعر لابن قيس الرقيات والغناء لمعبد خفيف ثقيل
بالخنصر في مجرى الوسطى وفيه ليونس ثقيل أول عن إسحاق بن إبراهيم والهشامي صوت ( هل ما علمتَ وما
استُودِعْتَ مكتومُ ... أم حَبلُها إذ نأتك اليومَ مَصرومُ ) ( أم هل كئيبٌ بكى لم يقضِ عبرتَهُ
... إثْر الأَحِبَّة يوم البين مَشْكومُ ) ( يحملن أترُجّةً نَضْخُ العبير بها
... كأنَّ تَطيابَها في الأنف مَشْموم
) ( كأنّ فَأْرةَ مسكٍ في مفارقها ... للباسط المُتعاطى
وَهْو مزكوم ) ( كأن إبريقَهم ظبيٌ على شرف ... مُفَدَّمٌ بسَبَا الكتّان
ملثُوم ) ( قد أشْهدُ الشَّربَ فيهم مِزْهرٌ صَدِحٌ ... والقومُ تصرعهم صهباءُ خُرطومُ ) الشعر لعلقمة بن
عبدة والغناء لابن سريج وله فيه لحنان أحدهما في الأول والثاني خفيف ثقيل أول
بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق والآخر رمل بالخنصر في مجرى البنصر في الخامس
والسادس من الأبيات وذكر عمرو بن بانة أن في الأربعة الأبيات الأول المتوالية
لمالك خفيف ثقيل بالوسطى وفيها ثقيل أول نسبه الهشامي إلى الغريض وذكر حبش أن لحن
الغريض ثاني ثقيل بالبنصر وذكر حبش أن في الخامس والسادس خفيف رمل بالبنصر لابن
سريج أخبار علقمة ونسبه هو علقمة بن عبدة بن النعمان بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة
ابن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار وكان
زيد مناة بن تميم وفد هو وبكر بن وائل وكانا لدة عصر واحد على بعض الملوك وكان زيد
مناة حسودا شرها طعانا وكان بكر بن وائل خبيثا منكرا داهيا فخاف زيد مناة أن يحظى
من الملك بفائدة ويقل معها حظه فقال له يا بكر لا تلق الملك بثياب سفرك ولكن تأهب
للقائه وادخل عليه في أحسن زينة ففعل بكر ذلك وسبقه زيد مناة إلى الملك فسأله عن
بكر فقال ذلك مشغول بمغازلة النساء والتصدي لهن وقد حدث نفسه بالتعرض لبنت الملك
فغاظه ذلك وأمسك عنه ونمى الخبر إلى بكر بن وائل فدخل إلى الملك فأخبره بما دار
بينه وبين زيد مناة وصدقه عنه واعتذر إليه مما قاله فيه عذرا قبله فلما كان من غد
اجتمعا عند الملك فقال الملك لزيد مناة ما تحب أن أفعل بك فقال لا تفعل ببكر شيئا
إلا فعلت بي مثليه وكان بكر أعور العين اليمنى قد أصابها ماء فذهب بها فكان لا يعلم
من رآه أنه أعور فأقبل الملك على بكر بن وائل فقال له ما تحب أن أفعل بك يا بكر
قال تفقأ عيني اليمنى وتضعف لزيد مناة فأمر بعينه العوراء ففقئت وأمر بعيني زيد
مناة ففقئتا فخرج بكر وهو أعور بحاله وخرج زيد مناة وهو أعمى سبب تلقيبه بالفحل
واخبرني بذلك محمد بن الحسن بن دريد عن أبي حاتم عن أبي عبيدة ويقال لعلقمة بن
عبدة علقمة الفحل سمي بذلك لأنه خلف على امرأة امرئ القيس لما حكمت له على امرئ
القيس بأنه أشعر منه في صفة فرسه فطلقها فخالفه عليها وما زالت العرب تسميه بذلك
وقال الفرزدق ( والفحلُ عَلمقةُ الذي كانت له ... حُلَلُ الملوك كلامُه يتنحل ) علقمة يحكم
قريشا في شعره أخبرني عمي قال حدثني النضر بن عمرو قال حدثني أبو السوار عن أبي
عبيد الله مولى إسحاق بن عيسى عن حماد الراوية قال كانت العرب تعرض أشعارها على
قريش فما قبلوه منها كان مقبولا وما ردوه منها كان مردودا فقدم عليهم علقمة بن
عبدة فأنشدهم قصيدته التي يقول فيها (
هل ما علمتَ وما استُودعْتَ مكتوم ... أم حَبْلُها أَنْ
نأتكَ اليومَ مصرومُ ) فقالوا هذه سمط الدهر ثم عاد إليهم العام المقبل فأنشدهم ( طحابك قلب في
الحِسَان طروبُ ... بُعَيْد الشَّباب عَصْرَ حان مَشِيبُ ) فقالوا هاتان سمطا الدهر أخبرني الحسن
بن علي قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك عن حماد بن إسحاق قال سمعت أبي يقول سرق
ذو الرمة قوله ( يطفو إذا ما تلقَّته الجراثيم ... ) من قول العجاج ( إذا تلقَّتْه
العقاقيلُ طفا ... ) وسرقه العجاج من علقمة بن عبدة في قوله ( يطفو إذا ما تلقته العقاقِيل ... ) هو امرؤ
القيس يتحاكمان إلى زوجته أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط
وأخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو عبيدة قال ( كانت تحت امرئ
القيس امرأة من طيء تزوجها حين جاور فيهم فنزل به علقمة الفحل بن عبدة التميمي
فقال كل واحد منهما لصاحبه أنا أشعر منك فتحاكما إليها فأنشد امرؤ القيس قوله ( خليليَّ مُرّا بي
على أُمّ جُنْدُبِ ) حتى مر بقوله (
فللسَّوط أُلهوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ ... وللزَّجر منه
وَقْعُ أخْرجَ مُهذِب ) ويروى أهوج منعب فأنشدها علقمة قوله ( ذَهَبْتَ من الهِجران في غير مَذْهَب ... ) حتى انتهى
الى قوله ( فأدركه حتى ثنى من عِنانه ... يمُرُّ كغيث رائحٍ مُتَحَلَّب ) فقالت له علقمة
أشعر منك قال وكيف قالت لأنك زجرت فرسك وحركته بساقك وضربته بسوطك وأنه جاء هذا
الصيد ثم أدركه ثانيا من عنانه فغضب امرؤ القيس وقال ليس كما قلت ولكنك هويته
فطلقها فتزوجها علقمة بعد ذلك وبهذا لقب علقمة الفحل ربيعة بن حذار يصنف الشعراء
أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط قال تحاكم علقمة بن عبدة
التميمي والزبرقان بن بدر السعدي والمخبل وعمرو بن الأهتم إلى ربيعة بن حذار
الأسدي فقال أما أنت يا زبرقان فإن شعرك كلحم لا أنضج فيؤكل ولا ترك نيئا فينتفع به
وأما أنت يا عمرو فإن شعرك كبرد حبرة يتلألأ في البصر فكلما أعدته فيه نقص وأما
أنت يا مخبل فإنك قصرت عن الجاهلية ولم تدرك الإسلام وأما أنت يا علقمة فإن شعرك
كمزادة قد أحكم خرزها فليس يقطر منها شيء أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني
عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال مر رجل من مزينة على باب رجل من الأنصار وكان
يتهم بامرأته فلما حاذى بابه تنفس ثم تمثل ( هل ما علمتَ وما اسْتُوْدِعْتَ مكتومُ
... أم حبلُها إذ نأتك اليوم مصرومُ
) قال فتعلق به الرجل فرفعه إلى عمر رضوان الله عليه
فاستعداه عليه فقال له المتمثل وما علي في أن أنشدت بيت شعر فقال له عمر رضي الله
عنه مالك لم تنشده قبل أن تبلغ بابه ولكنك عرضت به مع ما تعلم من القالة فيه ثم
أمر به فضرب عشرين سوطا صوت ( فو الله لا أنسَى قتِيلاً رُزِيتُه ... بجانب قَوسَى
ما حييتُ على الأرض ) ( بلى إنها تَعْفُو الكلُومُ وإنما ... نُوكَّلُ بالأدنى وإن
جَلَّ ما يَمضِي ) ( ولم أدرِ مَن أَلْقَى عليه رداءَه ... ولكنه قد بُزَّ عن
ماَجدٍ محضِ ) الشعر لأبي خراش الهذلي والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول
بالوسطى من رواية عمرو بن بانة وذكر يحيى بن المكي أنه لابن مسجح وذكر الهشامي أنه
ليحيى المكي لحنه ابن مسجح وفي أخبار معبد إن له فيه لحنا ذكر أبي خراش الهذلي
وأخباره نسبه وموته أبو خراش اسمه خويلد بن مرة أحد بني قرد واسم قرد عمرو بن معاوية
بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار شاعر فحل من شعراء هذيل
المذكورين الفصحاء مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم وعاش بعد النبي مدة ومات في
خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه نهشته أفعى فمات وكان ممن يعدو فيسبق الخيل في
غارات قومه وحروبهم أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وعمي والحسن بن علي قالوا حدثنا
عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا أحمد بن عمير بن إسماعيل بن عبد العزيز بن عمر بن
عبد الرحمن بن عوف قال حدثني أبو بركة الأشجعي من أنفسهم قال خرج أبو خراش الهذلي
من أرض هذيل يريد مكة فقال لزوجته أم خراش ويحك إني أريد مكة لبعض الحاجة وإنك من
أفك النساء وإن بني الديل يطلبونني بترات فإياك وأن تذكريني لأحد من أهل مكة حتى نصدر
منها قالت معاذ الله أن أذكرك لأهل مكة وأنا أعرف السبب قال فخرج بأم خراش وكمن
لحاجته وخرجت إلى السوق لتشتري عطرا أو بعض ما تشتريه النساء من حوائجهن فجلست إلى
عطار فمر بها فتيان من بني الديل فقال أحدهما لصاحبه أم خراش ورب الكعبة وإنها لمن
أفك النساء وإن كان أبو خراش معها فستدلنا عليه قال فوقفا عليها فسلما وأحفيا
المسألة والسلام فقالت من أنتما بأبي أنتما فقالا رجلان من أهلك من هذيل قالت بأبي
أنتما فإن أبا خراش معي ولا تذكراه لأحد ونحن رائحون العشية فخرج الرجلان فجمعا
جماعة من فتيانهم وأخذوا مولى لهم يقال له مخلد وكان من أجود الرجال عدوا فمكنوا
في عقبة على طريقه فلما رآهم قد لاقوه في عين الشمس قال لها قتلتني ورب الكعبة لمن
ذكرتني فقالت والله ما ذكرتك لأحد إلا لفتيين من هذيل فقال لها والله ما هما من هذيل
ولكنهما من بني الديل وقد جلسا لي وجمعا علي جماعة من قومهم فاذهبي أنت فإذا جزت
عليهم فإنهم لن يعرضوا لك لئلا أستوحش فأفوتهم فاركضي بعيرك وضعي عليه العصا
والنجاء النجاء قال فانطلقت وهي على قعود عقيلي يسابق الريح فلما دنا منهم وقد
ثلثموا ووضعوا تمرا على طريقه على كساء فوقف قليلا كأنه يصلح شيئا وجازت بهم أم خراش
فلم يعرضوا لها لئلا ينفر منهم ووضعت العصا على قعودها وتواثبوا إليه ووثب يعدو قال
فزاحمه على المحجة التي يسلك فيها على العقبة ظبي فسبقه أبو خراش وتصايح القوم يا
مخلد أخذا أخذا قال ففات الأخذ فقالوا ضربا ضربا فسبق الضرب فصاحوا رميا رميا فسبق
الرمي وسبقت أم خراش إلى الحي فنادت ألا إن أبا خراش قد قتل فقام أهل الحي إليها
وقام أبوه وقال ويحك ما كانت قصته فقالت إن بني الديل عرضوا له الساعة في العقبة
قال فما رأيت أو ما سمعت قالت سمعتهم يقولون يا مخلد أخذا أخذا قال ثم سمعت ماذا
قالت ثم سمعتهم يقولون ضربا ضربا قال ثم سمعت ماذا قالت سمعتهم يقولون رميا رميا
قال فإن كنت سمعت رميا رميا فقد أفلت وهو منا قريب ثم صاح يا أبا خراش فقال أبو
خراش يا لبيك وإذا هو قد وافاهم على أثرها وقال أبو خراش في ذلك شعره في نجاته من
خصومه ( رَفَوْنِي وقالوا يا خُويْلدُ لم تُرَعْ ... فقلت وأنكرتُ الوجوهَ هُم هُم ) رفوني بالفاء
سكنوني وقالوا لا بأس عليك ( فغارَرْتُ شيئَاً والدّريسُ كأنما ... يزعزعُه وعْكٌ من
المُومِ مُرْدِمُ ) غاررت تلبثت والدريس الخلق من الثياب ومثله الجرد والسحق
والحشيف ومردم لازم ( تذكرتُ ما أينَ المفرُّ وإنني ... بحبل الذي يُنْجِي من الموت
مُعْصِم ) ( فواللَّهِ ما ربْدَاءُ أو عِلْجُ عَانَةٍ ... أقبٌّ وما إنْ تَيْسُ رَمْلٍ
مُصَمِّم ) ( بأسرعَ منّي إذ عرفت عَدِيَّهُم ... كأني لأَولاهُمْ من القُرْبِ تَوْأَم ) ( وأجودَ مِنِّي
حينَ وافيْتُ ساعِياً ... وأخطأني خَلْف الثَّنِيَّة اسهُم ) ( أُوَائِلُ بالشَّدِّ الذَّلِيقِ
وحَثَّنِي ... لدى المتن مشبوحَ الذراعين خَلْجَمُ ) ( تَذَكَّرَ ذَحْلاً عندنا وهْو فاتكٌ
... من القوم يَعرُوه اجتراءٌ ومَأْثم
) ( تقول ابنتي لما رأتني عشيَّةً ... سلمتَ وما إن
كِدتَ بالأمس تَسلمُ ) ( فقلتُ وقد جاوزت صَارَى عشيَّةً ... أجاوزتُ أولَى القوم أم
أنا أحلُم ) ( فلولا دِرَاكُ الشدّ آضتْ حليلَتي ... تخيَّر في خُطَّابِها
وَهْيَ أيِّمُ ) ( فستخَطُ أو ترضَى مكانِي خليفةً ... وكادَ خِراشٌ عند ذلك
يَيْتَم ) عدا بين فرسين فسبقهما أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي ومحمد بن الحسين
الكندي خطيب المسجد الجامع بالقادسية قالا حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال حدثني
رجل من هذيل قال دخل أبو خراش الهذلي مكة وللوليد بن المغيرة المخزومي فرسان يريد
أن يرسلهما في الحلبة فقال للوليد ما تجعل لي إن سبقتهما قال إن فعلت فهما لك فأرسلا
وعدا بينهما فسبقهما فأخذهما قال الأصمعي إذا فاتك الهذلي أن يكون شاعرا أو ساعيا
أو راميا فلا خير فيه وأخبرني بما أذكره من مجموع أخبار أبي خراش علي بن سليمان
الأخفش عن أبي سعيد السكري وأخبرني بما أذكره من مجموع أشعارهم وأخبارهم فذكره أبو
سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن أبي حاتم عن أبي عبيدة وعن ابن حبيب عن أبي
عمرو واخبرني ببعضه محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي وقد ذكرت
ما رواه في أشعار هذيل وأخبارها كل واحد منهم عن أصحابه في مواضعه قال السكري فيما
رواه عن ابن حبيب عن أبي عمرو قال نزل أبو خراش الهذلي دبية السلمي وكان صاحب
العزى التي في غطفان وكان يسدنها وهي التي هدمها خالد بن الوليد لما بعثه رسول
الله إليها فهدمها وكسرها وقتل دبية السلمي قال فلما نزل عليه أبو خراش أحسن
ضيافته ورأى في رجله نعلين قد أخلقتا فأعطاه نعلين من حذاء السبت فقال أبو خراش يمدحه
( حذَانِيَ
بعد ما خَذِمَتْ نِعالي ... دُبَيَّةُ إِنَّه نِعمَ الخليلُ ) ( مُقابَلَتين من صَلوَيْ مُشِبٍّ ...
من الثيران وصلُهما جميلُ ) ( بمثلهما يروح المرءُ لَهواً ... ويقْضِي الهمَّ ذو الأربِ
الرّجيل ) ( فنعم مُعرَّسُ الأضياف تُذْحِي ... رحالَهُم شآميةُ بَلِيلُ ) ( يُقاتل جوعَهم
بمكلَّلاَتٍ ... من الفُرْنِّي يَرْعَبُها الجميل ) قال أبو عمرو الجميل الإهالة ولا يقال
لها جميل حتى تذاب إهالة كانت أو شحما وقال أبو عمرو ولما بعث رسول الله خالد بن
الوليد فهدم عزى غطفان وكانت ببطن نخلة نصبها ظالم بن أسعد بن عامر بن مرة وقتل
دبية فقال أبو خراش الهذلي يرثيه (
مَا لِدُبَيَّةَ منذُ اليوم لم أَرَهُ ... وسْطَ
الشُّرُوب ولم يُلْمِمْ ولم يطفِ
) ( لو كان حياًّ لغاداهم بمُترعَةٍ ... فيها الرّواوِيق
من شِيزَى بني الهَطِف ) بنو الهطف قوم من بني أسد يعملون الجفان ( كَابِي الرماد عظيمُ القِدْرِ
جَفْنَتُه ... حين الشتاء كحَوْضِ المُنْهَلِ اللَّقِف ) المنهل الذي إبله عطاش واللقف الذي
يضرب الماء أسفله فيتساقط وهو ملآن (
أمسى سَقامٌ خَلاءً لا أنيسًَ به ... إلا السّباعُ
ومَرُّ الريح بالغَرَفِ ) يرثي زهير بن العجوة وقال الأصمعي وأبو عمرو في روايتهما جميعا
أخذ أصحاب رسول الله في يوم حنين أسارى وكان فيهم زهير بن العجوة أخو بني عمرو بن
الحارث فمر به جميل بن معمر بن حبيب بن وهب نب حذافة بن جمح وهو مربوط في الأسرى
وكانت بينهما إحنة في الجاهلية فضرب عنقه فقال أبو خراش يرثيه ( فَجَّع أصحابي
جميلُ بن معْمَر ... بذي فَجَرٍ تأويِ إليه الأَراملُ ) ( طويلُ نِجادِ السيف ليس بحيْدَرٍ
... إذا قام واستنَّت عليه الحمائِلُ
) ( إلى بَيْتِهِ يأوي الغريبُ إذا شتا ... ومُهتَلِكٌ
بالي الدّريسَيْن عائِلُ ) ( تروَّحَ مقرورا وراحت عشيّة ... لها حَدَبٌ تحتثُّه فيُوائِلُ ) ( تكاد يداه
تُسْلِمَان رداءَه ... من القُرِّ لمّا استقبلْته الشمائل ) ( فما بالُ أهلِ الدّار لم يتصدَّعوا
... وقد خفّ منها اللّوذعيٌّ الحُلاَحلُ ) ( فأُقسِمُ لو لاقيتَه غيرَ موثَقٍ
... لآبك بالجِزْع الضّباعُ النّواهلُ
) ( لظلّ جميلٌ أَسوأَ القوم تَلَّةً ... ولكنَّ ظَهْرَ
القِرْنِ للمَرْء شاغلُ ) ( فليس كعهدِ الدار يا أمَّ مالكٍ ... ولكنْ أحاطت بالرقاب
السلاسل ) ( وعاد الفتى كالكهل ليس بقائلٍ ... سوى الحقِّ شيئا فاستراح العواذلُ ) ( ولم أَنْسَ
أياماً لا وليالياً ... بِحَلْيَةَ إذ نلقَى بها ما نحاول ) وقال أيضا يرثيه ( أَفِي كلِّ ممَسى
ليلةٍ أنا قائل ... من الدهر لا يبعَدْ قتيلُ جميلِ ) ( فما كنتُ أخشى أن تصيبَ دماءَنا ...
قريشٌ ولما يُقتلوا بقتيل ) ( فأبرحُ ما أُمِّرْتُمُ وعَمَرتُمُ ... مدَى الدهر حتى
تُقْتَلُوا بِغلِيلِ ) شعره في إنقاذ أسرى وقال أبو عمرو في خبره خاصة أقبل أبو خراش
وأخوه عروة وصهيب القردي في بضعة عشر رجلا من بني قرد يطلبون الصيد فبينا هم
بالمجمعة من نخلة لم يرعهم إلا قوم قريب من عدتهم فظنهم القرديون قوما من بني
ذؤيبة أحد بني سعد بن بكر بن هوازن أو من بني حبيب أحد بني نصر فعدا الهذليون إليهم
يطلبونهم وطمعوا فيهم حتى خالطوهم وأسروهم جميعا وإذا هم قوم من بني ليث بن بكر
فيهم ابنا شعوب أسرهما صهيب القردي فهم بقتلهما وعرفهم أبو خراش فاستنقذهم جميعا
من أصحابه وأطلقهم فقال أبو خراش في ذلك يمن على ابني شعوب أحد بني شجع بن عامر بن
ليث فعله بهما ( عدونَا عدوةَ لا شكَّ فيها ... وخِلناهمْ ذُؤيبةَ أو حَبيبا ) ( فنُغرِي
الثائرين بهم وقلنا ... شفاءُ النفس أنْ بَعَثوا الحروبا ) ( مَنَعْنا من عدِيِّ بني حُنَيفٍ ...
صِحابَ مضرّسٍ وابني شَعوبا ) (
فأَثْنُوا يا بني شِجْعٍ عَلَيْنَا ... وحقُّ ابني
شَعُوب أنْ يُثيِبا ) ( وسائلْ سَبرةَ الشِّجْعِيِّ عنا ... غداة نخالهم نَجْواً
جَنيبا ) ( بأن السابق القردي ألقى ... عليه الثوب إذ ولى دبيبا ) ( ولولا ذاكَ أرهقَه صُهيبٌ ... حسامَ
الحَدِّ مطروراً خشيبا ) شعره في زهده أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا الرياشي
قال حدثنا الأصمعي قال أقفر أبو خراش الهذلي من الزاد أياما ثم مر بامرأة من هذيل جزلة
شريفة فأمرت له بشاة فذبحت وشويت فلما وجد بطنه ريح الطعام قرقر فضرب بيده على
بطنه وقال إنك لتقرقر لرائحة الطعام والله لاطعمت منه شيئا ثم قال يا ربة البيت هل
عندك شيء من صبر أو مر قالت تصنع به ماذا قال أريده فأتته منه بشيء فاقتمحه ثم
أهوى إلى بعيره فركبه فناشدته المرأة فأبى فقالت له يا هذا هل رأيت بأسا أو أنكرت
شيئا قال لا والله ثم مضى وأنشأ يقول (
وإني لاْثوي الجوعَ حتى يَملَّني ... فأحيا ولم تدنَس
ثيابي ولا جِرمي ) ( وأصْطَبحُ الماءَ القَراحَ فأكتفي ... إذا الزادُ أضحَى
للمزلَّجِ ذَا طَعْم ) ( أردُّ شجاعَ البطن قد تَعلمينه ... وأوثر غيرِي من عِيالِك
بالطُّعْم ) ( مخافَة أن أحيا برَغمٍ وذلّةٍ ... فلَلْمَوتُ خيرٌ من حياةٍ
على رَغُم ) يفتدي أخاه عروة بن مرة وأخبرني عمي بن هارون بن محمد الزيات عن أحمد بن الحارث
عن المدائني بنحو مما رواه الأصمعي وقال أبو عمرو أسرت فهم عروة بن مرة أخا أبي
خراش وقال غيره بل بنو كنانة أسرته فلما دخلت الأشهر الحرم مضى أبو خراش إليهم
ومعه ابنه خراش فنزل بسيد من ساداتهم ولم يعرفه نفسه ولكنه استضافه فأنزله وأحسن
قراه فلما تحرم به انتسب له وأخبره خبر أخيه وسأله معاونته حتى يشتريه منهم فوعده
بذلك وغدا على القوم مع ذلك الرجل فسألهم في الأسير أن يهبوه له فما فعلوا فقال
لهم فبيعوينه فقالوا أما هذا فنعم فلم يزل يساومهم حتى رضوا بما بذله لهم فدفع أبو
خراش إليهم ابنه خراشا رهينة وأطلق أخاه عروة ومضيا حتى أخذ أبو خراش فكاك أخيه
وعاد به إلى القوم حتى أعطاهم إياه وأخذ ابنه فبينما أبو خراش ذات يوم في بيته إذ
جاءه عبد له فقال إن أخاك عروة جاءني وأخذ شاة من غنمك فذبحها ولطمني لما منعته
منها فقال له دعه فلما كان بعد أيام عاد فقال له قد أخذ أخرى فذبحها فقال دعه فلما
أمسى قال له إن أخاك اجتمع مع شرب من قومه فلما انتشى جاء إلينا وأخذ ناقة من إبلك
لينحرها لهم فعاجله فوثب أبو خراش إليه فوجده قد أخذ الناقة لينحرها فطردها أبو
خراش فوثب أخوه عروة إليه فلطم وجهه وأخذ الناقة فعقرها وانصرف أبو خراش فلما كان
من غد لامه قومه وقالوا له بئست لعمر الله المكافأة كانت منك لأخيك رهن ابنه فيك
وفداك بماله ففعلت به ما فعلت فجاء عروة يعتذر إليه فقال أبو خراش ( لَعلَّكَ نافعي
يا عُروَ يوماً ... إذا جاورْتُ مَنْ تحتَ القبور ) ( أخذتَ خُفَارَتِي ولطمتَ عَيْني ...
وكيف تُثِيبُ بالمنِّ الكبيرِ )
( ويومٍ قد صبْرتُ عليكَ نفسي ... لدى الأشْهَاد
مُرْتَدِيَ الحرورِ ) ( إذا ما كان كَسُّ القوم رَوْقاً ... وجالت مقلتا الرجل البصير ) ( بما يممتُه
وتركْتُ بِكْرى ... وما أُطْعِمْتَ من لحم الجَزُور ) قال معنى قوله بكري أي بكر ولدي أي
أولهم كان بنو مرة عشرة وقال الأصمعي وأبو عبيدة وأبو عمرو وابن الأعرابي كان بنو
مرة عشرة أبو خراش وأبو جندب وعروة والأبح والأسود وأبو الأسود وعمرو وزهير وجناد
وسفيان وكانوا جميعا شعراء دهاة سراعا لا يدركون عدوا فأما الأسود بن مرة فإنه كان
على ماء من داءة وهو غلام شاب فوردت عليه إبل رئاب بن ناضرة بن المؤمل من بني لحيان
ورئاب شيخ كبير فرمى الأسود ضرع ناقة من الإبل فعقرها فغضب رئاب فضربه بالسيف
فقتله وكان أشدهم أبو جندب فعرف خبر أخيه فغضب غضبا شديدا وأسف فاجتمعت رجال هذيل
إليه يكلمونه وقالوا خذ عقل أخيك واستبق ابن عمك فلم يزالوا به حتى قال نعم اجمعوا
العقل فجاؤوه به في مرة واحدة فلما أراحوه عليه صمت فطال صمته فقالوا له أرحنا
اقبضه منا فقال إني أريد أن أعتمر فاحبسوه حتى أرجع فإن هلكت فلأم ما أنتم هذه لغة
هذيل يقولون إم بالكسر ولا يستعملون الضم وإن عشت فسوف ترون أمري وولى ذاهبا نحو
الحرم فدعا عليه رجال من هذيل وقالوا اللهم لا ترده فخرج فقدم مكة فواعد كل خليع
وفاتك في الحرم أن يأتوه يوم كذا وكذا فيصيب بهم قومه فخرج صادرا حتى أخذته الذبحة
في جانب الحرم فمات قبل أن يرجع فكان ذلك خبره خبر أخيه زهير قالوا واما زهير بن
مرة فخرج معتمرا قد جعل على جسده من لحاء الحرم حتى ورد ذات الأقير من نعمان فبينا
هو يسقي إبلا له إذ ورد عليه قوم من ثمالة فقتلوه فله يقول أبو خراش وقد انبعث
يغزو ثمالة ويغير عليهم حتى قتل منهم بأخيه أهل دارين أي حلتين من ثمالة ( خذوا ذلكم
بالصّلْحِ إني رأيتكُمُ ... قتلتم زُهيرا وهو مهْدٍ ومُهْمِل ) مهد أي أهدى هديا للكعبة ومهمل قد
أهمل إبله في مراعيها ( قتلتم فتى لا يفجُرُ الله عامداً ... ولا يجتويه جارُه عامَ
يُمْحِل ) ولهم يقول أبو خراش ( إنّي امرؤٌ أَسْاَلُ كيما أعلَما ... مَنْ شَرُّ رهْطٍ
يَشْهَدُون الموسِمَا ) ( وجدتُهم ثُمالةَ بنَ أسلمَا ) وكان أبو خراش إذا لقيهم في حروبه
أوقع بهم ويقول ( إليك أمَّ ذِبَّان ... ما ذاكِ من حلْبِ الضَّانْ ) ( لكن مَصاع
الفِتيانْ ... بكل لِيْنٍ حَرّان
) خبر أخيه عروة قال وأما عروة بن مرة وخراش بن أبي خراش
فأخذهما بطنان من ثمالة يقال لهما بنو رزام وبنو بلال وكانوا متجاورين فخرج عروة بن
مرة وابن أبي خراش أخيه مغيرين عليهم طمعا في أن يظفروا من أموالهم بشيء فظفر بهما
الثماليون فأما بنو رزام فنهوا عن قتلهما وأبت بنو بلال إلا قتلهما حتى كاد يكون
بينهم شر فألقى رجل من القوم ثوبه على خراش حين شغل القوم بقتل عروة ثم قال له انج
وانحرف القوم بعد قتلهم عروة إلى الرجل وكانوا أسلموه إليه فقالوا أين خراش فقال
أفلت مني فذهب فسعى القوم في أثره فأعجزهم فقال أبو خراش في ذلك يرثي أخاه عروة
ويذكر خلاص ابنه ( حمدتُ إلَهِي بعد عُروةَ إذ نجا ... خراشٌ وبعضُ الشر أهونُ من
بعض ) ( فواللهِ لا أنسىَ قتيلاً رُزِيتَه ... بجانب قَوْسَى ما حييتُ على الأرض ) ( بلى إنها
تَعفو الكلومُ وإنما ... نُوكلُّ بالأدْنى وإن جلَّ ما يَمضِي ) ( ولم أدر مَن
أَلْقَى عليه رداءَهُ ... سوى أنه قد سُلَّ عن ماجِد محضِ ) ( ولم يك مثلوجَ الفؤاد مهبَّلاً ...
أضاع الشبابَ في الرّبِيلَةِ والخفض
) ( ولكنهُ قد نازعته مَجَاوعٌ ... على أنه ذو مرة صادق
النهض ) قال ثم إن أبا خراش وأخاه عروة استنفرا حيا من هذيل يقال لهم بنو زليفة بن
صبيح ليغزوا ثمالة بهم طالبين بثأر أخيهما فلما دنوا من ثمالة أصاب عروة ورد حمى
وكانت به حمى الربع فجعل عروة يقول (
أصبحتُ موروداً فقرّبُوني ... إلى سواد الحيِّ
يَدْفِنوني ) ( إنّ زهيراً وسطَهم يَدعوني ... رَبَّ المخاض والِلَّقاحِ
الجُون ) فلبثوا إلى أن سكنت الحمى ثم بيتوا ثمالة فوجدوهم خلوفا ليس فيهم رجال فقتلوا
من وجدوا من الرجال وساقوا النساء والذراري والأموال وجاء الصائح إلى ثمالة عشاء
فلحقوهم وانهزم أبو خراش واصحابه وانقطعت بنوزليفة فنظر الأكنع الثمالي وكان مقطوع
الأصبع إلى عروة فقال يا قوم ذلك والله عروة وأنا والله رام بنفسي عليه حتى يموت
أحدنا وخرج يمعج نحو عروة فصلح عروة بأبي خراش أخيه أي أبا خراش هذا والله الأكنع
وهو قاتلي فقال أبو خراش أمضه وقعد له على طريقه ومر به الأكنع مصمما على عروة وهو
لا يعلم بموضع أبي خراش فوثب عليه أبو خراش فضربه على حبل عاتقه حتى بلغت الضربة
سحره وانهزمت ثمالة ونجا أبو خراش وعروة وقال أبو خراش يرثي أخاه ومن قتلته ثمالة
وكنانة من أهله وكان الأصمعي يفضلها (
فَقَدْتُ بني لُبْنَى فلما فقدتُهم ... صبَرتُ فلم أقطعُ
عليهم أبَاجِلي ) الأبجل عرق في الرجل ( رماحٌ من الخطِّيِّ زُرْقٌ نِصالُها
... حِدادٌ أعاليها شِدادُ الأسافل
) ( فلَهفِي على عمرِو بن مُرَّة لهفةً ... ولهْفِي على
ميْتٍ بقَوسَى المعاقل ) ( حِسانُ الوجوه طيِّبٌ حُجُزِاتُهُم ... كريمٌ نَثاهم غيرُ
لُفِّ مَعازلِ ) ( قتلتَ قتيلاً لا يُحاِلِفُ غَدْرَةً ... ولا سُبَّةً لا زِلتَ
أسفلَ سافل ) ( وقد أَمِنُوني واطمأنّتْ نفوسُهم ... ولم يعلموا كلّ الذي هو
داخلي ) ( فمن كان يرجو الصلْحَ مِنِّي فإنه ... كأحمرِ عاد أو كُلَيْبِ بن وائل ) ( أُصيبتْ
هُذيلٌ بابن لُبْنَى وجُدّعت ... أنوفُهُمُ باللَّوْذعيِّ الحُلاَحِل ) ( رأيتُ بني
العَلاَّتِ لما تضافروا ... يَحوزون سَهْمي دونَهمُ بالشَّمائل ) أخبار سائر اخوته
قالوا وأما أبو الأسود فقتلته فهم بياتا تحت الليل وأما الأبح فكان شاعرا فأمسى
بدار بعرعر من ضيم فذكر لسارية بن زنيم العبدي أحد بني عبد بن عدي ابن الديل فخرج
بقوم من عشيرته يريده ومن معه فوجدوهم قد ظعنوا وكان بين بني عبد بن عدي بن الديل
وبينهم حرب فقال الأبح في ذلك (
لعمرُكَ سارِيَ بْنَ أبيِ زُنَيْمٍ ... لأَنْتَ
بعَرْعَرَ الثأرُ المنيمُ ) ( تركتَ بني معاويةَ بنِ صخرٍ ... وأنت بمربَعٍ وهُمُ بضِيمِ ) ( تُساقيهمْ على
رَصَفٍ وظُرٍّ ... كدابغةٍ وقد حَلِم الأَديمُ ) رصف وظر ماءان ومربع وضيم موضعان ( فلم نتركهُمُ
قصداً ولكنْ ... فرِقْتَ من المصالِت كالنّجوم ) ( رأيتَهُم فوارسَ غيرَ عُزْلٍ ...
إذا شَرِقَ المُقاتِلُ بالكُلومِ
) فأجابه سارية قال ( لعِلك يا أَبَحُّ حسِبْتَ أنّي ...
قتلتُ الأسودَ الحسَن الكريمَا
) ( أخذتُمْ عقلَه وتركتُمُوه ... يسوق الظُّمْيَ وسْطَ
بني تميمَا ) عيرهم بأخذ دية الأسود بن مرة أخيهم وأنهم لم يدركوا بثأره وبنو تميم من هذيل
قالوا وأما جنادة وسفيان فماتا وقتل عمرو ولم يسم قاتله قالوا وأمهم جميعا لبنى
إلا سفيان بن مرة فإن أمه أم عمرو القردية وكان أيسر القوم وأكثرهم مالا وقال أبو
عمرو وغزا أبو خراش فهما فأصاب منهم عجوزا وأتى بها منزل قومه فدفعها إلى شيخ منهم
وقال احتفظ بها حتى آتيك وانطلق لحاجته فأدخلته بيتا صغيرا وأغلقت عليه وانطلقت
فجاء أبو خراش وقد ذهبت فقال ( سَدَّتْ عليه دَوْلَجاً ثم يَمَّمَت ... بنيِ فالج بالليث أهلَ
الخزائم ) الدولج بيت صغير يكون للبهم والليث ماء لهم والخزائم البقر واحدتها خزومة ( وقالت له دَنِّخْ
مكانَكَ إنني ... سألقاك إن وافيتَ أهلَ المواسم ) يقال دنخ الرجل ودمخ إذا أكب على وجهه
ويديه وقال أبو عمرو دخلت أميمة امرأة عروة بن مرة على أبي خراش وهو يلاعب ابنه فقالت
له يا أبا خراش تناسيت عروة وتركت الطلب بثأره ولهوت مع ابنك أما والله لو كنت
المقتول ما غفل عنك ولطلب قاتلك حتى يقتله فبكى أبو خراش وأنشأ يقول ( لعمري لقد راعتْ
أُميمةَ طلعَتِي ... وإنّ ثَوَائي عندها لقليلُ ) ( وقالت : أُراه بعد عُرْوة لاهِياً
... وذلك رُزْءٌ لو علمْت جليلُ
) ( فلا تحسبي أني تناسيْتُ فقْدَهُ ... ولكنَّ صبرِي يا
أُميْمَ جميلُ ) ( ألم تعلمِي أنْ قدْ تفرّق قبلَنَا ... نديما صفاءٍ مالكٌ
وعَقيلُ ) ( أبى الصبرَ أنّى لا يزال يَهِيجُنِي ... مبيتٌ لنا فيما خلا ومَقيلُ ) ( وأني إذا ما
الصَبحُ آنَسْتُ ضوءَه ... يعاودني قُطْعٌ عليّ ثقيلُ ) قال أبو عمرو فأما أبو جندب أخو أبي
خراش فإنه كان جاور بني نفاثة ابن عدي بن الديل حينا من الدهر ثم إنهم هموا بأن
يغدروا به وكانت له إبل كثيرة فيها أخوه جنادة فراح عليه أخوه جنادة ذات ليلة وإذا
به كلوم فقال له أبو جندب حتى أتى جيرانه من بني نفاثة فقال لهم يا قوم ما هذا
الجوار لقد كنت أرجو من جواركم خيرا من هذا أيتجاور أهل الأعراض بمثل هذا فقالوا
أو لم يكن بنو لحيان يقتلوننا فو الله ما قرت دماؤنا وما زالت تغلي والله إنك
للثأر المنيم فقال أما إنه لم يصب أخي إلا خير ولكنما هذه معاتبة لكم وفطن للذي
يريد القوم من الغدر به وكان بأسفل دفاق فأصبحوا ظاعنين وتواعدوا ماء ظر فنفذ
الرجال إلى الماء وأخروا النساء لأن يتبعنهم إذا نزلوا واتخذوا لحياض للإبل فأمر
أبو جندب أخاه جنادة وقال له اسرح مع نعم القوم ثم توقف وتأخر حتى تمر عليك النعم
كلها وأنت في آخرها سارح بإبلك واتركها متفرقة في المرعى فإذا غابوا عنك فاجمع
إبلك واطردها نحو أرضنا وموعدك نجد ألوذثنية في طريق بلاده وقال لامرأته أم زنباع
وهي من بني كلب بن عوف اظعني وتمكثي حتى تخرج آخر ظعينة من النساء ثم توجهي فموعدك
ثنية يدعان من جانب النخلة وأخذ أبو جندب دلوه وورده مع الرجال فاتخذ القوم الحياض
واتخذ أبو جندب حوضا فملأه ماء ثم قعد عنده فمرت به إبل ثم إبل فكلما وردت إبل سأل
عن إبله فيقولون قد بلغت تركناها بالضجن ثم قدمت النساء كلما قدمت ظعينة سألها عن
أهله فيقولون بلغتك تركناها تظعن حتى إذا ورد آخر النعم أتخر الظعن قال والله لقد
حبس أهلي حابس أبصر يا فلان حتى أستأنس أهلي وإبلي وطرح دلوه على الحوض ثم ولى حتى
أدرك القوم بحيث وعدهم فقال أبو جندب في ذلك ( أقول لأُمِّ زِنْبَاعٍ أَقِيمي ...
صُدورَ العِيسِ شطرَ بني تميم )
( وغَرَّبْتُ الدّعَاءَ وأَيْنَ منَّي ... أُناسٌ بين
مرَّ وذي يَدومِ ) غربت الدعاء دعوت من بعيد ( وَحَيٍّ بالمناقب قد حمُوْها ... لدى
قُرَّانَ حتى بطنِ ضِيمِ ) ( وأحياءٍ لدى سعْدِ بن بكر ... بأَملاحٍ فظاهرةِ الأديم ) ( أُولئِكَ
معشري وهُمُ أرومي ... وبعض القوم ليس بذي أُروم ) ( هنالِكَ لو دَعَوْت أَتَاك منهم ...
رجالٌ مثل أَرمِيةِ الحميمِ ) الأرمية السحاب الشديد الوقع واحدها رمي والحميم مطر القيظ ( أَقلَّ الله
خَيْرَهُم أَلمَّا ... يَدَعْهُم بعضُ شرّهُم القديم ) ( أَلمَّا يَسلم الجيرانُ منهم ...
وقد سال الفِجاج من الغميم ) ( غداةَ كأنَّ جنَّادَ بن لُبنى ... به نضخُ العبيرِ من الكُلوم ) ( دعى حَوْلي
نفاثةُ ثم قالوا ... لعلك لسْتَ بالثّأْر المنيمِ ) المنيم الذي إذا أدرك استراح أهله
وناموا ( نعوْا مَنْ قَتَّلَتْ لِحَيانُ منهم ... ومن يغترُّ بالْحرب القروم ) قالوا جميعا
وكان أبو جندب ذا شر وبأس وكان قومه يسمونه المشؤوم فاشتكى شكوى شديدة وكان له جار
من خزاعة يقال له حاطم فوقعت به بنو لحيان فقتلوه قبل أن يستبل أبو جندب من مرضه
واستاقوا أمواله وقتلوا امرأته وقد كان أبو جندب كلم قومه فجمعوا لجاره غنما فلما
أفاق أبو جندب من مرضه خرج من أهله حتى قدم مكة ثم جاء يمشي حتى استلم الركن وقد
شق ثوبه عن استه فعرف الناس أنه يريد شرا فجعل يصيح ويقول ( إنّي امرؤ أبكي على جارَيَّهْ ...
أبكِي على الكعبيِّ والَكعبيَّهْ
) ( ولو هَلكتُ بَكَيا عليَّهْ ... كَانا مكَان الثوب من
حَقْويَّه ) فلما فرغ من طوافه وقضى حاجته من مكة خرج في الخلعاء من بكر وخزاعة فاستجاشهم
على بني لحيان فقتل منهم قتلى وسبى من نسائهم وذراريهم سبايا وقال في ذلك ( لقد أمسى بنو
لِحْيان منّي ... بحمد الله في خِزْيٍ مُبين ) ( تركتهمُ على الرّكَباتِ صُعْراً ...
يُشِيبُون الذَوائب بالأنِين ) يشكو إلى عمر شوقه إلى ابنه أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال
حدثني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي قال حدثني عمي قال هاجر خراش بن أبي خراش الهذلي
في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغزا مع المسلمين فأوغل في أرض العدو فقدم أبو
خراش المدينة فجلس بين يدي عمر وشكا إليه شوقه إلى ابنه وأنه رجل قد انقرض أهله
وقتل إخوته ولم يبق له ناصر ولا معين غير ابنه خراش وقد غزا وتركه وأنشأ يقول ( ألا مَن مُبلغٌ
عني خِراشاً ... وقد يأْتيك بالنّبأ البعيدُ ) ( وقد يأتيكَ بالأخبار مَنْ لا ...
تُجَهِّزُ بالحِذاء ولا تُزِيدُ
) تزيد وتزود واحد من الزاد ( يُناديه ليَغْبِقَه كَلِيبٌ ... ولا
يأتِي لقد سَفُه الوليدُ ) ( فردَّ إناءَه لا شيءَ فيه ... كأنّ دموعَ عينيه الفَريد ) ( وأصبحَ دون
عابقِه وأمسى ... جبالٌ من حِرارِ الشام سُود ) ( ألا فاعلم خِراشُ بأنّ خيرَ المهاجر
... بعد هجرته زهيد ) ( رأيتكَ وابتغاءَ البِرِّدوني ... كمحصور اللِّبان ولا يصيد ) قال فكتب عمر
رضي الله عنه بأن يقبل خراش إلى أبيه وألا يغزو من كان له أب شيخ إلا بعد أن يأذن
له أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا الأصمعي وأخبرني
حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن ابن الكلبي
عن أبيه وأخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ قال أبو عبيدة وأخبرني
أيضا هاشم قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه وذكره أبو سعيد السكري في
رواية الأخفش عنه عن أصحابه قالوا جميعا أسلم أبو خراش فحسن إسلامه ثم أتاه نفر من
أهل اليمن قدموا حجاجا فنزلوا بأبي خراش والماء منهم غير بعيد فقال يا بني عمي ما
أمسى عندنا ماء ولكن هذه شاة وبرمة وقربة فردوا الماء وكلوا شاتكم ثم دعوا برمتنا
وقربتنا على الماء حتى نأخذها قالوا والله ما نحن بسائرين في لبلتنا هذه وما نحن ببارحين
حيث أمسينا فلما رأى ذلك أبو خراش أخذ قربته وسعى نحو الماء تحت الليل حتى استقى
ثم أقبل صادرا فنهشته حية قبل أن يصل إليهم فأقبل مسرعا حتى أعطاهم الماء وقال
اطبخوا شاتكم وكلوا ولم يعلمهم بما أصابه فباتوا على شاتهم يأكلون حتى أصبحوا
وأصبح أبو خراش في الموت فلم يبرحوا حتى دفنوه وقال وهو يعالج الموت ( لعمرُكَ والمنايا
غالباتُ ... على الإنسان تطلُع كلَّ نجدِ ) ( لقد أهلكْتِ حيّةَ بطنِ أنفٍ ...
على الأَصحاب ساقاً ذاتَ فقد ) وقال أيضا (
لقد أهلكتِ حيةَ بطن أنفٍ ... على الأصحاب ساقاً ذاتَ
فضلِ ) ( فما تركتْ عدوًّا بين بُصْرَى ... إلى صنعاءَ يطلبُهُ بذَحْل ) قال فبلغ عمر بن
الخطاب رضي الله عنه خبره فغضب غضبا شديدا وقال لولا أن تكون سبة لأمرت ألا يضاف
يمان أبدا ولكتبت بذلك إلى الآفاق إن الرجل ليضيف أحدهم فيبذل مجهوده فيسخطه ولا
يقبله منه ويطالبه بما لا يقدر عليه كأنه يطالبه بدين أو يتعنته ليفضحه فهو يكلفه
التكاليف حتى أهلك ذلك من فعلهم رجلا مسلما وقتله ثم كتب إلى عامله باليمن بأن
يأخذ النفر الذين نزلوا بأبي خراش فيغرمهم ديته ويؤدبهم بعد ذلك بعقوبة تمسهم جزاء
لأعمالهم صوت ( تهيمُ بها لا الدهرُ فانٍ ولا المنى ... سواها ولا يُنسيك نَأْيٌ
ولا شُغلُ ) ( كبيضةِ أُدحيٍّ بِميثِ خميلةٍ ... يحفَّفها جَوْنٌ بجؤجؤه
صَعْلُ ) الشعر لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة والغناء لابن محرز ثقيل أول بالوسطى
عن ابن المكي أخبار ابن دارة ونسبه هو عبد الرحمن بن مسافع بن دارة وقيل بل هو عبد
الرحمن بن ربعي بن مسافع بن دارة وأخوه مسافع بن دارة وكلاهما شاعر وفي شعريهماجميعا
غناء يذكرها هنا وأخوهما سالم بن مسافع بن دارة شاعر أيضا وفي بعض شعره غناء يذكر
بعد أخبار هذين فأما سالم فمخضرم قد أدرك الجاهلية والإسلام وأما هذان فمن شعراء
الإسلام ودارة لقب غلب على جدهم ومسافع أبوهم وهو ابن شريح بن يربوع الملقب بدارة
بن كعب بن عدي بن جشم بن عوف بن بهثة بن عبد الله بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن
مضر وهذا الشعر يقوله عبد الرحمن في حبس السمهري العكلي اللص وقتله وكان نديما له
وأخا هجا بني أسد وحرض عكلا عليهم أخبرني بخبره هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو
غسان دماذ عن أبي عبيدة قال لما أخذ السمهري العكلي وحبس وقتل وكانت بنو أسد أخذته
وبعثت به إلى السلطان وكان نديما لعبد الرحمن بن مسافع بن دارة فقتل بعد طول حبس
فقال عبد الرحمن بن مسافع يهجو بني أسد ويحرض عليهم عكلا صوت ( إِن يُمْسِ
بالعينين سُقْمٌ فقد أتى ... لعينيكَ من طول البكاء على جُمْلِ ) ( تهيمُ بها لا
الدهرُ فانٍ ولا المنى ... سواها ولا تُسْلى بنأْيٍ ولا شُغلِ ) ( كبيضة أَدحيٍّ
بمْيثِ خميلةٍ ... يُحَفِّفها جَوْن بجؤجؤه الصَّعلِ ) ( وما الشمسُ تبدو يومَ غيم فأَشرقَتْ
... على الشّامة العنقاء فالنِّير فالذبل ) ( بدا حَاجبٌ منهَا وضنَّتْ بحَاجب
... بأَحسن منها يوم زالت على الحمْلِ
) ( يقولون إزْلٌ حُبٌّ جُمْلٍ وقُرْبُها ... وقد كذبوا
ما في المودة من إزلِ ) ( إذا شحَطتْ عنّي وجدتُ حرارة ... على كبِدي كادت بها كمَداً
تغلي ) ( ولم أَرَ محزونَين أجملَ لوعةً ... على نَائبات الدهر مِنَِي ومن جُمل ) ( كلانا يذود
النفسَ وهْي حزينة ... ويُضمِرُ وجداً كَالنوافذ بالنبل ) ( وإِني لمُبلِي اليأْسِ من حُبّ غيرها
... فأَمَّا على جُمْلٍ فإِنيَ لا أُبلي ) ( وإنّ شفاء النفس لو تُسْعِفُ المنى
... ذواتُ الثنايا الغُرّ والحدَقِ النُّجلِ ) ( أُولئك إن يَمْنَعْنَ فالمنعُ
شِيمةٌ ... لهنَّ وإنْ يُعْطِينَ يُحْمدن بالبذلِ ) ( سأُمسِك بالوصل الذي كان بيننا ...
وهل تركَ الواشون والنأْيُ من وصل
) ( أَلا سَقِّيَانِي قهوةً فارسيّة ... من الأوَّل
المختوم ليست من الفضل ) ( تُنسّي ذوي الأحلامِ واللبِّ حلمَهم ... إذا أَزبدت في
دَنَّهَا زَبدَ الفحل ) ( ويا راكباً إمَّا عرضت فبلِّغَنْ ... عَلَى نأْيهم مني
القبائلَ من عُكل ) ( بأَنّ الذي أمست تجمجم فقعَسٌ ... إسارٌ بلا أَسْرٍ وَقتلٌ بلا
قتل ) ( وكيف تنام الليلَ عكلٌ ولم تنَل ... رِضَى قوَدٍ بالسمْهريّ ولا عقل ) ( فلا صلحَ حتى
تَنْحِط الخيلُ في القنا ... وتوقدَ نارُ الحرب بالحطب الجزل ) ( وَجُرْدٍ تَعادَى بالكماة كأنها ...
تُلاحِظ من غيظٍ بأَعينها القُبْل
) ( عليها رجال جالدوا يوم مَنْعِجٍ ... ذوي التاج
ضرَّابو الملوكِ على الوَهل ) (
بضربٍ يُزيل الهامَ عن مستقرِّه ... وطعنٍ كأَفواه
المفرَّجة اْلهُدْل ) ( علامَ تُمشّي فقعسٌ بدمائكم ... وما هي بالفَرغ المُنيفِ ولا
الأصل ) ( وكنّا حسِبنا فقعساً قبل هذه ... أذلَّ على وقع الهوان من النَّعْل ) ( فقد نظرْت نحو
السماءِ وسلّمَت ... على الناس واعتاضت بخِصْبٍ من المحل ) ( رمى الله في أكبادكم أن نجت بها ...
شِعابُ القِنان من ضعيفٍ ومن وَغْل
) ( وإِن أنتُم تثأروا بأخيكم ... فكونوا نِساءً للخَلوق
وللكُحْلِ ) ( وبيعوا الرّدينياتِ بالحَلْيِ واقْعدُوا ... على الذلّ
وابتاعوا المغازل بالنّبل ) ( ألا حبّذا من عندَهُ القلبُ في كَبْلٍ ... ومَنْ حُبّه داءٌ
وخبْلٌ من الخبل ) ( ومَن هو لا يُنسَى ومَنْ كلُّ قَولِه ... لدينا كطعم الراح أو
كجَنَى النّحل ) ( ومن إن نأَى لم يحدث النأيُ بغُضَه ... ومن إن دنا في الدار
أُرْصِدَ بالبَذْلِ ) ( وأما خبر السمهري ومقتله فإن علي بن سليمان الأخفش أخبرني به
قال حدثنا أبو سعيد السكري قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عمرو الشيباني قال خبر
مصرع السمهري لقي السمهري بن بشر بن أقيش بن مالك بن الحارث بن أقيش العكلي ويكنى
أبا الديل هو وبهدل ومروان بن قرفة الطائيان عون بن جعدة بن هبيرة ابن أبي وهب بن
عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ومعه خاله
أحد بني حارثة بن لأم من طيء بالثعلبية وهو يريد الحج من الكوفة أو يريد المدينة
وزعم آخرون أنهم لقوه بين نخل والمدينة فقالوا له العراضة أي مر لنا بشيء فقال يا
غلام جفن لهم فقالوا لا والله ما الطعام نريد فقال عرضهم فقالوا ولا ذلك نريد
فارتاب بهم فأخذ السيف فشد عليهم وهو صائم وكان بهدل لا يسقط له سهم فرمى عونا
فأقصده فلما قتلوه ندموا فهربوا ولم يأخذوا إبله فتفرقت إبله ونجا خاله الطائي إما
عرفوه فكفوا عن قتله وإما هرب ولم يعرف القتلة فوجد بعض إبله في يدي شافع بن واتر
الأسدي وبلغ عبد الملك بن مروان الخبر فكتب إلى الحجاج بن يوسف وهو عامله على العراق
وإلى هشام بن إسماعيل وهو عامله على المدينة والى عامل اليمامة أن يطلبوا قتله عون
ويبالغوا في ذلك وأن يأخذوا السعادة به أشد أخذ ويجعلوا لمن دل عليهم جعله وانشام
السمهري في بلاد غطفان ما شاء الله ثم مر بنخل فقالت عجوز من بني فزارة أظن والله
هذا العكلي الذي قتل عونا فوثبوا عليه فأخذوه ومر أيوب بن سلمة المخزومي بهم فقالت
له بنو فزارة هذا العكلي قاتل عون ابن عمك فأخذه منهم فأتى به هشام ابن إسماعيل
المخزومي عامل عبد الملك على المدينة فجحد وأبى أن يقر فرفعه إلى السجن فحبسه وزعم
آخرون أن بني عذرة أخذوه فلما عرفت إبل عون في يدي شافع ابن واتر اتهموه بقتله
فأخذوه وقالوا أنت قرفتنا قتلت عونا وحبسوه بصل ماء لبني أسد وجحد وقد كان عرف من
قتله إما أن يكون كان معهم فورى عنهم وبرأ نفسه وإما أن يكون أودعوها إياه أو
باعوها منه فقال شافع ( فإن سرَّكم أن تعلموا أين ثأْرُكم ... فسلمَى معانٌ وابن قرفة
ظالمُ ) ( وفي السجن عُكْلِيُّ شَريك لبهدل ... فولّوا ذُبابَ السّيف من هْو حازم ) ( فوالله ما كنا
جُناةً ولا بنا ... تأوّب عونا حتفُه وهو صائم ) فعرفوا من قتله فألحوا على بهدل في
الطلب وضيقوا على السمهري في القيود والسجن وجحد فلما كان ذلك من إلحاحهم على
السمهري أيقنت نفسه أنه غير ناج فجعل يلتمس الخروج من السجن فلما كان يوم الجمعة
والإمام يخطب وقد شغل الناس بالصلاة فك إحدى حلفتي قيده ورمى بنفسه من فوق السجن
والناس في صلاتهم فقصد نحو الحرة فولج غارا من الحرة وانصرف الإمام من الصلاة فخاف
أهل المدينة عامتهم أتباعه وغلقوا أبوابهم وقال لهم الأمير اتبعوه فقالوا وكيف
نتبعه وحدنا فقال لهم أنتم ألفا رجل فكيف تكونون وحدكم فقالوا أرسل معنا الأبليين
وهم حرس وأعوان من أهل الأبلة فأعجزهم الطلب فلما أمسى كسر الحلقة الأخرى ثم همس
ليلته طلقا فأصبح وقد قطع أرضا بعيدة فبينا هو يمضي إذ نعب غراب عن شماله فتطير
فإذا الغراب على شجرة بان ينشنش ريشه ويلقيه فاعتاف شيئا في نفسه فمضى وفيها ما
فيها فإذا هو قد لقي راعيا في وجهه ذلك فسأله من أنت قال رجل من لهب من أزد شنوءة
أنتجع أهلي فقال له هل عندك شيء من زجر قومك فقال إني لآنس من ذلك شيئا أي لأبصر
فقص عليه حاله غير أنه ورى الذنب على غيره والعيافة وخبره عن الغراب والشجرة فقال
اللهبي هذا الذي فعل ما فعل ورأى الغراب على البانة يطرح ريشه سيصلب فقال السمهري
بفيك الحجر فقال اللهبي بل بفيك الحجر استخبرتني فأخبرتك ثم تغضب ثم مضى حتى اغترز
في بلاد قضاعة وترك بلاد غطفان وذكر بعض الرواة أنه توقف يومه وليلته فيما يعمله
وهل يعود من حيث جاء ثم سار حتى أتى أرض عذرة بن سعد يستجير القوم فجاء إلى القوم
متنكرا ويستحلب الرعيان اللبن فيحلبون له ولقيه عبد الله الأحدب السعدي أحد بني
مخزوم من بني عبد شمس وكان أشد منه وألص فجنى جناية فطلب فترك بلاد تميم ولحق
ببلاد قضاعة وهو على نجيبة لا تساير فبينا السمهري يماشي راعيا لبني عذرة ويحدثه
عن خيار إبلهم ويسأله السمهري عن ذلك وإنما يسأله عن أنجاههن ليركبها فيهرب بها
لئلا يفارق الأحدب أشار له إلى ناقة فقال السمهري هذه خير من التي تفضلها هذه لا
تجارى فتحين الغفلة فلما غفل وثب عليها ثم صاح بها فخرجت تطير به وذلك في آخر الليل
فلما أصبحوا فقدوها وفقدوه فطلبوه في الأثر وخرجا حتى إذا كان حجر عن يسارهما وهو
واد في جبل أو شبه الثقب فيه استقبلتهما سعة هي أوسع من الطريق فظنا أن الطريق
فيها فسارا مليا فيها ولا نجم يأتمان به فلما عرفا أنهما حائدان والتفت عليهما
الجبال أمامهما وجد الطلب إثر بعيريهما ورأوه وقد سلك الثقب في غير طريق عرفوا أنه
سيرجع فقعدوا له بفم الثقب ثم كرا راجعين وجاءت الناقة وعلى رأسها مثل الكوكب من لغامها
فلما أبصر القوم هم أن يعقر ناقتهم فقال له الأحدب ما هذا جزاؤها فنزل ونزل الأحدب
فقاتلهما القوم حتى كادوا يغشون السمهري فهتف بالأحدب فطرد عنه القوم حتى توقلا في
الجبل وفي ذلك يقول السمهري يعتذر من ضلاله متفرقات من شعر السمهري ( وما كنت
محيارا ولا فزع السرى ... ولكن حذا حجر بغير دليل ) وقال الأحدب في ذلك ( لمّا دعاني
السمهريُّ أجبتُه ... بأبيضَ من ماء الحديد صقيلِ ) ( وما كنتُ ما اشتدّتْ على السيفِ
قبضتي ... لأُسْلِمَ من حُبَّ الحياة زميلي ) وقال السمهري أيضاً ( نجوتُ ونفسِي عند
ليلى رهينة ... وقد غَمّني داجِ من الليل دامسُ ) ( وغامسْتُ عن نفسي بأخلَقَ مِقصلٍ
... ولا خيرَ في نفس امرئٍ لاتُغَامِس
) ( ولو أَنّ ليلَى أَبصرتنِيَ غدوة ... ومَطْوايَ
والصفَّ الذين أُمارس ) ( إذاً لبكت ليلَى عليّ وأَعولت ... وما نالت الثوبَ الذي أَنا
لابس ) فرجع إلى صحراء منعج وهي إلى جنب أضاخ والحلة قريب منها وفيها منازل عكل فكان
يتردد ولا يقرب الحلة وقد كان أكثر الجعل فيه فمر بابني فائد بن حبيب من بني أسد
ثم من بني فقعس فقال أجيرا متنكرا فحلبا له فشرب ومضى لا يعرفانه وذهبا ثم لبث السمهري
ساعة وكر راجعا فتحدث إلى أخت ابني فائد فوجداه منبطحا على بطنه يحدثها فنظر
أحدهما إلى ساقه مكدحة وإذا كدوح طرية فأخبر أخاه بذلك فنظر فرأى ما أخبره أخوه
فارتابا به فقال أحدهما هذا والله السمهري الذي جعل فيه ما جعل فاتفقا على مضابرته
فوثبا عليه فقعد أحدهما على ظهره وأخذ الآخر برجليه فوثب السمهري فألقى الذي على
ظهره وقال أتلعبان وقد ضبط رأس الذي كان على ظهره تحت إبطه وعالجه الآخر فجعل رأسه
تحت إبطه أيضا وجعلا يعالجانه فناديا أختهما أن تعينهما فقالت ألي الشرك في جعلكما
قالا نعم فجاءت بجرير فجعلته في عنقه بأنشوطة ثم جذبته وهو مشغول بالرجلين يمنعهما
فلما استحكمت العقدة وراحت من علابيه خلى عنهما وشد أحدهما فجاء بصرار فألقاه في
رجله وهو يداور الآخر والأخرى تخنقه فخر لوجهه فربطاه ثم انطلقا به إلى عثمان بن حيان
المري وهو في إمارته على المدينة فأخذا ما جعل لأخذه فكتب فيه إلى الخليفة فكتب أن
ادفعه إلى ابن أخي عون عدي فدفع إليه فقال السمهري أتقتلني وأنت لا تدري أقاتل عمك
أنا أم لا ادن أخبرك فأراد الدنو منه فنودي إياك والكلب وإنما أراد أن يقطع أنفه
فقتله بعمه ولما حبسه ابن حيان في السجن تذكر زجر اللهبي وصدقة فقال ( ألا أيّها البيتُ
الذي أنا هاجِرُه ... فلا البيتُ منسيٌّ ولا أنا زائرُهْ ) ( ألا طرقت ليلَى وساقي رهينةٌ ...
بأشهبَ مشدودٍ عليّ مَسامرُه )
( فإن أنجُ يا ليلى فربّ فتىً نجا ... وإن تَكنِ الأخرى
فشيءٌ أحاذره ) ( وما أصْدَق الطيْر التي بَرِحت لنا ... وما أعيفَ اللّهِبيّ لا
عزَّ ناصرُه ) ( رأيتُ غُرابا ساقطا فوق بانة ... ينشنشُ أعلى ريشه ويُطايرِه ) ( فقال غرابٌ
باغترابٍ من النوى ... وبانٌ بِبَيْنٍ من حبيبٍ تُحاذره ) ( فكان اغترابٌ بالغراب ونِيةٌ ...
وبالبان بَيْنٌ بَيِّنٌ لك طائِرُه
) وقال السمهري في الحبس يحرض أخاه مالكا على ابني فائد ( فمن مُبلغٌ عنّي
خِليليَ مالكاً ... رسالة مشدود الوَثَاق غريبِ ) ( ومن مبلغْ حَزْماً وتَيْماً ومالكاً
... وأربابَ حامِي الحفر رهطِ شبيبِ
) ( ليُبْكوا التي قالت بصحراء مَنْعِج ... لِيَ
الشِّركُ يا بني فائدِ بن حبيب
) ( أَتضرب في لحمي بسهم ولم يكن ... لها في سهام
المسلمين نَصِيبُ ) وقال السمهري يرقق بني أسد ( تمنّتْ سُليمَى أن أَقِيلَ بأرضها ...
وأَنّى لسَلْمَى ويْبَهَا ما تَمَنَّتِ
) ( ألا ليتَ شعري هل أزورَنَّ ساجِراً ... وقد رَوِيَت
ماءَ الغوادي وعلّت ) ( بني أسد هل فيكمُ من هَوادةٍ ... فَتَغْفرَ إن كانتْ بي النعل
زَلَّتِ ) وبنو تميم تزعم أن البيت لمرة بن محكان السعدي وقال السمهري في الحبس يذم
قومه ( لقد جمع الحدّادُ بين عِصابة ... تسائل في الأقياد ماذا ذُنوبُها ) ( بمنزلة أمّا
اللئيمُ فشَامِتٌ ... بها وكِرامُ القوم بادٍ شحوبُها ) ( إذا حَرَسِيٌّ قَعقعَ البابَ
أُرْعِدَتْ ... فرائصُ أقوامٍ وطارت قلوبُها ) ( ألا ليتني من غير عُكْلٍ قبيلتي ...
ولم أدرِ ما شُبَّانُ عُكلٍ وشِيبُها )
( قبيلة مَنْ لا يقرع البابَ وفدُها ... لخير ولا يَهْدي
الصوابَ خطيبُها ) ( نرى الباب لا نَسطيع شيئا وراءه ... كأنّا قُنِيٌّ أسلَمتْها
كُعوبُها ) ( وإن تكُ عُكلٌ سرَّها ما أصابني ... فقد كنتُ مصبوباً على ما يَرِيبها ) وقال السمهري
أيضا في الحبس ( ألا حيِّ ليلَى إِذ ألَمَّ لِمامُها ... وكان مع القوم
الأعادِي كلامُها ) ( تعلَّلْ بليلَى إنما أنتَ هامَةٌ ... من الغد يدنو كلَّ يوم
حِمامُها ) ( وبادِرْ بليلَى أوجهَ الركب إنهم ... متى يرجِعوا يَحْرُمْ عليك كلامها ) ( وكيف ترجِّيها
وقد حِيلَ دونها ... وأَقسم أقوامٌ مَخوفُ قِسَامُها ) ( لأَجْتَنِبْنَها أو
لَيَبْتَدِرُنَّني ... ببيضٍ عليها الأَثْرُ فعْمٌ كلامُها ) ( لقد طرقتْ ليلَى ورِجْلِي رهينةٌ
... فما راعني في السجن إِلا لِمامها
) ( فلمّا انتبهتُ للخيال الذي سرى ... إذا الأرضُ قَفر
قد علاها قَتامُها ) ( فإلاّ تكن ليلَى طَوتْك فإِنه ... شبيهٌ بليلى حُسنُها
وقوامُها ) ( ألا ليتنَا نَحْيا جميعاً بغِبْطَةٍ ... وتَبلى عظامِي حين تبلى عِظامُها ) وقال أيضا ( ألا طرقتْ ليلَى
وساقِي رَهينةٌ ... بأسمَر مشدودٍ عليّ ثقيلُ ) ( فما البينُ يا سلْمى بأن تَشْحَطَ
النّوى ... ولكنّ بيناً ما يُرِيد عقيلُ ) ( فإن أنجُ منها أَنْجُ من ذي عظيمةٍ
... وإن تكن الأخرى فتلك سبيلُ
) وقال أيضا وهو طريد ( فلا تيأسَا من رحمةِ الله وانظُرا ...
بوادي جَبُونَا أن تَهُبَّ شَمال
) ( ولا تيأسا أن تُرْزَقا أريِحيَّةُ ... كعِينِ المها
أعناقُهنّ طِوال ) ( من الحارثِيِّينَ الذين دِماؤهم ... حَرامٌ وأما مالُهُم فحلال ) وقال أيضا ( ألم ترَ أنِّي
وابنَ أبيضَ قد جفت ... بنا الأرضُ إلا أَنْ نَؤمَّ الفَيافيا ) ( طَريديْن من
حيَّيْنِ شتى أَشَدَّنا ... مخافَتُنا حتى نخلْنا التّصافيا ) ( وما لُمْتُه في أمرِ حَزمٍ ونجدةٍ
... ولا لامني في مِرَّتِي واحتياليا
) ( وقلتُ له إذْ حلّ يسقي ويَسْتَقي ... وقد كَان ضوءُ
الصبح لِلَّيْلِ حاديا ) ( لعمري لقد لاقت ركابُك مشْرَباً ... لئنْ هِيَ لم تَضْبَحْ
عليهنَّ عاليا ) وأخذت طيء ببهدل ومروان أخيه أشد الأخذ وحبسوا فقالوا إن حبسنا
لم نقدر عليهما ونحن محبوسون ولكن خلوا عنا حتى نتجسس عنهما فنأتيكم بهما وكانا تأبدا
مع الوحش يرميان الصيد فهو رزقهما ولما طال ذلك على مروان هبط إلى راع فتحدث إليه
فسقاه وبسطه حتى اطمأن إليه ولم يشعره أنه يعرفه فجعل يأتيه بين الأيام فلا ينكره
فانطلق الراعي فأخبره باختلافه إليه فجاء معه الطلب وأكمنهم حتى إذا جاء مروان إلى
الراعي كما كان يفعل سقاه وحدثه فلم يشعر حتى أطافوا به فأخذوه وأتوا به عثمان بن حيان
أيضا عامل الوليد بن عبد الملك على المدينة فأعطى الذي دل عليه جعله وقتله نهاية
بهدل وأما بهدل فكان يأوي إلى هضبة سلمى فبلغ ذلك سيدا من سلمى من طيء فقال قد
أخيفت طيء وشردت من السهل من أجل هذا الفاسق الهارب فجاء حتى حل بأهله أسفل تلك
الهضبة ومعه أهلات من قومه فقال لهم إنكم بعيني الخبيث فإذا كان النهار فليخرج
الرجال من البيوت وليخلوا النساء فإنه إذا رأى ذلك انحدر إلى القباب وطلب الحاجة
والعل فكانوا يخلون الرجال نهارا فإذا أظلموا ثابوا إلى رحالهم أياما فظن بهدل
أنهم يفعلون ذلك لشغل يأتيهم فانحدر إلى قبة السيد وقد أمر النساء إن انحدر إليكن
رجل فإنه ابن عمكن فأطعمنه وادهن رأسه وفي قبة السيد ابنتان له فسألهما من أنتما
فأخبرتاه وأطعمتاه ثم انصرف فلما راح أبوهما أخبرتاه فقال أحسنتما إلى ابن عمكما
فجعل ينحدر اليهما حتى اطمأن وغسلتا رأسه وفلتاه ودهنتاه فقال الشيخ لابنتيه
أفلياه ولا تدهناه إذا أتاكما هذه المرة واعقدا خصل لمته إذا نعس رويدا بخمل
القطيفة ثم إذا شددنا عليه فاقلبا القطيفة على وجهه وخذا أنتما بشعره من ورائه
فمدا به إليكما ففعلتا واجتمع له أصحابه فكروا إلى رحالهم قبل الوقت الذي كانوا يأتونها
وشدوا عليه فربطوه فدفعوه إلى عثمان بن حيان فقتله فقالت بنت بهدل ترثيه ( فيَا ضَيْعةَ
الفِتيانِ إِذ يَعِتلونه ... ببطن الشّرى مثل الفنيق المسدّم ) ( دعَا دعوة لما أَتى أرضَ مالك ...
ومن لا يُجَبْ عند الحفيظة يُسلِم
) ( أما كان في قيسٍ من ابن حفيظة ... من القوم طَلاَّبِ
التِّرَات غَشمْشم ) ( فيقتُل جَبراً بامرئٍ لم يكن به ... بواءً ولكِنْ لا تكَايُلَ
بالدم ) وكان دعا يا لمالك لينتزعوه فلم يجبه أحد تساجل هو والكميت بن معروف قال
ولما قال عبد الرحمن بن دارة ابن عم سالم بن دارة هذه القصيدة يحض عكلا على بني
فقعس اعترض الكميت بن معروف الففعسي فعيره بقتل سالم حين قتله زميل الفزاري فقال
قوله ( فلا تُكثِروا فيه الضَّجاج فإِنه ... محا السيفُ ما قال ابنُ دارة أجمعا ) فقال عبد الرحمن
بن دارة ( فيا راكباً إمّا عرضْتَ فبلّغَنْ ... مُغَلْغَلةً عنّي القبَائلَ من عُكلِ ) ( جلت حمماً
عنها القِصَافُ وما جلتْ ... قُشَيْرٌ وفي الشّدّاتِ والحرب ما يُجلي ) ( فإِن يك باع
الفَقعسِيُّ دماءَهم ... بوَكٍ بوكس فقد كانت دماؤكم تَغلِي ) ( وكيف تنام الليلَ عُكلٌ ولم يكن ...
لها قَوَدٌ بالسّمْهريّ ولا عَقْلُ
) ( رمى اللَّهُ في أكبَادِهم إِن نجتْ بها ... حروفُ
القِنَانِ من ذليلٍ ومن وغلِ )
( وكنا حسبْنَا فقْعساً قبل هذه ... أذلّ على طول الهوان
من النَّعل ) ( فإن انتمُ لم تثأَروا بأَخيكمُ ... فكونوا بَغايا للخَلُوق
وللكُحل ) ( وبيعوا الردينيّاتِ بالحلْيِ واقعدوا ... على الوِتْرِ وابتاعوا المغازلَ بالنَّبل ) ( فإنّ الذي
كانت تُجمجمُ فقْعَسٌ ... قتيلٌ بلا قَتْلَى وَتَبْلٌ بلا تَبْلِ ) ( فلا سِلْمَ
حتى تنحَطَ الخيلُ بالقنا ... وتُوقَدَ نارُ الحَرْب بالحَطَب الجَزْلِ ) فلما بلغ قوله
مالكا أخا السمهري بخراسان انحط من خراسان حتى قدم بلاد عكل فاستجاش نفرا من قومه
فعلقوا في أرض بني أسد يطلبون الغرة فوجدوا بثادق رجلا معه امرأة من فقعس فقتلوه
وحزوا رأسه وذهبوا بالرأس وتركوا جسده كما قتلوها أيضا وذكر لي أن الرجل ابن سعدة والمرأة
التي كانت معه هي سعدة أمه فقال عبد الرحمن في ذلك ( مَا لقتيلِ فَقْعَسٍ لا رَأْسَ له ...
هلاَّ سألْتَ فقْعَساً من جَدّلَهْ )
( لا يتْبعَنَّ فَقْعَسِيٌّ جملَهْ ... فرداً إذا ما
الفقعسِيُّ أعملَه ) ( لا يلقَيَنَّ قاتلاً فيقتلَه ... بسيفه قد سَمَّهْ وصقَلْه ) وقال عبد الرحمن
أيضا ( لمَّا تمَالَى القومُ في رَأْدِ الضُّحَى ... نَظراً وقد لَمَعَ السّرابُ فجالا ) ( نظر ابنُ
سعْدةَ نظرةً ويَلاً لها ... كانت لصحبك والمطيِّ خَبالا ) ( لَمْحاً رَأَى من فوقِ طودٍ يافعٍ
... بعضَ العُداة وجُنّة وظِلالا
) ( عيَّرتَنِي طَلبَ الحُمُول وقد أَرَى ... لم آتهنَّ
مكفِّفا بطَّالا ) ( فانظر لنفسِكَ يا بن سَعْدةَ هل ترى ... ضبُعاً تجرُّ بثادِقٍ
أَوْصالا ) ( أوصالَ سَعْدةَ والكميتِ وإنما ... كان الكُميتُ على الكُميت عِيالا ) وقال عبد الرحمن
في ذلك ( أصبحتُمُ ثَكْلَى لِئاماً وأصبحتْ ... شياطينُ عُكْلٍ قد عَراهُنَّ فقْعَسُ ) ( قَضَى مالكٌ
ما قد قَضَى ثم قلّصت ... به في سواد الليل وجناءُ عِرْمُس ) ( فأضحتْ بأَعلى ثادقٍ وكأنها ...
مَحَالَةُ غَرْبٍ تستَمِرُّ وتمْرُس
) مقتله وحدثني علي بن سليمان الأخفش أن بني أسد ظفرت
بعبد الرحمن بن دارة بالجزيرة بعدما أكثر من سبهم وهجائهم وتآمروا في قتله فقال
بعضهم لا تقتلوه ولتأخذوا عليه أن يمدحنا ونحسن إليه فيمحو بمدحه ما سلف من هجائه
فعزموا على ذلك ثم إن رجلا منهم كان قد عضه بهجائه اغتفله فضربه بسيفه فقتله وقال في
ذلك ( قُتِلَ ابنُ دارةَ بالجزيرةِ سَبَّنَا ... وزعمتَ أن سِبَابَنَا لا يَقْتُلُ ) قال علي بن
سليمان وقد روي أن البيت المتقدم (
فلا تكثروا فيه الضَجَاج فإنه ... محا السيفُ ما قال
ابنُ دارة أجمعا ) لهذا الشاعر الذي قتل ابن دارة وهو من بني أسد وهكذا ذكر
السكري صوت ( كلانا يرى الجوزاءَ يا جُملُ إِذ بدت ... ونَجْمَ الثريا والمزارُ بعيدُ ) ( فكيف بكم يا
جملُ أَهلاً ودونكم ... بحورٌ يُقمِّصْن السّفينَ وبيدُ ) ( إذا قلتُ قد حان القفول يَصُدُّنا
... سليمانُ عن أهوائنا وسعيد )
الشعر لمسعود بن خرشة المازني والغناء لبحر خفيف ثقيل
بالوسطى عن الهشامي أخبار مسعود بن خرشة حنينه إلى جارية عشقها مسعود بن خرشة أحد
بني حرقوص بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم شاعر إسلامي بدوي من لصوص بني تميم قال
أبو عمرو وكان مسعود بن خرشة يهوى امرأة من قومه من بني مازن يقال لها جمل بنت
شراحيل أخت تمام بن شراحيل المازني الشاعر فانتجع قومها ونأوا عن بلادهم فقال
مسعود ( كلانا يرى الجوازءَ يا جُمْلُ إذ بدتْ ... ونَجْمَ الثّريَّا والمَزَارُ بعيدُ ) ( فيكف بكم يا
جُمْلُ أهلاً ودونَكم ... بُحورٌ يُقَمِّصْن السّفينَ وبِيدُ ) ( إّذا قلت قد
حان القُفولُ يصدُّنا ... سليمانُ عن أهوائنا وسعيدُ ) قال أبو عمرو ثم خطبها رجل من قومها
وبلغ ذلك مسعودا فقال ( أيا جملُ لا تشقَيْ بأَقْعَسَ حَنْكلٍ ... قليلِ النَّدى يسعى
بكِير ومِحْلَب ) ( له أعنزٌ حُوُّ ثمانٍ كأَنما ... يراهنّ غُرّ الخيل أَو هُنّ
أنجب ) وقال أبو عمرو وسرق مسعود بن خرشة إبلا من مالك بن سفيان بن عمرو الفقعسي هو
ورفقاء له وكان معه رجلان من قومه فأتوا بها اليمامة ليبيعوها فاعترض عليهم أمير
كان بها من بني أسد ثم عزل وولي مكانه رجل من بني عقيل فقال مسعود في ذلك ( يقول المرجفون
أجاءَ عهدُ كفى عهداً بتنفيذ القِلاصِ
) ( أتى عهدُ الإِمارة من عُقيلٍ ... أغرَّ الوجه رُكّب
في النواصي ) ( حُصونُ بني عُقيلٍ كلُّ عَضْبٍ ... إذا فَزِعوا وسابغةٍ دِلاصِ ) ( وما الجارات
عند المَحْل فيهم ... ولو كثر الروازحُ بالخِماصِ ) قال وقال مسعود وقد طلبه والي اليمامة
فلجأ إلى موضع فيه ماء وقصب ( ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلةَ ... بوعثاءَ فيها للظباءِ
مكانسُ ) ( وهل أنجُوَنْ من ذي لَبيدِ بن جابرٍ ... كأنَّ بناتِ الماء فيه المُجالس ) ( وهل أسمعَنْ
صوتَ القَطَا تندب القطا ... إلى الماء منه رابع وخوامس ) أخبار بحر ونسبه هو بحر بن العلاء
مولى بني أمية حجازي أدرك دولة بني هاشم وعمر إلى أيام الرشيد وقد هرم وكان له أخ
يقال له عباس وأخوه بحر أصغر منه مات في أيام المعتصم وكان يلقب حامض الرأس وله
صنعة وأقدمه الرشيد عليه ثم كرهه فصرفه الرشيد يشرب على أصواته حدثني جحظة قال
حدثني ميمون بن هارون قال حدثني أحمد بن أبي خالد الأحول عن علي بن صالح صاحب
المصلى أن الرشيد سمع من علوية ومخارق وهما يومئذ من صغار المغنين في الطبقة الثالثة
أصواتا استحسنها ولم يكن سمعها فقال لهما ممن أخذتما هذه الأصوات فقالا من بحر
فاستعادها وشرب عليها ثم غناه مخارق بعد أيام صوتا لبحر فأمر بإحضاره وأمره أن
يغني ذلك الصوت فغناه فسمع الرشيد صوتا حائلا مرتعشا فلم يعجبه واستثقله لولائه
لبني أمية فوصله وصرفه ولم يصل إليه بعد ذلك صوت ( إلا يا لَقومي للِنوائب والدّهر
... ولِلمرء يُرِدي نفسه وَهْو لا يَدري ) ( وللأرض كم من صالح قد تودّات ... عليه
فوارتْهُ بلمّاعةٍ قَفر ) عروضه من الطويل قال الأصمعي يقال للرجل أو للقوم إذا دعوتهم
يال كذا بفتح اللام وإذا دعوت للشيء قلت بالكسرة تقول يا للرجال ويا للقوم وتقول
يا للغنيمة ويا للحادثة أي اعجلوا للغنيمة وللحادثة فكأنه قال يا قوم اعجلوا
للغنيمة وروى الأصمعي وغيره مكان قد تودأت قد تلمأت عليه وتلاءمت أي وارته ويروى تأكمت
أي صارت أكمة الشعر لهدبة بن خشرم والغناء لمعبد ثقيل أول بإطلاق الوتر في مجرى
البنصر عن إسحاق أخبار هدبة بن خشرم ونسبه وقصته في قوله هذا الشعر وخبر مقتله هو
هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الكاهن وهو سلمة بن أسحم بن عامر بن ثعلبه بن
عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم وسعد بن هذيم شاعر من أسلم بن الحاف
بن قضاعة ويقال بل هو سعد بن أسلم وهذيم عبد لأبيه رباه فقيل سعد بن هذيم يعني
سعدا هذا طبقته في الشعر وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعرا راوية كان
يروي للحطيئة والحطيئة يروي لكعب بن زهير وكعب بن زهير يروي لأبيه زهير وكان جميل
راوية هدبة وكثير راوية جميل فلذلك قيل إن آخر فحل اجتمعت له الرواية إلى الشعر
كثير وكان لهدبة ثلاثة إخوة كلهم شاعر حوط وسيحان والواسع أمهم حية بنت أبي بكر بن
أبي حية من رهطهم الأدنين وكانت شاعرة أيضا وهذا الشعر يقوله هدبة في قتله زيادة
بن زيد بن مالك بن عامر بن قرة ابن حنش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان بن
الحارث بن سعد بن هذيم أخبرني بالخبر في ذلك جماعة من شيوخنا فجمعت بعض روايتهم
إلى بعض واقتصرت على ما لا بد منه من الأشعار وأتيت بخبرهما على شرح وألحقت ما نقص
من رواية بعضهم عن رواية صاحبه في موضع النقصان فممن حدثني به محمد بن العباس
اليزيدي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل العتكي تينة قال حدثنا خلف بن المثنى الحداني
عن أبي عمرو المديني وأخبرني الحسن بن يحيى ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر البوشنجي
عن حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه الحرب بين قومه بني عامر وقوم زيادة بن زياد
وأخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار
عن علي بن محمد بن سليمان النوفلي عن أبيه عن عمه وقد نسبت إلى كل واحد منهم ما
انفرد به من الرواية وجمعت ما اتفقوا عليه قال عيسى بن إسماعيل في خبره خاصة كان
أول ما هاج الحرب بين بني عامر بن عبد الله بن ذبيان وبين بني رقاش وهم بنو قرة بن
حفش بن عمرو بن عبد الله بن ثعلبة بن ذبيان وهم رهط زيادة بن زيد وبنو عامر رهط
هدبة أن حوط بن خشرم أخا هدبة راهن زيادة بن زيد على جملين من إبلهما وكان مطلقهما
من الغاية على يوم وليلة وذلك في القيظ فتزودوا الماء في الروايا والقرب وكانت أخت
حوط سلمى بنت خشرم تحت زيادة بن زيد فمالت مع أخيها على زوجها فوهنت أوعية زيادة
ففني ماؤه قبل ماء صاحبه فقال زيادة (
قد جعلت نَفْسِيَ في أَديِم ... مُحَرّمِ الدّباغ ذِي
هُزُومِ ) ( ثمّ رَمَت بِي عُرُضَ الدّيْمومِ ... في بارحٍ من وَهَج السَّموم ) ( عند اطّلاع
وعرة النجوم ... ) قال اليزيدي في خبره المحرم الذي لم يدبغ والهزوم الشقوق قال وقال
زيادة أيضا ( قد علِمَتْ سلمةُ بالعَميسِ ... ليلَة مَرْمَارٍ وَمَرْمَرِيس ) ( أَنّ أَبَا
المِسْور ذو شَرِيس ... يَشفي صُداع الأبلَج الدِّلْعِيس ) العميس موضع والمرمار والمرمريس الشدة
والاختلاط وأبا المسور يعني زيادة نفسه وكانت كنيته أبا المسور تبادل التشبيب
بأختيهما قال فكان ذلك أول ما أثبت الضغائن بينهما ثم إن هدبة بن خشرم وزيادة بن
زيد اصطحبا وهما مقبلان من الشام في ركب من قومهما فكانا يتعاقبان السوق بالإبل
وكان مع هدبة أخته فاطمة فنزل زيادة فارتجز فقال ( عُوجي علينا واربَعي يا فاطَما ... ما
دون أَن يُرَى البَعيرُ قائمَا
) أي ما بين مناخ البعير إلى قيامه ( ألا تَرين الدمع
منّي ساجمَا ... حِذارَ دارٍ منك لن تُلائمَا ) ( فَعرَّجَتْ مطَّرداً عُراهِمَا ...
فَعْماً يبذّ القُطُفَ الرَّوَاسما
) مطرد متتابع السير وعراهم شديد وفعم ضخم والرسيم سير
فوق العنق والرواسم الإبل التي تسير هذا السير الذي ذكرناه ( كأن في المثْناة منه عائَما ... إِنّكَ
والله لأَنْ تُبَاغِمَا ) المثناة الزمام وعائم سائح تباغم تكلم ( خَوْداً كأَنّ البُوْصَ والمآكما ...
منها نقاً مُخالطٌ صَرائما ) البوص العجز والمأكمتان ما عن يمين العجز وشماله والنقا ما عظم
من الرمل والصرائم دونه ( خيرُ من استقبالك السَّمائمَا ... ومن مُنادٍ يبتغي مُعَاكِما ) ويروى ومن نداء
أي رجل تناديه تبتغي أن يعينك على عكمك حتى تشده فغضب هدبة حين سمع زيادة يرتجز
بأخته فنزل فرجز بأخت زيادة وكانت تدعى فيما روى اليزيدي أم حازم وقال الآخرون وأم
القاسم فقال هدبة ( لقد أراني والغُلامَ الحازمَا ... نُزجِي المَطيَّ ضُمّراً
سَواهِما ) ( متى تَظُنّ القُلُصَ الرّوَاسما ... والجِلّةَ النّاجيةَ العَيَاهِما ) العَياهم الشداد
( يُبلِغْن
أمَّ حازم وحازماً ... إذا هَبَطن مُسْتَحيراً قاتِمَا ) ( ورجَّع الحادي لهما الهَمَاهِمَا
... ألا تَريْنَ الحُزنَ مني دائمَا
) ( حِذارَ دارٍ منك لن تُلائما ... والله لا يَشفي
الفؤادَ الهائمَا ) ( تَمساحُكَ اللَّبّاتِ والمآكمَا ... ولا اللِّمامُ دون أن
تلازِمَا ) ( ولا اللِثام دون أن تُفاقما ... ولا الفِقامُ دون أن تفاغمَا ) ( وتَعْلُوَ
القوائمُ القوائما ... ) قال فشتمه زيادة وشتمه هدبة وتسابا طويلا فصاح بهما القوم
اركبا لاحملكما الله فإنا قوم حجاج وخشوا أن يقع بينهما شر فوعظوهما حتى أمسك كل
واحد منهما على ما في نفسه وهدبة أشدهما حنقا لأنه رأى أن زيادة قد ضامه إذ رجز
بأخته وهي تسمع قوله ورجز هو بأخته وهي غائبة لا تسمع قوله فمضيا ولم يتحاورا
بكلمة حتى قضيا حجهما ورجعا إلى عشيرتيهما خبر عمه زفر وسبب غضب قومه قال اليزيدي
خاصة في خبره ثم التقى نفر من بني عامر من رهط هدبة فيهم أبو جبر وهو رئيسهم الذي
لا يعصونه وخشرم أبو هدبة وزفر عم هدبة وهو الذي بعث الشر وحجاج بن سلامة وهو أبو
ناشب ونفر من بني رقاش رهط زيادة وفيهم زيادة بن زيد وإخواته عبد الرحمن ونفاع
وأدرع بواد من أودية حرتهم فكان بينهم كلام فغضب ابن الغسانية وهو أدرع وكان زفر
عم هدبة يعزى إلى رجل من بني رقاش فقام له أدرع فرجز به فقال ( أَدُّوا إلينا
زُفَرَا ... نعرفُ منه النَّظَرَا
) ( وعينَه والأثَرَا ... ) قال فغضب رهط هدبة وادعوا حدا على
بني رقاش فتداعوا إلى السلطان ثم اصطلحوا على أن يدفع إليهم أدرع فيخلو به نفر
منهم فما رأوه عليه أمضوه فلما خلوا به ضربوه الحد ضربا مبرحا فراح بنو رقاش وقد أضمروا
الحرب وغضبوا فقال عبد الرحمن بن زيد (
ألا أَبلغ أبا جَبْرٍ رسولاً ... فما بيني وبينكُم
عِتابُ ) ( ألم تعلم بأن القوم راحوا ... عشيةَ فارقوك وهم غِضابُ ) فأجابه الحجاج
بن سلامة فقال ( إن كان ما لاقى ابنُ كنعاء مُرغِماً ... رقاشَ فزاد اللَّهُ
رَغْما سِبالَها ) ( منعنا أخانا إذ ضربنا أخاكُم ... وتلك من الأعداء لا مِثْلَ
مالها ) هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار قال اليزيدي في خبره وجعل هدبة وزيادة يتهاديان
الأشعار ويتفاخران ويطلب كل واحد منهما العلو على صاحبه في شعره وذكر أشعارا كثيرة
فذكرت بعضها وأتيت بمختار ما فيه فمن ذلك قول زيادة في قصيدة أولها ( أراك خليلاً قد
عزمت التَجنبا ... وقطَّعتَ حاجاتِ الفؤاد فأصحبا ) اخترت منها قوله ( وأنك للناس
الخليلُ إذا دنتْ ... به الدارُ والباكي إذا ما تغيَّبا ) ( وقد أعذَرَتْ صرفُ الليالي بأهلها
... وشَحْطُ النَّوَى بيني وبينك مَطلبا ) ( فلا هي تأْلو ما نأَتْ وتباعدَتْ
... ولا هو يأْلو ما دنا وتقرَّبا
) ( اطعتُ بها قول الوشاة فلا أرى الوشاةَ ... انتهوا
عنه ولا الدهرَ أَعتبا ) ( فهلاّ صَرمْتِ والحبالُ متينةٌ ... أُميمةُ إن واشٍ وشى
وتكذَّبا ) ( إذا خفتَ شكَّ الأمرِ فارمِ بعزمة ... غَيَابَتَه يركب بك الدهرُ مركبا ) ( وإن وِجهةٌ
يُدَّتْ سدت عليك فُروُجُها ... فإِنّك لاقٍ لا محالة مذهبا ) ( يُلامُ رجالٌ قبل تجريبِ غَيْبِهم
... وكيف يُلام المرءُ حتى يُجرَّبا
) ( وإنيّ لمِعراضٌ قليلٌ تعرُّضي ... لوجه امرئ يوما
إذا ما تجنَّبا ) ( قليلٌ عِثَاري حين أُذعَرُ ساكنٌ ... جَناني إذا ما الحرب
هرَّت لتكْلَبا ) ( بحسبك ما يأتيك فاجمع لنازل ... قِراهُ ونَوِّبْه إذا ما
تنوّبا ) ( ولا تَنتجِع شَراًّ إذا حيل دونه ... بِسِتْرٍ وهَبْ أسبابَه ما تهيّبا ) ( أنا ابن
رَقاشٍ وابنُ ثعلبةَ الذي ... بنى هاديا يعلو الهواديَ أغلبا ) ( بنَى العِزُّ بنياناً لقومي فما
صَعْوا ... بأَسيافهم عنه فأَصبح مُصعَبا ) ( فما إنْ ترى في الناس أُماً كأُمِّنا
... ولا كأبينا حين ننسبُهُ أَبا
) ( أَتمَّ وأَنمى بالبنين إلى العلا ... وأَكرمَ منا في
المناصب مَنصَبا ) ( مَلَكنا ولم نُملَكْ وقُدْنا ولم نُقَدْ ... كأَنّ لنا حقاً
على الناس تُرتَبا ) قال اليزيدي ترتب ثابت لازم ( بآيةِ أنّا لا نرى مُتَتَوِّجاً ... من
الناسِ يعلونا إذا ما تعصّبا )
( ولا مِلكاً إلا اتّقانا بمُلكه ... ولا سُوقةً إلا على
الخَرْج أُتعِبا ) ( ملكنا ملوكاً واستبحْنا حِماهُم ... وكنّا لهم في الجاهلية
موكِبا ) ( ندامى وأردافاً فلم تَرَ سُوقةً ... توازننا فاسأَل إياداً وتَغلِبا ) فأجابه هدبة
وهذا مختار ما فيها فقال ( تَذَكّر شَجواً من أُميمةَ مُنصِبا ... تليداً ومُنتاباً من
الشوق مُجْلِبا ) ( تَذَكّرَ حبًّا كان في مَيْعة الصِّبا ... ووجداً بها بعد
المشيب مُعتِّبا ) ( إذا كادَ ينساها الفؤادُ ذكرتُها ... فيا لكِ ما عَنّى الفؤادَ
وعذَّبا ) ( غَدّا في هواها مستكيناً كأَنه ... خليعُ قِداحٍ لم يجد متنشَّبا ) ( وقد طال ما
كان عُلِّقْتَ ليلى مُغَمّرا ... وليدا إلى أن صار رأْسُكَ أشْيَبا ) المغمر الغمر أي
غير حدث ( رأيتك في لَيلَى كذي الدَّاءِ لم يجد ... طبيباً يداوِي ما به فَتَطَبَّبا ) ( فلما اشتفى
مما به كرَّ طِبُّه ... على نفسه من طول ما كان جرَّبا ) قتل زيادة وتنحى ثم استسلم فلم يزل
هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها فبيته فقتله وتنحى مخافة السلطان وعلى المدينة
يومئذ سعيد بن العاص فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم بالمدينة فلما بلغ هدبة ذلك
أقبل حتى أمكن من نفسه وتخلص عمه وأهله فلم يزل محبوسا حتى شخص عبد الرحمن بن زيد
أخو زيادة إلى معاوية فأورد كتابه إلى سعيد بأن يقيد منه إذا قامت البينة فأقامها
فمشت عذرة إلى عبد الرحمن فسألوه قبول الدية فامتنع وقال صوت ( أنختُم علينا
كَلْكَلَ الحرب مُرَّة ... فنحن منيخوها عليكم بكلكَلِ ) ( فلا يدْعُني قومي لزيدِ بن مالك ...
لئن لم أُعجِّل ضربةً أُو أعجَّلِ
) ( أبعد الذي بالنَّعْف نعفِ كُوَيْكِبٍ ... رهينةِ
رمسٍ ذي تراب وجندلِ ) ( كريمٌ أصابته دياتٌ كثيرة ... فلم يدر حتى حين من كل مدخل ) ( أُذكَّر
بالبُقْيا على من أَصابني ... وبُقيايَ أَني جاهدٌ غيرُ مؤتِلي ) غناه ابن سريج
رملا بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وقيل إنه لمالك بن أبي السمح وله فيه لحن
آخر رجع الخبر إلى سياقته سعيد بن العاص يحكم معاوية في أمر هدبة وأما علي بن محمد
النوفلي فذكر عن أبيه أن سعيد بن العاص كره الحكم بينهما فحملهما إلى معاوية فنظر
في القصة ثم ردها إلى سعيد وأما غيره فذكر أن سعيدا هو الذي حكم بينهما من غير أن
يحملهما إلى معاوية قال علي بن محمد عن أبيه فلما صاروا بين يدي معاوية قال عبد
الرحمن أخو زيادة له يا أمير المؤمنين أشكو إليك مظلمتي وما دفعت إليه وجرى علي
وعلى أهلي وقرباي وقتل أخي زيادة وترويع نسوتي فقال له معاوية يا هدبة قل فقال إن
هذا رجل سجاعة فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاما أو شعرا فعلت قال لا بل شعرا فقال
هدبة هذه القصيدة ارتجالا ( ألا يا لقَومي لِلنّوائب والدّهر ... ولِلمرء يُردِي نفسه وهْو
لا يدرِي ) ( ولِلأرض كم من صالحٍ قد تأَكَّمَت ... عليه فوارتْهُ بلمَّاعةٍ قَفْر ) ( فلا تتّقي ذا
هَيْبة لجلالِه ... ولا ذا ضياعٍ هنّ يُتْركْن للفقر ) حتى قال ( رُمِينا فَرامَينا فصادف رَمْيُنا ...
مَنايا رجالٍ في كتابٍ وفي قَدْر
) ( وأنت أميرُ المؤمنين فما لنا ... وراءك من مَعدىً
ولا عنك من قَصْر ) ( فإن تك في أموالنا لم نَضِق بها ... ذِراعاً وإن صبرٌ فنصبِرُ
للصّبر ) فقال له معاوية أراك قد أقررت بقتل صاحبهم ثم قال لعبد الرحمن هل لزيادة ولد
قال نعم المسور وهو غلام صغير لم يبلغ وأنا عمه وولي دم أبيه فقال إنك لا تؤمن على
أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق والمسور أحق بدم أبيه فرده إلى المدينة فحبس ثلاث
سنين حتى بلغ المسور جميل بن معمر يزوره في السجن ويهديه أخبرني الحرمي بن العلاء
قال حدثنا الزبير بن بكار قال نسخت من كتاب عامر بن صالح قال دخل جميل بن معمر
العذري على هدبة بن خشرم السجن وهو محبوس بدم زيادة بن زيد وأهدى له بردين من ثياب
كساه إياها سعيد بن العاص وجاءه بنفقة فلما دخل إليه عرض ذلك عليه وسأله أن يقبله
منه فقال له هدبة أأنت يا بن معمر الذي تقول ( بني عامرٍ أنَّى انتجعْتُم وكنتُم ...
إذا عُدِّد الأقوامُ كالخُصْية الفرد
) أما والله لئن خلص الله لي ساقي لأمدن لك مضمارك خذ
برديك ونفقتك فخرج جميل فلما بلغ باب السجن خارجا قال اللهم أغن عني أجدع بني عامر
قال وكانت بنو عامر قد قلت فحالفت لإياد قال أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني فقالت
أم هدبة فيه لما شخص إلى المدينة فحبس بها ( أيا إخوتي أهلَ المدينة أكرموا ...
أسيركُمُ إن الأسيرَ كريمُ ) ( فَرُبَّ كريمٍ قد قَرَاه وضافَه ... ورُبَّ أمورٍ كلُّهن عظيم ) ( عَصَى جلُّهَا
يوماً عليه فراضَه ... من القوم عَيّافٌ أشمُّ حليمُ ) فأرسل هدبة العشيرة إلى عبد الرحمن في
أول سنة فكلموه فاستمع منهم ثم قال (
أبعد الذي بالنَّعف نعفِ كُويْكِبِ ... رهينةِ رمس ذي
تُراب وجندَل ) ( أُذكَّر بالبُقْيا على مَنْ أصابني ... وبُقْيَايَ أني جاهدٌ
غيرُ مُؤْتلي ) فرجعوا إلى هدبة بالأبيات فقال لم يؤئسني بعد فلما كانت السنة الثالثة
بلغ المسور فأرسل هدبة إلى عبد الرحمن من كلمه فأنصت حتى فرغوا ثم قام عنه مغضبا
وأنشأ يقول ( سأُكذِب أَقواماً يقولون إنّني ... سآخذُ مالاً من دم أنا ثائرُهْ ) ( فبِاسْتِ
امرئٍ واسْتِ التي زَحَرت به ... يسوق سَواماً من أخٍ هو واترُهْ ) ونهض فرجعوا إلى
هدبة فأخبروه الخبر فقال الآن أيست منه وذهب عبد الرحمن بالمسور وقد بلغ إلى والي
المدينة وهو سعيد بن العاص وقيل مروان بن الحكم فأخرج هدبة لقاؤه الأخير بزوجته
قالوا فلما كان في الليلة التي قتل في صباحها أرسل إلى امرأته وكان يحبها إيتيني
الليلة أستمتع بك وأودعك فأتته في اللباس والطيب فصارت إلى رجل قد طال حبسه وأنتنت
في الحديد رائحته فحادثها وبكى وبكت ثم راودها عن نفسها وطاوعته فلما علاها سمعت
قعقعة الحديد فاضطربت تحته فتنحى عنها وأنشأ يقول ( وأدْنَيْتِني حتى إذا ما جعلتِني ...
لَدَى الخصْر أو أدنَى استقَلَّك راجفُ
) ( فإن شئتُ والله انتهيتُ وَإنّني ... لئلا ترَيْني
آخرَ الدهر خائفُ ) ( رأت ساعدَيْ غُولٍ وتحت ثيابه ... جآجئ يدْمَى حدُّها
وَالحراقفُ ) ثم قال الشعر حتى أتى عليه وهو طويل جدا وفيه يقول ( فلم تَرَ عيني مثلَ سربٍ رأيتُه ...
خرجْنَ علينا من زقاق ابنِ وَاقفِ
) ( تضمَّخْن في الجاديِّ حتى كأنَّما الأنوفُ ... إِذا
استَعْرَضْتَهُنّ رَوَاعِف ) ( خرجن بأَعناق الظباء وأعينُ الجآذرِ وَارتجَّت لهن السَّوالف ) ( فلو أنّ
شيْئاً صاد شيئا بطَرفه ... لصِدْن ظباء فوقهنَّ المطارفُ ) غنى فيه الغريض رملا بالبنصر من رواية
حبش وفيه لحن خفيف ثقيل وذكر إسحاق أن فيه لحنا ليونس ولم يذكر طريقته في مجرده أخبرنا
الحرمي قال حدثنا الزبير عن عمه قال مر أبو الحارث جمين يوما بسوق المدينة فخرج
عليه رجل من زقاق ابن واقف بيده ثلاث سمكات قد شق أجوافها وقد خرج شحمها فبكى أبو
الحارث ثم قال تعس الذي يقول ( فلم تَرَ عيني مثلَ سِربٍ رأيته ... خرجن علينا من زُقاقِ ابنِ
وَاقفِ ) وانتكس ولا انجبر والله لهذه السمكات الثلاث أحسن من السرب الذي وصف وأحسب
أن هذا الخبر مصنوع لأنه ليس بالمدينة زقاق يعرف بزقاق ابن واقف ولا بها سمك ولكن
رويت ما روي شعره في حبى امرأة مالك وقال حماد بن إسحاق عن أبيه أن ابن كناسة قال مر
بهدبة على حبى فقالت في سبيل الله شبابك وجلدك وشعرك وكرمك فقال هدبة ( تَعَجّبُ حُبَّى
من أسير مُكبّلٍ ... صَليِبِ العَصَا باقٍ على الرّسَفَانِ ) ( فلا تَعْجَبي مِنِّي حَليلَة مالكٍ
... كذلك يأْتي الدهرُ بالحدَثانِ
) وقال النوفلي عن أبيه فلما مضي به من السجن للقتل
التفت فرأى امرأته وكانت من أجمل النساء فقال ( أَقِلِّي عليّ اللَّومَ يا أُمّ
بَوزَعا ... ولا تَجْزَعي ممّا أصَابَ فأَوجعا ) ( ولا تْنكَحي إِن فرّق الدهرُ بيننا
... أغَمّ القفا والوجهِ ليس بأنْزَعا )
( كَليلاً سوى ما كان من حَدّ ضِرْسه ... أُكَيْبِدَ
مِبْطانَ العَشِيّاتِ أرْوَعا )
( ضَروباً بلَحييْه على عَظم زَوره ... إذا الناس
هَشُّوا للفَعال تَقنَّعا ) ( وحُلِّي بذي أُكرومة وحَمِيّةٍ ... وَصبْرٍ إذا ما الدهر عَضَّ
فأَسرعا ) يذكر شرط زوجته في الزواج بعد موته وقال حماد عن أبيه عن مصعب بن عبد الله
قال لما أخرج هدبة من السجن ليقتل جعل الناس يتعرضون له ويخبرون صبره ويستنشدونه
فأدركه عبد الرحمن بن حسان فقال له يا هدبة أتأمرني أن أتزوج هذه بعدك يعني زوجته
وهي تمشي خلفه فقال نعم إن كنت من شرطها قال وما شرطها قال قد قلت في ذلك ( فلاَ تنكَحِي إنْ
فَرَّق الدهرُ بيننا ... أغَّم القفا والوجهِ ليس بأنزعا ) ( وكُوني حَبِيساً أو لأروعَ ماجدٍ
... إذا ضَنَّ أعشاشُ الرّجال تَبرَّعا
) فمالت زوجته إلى جزار وأخذت شفرته فجدعت بها أنفها
وجاءته تدمى مجدوعة فقالت أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح قال فرسف في قيوده وقال الآن
طاب الموت وقال النوفلي عن أبيه إنها فعلت ذلك بحضرة مروان وقالت له إن لهدبة عندي
وديعة فأمهله حتى آتيه بها قال أسرعي فإن الناس قد كثروا وكان جلس لهم بارزا عن
داره فمضت إلى السوق فانتهت إلى قصاب وقالت أعطني شفرتك وخذ هذين الدرهمين وأنا
أردها عليك ففعل فقربت من حائط وأرسلت ملحفتها على وجهها ثم جدعت أنفها من أصله وقطعت
شفتيها ثم ردت الشفرة وأقبلت حتى دخلت بين الناس وقالت يا هدبة أتراني متزوجة بعد
ما ترى قال لا الآن طابت نفسي بعد بالموت ثم خرج يرسف في قيوده فإذا هو بأبويه
يتوقعان الثكل فهما بسوء حال فأقبل عليهما وقال ( أبلِياني اليومَ صبراً منكما ... إنّ
حُزْناً إن بدا بادئُ شرَ ) ( لا أُراني اليومَ إلا ميِّتاً ... إنّ بعدَ الموت دارَ
المستَقَرّ ) ( اصبِرَا اليوم فإني صابرٌ ... كلُّ حَيًّ لقَضاء وقَدرْ ) زوجته تنكث
بعهدها قال النوفلي فحدثني أبي قال حد حدثني رجل من عذرة عن أبيه قال إني لببلادنا
يوما في بعض المياه فإذا أنا بامرأة تمشي أمامي وهي مدبرة ولها خلق عجيب من عجز
وهيئة وتمام جسم وكمال قامة فإذا صبيان قد اكتنفاها يمشيان قد ترعرعا فتقدمتها
والتفت إليها فإذا هي أقبح منظر وإذا هي مجدوعة الأنف مقطوعة الشفتين فسألت عنها
فقيل لي هذه امرأة هدبة تزوجت بعده رجلا فأولدها هذين الصبيين قال ابن قتيبة في
حديثه فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدية عنه قال أعطيك ما لم يعطه أحد من
العرب أعطيك مائة ناقة حمراء ليس فيها جداء ولا ذات داء فقال له والله لو نقبت لي
قبتك هذه ثم ملأتها لي ذهبا ما رضيت بها من دم هذا الأجدع فلم يزل سعيد يسأله
ويعرض عليه فيأبى ثم قال له والله لو أردت قبول الدية لمنعني قوله ( لنَجدَعَنّ
بأيدينا أُنوفَكم ... ويذهبُ القتلُ فيما بيننا هَدَرا ) فدفعه حينئذ لقتله بأخيه تعريضه بحبى
في طريقه إلى الموت قال حماد وقرأت على أبي عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال ومر
هدبة بحبى فقالت له كنت أعدك في الفتيان وقد زهدت فيك اليوم لأني لا أنكر أن يصبر
الرجال على الموت لكن كيف تصبر عن هذه فقال أما والله إن حبي لها لشديد وإن شئت
لأصفن لك ذلك ووقف الناس معه فقال (
وَجِدت بها ما لم تَجِد أُمّ واحد ... ولا وجدُ حُبّى
بابن أُمّ كِلابِ ) ( رأَته طويل السّاعدين شمَرْدَلا ... كما تَشْتَهي من قوة وشباب ) فانقمعت داخلة
إلى بيتها فأغلقت الباب دونه قالوا فدفع إلى أخي زيادة ليقتله قال فاستأذن في أن
يصلي ركعتين فأذن له فصلاهما وخفف ثم التفت إلى من حضر فقال لولا أن يظن بي الجزع
لأطلتهما فقد كنت محتاجا إلى إطالتهما ثم قال لأهله إنه بلغني أن القتيل يعقل ساعة
بعد سقوط رأسه فإن عقلت فإني قابض رجلي وباسطها ثلاثا ففعل ذلك حين قتل وقال قبل
أن يقتل ( إن تقتلوني في الحديد فإنني ... قتلتُ أخاكم مُطْلقا لم يُقَيّدِ ) فقال عبد الرحمن
أخو زيادة والله لا قتلته إلا مطلقا من وثاقه فأطلق له فقام إليه وهز السيف ثم قال
( قد
علِمتْ نفسِي وأنت تعلمُهْ ... لأقتلَنَّ اليومَ من لا أَرحمُهْ ) ثم قتله فقال
حماد في روايته ويقال إن الذي تولى قتله ابنه المسور دفع إليه عمه السيف وقال له
قم فاقتل قاتل أبيك فقام فضربه ضربتين قتله فيهما هو أول من أقيد منه في الإسلام
أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد فرأت على أبي قال بلغني أن هدبة أول من أقيد
منه في الإسلام قال أحمد بن الحارث الخراز قال المدائني مرت كاهنة بأم هدبة وهو
وأخوته نيام بين يديها فقالت يا هذه إن الذي معي يخبرني عن بنيك هؤلاء بأمر قالت
وما هو قالت أما هدبة وحوط فيقتلان صبرا وأما الواسع وسيحان فيموتان كمدا فكان
كذلك أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي أخبرك مروان بن أبي حفصة قال
كان هدبة أشعر الناس منذ يوم دخل السجن إلى أن أقيد منه قال الخراز عن المدائني
قال واسع بن خشرم يرثي هدبة لما قتل (
يا هُدْبَ يا خيْرَ فتيان العشيرةِ مَنْ ... يُفجَعْ
بمثلك في الدّنيا فقد فُجِعَا )
( الله يعلم أنّي لو خشيتهمُ ... أو أَوجسَ القلبُ من
خوفٍ لهم فزعا ) ( لم يقتلوه ولم أُسلِم أخي لهمُ ... حتى نَعيش جَمِيعاً أو
نَمُوت معا ) وهذه الأبيات تمثل بها إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي ابن أبي طالب
رضي عنهم لما بلغه قتل أخيه محمد أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أحمد بن
أبي خيثمة قال حدثني مصعب الزبيري قال كنا بالمدينة أهل البيوتات إذا لم يكن عند
أحدنا خبر هدبة وزيادة وأشعارهما ازدريناه وكنا نرفع من قدر أخبارهما وأشعارهما
ونعجب بها كان جميل بن معمر راوية هدبة أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني محمد
بن الحسن الأحول عن رواية من الكوفيين قالوا كان جميل بن معمر العذري راوية هدبة
وكان هدبة راوية الحطيئة وكان الحطيئة راوية كعب بن زهير وأبيه حدثني حبيب بن نصر
المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو المغيرة محمد بن إسحاق قال
حدثني أبو مصعب الزبيري قال حدثني المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه قال بعث
هدبة بن خشرم إلى عائشة زوج النبي يقول لها استغفري لي فقالت إن قتلت استغفرت لك صوت
( أَلم تَرَ أنّي يومَ جوِّ سُوَيْقَةٍ ... بكيتُ فنادتني هُنيدةُ ماليَا ) ( فقلتُ لها إنّ
البكاء لراحةٌ ... به يشتفي مَنْ ظنّ أن لا تلاقيا ) ( قِفي ودّعينا يا هُنَيْدَ فإنَني
... أرى القوم قد شاموا العَقِيقَ اليمانيا ) ويروى أرى الركب قد شاموا ( إذا اغرورقت
عَيناي أسبَلَ منهما ... إلى أن تغيب الشِّعْريان بكائيا ) الشعر للفرزدق من قصيدة يهجو بها
جريرا وهي فيما قيل أول قصيدة هجاه بها والغناء لابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي
قال الهشامي وفيه لمالك ثقيل أول وابتداء اللحنين جميعا ( ألم تر أني يوم جوّ سُوَيْقَة ... ) ولعلوية فيه
لحن من الرمل المطلق ابتداؤه ( قفي ودعينا يا هنيدَ فإنني ... ) نسب الفرزدق وأخباره وذكر
مناقضاته الفرزدق لقب غلب عليه وتفسيره الرغيف الضخم الذي يجففه النساء للفتوت
وقيل بل هو القطعة من العجين التي تبسط فيخبز منها الرغيف شبه وجهه بذلك لأنه كان
غليظا جهما واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن
مجاشع بن دارم بن مالك ابن حنظلة بن زيد مناة بن تميم قال أبو عبيدة اسم دارم بحر
واسم أبيه مالك عوف ويقال عرف وسمي دارم دارما لأن قوما أتوا أباه مالكا في حمالة
فقال له قم يا بحر فأتني بالخريطة يعني خريطة كان له فيها مال فحملها يدرم عنها
ثقلا والدرمان تقارب الخطو فقال لهم جاءكم يدرم بها فسمي دارما وسمي أبوه مالك
عرفا لجوده وأم غالب ليلى بنت حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع وكان
للفرزدق أخ يقال له هميم ويلقب الأخطل ليست له نباهة فأعقب ابنا يقال له محمد فمات
والفرزدق حي فرثاه وخبره يأتي بعد وكان للفرزدق من الولد خبطة ولبطة وسبطة هؤلاء
المعروفون وكان له غيرهم فماتوا ولم يعرفوا وكان له بنات خمس أو ست وأم الفرزدق
فيما ذكر أبو عبيدة لينة بنت قرظة الضبية كان يقال لجده صعصعة محيي المؤودات وكان
يقال لصعصعة محيي الموءودات وذلك أنه كان مر برجل من قومه وهو يحفر بئرا وامرأته
تبكي فقال لها صعصعة ما يبكيك قالت يريد أن يئد ابنتي هذه فقال له ما حملك على هذا
قال الفقر قال فإني أشتريها منك بناقتين يتبعهما أولادهما تعيشون بألبانهما ولا
تئد الصبية قال قد فعلت فأعطاه الناقتين وجملا كان تحته فحلا وقال في نفسه إن هذه
لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فجعل على نفسه ألا يسمع بموءودة إلا فداها
فجاء الإسلام وقد فدى ثلثمائة موءودة وقيل أربعمائة أخبرني بذلك هاشم بن محمد
الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة وأخبرني بهذا الخبر محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن
سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة عن عقال
بن شبة قال قال صعصعة خرجت باغيا ناقتين لي فارقتين والفارق التي تفرق إذا ضربها
المخاض فتند على وجهها حتى تنتج فرفعت لي نار فسرت نحوها وهممت بالنزول فجعلت
النار تضيء مرة وتخبو أخرى فلم تزل تفعل ذلك حتى قلت اللهم لك علي إن بلغتني هذه
النار ألا أجد أهلها يوقدون لكربة يقدر أحد من الناس أن يفرجها إلا فرجتها عنهم قال
فلم أسر إلا قليلا حتى أتيتها فإذا حي بن بني أنمار من الهجيم بن عمرو بن تميم
وإذا أنا بشيخ حادر أشعر يوقدها في مقدم بيته والنساء قد اجتمعن إلى امرأة ماخض قد
حبستهن ثلاث ليال فسلمت فقال الشيخ من أنت فقلت أنا صعصعة بن ناجية بن عقال قال
مرحبا بسيدنا ففيم أنت يا بن أخي فقلت في بغاء ناقتين لي فارقتين عمي علي أثرهما
فقال قد وجدتهما بعد أن أحيا الله بهما أهل بيت من قومك وقد نتجناهما وعطفت إحداهما
على الأخرى وهما تانك في أدنى الإبل قال قلت ففيم توقد نارك منذ الليلة قال أوقدها
لامرأة ماخض قد حبستنا منذ ثلاث ليال وتكلمت النساء فقلن قد جاء الولد فقال الشيخ
إن كان غلاما فو الله ما ادري ما أصنع به وإن كانت جارية فلا أسمعن صوتها أي
اقتلنها فقلت يا هذا ذرها فإنها ابنتك ورزقها على الله فقال اقتلنها فقلت أنشدك الله
فقال إني أراك بها حفيا فاشترها مني فقلت إني أشتريها منك فقال ما تعطيني قلت
أعطيك إحدى ناقتي قال لا قلت فأزيدك الأخرى فنظر إلى جملي الذي تحتي فقال لا إلا
أن تزيدني جملك هذا فإني أراه حسن اللون شاب السن فقلت هو لك والناقتان على أن
تبلغني أهلي عليه قال قد فعلت فابتعتها منه بلقوحين وجمل وأخذت عليه عهد الله
وميثاقه ليحسنن برها وصلتها ما عاشت حتى تبين منه أو يدركها الموت فلما برزت من
عنده حدثتني نفسي وقلت إن هذه لمكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فآليت ألا يئد
أحد بنتا له إلا اشتريتها منه بلقوحين وجمل فبعث الله عز و جل محمدا عليه السلام
وقد أحييت مائة موءودة إلا أربعا ولم يشاركني في ذلك أحد حتى أنزل الله تحريمه في
القرآن وقد فخر بذلك الفرزدق في عدة قصائد من شعره ومنها قصيدته التي أولها ( أبِي أحدُ
الغَيْثيْن صعصعةُ الذي ... متى تُخْلفِ الجوزاءُ والدّلْوُ يُمْطِرِ ) ( أجارَ بناتِ
الوائدِينَ ومن يُجِرْ ... على الفقر يُعْلمْ أنه غيرُ مُخْفِر ) ( على حينَ لا
تحيا البناتُ وإذ هُمُ ... عكوف على الاصنام حول المدَوَّرِ ) المدور يعني الدوار الذي حول الصنم
وهو طوافهم ( أنا ابن الذي ردّ المنيةَ فضلُه ... فما حسبٌ دافعتُ عنه بمُعْوِرِ ) ( وفارقِ ليلٍ
من نساء أتت أبي ... تُمارس ريحاً ليلُها غير مُقْمِر ) ( فقالت أَجِرْ لي ما ولدتُ فإنني ...
أتيتك من هزلَى الحَمولةِ مُقتِر
) ( هِجفٌّ من العُثْو الرؤوس إذا بدت ... له ابنةُ عامٍ
يحطم العظم منكر ) ( رأى الأرضَ منها راحةً فرمى بها ... إلى خُدَدٍ منها إلى شرّ
مخفر ) ( فقال لها فِيئي فإني بذمتي ... لبنتك جارٌ من أبيها القَنَوَّر ) إسلام أبيه على
يد الرسول ووفد غالب بن صعصعة إلى النبي فأسلم وقد كان وفده أبوه صعصعة إلى النبي
فأخبره بفعله في الموءودات فاستحسنه وسأله هل له في ذلك من أجر قال نعم فأسلم وعمر
غالب حتى لحق أمير المؤمنين عليا صلوات الله عليه بالبصرة وأدخل إليه الفرزدق
وأظنه مات في إمارة زياد وملك معاوية أخبرني محمد بن الحسين الكندي وهاشم بن محمد
الخزاعي وعبد العزيز بن أحمد عم أبي قالوا حدثنا الرياشي قال حدثنا العلاء بن
الفضل ابن عبد الملك بن أبي سوية قال حدثني عقال بن كسيب أبو الخنساء العنبري قال
حدثني الطفيف بن عمرو الربعي عن ربيعة بن مالك بن حنظلة عن صعصعة بن ناجية
المجاشعي جد الفرزدق قال قدمت على النبي فعرض علي الإسلام فأسلمت وعلمني آيات من
القرآن فقلت يا رسول الله إني عملت أعمالا في الجاهلية هل لي فيها من أجر فقال وما
عملت فقلت إني أضللت ناقتين لي عشراوين فخرجت أبغيهما على جمل فرفع لي بيتان في فضاء
من الأرض فقصدت قصدهما فوجدت في أحدهما شيخا كبيرا فقلت له هل أحسست من ناقتين
عشراوين قال وما نارهما يعني السمة فقلت ميسم بني دارم فقال قد أصبت ناقتيك
ونتجناهما وظأرتا على أولادهما ونعش الله بهما أهل بيت من قومك من العرب من مضر
فبينا هو يخاطبني إذ نادته امرأة من البيت الآخر قد ولدت فقال وما ولدت إن كان
غلاما فقد شركنا في قوتنا وإن كانت جارية فادفنوها فقالت هي جارية أفأئدها فقلت
وما هذا المولود قالت بنت لي فقلت إني أشتريها منك فقال يا أخا بني نميم أتقول لي
أتبيعني ابنتك وقد أخبرتك أني من العرب من مضر فقلت إني لا أشتري منك رقبتها إنما
أشتري دمها لئلا تقتلها فقال وبم تشتريها فقلت بناقتي هاتين وولديهما قال لا حتى
تزيدني هذا البعير الذي تركبه قلت نعم على أن ترسل معي رسولا فإذا بلغت أهلي رددت
إليك البعير ففعل فلما بلغت أهلي رددت إليه البعير فلما كان في بعض الليل فكرت في
نفسي فقلت إن هذه مكرمة ما سبقني إليها أحد من العرب فظهر الإسلام وقد أحييت ثلثمائة
وستين موؤودة أشتري كل واحدة منهن بناقتين عشراوين وجمل فهل لي في ذلك من أجر يا
رسول الله فقال عليه السلام هذا باب من البر ولك أجره إذ من الله عليك بالإسلام
قال عباد ومصداق ذلك قول الفرزدق (
وجدِّي الذي منع الوائداتِ ... وأحيا الوئيد فلم يُوأَدِ ) أخبرني محمد بن
يحيى عن الغلابي عن العباس بن بكار عن أبي بكر الهذلي قال وفد صعصعة بن ناجية جد
الفرزدق على رسول الله في وفد من تميم وكان صعصعة قد منع الوئيد في الجاهلية فلم
يدع تميما تئد وهو يقدر على ذلك فجاء الإسلام وقد فدى أربعمائة جارية فقال للنبي
أوصني فقال أوصيك بأمك وأبيك وأخيك وأختك وإمائك قال زدني قال احفظ ما بين لحييك
وما بين رجليك ثم قال له عليه السلام ما شيء بلغني عنك فعلته قال يا رسول الله
رأيت الناس يموجون على غير وجه ولم أدر أين الوجه غير أني علمت أنهم ليسوا عليه ورأيتهم
يئدون بناتهم فعلمت أن ربهم لم يأمرهم بذلك فلم أتركهم يئدون وفديت من قدرت عليه وروى
أبو عبيدة أنه قال للنبي إني حملت حمالات في الجاهلية والإسلام وعلي منها ألف بعير
فأديت من ذلك سبعمائة فقال له إن الإسلام أمر بالوفاء ونهى عن الغدر فقال حسبي
حسبي ووفى بها وروي أنه إنما قال هذا القول لعمر بن الخطاب وقد وفد إليه في خلافته
وكان صعصعة شاعرا وهو الذي يقول أنشدنيه محمد بن يحيى له ( إذا المرء عادى من يودُّك صدرُه ...
وكان لمن عاداك خِدْناً مُصافيَا
) ( فلا تسأَلنْ عما لديه فإنّه ... هو الداءُ لا يخفى
بذلك خافيا ) أبوه هو أعطى تميم وبكر أخبرني محمد بن يحيى عن محمد بن زكريا عن عبد الله
بن الضحاك عن الهيثم بن عدي عن عوانة قال تراهن نفر من كلب ثلاثة على أن يختاروا
من تميم وبكر نفرا ليسائلوهم فأيهم أعطى ولم يسألهم عن نسبهم من هم فهو أفضلهم
فاختار كل رجل منهم رجلا والذين اختيروا عمير بن السليك بن قيس بن مسعود الشيباني
وطلبة بن قيس بن عاصم المنقري وغالب بن صعصعة المجاشعي أبو الفرزدق فأتوا ابن
السليك فسألوه مائة ناقة فقال من أنتم فانصرفوا عنه ثم أتوا طلبة بن قيس فقال لهم
مثل قول الشيباني فأتوا غالبا فسألوه فأعطاهم مائة ناقة وراعيها ولم يسألهم من هم
فساروا بها ليلة ثم ردوها وأخذ صاحب غالب الرهن وفي ذلك يقول الفرزدق =================================================
ج20. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني ( وإذا ناحبتْ كلبٌ
على الناس أيُّهم ... أحقُّ بتاج الماجد المتكرِّم ) ( على نفر هُم من نزار ذوي العلا ...
وأهل الجراثيم التي لم تهدَّم )
( فلم يُجْزِ عن أَحسابهم غيرُ غالبٍ ... جرَى بعنان
كلِّ أبيضَ خِضرم ) مباراة في الكرم بين أبيه وسحيم بن وثيل أخبرني محمد بن الحسن
بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن جهم السليطي عن إياس بن شبة عن عقال
بن صعصعة قال أجدبت بلاد تميم وأصابت بني حنظلة سنة في خلافة عثمان فبلغهم خصب عن
بلاد كلب بن وبرة فانتجعتها بنو حنظلة فنزلوا أقصى الوادي وتسرع غالب بن صعصعة فيهم
وحده دون بني مالك بن حنظلة ولم يكن مع بني يربوع من بني مالك غير غالب فنحر ناقته
فأطعمهم إياها فلما وردت إبل سحيم بن وثيل الرياحي حبس منها ناقة فنحرها من غد
فقيل لغالب إنما نحر سحيم مواءمة لك أي مساواة لك فضحك غالب وقال كلا ولكنه امرؤ
كريم وسوف أنظر في ذلك فلما وردت إبل غالب حبس منها ناقتين فنحرهما فأطعمهما بني
يربوع فعقر سحيم ناقتين فقال غالب الآن علمت انه يوائمني فعقر غالب عشرا فأطعمها
بني يربوع فعقر سحيم عشرا فلما بلغ غالبا فعله ضحك وكانت إبله ترد لخمس فلما وردت
عقرها كلها عن آخرها فالمكثر يقول كانت أربعمائة والمقل يقول كانت مائة فأمسك سحيم
حينئذ ثم إنه عقر في خلافة علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بكناسة الكوفة مائتي
ناقة وبعير فخرج الناس بالزنابيل والأطباق والحبال لأخذ اللحم ورآهم علي عليه
السلام فقال أيها الناس لا يحل لكم إنما أهل بها لغير الله عز و جل قال فحدثني من
حضر ذلك قال كان الفرزدق يومئذ مع أبيه وهو غلام فجعل غالب يقول يا بني اردد علي
والفرزدق يردها عليه ويقول له يا أبت اعقر قال جهم فلم يغن عن سحيم فعله ولم يجعل
كغالب إذ لم يطق فعله قيد نفسه حتى حفظ القرآن حدثني محمد بن يحيى عن محمد بن
القاسم يعني أبا العيناء عن أبي زيد النحوي عن أبي عمرو قال جاء غالب أبو الفرزدق
إلى علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالفرزدق بعد الجمل بالبصرة فقال إن ابني هذا
من شعراء مضر فاسمع منه قال علمه القرآن فكان ذلك في نفس الفرزدق فقيد نفسه في وقت
وآلى لا يحل قيده حتى يحفظ القرآن قال محمد بن يحيى فقد صح لنا أن الفرزدق كان
شاعرا موصوفا أربعا وسبعين سنة وندع ما قبل ذلك لأن مجيئه به بعد الجمل على
الاستظهار كان في سنة ست وثلاثين وتوفي الفرزدق في سنة عشر ومائة في أول خلافة
هشام هو وجرير والحسن البصري وابن سيرين في ستة أشهر وحكي ذلك عن جماعة منهم
الغلابي عن ابن عائشة عن أبيه أخبرني محمد بن يحيى الصولي عن الغلابي عن ابن عائشة
أيضا عن أبيه قال قال الفرزدق أيضا كنت أجيد الهجاء في أيام عثمان قال ومات غالب
أبو الفرزدق في أول أيام معاوية ودفن بكاظمة فقال الفرزدق يرثيه ( لقد ضمّت
الأكفانُ من آل دارمٍ ... فتىً فائِضَ الكفّين محضَ الضَّرائب ) المفضل الضبي
يفاضل بينه وبين جرير أخبرني حبيب المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال
حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني جعفر بن محمد العنبري عن خالد ابن أم كلثوم
قال قيل للمفضل الضبي الفرزدق أشعر أم جرير قال الفرزدق قال قلت ولم قال لأنه قال
بيتا هجا فيه قبيلتين ومدح فيه قبيلتين وأحسن في ذلك فقال ( عجبتُ لعِجلٍ إذ تُهاجِي عَبِيدَها ...
كما آلُ يربوع هَجَوْا آلَ دَارِم )
فقيل له قد قال جرير ( إنّ الفرزدقَ والبَعِيثَ وأمَه ...
وأَبَا البَعِيث لشرّ ما إِستارِ
) فقال وأي شيء أهون من أن يقول إنسان فلان وفلان وفلان
والناس كلهم بنو الفاعلة أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني
موسى بن طلحة قال قال أبو عبيدة معمر بن المثنى كان الشعراء في الجاهلية من قيس
وليس في الإسلام مثل حظ تميم في الشعر وأشعر تميم جرير والفرزدق ومن بني تغلب
الأخطل قال يونس بن حبيب ما ذكر جرير والفرزدق في مجلس شهدته قط فاتفق المجلس على أحدهما
قال وكان يونس فرزدقيا أخبرني عمي عن محمد بن رستم الطبري عن أبي عثمان المازني
قال مر الفرزدق ابن ميادة الرماح والناس حوله وهو ينشد ( لو أنّ جميعَ الناس كانوا بربوة ...
وجئت بجَدّي ظِالمٍ وابنِ ظَالم
) ( لظلَّت رقاب الناس خاضعةً لنا ... سُجوداً على
أقدامنا بالجماجم ) فسمعه الفرزدق فقال أما والله يا بن الفارسية لتدعنه لي أو
لأنبشن أمك من قبرها فقال له بان ميادة خذه لا بارك الله لك فيه فقال الفرزدق ( لو أنّ جميعَ
الناس كانوا بربوة ... وجئت بجدّي دارمٍ وابنِ دارم ) ( لظلَّت رقاب الناس خاضعةً لنا ...
سُجوداً على أقدامنا بالجماجم )
هو وجرير يتشاكيان عند يزيد بن عبد الملك أخبرني عمي عن
الكراني عن أبي فراس الهيثم بن فراس قال حدثني ورقة بن معروف عن حماد الراوية قال دخل
جرير والفرزدق على يزيد بن عبد الملك وعنده بنية لها يشمها فقال جرير ما هذه يا
أمير المؤمنين فيها عندك قال بنية لي قال بارك الله لأمير المؤمنين فيها فقال
الفرزدق إن يكن دارم يضرب فيها فهي أكرم العرب ثم أقبل يزيد على جرير فقال مالك
والفرزدق قال إنه يظلمني ويبغي علي فقال الفرزدق وجدت آبائي يظلمون آباءه فسرت فيه
بسيرتهم قال جرير وأما والله لتردن الكبائر على أسافلها سائر اليوم فقال الفرزدق
أما بك يا حمار بني كليب فلا ولكن إن شاء صاحب السرير فلا والله ما لي كفء غيره
فجعل يزيد يضحك أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن حماد
الراوية قال أنشدني الفرزدق يوما شعرا له ثم قال لي أتيت الكلب يعني جريرا قلت نعم
قال أفأنا أشعر أم هو قلت أنت في بعض وهو في بعض قال لم تناصحني قال قلت هو أشعر
منك إذا أرخي من خناقه وأنت أشعر منه إذا خفت أو رجوت قال قضيت لي والله عليه وهل
الشعر إلا في الخير والشر قال وروي عن أبي الزناد عن أبيه قال قال لي جرير يا أبا
عبد الرحمن أنا أشعر أم هذا الخبيث يعني الفرزدق وناشدني لأخبرنه فقلت لا والله ما
يشاركك ولا يتعلق بك في النسيب قال أوه قضيت والله له علي أنا والله أخبرك ما
دهاني إلا أني هاجيت كذا وكذا شاعرا فسمى عددا كثيرا وأنه تفرد لي وحدي خبره مع
النوار ابنة عمه أخبرني عبد الله قال قال المازني قال أبو علي الحرمازي كان من خبر
الفرزدق والنوار ابنة أعين بن صعصعة بن ناجية بن عقال المجاشعي وكانت ابنة عمه أنه
خطبها رجل من بني عبد الله بن دارم فرضيته وكان الفرزدق وليها فأرسلت إليه أن
زوجني من هذا الرجل فقال لا أفعل أو تشهديني أنك قد رضيت بمن زوجتك ففعلت فلما
توثق منها قال أرسلي إلى القوم فليأتوا فجاءت بنو عبد الله بن دارم فشحنوا مسجد
بني مجاشع وجاء الفرزدق فحمد الله وأثنى عليه ثم قال قد علمتم أن النوار قد ولتني
أمرها وأشهدكم أني قد زوجتها نفسي على مائة ناقة حمراء سوداء الحدقة فنفرت من ذلك
وأرادت الشخوص إلى ابن الزبير حين أعياها أهل البصرة ألا يطلقوها من الفرزدق حتى
يشهد لها الشهود وأعياها الشهود أن يشهدوا لها اتقاء الفرزدق وابن الزبير يومئذ
أمير الحجاز والعراق يدعى له بالخلافة فلم تجد من يحملها وأتت فتية من بني عدي بن
عبد مناة بن أد يقال لهم بنو أم النسير فسألتهم برحم تجمعهم وإياها وكانت بينها
وبينهم قرابة فأقسمت عليهم أمها ليحملنها فحملوها فبلغ ذلك الفرزدق فاستنهض عدة من
أهل البصرة فأنهضوه وأوقروا له عدة من الإبل وأعين بنفقة فتبع النوار وقال ( أطاعت بني أم
النُّسَيْر فأصبحت ... على شارفٍ ورقاءَ صعبٍ ذلولُها ) ( وإنّ الذي أمسى يخبِّب زوجتي ...
كماشٍ إلى أُسْد الشّرى يَستبِيلها
) فأدركها وقد قدمت مكة فاستجارت بخولة بنت منظور بن
زبان بن سيار الفزاري وكانت عند عبد الله بن الزبير فلما قدم الفرزدق مكة اشرأب
الناس إليه ونزل على بني عبد الله بن الزبير فاستنشدوه واستحدثوه ثم شفعوا له إلى
أبيهم فجعل يشفعهم في الظاهر حتى إذا صار إلى خولة قلبته عن رأيه فمال إلى النوار فقال
الفرزدق في ذلك صوت ( أمّا بنوه فلم تُقْبل شفاعتُهم ... وشُفّعت بنتُ منظورِ بن
زِبّانَا ) ( ليس الشّفيع الذي يأتيك مُؤْتَزِراً ... مثلّ الشفيع الذي يأتيكَ عُرْيانَا ) لعريب في هذا
البيت خفيف رمل قال وسفر بينهما رجال من بني تميم كانوا بمكة فاصطلحا على أن يرجعا
إلى البصرة ولا يجمعهما ظل ولا كن حتى يجمعا في أمرهما ذلك بني تميم ويصيرا على حكمهم
ففعلا فلما صارا إلى البصرة رجعت إليه النوار بحكم عشيرتها قال وقال غير الحرمازي
إن ابن الزبير قال للفرزدق جئني بصداقها وإلا فرقت بينكما فقال الفرزدق أنا في
بلاد عربة فكيف أصنع قالوا له عليك بسلم بن زياد فإنه محبوس في السجن يطالبه ابن
الزبير بمال فأتاه فقص عليه قصته قال كم صداقها قال أربعة آلاف درهم فأمر له بها
وبألفين للنفقة فقال الفرزدق ( دعَي مُغِلقي الأبواب دون فَعالهم ... ولكن تمشَّى بي هُبِلْت
إلى سَلمِ ) ( إلى من يرى المعروفَ سهلاً سَبِيلُه ... ويفعلُ أفعال الرجال
التي تَنِمي ) قال فدفعها إليه ابن الزبير فقال الفرزدق ( هلمّي لابن عمك
لا تكوني ... كمختارٍ على الفرس الحمارا ) قال فجاء بها إلى البصرة وقد أحبلها
فقال جرير في ذلك ( ألا تِلكمُ عِرسُ الفرزدق جامحاً ... ولو رضِيَتْ رُمح استِهِ
لاستقرَّت ) فأجابه الفرزدق وقال ( وأمُّك لو لاقيتُها بِطمرَّةٍ ... وجاءت بها جوف استِها
لاستقرَّت ) وقال الفرزدق وهو يخاصم النوار ( تُخاصمني وقد أولجتُ فيها ... كرأس
الضَّبَ يلتمس الجرادا ) قال الحرماني ومكثت النوار عنده زمانا ترضى عنه أحيانا وتخاصمه
أحيانا وكانت النوار امرأة صالحة فلم تزل تشمئز منه وتقول له ويحك أنت تعلم أنك
إنما تزوجت بي ضغطة وعلى خدعة ثم لا تزال في كل ذلك حتى حلفت بيمين موثقة ثم حنثت وتجنبت
فراشه فتزوج عليها امرأة يقال لها جهيمة من بني النمر بن قاسط حلفاء لبني الحارث
بن عباد بن ضبيعة وأمها الخميصة من بني الحارث بن عباد فنافرته الخميصة واستعدت
عليه فأنكرها الفرزدق وقال إنها مني بريء طالق وطلق ابنتها وقال ( إن الخميصةَ كانت
لي ولابنتها ... مثل الهَراسةِ بين النّعل والقَدَم ) ( إذا أتت أهلَها مني مُطَلَّقة ...
فلن أردَّ عليها زَفرةَ النَّدم
) جعل يأتي النوار وبه ردع الخلوق وعليه الأثر فقالت له
النوار هل تزوجتها إلا هدادية تعني حيا من أزد عمان فقال الفرزدق في ذلك ( تُريك نجومَ
الليل والشَّمسُ حَيَّةٌ ... كرامُ بنات الحارث بن عُبادِ ) ( أبوها الذي قاد النَعامة بعد ما ...
أبت وائلٌ في الحرب غير تمادِ )
( نساءٌ أبوهنّ الأعزُّ ولم تكن ... من الأزد في جاراتها
وهَدادِ ) ( ولم يكُ في الحيّ الغموضِ محلُّها ... ولا في العُمانيِّين رهطِ زياد ) ( عَدلتُ بها
مَيلَ النّوار فأَصبحتْ ... وقد رَضيت بالنَصف بعد بعادِ ) قال فلم تزل النوار ترققه وتستعطفه
حتى أجابها إلى طلاقها وأخذ عليها ألا تفارقه ولا تبرح من منزله ولا تتزوج رجلا
بعده ولا تمنعه من مالها ما كانت تبذله له وأخذت عليه أن يشهد الحسن البصري على
طلاقها ففعل ذلك قال المازني وحدثني محمد بن روح العدوي عن أبي شفقل راوية الفرزدق
قال ما استصحب الفرزدق أحدا غيري وغير راوية آخر وقد صحب النوار رجال كثيرة إلا أنهم
كانوا يلوذون بالسواري خوفا من أن يراهم الفرزدق فأتيا الحسن فقال له الفرزدق يا
أبا سعيد قال له الحسن ما تشاء قال أشهد أن النوار طالق ثلاثا فقال الحسن قد شهدنا
فلما انصرفنا قال يا أبا شفقل قد ندمت فقلت له والله إني لأظن أن دمك يترقرق أتدري
من أشهدت والله لئن رجعت لترجمن بأحجارك فمضى وهو يقول ( ندمتُ ندامةَ الكُسَعِيّ لمّا ... غدت
منّي مُطلَّقةً نوارُ ) ( ولو أنّي ملكتُ يدي وقلبي ... لكان عليَ للقدَر الخيارُ ) ( وكانت جَنّتي
فخرجتُ منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار ) ( وكنتُ كفاقئٍ عينيه عمداً ... فأصبح
ما يضيء له النهارُ ) يهجو بني قيس لأنهم ألجأوا النوار وأخبرني بخبره مع النوار
أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى عن أبيه يحيى بن
علي بن حميد أن النوار لما كرهت الفرزدق حين زوجها نفسه لجأت إلى بني قيس بن عاصم المنقري
ليمنعوها فقال الفرزدق فيهم ( بني عاصم لا تجنبوها فإنكم ... ملاجِئُ للسوءات دُسْم
العَمائِم ) ( بَني عاصمٍ لو كان حَيّاً أبوكم ... للام بنيه اليومَ قيسُ بن
عاصمِ ) فبلغهم ذلك الشعر فقالوا له والله لئن زدت على هذين البيتين لنقتلنك غيلة وخلوه
والنوار وأرادت منافرته إلى ابن الزبير فلم يقدر أحد على أن يكريها خوفا منه ثم إن
قوما من بني عدي يقال لهم بنو أم النسير أكروها فقال الفرزدق ( ولولا أن يقول
بنو عدِيٍّ ... ألم تَك أمَّ حَنظلة النَّوارُ ) ( أَتتكم يا بني مِلْكان عنّي ...
قوافٍ لا تُقسّمها التِّجارُ ) وقال فيهم أيضا (
لعمري لقد أردى النّوارَ وساقها ... إلى البور أحلامٌ
خِفافٌ عقولُها ) ( أَطاعت بني أَمّ النُّسَير فأصبحت ... على قَتبٍ يعلو الفلاة
دلِيلُها ) ( وقد سَخِطَت مِنّي النّوارُ الذي ارتضَى ... به قبلَها الأزواجُ خاب رحيلُها ) ( وإن امرأ أمسى
يُخَبّب زوجتي ... كساع إلى أُسْدِ الشرى يستبيلها ) ( ومن دون أَبواب الأسود بَسالةٌ ...
وبَسْطَةً أَيد يمنع الضّيمَ طُولُها
) ( وإنّ أميرَ المؤمنين لعالِمٌ ... بتأويل ما وَصَّى
العِبَادَ رسَولُها ) ( فدُونَكَها يا بنَ الزبير فإنها ... مُوَلَّعَة يُوهِي
الحجارةَ قِيلُها ) ( وما جادل الأقوامَ من ذي خصومة ... كورهاء مَشْنوءٍ إليها
حليلُها ) فلما قدمت مكة نزلت على تماضر بنت منظور بن زبان زوجة عبد الله ابن الزبير
ونزل الفرزدق بحمزة بن عبد الله بن الزبير ومدحه بقوله ( أَمسيتُ قد نزلتّ بحمزة حاجَتِي ... إن
المنوَّه باسمِه الموثوقُ ) ( بأبي عمارةَ خيرِ من وَطِئ الحصا ... وجرت له في الصالحين
عُروقُ ) ( بين الحواريِّ الأعزّ وهاشمٍ ... ثم الخليفةُ بعدُ والصِّدِّيق ) غنى في هذه
الأبيات ابن سريج رملا بالبنصر قال فجعل أمر النوار يقوى وأمر الفرزدق يضعف فقال ( أّمّا بنوه فلم
تُقْبل شفَاعتُهم ... وَشُفِّعَتْ بنتُ منظورِ بنِ زِبَّانَا ) ملاحاة بينه وبين ابن الزبير وقال ابن
الزبير للنوار إن شئت فرقت بينكما وقتلته فلا يهجونا أبدا وإن شئت سيرته إلى بلاد
العدو فقالت ما أريد واحدة منهما فقال لها فإنه ابن عمك راغب فأزوجك أياه قالت نعم
فزوجها منه فكان الفرزدق يقول خرجنا ونحن متحابين قال وكان الفرزدق قال لعبد الله
بن الزبير وقد توجه الحكم عليه إنما تريد أن أفارقها فتثب عليها وكان ابن الزبير
حديدا فقال له هل أنت وقومك إلا جالية العرب ثم أمر به فأقيم وأقبل على من حضر
فقال إن بني تميم كانوا وثبوا على البيت قبل الإسلام بمائة وخمسين سنة فاستلبوه
فاجتمعت العرب عليها لما انتهكت منه ما لم ينتهكه أحد قط فأجلتها من ارض تهامة قال
فلقي الفرزدق بعض الناس فقال إيه يعيرنا ابن الزبير بالجلاء اسمع ثم قال ( فإن تغْضَبْ
قريشٌ أو تَغَضَّب ... فإنّ الأرضَ تُوعبُها تميم ) ( هُم عَددُ النجوم وكلُّ حيٍّ ...
سواهمْ لا تُعدُّ له نجوم ) ( ولولا بيت مكةَ ما ثويتم ... بها صحَّ المنابتُ والأروم ) ( بها كثُر
العديدُ وطاب منكم ... وغيرُكم أخِيذُ الريش هِيم ) ( فمهلاُ عن تعلّل مَن غَدَرْتم ...
بخونته وعذَّبه الحَميم ) ( أعبدَ اللَّهِ مهلاً عن أداتي ... فإني لا الضعيفُ ولا السؤوم ) ( ولكنِّي صفاةٌ
لم تُدَنَّس ... تزِلُّ الطيرُ عنها والعُصوم ) ( أنا ابن العاقِر الخُورَ الصّفايا
... بضوّى حين فُتِّحت العُكوم
) قال فبلغ هذا الشعر ابن الزبير وخرج للصلاة فرأى
الفرزدق في طريقه فغمز عنقه فكاد يدقها ثم قال ( لقد أصبحت عِرسُ الفرزدق ناشزاً ...
ولو رَضِيت رُمحَ استِه لاستقرّت
) وقال هذا الشعر لجعفر بن الزبير وقيل إن الذي كان تقرر
عليه عشرة آلاف درهم وإن سلم بن زياد أمر له بعشرين ألف درهم مهرا ونفقة فقبضها
فقالت له زوجته أم عثمان بنت عبد الله بن عمرو بن أبي العاص الثقفية أتعطي عشرين
ألف درهم وأنت محبوس فقال ( أَلا بَكَرَتْ عِرسِي تلومُ سفاهةً ... على ما مضى مني وتأمرُ
بالبُخْلِ ) ( فقلتُ لها والجودُ مِنِّي سجيّةٌ ... وهل يمنع المعروفَ سُواَّ
لَه مِثلي ) ( ذَرِيني فإنّي غيرُ تارك شِيمتي ... ولا مُقصرٍ طول الحياة عن
البذْلِ ) ( ولا طاردٍ ضيفي إذا جاء طارقا ... وقد طرق الأضيافُ شيخيَ من قبلي ) ( أَأَبخَلُ إن
البُحْل ليس بمُخْلِدي ... ولا الجودُ يدنيني إلى الموت والقتل ) ( أَبيعُ بني
حرب بآلِ خويلدٍ ... وما ذاك عند الله في البيع بالعدل ) ( وليس ابنُ مروان الخليفةُ مشبهاُ
... لفحل بَني العوَّام قُبِّح من فحل
) ( فإن تُظهرُوا ليَ البخلَ آلَ خْوَيْلد ... فما
دأْبكم دأْبي ولا شكلُكم شكلِي
) ( وإن تَقهروني حين غابت عشيرتي ... فمن عجبِ الأيام أن
تقهروا مِثلي ) فلما اصطلحا ورضيت به ساق إليها مهرها ودخل بها وأحبلها قبل أن
يخرج من مكة ثم خرجا وهما عديلان في محمل وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام عن
إبراهيم بن حبيب بن الشهيد بنحو من هذه القصة قال عمر بن شبة قال الفرزدق في خبره ( يا حمزَ هل لك في
ذي حاجة عَرضت ... أنضاؤه بمكان غيرِ ممطور ) ( فأنت أحرى قريش أن تكون لها ...
وأَنت بين أبي بكرٍ ومنظور ) ( بين الحواريّ والصدّيق في شُعَبٍ ... ثَبَتْنَ في طُنُب
الإِسلام والخير ) كانت القبائل تتقي هجاءه أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن
سلام قال حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي قال كان فتى من بني حرام شويعر هجا
الفرزدق قال فأخذناه فأتينا به الفرزدق وقلنا هذا بين يديك فإن شئت فاضرب وإن شئت
فاحلق فلا عدوى عليك ولا قصاص قد برئنا إليك منه قال فخلى سبيله وقال ( فمن يك
خائفاًلأذاة شعري ... فقد أمِنَ الهجاء بَنُو حرامِ ) ( هم قادوا سفيههم وخافوا ... قلائدَ
مثل أَطواق الحمام ) قال ابن سلام وحدثني عبد القاهر قال مر الفرزدق بمجلسنا مجلس
بني حرام ومعنا عنبسة مولى عثمان بن عفان فقال يا أبا فراس متى تذهب إلى الآخرة
قال وما حاجتك إلى ذاك يا أخي قال أكتب معك إلى ابي قال أنا لا أذهب إلى حيث أبوك
أبوك في النار اكتب إليه مع ريالويه واصطقانوس أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن
أبيه قال أخبرني مخبر عن خالد بن كلثوم الكلبي قال مررت بالفرزدق وقد كنت دونت
شيئا من شعره وشعر جرير وبلغه ذلك فاستجلسني فجلست إليه وعذت بالله من شره وجعلت
أحدثه حديث أبيه وأذكر له ما يعجبه ثم قلت له إني لأذكر يوم لقبك بالفرزدق قال وأي
يوم قلت مررت به وأنت صبي فقال له بعض من كان يجالسه كأن ابنك هذا الفرزدق دهقان
الحيرة في تيهه وأبهته فسماك بذلك فأعجبه هذا القول وجعل يستعيد ثم قال أنشدني بعض
أشعار ابن المراغة في فجعلت أنشده حتى انتهيت ثم قال فأنشد نقائضها التي أجبته بها
فقلت ما أحفظها فقال يا خالد أتحفظ ما قاله في ولا تحفظ تفائضه والله لأهجون كلبا
هجاء يتصل عاره بأعقابها إلى يوم القيامة إن لم تقم حتى تكتب نقائضها أو تحفظها
وتنشدنيها فقلت أفعل فلزمته شهرا حتى حفظت نقائضها وأنشدته إياها خوفا من شره زواجه
من حدراء بنت زيق أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني
الأصمعي قال تزوج الفرزدق حدراء بنت زيق بن بسطام بن قيس الشيباني وخاصمته النوار
وأخذت بلحيته فجاذبها وخرج عنها مغضبا وهو يقول ( قامَتْ نوارُ إليَّ تَنتِف لِحيتي ...
تَنْتافَ جعدةَ لحيةَ الخشخاشِ
) ( كلتاهما أسدٌ إذا ما أُغْضِبت ... وإّذا رَضينَ فهنْ
خير معاشِ ) قال والخشخاش رجل من عنزة وجعدة امرأته فجاءت جعدة إلى النوار فقالت ما يريد
مني الفرزدق أما وجد لامرأته أسوة غيري وقال الفرزدق يفضل عليها حدراء ( لعمرِي
لأعرابيَّةٌ في مَظلّةٍ ... تظلُّ برَوقي بيتها الريحُ تخْفُق ) ( أحبُّ إلينا
من ضِنَاك ضِفَنَّة ... إذا وُضعت عنها المراويحُ تَغرَقُ ) ( كرِيمِ غزالٍ أو كُدرَّةِ غائصٍ ...
يكاد إذا مرت لها الأرض تُشرقُ
) فلما سمعت النوار ذلك أرسلت إلى جرير وقالت للفرزدق
والله لأخزينك يا فاسق فجاء جرير فقالت له أما ترى ما قال الفاسق وشكته إليه
وأنشدته شعره فقال جرير أنا أكفيك وأنشأ يقول ( ولَسْت بمعطي الحكم عن شَفِّ منصبٍ ...
ولا عن بنات الحنظلييّن راغبُ )
( وهنّ كماء المزنِ يُشْفَى به الصَّدى ... وكانت
مِلاحاً غيرَهْنَّ المشارِبُ )
( لقد كنتَ أهلا أن يسوق دياتكم ... إلى آل رزيق أن
يعيبَك عائب ) ( وما عدلتْ ذاتُ الصليبِ ظعينةً ... عُتَيْبةُ والرّدفان منها
وحاجبُ ) ( أأهْديتَ يا زِيقُ بن بَسطامَ ظَبيةً ... إلى شرِّ من تُهْدى إليه القرائب ) ( ألا رْبَّما
لم نُعْطِ زِيقاً بحُكمِه ... وأَدّى إلينا الحكمَ والغُلُّ لازبُ ) ( حَوينَا أبا
زِيقٍ وزيقاً وعمَّه ... وجَدّةُ زِيق قد حَوتْها المقانِبُ ) فأجابه الفرزدق فقال ( تقول كليبٌ حين
مثَّت سِبالها ... وأعشَبَ من مروْتِها كلُّ جانب ) ( لسوّاقِ أغنام رعتهنّ أمَه ... إلى
أن علاها الشيبُ فوق الذوائب )
( ألستَ إذا القعساءُ مرت براكب ... إلى آل بِسطام بن
قيس بخاطب ) ( وقالوا سمعنا أنّ حدراءَ زُوِّجَتْ ... على مائَةٍ شُمِّ
الذُّرى والغوارب ) ( فلو كنتَ من أكفاء حدْراء لم تلُمْ ... على دَارِميٍّ بين ليلى
وغالبِ ) ( فنل مثلَها من مثلهم ثُم أُمَّهم ... بمِلكك من مال مُراح وعازب ) ( وإني لأخشى إن
خطبتَ إليهمُ ... عليك الذي لاقَى يسارُ الكوَاعبِ ) ( ولو تنِكحُ الشّمسُ النجوم بناتها
... نكحنا بنات الشمس قبل الكواكب
) وفي المناقضات التي دارت بين الفرزدق وجرير حول زواج
بنت زيق قال جرير أبياته التي أولها (
يا زيقُ أنكحتَ قَيناً في استه حَمَمٌ ... يا زيقُ
ويْحَك من أنكحتَ يا زيق ) ( أين الألى أنزلوا النعمان ضاحيةً ... أم أين أبناءُ شيبانَ
الغرانيق ) ( يا رُبّ قائلةٍ بعد البناء بها ... لا الصهرُ راضٍ ولا ابنُ القينِ معشوقُ ) ( غاب المثنَّى
فلم يشهد نَجِيَّكُما ... والحوفزّانُ ولم يشهدْك مفروق ) والفرزدق يقول لجرير ( إن كان أنفُك قد
أعياك تحمِلُه ... فاركب أتانك ثم اخطُب إلى زِيق ) أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد عن أبيه
عن الهيثم بن عدي عن زكريا بن ثباة الثقفي قال أنشدني الفرزدق قصيدته التي رثى
فيها ابنه فلما انتهى إلى قوله (
بَفي الشَّامِتِين الَّصخْر إن كان مسَّني ... زريّةُ
شِبْل مُخْدِرٍ في الضَّراغم ) قال يا أبا يحيى أرأيت ابني قلت لا قال والله ما كان يساوي
عباءته لبطة بن الفرزدق ينشد لأبيه قال إسحاق حدثني أبو محمد العبدي عن اليربوعي عن
أبي نصر قال قدم لبطة بن الفرزدق الحيرة فمر بقوم من بني تغلب فاستقراهم فقروه ثم
قالوا له من أنت قال ابن شاعركم ومادحكم وأنا والله ابن الذي يقول فيكم ( أضحى لتغلبَ من
تميمٍ شاعِرٌ ... يرمي الأعاديَ بالقريض الأثقل ) ( إن غاب كعبُ بني جُعَيلٍ عنهم ...
وتنَمَّر الشعراء بعد الأخطل )
( يتباشرون بموتِه ووراءهم ... مِنّي لهم قِطعُ العذاب
الْمُرْسلِ ) فقالوا له فأنت ابن الفرزدق إذا قال أنا هو فتنادوا يا آل تغلب اقضوا حق شاعركم
والذائد عنكم في ابنه فجعلوا له مائة ناقة وساقوها إليه فانصرف بها أخبرنا أبو
خليفة عن محمد بن سلام قال أتى الفرزدق عبد الله بن مسلم الباهلي فسأله فثقل عليه
الكثير وخشيه في القليل وعنده عمرو بن عفراء الضبي راوية الفرزدق وقد وكان هجاه
جرير لروايته للفرزدق في قوله (
ونُبِّئْتُ جوَّاباً وسَلْماً يسبّني ... وعمرو بن
عِفْري لا سلامٌ على عمرو ) فقال ابن عفراء للباهلي لا يهولنك أمره أنا أرضيه عنك فأرضاه
بدون ما كان هم له به فأعطاه ثلثمائة درهم فقبلها الفرزدق ورضي عنه فبلغه بعد ذلك
صنيع عمرو فقال ( ستعلم يا عمرو بن عفْرى مَن الذي ... يُلام إذا ما الأمر
غَبَّتْ عواقبُه ) ( نهيتُ ابنَ عِفرى أن يعفّر أُمّه ... كعفْر السّلا إذا
جرَّرَتْه ثعالبُه ) ( فلو كنت ضَبِّياً صفحتُ ولو سَرتْ ... على قَدَمِي حيَّاتُه
وعقاربه ) ( ولكنْ دِيافِيٌّ أبوه وأُمّه ... بحوْران يعصرْن السليط أقاربه ) ( ولما رأى
الدّهنا رمته جبالُها ... وقالت دِيافيٌّ مع الشام جانبه ) ( فإن تغضب الدهنا عليك فما بها ...
طريقٌ لمرتاد تُقاد رَكائبُه )
( تضِنُّ بمال الباهليِّ كأنما ... تضِنُّ على المال
الذي أنت كاسِبُه ) ( وإنّ امرأ يَغْتَابُني لم أطأْ لَه ... حَرِيماً ولا يَنْهاه
عنِّي أقارِبُه ) ( كمحتَطبٍ يوما أساودَ هَضْبة ... أتاه بها في ظلمة الليل
حاطبُه ) ( أحينَ التقى ناباي وأبيضّ مِسْحلي ... وأطرق إطراق الكرى من يُجانِبه ) فقال ابن عفراء
وأتاه في نادي قومه اجهد جهدك هل هو إلا أن تسبني والله لا أدع لك مساءة إلا
أتيتها ولا تأمرني بشيء إلا اجتنبته ولا تنهاني عن شيء إلا ركبته قال فاشهدوا أني
أنهاه أن ينيك أمه فضحك القوم وخجل ابن عفرى أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال
حدثنا شعيب بن صخر قال تزوج ذبيان بن أبي ذبيان العدوي من بلعدوية فدعا الناس في
وليمته فدعا ابن أبي شيخ الفقيمي فألقى الفرزدق عنده فقال له يا أبا فراس انهض قال
إنه لم يدعني قال إن ابن ذبيان يؤتى وإن لم يدع ثم لا تخرج من عنده إلا بجائزة فأتياه
فقال الفرزدق حين دخل ( كم قال لي ابنُ أبي شيخ وقلت له ... كيف السَّبيلُ إلى معروف
ذُبيان ) ( إنّ القلوصَ إذا أَلقت جآجئها ... قُدامَّ بابك لم نرحل بحِرمان ) قال أجل يا أبا
فراس فدخل فتغدى عنده وأعطاه ثلثمائة درهم أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال
حدثني أبو بكر المدني قال دخل الفرزدق المدينة فوافق فيها موت طلحة بن عبد الرحمن
بن عوف الزهري وكان سيدا سخيا شريفا فقال يا أهل المدينة أنتم أذل قوم الله قالوا
وما ذاك يا أبا فراس قال غلبكم الموت على طلحة حتى أخذه منكم يعطى عروضا بدل النقد
وأتى مكة فأتى عمرو بن عبد الله بن صفوان بن أمية بن خلف الجمحي وهو سيد أهل مكة
يومئذ وليس عنده نقد حاضر وهو يتوقع أعطيته وأعطية ولده وأهله فقال والله يا أبا
فراس ما وافقت عندنا نقدا ولكن عروضا إن شئت فعندنا رقيق فرهة فإن شئت أخذتهم قال
نعم فأرسل له بوصفاء من بنيه وبني أخيه فقال هم لك عندنا حتى تشخص وجاءه العطاء
فأخبره الخبر وفداهم فقال الفرزدق ونظر إلى عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن
أسيد وكان يطوف بالبيت الحرام يتبختر (
تمْشي تَبَخْتُر حولَ البيتِ منتخَباً ... لو كنتَ عمرّو
بنَ عبد الله لم تزدِ ) أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثنا عامر بن أبي عامر
وهو صالح بن رستم الخراز قال أخبرني أبو بكر الهذلي قال إنا لجلوس عند الحسن إذ
جاء الفرزدق يتخطى حتى جلس إلى جنبه فجاء رجل فقال يا أبا سعيد الرجل يقول لا
والله وبلى والله في كلامه قال لا يريد اليمين فقال الفرزدق أو ما سمعت ما قلت في
ذلك قال الحسن ما كل ما قلت سمعوا فما قلت قال قلت ( ولستَ بمأخوذٍ بلغوٍ تقوله ... إذا لم
تعمَّدْ عاقداتِ العزائم ) قال فلم ينشب أن جاء رجل آخر فقال يا أبا سعيد نكون في
هذه المغازي فنصيب المرأة لها زوج أفيحل غشيانها وإن لم يطلقها زوجها فقال الفرزدق
أو ما سمعت ما قلت في ذلك قال الحسن ما كل ما قلت سمعوا فما قلت قال قلت ( وذات حَليلٍ
أنكحْتنا رِماحُنا ... حلالاً لمن يَبْني بها لم تُطَلَّق ) يهجو في شعره إبليس قال أبو خليفة
أخبرني محمد بن سلام وأخبرني محمد بن جعفر قالا أتى الفرزدق الحسن فقال إني هجوت
إبليس فاسمع قال لا حاجة لنا بما تقول قال لتسمعن أو لأخرجن فأقول للناس إن الحسن
ينهى عن هجاء إبليس قال اسكت فإنك بلسانه تنطق قال محمد بن سلام أخبرني سلام أبو
المنذر عن علي بن زيد قال ما سمعت الحسن متمثلا شعرا قط إلا بيتا واحدا وهو قوله ( الموتُ بابٌ
وكُلُّ الناسِ داخلُه ... فليتَ شعريَ بعد الباب ما الدَّار ) قال وقال لي يوما ما تقول في قول
الشاعر ( لولا جريرٌ هلكتْ بَجِيلهْ ... نِعْمَ الفتى وبِئسَتِ القبيلهْ ) أهجاه أم مدحه قلت
مدحه وهجا قومه قال ما مدح من هجي قومه وقال جرير بن حازم ولم أسمعه ذكر شعرا قط
إلا ( ليس مَنْ مات فاستراح بمَيْتٍ ... إنما الميْتُ ميّتُ الأحياء ) وقال رجل لابن
سيرين وهو قائم يستقبل القبلة يريد أن يكبر أيتوضأ من الشعر فانصرف بوجهه إليه
فقال ( ألا أَصبحتْ عرسُ الفرزدق ناشِزاً ... ولو رضِيتْ رُمحَ استه لاستَقَرَّت ) ثم كبر متفرقات
من أبياته الشائعة قال ابن سلام وكان الفرزدق أكثرهم بيتا ومقلدا والمقلد المغني
المشهور الذي يضرب به المثل من ذلك قوله ( فيا عجبأً حتى كليبٌ تسبني ... كأنّ
أباها نَهْشَلٌ أو مُجِاشِعُ ) وقوله ( ليس الكرام بناحِليك أباهمُ ... حتى يُردَّ إلى عطية نَهْشَل ) وقوله ( وكنّا إذا
الجبّار صَعَّر خَدّه ... ضربناه حتى تستقيم الأَخادع ) وقوله ( وكنتَ كذئب السوء لما رأى دَمَاً ...
بصاحبه يوماً أحال على الدَّم )
وقوله (
وكنتَ ترجِّي رُبيعٌ أن تجيء صغارُها ... بخير وقد أعيا
رُبيعاً كبارُها ) وقوله ( أكلتْ دوابرها الإكَامُ فمشيها ... مما وَجِئْن كمشية الإِعياء ) وقوله ( قوارص تأتيني
وتحتقرونها ... وقد يملأ القطرُ الإِناءَ فَيَفعُم ) وقوله ( أحلاَمُنا تزن الجبالَ رَزانةً ...
وتخالنا جِناً إذا ما نجهل ) وقوله ( وإنك إذ تسعى لتدرك دارما ... لأنت المُعَنَّى يا جرير
المُكَلف ) وقوله ( فإن تنجُ مني تنج من ذي عَظيمةٍ ... وإلا فإنّي لا إخالك ناجيا ) وقوله ( ترى كل مظلوم
إلينا فِرارُه ... ويهربُ منا جهدَه كُلُّ ظالمِ ) وقوله ( ترى الناس ما سِرْنا يسيرون حولَنا ...
وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقَّفوا
) وقوله (
فسَيف بني عبسٍ وقد ضربوا به ... نَبا بيَدَيْ وَرْقاءَ
عن رأسِ خالد ) ( كذاك سيوف الهند تنبو ظباتها ... ويَقطعن أَحيانا مَنَاط
القَلائِد ) وكان يداخل الكلام وكان ذلك يعجب أصحاب النحو من ذلك قوله يمدح هشام بن إسماعيل
المخزومي خال هشام بن عبد الملك (
وأصبَح ما في الناس إلا مُمَلَّكاً ... أبو أمه حَيٌّ
أَبوه يُقاربه ) وقوله ( تا الله قد سَفِهَتْ أميّةُ رأيَها ... فاستجهلت سُفهاؤها
حلماءَها ) وقوله ( ألستم عائجين بنا لعنَّا ... نرى العَرصاتِ أو أثَر الخيام ) فقالوا ( إن فعلتَ فأغنِ
عنا ... دُموعاً غيرَ راقِئة السّجام
) وقوله (
فهل أنتَ إن ماتت أتانُكَ راحِلٌ ... إلى آل بِسطام بن
قيس فخاطب ) وقوله ( فَنَلْ مثلَها من مثلِهم ثم دُلَّهمَ ... على دارميّ بين ليلى
وغالب ) وقوله ( تعالَ فإن عاهدتني لا تخونُني ... نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ
يَصْطحبان ) وقوله ( إنا وإِياك إن بلّغْنَ أرحُلَنا ... كمَنْ بِواديه بعد المَحْل
مَمْطورُ ) وقوله ( بنى الفاروق أمّك وابن أروى ... به عثمان مروان المصابا ) وقوله ( إلى مَلِك ما
أمُّه من مُحاربٌ ... أبوه ولا كانت كليب تصاهِرْه ) وقوله ( إليك أميرَ المؤمنين رمَتْ بنا ...
هموم المنا والهَوْجَل المتعسّف
) ( وعض زمانٌ يا بن مروان لم يدعْ ... من المال إلا
مُسحتاً أو مُجلَّف ) وقوله ( ولقد دنت لك بالتخلّف إذْ دنَت ... منها بلا بَخَلٍ ولا مبذولِ ) ( وكأنّ لونَ
رُضابِ فيها إذ بدا ... بَرَدٌ بفرع بَشامةٍ مصْقولُ ) وقوله فيها لمالك بن المنذر ( إنّ ابن ضبّارى
ربيعةَ مالِكاً ... لله سيف صنيعةٍ مَسْلولُ ) ( ما نال من آل المُعلّى قبلَه ...
سيفٌ لكل خليفة ورسُولُ ) ( ما من يَديْ رَجُل أحقُّ بما أتى ... من مكرمات عطاية الأخطارِ ) ( من راحتين
يزيدُ يقدح زندَه ... كفّاهما ويشد عقد جوار ) ومن قوله ( إذا جئتَه أعطاك عفواً ولم يكن ... على
ماله حال الندى منك سائله ) ( لدى ملك لا تنصف النعلُ ساقَه ... أجل لا وإن كانت طُوالاً
حمائله ) وقوله ( والشيب يَنْهَضُ في الشباب كأنه ... ليل يسير بجانبيه نهار ) كان صادقا في مدحه
قال أبو خليفة أخبرنا محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر عن محمد بن زياد وأخبرني
به الجوهري وجحظة عن ابن شبة عن محمد ابن سلام وكان محمد في زمام الحجاج زمانا قال
انتهيت إلى الفرزدق بعد موت الحجاج بالردم وهو قائم والناس حوله ينشد مديح سليمان
بن عبد الملك ( وكم أطلقتْ كفاك من غلّ بائس ... ومن عُقدةٍ ما كان يُرجَى
انحلالُها ) ( كثيراً من الأيدي التي قد تُكتَّفَتْ ... فَكَكْتَ وأعناقاً
عليها غِلالها ) قال قلت أنا والله أحدهم فأخذ بيدي وقال أيها الناس سلوه عما
أقول والله ما كذبت قط أخبرني جحظة قال حدثني ابن شبة عن محمد بن سلام فذكر مثله
وقال فيه والله ما كذبت قط ولا أكذب أبدا يأبى الحضور إلى يزيد بن المهلب قبل أن
يدفع له قال أبو خليفة قال ابن سلام وسمعت الحارث بن محمد بن زياد يقول كتب يزيد
بن المهلب لما فتح جرحان إلى أخيه مدركة أو مروان احمل إلي الفرزدق فإذا شخص فأعط
أهله كذا وكذا ذكر عشرة آلاف درهم فقال له الفرزدق ادفعها إلي قال اشخص وأدفعها
إلى أهلك فأبى وخرج وهو يقول ( دعاني إلى جُرجانَ والرّيُّ دونه ... لآتِيَهُ إنّي إذاً
لزءورُ ) ( لآتيَ من آل المهَّلب ثائراً ... بأعراضِهم والدّائرات تدُورُ ) ( سَآبَى وتَأْبى
لي تميمٌ وربما ... أبَيْتُ فلم يقدر عليّ أمير ) قال أبو خليفة قال ابن سلام وسمعت
سلمة بن عياش قال حبست في السجن فإذا فيه الفرزدق قد حبسه مالك بن المنذر بن
الجارود فكان يريد أن يقول البيت فيقول صدره وأسبقه إلى القافية ويجيء إلى القافية
فأسبقه إلى الصدر فقال لي ممن أنت قلت من قريش قال كل أير حمار من قريش من أيهم
أنت قلت من بني عامر بن لؤي قال لئام والله أذلة جاورتهم فكانوا شر جيران قلت ألا
أخبرك بأذل منهم وألأم قال من قلت بنو مجاشع قال ولم ويلك قلت أنت سيدهم وشاعرهم
وابن سيدهم جاءك شرطي مالك حتى أدخلك السجن لم يمنعوك قال قاتلك الله قال أبو
خليفة قال ابن سلام وكان مسلمة بن عبد الملك على العراق بعد قتل يزيد بن المهلب
فلبث بها غير كثير ثم عزله يزيد بن عبد الملك واستعمل عمر بن هبيرة على العراق
فأساء عزل مسلمة فقال الفرزدق وأنشدنيه يونس ( ولت بمسلمةَ الركابُ مُودَّعاً ...
فارعَيْ فزارةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ
) ( فسد الزمانُ وبُدِّلت أعلامُه ... حتى أميّةُ عن
فزارةَ تنْزِع ) ( ولقد علمتُ إذا فزارةُ أُمِّرت ... أن سوف تطمع في الإِمارة
أشجعُ ) ( وبحق ربك ما لهم ولمثلهم ... في مثل ما نالت فَزارةُ مطمع ) ( عُزِل ابنُ بشر
وابنُ عَمْرو قبلَه ... وأَخو هَراةَ لمثلها يتوقَّع ) ابن بشر عبد الملك بن بشر بن مروان
كان على البصرة أمره عليها مسلمة وابن عمرو سعيد بن حذيفة بن عمرو بن الوليد بن
عقبة بن أبي معيط وأخو هراة عبد العزيز بن الحكم بن أبي العاصي ويروى للفرزدق في
ابن هبيرة ( أمِير المؤمنين وأنت عَفٌّ ... كريمٌ لستَ بالطَّبعِ الحريصِ ) ( أَولَّيتَ
العِراقَ ورافِدَيْه ... فزاريًّا أحذَّ يدِ القَميص ) ( ولم يكُ قبلها راعي مخاضٍ ...
لتأمنَه على وَرِكَيْ قَلُوصِ )
( تفنَّن بالعراق أبو المثُنَّى ... وعَلّم أهلَه أكْلَ
الخَبِيص ) وأنشدني له يونس ( جَهّز فإنك ممتارٌ ومُبتعثٌ ... إلى فزارة عِيراً تحمِل
الكَمَرَا ) ( إنَّ الفزاريَّ لو يعمى فأطعَمَه ... أيرَ الحِمارِ طبيبٌ
أبرأَ البَصَرَا ) ( إن الفزاريّ لا يشفيه من قَرَمٍ ... أطايبُ العَيْر حتى ينهش
الذّكرا ) ( يقول لمّا رأى ما في إنائهم ... لله ضيف الفزاريين ما انْتَظَرَا ) فلما قدم خالد
بن عبد الله القسري واليا على ابن هبيرة حبسه في السجن فنقب له سرب فخرج منه فهرب
إلى الشام فقال فيه الفرزدق يذكر خروجه ( ولما رأيتَ الأرض قد سدَّ ظهرُها ...
ولم تر إلا بطنَها لك مخرجا ) (
دعوت الذي ناداه يونُسُ بعد ما ... ثوى في ثلاث مظلمات
ففرّجا ) ( فأصبحت تحت الأرض قد سِرْت ليلةً ... وما سار سَارٍ مثلها حين أدلجا ) ( خرجتَ ولم
تمنن عليك شفاعةٌ ... سوى رَبذِ التقريب من آل أعوجا ) ( أغرّ من الحُوِّ اللهاميم إذ جرى
... جرى بكَ محبوكُ القِرى غير أفحجا
) ( جرى بك عُريان الحماتين ليلَهُ ... به عنك أرخى الله
ما كان أشرجا ) ( وما احتال مُحتالٌ كحيلته التي ... بها نفسه تحت الصّريمة
أولجا ) ( وظَلماء تحت الأرض قد خُضت هولَها ... وليلٍ كلون الطيَلسانيّ أدْعجا ) ( هما ظُلْمتا
ليل وأرض تلاقتا ... على جامع من هُمّه ما تعوَّجا ) هجوه لخالد القسري فحدثني جابر بن
جندل قال فقيل لابن هبيرة من سيد العراق قال الفرزدق هجاني أميراً ومدحني سوقة وقال
الفرزدق لخالد القسري حين قدم العراق أميرا لهشام ( ألا قطع الرحمن ظهرَ مطيَّةٍ ... أتتنا
تمَطَّى من دمشقٍ بخالد ) ( وكيف يؤمّ المسلمين وأمُّه ... تدين بأنّ الله ليس بواحد ) ( بَنَى
بَيْعَةً فيها الصَّليبُ لأمّه ... وهَدّم من كُفرٍ مَنارَ المساجدِ ) وقال أيضا ( نزلت بجيلَةُ
واسطاً فتمكَّنت ... ونفتْ فزارةَ عن قرار المنزل ) وقال أيضا ( لعمري لئن كانت بجيلةُ زانها ... جَريرٌ
لقد أخزى بجيلة خالدُ ) فلما قدم العراق خالد أميرا أمر على شرطة البصرة مالك بن
المنذر بن الجارود وكان عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر يدعي على مالك قرية
فأبطلها خالد وحفر النهر الذي سماه المبارك فاعترض عليه الفرزدق فقال ( أهلكتَ مالَ الله
في غير حقّه ... على النَّهَر المشؤوم غيرِ المباركِ ) ( وتَضربُ أقواماً صِحاحاً ظهورهم ...
وتتركُ حقَّ الله في ظَهْرِ مالك
) ( أإنفاقَ مالِ الله في غير كُنهه ... ومَنعاً لَحقِّ
المرمِلات الضرائك ) دخل على الحجاج يستميحه مهر حدراء زوجته أخبرني عبد الله بن
مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال قال أعين بن لبطة دخل الفرزدق على
الحجاج لما تزوج حدراء يستميحه مهرها فقال له تزوجت أعرابية على مائة بعير فقال له
عنبسة بن سعيد إنما هي فرائض قيمتها ألفا درهم الفريضة عشرون درهما فقال له الحجاج
ليس غيرها يا كعب أعط الفرزدق ألفي درهم قال وقدم الفضيل العنزي بصدقات بكر بن
وائل فاشترى الفرزدق مائة بعير بألفين وخمسمائة درهم على أن يثبتها له في الديوان
قال الفرزدق فصليت مع الحجاج الظهر حتى إذا سلم خرجت فوقفت في الدار فرآني فقال
مهيم فقلت إن الفضيل العنزي قدم بصدقات بكر بن وائل وقد اشتريت منه مائة بعير
بألفين وخمسمائة درهم على أن تحتسب له في الديوان فإن رأى الأمير أن يأمر لي بإثباتها
له فعل فأمر أبا كعب أن يثبت للفضيل ألفين وخمسمائة درهم ونسي ما كان أمر له به
قال فلما جاء الفرزدق بالإبل قالت له النوار خسرت صفقتك أتتزوج أعرابية نصرانية
سوداء مهزولة خمشاء الساقين على مائة من الإبل فقال يعرض بالنوار وكانت أمها وليدة
( لجَاريةٌ
بين السّليل عروقُها ... وبين أبي الصّهباء من آل خالدِ ) ( أحقُّ بإغلاء المهور من التي ...
رَبَتْ تتردّى في حجور الولائدِ
) فأبت النوار عليه أن يسوقها كلها فحبس بعضها وامتار
عليه ما يحتاج إليه أهل البادية ومضى ومعه دليل يقال له أوفى بن خنزير قال أعين
فلما كان في أدنى الحي رأوا كبشا مذبوحا فقال الفرزدق يا أوفى هلكت والله حدراء
قال وما علمك بذلك قال ويقال إن أوفى قال للفرزدق يا أبا فراس لن ترى حدراء فمضوا
حتى وقفوا على نادي زيق وهو جالس فرحب به وقال له انزل فإن حدراء قد ماتت وكان زيق
نصرانيا فقال قد عرفنا أن نصيبك من ميراثها في دينكم النصف وهو لك عندنا فقال له
الفرزدق والله لا أرزؤك منه قطميرا فقال زيق يا بني دارم ما صاهرنا أكرم منكم في
الحياة ولا أكرم منكم شركة في الممات فقال الفرزدق ( عَجِبت لحادينا المقَحِّم سيره ... بنا
مُوجعاتٍ من كَلالٍ وظُلَّعَا )
( ليُدنِينَا ممن إلينَا لقاؤه ... حبيبٌ ومن دارٍ أردنا
لتجمعا ) ( ولو نعلمُ الغيبَ الذي من أمامنا ... لكرّبنا الحادي المطِيّ فأَسرعا ) ( يقولون زُرْ
حدراءَ والتُّربُ دونها ... وكيف بشيء وصلُه قد تقطَّعا ) ( يقول ابن خِنزير بكيت ولم تكن ...
على امرأة عيني إدخال لتدمعا )
( وأهونُ رزء لامرئٍ غير جازع ... رزئية مرتج الروادف
أفرعا ) ( ولست وإن عزت علي بزائرٍ ... تُرابا على مرموسةٍ قد تضعضعا ) وقيل إن النوار
كانت استعانت بأم هاشم لا بتماضر وأم هاشم أخت تماضر لأن تماضر ماتت عند عبد الله
بعد أن ولدت له خبيبا وثابتا ابني عبد الله بن الزبير وتزوج بعدها أختها أم هاشم
فولدت له هاشما وحمزة وعبادا وفي أم هاشم يقول الفرزدق ( تروّحتِ الرّكبانُ يا أُمَّ هاشم ...
وهنَّ مُنَاخاتٌ لهن حنين ) ( وحُبِّسْن حتّى ليس فيهن نافقٌ ... لبيعٍ ولا مركوبُهن سمين ) طلق رهيمة زوجته
لأنها نشزت به أخبرنا عبد الله قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال نشزت
رهيمة بنت غني بن درهم النمرية بالفرزدق فطلقها وقال يهجوها بقوله ( لا ينكحنْ بعدي
فتىً نَمريّةً ... مُرَمَّلةً من بعلها لبعادِ ) ( وبيضاء زَعراء المفارق شَخْتَةً ...
مولّعةً في خُضرة وسوادِ ) ( لها بَشَرٌ شَثْنٌ كأن مَضَمَّه ... إذا عانقت بَعْلاً مَضَمُّ
قتادِ ) ( قرنتُ بنفسي الشؤمَ في وِرد حوضها ... فَجُرِّعتُه مِلحا بماء رمادِ ) ( وما زلتُ حتى
فرَّق الله بيننا ... له الحمدُ منها في أذىً وجهاد ) ( تُجدِّد لي ذكرى عذَاب جهنَّمٍ ...
ثلاثاً تُمسِّيني بها وتغادي ) يحظى بجارية بنسيئة فتحمل منه أخبرني الحسن بن علي قال حدثني
الحسين بن موسى قال قال المدائني لقي الفرزدق جارية لبني نهشل فجعل ينظر إليها
نظرا شديدا فقالت له مالك تنظر فو الله لو كان لي ألف حر ما طمعت في واحد منها قال
ولم يالخناء قالت لأنك قبيح المنظر سيء المخبر فيما أرى فقال أما والله لو جربتني
لعفى خبري على منظري قال ثم كشف لها عن مثل ذراع البكر فتضبعت له عن مثل سنام البكر
فعالجها فقالت أنكاح بنسيئة هذا شر القضية قال ويحك ما معي إلا جبتي أفتسلبينني
إياها ثم تسنمها فقال ( أولجتُ فيها كذِراع البَكرِ ... مُدملَكَ الرأس شديدَ الأسْرِ ) ( زاد على
شِبْرٍ ونصفِ شِبْر ... كأنني أولجتُه في جَمرِ ) ( يُطير عنه نَفَيانَ الشّعْرِ ... في
شُعور الناس يَوْمَ النحر ) قال فحملت منه ثم ماتت فبكاها وبكى ولده منها ( وغمدِ سلاحٍ قد
رزئتُ فلم أنُح ... عليه ولم أبعث عليه البواكيا ) ( وفي جَوفه من دارمٍ ذو حفيظةٍ ...
لو أنّ المنايا أنسأته لياليا )
( ولكنَّ ريب الدهر يعْثُر بالفتى ... فلم يستطع رَدُّا
لما كان جائيَا ) ( وكم مثلِه في مثلها قد وضعته ... وما زلت وثَّاباً أجرُّ
المخازيا ) فقال جرير يعيره ( وكم لكَ يا بنَ القيْن إنْ جاء سائلٌ ... من ابنٍ قصير الباع
مثلُك حاملُه ) ( وآخر لم تشعُر به قد أضعتَه ... وأوردته رِحما كثيراً غوائِلُه ) زواجه من ظبية
ابنة حالم وعجزه عنها أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن موسى قال
حدثني محمد بن سليمان الكوفي عن أبيه قال تزوج الفرزدق ظبية ابنة حالم من بني
مجاشع بعد أن أسن فضعف وتركها عند أمها بالبادية سنة ولم يكن صداقها عنده فكتب إلى
أبان بن الوليد البجلي وهو على فارس عامل لخالد بن عبد الله القسري فأعطاه ما سأل
وأرضاه فقال يمدحه ( فلو جمعوا من الخِلاّنِ ألفا ... فقالوا أعطِنا بهمُ أبانا ) ( لقلتُ لهم
إذاً لغبنتموني ... وكيف أبيع من شرطَ الزمانا ) ( خليلٌ لا يرى المائةَ الصّفايا ...
ولا الخيلَ الجيادَ ولا القيانَا
) ( عَطاءً دون أضعاف عليها ... ويُطعمُ ضَيفَه العُبُطَ
السِّمانا ) العبط الإبل التي لا وجع بها (
فما أرجو لظبيةَ غيرَ ربِّي ... وغيرَ أبي الوليد بما
أعانا ) ( أعان بهجمة أرضَتْ أباها ... وكانت عنده غَلَقاً رِهانا ) وقال أيضا في
ذلك ( لقد طال ما استودعتُ ظبيةَ أمَّها ... وهذا زمان رُدّ فيه الودائعُ ) وقال حين أراد
أن يبني بها ( أبادر سُؤَّالا بظبية أنني ... أتتني بها الأهوالُ من كل جانب ) ( بمالِئةِ
الحِجْليْن لو أَنَّ مّيِّتاً ... ولو كان في الأموات تحت النصائب ) ( دعته لألقى
الرُّبَ عند انتفاضِه ... ولو كان تحت الراسيات الرواسب ) فلما ابتنى منها عجز عنها فقال ( يا لهفَ نفسي على
نَعْطٍ فُجِعْتُ به ... حين التقى الرَّكَبُ المحلوقُ والرَّكَبُ ) وقال جرير ( وتقول ظبيةُ إِذ
رأتك محوقِلاً ... حَوقَ الحمار من الخبال الخابل ) ( إنَّ البليَّة وهْي كلُّ بليةٍ ...
شيخٌ يُعَلّل عِرسَه بالباطل )
( لو قد عَلقتِ من المهاجر سُلَّما ... لنجوتِ منه
بالقضاء الفاصِلِ ) قال فنشزت منه ونافرته إلى المهاجر وبلغه قول جرير فقال
المهاجر لو أتتني بالملائكة معها لقضيت للفرزدق عليها شعره في ابنته مكية وأمها
الزنجية قال وكان للفرزدق ابنة يقال لها مكية وكانت زنجية وكان إذا حمي الوطيس
وبلغ منه الهجاء يكتني بها ويقول (
ذا كمْ إذاً ما كنتُ ذا محميَّهٍْ ... بدارِميٍّ أمُّه
ضَبِّيهْ ) ( صمحمح يُكنَى أبا مكِّية
... ) وقال في أمها ( ويا ربَّ خوْدٍ من بنات الزّنجِ ...
تحمل تنُّوراً شديدَ الوهْجِ )
( أقعبَ مثْلَ القدحِ الخَلَنج ... يزداد طيباً عند طول
الهرجِ ) ( مَخَجْتُها بالأير أيَّ مخجِ
... ) فقالت له النوار ريحها مثل ريحك وقال في أم مكية
يخاطب النوار ( فإن يكُ خالها من آل كسرى ... فكِسرى كان خيراً من عِقال ) ( وأكثرَ جزيةً
تُهدَى إليه ... وأصبرَ عند مختِلف العوالي ) قال وكانت أم النوار خراسانية فقال
لها في أم مكية ( أغرك منها أُدْمَةٌ عربيّةٌ ... علت لونَها إِن البِجَادِيَّ
أحمرُ ) يمدح سعيد بن العاص فيحقد عليه مروان حدثني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا
السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قال دخل الفرزدق على سعيد بن العاص
وهو والي المدينة لمعاوية فأنشده (
ترى الغرّ الجحاجِحَ من قريش ... إذا ما الخطب في
الحدثان غالا ) ( وقُوفاً ينظرون إلى سعيد ... كأنهمُ يرون به هلالا ) وعنده كعب بن
جعيل فلما فرغ من إنشاده قال كعب هذه والله رؤياي البارحة رأيت كأن ابن مرة في
نواحي المدينة وأنا أضم ذلاذلي خوفا منه فلما خرج الفرزدق خرج مروان في أثره فقال
لم ترض أن نكون قعودا حتى جعلتنا قياما في قولك ( قِياماً ينظرون إلى سعيد ... كأنهمُ
يرون به هلالا ) فقال له يا أبا عبد الملك إنك من بينهم صافن فحقد عليه مروان
ذلك ولم تطل الأيام حتى عزل سعيد وولي مروان فلم يجد على الفرزدق متقدما حتى قال
قصيدته التي قال فيها ( هما دَلّتاني من ثمانين قامة ... كما انقضَّ باز أقتمُ الريش
كاسرُهْ ) ( فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ... أخيٌّ يُرجَّى أم قتيلٌ نُحاذره ) ( فقلت ارفعا
الأمراسَ لا يشعروا بنا ... وأقبلت في أعقاب ليل أبادره ) ( أبارد بوابين لم يشعروا بنا ...
وأحمرَ من ساجٍ تلُوح مسامره ) فقال له مروان أتقول هذا بين أزواج رسول الله اخرج عن المدينة
فذلك قول جرير ( تدلَّيتَ تزني من ثمانينَ قامةً ... وقَصَّرت عن باع الندى
والمكارم ) أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا الرياشي عن محمد بن سلام قال خبر آخر في مدحه
سعيدا دخل الفرزدق المدينة هاربا من زياد وعليها سعيد بن العاص بن أمية ابن عبد
شمس أميرا من قبل معاوية فدخل على سعيد ومثل بين يديه وهو معتم وفي مجلس سعيد
الحطيئة وكعب بن جعيل التغلبي وصاح الفرزدق أصلح الله الأمير أنا عائذ بالله وبك
أنا رجل من تميم ثم أحد بني دارم أنا الفرزدق بن غالب قال فأطرق سعيد مليا فلم
يجبه فقال الفرزدق رجل لم يصب دما حراما ولا مالا حراما فقال سعيد إن كنت كذلك فقد
أمنت فأنشده ( إليك فررتُ مِنك ومن زيادٍ ... ولم أحسب دمي لكما حَلاَلا ) ( ولكنِّي هجوتُ
وقد هجاني ... معاشرُ قد رضخْتُ لهم سِجالا ) ( فإن يكن الهجاء أحلَّ قتلي ... فقد
قلنا لشاعرهم وقالا ) ( أرِقتُ فلم أنم ليلاً طويلا ... أراقب هل أرى النَّسرينِ زالا ) ( عليك بني أمية
فاستجرهم ... وخذ منهم لما تخشى حِبالا
) ( فإنّ بني أمية في قريش ... بَنَوْا لبيوتهم عَمَداً
طوالا ) ( ترى الغرَّ الجحاجح من قريشٍ ... إذا ما الأمر في الحدثان غالا ) ( قياما ينظرون
إلى سعيد ... كأنّهمُ يرون به هلالا
) قال فلما قال هذا البيت قال الحطيئة لسعيد هذا والله
الشعر لا ما كنت تعلل به منذ اليوم فقال كعب بن جعيل فضلته على نفسك فلا تفضله على
غيرك قال بلى والله إنه ليفضلني وغيره يا غلام أدركت من قبلك وسبقت من بعدك ولئن
طال عمرك لتبرزن ثم عبث الحطيئة بالفرزدق فقال يا غلام أنجدت أمك قال لا بل أبي
أراد الحطيئة إن كانت أمك أنجدت فقد أصبتها فولدتك إذ شابهتني في الشعر فقال الفرزدق
لا بل أبي فوجده لقنا أخبرني ابن دريد قال قال لنا أبو حاتم قال الأصمعي ومن عبثات
الفرزدق انه لقي مخنثا فقال له من أين راحت عمتنا فقال له المخنث نفاها الأغر بن
عبد العزيز يريد قول جرير ( نفاك الأغرّ بن عبد العزيز ... وحقُّك تُنْفَى من المسجدِ ) جرير يقر له
بالغلبة ويلقبه بالعزيز أخبرنا ابن دريد عن الرياشي عن النضر بن شميل قال قال جرير
ما قال لي ابن القين بيتا إلا وقد اكتفأته أي قلبته إلا قوله ( ليس الكِرامُ
بناحليك أباهم ... حتى يرد إلى عطية تعتل ) فإني لا أدري كيف أقول فيها وأخبرني
ابن دريد قال حدثنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي عن عوانة بن
الحكم قال بينما جرير واقف في المربد وقد ركبه الناس وعمر بن لجأ مواقفه فأنشده
عمر جواب قوله ( يا تَيْمَ تيم عديٍّ لا أبا لكم ... لا يقذفنَّكُم في سَوأَةٍ
عمرُ ) ( أحين صرْتُ سِماماً يا بني لجأٍ ... وخاطرَتْ بيَ عن أحسابها مُضرُ ) فقال عمر جواب
هذا ( لقد كذبتَ وشرُّ القولِ أكذبُهُ ... ما خاطرَتْ بك عن أحسابها مُضَر ) ( أَلسْتَ
نَزوَة خوّارٍ على أمة ... لا يسبق الحلباتِ اللؤمُ والخورُ ) وقد كان الفرزدق رفده بهذين البيتين
في هذه القصيدة فقال جرير لما سمعها قبحا لك يا بن لجأ أهذا شعرك كذبت والله ولو
مت هذا شعر حنظلي هذا شعر العزيز يعني الفرزدق فأبلس عمر فما رد جوابا وخرج غنيم
بن أبي الرقراق حتى أتى الفرزدق فضحك وقال إيه يا بن أبي الرقراق وإن عندك لخبرا
قلت خزي أخوك ابن قتب فحدثته فضحك حتى فحص برجليه ثم قال في ساعته ( وما أنت إن
قُرْمَا تًمِيم تساميا ... أخا التّيم إلا كالوشِيظة في العَظم ) ( فلو كنت مولى
الظلم أو في ثِيابِه ... ظلمتَ ولكن لا يَدَيْ لك بالظُّلْم ) فما بلغ هذان البيتان جريرا قال ما
أنصفني في شعر قط قبل هذا يعني قوله (
إنْ قرْمَا تميم تساميا ... ) يغتصب جيد الشعراء أخبرنا ابن
دريد قال أخبرنا الرياشي قال كان الفرزدق مهيبا تخافه الشعراء فمر يوما بالشمردل
وهو ينشد قصيدته حتى بلغ إلى قوله (
وما بين مَنْ لم يُعطِ سمعاً وطاعةً ... وبين تميمٍ غيرُ
حزّ الغَلاصم ) قال والله لتتركن هذا البيت أو لتتركن عرضك قال خذه على كره
مني فهو في قصيدة الفرزدق التي أولها قوله ( تحنّ بزورّاءِ المدينة ناقَتِي ... ) قال وكان
الفرزدق يقول خير السرقة ما لا يجب فيه القطع يعني سرقة الشعر أخبرنا ابن دريد عن
أبي حاتم عن أبي عبيدة عن الضحاك بن بهلول الفقيمي قال بينما أنا بكاظمة وذو الرمة
ينشد قصيدته التي يقول فيها ( أحينَ أعاذت بي تميمٌ نساءَها ... وجُرّدْت تجريدَ اليمَانِي
من الغِمد ) إذا راكبان قد تدليا من نعف كاظمة متقنعان فوقفا فلما فرغ ذو الرمة حسر الفرزدق
عن وجهه وقال يا عبيد اضممها إليك يعني راويته وهو عبيد أخو بني ربيعة بن حنظلة
فقال ذو الرمة نشدتك الله يا أبا فراس إن فعلت قال دع ذا عنك فانتحلها في قصيدته
وهي أربعة أبيات ( أحين أعاذت بي تميمٌ نساءَها ... وجُرّدت اليمانِي من الغِمدِ ) ( ومدت
بضَبْعيَّ الرّبابُ ومالكٌ ... وعمروٌ وشالت من ورائي بنو سعد ) ( ومن آل يربوع
زُهَاءٌ كأنه ... دُجَى الليل محمود النِّكاية والوِرد ) ( وكنّا إذا الجبّارًُ صَعَّرَ خدَّه
... ضربناه فوق الأُنثَيَيْن على الكَرْد ) أخبرنا ابن دريد قال أخبرنا أبو حاتم
عن أبي عبيدة قال اجتمع الفرزدق وجرير وكثير وابن الرقاع عند سليمان بن عبد الملك
فقال أنشدونا من فخركم شيئا حسنا فبدرهم الفرزدق فقال ( وما قوم إذا العلماء عَدّت ... عروقَ
الأكرمين إلى الترابِ ) ( بمختلفين إن فضَّلتمونا ... عليهم في القَديم ولا غِضاب ) ( ولو رَفع
السحابُ إليه قوماً ... عَلَوْنا في السماء إلى السحاب ) فقال سليمان لا تنطقوا فو الله ما ترك
لكم مقالا أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن عمران الضبي عن سليمان بن
أبي سليمان الجوزجاني قال غاب الفرزدق فكتبت النوار تشكو إليه مكية وكتب إليه أهله
يشكون سوء خلقها وتبذيها عليهم فكتب إليهم ( كتبتم عليها أنها ظلمتكم ... كذبتم
وبيتِ الله بل تظلمونها ) ( فإلاّ تعدُّوا أنها من نسائكم ... فإنّ ابنَ ليلى والدُ لا
يشينها ) ( وإنّ لها أعمامَ صدق وإخوة ... وشيخاً إذا شاءت تَنَمّر دونها ) كان ابنه لبطة
عاقا به قال وكان للفرزدق ثلاثة أولاد يقال لواحد منهم لبطة والآخر حبطة والثالث
سبطة وكان لبطة من العققة فقال له الفرزدق ( أإن أُرعِشتْ كفَّا أبيك وأصبَحتْ ...
يداك يَدَيْ ليثٍ فإنك جادِبُه
) ( إذا غالَبَ ابنٌ بالشباب أباً له ... كبيراً فإِن
الله لا بدّ غالبُه ) ( رأيتُ تباشيرَ العقوق هي التي ... من ابن امرئ ما إن يزال
يُعاتبُه ) ( ولما رآني قد كبِرتُ وأنني ... أخو الحي واستغنى عن المسح شاربُه ) ( أصاخ لغربان
النَجيِّ وإنه ... لأزورُ عن بعض المقالة جانبُه ) قال أبو عبيدة في - كتاب النقائض -
قال رؤبة بن العجاج حج سليمان ابن عبد الملك وحجت معه الشعراء فمر بالمدينة منصرفا
فأتي بأسرى من الروم نحو أربعمائة فقعد سليمان وعنده عبد الله بن حسن بن حسن عليهم
السلام وعليه ثوبان ممصران وهو أقربهم منه مجلسا فأدنوا إليه بطريقهم وهو في جامعة
فقال لعبد الله بن حسن قم فاضرب عنقه فقام فما أعطاه أحد سيفا حتى دفع إليه حرسي
سيفا كليلا فضربه فأبان عنقه وذراعه وأطن ساعده وبعض الغل فقال له سليمان والله ما
ضربته بسيفك ولكن بحسبك وجعل يدفع الأسرى إلى الوجوه فيقتلونهم حتى دفع إلى جرير
رجلا منهم فدست إليه بنو عبس سيفا قاطعا في قراب أبيض فضربه فأبان رأسه ودفع إلى الفرزدق
أسير فدست إليه القيسية سهما كليلا فضرب به الأسير ضربات فلم يصنع شيئا فضحك
سليمان وضحك الناس معه وقيل إن سليمان لما دفع إليه الأسير دفع إليه سيفا وقال
اقتله به فقال لا بل أقتله بسيف مجاشع واخترط سيفه فضربه فلم يغن شيئا فقال سليمان
أما والله لقد بقي عليك عارها وشنارها فقال جرير قصيدته التي يهجوه فيها وأولها جرير
يهجوه وهو يجيب ( ألا حيِّ ربعَ المنزل المُتقادِمِ ... وما حُلَّ مُذ حلت به أمُّ
سالمِ ) منها ( ألم تشهد الجَوْنَيْن والشِّعب ذا الغَضَى ... وكَرَّات قيسٍ
يومَ دَيْر الجماجم ) ( تُحرِّضُ يا بنَ القيْن قيساً ليجعلوا ... لقومك يوماً مثل
يومِ الأراقم ) ( بسيفِ أبي رَغْوَانَ سيفِ مُجاشعٍ ... ضربتَ ولم تضربْ بسيف
ابن ظالم ) ( ضربتَ به عند الإِمام فأُرعِشتْ ... يداك وقالوا مُحدثٌ غيرُ صارمِ ) فقال الفرزدق
يجيب جريرا عن قوله ( وهل ضربةُ الرُّوميِّ جاعلةٌ لكم ... أباً عن كُليْب أو أباً
مثلَ دارمِ ) ( كذاك سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها ... وتقطعُ أحياناً مَناطَ
التمائمِ ) ( ولا نقتلُ الأسرَى ولكن نفكُّهُم ... إذا أثقل الأعناقَ حملُ المغارم ) وقال يعرض
بسليمان ويعيره نبو سيف ورقاء بن زهير العبسي عن خالد بن جعفر وبنو عبس هم أخوال
سليمان ( فإِن يكُ سيفٌ خان أو قَدَرٌ أبَى ... بتعجيلِ نفسٍ حتفُها غير شاهد ) ( فسيفُ بني
عبسٍ وقد ضربوا به ... نبا بيدَيْ ورَقاءَ عن رأسِ خالد ) ( كذاك سيوفُ الهندِ تنبو ظُباتُها
... وتقطع أحيانا مَناط القلائدِ
) وأولها (
تباشَرُ يربوعٌ بنبوةِ ضربةٍ ... ضربتُ بها بين الطلا
والمحارِد ) ( ولو شئتُ قدَّ السيفُ ما بين عُنقه ... إلى عَلَق بين
الحِجَابَيْن جامدِ ) وقيل إن الفرزدق قال لسليمان يا أمير المؤمنين هب لي هذا
الاسير فوهبه له فأعتقه وقال الأبيات التي منها ( ولا نقتُل الأسرى ولكن نفكُّهم ... إذا
أثقل الأعناقَ حملُ المغارم ) ثم أقبل على راويته فقال كأني بابن المراغة وقد بلغه خبري فقال
( بسيفِ
أبي رَغوانَ سيفِ مجاشعٍ ... ضربتَ ولم تضرب بسيف ابن ظالمِ ) ( ضربتَ به عند الإِمام فأُرعِشت ...
يداك وقالوا مُحدَثٌ غير صارم )
فما لبثنا إلا أياما يسيرة حتى جاءتنا القصيدة وفيها
البيتان فعجبنا من فطنة الفرزدق وقال أيضا في ذلك ( أَيعجبُ النَّاس أن أضحكتُ خيرَهُم ...
خليفةَ الله يُستسقَى به المطرُ
) ( فما نبا السيفُ عن جُبْنٍ وعن دَهَش ... عند الإمامِ
ولكن أُخِّر القدرُ ) ( ولو ضربتُ به عمداً مُقلَّدَهُ ... لخرَّ جثمانُه ما فوقه
شَعرُ ) ( وما يُقدَّم نفساً قبل مِيتَتِها ... جمعُ اليدين ولا الصَّمْصَامة الذكر ) متفرقات من شعره
وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال هجا الفرزدق
خالدا القسري وذكر المبارك النهر الذي حفره بواسط فبلغه ذلك وكتب خالد إلى مالك بن
المنذر أن احبس الفرزدق فإنه هجا نهر أمير المؤمنين بقوله ( وأهلكتَ مالَ اللَّهِ في غير حقِّه ...
على نهرك المشؤوم غير المُبَارك
) الأبيات فأرسل مالك إلى أيوب بن عيسى الضبي فقال ائتني
بالفرزدق فلم يزل يعمل فيه حتى أخذه فطلب إليهم أن يمروا به على بني حنيفة فقال
الفرزدق ما زلت أرجو أن أنجو حتى جاوزت بني حنيفة فلما قيل لمالك هذا الفرزدق
انتفخ وريد مالك غضبا فلما أدخل عليه قال ( أقول لنفسي حين غصَّت بريقها ... ألا
ليتَ شعري مالها عند مالكِ ) ( لها عنده أن يَرجِعَ اللَّهُ رُوحَها ... إليها وتنجو من جميع
المهالك ) ( وأنت ابنُ حَبَّارَيْ ربيعةَ أدركت ... بك الشمس والخضراءَ ذاتَ الحبائك ) فسكن مالك وأمر
به إلى السجن فقال يهجو أيوب بن عيسى الضبي ( فلو كنتَ قَيْسياًّ إذاً ما حبستنِي
... ولكن زنجيا غليظا مشافره )
( متت له بالرحم بيني وبينه ... فألفيتُه مني بَعيداً
أواصِرُه ) ( وقلت امرؤ من آل ضبةَ فاعتزى ... لغيرهم لونُ استِه ومَحاجِرُه ) ( فسوف يرى
النوبيّ ما اجترحَت له ... يَدَاه إذا ما الشِّعر عَيَّتْ نَوَافره ) ( ستُلقِي عليك
الخنفساء إذا فست ... عليك من الشعر الذي أنت حاذِرُه ) ( وتأتي ابنَ زُبِّ الخنفساء قصيدةٌ
... تكون له مني عَذاباً يُباشِره
) ( تعذرتَ يا بن الخنفساء ولم تكن ... لتُقْبَلَ لابْنِ
الخنفساء معاذرُه ) ( فإنكما يا بني يسار نزوْتما ... على ثفرها ما حنّ للزيت عاصره ) ( لزِنجيَّة
بظراءَ شقق بظرَها ... زحيرٌ بأيوبٍ شديدٌ زوافره ) ثم مدح خالد بن عبد الله ومالك بن
المنذر وهو محبوس مديحا كثيرا فأنشدني يونس في كلمة له طويلة ( يا مالِ هل هو
مُهلكي ما لم أقل ... وليُعلَمَنَّ من القصائد قيلي ) ( يا مالِ هل لك في كبير قد أتَتْ ...
تسعون فوق يديه غير قليل ) ( فتجيرَ ناصِيَتي وتُفْرجَ كُربتِي ... عني وتطلقَ لي يداك
كُبُولِي ) ( ولقد بنى لكم المُعَلَّى ذِروةً ... رَفعتْ بناءك في أشَمَّ طويل ) ( والخيلُ تعلم
في جَذِيمة أنها ... تَرْدَى بكل سَميدَعٍ بهلُول ) ( فاسقُوا فقد ملأ المعلّى حوضَكم ...
بذَنوبِ مُلتَهِم الرَّباب سجيل
) وقال يمدح مالكا وكانت أم مالك هذا بنت مالك بن مسمع ( وقِرْمٍ بين
أولاد المُعلّى ... وأولاد المَسامَعةِ الكرامِ ) ( تخمَّط في ربيعة بين بكر ... وعبد
القيس في الحسب اللُّهام ) فلما لم تنفعه مديحة مالك قال يمدح هشام بن عبد الملك ويعتذر
إليه ( ألِكْني إلى رَاعِي البريَّةِ والذي ... له العَدلُ في الأرض العريضة نوّرا ) ( فإن تُنكروا
شعرِي إذاً خرجت له ... بوادرُ لو يُرمَى بها لتَفَقَّرا ) ( ثبير ولو مست حِرَاء لحرّكت ... به
الراسيات الصُّمَّ حتى تكوّرا )
( إذا قال غاوِ من مَعَدٍّ قصيدةً ... بها حَرَبٌ كانت
وبالاً مُدَّ مرّا ) ( أينطِقُها غيري وأُرمَى بجُرمها ... فكيف أَلوم الدّهرَ أن
يتغيّرا ) ( لئن صَبَرتْ نفسِي لقد أُمِرت به ... وخيرُ عباد الله من كان أصبرا ) ( وكنت ابنَ
أحْذارٍ ولو كنتُ خائفاً ... لكنت من العصماء في الطود أحذرا ) ( ولكنْ أتوْني آمناً لا أخافهم ...
نهاراً وكان اللَّهُ ما شاء قدَّراً
) أخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني أبو يحيى
قال قال الفرزدق لابنه لبطة وهو محبوس اشخص إلى هشام وامدحه بقصيدة وقال استعن بالقيسية
ولا يمنعك قولي فيهم فإنهم سيغضبون لك وقال ( بكت عينُ محزونٍ ففاض سجامُها ...
وطالت ليالي ساهر لا ينامُها )
( فإن تبك لا تبك المصيبات إذ أتَى ... بها الدهر
والأيام جَمٌّ خِصامُها ) ( ولكنما تبكي تَهتّكَ خالد ... محارمَ مِنّا لا يحلل حَرامُها ) ( فقُل لبني
مروان ما بال ذمَّة ... وحرمَةِ ... حَقٍّ ليس يُرْعى ذمامُها ) ( أنُقْتَل فيكم
أن قَتْلنا عدوَّكُم ... على دينكم والحرب باقٍ قتامُها ) ( أتاك بقتل ابن المُهَلَّب خالدُ ...
وفينا بَقيّاتُ الهدى وإمامها )
( فغيِّر أمير المؤمنين فإنها ... يمانيةٌ حَمْقاءُ وأنت
هشامُها ) ( أرى مُضَرَ المِضْرين قد ذَلَّ نصرُها ... ولكَنْ عسى أن لا يَذِلّ شآمُها ) ( فَمنْ مُبلغ
بالشام قيساً وخِندِفاً ... أحاديثَ ما يَشْفَى ببرءٍ سَقامُها ) ( أحاديثَ منا
نشتكيها إليهمُ ... ومظلمةً يغشى الوجوهَ قتامُها ) ( فإن مَنْ بها لم يُنكرِ الضّيمَ
منهمُ ... فيغضبَ منها كهلُها وغلامُها
) ( نمَتْ مثلُها من مثلِهم وتُنكِّلوا ... فيعلمَ أهلُ
الجَوْر كيف انتقامُها ) ( بغلباءَ من جُمهورنا مضرَّيةٍ ... يُزايل فيها أذرعَ القوم
هامُها ) ( وبيْضٍ على هام الرجال كأنّها ... كواكب يحلوها لسار ظلامُها ) ( غضِبنا لكم يا
آل مروان فاغضبوا ... عسى أنَّ أرواحا يسوغُ طَعامها ) ( ولا تقطعوا الأرحامَ منا فإنها ...
ذُنوبٌ من الأعمال يُخشى أثامُها
) ( ألم تكُ في الأرحام منّا ومنكمُ ... حواجزُ أيام
عزيزٍ مَرامُها ) ( فترعى قريشٌ من تميمٍ قرابةً ... ونَجْزي بأيامٍ كريمٍ
مَقامُها ) ( لقد علمَتْ أبناءُ خِندف أننا ... ذُراها وأنا عزُّهَا وسَنامها ) ( وقد علم
الأحياء من كل موطن ... إذا عُدَّت الأحياء أنّا كرامها ) ( وأنّا إذا الحربُ العَوانُ تضرَّمت
... نَلِيها إذا ما الحرب شُبَّ ضِرامُها ) ( قِوامُ قُوَى الإسلام والأمرِ كلِّه
... وهل طاعة إلا تميم قوامها )
( تميمُ التي تخشى معدٌّ وغيرُها ... إذا ما أبى أن
يستقيم همامها ) ( إلى الله تشكو عزَّنا الأرضُ فوقَها ... وتعلم أنا ثِقْلُها
وغَرامها ) ( شكتنا إلى الله العزيز فأسمعتْ ... قريباً وأعيا مَنْ سِواه كلامُها ) ( نَصولُ بحول
الله في الأمرِ كلِّه ... إذا خِيف من مصدوعةٍ ما التآمها ) فأعانته القيسية وقالوا كلما كان ناب
من مضر أو شاعر أو سيد وثب عليه خالد وقال الفرزدق أبياتا كتب بها إلى سعيد بن
الوليد الأبرش وكلم له هشاما ( إلى الأَبرشِ الكلبيّ أسندتُ حاجةً ... تواكلَها حَيّا تميمٍ
ووائلِ ) ( على حين أن زلت بي النعل زّلَّةً ... فَأَخلف ظنّي كُلُّ حافٍ وناعل ) ( فدونكها يا بن
الوليد فإنها ... مفضِّلة أصحابَها في المحافل ) ( ودونكها يا بن الوليد فقم بها ...
قيام امرئ في قومه غيرِ خامل ) فكلم هشاما وأمر بتخليته فقال يمدح الأبرش ( لقد وثب الكلبيُّ
وَثبةَ حازمٍ ... إلى خير خلقِ الله نفساً وعُنصرا ) ( إلى خير أبناء الخليفة لم يجد ...
لحاجته من دونها مُتَأخّرا ) ( أبَى حِلْفُ كلبٍ في تميمٍ وعقدُها ... كما سنَّت الاباء أن
يتغيَّرا ) وكان هذا الحلف حلفا قديما بين تميم وكلب في الجاهلية وذلك قول جرير بن الخطفى
في الحلف ( تميمٌ إلى كلبٍ وكلبٌ إِليهمُ ... أحقُّ وأدنى من صُداءَ وحمِيرَا ) ( أشدُّ حبالٍ
بين حيَّين مِرّةً ... حبالٌ أُمِرَّت من تميمٍ ومن كلبِ ) ( وليس قُضاعيُّ لدينا بخائفٍ ... ولو
أصبحت تغلي القدورُ من الحرب ) وقال أيضا (
ألم تَرَ قيساً قَيسَ عَيلانَ شمَّرتْ ... لنَصرِي
وحاطتني هناك قُرومُها ) ( فقد حالفتْ قيسٌ على النأي كلُّهم ... تميماً فهم منها ومنها
تَميمُهاً ) ( وعادتْ عَدوّي إن قيساً لأسرتي ... وقومي إذا ما الناس عُدَّ
صميمُها ) خبره مع الشرطيين أخبرني ابن دريد قال حدثني أبو حاتم عن أبي عبيدة قال بينما
الفرزدق جالس بالبصرة أيام زياد في سكة ليس لها منفذ إذ مر به رجلان من قومه كانا
في الشرطة وهما راكبان فقال أحدهما لصاحبه هل لك أن أفزعه وكان جبانا فحركا
دابتيهما نحوه فأدبر موليا فعثر في طرف برده فشقه وانقطع شسع نعله وانصرفا عنه
وعرف أنهما هزئا منه فقال ( لقد خار إذ يُجري عليّ حماَره ... ضِرارُ الخنا والعنبريُّ بن
أخوقَا ) ( وما كنتُ لو خَوَّفتماني كلاكما ... بأُمَّيكُما عُرْيَانَتَيْن لأفرَقا ) ( ولكنما
خَوّفتُماني بخادر ... شَتيم إذا ما صادف القِرن مزَّقا ) نزل بدار ليلى الأخيلية والتقى توبة
بن الحمير أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا القحذمي عن
بعض ولد قتيبة بن مسلم عن ابن زالان المازني قال حدثني الفرزدق قال لما طردني زياد
أتيت المدينة وعليها مروان بن الحكم فبلغه أني خرجت من دار ابن صياد وهو رجل يزعم
أهل المدينة أنه الدجال فليس يكلمه أحد ولا يجالسه أحد ولم أكن عرفت خبره فأرسل
إلي مروان فقال أتدري ما مثلك حديث تحدث به العرب أن ضبعا مرت بحي قوم وقد رحلوا
فوجدت مرآة فنظرت وجهها فيها فلما نظرت قبح وجهها ألقتها وقالت من شر ما أطرحك
أهلك ولكن من شر ما أطرحك أميرك فلا تقيمن بالمدينة بعد ثلاثة أيام قال فخرجت أريد
اليمن حتى إذا صرت بأعلى ذي قسي وهو طريق اليمن من البصرة فإذا رجل مقبل فقلت من
أين أوضع الراكب قال من البصرة قلت فما الخبر وراءك قال أتانا أن زيادا مات
بالكوفة قال فنزلت عن راحلتي فسجدت وقلت لو رجعت فمدحت عبيد الله بن زياد وهجوت مروان
بن الحكم فقلت ( وقفت بأعلى ذي قسِيٍّ مطيّتي ... أمثِّل في مروانَ وابنِ زيادِ ) ( فقلت عُبّيْد
الله خَيرُهما لنا ... وأدناهما من رأفةٍ وَسَداد ) ومضيت لوجهي حتى وطئت بلاد بني عقيل
فوردت ما بين مياههم فإذا بيت عظيم وإذا فيه امرأة سافرة لم أر كحسنها وهيئتها قط
فدنوت فقالت أتأذنين في الظل قالت انزل فلك الظل والقرى فأنخت وجلست إلى قال فدعت
جارية لها سوداء كالراعية فقلت ألطفيه شيئا واسعي إليها الراعي فردي علي شاة
فاذبحيها له وأخرجت إلي تمرا وزبدا قال وحادثتها فو الله ما رأيت مثلها قط ما
أنشدتها شعرا إلا أنشدتني أحسن منه قال فأعجبني المجلس والحديث إذ أقبل رجل بين
بردين فلما رأته رمت ببرقعها على وجهها وجلس وأقبلت عليه بوجهها وحديثها فدخلني من
ذلك غيظ فقلت للحين هل لك في الصراع فقال سوأة لك إن الرجل لا يصارع ضيفه قال
فألححت عليه فقالت له ما عليك لو لاعبت ابن عمك فقام وقمت فلما رمى ببرده إذا خلق
عجيب فقلت هلكت ورب الكعبة فقبض على يدي ثم اختلجني إليه فصرت في صدره ثم حملني قال
فو الله ما اتقيت الأرض إلا بظهر كبدي وجلس على صدري فما ملكت نفسي أن ضرطت ضرطة
منكرة قال وثرت إلى جملي فقال أنشدك الله فقالت المرأة عافاك الله الظل والقرى
فقلت أخزى الله ظلكم وقراكم ومضيت فبينا أسير إذ لحقني الفتى على نجيب يجنب بختيا
برحله وزمامه وكان رحله من أحسن الرحال فقال يا هذا والله ما سرني ما كان وقد أراك
أبدعت أي كلت ركابك فخذ هذا النجيب وإياك أن تخدع عنه فقد والله أعطيت به مائتي
دينار قلت نعم آخذه ولكن أخبرني من أنت ومن هذه المرأة قال أنا توبة بن الحمير
وتلك ليلى الأخيلية خبر آخر عن لقائه بليلى وتوبة وقد أخبرني بهذا الخبر عمي قال
حدثني القاسم بن محمد الأنباري قال حدثني أحمد بن عبيد عن الأصمعي قال كانت امرأة
من عقيل يقال لها ليلى يتحدث إليها الشباب فدخل الفرزدق إليها فجعل يحادثها وأقبل
فتى من قومها كانت تألفه ودخل إليها فأقبلت عليه بحديثها وتركت الفرزدق فغاظه ذلك
فقال للرجل أتصارعني قال ذلك إليك فقام إليه الرجل فلم يلبث أن أخذ الفرزدق مثل
الكرة فصرعه وجلس على صدره فضرط الفرزدق فوثب عنه الرجل خجلا وقال له الرجل يا أبا
فراس هذا مقام العائذ بك والله ما أردت بك ما جرى فقال ويحك ما بي أن صرعتني ولكن
كأني بابن الأتأن جرير وقد بلغه خبري هذا فقال يهجوني ( جلستَ إلى ليلى لتحظَى بقُربها ...
فخانك دُبْرٌ لا يزال يَخونُ )
( فلو كنتَ ذا حزمٍ شددتَ وكاءَها ... كما شدَّ خَرْتاً
للدِّلاص قُيونُ ) قالوا فو الله ما مضت أيام حتى بلغ جريرا الخبر فقال فيه هذين
البيتين يومه كيوم امرئ القيس بدارة جلجل أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن
موسى قال حدثني القحذمي قال حدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن زالان التميمي راوية
الفرزدق أن الفرزدق قال أصابنا بالبصرة مطر جود ليلا فإذا أنا بأثر دواب قد خرجت
ناحية البرية فظننت قوما قد خرجوا لنزهة فقلت خليق أن تكون معهم سفرة وشراب فقصصت
أثرهم حتى وقفت إلى بغال عليها رحائل موقوفة على غدير فأغذذت السير نحو الغدير
فإذا نسوة مستنقعات في الماء فقلت لم أر كاليوم قط ولا يوم دارة جلجل وانصرفت
مستحييا منهن فنادينني بالله يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء فانصرفت إليهن وهن
في الماء إلى حلوقهن فقلن بالله إلا ما خبرتنا بحديث دارة جلجل فقلت إن امرأ القيس
كان عاشقا لابنة عم له يقال لها عنيزة فطلبها زمانا فلم يصل إليها وكان في طلب غرة
من أهلها ليزورها فلم يقض له حتى كان يوم الغدير وهو يوم دارة جلجل وذلك أن الحي
احتملوا فتقدم الرجال وتخلف النساء والخدم والثقل فلما رأى ذلك امرؤ القيس تخلف
بعد ما سار مع قومه غلوة فكمن في غيابة من الأرض حتى مر به النساء فإذا فتيات وفيهن
عنيزة فلما وردن الغدير قلن لو نزلنا فذهب عنا بعض الكلال فنزلن إليه ونحين العبيد
عنهن ثم تجردن فاغتمسن في الغدير كهيئتكن الساعة فأتاهن امرؤ القيس محتالا كنحو ما
أتيتكن وهن غوافل فأخذ ثيابهن فجمعها ورمى الفرزدق بنفسه عن بغلته فأخذ بعض
أثوابهن فجمعها ووضعها على صدره وقال لهن كما أقول لكن والله لا أعطي جارية منكن
ثوبها ولو أقامت في الغدير يومها حتى تخرج مجردة قال الفرزدق فقالت إحداهن وكانت
أمجنهن ذلك كان عاشقا لابنة عمه أفعاشق أنت لبعضنا قال لا والله ما أعشق منكن
واحدة ولكن أشتهيكن قال فنعرن وصفقن بأيديهن وقلن خذ في حديثك فلست منصرفا إلا بما
تحب قال الفرزدق في حديث امرئ القيس فتأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار ثم خشين أن
يقصرن دون المنزل الذي أردنه فخرجت إحداهن فوضع لها ثوبها ناحية فأخذته فلبسته ثم
تتابعن على ذلك حتى بقيت عنيزة فناشدته الله أن يطرح إليها ثوبها فقال دعينا منك
فأنا حرام إن أخذت ثوبك إلا بيدك فخرجت فنظر إليها مقبلة ومدبرة فوضع لها ثوبها فأخذته
وأقبلن عليه يلمنه ويعذلنه ويقلن عريتنا وحبستنا وجوعتنا قال فإن نحرت لكن مطيتي
أتأكلن منها قلن نعم فاخترط سيفه فعقرها ونحرها وكشطها وصاح بالخدم فجمعوا له حطبا
فأجج نارا عظيمة ثم جعل يقطع لهن من سنامها وأطايبها وكبدها فيلقيها على الجمر
فيأكلن ويأكل معهن ويشرب من ركوة كانت معه ويغنيهن وينبذ إلى العبيد والخدم من
الكباب حتى شبعن وطربن فلما أراد الرحيل قالت إحداهن أنا أحمل طنفسته وقالت الأخرى
أنا أحمل رحله وقالت الأخرى أنا أحمل حشيته وأنساعه فتقسمن متاع راحلته بينهن
وبقيت عنيزة لم يحملها شيئا فقال لها امرؤ القيس يا بنة الكرام لا بد لك أن
تحمليني معك فإني لا أطيق المشي وليس من عادتي فحملته على غارب بعيرها فكان يدخل
رأسه في خدرها فيقبلها فإذا امتنعت مال حدجها فتقول يا امرأ القيس عقرت بعيري
فانزل فلذلك قوله ( تقول وقد مال الغَبيطُ بنا معاً ... عقرت َ بعيري يا امرأ
القيس فانزلِ ) فلما فرغ الفرزدق من الحديث قالت تلك الماجنة قاتلك الله ما
أحسن حديثك يا فتى وأظرفك فمن أنت قال قلت من مضر قالت ومن أيها فقلت من تميم قالت
ومن أيها قلت إلى ههنا انتهى الكلام قالت إخالك والله الفرزدق قلت الفرزدق شاعر وأنا
راوية قالت دعنا من توريتك على نسبك أسألك بالله أنت هو قال أنا هو والله قالت فإن
كنت أنت هو فلا أحسبك مفارقا ثيابنا إلا عن رضا قلت أجل قالت فاصرف وجهك عنا ساعة
وهمست إلى صويحباتها بشيء لم أفهمه فغططن في الماء فتوارين وأبدين رؤوسهن وخرجن
ومع كل واحدة منهن ملء كفيها طينا وجعلن يتعادين نحوي فضربن بذلك الطين والحمأة
وجهي وملأن عيني وثيابي فوقعت على وجهي فصرت مشغولا بعيني وما فيها وشددن على
ثيابهن فأخذنها وركبت الماجنة بغلتي وتركتني منبطحا بأسوأ حال وأخزاها وهي تقول
زعم الفتى أنه لا بد أن ينيكنا فما زلت من ذلك المكان حتى غسلت وجهي وثيابي
وجففتها وانصرفت عند مجيء الظلام إلى منزلي على قدمي وبغلتي قد وجهن بها إلى منزلي
مع رسول لهن وقلن قل له تقول لك أخواتك طلبت منا ما لم يمكننا وقد وجهنا إليك
بزوجتك فنكها سائر ليلتك وهذا كسر درهم لحمامك إذا أصبحت فكان إذا حدث بهذا الحديث
يقول ما منيت بمثلهن يهجو مسكينا الدارمي أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو
مسلم الحراني قال حدثني الأصمعي قال حدثنا العلاء بن أسلم قال لما مات زياد رثاه
مسكين الدارمي فقال الفرزدق ( أمسكينُ أبكى الله عينيك إنما ... جرى في ضلال دمعُها إذ
تحدَّرَا ) ( بكيتَ امرأ من آل مَيْسانَ كافراً ... ككِسرى على عِدَّانِه أو كقيصرا ) ( أقول له لمّا
أتانِي نَعِيُّه ... به لا بظبيٍ بالصَّريمة أعفرا ) هجا ومدح آل المهلب أخبرنا عبد الله
بن مالك عن أبي مسلم الحراني قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا العلاء بن أسلم قال لما
أراد المهلب الخروج إلى الأزارقة لقي الفرزدق جريرا فقال له يا أبا فراس هل لك أن
تكلم المهلب حتى يضع عني البحث وأعطيك ألف درهم فكلم المهلب فأجابه فلامه جذيع رجل
من عشيرته وشكا ذلك إلى خيرة امرأة المهلب وقال لها لا يزال الآن الرجل يجيء فيسأل
في عشيرته وصديقه فلامته خيرة بنت ضمرة القشيرية فقال المهلب إنما اشتريت عرضي منه
فبلغ ذلك الفرزدق فقال يهجو جذيعا (
إن تَبْن دَارَكَ يا جُذَيع فما بنى ... لك يا جذيع أبوك
من بُنْيانِ ) ( وابوك ملتزم السفينة عاقدٌ ... خُصْيَيْه فوق بنائق التُّبّان ) ( ويظلّ يدفَع
باستِه متقاعِساً ... في البحر معتمدا على السُّكّان ) ( لا تحسبنّ دراهماً جمعتها ... تمحو
مَخازِيَك التي بِعُمان ) وقال يهجو خيرة (
ألاَ قشَر الإلهُ بني قَشُيرٍ ... كقَشْر عصا المنقِّح
من مُعَال ) ( أرى رهطاً لخيرة لم يَؤُوبوا ... بسهم في اليمين ولا الشمال ) ( إذا رُهِزَت
رأيت بني قُشَيْرٍ ... من الخُيَلاء مُنتفِشي السِّبالِ ) فغضب بنو المهلب لما هجا جذيعا وخيرة
فنالوا منه فهجاهم فقال ( وكائِن للمهلّب من نَسِيبٍ ... يُرى بلَبانه أثرُ الزِّيار ) ( بِخارَكَ لم
يقُد فرساً ولكن ... يقود السّاج بالمسَد المغار ) ( عمي بالتَّنَائف حين يُضحى ...
دَليلَ اللّيل في اللجج الغِمار
) ( وما لِلَّه يسجُد إذ يصلّي ... ولكن يسجدون لكل نارِ ) فلما ولي يزيد
بن المهلب خراسان والعراق بعد أبيه ولاه سليمان بن عبد الملك خاف الفرزدق من بني
المهلب فقال يمدحهم ( فلأَ مدحنَّ بنِي المهلَّب مِدحةً ... غَرّاء قاهرة على
الأشعارِ ) ( مثل النجوم أمامها قَمْراؤها ... تجلو العَمى وتضيء ليلَ السَّاري ) ( ورِثوا
الطّعان عن المهلّب والقِرى ... وخلائقاً كتدفُّقِ الأنهار ) ( كان المهلّب للعراق وقايةً ...
وحَيَا الرَّبيعِ ومَعقِل الفُرَّار
) ( وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتَهم ... خضع الرقاب نواكس
الأبصار ) ( مازال مذ شد الإزار بكفه ... ودنا فأدرك خمسة الأشبار ) ( أيزيد إنك
للمهلب أدركت ... كفاك خير خلائق الأخيار ) أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا
محمد بن حبيب قال حدثني الأصمعي قال لما قدم يزيد بن المهلب واسطا قال لأمية بن
الجعد وكان صديق الفرزدق إني لأحب أن تأتيني بالفرزدق فقال للفرزدق ماذا فاتك من
يزيد أعظم الناس عفوا وأسخى الناس كفا قال صدقت ولكن أخشى أن آتيه فأجد العمانية
ببابه فيقوم إلي رجل منهم فيقول هذا الفرزدق الذي هجانا فيضرب عنقي فيبعث إليه
يزيد فيضرب عنقه ويبعث إلى أهلي ديتي فإذا يزيد قد صار أوفى العرب وإذا الفرزدق
فيما بين ذلك قد ذهب قال لا والله لا أفعل فأخبر يزيد بما قال فقال أما إذ قد وقع
هذا بنفسه فدعه لعنه الله خبره مع الماجن الذي أراده قال ابن حبيب وحدثنا يعقوب بن
محمد الزهري عن أبيه عن جده قال دخل الفرزدق مع فتيان من آل المهلب في بركة
يتبردون فيها ومعهم ابن أبي علقمة الماجن فجعل يتفلت إلى الفرزدق فيقول دعوني
أنكحه حتى لا يهجونا أبدا وكان الفرزدق من أجبن الناس فجعل يستغيث ويقول ويلكم لا
يمس جلده جلدي فيبلغ ذلك جريرا فيوجب علي أنه قد كان منه الذي يقول فلم يزل
يناشدهم حتى كفوه عنه أخبرني عبيد الله قال حدثني محمد بن حبيب قال حدثني موسى بن
طلحة قال لما ولي خالد بن عبد الله العراق فقدمها وكان من أشد خلق الله عصبية على
نوار فقال لبطة بن الفرزدق فلبس أبي من صالح ثيابه وخرج يريد السلام عليه فقلت له
يا أبت إن هذا الرجل يماني وفيه من العصبية ما قد علمت فلو دخلت إليه فأنشدته
مدائحك أهل اليمن لعل الله أن يأتيك منه بخير فإنك قد كبرت على الرحلة فجعل لا يرد
علي شيئا حتى دفعنا إلى البواب فأذن له فدخل وسلم فاستجلسه ثم قال إيه يا أبا فراس
أنشدنا مما أحدثت فأنشدته ( يختلف الناسُ ما لم نجتمْع لهمُ ... ولا خلاف إذا ما أجمعت
مُضرُ ) ( فينا الكواهلُ والأعناقُ تقدُمها ... فيها الرؤوسُ وفيها السَّمعُ والبصر ) ( ولا نحالف غيرَ
الله من أحد ... إلا السيوفَ إذا ما اغرَوْرَق النظر ) ( ومن يَملِْ يمل المأثورُ قُلَّتَه
... بحيث يَلقى حِفَافَيْ رأسه الشعر
) ( أما الملوكُ فإنا لا نلين لهم ... حتى يلينَ لضرس
الماضِغ الحجرُ ) ثم قام فخرجنا قلت أهكذا أوصيتك قال اسكت لا أم لك فما كنت قط
أملأ لقلبه مني الساعة يفحم المنذر بن الجارود أخبرني عبد الله قال حدثني محمد بن
حبيب عن موسى بن طلحة قال كان الفرزدق في حلقة في المسجد الجامع وفيها المنذر بن
الجارود العبدي فقال المنذر من الذي يقول ( وجدنا في كتاب بني تميم ... أحقُّ
الخيلِ بالركضِ المعارُ ) فقال الفرزدق يا أبا الحكم هو
الذي يقول ( أشاربُ قهوةٍ وخدينُ زيرٍ ... وعَبْدي لفَسْوَته بُخار ) ( وجَدنا الخيلَ
في أبناء بكرٍ ... وأفضلُ خيلهم خشبٌ وقار ) قال فخجل المنذر حتى ما قدر على
الكلام أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثنا الأصمعي قال دخل
الفرزدق على بعض خلفاء بني مروان ففاخره قوم من الشعراء فأنشأ يقول ( ما حملّتْ ناقةٌ
من معشر رجلاً ... مثلي إذا الريح لفَّتْنِي على الكُورِ ) ( أعزَّ قوماً وأوفى عند مكرمةٍ ...
لمعْظَمٍ من دماء القوم مهجورِ
) فقال له إيه فقال ( إِلاّ قُريشاً فإنّ الله فضَّلها ...
على البريّةِ بالإسلام والخيرِ
) ( تلقى وجوهَ بني مرْوانَ تحسبُها ... عند اللقاء
مشُوفاتِ الدَّنانير ) ففضله عليهم ووصله يمدح عيسى بن حصيلة لأنه أعانه على الفرار
قال ابن حبيب وكان الفرزدق يهاجي الأشهب بن رميلة النهشلي وبني فقيم فأرفث بهم
فاستعدوا عليه زيادا فحدثني جابر بن جندل قال فأتى عيسى بن حصيلة بن مغيث بن نصر
بن خالد السلمي ثم من بني بهز فقال يا أبا حصيلة إن هذا الرجل قد أخافني وقد لفظني
جميع من كنت أرجو قال فمرحبا بك يا أبا فراس فكان عنده ليالي ثم قال إني أريد أن
ألحق بالشام قال إن أقمت ففي الرحب والسعة وإن شخصت فهذه ناقة أرحبية أمتعك بها وألف
درهم فركب الناقة وخرج من عنده ليلا فأرسل عيسى معه من أجازه من البيوت فأصبح وقد
جاوز مسيرة ثلاث فقال يمدحه ( كفاني بها البَهْزيُّ حُملانَ منْ أبى ... من الناس والجاني
تُخاف جرائمُهْ ) ( فتى الجودِ عيسى والمكارمِ والعُلا ... إذا المال لم ينفَع
بخيلاً كرائمه ) ( ومن كان يا عيسى يُؤنّب ضَيْفَه ... فَضَيْفُك يا عيسى هنيءٌ
مطاعمُه ) ( وقال تَعلَّمْ أنها أرحبِيَّةٌ ... وأنَّ لك الليلَ أنت جاشِمه ) ( فأصْبَحْتُ
والملقى ورائي وحنبل ... وما صدرت حتى علا النجم عاتمه ) ( تزاور في آل الحقيق كأنها ... ظليمٌ
تباري جُنح ليل نعائمه ) ( رأت دون عينيها ثويَّة فانجلى ... لها الصبح عن صَعْلٍ أسيلٍ
مخاطمه ) وقال ( تدارَكني أسبابُ عيسى من الرَّدَى ... ومن يَكُ مولاه فليس
بواحدِ ) ( نمتْه النواصي من سُليْمٍ إلى العلا ... واعراقُ صدق بين نَصْر وخالد ) ( سأٌثنِي بما
أوليْتَني وأرُبُّه ... إذا القوم عدُّوا فضْلَهم في المشاهد ) فلما بلغ زيادا
شخوصه أتبعه علي بن زهدم الفقيمي أحد بني مؤلة فلم يلحقه فقال الفرزدق ( فإنك لو لاقيتَني
يا بنَ زهدمٍ ... لأبت شعاعيًّا على غير تمثال ) يلجأ إلى بكر بن وائل فأتى بكر بن
وائل فجاورهم فأمن فقال ( وقد مَثلت أين المسيرُ فلم تجد ... لعَوذَتها كالحيّ بكر بن
وائل ) ( وسارت إلى الأجفان خمساً فأصبحت ... مكان الثريا من يد المتناول ) ( وما ضرها إذ
جاورت في بلادها ... بني الحصِن ما كان اختلاف القَبائل ) الحصن بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن
علي بن بكر بن وائل اطمأن عند سعيد بن العاصي بالمدينة وهرب الفرزدق من زياد فأتى
سعيد بن العاصي بن سعيد بن العاصي ابن أمية وهو على المدينة لمعاوية بن أبي سفيان فأمنه
سعيد فبلغ الفرزدق أن زيادا قال لو أتاني أمنته وأعطيته فقال في كلمة له ( دعاني زياد
للعطاءِ وَلم أكُنْ ... لآتِيَهُ ما ساق ذو حسب وَقْرا ) ( وَعند زيادً لو أراد عطاءَهم ...
رجالٌ كثيرٌ قد يرى بهمُ فقرا )
( قعودٌ لدى الأَبواب طلاَّبُ حاجة ... عوانٍ من الحاجات
أو حاجة بكرا ) ( فلما خشيتُ أن يكون عطاؤه ... أداهمَ سوداً أو مُحَدْرَجَةً
سُمرا ) ( نمْيتُ إلى حَرف أضرَّ بنَيِّها ... سُرَى الليل وَاستعراضُها البلد القفْرا ) فلما اطمأن عند
سعيد بن العاصي بالمدينة قال ( أَلا مَنْ مبلغٌ عنّي زِياداً ... مُغلغلةً يخُبُّ بها
البَريدُ ) ( بأني قد فررتُ إلى سعيدٍ ... وَلا يُسْطَاعُ ما يَحْمي سعيد ) ( فررتُ إليه من
ليثٍ هِزبْرٍ ... تفادى عن فريسته الأُسود ) ( فإن شئت انتمْيت إلى النصارى ...
وَنَاسبني وَنَاسبتِ اليهودُ )
( وَإن شئت انتسبت إلى فُقَيْمٍ ... وَنَاسبني وَنَاسبتِ
القرود ) ( وَأَبغضُهم إليَّ بَنُو فُقيم ... وَلكن سوف آتي ما تُرِيد ) فأقام الفرزدق
بالمدينة فكان يدخل بها على القيان فقال ( إذا شئتُ غنَّاني من العاج قاصفٌ ...
على معصم ريّان لم يتخدَّدِ ) (
لبيضاءَ من أهل المدينة لم تعِش ... ببؤس ولم تتبعْ
حُمولة مُجْحد ) ( وقامت تُخشيِّني زياداً وأجفلت ... حواليَّ في بُردَيْ يمانٍ
وَمُجسَد ) ( فقلتُ دعيني من زياد فإنَّني ... أرى الموت وَقَّاعاً على كل مُرْصَدِ ) ملاحاة بينه
وبين مسكين الدارمي فلما هلك زياد رثاه مسكين بن عامر بن شريح بن عمرو بن عدي بن
عدس بن عبد الله بن دارم فقال (
رأَيت زيادة الإِسلام وَلّت ... جهاراً حين فارقها
زِيادُ ) فبلغ ذلك الفرزدق فقال (
أمسكينُ أبكى الله عينيك إنَّما ... جرى في ضلالٍ
دَمعُها فتحدَّرا ) ( أتبكي امرأً من آل مَيسَان كافراً ... ككسرى على عِدَّانه أو
كقيصرا ) ( أقول له لما أتانِي نَعِيُّه ... بهِ لا بظبيٍ بالصّرِيمة أعفرا ) فقال مسكين ( أَلا أيها المرءُ
الذي لَسْتٌُ قائماً ... ولا قاعداً في القوم إلاَّ انبرى لِيَا ) ( فجئْنِي
بعَمٍّ مثل عَمِّي أَو أَبٍ ... كمثل أبي أو خالِ صدقٍ كخاليَا ) ( بعَمرو بن
عمرو أو زرارةَ ذي النّدى ... سموتُ به حتى فَرعتُ الّروابيا ) فأمسك الفرزدق عنه وكان يقول نجوت من
أن يهجوني مسكين فإن أجبته ذهبت بشطر فخري وإن أمسكت عنه كانت وصمة على مدى الدهر أخبرني
أبو خليفة فقال أخبرنا ابن سلام قال حدثني الحكم بن محمد المازني قال كان تميم بن
زيد القضاعي ثم أحد بني القين بن جسر غزا الهند في جيش فجمرهم وفي جيشه رجل يقال
له حبيش فلما طالت غيبته على أمه إشتاقته فسألت عمن يكلم لها تميم بن زيد أن يقفل
ابنها فقيل لها عليك بالفرزدق فاستجيري بقبر أبيه فأتت قبر غالب بكاظمة حتى علم
الفرزدق مكانها ثم أتته وطلبت إليه حاجتها فكتب إلى تميم بن زيد هذه الأبيات ( هَبْ لي حُبَيشاً
واتخذ فيه مِنّةً ... لغُصَّةِ أَمٍّ ما يَسوغُ شرابُها ) ( أتتني فعَاذت يا تميمُ بغالبٍ ...
وبالحفرة السافي عليها تُرابُها
) ( تَميمُ بن زَيدٍ لا تكوننَّ حاجتي ... بظَهرٍ فلا
يخفى عليَّ جَوابها ) فلما أتاه كتابه لم يدر ما اسمه حبيش أو حنيش فأخرج ديوانه
وأقفل كل حبيش وحنيش في جيشه وهم عدة وأنفذهم إلى الفرزدق قبر أبيه معاذ الناس قال
أبو خليفة قال ابن سلام وحدثني أبو يحيى الضبي قال ضرب مكاتب لبني منقر بساطا على
قبر غالب أبي الفرزدق فقدم الناس على الفرزدق فأخبروه بمكانه عند قبر أبيه ثم قدم
عليه فقال ( بقبر ابن لَيْلى غالب غُذْتُ بعدما ... خَشِيت الرَّدَى أو أن أُرَدَّ عَلَى
قَسْر ) ( فأخبرني قبرُ ابنِ لَيْلى فقال لي ... فِكاككَ أن تأتي الفرزدقَ بالمِصْرِ ) فقال الفرزدق
صدق أبي أنخ ثم طاف له في الناس حتى جمع له مكاتبته وفضلا وكان نفيع ذو الأهدام
أحد بني جعفر بن كلاب يتعصب لجرير بمدحه قيسا فهجاه الفرزدق فاستجارت أمه بقبر
غالب وعاذت من هجاء الفرزدق فقال (
ونُبّئتُ ذا الأَهدام يعوي ودونه ... من الشَّام
زُرَّاعَاتُها وَقُصُورُها ) ( على حينَ لم أتركْ عَلَى الأرضْ حيَّةً ... ولا نابحاً إلا
استقرّ عقورُها ) ( كلابٌ نَبَحن الحيّ من كل جانبٍ ... فعاد عُواءً بعد نَبْحٍ
هريرُها ) ( عجوزٌ تصلي الخمس عاذت بغالبٍ ... فلا والذي عاذت به لا أضيرها ) ( لئن نافعٌ لم
يرع أرحام أُمِّه ... وَكَانت كدَلوٍ لا يزال يعيرُها ) ( لبئس دمُ المولود بلَّ ثيَابها ...
عشيَّةَ نادى بالغلام بشيرُها )
( وإنّي على إشفاقها من مخافتي ... وَإن عَقّهَا بي
نافعٌ لمجيرها ) ( وَلو أن َّ أمَّ الناس حواء جاوَرت ... تميمَ بن مُرٍّ لم تجد
من يجيرها ) وهذا البيت يروى لغيره في غير هذه القصيدة أخبرني عبد الله بن مالك قال
حدثنا محمد بن حبيب قال حدثنا أحمد بن حاتم المعروف بابن نصر عن الأصمعي قال كان
عبد الله بن عطية راوية الفرزدق وجرير قال فدعاني الفرزدق يوما فقال إني قلت بيت
شعر والنوار طالق إن نقضه ابن المراغة قلت ما هو قال قلت ( فإِني أنا الموتُ الذي هو نازلٌ ...
بنفسك فانظر كيف أنت تُحاوله ) ارحل إليه بالبيت قال فرحلت إلى اليمامة قال ولقيت جريرا بفناء
بيته يعبث بالرمل فقلت إن الفرزدق قال بيتا وحلف بطلاق النوار أنك لا تنقضه قال
هيه أظن والله ذلك ما هو ويلك فأنشدته إياه فجعل يتمرغ في الرمل ويحثوه على رأسه
وصدره حتى كادت الشمس تغرب ثم قال أنا أبو حزرة طلقت امرأة الفاسق وقال ( أنا الدهرُ يفنى
الموتُ والدهر خالدٌ ... فجئني بمثل الدهرِ شيئاً يطاوله ) ارحل إلى الفاسق قال فقدمت على الفرزدق
فأنشدته إياه وأعلمته بما قال فقال أقسمت عليك لما سترت هذا الحديث أخبرني عبد
الله قال أخبرني محمد بن حبيب قال حدثنا الأصمعي وأبو عبيدة قال دخل الفرزدق على
بلال بن أبي بردة وعنده ناس من اليمامة فضحكوا فقال يا أبا فراس أتدري مم ضحكوا
قال لا قال من جفائك قال أصلح الله الأمير حججت فإذا أنا برجل منهم على عاتقه
الأيمن صبي وعلى عاتقه الأيسر صبي وإذا امرأة آخذة بمئزره وهو يقول ( أنت وهبت زائداً
ومزْيَدا ... وكهلةً أُولجُ فيها الأجردا ) والمرأة تقول من خلفه إذا شئت فسألت
ممن هو فقيل من الأشعريين أفأنا أجفى أم ذلك فقال بلال لا حياك الله قد علمت أنهم
لن يفتلوا منك أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن حبيب قال حدثنا موسى بن
طلحة عن أبي زيد الأنصاري قال ركب الفرزدق بغلته فمر بنسوة فلما حاذاهن لم تتمالك
البغلة أن ضرطت فضحكن منه فالتفت إليهن فقال لا تضحكن فما حملتني أنثى إلا ضرطت
فقالت له إحداهن ما حملتك أنثى أكثر من أمك فأراها قاست منك ضراطا كثيرا فحرك
بغلته وهرب منهن وبهذا الإسناد قال أتى الفرزدق الحسن البصري فقال إني قد هجوت
إبليس فقال كيف تهجوه وعن لسانه تنطق وبهذا الإسناد قال حمزة بن بيض للفرزدق يا
أبا فراس أسألك عن مسألة قال سل عما أحببت قال أيما أحب إليك أتسبق الخير أم يسبقك
قال إن سبقني فاتني وإن سبقته فته ولكن نكون معا لا يسبقني ولا أسبقه ولكن أسألك
عن مسألة قال ابن بيض سل قال أيما أحب إليك أن تنصرف إلى منزلك فتجد امرأتك قابضة على
أير رجل أم تراه قابضا على هنها قال فتحير وكان قد نهي عنه فلم يقبل هو وجرير لا
يصطلحان أبدا أخبرني عبد الله قال حدثني محمد بن عمران الضبي قال حدثني الأصمعي
قال اجتمع الفرزدق وجرير عند بشر بن مروان فرجا أن يصلح بينهما حتى يتكافا فقال لهما
ويحكما قد بلغتما من السن ما قد بلغتما وقربت آجالكما فلوا اصطلحتما ووهب كل واحد
منكما لصاحبه ذنبه فقال جرير أصلح الله الأمير إنه يظلمني ويتعدى علي فقال الفرزدق
أصلح الله الأمير إني وجدت آبائي يظلمون آباءه فسلكت طريقهم في ظلمه فقال بشر
عليكما لعنة الله لا تصطلحان والله أبدا وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد
بن عمران الضبي قال حدثنا الأصمعي قال الفرزدق ما أعياني جواب أحد ما أعياني جواب
دهقان مرة قال لي أنت الفرزدق الشاعر قلت نعم قال أفأموت إن هجوتني قلت لا قال
أفتموت عيشونة ابنتي قلت لا قال فرجلي إلى عنقي في حر أمك قال قلت ويلك لم تركت
رأسك قال حتى أنظر أي شيء تصنع أخبرني عبد الله قال حدثنا محمد بن حبيب عن الأصمعي
قال مر الفرزدق بمأجل فيه ماء فأشرع بغلته فيه فقال له مجنون بالبصرة يقال له حربيش
نح بغلتك جذ الله رجليك قال ولم ويلك قال لأنك كذوب الحنجرة زاني الكمرة فقال
الفرزدق لبغلته عدس ومضى وكره أن يسمع قوله الناس يؤثر القصائد القصار أخبرنا عبد
الله بن مالك عن ابن حبيب عن سعدان بن المبارك قال قيل للفرزدق ما اختيارك في شعرك
للقصار قال لأني رأيتها أثبت في الصدور وفي المحافل أجول قال وقيل للحطيئة ما بال
قصارك أكثر من طوالك قال لأنها في الآذان أولج وفي أفواه الناس أعلق أخبرني عبد
الله بن حبيب عن سعدان بن المبارك قال قيل لعقيل ابن علفة مالك تقصر في هجائك قال
حسبك من القلادة ما أحاط بالرقبة أخبرني عبد الله عن محمد بن علي بن سعيد الترمذي
عن أحمد بن حاتم أبي نصر قال قال الجهم بن سويد بن المنذر الجرمي للفرزدق أما وجدت
أمك اسما لك إلا الفرزدق الذي تكسره النساء في سويقها قال والعرب تسمي خبز الفتوت
الفرزدق فأقبل الفرزدق على قوم معه في المجلس فقال ما اسمه فلم يخبروه باسمه فقال والله
لئن لم تخبروني لأهجونكم كلكم قال الجهم بن سويد بن المنذر فقال الفرزدق أحق الناس
ألا يتكلم في هذا أنت لأن اسمك اسم متاع المرأة واسم أبيك اسم الحمار واسم جدك اسم
الكلب بيتان لكثير يغيران لون وجهه أخبرنا عبد الله بن مالك عن الزبير عن عمه عن بعض
القرويين قال قدم علينا الفرزدق فقلنا له قدم علينا جرير فأنشدنا قصيدة يمدح بها
هؤلاء القوم ومضى يريدهم فقال أنشدونيها فأنشدناه قصيدة كثير التي يقول فيها ( وما زالت رُقاك تسُلُّ
ضِغْني ... وتخرج من مكامنها ضِبابي
) ( ويَرقيني لك الحاوون حتى ... أجابك حيّةٌ تحت
الحِجاب ) قال فجعل وجهه يتغير وعندنا كانون ونحن في الشتاء فلما رأينا ما به قلنا هون
عليك يا أبا فراس فإنما هي لابن أبي جمعة فانثنى سريعا ليسجد فأصاب ناحية الكانون
وجهه فأدماه أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى قال أخبرني القحذمي قال لقي
الفرزدق الحسين بن علي عليهما السلام متوجها إلى الكوفة خارجا من مكة في اليوم
السادس من ذي الحجة فقال له الحسين صلوات الله عليه وآله ما وراءك قال يا بن رسول
الله أنفس الناس معك وأيديهم عليك قال ويحك معي وقر بعير من كتبهم يدعونني
ويناشدونني الله قال فلما قتل الحسين صلوات الله عليه قال الفرزدق انظروا فإن غضبت
العرب لابن سيدها وخيرها فاعلموا أنه سيدوم عزها وتبقى هيبتها وإن صبرت عليه ولم تتغير
لم يزدها الله إلا ذلا إلى آخر الدهر وأنشد في ذلك ( فإن أنتمُ لم تثأَروا لابن خيركم ...
فألقوا السلاح واغزِلوا بالمغازِل
) أخبرنا عبد الله بن مالك قال أخبرني أبو مسلم قال
حدثني الأصمعي قال أنشد الراعي الفرزدق أربع قصائد فقال له الفرزدق أعيدها عليك
لقد أتى علي زمان ولو سمعت ببيت شعر وأنا أهوي في بئر ما ذهب عني أخبرني عبد الله
بن مالك قال حدثني أبو مسلم الحراني عن الأصمعي قال تغدى الفرزدق عند صديق له ثم
انصرف فمر ببني أسد فحدثهم ساعة ثم استسقى ماء فقال فتى منهم أو لبنا فقال لبنا
فقام إلى عس فصب فيه رطلا من خمر ثم حلب وناوله إياه فلما كرع فيه انتفخت أوادجه
واحمر وجهه ثم رد العس وقال جزاك الله خيرا فإني ما علمتك تحب أن تحفي صديقك وتخفي
معروفك ثم مضى قصته مع المرأة الشريفة وزوجته النوار وأخبرنا عبد الله بن مالك عن
محمد بن موسى عن القحذمي قال كان الفرزدق أراد امرأة شريفة على نفسها فامتنعت عليه
وتهددها بالهجاء والفضيحة فاستغاثت بالنوار امرأته وقصت عليها القصة فقالت لها
واعديه ليلة ثم أعلميني ففعلت وجاءت النوار فدخلت الحجلة مع المرأة فلما دخل
الفرزدق البيت أمرت الجارية فأطفأت السراج وغادرت المرأة الحجلة واتبعها الفرزدق فصار
إلى الحجلة وقد انسلت المرأة خلف الحجلة وبقيت النوار فيها فوقع بالنوار وهو لا
يشك أنها صاحبته فلما فرغ قالت له يا عدو الله يا فاسق فعرف نغمتها وأنه خدع فقال
لها وأنت هي يا سبحان الله ما أطيبك حراما وأردأك حلالا يهجو ابن سبرة لأنه منعه
عن جارية أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني القحذمي قال استعمل
الحجاج الخيار بن سبرة المجاشعي على عمان فكتب إليه الفرزدق يستهديه جارية فكتب
إليه الخيار ( كتبت إليّ تستهدي الجواري ... لقد أنعظتَ من بلدٍ بعيد ) فأجابه الفرزدق ( ألا قال الخيارُ
وكان جهلا ... قد استهدى الفرزدقُ من بعيد ) ( فلولا أن أمك كان عمٍّي ... أباها
كنت أخرس بالنشيد ) ( وأَنّ أبي لَعَمُّ أبيك لحًّا ... وأنك حين أغضبُ من أسودي ) ( إذاً لشددتُ
شدّةَ أعوجيٍّ ... يدقّ شكيمَ مجدول الحديد ) أخبرنا عبد الله بن مالك عن الأصمعي
قال سمع الفرزدق رجلا يقرأ ( والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا
من الله والله غفور رحيم ) فقال لا ينبغي أن يكون هذا هكذا قال فقيل له إنما هو (
عزيز حكيم ) قال هكذا ينبغي أن يكون يمدح أسماء بن خارجة أخبرنا عبد الله بن مالك
قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا الأصمعي قال مر أسماء بن خارجة الفزاري على الفرزدق
وهو يهنأ بعيرا له بنفسه فقال له أسماء يا فرزدق كسد شعرك واطرحتك الملوك فصرت إلى
مهنة إبلك فقد أمرت لك بمائة بعير فقال الفرزدق فيه يمدحه ( إنَّ السّماحَ الذي في الناس كلّهمُ
... قد حازه اللَّهُ للمفضَال أسماءِ )
( يُعطي الجزيلَ بلا من يكدره ... عفوا ويتبع آلاء
بنعماء ) ( ما ضر قوما إذا أمسى يجاورهم ... ألاّ يكونوا ذوي إبلٍ ولا شاءِ ) اخبرني عبد الله
بن مالك عن محمد بن موسى بن طلحة قال قال أبو عبيدة دخل الفرزدق على بلال بن أبي
بردة فأنشده قصيدته المشهورة فيهم التي يقول فيها ( فإن أبا موسى خليلُ محمدٍ ... وكفَّاه
يُمْنَى للهدى وشِمالُها ) فقال ابن أبي بردة هلكت والله يا أبا فراس فارتاع الشيخ وقال
كيف ذاك قال ذهب شعرك أين مثل شعرك في سعيد وفي العباس بن الوليد وسمى قوما فقال
جئني بحسب مثل أحسابهم حتى أقول فيك كقولي فيهم فغضب بلال حتى درت أوداجه ودعي له
بطست فيه ماء بارد فوضع يده فيها حتى سكن فكلمه فيه جلساؤه وقالوا قد كفاك الشيخ
نفسه وقل ما يبقى حتى يموت فلم يحل عليه الحول حتى مات اغتلم فاحتال على قابلة
أخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن سعيد بن همام اليمامي قال شرب الفرزدق
شرابا باليمامة وهو يريد العراق فقال لصاحب له إن الغلمة قد آذتني فأكسبني بغيا
قال من أين أصيب لك ها هنا بغيا قال فلا بد لك من أن تحتال قال فمضى الرجل إلى
القرية وترك الفرزدق ناحية فقال هل من امرأة تقبل فإن معي امرأتي وقد أخذها الطلق
فبعثوا معه امرأة فأدخلها على الفرزدق وقد غطاه فلما دنت منه واثبها ثم ارتحل
مبادرا وقال كأني بابن الخبيثة يعني جريرا لو قد بلغه الخبر قد قال ( وكنت إذا حللتَ
بدار قومٍ ... رحلتَ بخِزْيةٍ وتركتَ عارا ) قال فبلغ جريرا الخبر فهجاه بهذا
الشعر وأخبرنا عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى قال قال أبو نهشل حدثنا بعض أصحابنا
قال وقف الفرزدق على الشمردل وهو ينشد قصيدة له فمر هذا البيت في بعض قوله ( وما بين مَن لم
يعطِ سمعاً وطاعة ... وبين جرير غير حزِّ الحلاقم ) فقال الفرزدق يا شمردل لتتركن هذا
البيت لي أو لتتركن عرضك قال خذه لا بارك الله لك فيه فهو في قصيدته التي ذكر فيها
قتيبة بن مسلم وهي التي أولها قوله (
تحنُّ إلى زورا اليمامة ناقتي ... حنينَ عجولٍ تبتغي
البَّو رائمِ ) امراة تستعيذ بقبر أبيه أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا
محمد بن حبيب عن الأصمعي قال جاءت امرأة إلى قبر غالب أبي الفرزدق فضربت عليه
فسطاطا فأتاها فسألها عن أمرها فقالت إني عائذة بقبر غالب من أمر نزل بي قال لها
وما هو قد ضمنت خلاصك منه قالت إن ابنا لي أغزي إلى السند مع تميم بن زيد وهو
واحدي قال انصرفي فعلي انصرافه إليك إن شاء الله قال وكتب من وقته إلى تميم بقوله ( تميم بنَ زيد
لاتكوننَّ حاجتِي ... بظَهرٍ فلا يخفى عليَّ جَوابُها ) ( وهب لي حُبيْشاً واتّخِذْ قيه
مِنَّةً ... لحرْمة أمٍّ ما يسوغُ شَرَابُهَا ) ( أتتِني فعاذت يا تَمِيمُ بغَالبٍ
... ويالحفْرة السّافي عليها ترابُهَا
) قال فعرض تميم جميع من معه من الجند فلم يدع أحدا اسمه
حبيش ولا حنيش إلا وصله وأذن له في الانصراف إلى أهله أخبرنا عبد الله بن مالك قال
أخبرنا محمد بن حبيب عن الأصمعي قال مر الفرزدق بصديق له فقال له ما تشتهي يا أبا
فراس قال أشتهي شواء رشراشا ونبيذا سعيرا وغناء يفتق السمع الرشراش الرطب والسعير
الكثير أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن حبيب قال حدثني السعدي عن أبي مالك
الزيدي قال أتينا الفرزدق لنسمع منه شيئا فجلسنا ببابه ننتظر إذ خرج علينا في
ملحفة فقال لنا يا أعداء الله ما اجتماعكم ببابي والله لو أردت أن أزني ما قدرت أخبرني
عبد الله بن مالك قال حدثنا أبو مسلم قال حدثنا الأصمعي عن هشام بن القاسم قال قال
الفرزدق قد علم الناس أني فحل الشعراء وربما أتت علي الساعة لقلع ضرس من أضراسي
أهون علي من قول بيت شعر حدثنا عبد الله بن مالك عن أبي مسلم عن الأصمعي قال كان
الفرزدق وأبو شقفل راويته في المسجد فدخلت امرأة فسألت عن مسالة مسألة وتوسمت فرأت
هيئة أبي شقفل فسألته عن مسألتها فقال الفرزدق ( أبو شقفَل شيخ عن الحق جائرٌ ... بباب
الهدى والرّشد غيرُ بصير ) فقالت المرأة سبحان الله أتقول هذا لمثل هذا الشيخ فقال أبو
شقفل دعيه فهو أعلم بي سكينة بنت الحسين تكذب ادعاءاته أخبرنا عبد الله بن مالك
قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا المدائني قال خرج الفرزدق حاجا فمر بالمدينة
فأتى سكينة بنت الحسين صلوات الله عليه وآله فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا
قالت كذبت أشعر منك الذي يقول (
بنفسي مَن تجنُّبُه عزيزٌ ... عليَّ وَمَنْ زِيارتُه
لِمامُ ) ( وَمن أُمسِي وَأُصبِح لا أراه ... وَيطرُقني إذا هجع النيامُ ) فقال والله لو
أذنت لي لأسمعتك أحسن منه فقالت أقيموه فأخرج ثم عاد إليها في اليوم الثاني فقالت
له يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر منك الذي يقول ( لولا الحياءُ
لهاجني استعبارُ ... وَلزرتُ قبركِ والحبيبُ يزارُ ) ( لا يلبث القُرفاءُ أن يتفرّقوا ...
ليلٌ بكرّ عليهمُ ونهارُ ) ( كانت إذا هجر الضجيعُ فراشها ... كُتِمَ الحديثُ وعَفّت
الأسرار ) قال أفأسمعك أحسن منه قالت اخرج ثم عاد إليها في اليوم الثالث وعلى رأسها
جارية كأنها ظبية فاشتد عجبه بها فقالت يا فرزدق من أشعر الناس قال أنا قالت كذبت أشعر
منك الذي يقول ( إنّ العيونَ التي في طَرفِها مَرَضٌ ... قتَلننا ثم لم يُحيين
قَتْلاَنَا ) ( يَصرعْن ذا اللُّبّ حتى لا حَراكَ له ... وهُنَّ أضعفُ خلقِ
الله أَركانا ) ثم قالت قم فاخرج فقال لها يا بنت رسول الله إن لي عليك لحقا إذ
كنت إنما جئت مسلما عليك فكان من تكذيبك إياي وصنيعك بي حين أردت أن أسمعك شيئا من
شعري ما ضاق به صدري والمنايا تغدو وتروح ولا أدري لعلي لا أفارق المدينة حتى أموت
فإن مت فمري من يدفنني في حر هذه الجارية التي على رأسك فضحكت سكينة حتى كادت تخرج
من ثيابها وأمرت له بالجارية وقالت أحسن صحبتها فقد آثرتك بها على نفسي قال فخرج
وهو آخذ بريطتها يطالب معاوية بتراث عمه أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد
بن موسى قال حدثنا المدائني قال وفد الحتات عم الفرزدق على معاوية فخرجت جوائزهم
فانصرفوا ومرض الحتات فأقام عند معاوية حتى مات فأمر معاوية بماله فأدخل بيت المال
فخرج الفرزدق إلى معاوية وهو غلام فلما أذن للناس دخل بين السماطين ومثل بين يدي
معاوية فقال ( أبوك وعمّي يا معاويَ ورَّثا ... تراثاً فيحتازُ التّراثَ
أَقاربُه ) ( فما بال ميراثِ الحتات أكلتَهُ ... وميراثُ حرب جامدٌ ليَ ذائبه ) ( فلو كان هذا
الأمرُ في جاهليَّةٍ ... علمتَ مَن المولى القليلُ حلائبهُ ) ( ولو كان هذا الأمر في مِلك غيركم
... لأدّاه لي أو غصّ بالماء شاربه
) فقال له معاوية من أنت قال أنا الفرزدق قال ادفعوا
إليه ميراث عمه الحتات وكان ألف دينار فدفع إليه امرأة ترجز به فيذكرها بشعر فاحش
أخبرنا عبد الله بن مالك عن أبي حمزة الأنصاري قال أخبرنا أبو زيد قال قال أبو
عبيدة انصرف الفرزدق من عند بعض الأمراء في غداة بادرة وأمر بجزور فنحرت ثم قسمت فأغفل
امرأة من بني فقيم نسيها فرجزت به فقالت ( فيْشلةٌ هدْلاءُ ذات شِقْشقِ ...
مشرفةُ اليافوخِ والمحوَّقِ ) (
مُدمَجةٌ ذاتُ حِفافٍ أخلقِ ... نِيطت بحَقْوَيْ قَطِمٍ
عشَنَّق ) ( أولجتها في سبة الفرزدق
... ) قال أبو عبيدة فبلغني أنه هرب منها فدخل في بيت
حماد بن الهيثم ثم إن الفرزدق قال فيها بعد ذلك ( قتلتُ قتيلاً لم ير الناسُ مثلَه ...
أُقلِّبه ذا تَوْمَتين مُسَوَّرا
) ( حملتُ عليه حملتين بطعنةٍ ... فغَادرتهُ فوق
الحشَايا مكوّرا ) ( ترى جرحَه من بعد ما قد طعنته ... يفوح كمثل المسك خالطَ عنبرا ) ( وما هو يوم
الزحف بارزَ قِرنَه ... ولا هو ولىّ يوم لاقى فأدبرا ) ( بني دارم ما تأمرون بشاعرٍ ... برود
الثّنَايَا ما يزال مزعفرا ) ( إذا ما هو استلقى رأيت جهَازه ... كمقطع عُنق الناب أسود أحمرا ) ( وكيف أُهَاجي
شاعراً رمحُهُ استُه ... أعدَّ ليوم الروع درعاً وَمَجْمرا ) فقالت المرأة ألا لا أرى الرجال
يذكرون مني هذا وعاهدت الله ألا تقول شعرا أخبرنا عبد الله بن مالك بن مسلم عن
الأصمعي قال مر الفرزدق يوما في الأزد فوثب عليه ابن أبي علقمة لينكحه وأعانه على
ذلك سفهاؤهم فجاءت مشايخ الأزد وأولو النهى منهم فصاحوا بابن أبي علقمة وبأولئك السفهاء
فقال لهم ابن أبي علقمة ويلكم أطيعوني اليوم واعصوني الدهر هذا شاعر مضر ولسانها
قد شتم أعراضكم وهجا ساداتكم والله لا تنالون من مضر مثلها أبدا فحالوا بينه وبينه
فكان الفرزدق يقول بعد ذلك قاتله الله إي والله لقد كان أشار عليهم بالرأي رجل من
الأنصار يتحداه بشاعرهم حسان بن ثابت أخبرني عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن
حبيب قال قال الكلبي قال إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص وأخبرنا بهذا الخبر
محمد بن العباس اليزيدي والأخفش جميعا عن السكري عن ابن حبيب عن أبي عبيدة والكلبي
قال وأخبرنا به إبراهيم بن سعدان عن أبيه عن أبي عبيدة قالوا جميعا قدم الفرزدق
المدينة في إمارة أبان بن عثمان فأتى الفرزدق وكثير عزة فبينا هما يتناشدان
الأشعار إذ طلع عليهما غلام شخت رقيق الأدمة في ثوبين ممصرين فقصد نحونا فلم يسلم
وقال أيكم الفرزدق فقلت مخافة أن يكون من قريش أهكذا تقول لسيد العرب وشاعرها فقال
لو كان كذلك لم أقل هذا فقال له الفرزدق من أنت لا أم لك قال رجل من الأنصار ثم من
بني النجار ثم أنا ابن أبي بكر بن حزم بلغني أنك تزعم أنك أشعر العرب وتزعمه مضر
وقد قال شاعرنا حسان بن ثابت شعرا فأردت أن اعرضه عليك وأؤجلك سنة فإن قلت مثله
فأنت أشعر العرب كما قيل وإلا فأنت منتحل كذاب ثم أنشده ( ألم تسألِ الربّع الجديدَ التكلُّما ... ) حتى بلغ إلى
قوله ( وأبقى لنا مَرُّ الحروب ورزؤُها ... سيوفاً وأدراعاً وجمّاً عرمرما ) ( متى ما
تُرِدْنا من مَعدٍّ عِصابةٌ ... وغسانَ نمنعْ حوضنا أن يُهدَّما ) ( لنا حاضر فعْمٌ
وبادٍ كأنه ... شماريخُ رَضْوَى عِزةً وتكرُّما ) ( أبى فِعلُنَا المعروفَ أن ننطق
الخنا ... وقائلُنا بالعُرف إلا تَكلُّما ) ( بكل فتىً عاري الأشاجع لاحَه ...
قِراعُ الكماة يرشح المِسكَ والدّما
) ( ولدنا بني العنقاء وابنَيْ محرِّقٍ ... فأكرم بذا
خالاً وأكرم بذا ابْنما ) ( يُسَوِّدُ ذا المالِ القليل إذا بدت ... مروءتُه فينا وإن كان
مُعدِما ) ( وإنا لنَقْرِي الضيفَ إن جاء طارقاً ... من الشحم ما أمسى صحيحا مُسلَّما ) ( لنا الجَفَناتُ
الغُرُّ يلمعَن بالضّحى ... وأسيافُنا يقطُرن من نجدةٍ دمَا ) فأنشده القصيدة وهي نيف وثلاثون بيتا
وقال له قد أجلتك في جوابها حولا فانصرف الفرزدق مغضبا يسحب رداءه وما يدري أية
طرقه حتى خرج من المسجد فأقبل على كثير فقال له قاتل الله الأنصار ما أفصح لهجتهم
وأوضح حجتهم وأجود شعرهم فلم نزل في حديث الأنصار والفرزدق بقية يومنا حتى إذا كان
من الغد خرجت من منزلي إلى المسجد الذي كنت فيه بالأمس فأتى كثير فجلس معي وإنا
لنتذاكر الفرزدق ونقول ليت شعري ما صنع إذ طلع علينا في حلة أفواف قد أرحى غديرته
حتى جلس في مجلسه بالأمس ثم قال ما فعل الأنصاري فنلنا منه وشتمناه فقال قاتله
الله ما منيت بمثله ولا سمعت بمثل شعره فارقته وأتيت منزلي فأقبلت أصعد وأصوب في
كل فن من الشعر فكأني مفحم لم أقل شعرا قط حتى إذا نادى المنادي بالفجر رحلت ناقتي
وأخذت بزمامها حتى أتيت ريانا وهو جبل بالمدينة ثم ناديت بأعلى صوتي أخاكم أخاكم
يعني شيطانه فجاش صدري كما يجيش المرجل فعقلت ناقتي وتوسدت ذراعها فما عتمت حتى
قلت مائة بيت من الشعر وثلاثة عشر بيتا فبينا هو ينشد إذ طلع الأنصاري حتى إذا
انتهى إلينا سلم علينا ثم قال إني لم آتك لأعجلك عن الأجل الذي وقته لك ولكني
أحببت ألا أراك إلا سألتك إيش صنعت فقال اجلس وأنشده قوله ( عزفتَ بأعشاشٍ وما كنت تعزفُ ...
وأنكرتَ من حدراءَ ما كنت تعرف
) ( ولجّ بك الهجرانُ حتى كأنما ... ترى الموت في البيت
الذي كنت تألف ) في رواية ابن حبيب تيلف حتى بلغ إلى قوله ( تَرى الناسُ ما
سِرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى النّاس وقَّفوا ) وأنشدها الفرزدق حتى بلغ إلى آخرها
فقام الأنصاري كئيبا فلما توارى طلع أبوه أبو بكر بن حزم في مشيخة من الأنصار
فسلموا عليه وقالوا يا أبا فراس قد عرفت حالنا ومكاننا من رسول الله وقد بلغنا أن
سفيها من سفهائنا ربما تعرض لك فنسألك بحق الله وحق رسوله لما حفظت فينا وصية رسول
الله ووهبتنا له ولم تفضحنا قال محمد بن إبراهيم فأقبلت عليه أكلمه فلما أكثرنا
عليه قال اذهبوا فقد وهبتكم لهذا القرشي قال سليمان بن عبد الملك للفرزدق أنشدني
أجود شعر عملته فأنشده ( عزفتَ بأَعشاش وما كدت تعزف ... ) فقال زدني فأنشده ( ثلاثٌ واثنتان
فتلك خمس ... وواحدة تميل إلى الشِّمام
) ( فبتْنَ بجانبيّ مصرَّعاتٍ ... وبتُّ أفضُّ أغلاق
الخِتَام ) فقال له سليمان ما أراك إلا قد أحللت نفسك للعقوبة أقررت بالزنى عندي وأنا
إمام ولا تريد مني إقامة الحد عليك فقال إن أخذت في بقول الله عز و جل لم تفعل قال
وما قال قال قال الله تبارك وتعالى ( والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد
يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون ) فضحك سليمان وقال تلافيتها ودرأت عنك الحد وخلع
عليه وأجازه يجتمع هو وجرير بالشام أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن
حبيب عن الأصمعي قال قدم الفرزدق الشام وبها جرير بن الخطفي فقال له جرير ما ظننتك
تقدم بلدا أنا فيه فقال له الفرزدق إني طالما أخلفت ظن العاجز أخبرنا عبد الله بن
مالك قال حدثنا محمد بن موسى بن طلحة قال قال أبو مخنف كان الفرزدق لعنة أي يتلعن
به كأنه لعنة على قوم وكان جرير شهابا من شهب النار أخبرنا عبد الله بن مالك قال
حدثنا الأزدي قال حدثنا عمرو بن أبي عمرو عن أبيه قال قال أبو عمرو بن العلاء مر
الفرزدق بمحمد بن وكيع بن أبي سود وهو على ناقة فقال له غدني قال ما يحضرني غداء
قال فاسقني سويقا قال ما هو عندي قال فاسقني نبيذا قال أو صاحب نبيذ عهدتني قال
فما يقعدك في الظل قال فما أصنع قال أطل وجهك بدبس ثم تحول إلى الشمس واقعد فيها
حتى يشبه لونك لون أبيك الذي تزعمه قال أبو عمرو فما زال ولد محمد يسبون بذلك من
قول الفرزدق انتهى أخبرنا عبد الله بن مالك عن ابن حبيب عن موسى بن طلحة عن أبي
عبيدة عن أبي العلاء قال أخبرني هاشم بن القاسم العنزي انه قال جمعني والفرزدق
مجلس فتجاهلت عليه فقلت له من أنت قال أما تعرفني قلت لا قال فأنا أبو فراس قلت
ومن أبو فراس قال أنا الفرزدق قلت ومن الفرزدق قال أو ما تعرف الفرزدق قلت أعرف
الفرزدق أنه شيء يتخذه النساء عندنا يتسمن به وهو الفتوت فضحك وقال الحمد الله
الذي جعلني في بطون نسائكم أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن حبيب عن النضر بن
حديد قال مر الفرزدق بماء لبني كليب مجتازا فأخذوه وكان جبانا فقالوا والله لتلقين
منا ما تكره أو لتنكحن هذه الأتان وأتوه بأتان فقال ويلكم اتقوا الله فإنه شيء ما
فعلته قط فقالوا إنه لا ينجيك والله إلا الفعل قال أما إذا أبيتم فأتوني بالصخرة
التي يقوم عليها عطية فضحكوا وقالوا اذهب لا صحبك الله فتى اسود يستخف به أخبرنا
عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن العتبي قال دخل الفرزدق على قوم يشربون عند
رجل بالبصرة وفي صدر مجلسهم فتى أسود وعلى رأسه إكليل فلم يحفل بالفرزدق ولم يحف
به تهاونا فغضب الفرزدق من ذلك وقال (
جلوسُك في صدر الفراش مَذَلّةٌ ... ورأسك في الإِكليل
إحدى الكبائر ) ( وما نَطَفَتْ كأسٌ ولا لذَّ طعمُها ... ضربْتُ على حافاتها
بالمشافِر ) أخبرني عبد الله بن مالك عن محمد بن موسى عن العتبي قال لما مات وكيع بن
أبي سود أقبل الفرزدق حين أخرج وعليه قميص أسود وقد شقه إلى سرته وهو يقول ( فمات ولم يوتر
وما من قبيلة ... من الناس إلا قد أباءت على وتر ) ( وإنّ الذي لاقى وكيعاً وناله ...
تناول صِدّيق النبيّ أبا بكر ) قال فعلق الناس الشعر فجعلوا ينشدونه حتى دفن وتركوا الاستغفار
له ميميته المشهورة في مدح زين العابدين أخبرنا عبد الله بن علي بن الحسن الهاشمي
عن حيان بن علي العنزي عن مجالد عن الشعبي قال حج الفرزدق بعد ما كبر وقد أتت له
سبعون سنة وكان هشام بن عبد الملك قد حج في ذلك العام فرأى علي بن الحسين في غمار
الناس في الطواف فقال من هذا الشاب الذي تبرق أسرة وجهه كأنه مرآة صينية تتراءى
فيها عذارى الحي وجوهها فقالوا هذا علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله
عليهم فقال الفرزدق ( هذا الذي تَعرِف البطحاءُ وطأتَه ... والبَيْتُ يَعْرِفه
والحِلُّ والحرمُ ) ( هذا ابنُ خيرِ عبادِ الله كلِّهم ... هذا التقيُّ النقيُّ
الطاهرُ العلَمُ ) ( هذا ابنُ فاطمةٍ إن كنتَ جاهله ... بجدِّه أنبياءُ الله قد
خُتِموا ) ( وليس قولُك مَن هذا بضائرِه ... العُرْبُ تعرِف مَنْ أنكرتَ والعجم ) ( إذا رأته
قريشٌ قال قائلها ... إلى مكارِم هذا ينتهي الكرمُ ) ( يُغْضِي حياءً ويُغْضى من مهابته
... فما يُكَلَّمُ إلا حين يَبْتسِم
) ( بكَفّه خيزْرانٌ رِيحُها عَبِقٌ ... من كفّ أروعَ في
عِرْنينه شمم ) ( يكاد يُمسكه عِرْفانَ راحته ... رُكنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم ) ( الله شرَّفه
قِدْماً وعَظمه ... جَرَى بذاك له في لوحِه القلم ) ( أيُّ الخلائق ليست في رقابهم ...
لأَوَّلِيَّة هذا أولَهُ نِعَمُ
) ( مَنْ يشكرِ الله يشكرْ أَوّليَّة ذا ... فالدِّين من
بيت هذا ناله الأمم ) ( يَنْمِي إلى ذِروة الدين التي قَصُرت ... عنها الأكفُّ وعن
إدراكها القَدَمُ ) ( مَنْ جَدُّه دان فَضْلُ الأنبياء له ... وفَضْلُ أمَّته دانت
له الأمم ) ( مُشتقَّةٌ من رسول الله نبَعتُه ... طابت مغارسُه والخِيمُ والشِّيَمُ ) ( ينشقُّ ثَوبُ
الدجى عن نُور غُرَّته ... كالشمس تنجابُ عن إشراقها الظُلَم ) ( مِنْ معشرٍ حبُّهم دينٌ وبغضهمُ ...
كُفْرٌ وقُرْبُهُم مَنْجىً ومُعْتَصَم
) ( مُقَدَّمٌ بعد ذكر الله ذِكرُهُم ... في كلِّ بدْء
ومختومٌ به الكَلِم ) ( إن عُدَّ أهلُ التُّقى كانوا أئمتَهم ... أو قيل مَنْ خيرُ أهل
الأرض قيلَ همُ ) ( لا يستطيع جوادٌ كنهَ جودهمُ ... ولا يدانيهمُ قومٌ وإن كرموا ) ( يُسْتَدفَع
الشّرُّ والبلوى بحبِّهمُ ... ويستربُّ به الإِحْسانُ والنِّعَم ) وقد حدثني بهذا
الخبر أحمد بن الجعد قال حدثنا أحمد بن القاسم البرتي قال حدثنا إسحاق بن محمد
النخعي فذكر أن هشاما حج في حياة أبيه فرأى علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم
يطوف بالبيت والناس يفرجون له فقال من هذا فقال الأبرش الكلبي ما أعرفه فقال
الفرزدق ولكني أعرفه فقال من هو فقال (
هذا الذي تعرِف البطحاء وطأته ... ) وذكر الأبيات الخ قال فغضب هشام
فحبسه بين مكة والمدينة فقال ( أتَحِبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يَهْوى
مُنِيبُها ) ( يقلِّبُ رأساً لم يكن رأس سيِّد ... وعيناً له حولاء بادٍ
عيوبُها ) فبلغ شعره هشاما فوجه فأطلقه يعجب بشعر لحائك أخبرنا عبد الله بن مالك عن
محمد بن موسى عن الهيثم بن عدي قال اخبرنا أبو روح الراسبي قال لما ولي خالد بن
عبد الله العراق ولى مالك بن المنذر شرطة البصرة فقال الفرزدق ( يُبَغِّض فينا
شرطةً المصر أنني ... رأيتُ عليها مالكاً عَقِبَ الكلبِ ) قال فقال مالك علي به فمضوا به إليه
فقال ( أقول لنفسي إذ تَغَصُّ بريقها ... ألا ليت شعري ما لها عند مَالِكِ ) قال فسمع قوله
حائك يطلع من طرازه فقال ( لها عنده أن يَرجعَ اللَّهُ ريقها ... إليها وتنجُو من عظيم
المهالك ) فقال الفرزدق هذا أشعر الناس وليعودن مجنونا يصيح الصبيان في أثره فقال فرأوه
بعد ذلك مجنونا يصيح الصبيان في أثره أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثنا محمد بن
علي بن سعيد قال حدثنا القحذمي قال فلما أتوا مالك بن المنذر بالفرزدق قال هيه عقب
الكلب قال ليس هذا هكذا قلت وإنما قلت (
ألم ترني ناديتُ بالصوت مالكاً ... ليسمع لما غصَّ من
ريقه الفمُ ) ( أعوذ بقبر فيه أكفانُ مُنْذرٍ ... فهن لأيدي المستجيرين
مَحْرَم ) قال قد عذت بمعاذ وخلى سبيله خالد القسري يأمر مالك بن المنذر بطلب
الفرزدق أخبرنا عبد الله قال حدثني محمد بن موسى قال كتب خالد القسري إلى مالك بن
المنذر يأمره بطلب الفرزدق ويذكر أنه بلغه أنه هجاه وهجا نهره المبارك وهو النهر
الذي بواسط الذي كان خالد حفره فاشتد مالك في طلبه حتى ظفر به في البراجم فأخذه
وحبسه ومروا به على بني مجاشع فقال يا قوم اشهدوا أنه لا خاتم بيدي وذلك أنه أخذ
عمر بن يزيد بن أسيد ثم أمر به فلويت عنقه ثم أخرجوه ليلا إلى السجن فجعل رأسه يتقلب
والأعوان يقولون له قوم رأسك فلما أتوا به السجان قال لا أتسلمه منكم ميتا فأخذوا
المفاتيح منه وأدخلوه الحبس وأصبح ميتا فسمعوا أنه مص خاتمه وكان فيه سم فمات
وتكلم الناس في أمره فدخل لبطة بن الفرزدق على أبيه فقال يا بني هل كان من خبر قال
نعم عمر بن يزيد مص خاتمه في الحبس وكان فيه سم فمات فقال الفرزدق والله يا بني
لئن لم تلحق بواسط ليمص أبوك خاتمه وقال في ذلك ( ألم يَكُ قَتْلُ عبد الله ظُلما ...
أبا حفص من الحُرَم العظامِ ) (
قتيلُ عداوة لم يجنِ ذنباً ... يُقطَّعُ وهو يهتف
للإِمام ) قال وكان عمر عارض خالدا وهو يصف لهشام طاعة أهل اليمن وحسن موالاتهم ونصيحتهم
فصفق عمرو بن يزيد إحدى يديه على الأخرى حتى سمع له في الإيوان دوي ثم قال كذب
والله يا أمير المؤمنين ما أطاعت اليمانية ولا نصحت أليس هم أعداؤك وأصحاب يزيد بن
المهلب وابن الأشعث والله ما ينعق ناعق إلا أسرعوا الوثبة إليه فاحذرهم يا أمير
المؤمنين قال فتبين ذلك في وجه هشام ووثب رجل من بني أمية فقال لعمرو بن يزيد وصل
الله رحمك وأحسن جزاءك فلقد شددت من أنفس قومك وانتهزت الفرصة في وقتها ولكن أحسب
هذا الرجل سيلي العراق وهو منكر حسود وليس يخار لك إن ولي فلم يرتدع عمر بقوله وظن
أنه لا يقدم عليه فلما ولي لم تكن له همة غيره حتى قتله قال شفاعة جرير له ثم إن
مالكا وجه الفرزدق إلى خالد فلما قدم عليه وجده قد حج واستخلف أخاه أسد بن عبد
الله على العراق فحبسه أسد ووافق عنده جريرا فوثب يشفع له وقال إن رأى الأمير أن
يهبه لي فقال أسد أتشفع له يا جرير فقال إن ذلك أذل له أصلحك الله وكلم أسدا ابنه
المنذر فخلى سبيله فقال الفرزدق في ذلك ( لا فضلَ إلا فضلُ أمٍّ على ابنها ...
كفضل أبي الأشبال عند الفرزدق )
( تداركني من هُوَّةٍ دون قعرِها ... ثمانون باعاً
للطُّوال العَشَنَّقِ ) وقال جرير يذكر شفاعته له ( وهل لك في عان وليس بشاكرٍ ... فتطلَق
عنه عضَّ مَسَّ الحدائدِ ) ( يعودُ وكان الخُبْثُ منه سجيةً ... وإن قال إني مُنْتَهٍ
غَيْرُ عائد ) هجاؤه بني فقيم أخبرني عبيد الله عن محمد بن موسى عن القحذمي
قال كان سبب هرب الفرزدق من زياد وهو على العراق أنه كان هجا بني فقيم فقال فيهم
أبياتا منها ( وآب الوفدُ وفدُ بني فُقَيْمٍ ... بأخبث ما تؤوب به الوفودُ ) ( أتَونا
بالقرود مُعادليها ... فصار الجَدُّ للجدِّ السعيدُ ) وقال يهجو زيد بن مسعود الفقيمي
والأشهب بن رميلة بأبيات منها قوله (
تمنّى ابنُ مسعودٍ لقائي سفاهةً ... لقد قال مَيْناً يوم
ذاك ومنكرا ) ( غناءٌ قَلِيلٌ عن فُقَيمٍ ونهْشلٍ ... مَقامُ هَجينٍ ساعةً ثم أَدْبرا ) يعني الأشهب بن
رميلة وكان الأشهب خطب إلى بني فقيم فردوه وقالوا له اهج الفرزدق حتى نزوجك فرجز
به الأشهب فقال ( يا عجبا هل يركبُ القَيْنُ الفرسْ ... وَعَرَقُ القيْنِ على
الخيل نَجَسْ ) ( وإنما سلاحُه إذا جَلَسْ ... الكَلْبتان والعَلاةُ والقَبسْ ) يهرب من زياد
فلما بلغ الفرزدق قوله هجاه فأرفث له وألح الفرزدق على النهشليين بالهجاء فشكوه
إلى زياد وكان يزيد بن مسعود ذا منزلة عند زياد فطلبه زياد فهرب فأتى بكر بن وائل
فأجاروه فقال الفرزدق يمدحهم بأبيات (
إني وإن كانت تميمٌ عِمارتيِ ... وكنتُ إلى القُرْمُوسِ
منها القُماقم ) ( لُمثْنٍ على أبناء بكرِ بن وائلٍ ... ثناءً يوافي ركبهم في
المواسم ) ( همو يوم ذي قار أناخوا فجالدوا ... برأسٍ به تَدْمَى رؤوسُ الصّلادم ) وهرب حتى أتى
سعيد بن العاصي فأقام بالمدينة يشرب ويدخل إلى القيان وقال ( إذا تشئتُ غَنَّاني من العاج قاصف ...
على معصم ريّانَ لم يتخدّدِ ) (
لبيضاءَ من أهل المدينة لم تعِشْ ... ببؤس ولم تتبعْ
حمولة مُجْحَد ) ( وقامت تخشِّيني زياداً وأجفلت ... حواليَّ في بُرْدٍ يمانٍ
ومَجْسَد ) ( فقلتُ دعيني من زياد فإنني ... أرى الموت وقَّافاً على كلِّ مَرْصَد ) مروان يتوعده
ويؤجله ثلاثا فبلغ شعره مروان فدعاه وتوعده وأجله ثلاثا وقال اخرج عني فأنشأ يقول
الفرزدق ( دعانا ثم أجلنا ثلاثاً ... كما وُعِدَتْ لمهلكها ثمودُ ) قال مروان قولوا
له عني إني أجبته فقلت ( قال للفرزدق والسّفاهةُ كاسْمِها ... إن كنت تاركَ ما أمرتُك
فاجلِس ) ( ودعِ المدينةَ إنها محظورةٌ ... والحَقْ بمكةَ أو ببيت المقدسِ ) قال وعزم على
الشخوص إلى مكة فكتب له مروان إلى بعض عماله ما بين مكة والمدينة بمائتي دينار
فارتاب بكتاب مروان فجاء به إليه وقال (
مروانُ إنّ مطيتي معقولةٌ ... ترجو الحباءَ وربُّها لم
ييأسِ ) ( آتيتني بصحيفةٍ مختومةٍ ... يُخشَى عليَّ بها حِباءُ النّقرس ) ( ألقِ الصحيفةَ
يا فرزدق لا تكن ... نكراء مثلَ صحيفةِ المُتَلَمِّس ) قال ورمى بها إلى مروان فضحك وقال
ويحك إنك أمي لا تقرأ فاذهب بها إلى من يقرؤها ثم ردها حتى أختمها فذهب بها فلما
قرئت إذا فيها جائزة قال فردها إلى مروان فختمها وأمر له الحسين بن علي عليهما
السلام بمائتي دينار قال ولما بلغ جريرا أنه أخرج عن المدينة قال ( إذا حلّ المدينةَ
فارجُمُوهُ ... ولا تدْنوهُ من جَدَث الرسول ) ( فما يُحْمَى عليه شرابُ حدٍّ ...
ولا وَرْهاءُ غائبةُ الحليل ) فأجابه الفرزدق فقال ( نعتّ لنا من الورْهاء نَعْتاً ...
قعدتُ به لِأِّمك بالسبيلِ ) ( فلا تبْغي إذا ما غاب عنها ... عطيةُ غيرَ نَعْتِك من حَليل ) مرضه وموته
أخبرنا عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن موسى قال حدثنا أبو عكرمة الضبي عن أبي
حاتم السجستاني عن محمد بن عبد الله الأنصاري قال أبو عكرمة وحكي لنا عن لبطة بن
الفرزدق أن أباه أصابته ذات الجنب فكانت سبب وفاته قال ووصف له أن يشرب النفط
الأبيض فجعلناه له في قدح وسقيناه إياه فقال يا بني عجلت لأبيك شراب أهل النار
فقلت له يا أبت قل لا إله إلا الله فجعلت أكررها عليها مرارا فنظر الي وجعل يقول ( فَظلَّتْ تعالى
باليَفاع كأنها ... رماح نحاها وِجْهة الرّيح راكز ) فكان ذا هجيراه حتى مات أخبرني أبو
خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني شعيب بن صخر قال ودخل بلال بن أبي بردة على
الفرزدق في مرضه الذي مات وفيه وهو يقول ( أروني مَنْ يقومُ لكم مقامي ... إذا ما
الأمر جلَّ عن الخطاب ) البيتين فقال بلال إلى الله إلى الله أخبرني الحسين بن يحيى عن
حماد عن أبيه عن الأصمعي قال كان الفرزدق قد دبر عبيدا له وأوصى بعتقهم بعد موته
ويدفع شيء من ماله إليهم فلما احتضر جمع سائر أهل بيته وأنشأ يقول ( أروني مَنْ يقوم
لكم مقامي ... إذا ما الأمرُ جلَّ عن الخطاب ) ( إلى مَن تفزعون إذا حَثْوتم ...
بأيديكم عليَّ من التّرابِ ) فقال له بعض عبيده الذين أمر بعتقهم إلى الله فأمر ببيعه قبل
وفاته وأبطل وصيته فيه والله أعلم أخبرني الحسن بن علي عن بشر بن مروان عن الحميدي
عن سفيان عن لبطة بن الفرزدق قال لما احتضر أبو فراس قال أي لبطة أبغني كتابا أكتب
فيه وصيتي فأتيته بكتاب فكتب وصيته (
اروني من يقوم لكم مقامي ... ) البيتين فقالت مولاة له قد كان
أوصى لها بوصية إلى الله عز و جل فقال يا لبطة امحها من الوصية قال سفيان نعم ما
قالت وبئس ما قال أبو فراس وصيته شعرا وقال عوانة قيل للفرزدق في مرضه الذي مات
فيه أوص فقال ( أُوصي تميماً إن قضاعةَ ساقها ... نَدَى الغيث عن دارٍ بدومةَ
أَو جدْبِ ) ( فإنكم الأكفاءُ والغيث دَولةٌ ... يكون بشرق من بلاد ومن غَرْب ) ( إذا انتجعت
كلْبٌ عليكم فوسِّعوا ... لها الدارَ في سهل المقَامَة والرَّحب ) ( فأعظمُ من
أَحلام عاد حُلومُهم ... وأَكثرهم عند العديد من التُّرْب ) ( أشدُّ حبالٍ بعد حَيَّيْن مِرَّةً
... حِبالٌ أُمِرّت من تميم ومن كلب
) قال وتوفي للفرزدق ابن صغير قبل وفاته بأيام وصلى عليه
ثم التفت إلى الناس فقال ( وما نَحْن إلا مِثلُهم غير أَنَّنا ... أَقمنا قليلاً بعدهم
وتَقَدَّمُوا ) قال فلم يلبث إلا أياما حتى مات شعره عند موته وقال المدائني قال
لبطة أغمي على أبي فبكينا ففتح عينيه وقال أعلي تبكون قلنا نعم أفعلى ابن المراغة
نبكي فقال ويحكم أهذا موضع ذكره وقال (
إذا ما دبَّت الانقاءُ فوقي ... وصاح صدىً عليَّ مع
الظلامِ ) ( فقد شَمِتتْ أعاديكم وقالت ... أدانيكم مِنَ أينَ لنا المحامي ) أخبرني أبو خليفة
الفضل بن الحباب إجازة قال حدثنا محمد بن سلام قال حدثنا أبو العراف قال نعي
الفرزدق لجرير وهو عند المهاجر بن عبد الله باليمامة فقال ( مات الفرزدقُ بعد ما جرَّعتُهُ ...
ليْتَ الفرزدقَ كان عاش قليلا )
فقال له المهاجر بئس ما قلت أتهجو ابن عمك بعد ما مات ولو
رثيته كان أحسن بك فقال والله إني لأعلم أن بقائي بعده لقليل وأن نجمي لموافق
لنجمه أفلا أرثيه قال أبعد ما قيل لك ألو كنت بكيته ما نسيتك العرب قال أبو خليفة
قال ابن سلام فأنشدني معاوية بن عمرو قال أنشدني عمارة بن عقيل لجرير يرثي الفرزدق
بأبيات منها ( فلا وَلَدَتْ بعد الفرزدق حاملٌ ... ولا ذاتُ بعل من نِفاسٍ
تعَلَّتِ ) ( هو الوافد المأمونُ والرّاتِقُ الثَّأَى ... إذا النعلُ يوماً بالعشيرة زَلّتِ ) أخبرني أحمد بن
عبد العزيز عن ابن شبة بخبر جرير لما بلغه وفاة الفرزدق وهو عند المهاجر فذكر نحوا
مما ذكره ابن سلام وزاد فيه قال ثم قام وبكى وندم وقال ما تقارب رجلان في أمر قط
فمات أحدهما إلا أوشك صاحبه أن يتبعه الاختلاف في سنة وفاته قال أبو زيد مات الحسن
وابن سيرين والفرزدق وجرير في سنة عشر ومائة فقبر الفرزدق بالبصرة وقبر جرير وأيوب
السختياني ومالك بن دينار باليمامة في موضع واحد وهذا غلط من أبي زيد عمر بن شبة
لأن الفرزدق مات بعد يوم كاظمة وكان ذلك في سنة اثنتي عشرة ومائة وقد قال فيه
الفرزدق شعرا وذكره في مواضع من قصائده ويقوي ذلك ما أخبرنا به وكيع قال حدثنا عمر
بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني ابن النطاح عن المدائني عن أبي اليقظان
وأبي همام المجاشعي أن الفرزدق مات سنة أربع عشرة ومائة قال أبو عبيدة جرير يرثي
نفسه ويرثيه حدثني أبو أيوب بن كسيب من آل الخطفي وأمه ابنة جرير بن عطية قال بينا
جرير في مجلس بفناء داره بحجر إذ راكب قد أقبل فقال له جرير من أين وضح الراكب قال
من البصرة فسأل عن الخبر فأخبره بموت الفرزدق فقال ( مات الفرزدق بعد ما جرّعته ... ليت
الفرزدقَ كان عاش قليلا ) ثم سكت ساعة فظنناه يقول شعرا فدمعت عيناه فقال القوم سبحان
الله أتبكي على الفرزدق فقال والله ما أبكي إلا على نفسي أما والله إن بقائي خلافه
لقليل إنه قل ما كان مثلنا رجلان يجتمعان على خير أو شر إلا كان أمد ما بينهما قريبا
ثم أنشأ يقول ( فُجِعنا بحمَّالِ الدِّيات ابنِ غالبٍ ... وحامي تميم كلِّها
والبَراجِم ) ( بكيناكَ حِدْثَانَ الفِراق وإنما ... بكينَاك شجْواً للأمور
العظائم ) ( فلا حَملت بعدَ ابنِ ليلى مَهيرَةٌ ... ولا شُدَّ أنساعُ المطيِّ الرّواسِمِ ) وقال البلاذري
حدثنا أبو عدنان عن أبي اليقظان قال أسن الفرزدق حتى قارب المائة فأصابته الدبيلة
وهو بالبادية فقدم إلى البصرة فأتي برجل من بني قيس متطبب فأشار بأن يكوى ويشرب
النفط الأبيض فقال أتعجلون لي طعام أهل النار في الدنيا وجعل يقول ( أروني مَنْ يقوم
لكم مقامي ... إذا ما الأمرُ جلَّ عن الخطابِ ) أبو ليلى المجاشعي يرثيه وقال أبو
ليلى المجاشعي يرثي الفرزدق ( لعمري لقد أشجى تميماً وهَدَّها ... على نكباتِ الدهر موتُ
الفرزدق ) ( عشيَّةَ قُدْنَا للفرزدق نعشَه ... إلى جَدَثٍ في هْوّة الأرض مُعْمَق ) ( لقد غيّبوا في
اللَّحد مَنْ كان ينتمي ... إلى كل بدر في السماء مُحَلِّقِ ) ( ثَوَى حاملُ الاثقال عن كل مُثقل
... ودفَّاعُ سلطانِ الغشوم السَّمَلَّق ) ( لسانُ تميمٍ كلِّها وعِمَادُها ...
وناطقُها المعروف عند المُخَنَّق
) ( فمن لتميمٍ بعد موت ابن غالبٍ ... إذا حل يومٌ مظلمٌ
غَيرُ مُشرِق ) ( لتبكِ النِّساءُ المعْوِلاتُ ابنَ غالبٍ ... لجانٍ وعانٍ في
السلاسل مُوثق ) وقال ابن زكريا الغلابي عن ابن عائشة قال مات الفرزدق وجرير في
سنة عشرة ومائة ومات جرير بعده بستة أشهر ومات في هذه السنة الحسن البصري وابن
سيرين قال فقالت امرأة من أهل البصرة كيف يفلح بلد مات فقيهاه وشاعراه في سنة
ونسبت جريرا إلى البصرة لكثرة قدومه إليها من اليمامة وقبر جرير باليمامة وبها مات
وقبر الأعشى أيضا باليمامة أعشى بني قيس بن ثعلبة وقبر الفرزدق بالبصرة في مقابر
بني تميم وقال جرير لما بلغه موت الفرزدق قلما تصاول فحلان فمات أحدهما إلا أسرع لحاق
الآخر به ورثاهما جماعة فمنهم أبو ليلى الأبيض من بني الأبيض بن مجاشع فقال فيهما ( لعمري لئْن
قَرْمَا تَميمٍ تتابعا ... مُجِيبيْن للدّاعي الذي قد دَعَاهُما ) ( لرُبّ عَدُوٍّ
فرّق الدهرُ بينه ... وَبَينْهما لم تُشْوِه ضَغْمتَاهما ) أخبرني ابن عمار عن يعقوب بن إسرائيل
عن قعنب بن المحرز الباهلي عن الأصمعي عن جرير يعني أبا حازم قال رئي الفرزدق
وجرير في النوم فرئي الفرزدق بخير وجرير معلق قال قعنب وأخبرني الأصمعي عن روح
الطائي قال رئي الفرزدق في النوم فذكر انه غفر له بتكبيره كبرها في المقبرة عند
قبر غالب قال قعنب وأخبرني أبو عبيدة النحوي وكيسان بن المعروف النحوي عن لبطة بن الفرزدق
قال رأيت أبي فيما يرى النائم فقلت له ما فعل الله بك قال نفعتني الكلمة التي نازعنيها
الحسن على القبر هو والحسن البصري في جنازة النوار أخبرني وكيع عن محمد بن إسماعيل
الحساني عن علي بن عاصم عن سفيان بن الحسن وأخبرني أبو خليفة عن محمد بن سلام والرواية
قريب بعضها من بعض أن النوار لما حضرها الموت أوصت الفرزدق وهو ابن عمها أن يصلي عليها
الحسن البصري فأخبره الفرزدق فقال إذا فرغتم منها فأعلمني وأخرجت وجاءها الحسن
وسبقهما الناس فانتظروهما فأقبلا والناس ينتظرون فقال الحسن ما للناس فقال ينتظرون
خير الناس وشر الناس فقال إني لست بخيرههم ولست بشرهم وقال له الحسن على قبرها ما
أعددت لهذا المضجع فقال شهادة أن لا إله إلا الله منذ سبعين سنة هذا لفظ محمد بن
سلام وقال وكيع في خبره فتشاغل الفرزدق بدفنها وجلس الحسن يعظ الناس فما فرغ الفرزدق
وقف على حلقة الحسن وقال ( لقد خاب من أولاد آدمَ مَنْ مَشَى ... إلى النار مغلولَ
القِلادةِ أزرقا ) ( أخاف وراءَ القبر إن لم يُعافِني ... أشدَّ من القبر التهابا
وأضيقا ) ( إذا جاءني يومَ القيامة قائدٌ ... عَنِيفٌ وسَوَّاقٌ يَقُود الفرزدقا ) أخبرنا أحمد قال
حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا حيان بن هلال قال حدثنا خالد بن الحر قال رأيت الحسن
في جنازة أبي رجاء العطاردي فقال للفرزدق ما أعددت لهذا اليوم فقال شهادة أن لا
إله إلا الله منذ بضع وتسعين سنة قال إذا تنجو إن صدقت قال وقال الفرزدق في هذه
الجنازة خير الناس وشر الناس فقال الحسن لست بخير الناس ولست بشرهم يذكر ذنوبه
ويبكي أخبرنا ابن عمار عن أحمد بن إسرائيل عن عبيد الله بن محمد القرشي بطوس قال حدثني
يزيد بن هاشم العبدي قال حدثنا أبي قال حدثنا فضيل الرقاشي قال خرجت في ليلة باردة
فدخلت المسجد فسمعت نشيجا وبكاء كثيرا فلم أعلم من صاحب ذلك إلى أن أسفر الصبح
فإذا الفرزدق فقلت يا أبا فراس تركت النوار وهي لينة الدثار دفئة الشعار قال إني
والله ذكرت ذنوبي فأقلقني ففزعت إلى الله عز و جل أخبرني وكيع عن أبي العباس مسعود
بن عمرو بن مسعود الجحدري قال حدثني هلال بن يحيى الرازي قال حدثني شيخ كان ينزل
سكة قريش قال رأيت الفرزدق في النوم فقلت يا أبا فراس ما فعل الله بك قال غفر لي
بإخلاصي يوم الحسن وقال لولا شيبتك لعذبنك بالنار أخبرني هاشم الخزاعي عن دماذ عن
أبي عبيدة عن لبطة بن الفرزدق عن أبيه قال لقيت الحسين بن علي صلوات الله عليهما
وأصحابه بالصفاح وقد ركبوا الإبل وجنبوا الخيل متقلدين السيوف متنكبين القسي عليهم
يلامق من الديباج فسلمت عليه وقلت أين تريد قال العراق فكيف تركت الناس قال تركت
الناس قلوبهم معك وسيوفهم عليك والدنيا مطلوبة وهي في أيدي بني أمية والأمر إلى
الله عز و جل والقضاء ينزل من السماء بما شاء أخبرني حبيب بن نصر المهلبي وأحمد بن
عبد العزيز عن ابن شبة قال حدثني هارون بن عمر عن ضمرة بن شوذب قال قيل لأبي هريرة
هذا الفرزدق قال هذا الذي يقذف المحصنات ثم قال له إني أرى عظمك رقيقا وعرقك دقيقا
ولا طاقة لك بالنار فتب فإن التوبة مقبولة من ابن آدم حتى يطير غرابه أخبرني هاشم
بن محمد عن الرياشي عن المنهال بن بحر بن أبي سلمة عن صالح المري عن حبيب بن أبي
محمد قال رأيت الفرزدق بالشام فقال لي أبو هريرة إنه سيأتيك قوم يوئسونك من رحمة الله
فلا تيأس موازنة بينه وبين جرير والأخطل قال أبو الفرج والفرزدق مقدم على الشعراء الإسلاميين
هو وجرير والأخطل ومحله في الشعر أكبر من أن ينبه عليه بقول أو يدل على مكانه بوصف
لأن الخاص والعام يعرفانه بالاسم ويعلمان تقدمه بالخبر الشائع علما يستغنى به عن
الإطالة في الوصف وقد تكلم الناس في هذا قديما وحديثا وتعصبوا واحتجوا بما لا مزيد
فيه واختلفوا بعد اجتماعهم على تقديم هذه الطبقة في أيهم أحق بالتقدم على سائرها
فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسووا بينهما وبين الأخطل لأنه لم يلحق شأوهما
في الشعر ولا له مثل ما لهما من فنونه ولا تصرف كتصرفهما في سائره وزعموا أن ربيعة
أفرطت فيه حتى ألحقته بهما وهم في ذلك طبقتان أما من كان يميل إلى جزالة الشعر وفخامته
وشدة أسره فيقدم الفرزدق وأما من كان يميل إلى أشعار المطبوعين والى الكلام السمح
السهل الغزل فيقدم جريرا أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال سمعت يونس
ين حبيب يقول ما شهدت مشهدا قط ذكر فيه الفرزدق وجرير فاجتمع أهل ذلك المجلس على
أحدهما قال ابن سلام وكان يونس يقدم الفرزدق تقدمة بغير إفراط وكان المفضل يقدمه تقدمة
شديدة قال ابن سلام وقال ابن دأب وسئل عنهما فقال الفرزدق أشعر خاصة وجرير أشعر عامة
أخبرني الجوهري وحبيب المهلبي عن ابن شبة عن العلاء بن الفضل قال قال لي أبو
البيداء يا أبا الهذيل أيهما أشعر أجرير أم الفرزدق قال قلت ذاك إليك ثم قال ألم
تسمعه يقول ( ما حُمِّلت ناقةٌ من معشرٍ رجلاً ... مثلي إذا الريح لفّتني على الكُورِ ) ( إلا قريشاً
فإن الله فضّلها ... مع النبوّة بالإِسلام والخِير ) ويقول جرير ( لا تحسبَنَّ مِرّاسَ الحرب إذ لَقِحَتْ
... شُرْبَ الكسِيس وأكلَ الخبز بالصِّير ) سلح والله أبو حرزة أخبرني هاشم
الخزاعي عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة قال سمعت يونس يقول لولا شعر الفرزدق
لذهب ثلث لغة العرب أخبرني هاشم الخزاعي عن أبي غسان عن أبي عبيدة قال قال يونس
أبو البيداء قال الفرزدق كنت أهاجي شعراء قومي وأنا غلام في خلافة عثمان بن عفان
فكان قومي يخشون معرة لساني منذ يومئذ ووفد بي أبي إلى علي بن أبي طالب صلوات الله
عليه عام الجمل فقال له إن ابني هذا يقول الشعر فقال علمه القرآن فهو خير له يمضي
خمسا وسبعين سنة يباري الشعراء ويهجو الأشراف قال أبو عبيدة ومات الفرزدق في سنة
عشر ومائة وقد نيف على التسعين سنة كان منها خمسة وسبعين سنة يباري الشعراء ويهجو
الأشراف فيغضهم ما ثبت له أحد منهم قط إلا جريرا أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال
حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن معاوية الأسدي قال حدثنا ابن الرازي
عن خالد بن كلثوم قال قيل للفرزدق مالك وللشعر فو الله ما كان أبوك غالب شاعرا ولا
كان صعصعة شاعرا فمن أين لك هذا قال من قبل خالي قيل أي أخوالك قال خالي العلاء بن
قرظة الذي يقول ( إذا ما الدهر جرّ على أُناسٍ ... بكلكله أناخ بآخرينا ) ( فقل للشامتين
بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا ) يرد على قوم من بني ضبة أخبرني عمي
قال حدثنا الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وأخبرني هاشم
الخزاعي قال حدثنا دماذ عن أبي عبيدة قال دخل قوم من بني ضبة على الفرزدق فقالوا
له قبحك الله من ابن أخت قد عرضتنا لهذا الكلب السفيه يعنون جريرا حتى يشتم
أعراضنا ويذكر نساءنا فغضب الفرزدق وقال بل قبحكم الله من أخوال فو الله لقد شرفكم
من فخري أكثر مما غضكم من هجاء جرير أفأنا ويلكم عرضتكم لسويد بن أبي كاهل حيث
يقول ( لقد زَرِقتْ عيناك يا بن مُكَعْبَرٍ ... كما كلُّ ضَبِّيٍّ من اللؤم أزرقُ ) ( ترى اللؤمَ
فيهم لائحاً في وجوههم ... كما لاح في خيل الحلائب أبلق ) أو أنا عرضتكم للأغلب العجلي حيث يقول
( لن
تجد الضَّبِّيَّ إلاّ فَلاّ ... عبداً إِذانا ولقومٍ ذَلاَّ ) ( مثل قَفا المُدية أو أَكَلاً ...
حتى يكون الأَلأَمَ الأقلاَّ ) أو أنا عرضتكم له حيث يقول ( إذا رأَيتَ رجلاً من ضبَّهْ ... فنكه
عمداً في سَوَاء السَّبَّهْ ) (
إن اليَمانِيَّ عِقَاصُ الزّبَّه ... ) أو أنا عرضتكم لمالك بن نويرة حيث
يقول ( ولو يُذبًح الضَّبيُّ بالسيف لم تجد ... من اللؤم للضّبيّ لحماً ولا دما ) والله لما ذكرت من شرفكم وأظهرت من أيامكم أكثر ألست القائل ( وأنا ابنُ حنظلةَ
الأغرُّ وإنني ... في آل ضبَّة للمُعِمُّ المُخْوِلُ ) ( فرعان قد بلغ السّماءَ ذُرَاهما ...
وإليهما من كل خوف يُعْقَلُ ) بنو حرام يخشون معرة لسانه أخبرنا أبو خليفة عن ابن سلام عن أبي
بكر محمد بن واسع وعبد القاهر قالا كان فتى في بني حرام بن سماك شويعر قد هجا
الفرزدق فأخذناه فأتينا به الفرزدق وقلنا هو بين يديك فإن شئت فاضرب وإن شئت فاحلق
لا عدوى عليك ولا قصاص فخلى عنه وقال (
فمن يكُ خائفاً لأذاة قولِي ... فقد أمِنَ الهجاءَ بنو
حَرامِ ) ( همُ قادوا سفيهَهْمُ وخافوا ... قلائدَ مثلَ أطواق الحمَام ) أخبرنا أبو
خليفة عن محمد بن سلام قال حدثني الحكم بن محمد قال كان رجل من قضاعة ثم من بني
القين على السند وفي حبسه رجل يقال له حبيش أو خنيس وطالت غيبته عن أهله فأتت أمه
قبر غالب بكاظمة فأقامت عليه حتى علم الفرزدق بمكانها ثم إنها أتت فطلبت إليه في
أمر ابنها فكتب إلى تميم القضاعي (
هَب لي خُنَيْساً واتّخذْ فيه منّةً ... لُغصَّة أُمٍّ
ما يَسوغ شرابُها ) ( أَتَتْني فعاذت يا تميمُ بغالبٍ ... وبالحفرة السَّافي عليه
ترابها ) ( تميمُ بنَ زيد لا تكونَنَّ حاجتي ... بظهرٍ فلا يخفَى عليَّ جوابُها ) فلما أتاه
الكتاب لم يدر أخنيس أم حبيش فأطلقهما جميعا أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن
سلام قال حدثني أبو يحيى الضبي قال ضرب مكاتب لبني منقر خيما على قبر غالب فقدم
الناس على الفرزدق فأخبروه أنهم رأوا بناء على قبر غالب أبيه ثم قدم عليه وهو
بالمربد فقال ( بقبرِ ابن ليلى غالب عُذْتُ بعدما ... خشيتُ الرّدَى أَو أَن
أُردَّ على قسر ) ( فخاطبني قبرُ ابن ليلى وقال لي ... فَكَاكُك أن تَلْقَى
الفرزدقَ بالمِصْر ) فقال له الفرزدق صدق أبي أنخ أنخ ثم طاف في الناس حتى جمع
كتابته وفضلا يناقض نفسه في شعره أخبرني ابن خلف وكيع عن هارون بن الزيات عن أحمد
بن حماد ابن الجميل قال حدثنا القحذمي عن ابن عياش قال لقيت الفرزدق فقلت له يا
فراس أنت الذي تقول ( فليتَ الأكفَّ الدافناتِ ابنَ يوسف ... يُقطَّعْن إذ غَّيبْن
تحت السقائِف ) فقال نعم أنا فقلت له ثم قلت بعد ذلك له ( لئن نفرُ الحجّاح آلُ مُعَتِّب ...
لَقُوا دوْلةً كان العدوُّ يُدالُها
) ( لقد أصبح الأحياءُ منهم أذلةً ... وفي الناس موتاهم
كلوحاً سِبالُها ) قال فقال الفرزدق نعم نكون مع الواحد منهم ما كان الله معه
فإذا تخلى منه انقلبنا عليه أخبرنا هاشم بن محمد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن
عمه عن بعض أشياخه قال شهد الفرزدق عند إياس بن معاوية فقال أجزنا شهادة الفرزدق
أبي فراس وزيدونا شهودا فقام الفرزدق فرحا فقيل له أما والله ما أجاز شهادتك قال
بلى قد سمعته يقول قد قبلنا شهادة أبي فراس قالوا أفما سمعته يستزيد شاهدا آخر فقال
وما يمنعه ألا يقبل شهادتي وقد قذفت ألف محصنة أخبرنا ابن دريد عن أبي حاتم عن أبي
عبيدة عن يونس قال كان عطية بن جعال الغذاني صديقا ونديما للفرزدق فبلغ الفرزدق أن
رجلا من بني غدانة هجاه وعاون جريرا عليه وأنه أراد أن يهجو بني غدانة فأتاه عطية
بن جعال فسأله أن يصفح له عن قومه ويهب له أعراضهم ففعل ثم قال ( أبني غُدانة إنني
حَرّرتكم ... فوهبتكم لعطيةَ بنِ جُعال
) ( لولا عطيةُ لاجتَدعْتُ أنوفكم ... من بين ألأم أعين
وسبال ) فبلغ ذلك عطية فقال ما أسرع ما ارتجع أخي هبته قبحها الله من هبة ممنوعة مرتجعة
خبر آخر عن المجنون الذي أراده أخبرني وكيع عن هارون بن محمد قال حدثني قبيصة بن
معاوية المهلبي عن المدائني عن محمد بن النضر أن الفرزدق مر بباب المفضل بن المهلب
فأرسل إليه غلمة فاحتملوه حتى أدخل إليه بواسط وقد خرج من تيار ماء كان فيه فأمر
به فألقي فيه بثيابه وعنده ابن أبي علقمة اليحمدي المجنون فسعى إلى الفرزدق فقال
له المفضل ما تريد قال أريد أن أنيكه وأفضحه فو الله لا يهجو بعدها أحدا من الأزد
فصاح الفرزدق الله الله أيها الأمير في أنا جوارك وذمتك فمنع عنه ابن أبي علقمة فلما
خرج قال قاتل الله مجنونهم والله لو مس ثوبه لقام بها جرير وقعد وفضحني في العرب
فلم يبق لي فيهم باقية وأخبرني بنحو هذا الخبر حبيب المهلبي عن ابن شبة عن محمد بن
يحيى عن عبد الحميد عن أبيه عن جده قال أبو زيد وأخبرني أبو حذف 404 عاصم عن الحسن
بن دينار قال قال لي الفرزدق ما مر بي يوم قط أشد علي من يوم دخلت فيه على أبي
عيينة بن المهلب وكان يوما شديد الحر فما منا أحد إلا جلس في أبزن فقلنا له إن
أردت أن تنفعنا فابعث إلى ابن أبي علقمة فقال لا تريدوه فإنه يكدر علينا مجلسنا
فقلنا لا بد منه فأرسل إليه فلما دخل فرآني قال الفرزدق والله ووثب إلي وقد أنعظ
أيره وجعل يصيح والله لأنيكنه فقلت لأبي عيينة الله الله في أنا في جوارك فو الله
لئن دنا إلي لا تبقى لي باقية مع جرير فلم يتكلم أبو عيينة ولم تكن لي همة إلا أن
عدوت حتى صعدت إلى السطح فاقتحمت الحائط فقيل له ولا يوم زياد كان مثل يومئذ فقال
ولا مثل يوم زياد عمر بن عبد العزيز يجيزه ثم ينفيه أخبرني عمي عن ابن أبي سعد عن
أحمد بن عمر عن إسحاق بن مروان مولى جهينة وكان يقال له كوزا الراوية قال احمد بن عمر
وأخبرني عثمان بن خالد العثماني أن الفرزدق قدم المدينة في سنة مجدبة حصاء فمشى
أهل المدينة إلى عمر بن عبد العزيز فقالوا له أيها الأمير إن الفرزدق قدم مدينتنا
هذه في هذه السنة الجدبة التي أهلكت عامة الأموال التي لأهل المدينة وليس عند أحد
منهم ما يعطيه شاعرا فلو أن الأمير بعث إليه فأرضاه وتقدم إليه ألا يعرض لأحد بمدح
ولا هجاء فبعث إليه عمر إنك يا فرزدق قدمت مدينتنا هذه في هذه السنة الجدبة وليس
عند أحد ما يعطيه شاعرا وقد أمرت لك بأربعة آلاف درهم فخذها ولا تعرض لأحد بمدح
ولا هجاء فأخذها الفرزدق ومر بعبد الله بن عمرو بن عثمان وهو جالس في سقيفة داره
وعليه مطرفا خز أحمر وجبة خز أحمر فوقف عليه وقال ( أَعبد الله أَنت أَحقُّ ماشٍ ... وساعٍ
بالجماهير الكبارِ ) ( نما الفاروقُ أُمَّك وابنُ أَروَى ... أَبوك فأَنت مُنصَدَعُ
النّهارِ ) ( هما قَمَرَا السماء وأَنتَ نجمٌ ... به في الليل يُدْلج كُلُّ سارِ ) فخلع عليه الجبة
والعمامة والمطرف وأمر له بعشرة آلاف درهم فخرج رجل كان حضر عبد الله والفرزدق
عنده ورأى ما أعطاه إياه وسمع ما أمره عمر به من ألا يعرض لأحد فدخل إلى عمر بن
عبد العزيز فأخبره فبعث إليه عمر ألم أتقدم إليك يا فرزدق ألا تعرض لأحد بمدح ولا
هجاء أخرج فقد أجلتك ثلاثا فإن وجدتك بعد ثلاث نكلت بك فخرج وهو يقول ( فأجّلني وواعدني
ثلاثاً ... كما وُعِدَت لمهْلِكها ثَمُودُ ) قال وقال جرير فيه ( نفَاك الأغرُّ
ابنُ عبد العزيزِ ... ومثلُك يُنفَى من المسجدِ ) ( وَشبَّهْتَ نفسَكَ أشقى ثَمُودَ ...
فقالوا ضلَلتَ ولم تهْتَدِ ) يهجو ابن عفراء لأنه استكثر عليه الجائزة أخبرني حبيب المهلبي
عن ابن أبي سعد عن صباح عن النوفلي بن خاقان عن يونس النحوي قال مدح الفرزدق عمر
بن مسلم الباهلي فأمر له بثلثمائة درهم وكان عمرو بن عفراء الضبي صديقا لعمر فلامه
وقال أتعطي الفرزدق ثلثمائة درهم وإنما كان يكفيه عشرون درهما فبلغه ذلك فقال ( نهيتُ ابنَ
عِفْرَى أن يعفِّر أمَّهُ ... كعَفْر السَّلا إذ جرّرَتْه ثعَالبُه ) ( وإنّ امرأً
يَغْتابني لم أَطأ له ... حريماً فلا ينهَاهُ عنِّي أَقاربُه ) ( كمحتطبٍ يوماً أَساودَ هضبةٍ ...
أَتاه بها في ظلمة الليل حاطبه
) ( أَلمّا استَوى ناباي وأبيضَّ مِسْحلي ... وأطرقَ
إطراقَ الكرى مَنْ أحاربُه ) ( فلو كَان ضَبِّيَّا صفحتُ ولو سرت ... على قدمي حيَّاتُه
وعقاربُه ) ( ولكن دِيافيٌّ أبوه وأمه ... بحُورانَ يعصِرنَ السّليطَ قرائبه ) صوت ( ومقالها
بالنَّعف نعف مُحّسَّرٍ ... لفتاتها هل تعرفين المُعْرِضا ) ( ذاك الذي أعطى مواثقَ عَهدِه ...
ألاّ يخونَ وخلتُ أن لن يَنْقُضا
) ( فلئن ظفرتُ بمثْلِها من مثلِه ... يوماً ليَعترفَنَّ
ما قد أقْرَضا ) الشعر لخالد القسري والناس ينسبونه إلى عمر بن أبي ربيعة
والغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي وابن المكي وحبش وقبل أن أذكر أخباره
ونسبه فإني أذكر الرواية في أن هذا الشعر له أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال أخبرني
عبد الواحد بن سعيد قال حدثني أبو بشر محمد بن خالد البجلي قال حدثني أبو الخطاب
بن يزيد بن عبد الرحمن قال سمعت أبي يحدث قال حدثني مسمع بن مالك بن جحوش البجلي
قال ركب خالد بن عبد الله وهو أمير العراق وهو يومئذ بالكوفة إلى ضيعته التي يقال
لها المكرخة وهي من الكوفة على أربعة فراسخ وركبت معه في زورق فقال لي نشدتك الله
يا بن جحوش هل سمعت غريض مكة يتغنى (
ومقالها بالنّعفِ نعفِ مُحّسَّرٍ ... لفتاتها هل تعرفين
المُعْرضا ) قال قلت نعم قال الشعر والله لي والغناء لغريض مكة وما وجدت هذا الشعر في شيء
من دواوين عمر بن أبي ربيعة التي رواها المدنيون والمكيون وإنما يوجد في الكتب
المحدثة والإسنادات المنقطعة ثم نرجع الآن إلى ذكره بسم الله الرحمن الرحيم أخبار
النابغة ونسبه النابغة اسمه زياد بن معاوية بن ضباب بن جناب بن يربوع بن غيظ بن
مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس ابن عيلان بن
مضر ويكنى أبا أمامة وذكر أهل الرواية أنه إنما لقب النابغة لقوله ( فقد نَبَغتْ لهم
منّا شؤونُ ... ) طبقته ومنزلته عند الخلفاء وهو أحد الأشراف الذين غض الشعر
منهم وهو من الطبقة الأولى المقدمين على سائر الشعراء أخبرنا أحمد بن عبد العزيز
الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر ابن شبة قال حدثنا أبو نعيم قال
حدثنا شريك عن مجاهد عن الشعبي عن ربعي بن حراش قال قال عمر يا معشر غطفان من الذي
يقول ( أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيَابي ... على خَوْفٍ تُظَنُّ بِيَ الظُّنونُ ) قلنا النابغة قال
ذاك أشعر شعرائكم أخبرني أحمد وحبيب قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبيد بن جناد
قال حدثنا معن بن عبد الرحمن عن عيسى بن عبد الرحمن السلمي عن جده عن الشعبي قال
قال عمر من أشعر الناس قالوا أنت أعلم يا أمير المؤمنين قال من الذي يقول ( إلاّ سليمانَ إذ
قال الإِله له ... قُمْ في البَريَّةِ فاحْدُدْها عن الفَنَد ) ( وخَبِّرِ الجِنَّ أنِّي قد أذِنتُ
لهم ... يبنُون تَدْمُرَ بالصُّفَّاح والعمدِ ) قالوا النابغة قال فمن الذي يقول ( أتيتُك عارياً
خَلَقاً ثيابي ... على خوفٍ تُظَنُّ بيَ الظنونُ ) قالوا النابغة قال فمن الذي يقول ( حلفتُ فلم أتركْ
لنفسك رِيبةً ... وليس وراءَ اللهِ للمرء مَذْهَبُ ) ( لئن كنتَ قد بُلِّغتَ عنِّي خِيانةً
... لمُبْلِغُك الواشِي أغَشُّ وأكْذَبُ ) ( ولستَ بمُسْتَبْقٍ أخاً لا
تَلُمُّهُ ... على شَعَثٍ أيَّ الرجالِ المَهَذَّبُ ) قالوا النابغة قال فهو أشعر العرب أخبرنا
أحمد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال حدثنا عمر بن
أبي زائدة عن الشعبي قال ذكر الشعر عند عمر ثم ذكر مثله أخبرني أحمد قال حدثنا عمر
قال حدثني علي بن محمد عن المدائني عن عبد الله بن الحسن عن عمر بن الحباب عن أبي
المؤمل قال قام رجل إلى ابن عباس فقال أي الناس أشعر فقال ابن عباس أخبره يا أبا الأسود
الدؤلي قال الذي يقول ( فإنّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكِي ... وإنْ خِلْتُ أَنَّ
المُنْتَأَى عنك وَاسعُ ) أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قرأت على أبي عن جرير بن
شريك بن جرير بن عبد الله البجلي قال كنا عند الجنيد بن عبد الرحمن بخراسان وعنده
بنو مرة وجلساؤه من الناس فتذاكروا شعر النابغة حتى أنشدوا قوله ( فإِنَّك كاللّيل
الذي هو مدركِي ... وإن خلتُ أَنّ المنتأى عنك واسع ) فقال شيخ من بني مرة ما الذي رأى في
النعمان حيث يقول له هذا وهل كان النعمان إلا على منظرة من مناظر الحيرة وقالت ذلك
القيسية فأكثروا فنظر إلي الجنيد وقال يا أبا خالد لا يهولنك قول هؤلاء الأعاريض
فأقسم بالله أن لو عاينوا من النعمان ما عاين صاحبهم لقالوا أكثر مما قال ولكنهم قالوا
ما تسمع وهم آمنون كان الشعراء يحتكمون إليه أخبرني حبيب بن نصر وأحمد بن عبد
العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو بكر العليمي قال حدثني عبد الملك بن
قريب قال كان يضرب للنابغة قبة من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعرض عليه
أشعارها قال وأول من أنشده الأعشى ثم حسان بن ثابت ثم أنشدته الشعراء ثم أنشدته الخنساء
بنت عمرو بن الشريد ( وإِنّ صخراً لَتَأْتمُّ الهُدَاةُ به ... كأنّه عَلَمٌ في رأسه
نارُ ) فقال والله لولا أن أبا بصير أنشدني آنفا لقلت إنك أشعر الجن والإنس فقام
حسان فقال والله لأنا أشعر منك ومن أبيك فقال له النابغة يا بن أخي أنت لا تحسن أن
تقول ( فإِنّكَ كاللّيل الذي هو مُدْرِكِي ... وإن خِلتُ أنّ المنتأى عنك واسع ) ( خَطَاطِيفُ
حُجْنٌ في حِبالٍ مَتِيْنةٍ ... تَمُدّ بها أيدٍ إليك نَوَازِعُ ) قال فخنس حسان
لقوله أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة
قال حدثنا الأصمعي قال حدثنا أبو عمرو بن العلاء قال قال فلان لرجل سماه فأنسيته بينا
نحن نسير بين أنقاء من الأرض تذاكرنا الشعر فإذا راكب أطيلس يقول أشعر الناس زياد
بن معاوية ثم تملس فلم نره أخبرني أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا الأصمعي قال سمعت
أبا عمرو يقول ما كان ينبغي للنابغة إلا أن يكون زهير أجيرا له أخبرني أحمد قال
حدثنا عمر قال عمرو بن المنتشر المرادي وفدنا على عبد الملك بن مروان فدخلنا عليه
فقام رجل فاعتذر من أمر وحلف عليه فقال له عبد الملك ما كنت حريا أن تفعل ولا
تعتذر ثم أقبل على أهل الشأم فقال أيكم يروي من اعتذار النابغة الى النعمان ( حلفتُ فلم أترك
لنفسك رِيبةً ... وليس وراء الله للمرء مذهُب ) فلم يجد فيهم من يرويه فأقبل علي فقال
أترويه قلت نعم فأنشدته القصيدة كلها فقال هذا أشعر العرب أخبرنا حبيب بن نصر
وأحمد بن عبد العزيز قالا حدثنا عمر بن شبة قال قال معاوية بن بكر الباهلي قلت
لحماد الراوية بم تقدم النابغة قال باكتفائك بالبيت الواحد من شعره لا بل بنصف بيت
لا بل بربع بيت مثل قوله ( حلفتُ فلم أترك لنفسك رِيبةً ... وليس وراء الله للمرء مذهُب ) كل نصف يغنيك عن
صاحبه وقوله ( أيّ الرجال المهذَّبُ ... ) ربع بيت يغنيك عن غيره وهذه
القصيدة العينية يقولها في النعمان بن المنذر يعتذر اليه بها وبعدة قصائد قالها
فيه تذكر في مواضعها ولقد اختلفت الرواة في السبب الذي دعاه الى ذلك خبره مع
النعمان وزوجته المتجردة فأخبرني حييب بن نصر المهلبي وأحمد بن عبد العزيز الجوهري
قالا حدثنا عمر بن شبة عن أبي عبيدة وغيره من علمائهم ان النابغة كان كبيرا عند
النعمان خاصا به وكان من ندمائه وأهل أنسه فرأى زوجته المتجردة يوما وغشيها تشبيها
بالفجاءة فسقط نصيفها واستترت بيدها وذراعها فكادت ذراعها تستر وجهها لعبالتها
وغلظها فقال قصيدته التي أولها (
أمِنَ آلِ مَيّةَ رائحٌ أو مُغْتَدِي ... عجلانَ ذا زادٍ
وغيرَ مُزَوَّدِ ) ( زعَمَ البوارحُ أنّ رِحْلَتنَا غداً ... وبذاك تَنْعَابُ
الغُرَابِ الأسودِ ) ( لا مرحباً بغَدٍ ولا أهلاً به ... إن كان تفريقُ الأحِبّةِ في
غَدِ ) ( أزفَ التَّرَحُّلُ غيرَ أَنّ رِكَابَنا ... لمّا تَزُلْ بِرِحالنا وَكَأنْ
قَدِ ) ( في إِثْرِ غانيةٍ رمتْك بسَهْمِها ... فأصاب قلبَك غير أنْ لم تُقْصِدِ ) ( بالدُّرّ
والياقوتِ زُيِّن نحرُها ... ومُفَصَّلٍ من لُؤْلُؤ وزَبَرْجَدِ ) عروضه من الكامل وغناه
أبو كامل من رواية حبش ثقيلا أول بالبنصر وغناه الغريض من روايته ثاني ثقيل
بالوسطى وغناه ابن سريج من رواية إسحاق ثقيلا أول بالسبابة في مجرى الوسطى قوله
أمن آل مية يخاطب نفسه كالمستثبت وعجلان من العجلة نصبه على الحال والزاد في هذا
الموضع ما كان من تسليم ورد تحية والبوارح ما جاء من ميامنك إلى مياسرك فولاك
مياسره والسانح ما جاء من مياسرك فولاك ميامنه حكى ذلك أبو عبيدة عن رؤبة وقد سأله
يونس عنه وأهل نجد يتشاءمون بالبوارح وغيرهم من العرب تتشاءم بالسانح وتتيمن
بالبارح ومنهم من لا يرى ذلك شيئا قال بعضهم ( ولقد غدوتُ وكنتُ لا ... أَغدو على
واقٍ وحاتِمْ ) ( فإذا الأشائمُ كالأيَامِن ... والأَيامِنُ كالأشائمْ ) وتنعاب الغراب
صياحه يقال نعب الغراب ينعب نعيبا ونعبانا والتنعاب تفعال من هذا وكان النابغة قال
في هذا البيت ( وبذاك خبَّرنا الغُرَابُ الأسودُ ... ) ثم ورد يثرب فسمعه يغنى
فيه فبان له الإقواء فغيره في مواضع من شعره الإقواء عيب في شعره وأخبرنا الحسين بن
يحيى قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي قال أبو عبيدة كان فحلان من الشعراء
يقويان النابغة وبشر بن أبي خازم فأما النابغة فدخل يثرب فهابوه أن يقولوا له لحنت
وأكفأت فدعوا قينة وأمروها أن تغني في شعره ففعلت فلما سمع الغناء وغير مزوُّد
والغرابُ الأسوُد وبان له ذلك في اللحن فطن لموضع الخطأ فلم يعد وأما بشر بن أبي
خازم فقال له أخوه سوادة إنك تقوي قال وما ذاك قال قولك ( ويُنْسِي مثلَ ما نُسِيت جُذَامُ ... ) ثم قلت بعده
( إلى
البلد الشآمِ ... ) ففطن فلم يعد أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر
بن شبة قال حدثنا خلاد الأرقط وغيره من علمائنا قالوا كان النابغة يقول إن في شعري
لعاهة ما أقف عليها فلما قدم المدينة غني في شعره فلما سمع قوله ( واتَّقَتْنا
باليد ... ) و ( يكاد من اللَّطافةِ يُعْقَدُ ... ) تبين له لما مدت باليد
فصارت الكسرة ياء ومدت يُعْقَدُ فصارت الضمة كالواو ففطن فغيره وجعله ( عَنَمٌ على
أغصانِهِ لم يُعْقَدِ ... ) وكان يقول وردت يثرب وفي شعري بعض العاهة فصدرت عنها وأنا أشعر
الناس وقوله لا مرحبا لا سعة ونصبه ها هنا شبيه بالمصدر كأنه قال لا رحب رحبا ولا أهل
أهلا وأزف قرب قال وقال في قصيدته هذه يذكر ما نظر إليه من المتجردة وسترها وجهها
بذراعها صوت ( سقَط النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه ... فتناولتْه واتَّقَتْنا باليَدِ ) ( بمُخَضَّب
رَخْصٍ كأنّ بَنَانَه ... عَنَمٌ على أغصانِهِ لم يُعْقَدِ ) ( وبفاحمٍ رَجْلٍ أثِيثٍ نبتُه ...
كالكَرْمِ مَالَ على الدِّعَامِ المُسْنَدِ ) ( نظرتْ اليك بحاجةٍ لم تَقْضِها ...
نَظَرَ السَّقِيم إلى وُجُوه العُوَّدِ
) غناه ابن سريج ولحنه من خفيف الثقيل الأول بالوسطى عن
عمرو والنصيف الخمار والجمع أنصفة ونصف والعنم فيما ذكر أبو عبيدة يساريع حمر تكون
في البقل في الربيع وقال الأصمعي العنم شجر يحمر وينعم نبته والفاحم الشديد السواد
والرجل الذي ليس بجعد والأثيث المتكاثف قال أمرؤ القيس ( أثِيثٍ كقِنْوِ النخلة المُتَعَثْكِلِ ... ) ويقال شعر
رجل ورجل ويروى ( ورنتْ إِليَّ بمقلتَيْ مكحولةٍ ... ) والمكحولة البقرة وقوله لم تقضها
يعني المرأة أي لم تقدر على الكلام من مخافة أهلها فهي كالسقيم الذي ينظر الى من
يعوده غناه أبن سريج خفيف ثقيل أول بالوسطى على مذهب إسحاق من رواية عمرو بن بانة اتهم
بالتخنث وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثنا العمري
قال قال الهيثم بن عدي قال لي صالح بن حسان كان والله النابغة مخنثا قلت وما علمك
به أرأيته قط قال لا والله قلت أفأخبرت عنه قال لا قلت فما علمك به قال أما سمعت
قوله ( سَقَط النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إِسقاطَه ... فتناولته واتَّقتْنا باليدِ ) لا والله ما
أحسنَ هذه الإشارة ولا هذا القولَ إِلا مُخَنَّثٌ قال فأنشدها النابغة مرة بن سعد
القريعي فأنشدها مرة النعمان فامتلأ غضبا فأوعد النابغة وتهدده فهرب منه فأتى قومه
ثم شخص إلى ملوك غسان بالشأم فامتدحهم وقيل إن عصام بن شهبر الجرمي حاجب النعمان
أنذره وعرفه ما يريده النعمان وكان صديقه فهرب وعصام الذي يقول فيه الراجز ( نَفْسُ عِصَامٍ
سَوّدتْ عِصَامَا ... وَعلَّمتْه الكَرَّ والإِقدامَا ) ( وجعلته مَلِكاً هُمَامَا ... ) وقال من
رويت عنه خبر النابغة إن السبب في هربه من النعمان أن عبد القيس بن خفاف التميمي
ومرة بن سعد بن قريع السعدي عملا هجاء في النعمان على لسانه وأنشدا النعمان منه
أبياتا يقال فيها ( مَلكٌ يُلاعِبُ أُمَّه وقَطِينَه ... رِخْوُ المَفَاصِلِ
أَيْرُه كالمِرْوَدِ ) ومنه ( قَبَّح اللهُ ثم ثَنَّى بِلَعْنٍ ... وارثَ الصائغ الجَبَانَ
الجهُولاَ ) ( مَنْ يَضُرُّ الأدنَى وَيَعْجِزُ عن ضَرِّ الأقاصِي ومَنْ
يَخُون الخليلا ... ) ( يجمع الجيشَ ذا الألوفِ ويغزو ... ثم لا يَرْزأ العَدُوَّ
فَتيلا ) يعني بوارث الصائغ النعمان وكان جده لأمه بفدك يقال له عطية وأم النعمان
سلمى بنت عطية فأخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي عبيد الله عن ابن
حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل أن مرة بن سعد القريعي الذي وشى بالنابغة كان له
سيف قاطع يقال له ذو الريقة من كثرة فرنده وجوهره فذكره النابغة للنعمان فأخذه فاضطغن
ذلك القريعي حتى وشى به إلى النعمان وحرضه عليه وأخبرنا الحسين بن يحيى عن حماد عن
أبيه عن محمد بن سلام عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء وأخبرنا إبراهيم بن
أيوب عن أبن قتيبة وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز عن عمر بن شبة قالوا جميعا إن الذي
من أجله هرب النابغة من النعمان أنه كان والمنخل بن عبيد ابن عامر اليشكري جالسين
عنده وكان النعمان دميما أبرش قبيح المنظر وكان المنخل بن عبيد من أجمل العرب وكان
يرمي بالمتجردة زوجة النعمان ويتحدث العرب أن ابني النعمان منها كانا من المنخل فقال
النعمان للنابغة يا أبا أمامة صف المتجردة في شعرك فقال قصيدته التي وصفها فيها
ووصف بطنها وروادفها وفرجها فلحقت المنخل من ذلك غيرة فقال للنعمان ما يستطيع أن
يقول هذا الشعر إلا من جربه فوقر ذلك في نفس النعمان وبلغ النابغة فخافه فهرب فصار
في غسان تشبيبه بهند صاحبة المنخل اليشكري قالوا وكان المنخل يهوى هندا بنت عمرو
بن هند وفيها يقول صوت ( ولقد دخلتُ على الفتاة ... الخِدْرَ في اليومِ المَطِير ) ( الكاعِبِ
الحسناءِ تَرْفُلُ ... في الدِّمَقْسِ وفي الحريرِ ) ( فدفعتُها فتدافعتْ ... مَشْيَ
القَطَاةِ إلى الغَدِيرِ ) ( وَلَثَمْتُها فَتنفَّستْ ... كتنفُّس الظَّبْيِ البَهِير ) غناه ابراهيم
الموصلي من رواية عمرو بن بانة ثاني ثقيل بالوسطى على مذهب إسحاق ( وَبَدَتْ وقالت
يا مُنَخَّلُ ... ما بجسمك من فُتورِ
) ( ما مَسَّ جِسْمِي غيرُ حُبِّكِ ... فاهْدَئي عنِّي
وسِيرِي ) ( ولقد شَرِبتُ من المُدَامةِ ... بالكبيرِ وبالصغيرِ ) ( فإذا سَكِرتُ فإِنَّني ... رَبُّ
الخَوَرْنَقِ والسَّدِيرِ ) ( وإذا صحوتُ فإِنّني ... ربُّ الشُّوَيْهَةِ والبعير ) ( يا هِنْدُ هل
من نائلٍ ... يا هندُ للعانِي الأسِير
) ( وأحِبُّها وتُحِبُّني ... وتُحِبّ ناقتُها بعيري ) وقال حماد بن
إسحاق عن أبيه في كتاب أغاني ابن مسجح في هذا الصوت لمالك ومعبد وابن سريج وابن
محرز والغريض وابن مسجح لكلهم فيه ألحان قال فبلغ عمرا خبر المنخل فأخذه فقتله وقال
المنخل قبل أن يقتله وهو محبوس في يده يحض قومه على طلب الثأر به ( طُلَّ وَسْطَ
العِرَاقِ قَتْلِي بِلاَ جُرْمٍ ... وَقَوْمِي يُنَتِّجون السِّخالاَ ) رجع الخبر إلى
سياقه قالوا جميعا فلما صار النابغة الى غسان نزل بعمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث
الأعرج بن الحارث الأكبر بن أبي شمر وأم الحارث الأعرج مارية بنت ظالم بن وهب بن
الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع الكندية وهي ذات القرطين اللذين يضرب بهما المثل
فيقال لما يغلى به الثمن خذه ولو بقرطي مارية وأختها هند الهنود امرأة حجر آكل
المرار وإياها عنى حسان بقوله في جبلة بن الأيهم ( أولادُ جَفْنَةَ حولَ قبرِ أبِيهمُ ...
قبر ابن مَارِيَةَ الجَوَادِ المُفْضِلِ ) مدحه النعمان وأخاه عمرو بن الحارث
ولذلك خبر يأتي في موضعه فمدحه النابغة ومدح أخاه النعمان ولم يزل مقيما مع عمرو
حتى مات وملك أخوه النعمان فصار معه الى أن استطلعه النعمان فعاد إليه فمما مدح به
عمرا قوله صوت ( كِلِيِني لِهَمٍّ يا أمَيْمَةَ نَاصِبِ ... وَلَيْلٍ أَقَاسِيهِ بَطِيء
الكواكبِ ) ( وَصَدْرٍ أراحَ الليلُ عازِبَ هَمِّه ... تضاعَفَ فيه الحُزْنُ من كلِّ جانب ) ( تَقَاعَسَ حتى
قلتُ ليس بمُنْقَضٍ ... وليس الذي يَهْدِي النجومَ بِآئِبِ ) ( عَلَيّ لِعَمْروٍ نِعْمةٌ بعد نعمةٍ
... لوالده ليست بذاتِ عَقَارِبِ
) عروضه من الطويل غنى في البيتين الأولين ابن محرز خفيف
ثقيل أول بالبنصر على مذهب إسحاق من رواية عمرو وغنى فيه الأبجر من رواية حبش ثاني
ثقيل بالوسطى وغنى مالك في البيت الرابع ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى من
رواية هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات وغنى في الأربعة الأبيات عبد الله بن
العباس الربيعي ماخوريا عن حبش وغنى فيها طويس رملا بالوسطى بحكايتين عن حبش هكذا
روي قوله يا أميمة مفتوح الهاء قال الخليل من عادة العرب أن تنادي المؤنث بالترخيم
فتقول يا أميم ويا عز ويا سلم فلما لم يرخم لحاجته الى الترخيم أجراها على لفظها
مرخمة وأتى بها بالفتح وكليني أي دعيني ووكلته الى كذا أكله وكالة وناصب متعب وبطيء
الكواكب أي قد طال حتى إن كواكبه لا تجري ولا تغور أراح رد يقال أراح الرجل إبله
أي ردها فيقول رد هذا الليل إلي ما عزب من همي بالنهار لأنه يتعلل نهارا بمحادثة الناس
والتشاغل بغير الفكر فإذا خلا بالليل راح اليه همه وتقاعس تأخر وأصل التقاعس الرجوع
الى خلف القهقري فشبه الليل في طوله بالمتقاعس والذي يهدي النجوم أولها شبهها
بهواديها وقوله ( ليست بذات عقارب ... ) أي لا يكدرها ولا يمنها ومما يغنى فيه
من هذه القصيدة ( حلفتُ يميناً غيرَ ذِي مَثْنَوِيَّةٍ ... ولا عِلْمَ إِلاَّ
حسنَ ظَنِّي بصاحبِ ) ( لئن كان للقَبْرَينِ قَبْرٍ بِجِلَّقٍ ... وَقَبْرٍ بصَيْدَاءَ
الذي عند حارب ) ( وللحارثِ الجَفْنِيِّ سَيِّدِ قومِهِ ... لَيَلْتَمِسَنْ
بالجيش دارَ المُحَارِبِ ) غناه إسحاق خفيف ثقيل أول بالبنصر على مذهبه من رواية عمرو بن
بانة عنه ومن رواية حبش وغناه ابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر يقول ليس لي علم بما
يكون من صاحبي إلا أني أحسن الظن به وقوله ( لئن كان للقبرين ... ) يعني لئن كان
عمرو ابنا للمدفونين في هذين القبرين يعني قبر أبيه وجده وهما الحارث الأكبر
والحارث الأعرج ليلتمسن جيشه دار المحارب له يحرضه بذلك ويروى أرض المحارب ( ولا عيبَ فيهم
غير أنّ سيوفَهم ... بهنّ فلولٌ من قِرَاع الكتائبِ ) ( إذا استنْزِلوا عنهن الطعن
أَرْقَلوا ... إلى الموت إرقال الجِمَال المَصَاعِبِ ) صوت ( لهم شِيمةُُ لم يُعْطِها اللهُ غيرَهم
... من النَّاسِ والأحلامُ غيرُ عَوَازب ) ( على عارفاتٍ للطِّعانِ عَوَابِسٍ
... بهنّ كلومٌ بين دامٍ وجالِبِ
) ( ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم ... بهن فلولٌ من
قِراع الكتائب ) ( إذا استُنْزِلوا عنهنّ للطعن أَرْقَلوا ... إلى الموت إرقالَ
الجمال المصاعب ) ( حَبَوْتُ بها غَسّان إذ كنتُ لاحقاً ... بقومي وإذْ أعيتْ عليّ
مَذَاهِبي ) وجدت في كتاب لهارون بن محمد بن عبد الملك الزيات في البيتين والثالث والرابع
لحنا منسوبا إلى معبد من خفيف الرمل بالوسطى وأحسبه من لحن يحيى المكي الشيمة
الطبيعة وجمعها شيم غير عوازب أي لا تعزب أحلامهم فتنفذ عنهم وعارفات للطعان أي صابرات
عليه قد عودت أن يحارب عليها وعوابس كوالح وجالب أي عليه جلبة وهي قشرة تكون على
الجرح يقال جلب الجرح يجلب جلوبا وأجلب إجلابا والإرقال مشي يشبه الخبب سريع والمصاعب
واحدها مصعب وهو الفحل الذي لم يمسسه الحبل وإنما يقتنى للفحلة ويقال له قرم ومقرم
وقوله حبوت بها يعني بالقصيدة وروى أبو عبيدة إذ كنت لاحقا بقوم وقال يعني إذ كنت
لاحقا بغيركم أي بقوم آخرين فكنتم أحق بالمدح منهم قالوا فنظر إلى النعمان بن
الحارث أخي عمرو وهو يومئذ غلام فقال (
هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُهُ ... مُقتبِلُ الخيرِ سريعُ
التَّمَام ) ( للحارث الأكبرِ والحارثِ الأْصغرِ ... والأَعْرَجِ خيرِ الأنام ) ( ثم لِهندٍ
ولهندٍ فقد ... أسرع في الخيراتِ منه إمام ) ( خمسةُ آباءٍ وهُم ما هُمُ ... هُمْ
خيرُ من يشرب صوبَ الغَمَام ) غناه حنين خفيف رمل بالبنصر عن حبش الشعبي يفضله على الأخطل في
مجلس عبد الملك بن مروان أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثناعمر بن شبة
قال حدثنا هارون بن عبد الله الزبيري قال حدثنا شيخ يكنى أبا داود عن الشعبي قال دخلت
على عبد الملك بن مروان وعنده الأخطل وأنا لا أعرفه فقلت حين دخلت عامر بن شراحيل
الشعبي فقال على علم ما أذنا لك فقلت في نفسي خذ واحدة على وافد أهل العراق فسأل
عبد الملك الأخطل من أشعر الناس قال أنا يا أمير المؤمنين فقلت لعبد الملك من هذا
يا أمير المؤمنين فتبسم وقال هذا الأخطل فقلت في نفسي خذها ثنتين على وافد أهل
العراق فقلت أشعر منك الذي يقول (
هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُهُ ... مُسْتَقْبِلُ الخيرِ سريعُ
التَّمَام ) ( للحارث الأكبرِ والحارثِ الأْصغرِ ... والأَعْرَجِ خيرِ الأنام ) ( خمسةُ آباءٍ
وهُم ما هم ... هُمْ خيرُ من يشرب ماء الغمام ) والشعر للنابغة فقال الأخطل إن أمير
المؤمنين إنما سألني عن أشعر أهل زمانه ولو سألني عن أشعر أهل الجاهلية لكنت حريا
أن أقول كما قلت أو شبيها به فقلت في نفسي خذها ثلاثا على وافد أهل العراق يعني
أنه أخطأ ثلاث مرات ونسخت هذا الخبر من كتاب أحمد بن الحارث الخراز ولم أسمعه من
أحد ووجدته أتم مما رأيت في كل موضع فأتيت به في هذا الموضع وإن لم يكن من خاص خبر
النابغة لأنه أليق به قال أحمد بن الحارث الخراز حدثني المدائني عن عبد الملك بن
مسلم قال كتب عبد الملك إلى الحجاج إنه ليس شيء من لذة الدنيا إلا وقد أصبت منه
ولم يكن عندي شيء ألذه إلا مناقلة الإخوان للحديث وقبلك عامر الشعبي فابعث به إلي
يحدثني فدعا الحجاج الشعبي فجهزه وبعث به إليه وقرطه وأطراه في كتابه فخرج الشعبي
حتى إذا كان بباب عبد الملك قال للحاجب استأذن لي قال من أنت قال أنا عامر الشعبي قال
حياك الله ثم نهض فأجلسني على كرسيه فلم يلبث أن خرج إلي فقال ادخل يرحمك الله فدخلت
فإذا عبد الملك جالس على كرسي وبين يديه رجل أبيض الرأس واللحية على كرسي فسلمت
فرد علي السلام ثم أومأ إلي بقضيبه فقعدت عن يساره ثم أقبل على الذي بين يديه فقال
ويحك من اشعر الناس قال أنا يا أمير المؤمنين قال الشعبي فأظلم علي ما بيني وبين
عبد الملك فلم أصبر أن قلت ومن هذا يا أمير المؤمنين الذي يزعم أنه أشعر الناس قال
فعجب عبد الملك من عجلتي قبل أن يسألني عن حالي قال هذا الأخطل فقلت يا أخطل أشعر
والله منك الذي يقول ( هذا غلامٌ حَسَنٌ وجهُهُ ... مُسْتَقْبِلُ الخيرِ سريعُ
التَّمَامْ ) ( للحارث الأكبرِ والحارثِ الأْصغرِ ... والأَعْرَجِ خيرِ الأنام ) ( ثم لهندٍ
ولهندٍ فقد ... أسرع في الخيراتِ منه إمام ) ( خمسةُ آباءٍ وهُم ما هُمُ ... هُمْ
خيرُ من يشرب صوبَ الغَمَام ) فرددتها حتى حفظها عبد الملك فقال الأخطل من هذا يا أمير
المؤمنين قال هذا الشعبي قال فقال صدق والله يا أمير المؤمنين النابغة والله أشعر
مني فقال الشعبي ثم أقبل علي فقال كيف أنت يا شعبي قلت بخير يا أمير المؤمنين فلا
زلت به ثم ذهبت لأضع معاذيري لما كان من خلافي على الحجاج مع عبد الرحمن بن محمد بن
الأشعث فقال مه إنا لا نحتاج إلى هذا المنطق ولا تراه منا في قول ولا فعل حتى
تفارقنا ثم أقبل علي فقال ما تقول في النابغة قال قلت يا أمير المؤمنين قد فضله
عمر بن الخطاب في غير موطن على الشعراء أجمعين وببابه وفد غطفان فقال يا معشر غطفان
أي شعرائكم الذي يقول ( حَلَفتُ فلم أتركْ لنفسك رِيبةً ... وليس وراءَ اللهِ للمرء
مَذْهَبُ ) ( لئن كنتَ قد بُلِّغتَ عنِّي خِيانةً ... لَمُبْلِغُكَ الواشِي أغَشُّ وأكْذَبُ ) ( ولستَ
بمُسْتَبْقٍ أخاً لا تَلُمُّه ... على شَعَثٍ أيُّ الرجالِ المهذَّب ) قالوا النابغة
يا أمير المؤمنين قال فأيكم الذي يقول (
فإِنَّكَ كاللّيلِ الذي هو مُدْرِكِي ... وإن خلتُ أَن
المنتأى عنك واسعُ ) ( خَطَاطِيفُ حُجْنٌ في حبالٍ مَتِيْنةٍ ... تَمُدّ بها أيدٍ
إليك نوازع ) قالوا النابغة قال فأيكم الذي يقول ( الى ابن مُحَرِّقٍ أعملتُ نفسي ...
وراحلتي وقد هَدَتِ العيونُ ) (
أتيتُك عارياً خَلَقاً ثِيَابي ... على خَوْفٍ تُظَنُّ
بِيَ الظُّنونُ ) ( فألفيْتُ الأمانة لم تَحُنْها ... كذلك كان نُوحٌ لا يخون ) قالوا النابغة
يا أمير المؤمنين قال هذا أشعر شعرائكم قال ثم أقبل على الأخطل فقال أتحب أن لك
قياضا بشعرك شعر أحد من العرب أو تحب أنك قلته قال لا والله يا أمير المؤمنين إلا
أني وددت أن كنت قلت أبياتا قالها رجل منا كان والله ما علمت مغدف القناع قليل
السماع قصير الذراع قال وما قال فأنشد قصيدته ( إنّا مُحَيُّوكَ فاسْلَمْ أيُّها
الطَّلَلُ ... وإن بَلِيتَ وإن طالت بكَ الطِّيَلُ ) ( ليس الجديدُ به تبقَى بَشَاشتُه ...
إِلاَّ قليلاً ولا ذو خُلَّةٍ يصلُ
) ( والعيشُ لا عيشَ إلاَّ ما تَقَرُّ به ... عينٌ ولا
حالَ إِلاَّ سوف تنتقل ) ( إِن تَرْجِعي من أبي عثمانَ مُنْجِحةً ... فقد يَهُون على
المُسْتَنْجِح العمل ) ( والناسُ مَنْ يَلْقَ خيراً قائلون له ... ما يشتهي ولأُِمِّ
المخطىء الهَبَلُ ) ( قد يُدْرِكُ المُتَأنِّي بعضَ حاجتِه ... وقد يكون مع
المستعجِلِ الزلل ) حتى أتى على آخرها قال الشعبي فقلت قد قال القطامي أفضل من هذا
قال وما قال قلت قال ( طَرَقتْ جَنُوبُ رِحالَنَا من مَطْرَقِ ... ما كنت أحسَبُها
قريبَ المُعْنَقِ ) ( قطَعتْ اليك بمثلِ جيدِ جَدايةٍ ... حَسَن مُعَلَّق تُومَتَيْه
مُطَوَّقِ ) ( ومُصَرَّعِين من الكَلاَل كأنما ... شَرِبوا الغَبُوقَ من
الرَّحِيق المُعْرَقِ ) ( متوسِّدين ذراعَ كلِّ نَجيبةٍ ... ومُفَرَّجٍ عُرَقِ المَقَذِّ
مُنَوَّقِ ) ( وَجَثَتْ على رُكَبٍ تَهُدّ بها الصَّفَا ... وعلى كَلاَكِلَ
كالنَّقِيلِ المُطْرَقِ ) ( وإذا سمِعْنَ إلى هَمَاهِمِ رُفْقَةٍ ... ومن النجوم غوابِرٌ
لم تَخْفِقِ ) ( جعلتْ تُميلُ خدودَها آذانُها ... طَرَباً بهنّ إلى حُداء
السُّوَّق ) ( كالمُنْصِتات إلى الغناء سمعنَه ... من رائع لقلوبهن مُشَوِّق ) ( وإذا نظرنَ
إلى الطَّريق رأينه ... لهقاً كشاكلة الحِصان الأبلق ) ( وإذا تخلَّف بعدهنّ لحاجةٍ ... حادٍ
يُشَسِّعُ نَعْلَه لم يَلْحَقِ
) ( وإذا يصيبك والحوادثُ جَمَّةٌ ... حَدَثٌ حَدَاك إلى
أخيكَ الأوثق ) ( لئن الهمومُ عن الفؤاد تفرّقت ... وَخَلاَ التَّكَلُّمُ للّسان
المُطْلَق ) قال فقال عبد الملك هذا والله أشعر ثكلت القطامي أمه قال فالتفت إلي
الأخطل فقال يا شعبي إن لك فنونا في الأحاديث وإنما لنا فن واحد فإن رأيت ألا تحملني
على أكتاف قومك فأدعهم حرضا فقلت لا أعرض لك في شيء من الشعر أبدا فأقلني في هذه
المرة قال من يتكفل بك قلت أمير المؤمنين فقال عبد الملك هو علي ألا يعرض لك أبدا
ثم قال يا شعبي أي نساء الجاهلية أشعر قلت خنساء قال ولم فضلتها على غيرها قلت
لقولها ( وقائلةٍ والنَّعْشُ قد فات خَطْوَها ... لِتُدْرِكه يالَهْفَ نفسي على صَخْرِ ) ( أَلاَ ثَكِلتْ
أمُّ الذين غَدَوْا به ... إلى القبر ماذا يحملون إلى القبر ) فقال عبد الملك أشعر
منها والله التي تقول ( مُهَفْهَفث الكَشْحِ والسربالِ منخرقٌ ... عنه القميصُ لسير
الليل محتقرُ ) ( لا يأمَنُ الناسُ مُمْساه ومُصْبَحَهُ ... في كلِّ فَجٍّ وإن
لم يَغْزُ يُنْتَظَرُ ) ثم قال يا شعبي لعلك شق عليك ما سمعت قلت إي والله يا أمير
المؤمنين أشد المشقة إني أحدثك منذ شهرين لم أفدك إلا أبيات النابغة في الغلام قال
يا شعبي إنما أعلمتك هذا لأنه بلغني أن اهل العراق يتطاولون على أهل الشام يقولون
إن كانوا غلبونا على الدولة فلم يغلبونا على العلم والرواية وأهل الشأم أعلم بعلم
أهل العراق من أهل العراق ثم رد علي الأبيات أبيات ليلى حتى حفظتها ولم أزل عنده
فكنت أول داخل وآخر خارج قال فمكثت كذلك سنتين وجعلني في ألفين من العطاء وعشرين
رجلا من ولدي وأهل بيتي في ألفين ألفين فبعثني إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر
وكتب اليه يا أخي إني قد بعثت اليك الشعبي فأنظر هل رأيت مثله قط ثم أذن لي
فأنصرفت أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني
وأخبرني ببعضه أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة عن أبي بكر الهذلي
قال قال حسان بن ثابت قدمت علىالنعمان بن المنذر وقد أمتدحته فأتيت حاجبه عصام بن
شهبر فجلست إليه فقال إني لأرى عربيا أفمن الحجاز أنت قلت نعم قال فكن قحطانيا فقلت
فأنا قحطاني قال فكن يثربيا قلت فأنا يثربي قال فكن خزرجيا قلت فأنا خزرجي قال فكن
حسان بن ثابت قلت فأنا هو قال أجئت بمدحة الملك قلت نعم قال فإني أرشدك إذا دخلت
إليه فإنه يسألك عن جبلة بن الأيهم ويسبه فإياك أن تساعده على ذلك ولكن أمر ذكره
إمرارا لا توافق فيه ولا تخالف وقل ما دخول مثلي أيها الملك بينك وبين جبلة وهو
منك وأنت منه وإن دعاك إلى الطعام فلا تؤاكله فإن أقسم عليك فأصب منه اليسير إصابة
بار قسمه متشرف بمؤاكلته لا أكل جائع سغب ولا تطل محادثته ولا تبدأه بإخبار عن شيء
حتى يكون هو السائل لك ولا تطل الإقامة في مجلسه فقلت أحسن الله رفدك قد أوصيت
واعيا ودخل ثم خرج إلي فقال لي ادخل فدخلت فسلمت وحييت تحية الملوك فجاراني من أمر
جبلة ما قاله عصام كأنه كان حاضرا وأجبت بما أمرني ثم أستأذنته في الإنشاد فأذن لي
فأنشدته ثم دعا بالطعام ففعلت ما أمرني عصام به وبالشراب ففعلت مثل ذلك فأمر لي
بجائزة سنية وخرجت فقال لي عصام بقيت علي واحدة لم أوصك بها قد بلغني أن النابغة
الذبياني قدم عليه وإذا قدم فليس لأحد منه حظ سواه فأستأذن حينئذ وانصرف مكرما خير
من أن تنصرف مجفوا فأقمت ببابه شهرا ثم قدم عليه الفزاريان وكان بينهما وبين
النعمان دخلل أي خاصة وكان معهما النابغة قد استجار بهما وسألهما مسألة النعمان أن
يرضى عنه فضرب عليهما قبة من أدم ولم يشعر بأن النابغة معهما ودس النابغة قينة
تغنيه بشعره ( يا دار مَيّةَ بالعَلْياء فالسَّنَدِ ... ) فلما سمع الشعر قال أقسم بالله
إنه لشعر النابغة وسأل عنه فأخبر أنه مع الفزاريين فكلماه فيه فأمنه وقال أبو زيد
عمر بن شبة في خبره لما صار معهما إلى النعمان كان يرسل إليهما بطيب وألطاف مع
قينة من إمائه فكانا يأمرانها أن تبدأ بالنابغة قبلهما فذكرت ذلك للنعمان فعلم أنه
النابغة ثم ألقى عليها شعره هذا وسألها أن تغنيه به إذا أخذت فيه الخمر ففعلت فأطربته
فقال هذا شعر علوي هذا شعر النابغة قال ثم خرج في غب سماء فعارضه الفزاريان
والنابغة بينهما قد خضب بحناء فقنأ خضابه فلما رآه النعمان قال هي بدم كانت أحرى
أن تخضب فقال الفزاريان أبيت اللعن لا تثريب قد أجرناه والعفو أجمل فأمنه وأستنشده
أشعاره فعند ذلك قال حسان بن ثابت فحسدته على ثلاث لا أدري على أيتهن كنت له أشد
حسدا على إدناء النعمان له بعد المباعدة ومسامرته له وإصغائه إليه أم على جودة
شعره أم على مائة بعير من عصافيره أمر له بها قال أبو عبيدة قيل لأبي عمرو أفمن
مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك فقال لا لعمر الله ما لمخافته فعل
إن كان لامنا من أن يوجه النعمان له جيشا وما كانت عشيرته لتسلمه لأول وهلة ولكنه
رغب في عطاياه وعصافيره وكان النابغة يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب من عطايا
النعمان وأبيه وجده لا يستعمل غير ذلك وقيل إن السبب في رجوعه إلى النعمان بعد
هربه منه أنه بلغه أنه عليل لا يرجى فأقلقه ذلك ولم يملك الصبر على البعد عنه مع
علته وما خافه عليه وأشفق من حدوثه به فصار إليه وألفاه محمولا على سريره ينقل ما
بين الغمر وقصور الحيرة فقال لعصام بن شهبر حاجبه فيما أخبرنا به اليزيدي عن عمه
عبيد الله وابن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل صوت ( ألم أُقْسِمْ عَلَيكَ
لَتُخْبِرَنِّي ... أمحمولٌ على النَّعْشِ الهُمَامُ ) ( فإِنّي لا ألومُك في دخولي ... ولكن
ما وراءكَ يا عِصَامُ ) ( فإِنْ يَهْلِكْ أبو قابُوسَ يَهْلِكْ ... ربيعُ النَّاسِ
والشهرُ الحرامُ ) ( ونُمْسِك بعده بِذِنَابِ عيشٍ ... أجَبِّ الظهر ليس له سَنَامُ ) غناه حنين ثقيلا
أول بالبنصر عن حبش قال أبو عبيدة كانت ملوك العرب إذا مرض أحدهم حملته الرجال على
أكتافها يتعاقبونه فيكون كذلك على أكتاف الرجال لأنه عندهم أوطأ من الأرض وقوله ( فإني لا ألومُك
في دخولي ... ) أي لا ألومك في ترك الإذن لي في الدخول ولكن أخْبِرْني بكُنْه
أمره وقوله ( ربيع الناس والشهر الحرام
... ) يريد أنه كالربيع في الخِصْب لِمُجْتَدِيه وكالشهر
الحرام لجاره لا يوصل إلى من أجاره كما لا يوصل في الشهر الحرام إلى أحد أصوات من
شعره تغنى صوت ( رأيُتك تَرْعَاني بعينٍ بصيرةٍ ... وتبعث حُرَّاساً عليَّ وناظرا ) ( فآليتُ لا
آتيك إن كنتُ مُجْرِماً ... ولا أبتغي جاراً سواك مجاورا ) ( وأهلي فداءٌ لامرىء إِن أتيتُهُ ...
تقبَّل معروفي وسَدَّ المَفَاقِرا
) ( ألاَ أَبْلِغِ النُّعْمَانَ حيث لَقِيتَه ... وأهدَى
له اللهُ الغيوثَ البواكرا ) غناه خليد الوادي رملا بالبنصر من رواية حبش ومما يغنى فيه من
قصائد النابغة التي يعتذر فيها إلى النعمان صوت ( يا دارَ مَيّةَ بالعَلْياء فالسَّنَدِ
... أقْوَتْ وطال عليها سالف الأَمَدِ
) ( وقفتُ فيها أُصَيلاناً أُسائلها ... أعْيَتْ جواباً
وما بالرَّبْع من أحدِ ) ( إِلاَّ الأوارِيّ لأْياً ما أُبَيِّنُها ... والنُّؤْيُ
كالحَوْضِ بالمظلومة الجَلَدِ )
( ردّتْ عليه أقاصيه ولبّده ... ضَرْبُ الولِيدةِ
بالمِسْحاةِ في الثَّأَدِ ) ( خَلَّتْ سبيلَ أَتِيٍّ كان يحبِسه ... ورفَّعته إلى السَّجْفين
فالنَّضَدِ ) ( أضحتْ خَلاَءً وأضحى أهلُها احْتَمَلوا ... أَخْنَى عليها الذي
أَخْنَى على لُبَدِ ) الغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق وفيه
لجميلة ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو وحبش قال الأصمعي قوله يا دار مية يريد يا أهل
دار مية كما قال امرؤ القيس ( ألاَعِمْ صَبَاحاً أيُّها الطَّلَلُ البالي ... ) يريد أهل
الطلل وقال الفراء إنما نادى الدار لا أهلها أسفا عليها وتشوقا إلى أهلها وتمنيه
أن تكون أهلا والعلياء المكان المرتفع بناؤه يقال من ذلك علا يعلو وعلي يعلى مثل
حلا يحلو وحلي يحلى وسلا يسلو وسلي يسلى والسند سند الجبل وهو ارتفاعه حيث يسند
فيه أي يصعد أقوت أقفرت وخلت من أهلها وقال أبو عبيدة في قوله يا دار مية ثم قال
أقوت ولم يقل أقويت إن من شأن العرب أن يخاطبوا الشيء ثم يتركوه ويكفوا عنه وروى
الأصمعي أصيلانا وهو تصغير أصلان ويروى عيت جوابا أي عييت بالجواب والأواري جمع
آري ولأيا بطأ والمظلومة التي لم يكن فيها أثر فحفر أهلها فيها حوضا وظلمهم إياها
إحداثهم فيها ما لم يكن فيها شبه النؤي بذلك الحوض لاستدارته والجلد الأرض الصلبة
الغليظة من غير حجارة وإنما جعلها جلدا لأن الحفر فيها لا يسهل وقوله ردت عليه
أقاصيه يعني أمة فعلت ذلك أضمرها ولم يكن جرى لها ذكر وأقاصيه يعني أقاصي النؤي
على أدناه ليرتفع ولبده طأمنه والوليدة الأمة الشابة والثأد الندى والسبيل الطريق
والأتي النهر المحفور والأتي السيل من حيث كان يقول لما أفسدت طريق الأتي سهلت له
طريقا حتى جرى ورفعته أي قدمت الحفر الى موضع السجفين وليس رفعته ها هنا من ارتفاع
العلو والسجفان ستران رقيقان يكونان في مقدم البيت والنضد ما نضد من المتاع وأخنى
أفسد ولبد آخر نسور لقمان التي اختار أن يعمر مثل أعمارها وله حديث ليس هذا موضعه صوت
( أسْرَتْ عليه من الجَوْزاءِ ساريةٌ ... تُزْجِي الشَّمَالُ عليه جامدَ البَرَدِ ) ( فأرتاعَ من
صَوْتِ كَلاَّبٍ فباتَ له ... طَوْعُ الشَّوامِتِ من خَوْفٍ ومن صَرَد ) ( فبَثَّهُنّ
عليه وأستمرّ به ... صُمْعُ الكُعُوبِ بَرِيَّاتٍ من الحَرَدِ ) ( وكان ضُمْرَانُ
منه حيثُ يُوزِعُهُ ... طَعْنَ المُعَاركِ عند المُحْجَرِ النَّجُدِ ) ( شَكَّ
الفَرِيصةَ بالمِدْرَى فأَنْفَذَها ... طَعْنَ المُبَيْطِرِ إذ يَشْفِي من
العَضَدِ ) غنى فيه إبراهيم الموصلي هزجا بالبنصر من رواية عمرو بن بانة وفيه لحن
لمالك يعني أن سحابة مرت عليه ليلا وأن أنواء الجوزاء أسرت عليه بها وتزجي تسوق
وتدفع عليه أي على الثور والكلاب صاحب الكلاب وقوله بات له طوع الشوامت أي بات له
ما يسر الشوامت اللواتي شمتن به وصمع الكعوب يعني قوائمه أنها لازقة محددة الأطراف
ليست برهلات وأصل الصمع رقة الشيء ولطافته والحرد داء يعيبه يقال بعير أحرد وناقة
حرداء والمحجر الملجأ والنجد الشجاع والفريصة مرجع الكتف الى الخاصرة والمدرى
القرن والمبيطر البيطار والعضد داء يأخذ في العضد وفي لحن ابراهيم الموصلي بعد
فارتاع من صوت كلاب ( كأنّ رَحْلِي وقد زَالَ النَّهارُ بنا ... يومَ الجَلِيلِ على مُسْتَأنِسٍ
وَحَدِ ) ( مِنْ وَحْشِ وَجْرَة مَوْشِيٍّ أكارِعُه ... طاوي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ
الفَرَدِ ) قال الأصمعي زال النهار بنا أي انتصف وبنا ها هنا في موضع علينا ومن روى
مستوجس فإنه يعني أنه قد أوجس شيئا خافه فهو يستوجس والجليل الثمام واحدته جليلة ووجرة
طرف السي وهي فلاة بين مران وذات عرق وهي ستون ميلا يجتمع فيها الوحش وموشي أكارعه
أي إنه أبيض في قوائمه نقط سود وفي وجهه سفعة وطاوي المصير ضامر والمصير المعي
وجمعه المصران والفرد المنقطع القرين يقال فرد وفرد وفرد أخبرني أحمد بن عبد
العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال غنى
مخارق يوما بين يدي الرشيد ( سرت عليه من الجوزاء ساريةٌ ... ) فلما بلغ إلى قوله ( فأرتاع من صوت
كَلاَّبٍ فبات له ... ) قال فارتاع بضم العين فأردت أن أرد عليه خطأه ثم خفت أن يغضب
الرشيد ويظن أني حسدته على منزلته منه وأردت إسقاطه فالتفت إليه بعض من حضر أظنه
قال محمد بن عمر الرومي فقال له ويلك يا مخارق أتغني بمثل هذا الخطأ القبيح لسوقة
فضلا عن الملوك ويلك لو قلت فارتاع كان أخف على اللسان وأسهل من قولك فارتاع فخجل
مخارق وكفيت ما أردته بغيري قال وكان مخارق لحانا ومنها صوت ( قالت ألاَ لَيْتَما هذا الحمامُ لنا
... إلى حمامتنا ونِصْفُّه فَقَدِ
) ( يَحُفُّه جَانِبَا نِيقٍ وتُتْبِعُه ... مثلَ
الزُّجَاجة لم تُكْحَلْ من الرَّمَدِ
) ( فحسبوه فألْفَوْه كما حَسِبتْ ... تسعاً وتسعين لم
تنقُص ولم تَزِدِ ) ( فكمّلَتْ مائةً فيها حمامتُها ... وأسرعتْ حِسْبةً في ذلك
العدد ) غناه ابن سريج خفيف ثقيل عن الهشامي هذا خبر روي عن زرقاء اليمامة ويروى
عن بنت الخس اعجابه بمعنى لزرقاء اليمامة واخذه عنها حدثني محمد بن العباس اليزيدي
قال سمعت أبا العباس محمد بن الحسن الأحول يقول هذا أخذه النابغة من زرقاء اليمامة
قالت ( ليت الحمامَ لِيَهْ ... ونِصْفَه قَدِيَهْ ) ( الى حَمَامَتِيَهْ ... تَمّ الحمامُ
مِيَهْ ) فسلَخه النابغة وقال الأصمعي سمعت أناسا من أهل البادية يتحدثون أن بنت
الخس كانت قاعدة في جوار فمر بها قطا وارد في مضيق من الجبل فقالت ( ياليتَ ذا
القَطَا لِيَهْ ... ومثلَ نِصْفٍ مَعِيَهْ ) ( إلى قَطاةِ
أهْلِيَهْ ... إذاً لنا قَطاً مِيَهْ
) وأتبعت فعدت على الماء فإذا هي ست وستون وقوله فقد أي
فحسب ويحفه أي يكون من ناحية هذا الثمد يقال حف القوم بالرجل أي اكتنفوه والنيق
الجبل ومثل الزجاجة يريد عينا صافية كصفاء الزجاجة الحسبة الهيئة التي تحسب يقال
ما أحسن حسبته مثل الجلسة واللبسة والركبة ومنها صوت ( نُبِّئْتُ أَنّ أبا قابُوسَ
أوعدني ... ولا قَرَارَ على زَأْرٍ من الأَسَدِ ) ( مَهْلاً فِداءٌ لك الأقوامُ كلُّهمُ
... وما أُثَمِّرُ من مالٍ ومن ولد
) ( إنْ كنتُ قلتُ الذي بُلِّغْتَ مُعْتَمِداً ... إِذاً
فلا رفعتْ سَوْطِي إِليَّ يدي )
( هذا الثناءُ فإِنْ تَسْمَعْ به حَسَناً ... فلم
أُعَرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفَدِ ) غناه الهذلي ولحنه من الثقيل الأول عن
الهشامي أثمر أصلح وأجمع والزأر صياح الأسد يقال زأر زئيرا وهو الزأر والصفد
العطية يقال أصفده يصفده إصفادا إذا أعطاه وصفده يصفده صفدا إذا أوثقه رواية حسان
عنه حين وفد على النعمان أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة
قال حدثني الصلت بن مسعود قال حدثنا أحمد بن شبويه عن سليمان بن صالح عن عبد الله
بن المبارك عن فليح بن سليمان عن رجل قد سماه عن حسان بن ثابت ونسخت من كتاب ابن
أبي خيثمة عن أبيه عن مصعب الزبيري قال قال حسان بن ثابت وأخبرنا محمد بن العباس
اليزيدي قال حدثني عمي يوسف بن محمد عن عمه إسماعيل بن أبي محمد قال قال أبو عمرو
الشيباني قال حسان ابن ثابت وقد جمعت رواياتهم وذكرت اختلافهم فيها وأكثر اللفظ
للجوهري قال خرجت الى النعمان بن المنذر فلقيت رجلا وقال اليزيدي في خبره فلقيت
صائغا من أهل فدك فلما رآني قال كن يثربيا فقلت الأمر كذلك قال كن خزرجيا قلت أنا
خزرجي قال كن نجاريا قلت أنا نجاري قال كن حسان بن ثابت قلت أنا هو فقال أين تريد
قلت إلى هذا الملك قال تريد أن أسددك إلى أين تذهب ومن تريد قلت نعم قال إن لي به
علما وخبرا قلت فأعلمني ذلك قال فإنك إذا جئته متروك شهرا قبل أن يرسل إليك ثم عسى
أن يسأل عنك رأس الشهر ثم إنك متروك آخر بعد المسألة ثم عسى أن يؤذن لك فإن أنت
خلوت به وأعجبته فأنت مصيب منه خيرا فأقم ما أقمت فإن رأيت أبا أمامة فأظعن فلا
شيء لك عنده قال فقدمت ففعل بي ما قال الرجل ثم أذن لي وأصبت منه مالا كثيرا
ونادمته وأكلت معه فبينا أنا على ذلك وأنا معه في قبة له إذا رجل يرتجز حولها ( أصَمُّ أم يسمع
ربُّ القُبَّهْ ... يا أوهبَ الناس لِعَنْسٍ صُلْبَهْ ) ( ضَرَّابةٍ بالمِشْفَرِ الأذِبَّهْ
... ذات هِبَاتٍ في يديها جُلبهْ
) ( في لاَحِبٍ كأنّه الأطِبَّهْ ... ) وفي رواية اليزيدي في يديها خدبة
أي طول واضطراب والأطبة جمع طباب وهو الشراك يجمع فيه بين الأديمين في الخرز وقال
عمر بن شبة في خبره قال فليح بن سليمان أخذت هذا الرجز عن ابن دأب قال فقال أليس
بأبي أمامة قالوا بلى قال فأذنوا له ودخل فحياه وشرب معه ثم وردت النعم السود ولم
يكن لأحد من العرب بعير أسود يعرف مكانه ولا يفتحل أحد بعيرا أسود غير النعمان فأستأذنه
في أن ينشده كلمته على الباء فأذن له أن ينشده قصيدته التي يقول فيها ( فإِنّك شمسٌ
والملوكُ كواكبٌ ... إذا طلعتْ لم يبدُ منهن كوكبُ ) ووردت عليه مائةٌ من الإِبل السُّود
الكَلْبيّة فيها رعاؤها وبيتها وكلبها فقال شأنك بها يا أبا أمامة فهي لك بما فيها
قال حسان فما أصابني حسد في موضع ما أصابني يومئذ وما أدري أيما كنت أحسد له عليه ألما
أسمع من فضل شعره أم ما أرى من جزيل عطائه فجمعت جراميزي وركبت إلى بلادي وقد روى
الواقدي عن محمد بن صالح الخبر فذكر أن حسان قدم علىجبلة بن أبي شمر ولعله غلط أخبرنا
به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي يوسف قال حدثني عمي إسماعيل عن الواقدي
عن محمد بن صالح قال كان حسان بن ثابت يقدم على جبلة بن الأيهم سنة ويقيم سنة في
أهله فقال لو وفدت على الحارث فإن له قرابة ورحما بصاحبي وهو أبذل الناس لمعروف
وقد يئس مني أن أقدم عليه لما يعرف من انقطاعي إلى جبلة فخرجت في السنة التي كنت
أقيم فيها بالمدينة حتى قدمت على الحارث وقد هيأت مديحا فقال لي حاجبه وكان لي
ناصحا إن الملك قد سر بقدومك عليه وهو لا يدعك حتى تذكر جبلة فإياك أن تقع فيه
فإنه يختبرك فإنك إن وقعت فيه زهد فيك وإن ذكرت محاسنه ثقل عليه فلا تبتدىء بذكره
فإن سألك عنه فلا تطنب في الثناء عليه ولا تعبه امسح ذكره مسحا وجاوزه وإنه سوف
يدعوك الى الطعام وهو يثقل عليه أن يؤكل طعامه أو يشرب شرابه فلا تضع يدك في شيء
حتى يدعوك إليه قال فشكرت له ذلك ثم دعاني فسألني عن البلاد والناس وعن عيشنا في
الحجاز وكيف ما بيننا من الحرب وكل ذلك أخبره حتى انتهى الى ذكر جبلة فقال كيف تجد
جبلة فقد انقطعت إليه وتركتنا فقلت له إنما جبلة منك وأنت منه فلم أجر معه في مدح
ولا ذم وفعلت في الطعام والشراب كما قال لي الحاجب قال ثم قال لي الحاجب قد بلغني
قدوم النابغة وهو صديقه وآنس به وهو قبيح أن يجفوك بعد البر فاستأذنه من الآن فهو
أحسن فاستأذنته فأذن لي وأمر لي بخمسمائة دينار وكسا وحملان فقبضتها وانصرفت إلى أهلي
صوت ( ملوكٌ وإخوانٌ إذا ما لَقِيتُهمْ ... أُحَكَّمُ في أموالهم وأقَرَّبُ ) ( ولكنّني كنتُ
امرأً لِيَ جانبٌ ... من الأرض فيه مُسترادٌ ومطلب ) الغناء لإبراهيم ثقيل أول الجانب هنا
المتسع من الأرض والمستراد المختلف يذهب فيه ويجيء ويقال راد الرجل لأهله إذا خرج
رائدا لهم في طلب الكلإ ونحوه ثم ذكر مستراده فقال ملوك وإخوان ومن القصيدة
العينية صوت ( عَفَا ذو حُساً من فَرْتَنَا فالفوارعُ ... فَجَنْبَا أرِيكٍ فالتِّلاعُ
الدوافعُ ) ( فمُجْتَمَعُ الأشراجِ غَيَّرَ رَسْمَها ... مَصَايِفُ مَرّتْ بعدنا وَمَرَابِعُ ) ( توهّمتُ آياتٍ
لها فعرفتُها ... لِستّة أعوامٍ وذا العامُ سابع ) ( رَمَادٌ ككُحْل العين مَا إنْ
أُبِينُه ... ونُؤْيٌ كجِذْم الحوض أَثْلَمُ خاشع ) غناه معبد من رواية حبش رملا بالبنصر صوت
( آذنتنا
ببينِها أسماءُ ... رُبَّ ثاوٍ يُمَلُ منه الثَّوَاءُ ) ( بعد عَهْدٍ لها ببُرْقة شَمَّا ...
ءَ فأدنَى ديارِها اخصاءُ ) عروضه من الخفيف آذنتنا أعلمتنا والبين الفرقة والثاوي المقيم
يقال ثوى ثواء والبرقة أرض ذات رمل وطين وشماء والخلصاء موضعان الشعر للحارث بن
حلزة اليشكري والغناء لمعبد ثقيل أول بالوسطى عن عمرو ومن الناس من ينسبه إلى حنين
أخبار الحارث بن حلزة ونسبه هو الحارث بن حلزة بن مكروه بن يزيد بن عبد الله بن
مالك بن عبد بن سعد بن جشم بن عاصم بن ذبيان بن كنانة بن يشكر بن بكر بن وائل بن
قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار مناسبة قصيدته
المعلقة قال أبو عمرو الشيباني كان من خبر هذه القصيدة والسبب الذي دعا الحارث إلى
قولها أن عمرو بن هند الملك وكان جبارا عظيم الشأن والملك لما جمع بكرا وتغلب ابني
وائل وأصلح بينهم أخذ من الحيين رهنا من كل حي مائة غلام ليكف بعضهم عن بعض فكان
أولئك الرهن يكونون معه في مسيره ويغزون معه فأصابتهم سموم في بعض مسيرهم فهلك
عامة التغلبيين وسلم البكريون فقالت تغلب لبكر أعطونا ديات أبنائنا فإن ذلك لكم
لازم فأبت بكر بن وائل فاجتمعت تغلب إلى عمرو بن كلثوم وأخبروه بالقصة فقال عمرو
ابن كلثوم لتغلب بمن ترون بكرا تعصب أمرها اليوم قالوا بمن عسى إلا برجل من أولاد
ثعلبة قال عمرو أرى والله الأمر سينجلي عن أحمر أصلج أصم من بني يشكر فجاءت بكر
بالنعمان بن هرم أحد بني ثعلبة بن غنم بن يشكر وجاءت تغلب بعمرو بن كلثوم فلما اجتمعوا
عند الملك قال عمرو بن كلثوم للنعمان بن هرم يا أصم جاءت بك أولاد ثعلبة تناضل
عنهم وهم يفخرون عليك فقال النعمان وعلى من أظلت السماء كلها يفخرون ثم لا ينكر
ذلك فقال عمرو بن كلثوم له أما والله لو لطمتك لطمة ما أخذوا لك بها فقال له
النعمان والله لو فعلت ما أفلت بها قيس أير أبيك فغضب عمرو بن هند وكان يؤثر بني
تغلب على بكر فقال يا جارية أعطيه لحيا بلسان أنثى أي سبية بلسانك فقال أيها الملك
أعط ذلك أحب أهلك إليك فقال يا نعمان أيسرك أني أبوك قال لا ولكن وددت أنك أمي فغضب
عمرو بن هند غضبا شديدا حتى هم بالنعمان وقام الحارث بن حلزة فارتجل قصيدته هذه
ارتجالا توكأ على قوسه وأنشدها وانتظم كفه وهو لا يشعر من الغضب حتى فرغ منها قال
ابن الكلبي أنشد الحارث عمرو بن هند هذه القصيدة وكان به وضح فقيل لعمرو بن هند إن
به وضحا فأمر أن يجعل بينه وبينه ستر فلما تكلم أعجب بمنطقه فلم يزل عمرو يقول
أدنوه حتى أمر بطرح الستر وأقعده معه قريبا منه لإعجابه به هذه رواية أبي عمرو وذكر
الأصمعي نحوا من ذلك وقال أخذ منهم ثمانين غلاما من كل حي وأصلح بينهم بذي المجاز
وذكر أن الغلمان من بني تغلب كانوا معه في حرب فأصيبوا وقال في خبره إن الحارث بن
حلزة لما ارتجل هذه القصيدة بين يدي عمرو قام عمرو بن كلثوم فارتجل قصيدته قفي قبل
التفرق يا ظعينا وغير الأصمعي ينكر ذلك وينكر أنه السبب في قول عمرو بن كلثوم وذكر
ابن الكلبي عن أبيه ان الصلح كان بين بكر وتغلب عن المنذر بن ماء السماء وكان قد
شرط أي رجل وجد قتيلا في دار قوم فهم ضامنون لدمه وإن وجد بين محلتين قيس ما
بينهما فينظر أقربهما إليه فتضمن ذلك القتيل وكان الذي ولي ذلك واحتمى لبني تغلب
قيس بن شراحيل بن مرة بن همام ثم إن المنذر أخذ من الحيين أشرافهم وأعلامهم فبعث
بهم إلى مكة فشرط بعضهم على بعض وتواثقوا على ألا يبقي واحد منهم لصاحبه غائلة ولا
يطلبه بشيء مما كان من الآخر من الدماء وبعث المنذر معهم رجلا من بني تميم يقال له
الغلاق وفي ذلك يقول الحارث بن حلزة (
فهَلاَّ سَعَيْتَ لصُلْح الصَّدِيِقِ ... كصُلح ابن
مَارِيةَ الأقصم ) ( وقَيْسٌ تداركَ بَكْرَ العِرَاقِ ... وتَغْلِبَ من شرِّها
الأعظم ) ( وبيتُ شَرَاحيلَ في وائلٍ ... مكانَ الثُرَيَّا من الأَنْجُمِ ) ( فأصلَح ما
أفسدوا بينهم ... كذلك فِعْلُ الفتى الأكرم ) ابن مارية هو قيس بن شراحيل ومارية
أمه بنت الصباح بن شيبان من بني هند فلبثوا كذلك ما شاء الله وقد أخذ المنذر من
الفريقين رهنا بأحداثهم فمتى التوى أحد منهم بحق صاحبه أقاد من الرهن فسرح النعمان
ابن المنذر ركبا من بني تغلب إلى طيىء في أمر من أمره فنزلوا بالطرفة وهي لبني
شيبان وتيم اللات فذكروا أنهم أجلوهم عن الماء وحملوهم على المفازة فمات القوم
عطشا فلما بلغ ذلك بني تغلب غضبوا وأتوا عمرو بن هند فاستعدوه على بكر وقالوا
غدرتم ونقضتم العهد وانتهكتم الحرمة وسفكتم الدماء وقالت بكر أنتم الذين فعلتم ذلك
قذفتمونا بالعضيهة وسمعتم الناس بها وهتكتم الحجاب والستر بادعائكم الباطل علينا قد
سقيناهم إذ وردوا وحملناهم على الطريق إذ خرجوا فهل علينا إذ حار القوم وضلوا
ويصدق ذلك قول الحارث بن حلزة (
لم يَغُرُّوكُمُ غُرُوراً ولكن ... يَرفَع الآلُ
جِرْمَهم والضَّحاءُ ) ابو عمرو الشيباني يعجب لارتجاله معلقته في موقف واحد وقال
يعقوب بن السكيت كان أبو عمرو الشيباني يعجب لارتجال الحارث هذه القصيدة في موقف
واحد ويقول لو قالها في حول لم يلم قال وقد جمع فيها ذكر عدة من أيام العرب عير
ببعضها بني تغلب تصريحا وعرض ببعضها لعمرو بن هند فمن ذلك قوله ( أعلينا جُنَاحُ
كِنْدَةَ أن يغنَمَ ... غازيهمُ ومِنّا الجزاءُ ) قال وكانت كندة قد كسرت الخراج على
الملك فبعث اليهم رجالا من بني تغلب يطالبونهم بذلك فقتلوا ولم يدرك بثأرهم فعيرهم
بذلك هكذا ذكر الأصمعي وذكر غيره أن كندة غزتهم فقتلت وسبت واستاقت فلم يكن في ذلك
منهم شيء ولا أدركوا ثأرا قال وهكذا البيت الذي يليه وهو ( أم علينا جَرّى قُضَاعَةَ أم ليس ...
علينا فيما جَنَوْا أنداء ) فإنه عيره بأن قضاعة كانت غزت بني تغلب ففعلت بهم فعل كندة ولم
يكن منهم في ذلك شيء ولا أدركوا منهم ثأرا قال وقوله ( أم علينا جَرّى حَنِيفَة أم ما ...
جَمَّعتْ من مُحارِبٍ غَبْرَاءُ
) قال وكانت حنيفة محالفة لتغلب على بكر فأذكر الحارث
عمرو بن هند بهذا البيت قتل شمر بن عمرو الحنفي أحد بني سحيم المنذر بن ماء السماء
غيلة لما حارب الحارث بن جبلة الغساني وبعث الحارث إلى المنذر بمائة غلام تحت لواء
شمر هذا يسأله الأمان على أن يخرج له عن ملكه ويكون من قبله فركن المنذر إلى ذلك
وأقام الغلمان معه فاغتاله شمر بن عمرو الحنفي فقتله غيلة وتفرق من كان مع المنذر
وانتهبوا عسكره فحرضه بذلك على حلفاء بني تغلب بني حنيفة قال وقوله ( وثمانون من تميمٍ
بأيديهمْ ... رِماحٌ صدورُهنّ القَضَاءُ ) يعني عمرا أحد بني سعد بن مناة زيد
خرج في ثمانين رجلا من تميم فأغار على قوم من بني قطن من تغلب يقال لهم بنو رزاح
كانوا يسكنون أرضا تعرف بنطاع قريبة من البحرين فقتل فيهم وأخذ أموالا كثيرة فلم
يدرك منه بثأر قال وقوله ( ثمّ خَيْلٌ من بعد ذاك مع الغَلاّق ... لا رأفةٌ ولا إبقاءُ ) قال الغلاق صاحب
هجائن النعمان بن المنذر وكان من بني حنظلة ابن زيد مناة تميميا وكان عمرو بن هند
دعا بني تغلب بعد قتل المنذر إلى الطلب بثأره من غسان فامتنعوا وقالوا لا نطيع
أحدا من بني المنذر أبدا أيظن ابن هند أنا له رعاء فغضب عمرو بن هند وجمع جموعا
كثيرة من العرب فلما اجتمعت آلى ألا يغزو قبل تغلب أحدا فغزاهم فقتل منهم قوما ثم
استعطفه من معه لهم واستوهبوه جريرتهم فأمسك عن بقيتهم وطلت دماء القتلى فذلك قول الحارث
( مَنْ
أصابوا من تَغْلِبِيٍّ فمطلولٌ ... عليه إذا تولّى العَفَاء ) ثم اعتد على عمرو بحسن بلاء بكر عنده
فقال ( مَنْ لنا عنده من الخير آياتٌ ... ثلاثٌ في كلِّهن القضاءُ ) ( آيةٌ شارِقُ
الشَّقِيقةِ إذا جاءوا ... جميعاً لكل حيٍّ لِواءُ ) ( حولَ قَيْسٍ مُسْتَلْئِمين بِكَبْشٍ
... قَرَظِيٍّ كأنه عَبْلاء ) (
فَردَدْنَاهُمُ بضَرب كما يخرُج ... من خُرْبة المَزَادِ
الماءُ ) ( ثم حُجْراً أعني ابنَ أمِّ قَطامٍ ... وله فارسيةٌ خضراءُ ) ( أسَدٌ في
اللِّقاء ذو أشبالٍ ... وربيعٌ إن شَنَّعتْ غَبْرَاء ) ( فرددناهُمُ بطعن كما تُنْهَزُ ...
في جُمّة الطّوِي الدِّلاء ) ( وفَكَكْنا غُلَ امرىء القيسِ عنه ... بعدما طال حَبْسُه
والعناء ) ( وأقَدْناه رَبَّ غَسّان بالمُنْذِرِ ... كَرْهاً وما تُكَال الدِّماء ) ( وفديناهُمُ
بتسعةِ أملاكٍ ... كرامٍ اسلابُهم أغلاء ) ( ومع الجَوْنِ آل بني الأَوْسِ ...
عَنُودٌ كأنها دَفْوَاء ) يعني بهذه الأيام أياما كانت كلها لبكر مع المنذر فمنها يوم
الشقيقة وهم قوم من شيبان جاؤوا مع قيس بن معد يكرب ومعه جمع عظيم من أهل اليمن
يغيرون على إبل عمرو بن هند فردتهم بنو يشكر وقتلوا فيهم ولم يوصل إلى شيء من إبل عمرو
بن هند ومنها يوم غزا حجر الكندي وهو حجر بن أم قطام امرأ القيس وهو ماء السماء بن
المنذر لقيه ومع حجر جمع كثير من كندة وكانت بكر مع امرىء القيس فخرجت إلى حجر
فردته وقتلت جنوده وقوله ( ففككنا غل امرىء القيس عنه ... ) وكانت غسان أسرته يوم قتل المنذر
أبيه فأغارت بكر بن وائل على بعض بوادي الشام فقتلوا ملكا من ملوك غسان واستنقذوا
امرأ القيس بن المنذر وأخذ عمرو بن هند بنتا لذلك الملك يقال لها ميسون وقوله
وفديناهم بتسعة يعني بني حجر آكل المرار وكان المنذر وجه خيلا من بكر في طلب بني
حجر فظفرت بهم بكر بن وائل فأتوا المنذر بهم وهم تسعة فأمر بذبحهم في ظاهر الحيرة
فذبحوا بمكان يقال له جفر الأملاك قال والجون جون آل بني الأوس ملك من ملوك كندة
وهو ابن عم قيس بن معد يكرب وكان الجون جاء ليمنع بني آكل المرار ومعه كتيبة خشناء
فحاربته بكر فهزموه وأخذوا بني الجون فجاؤوا بهم إلى المنذر فقتلهم قال فلما فرغ
الحارث من هذه القصيدة حكم عمرو بن هند أنه لا يلزم بكر بن وائل ما حدث على رهائن
تغلب فتفرقوا على هذه الحال ثم لم يزل في نفسه من ذلك شيء حتى هم باستخدام أم عمرو
بن كلثوم تعرضا لهم وإذلالا فقتله عمرو بن كلثوم وخبره يذكر هناك قال يعقوب بن
السكيت أنشدني النضر بن شميل للحارث بن حلزة وكان يستحسنها ويستجيدها ويقول لله
دره ما أشعره صوت ( مَنْ حاكمٌ بيني وبين ... الدَّهْر مالَ عليّ عَمْدَا ) ( أودَى بسادتنا
وقد ... تركوا لنا حَلَقاً وجُرْدا
) ( خيلي وفارسُها ورَبِّ ... أبيك كان أعزَّ فَقْدا ) ( فَلَو أنَّ ما
يَأْوِي إلَيَّ ... أصاب من ثَهْلاَنَ هَدا ) ( فَضَعِي قِنَاعَكِ إنَّ رَيْبَ ...
الدَّهْرِ قد أفنَى مَعَدّا ) (
فَلَكَمْ رأيتُ مَعَاشِراً ... قد جَمَّعُوا مالاً
ووُلْدا ) ( وهُمُ زَبَابٌ حائرٌ ... لا تَسْمَعُ الآذانُ رَعْدا ) ( فَعِشْ بجَدٍ لا يَضِرْك ...
النُّوك ما لاقيت جَدَّا ) ( والعَيْشُ خَيرٌ في ظِلاَلِ ... النُّوك ممن عاش كَدَّا ) في البيت الأول
من القصيدة والبيتين الأخيرين خفيف ثقيل أول بالوسطى لعبد الله بن العباس الربيعي
ومن الناس من ينسبه إلى بابويه صوت (
ألاَ هُبِّي بِصَحْنِك فَاصْبَحِينا ... ولا تُبْقي
خمورَ الأندَرِينا ) ( مَشَعْشَعةً كأنّ الحُصَّ فيها ... إذا ما الماءُ خالطها
سَخِينَا ) عروضه من الوافر الشعر لعمرو بن كلثوم التغلبي والغناء لإسحاق ثقيل أول
بالخنصر في مجرى الوسطى من روايته وفيه لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو نسب
عمرو بن كلثوم وخبره هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن
بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى ابن دعمي بن
جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وأم عمرو بن كلثوم ليلى بنت مهلهل
أخي كليب وأمها بنت بعج بن عتبة بن سعد بن زهير أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال
حدثني العكلي عن العباس بن هشام عن أبيه عن خراش بن إسماعيل عن رجل من بني تغلب ثم
من بني عتاب قال سمعت الأخذر وكان نسابة يقول لما تزوج مهلهل بنت بعج بن عتبة
أهديت إليه فولدت له ليلى بنت مهلهل فقال مهلهل لإمرأته هند أقتليها فأمرت خادما
لها أن تغيبها عنها فلما نام هتف به هاتف يقول ( كم من فتىً يُؤَمَّلْ ... وسَيِّدٍ
شَمَرْدَلْ ) ( وعُدَّةٍ لا تُجْهَلْ ... في بطن بنت مهلهلْ ) واستيقظ فقال
ياهند أين بنتي قالت قتلتها قال كلا وإله ربيعة فكان أول من حلف بها فاصدقيني
فأخبرته فقال أحسني غذاءها فتزوجها كلثوم بن مالك بن عتاب فلما حملت بعمرو بن
كلثوم قالت إنه أتاني آت في المنام فقال ( يا لَك ليلى من وَلَدْ ... يُقْدِمُ
إقدام الأَسَدْ ) ( من جُشَمٍ فيه العَدَدْ ... أقولُ قِيلاً لافَنَدْ ) فولدت غلاما
فسمته عمرا فلما أتت عليه سنة قالت أتاني ذلك الآتي في الليل أعرفه فأشار إلى
الصبي وقال ( إِنِّي زعيمٌ لكِ أُمَّ عَمْرِو ... بماجِد الجَدِّ كريمِ النَّجْرِ ) ( أشجعَ من ذي
لِبَدٍ هِزَبْرِ ... وَقَّاصِ أقرانٍ شديدِ الأَسْرِ ) ( يسودُهم في خمسةٍ وعشر ... ) قال الأخذر
فكان كما قال ساد وهو ابن خمسة عشر ومات وله مائة وخمسون سنة قصة قتله لعمرو بن
هند قال أبو عمرو حدثني أسد بن عمر الحنفي وكرد بن السمعي وغيرهما وقال ابن الكلبي
حدثني أبي وشرقي بن القطامي وأخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة أن عمرو بن هند
قال ذات يوم لندمائه هل تعلمون أحدا من العرب تأنف أمه من خدمة أمي فقالوا نعم أم
عمرو بن كلثوم قال ولم قالوا لأن أباها مهلهل بن ربيعة وعمها كليب وائل أعز العرب
وبعلها كلثوم بن مالك أفرس العرب وابنها عمرو وهو سيد قومه فأرسل عمرو بن هند إلى
عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزير أمه أمه فأقبل عمرو من الجزيرة إلى الحيرة
في جماعة بني تغلب وأقبلت ليلى بنت مهلهل في ظعن من بني تغلب وأمر عمرو بن هند
برواقة فضرب فيما بين الحيرة والفرات وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا في وجوه
بني تغلب فدخل عمرو بن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه ودخلت ليلى وهند في قبة من جانب
الرواق وكانت هند عمة امرىء القيس بن حجر الشاعر وكانت أم ليلى بنت مهلهل بنت أخي فاطمة
بنت ربيعة التي هي أم امرىء القيس وبينهما هذا النسب وقد كان عمرو بن هند أمر أمه
أن تنحي الخدم إذا دعا بالطرف وتستخدم ليلى فدعا عمرو بمائدة ثم دعا بالطرف فقالت
هند ناوليني يا ليلى ذلك الطبق فقالت ليلى لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها فأعادت
عليها وألحت فصاحت ليلى واذلاه يا لتغلب فسمعها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه
ونظر إليه عمرو بن هند فعرف الشر في وجهه فوثب عمرو بن كلثوم إلى سيف لعمرو بن هند
معلق بالرواق ليس هناك سيف غيره فضرب به رأس عمرو بن هند ونادى في بني تغلب
فانتهبوا ما في الرواق وساقوا نجائبه وساروا نحو الجزيرة ففي ذلك يقول عمرو بن
كلثوم ( ألاَ هُبِّيِّ بِصَحْنِك فَاصْبَحينا ... ) وكان قام بها خطيبا بسوق عكاظ
وقام بها في موسم مكة وبنو تغلب تعظمها جدا ويرويها صغارهم وكبارهم حتى هجوا بذلك
قال بعض شعراء بكر بن وائل ( ألْهَى بني تَغْلِبٍ عن كل مَكْرُمةٍ ... قصيدةٌ قالها عمرو بن
كلثومِ ) ( يَرْوُونها أبداً مذ كان أوَّلُهم ... يا للرجالِ لِشِعْرٍ غيرِ مسؤومِ ) شعراء تغلب
يفخرون بقتله عمرو بن هند وقال الفرزدق يرد على جرير في هجائه الأخطل ( ما ضَرَّ
تَغْلِبَ وائلٍ أهجوتَها ... أم بُلْتَ حيث تَنَاطَحَ البحرانِ ) ( قومٌ هُمُ
قتلوا ابنَ هندٍ عَنْوةً ... عمراً وهم قَسَطوا على النُّعْمان ) وقال أفنون صريم التغلبي
يفخر بفعل عمرو بن كلثوم في قصيدة له (
لَعَمْرُك ما عمرُو بن هندٍ وقد دعا ... لتخدِمَ ليلى
أُمَّه بموفَّقِ ) ( فقام ابنُ كُلْثُومٍ إلى السيف مُصْلِتاً ... فأمسك من
نَدْمانه بالمُخَنِّق ) ( وجللّه عمروٌ على الرأس ضربةً ... بذي شُطَبٍ صافي الحديدة رَوْنَقِ ) وقال وكان لعمرو
أخ يقال له مرة بن كلثوم فقتل المنذر بن النعمان وأخاه وإياه عنى الأخطل بقوله
لجرير ( أبني كُلَيْبٍ إنَّ عَمَّيَّ اللّذا ... قتلا الملوكَ وفكّكا الأغلالا ) وكان لعمرو بن
كلثوم ابن يقال له عباد وهو قاتل بشر بن عمرو بن عدس ولعمرو بن كلثوم عقب باق
ومنهم كلثوم بن عمرو العتابي الشاعر صاحب الرسائل أسره يزيد بن عمرو ثم أطلقه
فمدحه أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن الأحول عن ابن
الأعرابي قال أغار عمرو بن كلثوم التغلبي على بني تميم ثم مر من غزوه ذلك على حي
من بني قيس بن ثعلبة فملأ يديه منهم وأصاب أسارى وسبايا وكان فيمن أصاب أحمد بن جندل
السعدي ثم انتهى إلى بني حنيفة باليمامة وفيهم أناس من عجل فسمع به أهل حجر فكان
أول من أتاه من بني حنيفة بنو سحيم عليهم يزيد بن عمرو بن شمر فلما رآهم عمرو بن
كلثوم ارتجز فقال ( مَنْ عاذَ مِنِّي بعدَها فلا اجْتَبَرْ ... ولا سقى الماء ولا
أرعى الشَّجَرْ ) ( بنو لُجَيْمٍ وجعاسيسُ مُضَرْ ... بجانب الدَّوِّ يُدَهْدُون
العَكَرْ ) فانتهى إليه يزيد بن عمرو فطعنه فصرعه عن فرسه وأسره وكان يزيد شديدا
جسيما فشده في القد وقال له أنت الذي تقول ( متى تُعْقَدْ قَرِينتُنَا بحَبْلٍ ...
تَجذّ الحبلَ أو تَقِص القَرينا
) أما إني سأقرنك إلى ناقتي هذه فأطردكما جميعا فنادى
عمرو بن كلثوم يالربيعة أمثلة قال فاجتمعت بنو لجيم فنهوه ولم يكن يزيد ذلك به فسار
به حتى أتى قصرا بحجر من قصورهم وضرب عليه قبة ونحر له وكساه وحمله على نجيبه
وسقاه الخمر فلما أخذت برأسه تغنى (
أأجْمَعَ صُحْبتي السِّحَرَ ارتحالاَ ... ولم اشعُرْ
بِبَيْنٍ مِنِكِ هَالاَ ) ( ولم أرَ مثل هالةَ في مَعَدٍّ ... أُشَبِّه حسنَها إلاَّ
الهِلالا ) ( ألاَ أبِلِغْ بني جُشَمَ بنِ بكرٍ ... وتَغْلِبَ كلّما أتَيَا حِلاَلا ) ( بأنّ الماجدَ
القَرْمَ ابنَ عمروٍ ... غداةَ نَطَاعِ قد صَدَقَ القِتَالا ) ( كَتِيبَتُهُ مُلَمْلَمَةٌ رَدَاحٌ
... إذا يرمونها تُفْنِي النِّبالا
) ( جزى اللّه الأغَرَّ يزيدَ خيراً ... وَلَقَّاه
المَسَرَّةَ والجَمَالا ( بمأخذِه ابنَ كُلْثوم بنِ عَمْروٍ ... يزيدَ الخيرِ نازَلَه
نِزَالا ) ( بجمعٍ من بني قُرَّانَ صيدٍ ... يَجِيلون الطِّعان إذا أجالا ) ( يزيد يقدم
السفراء حتى ... يُرَوِّي صَدْرَها الأسَلَ النِّهالا ) أخبرني علي بن سليمان قال أخبرنا
الأحول عن ابن الأعرابي قال زعموا أن بني تغلب حاربوا المنذر بن ماء السماء فلحقوا
بالشأم خوفا منه فمر بهم عمرو بن أبي حجر الغساني فتلقاه عمرو بن كلثوم فقال له يا
عمرو ما منع قومك أن يتلقوني فقال له يا عمرو يا خير الفتيان فإن قومي لم يستيقظوا
لحرب قط إلا علا فيها أمرهم واشتد شأنهم ومنعوا ما وراء ظهورهم فقال له أيقاظ نومة
ليس فيها حلم أجتث فيها أصولهم وأنفى فلهم إلى اليابس الجرد والنازح الثمد فانصرف
عمرو بن كلثوم وهو يقول ( ألاَ فاعلَمْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ أنّا ... على عَمْدٍ سنأتي ما
نُرِيدُ ) ( تَعَلَّمْ أنّ مَحْمَلَنا ثقيلٌ ... وأنّ زنادَ كبتنا شديد ) ( وأنّا ليس
حَيٌّ من مَعَدٍّ ... يُوَازينا إذا لُبِس الحديدُ ) هجا النعمان بن المنذر قال وقال ابن
الأعرابي بلغ عمرو بن كلثوم أن النعمان بن المنذر يتوعده فدعا كاتبا من العرب فكتب
إليه ( ألاَ أَبِلغِ النُّعْمَانَ عنِّي رسالةً ... فمَدْحُكَ حَوِليٌّ وذَمُّك قارحُ ) ( متى تَلْقَني
في تَغْلِبَ ابنةِوائلٍ ... وأشياعها ترقَى إليك المسالح ) وهجا النعمان بن المنذر هجاء كثيرا
منه قوله يعيره بأمه سليمى ( حَلَّتْ سُلَيْمَى بَخْبتٍ بعد فِرْتَاجِ ... وقد تكون قديماً
في بني ناج ) ( إذ لا تُرَجِّي سُلَيْمَى أن يكونَ لَها ... مَنْ بالخَوَرْنَق
من قَيْنٍ وَنَسَّاج ) ( ولا يكونَ على أبوابها حَرَسٌ ... كما تلفَّف قِبْطيٌّ
بِدِيباج ) ( تمشِي بِعِدْلَيْنِ من لُؤْمٍ وَمَنْقَصةٍ ... مَشْيَ المقيَّدِ في اليَنْبُوت
والحاج ) قال وقال في النعمان ( لحا اللّه أدنانا إلى اللُّؤْمِ زُلْفَةً ... وألأَمَنا خالاً
وأعجزَنَا أبَا ) ( وأجْدَرَنا أن ينفُخَ الكِيرَ خالُه ... يصوغُ القُروطَ
والشُّنوفَ بِيَثْرِبَا ) أخبرني الحسين بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال
حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني علي بن المغيرة عن ابن الكلبي عن رجل من النمر بن
قاسط قال لما حضرت عمرو بن كلثوم الوفاة وقد أتت عليه خمسون ومائة سنة جمع بنيه
فقال يا بني قد بلغت من العمر مالم يبلغه أحد من آبائي ولا بد أن ينزل بي ما نزل
بهم من الموت وإني والله ما عيرت أحدا بشيء إلا عيرت بمثله إن كان حقا فحقا وإن
كان باطلا فباطلا ومن سب سب فكفوا عن الشتم فإنه أسلم لكم وأحسنوا جواركم يحسن
ثناؤكم وامنعوا من ضيم الغريب فرب رجل خير من ألف ورد خير من خلف وإذا حدثتم فعوا
وإذا حدثتم فأوجزوا فإن مع الإكثار تكون الأهذار وأشجع القوم العطوف بعد الكر كما
أن أكرم المنايا القتل ولا خير فيمن لا روية له عند الغضب ولا من إذا عوتب لم يعتب
ومن الناس من لا يرجى خيره ولا يخاف شره فبكؤه خير من دره وعقوقه خير من بره ولا
تتزوجوا في حيكم فإنه يؤدي إلى قبيح البغض صوت ( لِمَنِ الديارُ ببُرْقَةِ
الرَّوْحان ... إذ لا نَبِيع زمانَنَا بزمانِ ) ( صدَع الغواني إذ رَمَيْنَ فؤادَه
... صَدْعَ الزُّجاجة ما لذاك تَدَاني
) ( إن زرتُ أهلَكِ لم أُنوَّلْ حاجةً ... وإذا هجرتُكِ
شفّني هِجْراني ) الشعر لجرير يهجو الأخطل ويرد عليه حكومته التي حكم بها
للفرزدق عليه والغناء فيما ذكره علي بن يحيى المنجم في كتابه الذي لقبه بالمحدث
لمعبد ثقيل أول بالوسطى وذكر الهشامي أنه لحنين قال ويقال إنه لمعبد وفيه ليزيد
حوراء لحن ذكره عبد الملك بن موسى عنه وقال لا أدري أهو الثقيل الأول أم خفيف
الرمل وذكر حبش أن الثقيل الأول للغريض وأن خفيف الرمل بالبنصر للدلال ذكر الخبر
عن السبب في اتصال الهجاء بين جرير والأخطل سبب النقائض بين جرير والأخطل أخبرني
علي بن سليمان الأخفش ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد
بن حبيب عن أبي عبيدة وعن أبي غسان دماذ عن أبي عبيدة وأخبرني محمد بن يحيى قال
حدثنا أبو ذكوان القاسم بن إسماعيل قال حدثنا أبو غسان عن أبي عبيدة وأخبرنا
الصولي عن إبراهيم بن المعلى الباهلي عن الطوسي عن ابن الأعرابي وأبي عمرو
الشيباني وقد جمعت رواياتهم قال أبو عبيدة حدثني عامر بن مالك المسمعي قال كان
الذي هاج التهاجي بين جرير والأخطل أنه لما بلغ الأخطل تهاجي جرير والفرزدق قال
لابنه مالك وهو أكبر ولده وبه كان يكنى انحدر إلى العراق حتى تسمع منهما وتأتيني
بخبرهما فانحدر مالك حتى لقيهما وسمع منهما ثم أتى أباه فقال له كيف وجدتهما قال
وجدت جريرا يغرف من بحر ووجدت الفرزدق ينحت من صخر فقال الأخطل الذي يغرف من بحر
أشعرهما وقال يفضل جريرا على الفرزدق (
إِنِّي قضيتُ قضاءً غيرَ ذي جَنَفٍ ... لَمّا سمعتُ
ولمّا جاءني الخَبَرُ ) ( أنّ الفرزدقَ قد شالت نَعَامتُه ... وعضّه حيّةٌ من قومه
ذَكَرُ ) وفي رواية ابن الأعرابي قد سال الفرات به قال أبو عبيدة ثم إن بشر بن
مروان دخل الكوفة فقدم عليه الأخطل فبعث إليه محمد بن عمير بن عطارد بن حاجب بن
زرارة بألف درهم وكسوة وبغلة وخمر وقال له لا تعن علي شاعرنا واهج هذا الكلب الذي
يهجو بني دارم فإنك قد قضيت على صاحبنا فقل أبياتا واقض لصاحبنا عليه فقال الأخطل ( أجريرُ إنّكَ
والذي تسمو له ... كأَسِيفةٍ فَخَرَتْ بِحِدْجِ حَصَانِ ) ( عَمِلتْ لربَّتها فلما عُولِيتْ ...
نَسَلتْ تعارضها مع الرُّكْبَان
) ( أتَعُدُّ مأثرةً لغيرك فخرُها ... وثناؤها في سالف
الأزمان ) ( تاجُ الملوك وفخرُهم في دارمٍ ... أيَّام يَرْبوعٌ من الرُّعيان ) وهي طويلة يقول
فيها ( فاخسَأْ إليك كُلَيْبُ أنّ مُجَاشِعاً ... وأبا الفوارس نَهْشَلاً أَخَوَانِ ) ( سبقوا أباك
بكلّ أعْلَى تَلْعةٍ ... في المجد عند مَوَاقف الرُّكبان ) ( قومٌ إذا خَطَرتْ عليك قُرومُهم ...
ألقتْكَ بين كَلاَكِلٍ وجِرَانِ
) ( وإذا وضعتَ أباك في ميزانهم ... رجَحوا وشال أبوك في
الميزان ) وقال جرير يرد حكومة الأخطل (
لِمَنِ الدِّيارُ ببُرْقةِ الرَّوْحَان ... إذ لا
نَبِيعُ زمانَنَا بزمانِ ) وهي طويلة يقول فيها ( يا ذَا الغباوة إنّ بِشْراً قد قَضَى
... ألاّ تجوزَ حكومةُ النَّشْوَانِ )
( فدَعُوا الحكومة لَسْتُمُ من أهلها ... إنَّ الحكومةَ
في بني شيبان ) ( قتلوا كُلَيْبَكُمُ بِلِقْحَةِ جارِهم ... يا خُزْرَتَغْلِبَ
لستُمُ بِهِجَان ) ومما غني فيه من نقائض جرير والأخطل صوت ( أناخُوا فجَرُّوا
شَاصِياتٍ كأنّها ... رجالٌ من السُّودان لم يَتَسَرْبَلُوا ) ( فقلتُ اصْبَحُوني لا أبَا لأبيكُمُ
... وما وضعوا الأثقالَ إلا ليفعلوا
) ( تمرُّ بها الأيدي سنِيحاً وبارحاً ... وتُرْفَعُ
باللَّهُمًّ حَيَّ وتُنْزَلُ ) الشاصيات الشائلات القوائم من امتلائها وعنى بالشاصيات ها هنا
الزقاق لأنها إذا امتلأت شالت أكارعها يقال شصا برجله إذا رفعها وشصا ببصره إذا شخص
قال الراجز يصف الشاخص ( وبَقَرٍ خِمَاصِ ... يَنْظُرْنَ من خَصَاصِ ) ( بأعيُنٍ
شَوَاصِي ... كفِلَق الرَّصاص )
والسانح والسنيح ما جاء عن يمينك يريد شمالك والبارح ما
جاء عن شمالك يريد يمينك والجابه ما جاء من أمامك مواجها لك والقعيد والخفيف ما
جاء من ورائك شبه دور الكأس واختلافها بينهم بالسوانح والبوارح الشعر للأخطل
والغناء لمالك فيه لحنان كلاهما له أحدهما رمل بالبنصر في مجراها في الأبيات
الثلاثة على الولاء من رواية إسحاق والآخر خفيف رمل بالوسطى في الثالث ثم الأول
والثاني عن عمرو وذكر عمرو أن الرمل أيضا لابن سريج وأنه بالوسطى وفيه لإبراهيم
رمل بالبنصر في الأول والثاني عن الهشامي وعمرو وفيه لابن محرز خفيف ثقيل أول
بالبنصر عن عمرو والهشامي ومنها صوت (
خَفّ القَطِينُ فراحُوا منك أو بَكَرُوا ... وأزعجتْهم
نَوىً في صَرْفها غِيَر ) ( كأنَّني شاربٌ يوم استُبِدَّ بهم ... من قَرْقَفٍ ضُمِّنَتْها
حِمْصُ أو جَدَرُ ) ( جادت بها من ذوات القارِ مُتْرَعةٌ ... كَلْفاءُ يَنْحَتُّ من
خُرْطومها المَدَرُ ) ( يا قاتلَ اللهُ وَصْلَ الغانياتِ إذا ... أيقنَّ أنّك ممن قد
زَهَا الكِبَرُ ) ( أعْرَضْنَ لمّا حَنَى قَوْسِي مُوَتِّرُها ... وابيضَّ بعد
سواد اللِّمّةِ الشَّعَرُ ) استبد بهم أي علي عليهم والقرقف التي تأخذ شاربها رعدة لشدتها والكلفاء
الخابية في لونها كلف وقوله زها الكبر يعني استخفه وأضعفه يقال زهاه وازدهاه وقال
أبو عبيدة الأصل في زهاه رفعه فكأنه أراد أنه رفعه في علو سنه عما يردن منه واللمة
الشعر المجتمع الشعر للأخطل يمدح عبد الملك بن مروان ويهجو قيسا وبني كليب ويقول
فيها ( أمّا كُلَيْبُ بنُ يَرْبُوعٍ فليس لها ... عند التفاخُرِ إيرادٌ ولا صَدَرُ ) ( مُخَلَّفُون
ويقضِي الناسُ أمرَهُمُ ... وهُمْ بغَيْبٍ وفي عَمْيَاءَ ما شَعَرَوا ) ( مُلَطَّمُون
بأعقارِ الحِيَاضِ فما ... ينفكُّ من دَارِميٍّ فيهمُ أثَرُ ) ( بئس الصُّحاةُ وبئس الشَّرْبُ
شَرْبُهُمُ ... إذا جرى فيهمُ المُزَّاء والسَّكَرُ ) ( قومٌ تناهتْ إليهم كلُّ مُخْزِيَةٍ
... وكلُّ فاحشةٍ سُبَّتْ بها مُضَرُ
) ( الآكلون خبيثَ الزَّادِ وحْدَهُمُ ... والسائلونَ
بظَهْر الغَيْبِ ما الخبرُ ) وهذه القصيدة من فاخر شعر الأخطل ومقدمه ومما غلب فيه علىجرير
وقد احتاج جرير إلى سلخ بيته هذا الأخير فرده عليه بعينه في نقيضة هذه القصيدة
وضمنه بيتين من شعره فقال ( الآكلون خبيثَ الزَّاد وحدَهُم ... والنازلون إذا وَاراهُمُ
الخَمَرُ ) ( والظاعنون على العَمْياء إن رَحَلوا ... والسائلون بظهر الغيب ما الخبر ) وفي هذه القصيدة
يقول الأخطل يمدح عبد الملك ( إلى امرىء لا تُعَرِّينا نوافلُهُ ... أظْفَره الله
فَلْيَهْنِىءْ له الظَّفَر ) ( الخائِضُ الغَمْر والميمون طائرُه ... خليفةُ اللَّه
يُسْتَسْقَى به المطرُ ) ( والهَمُّ بعد نَجِيِّ النفس يَبْعَثه ... بالحَزْمِ
والأَصْمَعَانِ القلبُ والحَذَرُ
) ( وما الفُرَاتُ إذا جاشتْ غواربُهُ ... في حافَتَيْهِ
وفي أوساطِهِ العُشَرُ ) ( وزعزعتْه رياحُ الصَّيْفِ واضطربتْ ... فوقَ الْجَآجِىء من
آذِيِّه غُدُرُ ) ( مُسْحَنْفِرٌ من جبالِ الروم يستُرُه ... منها أكافِيفُ فيها
دونه زَوَرُ ) ( يوماً بأجْوَدَ منه حين تسألُهُ ... ولا بأجهرَ منه حين
يُجْتَهَرُ ) ( في نَبْعةٍ من قُرَيْشٍ يَعْصِبون بها ... ما إِن يُوَازَى
بأعلَى نَبْتها الشجرُ ) ( حُشْدٌ على الخير عَيّافو الخَنَا أُنُفٌ ... إذا ألمّتْ بهم
مكروهةٌ صَبَروا ) ( لا يَسْتَقلّ ذوو الأضغان حربَهُم ... ولا يُبَيِّنُ في
عِيدانهم خَوَرُ ) ( شُمْسُ العداوةِ حتى يُسْتَقادَ لهم ... وأعظمُ الناسِ أحلاماً
إذا قَدَروا ) الرشيد وآدم بن عمر يمدحان شعر الأخطل أخبرنا الحسن بن علي قال
حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا علي بن الصباح عن أبيه أن الرشيد قال لجماعة
من أهله وجلسائه أي بيت مدح به الخلفاء منا ومن بني أمية أفخر فقالوا وأكثروا فقال
الرشيد أمدح بيت وأفخره قول ابن النصرانية في عبد الملك ( شُمْسُ العداوةِ حتى يُستقادَ لهم ...
وأعظمُ الناس أحلاماً إذا قدروا
) أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن
الحارث عن المدائني قال قال المهدي يوما وبين يديه مروان بن أبي حفصة أين ما تقوله
فينا من قولك في أمير المؤمنين المنصور ( له لَحَظَاتٌ عن حِفَافَيْ سَرِيرِه
... إذا كرّها فيها عِقابٌ ونائلُ
) فاعترضه آدم بن عمر بن عبد العزيز فقال هيهات والله يا
أمير المؤمنين أن يقول هذا ولا ابن هرمة كما قال الأخطل ( شُمْسُ العَداوةِ حتى يُسْتقاد لهم ...
وأعظمُ الناسِ أحلاماً إذا قَدَرُوا
) قال فغضب المهدي حتى استشاط وقال كذب والله ابن
النصرانية العاض بظر أمه وكذبت يا عاض بظر أمك والله لولا أن يقال إني خفرت بك
لعرفتك من أكثر شعرا خذوا برجل ابن الفاعلة فأخرجوه عني فأخرجوه على تلك الحال
وجعل يشتمه وهو يجر ويقول يا بن الفاعلة أراها في رؤوسكم وأنفسكم صوت ( إِنِّي
أَرِقتُ ولم يَأْرَقْ معي صاح ... لِمُسْتَكفٍّ بُعَيْدَ النَّومِ لَوّاحِ ) ( دانٍ مُسِفٍّ
فُوَيْقَ الأرضِ هَيْدَبُه ... يكاد يدفعه مَنْ قام بالرَّاحِ ) عروضه من البسيط
الشعر لأوس بن حجر وهكذا رواه الأصمعي أخبرنا بذلك اليزيدي عن الرياشي عنه ووافقه
بعض الكوفيين وغير هؤلاء يرويه لعبيد بن الأبرص والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول
بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى ولحسين بن محرز لحن في البيت الثاني وبعده ( إِنْ أَشْرَبِ
الخمرَ أو أُغْلى بها ثمناً ... فلا مَحَالَةَ يوماً أنني صاح ) وطريقته خفيف
رمل بالوسطى قوله مستكف يعني مستديرا وكل طرة كفة أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي
قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا مهدي يقول وهو يصف شجاعا عرض له
في طريقه تبعني شجاع من هذه الشجعان فمر خلفي كأنه سهم زالج فحدت عنه واستكف كأنه
كفة حابل فرميته فنظرت ثلاثة أثنائه وكذلك يقال كفة الحابل وكفة الميزان بالكسر
والأولى مضمومة ولواح من قولهم لاح يلوح إذا ظهر ومسف قد أسف على وجه الأرض إذا
صار عليها أو قرب منها أو دنا إليها ومن هذا يقال أسف الطائر إذا طار على وجه
الأرض ويقال ذلك للسهم أيضا وهيدبه الذي تراه كالمتعلق بالسحاب يقول هذا السحاب
يكاد من قام أن يمسه ويدفعه براحته لقربه من الأرض وهو أحسن ما وصف به السحاب ذكر
أوس بن حجر وشيء من أخباره وقد اختلف في نسبه فقال الأصمعي فيما أخبرنا به محمد بن
العباس اليزيدي عن الرياشي عنه هو أوس بن حجر بن مالك بن حزن بن عقيل بن خلف بن
نمير وقال ابن حبيب فيما ذكره السكري عنه هو أوس بن حجر من شعراء الجاهلية وفحولها
وذكر أبو عبيدة أنه من الطبقة الثالثة وقرنه بالحطيئة ونابغة بني جعدة فأخبرني
أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال قال أبو عبيدة حدثنا يونس عن
أبي عمرو قال كان أوس شاعر مضر حتى أسقطه النابغة وزهير فهو شاعر تميم في الجاهلية
غير مدافع أخبرنا أحمد قال حدثنا عمر قال حدثنا الأصمعي قال سمعت أبا عمرو يقول
كان أوس بن حجر فحل الشعراء فلما نشأ النابغة طأطأ منه وأما الكلبي فإنه زعم أن من
هذه الطبقة لبيد بن ربيعة والشماخ بن ضرار قال وتميم إلى الآن مقيمة على تقديم أوس
قال ومنهم من يقول بتقديم عدي وأنشد لحارثة بن بدر الغداني ( والشِّعْرُ كان مَبِيتُهُ وَمَظلُّهُ
... عند العِبَاديّ الذي لا يُجْهَلُ
) وقال يعقوب بن سليمان قال حماد أدركت رجالا من بني
تميم لا يفضلون على عدي في الشعر أحدا أخبرني اليزيدي عن الرياشي عن الأصمعي قال
تميم تروي هذه القصيدة الحائية لعبيد وذلك غلط ومن الناس من يخلطها بقصيدته التي
على وزنها ورويها لتشابههما أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد
السكري قال حدثنا علي بن الصباح قال حدثني عبيد الله بن الحسين بن المسود بن وردان
مولى رسول الله قال خرج أعرابي مكفوف ومعه ابنة عم له لرعي غنم لهما فقال الشيخ
أجد ريح النسيم قد دنا فارفعي رأسك فأنظري فقالت أراها كأنها ربرب معزى هزلى قال
ارعي واحذري ثم قال لها بعد ساعة إني أجد ريح النسيم قد دنا فارفعي رأسك فانظري قالت
أراها كأنها بغال دهم تجر جلالها قال ارعي واحذري ثم مكث ساعة ثم قال إني لأجد ريح
النسيم قد دنا فانظري قالت أراها كأنها بطن حمار أصحر فقال ارعي واحذري ثم مكث
ساعة فقال إني لأجد ريح النسيم فما ترين قالت أراها كما قال الشاعر ( دَانٍ مُسِفٍّ
فويقَ الأرضِ هيدبُه ... يكاد يدفعه مَنْ قام بالراحِ ) ( كأنما بين أعلاهُ وأسْفَلِهِ ...
رَيْطٌ مُنَشَّرةٌ أو ضوءُ مصباحِ
) ( فمَنْ بمَحْفِله كمن بنَجْوَتِهِ ... والمُسْتَكِنّ
كَمَنْ يمشي بِقرواح ) فقال انجي لا أبالك فما انقضىكلامه حتى هطلت السماء عليهما البيت
الثاني من هذه الأبيات ليس من رواية ابن حبيب ولا الأصمعي معنى قول الجارية كأنها
بطن حمار أصحر تعني أنه أبيض فيه حمرة والصحرة لون كذلك وقوله ( فَمَنْ
بِمَحْفِله كمن بنجوته ... ) يعني من هو بحيث احتفل السيل واحتفال كل شيء معظمه
كمن في نجوته وقد روي بمحفشه وهما واحد ومعناهما مجرى معظم السيل يقول فمن هو في
هذا الموضع منه كمن بنجوته أي ناحية عنه سواء لكثرة المطر والقرواح الفضاء يقال
قرواح وقرياح ويقال في معنى المحفش حفشت الأودية إذا سالت وتحفشت المرأة على ولدها
إذا قامت عليه أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني علي بن أبي عامر السهمي
المصري قال حدثني أبو يوسف الأصبهاني قال حدثني أبو محمد الباهلي عن الأصمعي وذكر
هذا الخبر أيضا التوزي عن أبي عبيدة فجمعت روايتيهما قالا مدح فضالة بن كلدة لأنه
أكرمه بعد أن صرعته ناقته كان أوس بن حجر غزلا مغرما بالنساء فخرج في سفر حتى إذا
كان بأرض بني أسد بين شرج وناظرة فبينا هو يسير ظلاما إذا جالت به ناقته فصرعته فاندقت
فخذاه فبات مكانه حتى إذا أصبح غدا جواري الحي يجتنين الكمأة وغيرها من نبات الأرض
والناس في ربيع فبينا هن كذلك إذ بصرن بناقته تجول وقد علق زمامها في شجرة وأبصرنه
ملقى ففزعن فهربن فدعا بجارية منهن فقال لها من أنت قالت أنا حليمة بنت فضالة بن
كلدة وكانت أصغرهن فأعطاها حجرا وقال لها اذهبي إلى أبيك فقولي له ابن هذا يقرئك السلام
فأخبرته فقال يا بنية لقد أتيت أباك بمدح طويل أو هجاء طويل ثم احتمل هو وأهله حتى
بنى عليه بيته حيث صرع وقال والله لا أتحول أبدا حتى تبرأ وكانت حليمة تقوم عليه
حتى استقل فقال أوس بن حجر في ذلك (
جُدِلتُ على ليلةٍ ساهره ... بصحراء شَرْجٍ إلى ناظره ) ( تُزاد
لَيَاليّ في طُولها ... فليست بطَلْقٍ ولا ساكره ) ( أنوءُ برجل بها ذِهْنُها ... وأعيتْ
بها أخْثها الغابره ) وقال في حليمة (
لَعَمْرُكَ مَا مَلّتْ ثَوَاءَ ثَوِيَّها ... حليمةُ إذ
ألْقَى مَرَاسِيَ مُقْعَدِ ) ( ولكن تَلَقَّتْ باليدينِ ضَمَانَتي ... وحَلَّ بِشَرْجٍ مِ
القبائلِ عُوَّدِي ) ( ولم تُلْهِها تلك التكاليفُ إنّها ... كما شئتَ من أكرومةٍ
وَتَخَرُّد ) ( سأَجزيك أو يَجْزِيكِ عَنِّي مُثَوِّبٌ ... وقَصْرُكِ أنْ
يُثْنَى عليكِ وُتحْمَدِي ) رثاؤه فضالة حين مات قالا ثم مات فضالة بن كلدة وكان يكنى أبا
دليجة فقال فيه أوس بن حجر يرثيه (
يا عينُ لا بدّ من سَكْبٍ وتَهْمَالِ ... على فَضَالَةَ
جَلّ الرُّزْءُ والعالِي ) ويروى عيني العالي الأمر العظيم الغالب وهي طويلة جدا وفيها
مما يغنى فيه صوت ( أبا دُلَيْجةَ مَنْ تُوصِي بأرملةٍ ... أم مَنْ لأشْعَثَ ذي طِمْرَيْنِ
مِمْحَالِ ) ( أبا دُلَيْجَةَ مَنْ يكفي العشيرةَ إذ ... أمْسَوْا مَن الأمر
في لَبْسٍ وبَلْبال ) ( لا زال مِسْكٌ ورَيْحَانٌ له أَرَجٌ ... على صَدَاكَ بصافي
اللَّون سَلْسَال ) غنى فيه دحمان خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وذكر حبش أن فيه لابن
عائشة رملا بالوسطى عن عمرو وذكر حبش أن فيه لابن عائشة رملا بالبنصر ولداود بن
العباس ثاني ثقيل ولابن جامع خفيف ثقيل ومن فاضل مراثيه إياه ونادرها قوله ( أيَّتُها النفسُ
أَجمِلِي جَزَعَا ... إِنّ الذي تَكْرَهين قد وقعا ) ( إنّ الذي جَمع السماحة والنَّجْدَةَ
... والحزمَ والقُوَى جُمَعَا )
( المُخْلِفَ المُتْلِفَ المُرَزَّأ لم ... يُمْتَعْ
بِضَعْفٍ ولم يَمُتْ طَبِعَا )
( أوْدَى وهل تنفع الإِشاحةُ مِنْ ... شيء لمن قد يُحاول
البِدَعَا ) وهي قصيدة أيضا يمدحه بها في حياته ويرثيه بعد وفاته وله فيه قصائد غير
هذه صوت ( رأيتُ زُهَيْراً تحت كَلْكَلِ خالدٍ ... فأقبلتُ أسعى كالعَجُولِ أُبادِرُ ) ( فَشَلَّتْ
يميني يوم أضرِبُ خالداً ... ويمنعه مني الحديدُ المُظَاهَرُ ) عروضه من الطويل الشعر لورقاء بن زهير
والغناء لكردم خفيف ثقيل أول بالوسطى في مجراها عن إسحاق وذكر عمرو بن بانة أنه
لمعبد وذكر إسحاق أنه ينسبه إلى معبد من لا يعلم وروى عن أبيه عن سياط عن يونس أنه
أخذه من كردم وأعلمه أن الصنعة فيه له خبر ورقاء بن زهير ونسبه وقصة شعره هذا هو
ورقاء بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن مازن بن الحارث بن قطيعة بن عبس بن
بغيض بن ريث بن غطفان يقوله لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن
صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة أباه زهير بن جذيمة وكان
السبب في ذلك فيما أخبرني به أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر قالا حدثنا
عمر بن شبة ونسخت بعض هذا الخبر عن الأثرم ورواية ابن الكلبي وأضفت بعض الروايات
إلى بعض إلا ما أفردته وجلبته عن راويه قال أبو عبيدة حدثني عبد الحميد بن عبد
الواحد بن عاصم بن عبد الله بن رافع بن مالك بن عبد بن جلهمة بن حداق بن يربوع بن
سعد بن تغلب بن عوف بن جلان بن غنم بن أعصر قال حدثني أبي عبد الواحد وعمي صفوان
ابنا عاصم عن أبيهما عاصم بن عبد الله عمن أدرك شأس بن زهير قال كان مولد عاصم قبل
مبعث النبي وكان عاصم جاهليا قال قال وعبد الحميد حدثني سيار بن عمرو أحد بني عبيد
بن سعد بن عوف بن جلان بن غنم قال أبو عبيدة وكان أعلم غني عن شيوخهم مقتل أخيه
شأس ومحاولة الثأر من قاتله أن شأس بن زهير بن جذيمة أقبل من عند ملك قال أبو عبيدة
أراه النعمان وكان بينه وبين زهير صهر قال أبو عبيدة ثم حدثني مرة أخرى قال كانت
ابنة زهير عنده فأقبل شأس بن زهير من عنده وقد حباه أفضل الحبوة مسكا وكسا وقطفا
وطنافس فأناخ ناقته في يوم شمال وقر على ردهة في جبل ورياح بن الأسك أحد بني رباع
بن عبيد بن سعد بن عوف بن جلان على الردهة ليس غير بيته بالجبل فأنشأ شأس يغتسل
بين الناقة والبيت فاستدبره رياح فأهوى له بسهم فبتر به صلبه قال أبو عبيدة وحدثني
رجل يخيل إلي أنه أبو يحيى الغنوي قال ورد شأس وقد حباه الملك بحبوة فيها قطيفة
حمراء ذات هدب وطيب فورد منعجا وعليه خباء ملقى لرياح بن الأسك فيه أهله في
الظهيرة فألقى ثيابه بفنائه ثم قعد يهريق عليه الماء والمرأة قريبة منه يعني امرأة
رياح فإذا هو مثل الثور الأبيض فقال رياح لامرأته أنطيني قوسي فمدت إليه قوسه
وسهما وانتزعت المرأة نصله لئلا يقتله فأهوى عجلان إليه فوضع السهم في مستدق الصلب
بين فقارتين ففصلهما وخر ساقطا وحفر له حفرا فهدمه عليه ونحر جمله وأكله قال وقال
عبد الحميد أكل ركوبته وأولج متاعه بيته وقال عبد الحميد وفقد شأس وقص أثره ونشد
وركبوا إلى الملك فسألوه عن حاله فقال لهم الملك حبوته وسرحته فقالوا وما متعته به
قال مسك وكسا ونطوع وقطف فأقبلوا يقصون أثره فلم تتضح لهم سبيله فمكثوا كذلك ما
شاء الله لا أدري كم حتى رأوا أمرأة رياح باعت بعكاظ قطيفة حمراء أو بعض ما كان من
حباء الملك فعرفت وتيقنوا أن رياحا ثأرهم قال أبو عبيدة وزعم الاخر قال نشد زهير
بن جذيمة الناس فانقطع ذكره على منعج وسط غني ثم أصابت الناس جائحة وجوع فنحر زهير
ناقة فأعطى أمرأة شطيها فقال اشتري لي الهدب والطيب فخرجت بذلك الشحم والسنام
تبيعه حتى دفعت إلى امرأة رياح فقالت إن معي شحما أبيعه في الهدب والطيب فاشترت
المرأة منها فأتت المرأة زهيرا بذلك فعرف الهدب فأتى زهير غنيا فقالوا نعم قتله
رياح بن الأسك ونحن برءاء منه وقد لحق بخاله من بني الطماح وبني أسد بن خزيمة فكان
يكون الليل عنده ويظهر في أبان إذا أحس الصبح يرمي الأروى إلى أن أصبح ذات يوم وهو
عنده وعبس تريغه فركب خاله جملا وجعله على كفل وراءه فبينا هو كذلك إذ دنت فقالوا
هذه خيل عبس تطلبك فطمر في قاع شجر فحفر في أصل سوقه ولقيت الخيل خاله فقالوا هل
كان معك أحد قال لا فقالوا ما هذا المركب وراءك لتخبرنا أو لنقتلنك قال لا كذب هو
رياح في ذلك القاع فلما دنوا منه قال الحصينان يا بني عبس دعونا وثأرنا فخنسوا
عنهما فأخذ رياح نعلين من سبت فصيرهما على صدره حيال كبده ونادى هذا غزالكما الذي تبغيان
فحمل عليه أحدهما فطعنه فأزالت النعل الرمح إلى حيث شاكلته ورماه رياح موليا فجذم
صلبه قال ثم جاء الآخر فطعنه فلم يغن شيئا ورماه موليا فصرعه فقالت عبس أين تذهبون
إلى هذا والله ليقتلن منكم عدد مراميه وقد جرحاه فسيموت قال وأخذ رياح رمحيهما
وسلبيهما وخرج حتى سند إلى أبان فأتته عجوز وهو يستدمي على الحوض ليشرب منه وقالت
استأسر تحي فقال جنبيني حتى أشرب قال فأبت ولم تنته فلما غلبته أخذ مشقصا وكنع به
كرسوعي يديها قال فقال عبد الحميد فلما استبان لزهير بن جذيمة أن رياحا ثأره قال
يرثي شأسا قصيدة زهير بن جذيمة في رثاء ابنه شأس ( بكيتُ لشَأْسٍ حين خُبِّرتُ
أنّه ... بماء غَنِيٍّ آخِرَ اللَّيلِ يُسْلَبُ ) ( لقد كان مَأْتاهُ الرِّداهَ
لِحَتْفِهِ ... وما كان لولا غِرّةُ اللّيلِ يُغْلَبُ ) ( قتيلُ غنِيٍّ ليس شَكْلٌ كشكله ...
كذاك لَعَمْرِي الحَيْنُ للمرء يُجْلَبُ ) ( سأبكي عليه إن بكيتُ بعَبْرةٍ ...
وحُقَّ لِشَأْسٍ عَبْرةٌ حين تُسْكَبُ
) ( وحزنٌ عليه ما حَيِيتُ وعولةٌ ... على مثل ضوء البدر
أو هو أعجبُ ) ( إذا سِيمَ ضَيْماً كان للضيم منكراً ... وكان لدى الهيجاء
يُخْشَى ويُرْهَبُ ) ( وإنْ صوتَ الداعي إلى الخير مرةً ... أجاب لِمَا يدعو له حين
يُكْرَبُ ) ( ففرّج عنه ثم كان وَلِيَّه ... فقلبي عليه لو بدا القلبُ مُلْهَبُ ) وقال زهير بن
جذيمة حين قتل شأس شأس وما شأس والبأس وما البأس لولا مقتل شأس لم يكن بيننا بأس قال
ثم انصرف إلى قومه فكان لا يقدر على غنوي إلا قتله قال عبد الحميد فغزت بنو عبس
غنيا قبل أن يطلبوا قودا أو دية مع أخي شأس الحصين بن زهير بن جذيمة والحصين بن
أسيد بن جذيمة ابن أخي زهير فقيل ذلك لغني فقالت لرياح انج لعلنا نصالح على شيء أو
نرضيهم بدية وفداء فخرج رياح رديفا لرجل من بني كلاب وزعم أبو حية النميري أنه من
بني جعد وكان معهما صحيفة فيها آراب لحم لا يريان إلا أنهما قد خالفا وجهة القوم فأوجفا
أيديهما في الصحيفة فأخذ كل واحد منهما وذرة ليأكلها مترادفين لا يقدران على
النزول قال فمر فوق رؤوسهما صرد فصرصر فألقيا اللحم وأمسكا بأيديهما وقالا ما هذا ثم
عادا إلى مثل ذلك فأخذ كل واحد منهما عظما ومر الصرد فوق رؤوسهما فصرصر فألقيا
العظمين وأمسكا بأيديهما وقالا ما هذا ثم عادا الثالثة فأخذ كل واحد منهما قطعة
فمر الصرد فوق رؤوسهما فصرصر فألقيا القطعتين حتى فعلا ذلك ثلاث مرات فاذا هما
بالقوم أدنى ظلم وأدنى ظلم أي أدنى شيء وقد كانا يظنان أنهما قد خالفا وجهة القوم فقال
صاحبه لرياح اذهب فإني آتي القوم أشاغلهم عنك وأحدثهم حتى تعجزهم ثم ماض إن تركوني
فانحدر رياح عن عجز الجمل فأخذ أدراجه وعدا أثر الراحلة حتى أتى ضفة فاحتفر تحتها
مثل مكان الأرنب فولج فيه ثم أخذ نعليه فجعل إحداهما على سرته والأخرى على صفنه ثم
شد عليهما العمامة ومضى صاحبه حتى لقي القوم فسألوه فحدثهم وقال هذه غني كاملة وقد
دنوت منهم فصدقوه وخلوا سربه فلما ولى رأوا مركب الرجل خلفه فقالوا من الذي كان
خلفك فقال لا مكذبة ذلك رياح في الأول من السمرات فقال الحصينان لمن معهما قفوا
علينا حتى نعلم علمه فقد أمكننا الله من ثأرنا ولم يريدا أن يشركهما فيه أحد فمضيا
ووقف القوم عنهما قالوا قال رياح فاذا هما ينقلان فرسيهما فما زالا يريغاني
فابتدراني فرميت الأول فبترت صلبه وطعنني الآخر قبل أن أرميه وأراد السرة فأصاب
الربلة ومر الفرس يهوي به فاستدبرته بسهم فرشقت به صلبه فانفقر منحنى الأوصال وقد
بترت صلبيهما قال أبو عبيدة قال أبو حية بل قال رياح استدبرته بسهم وقد خرجت قدمه فقطعتها
فكأنما نشرت بمنشار قال عبد الحميد وند فرساهما فلحقا بالقوم قال رياح فأخذت
رمحيهما فخرجت بهما حتى أتيت رملة فسندت فغرزت الرمحين فيها ثم انحدرت قال وطلبه
القوم حتى إذا رفع لهم الرمحان لم يقربوهما علم الله حتى وجدوا أثر رياح خارجا قد
فات وانطلق رياح خارجا حتى ورد ردهة عليها بيت أنمار بن بغيض وفيه امرأة ولها ابنان
قريبان منها وجمل لها راتع في الجبل وقد مات رياح عطشا فلما رأته يستدمي طمعت فيه
ورجت أن يأتيها ابناها فقالت له استأسر فقال لها دعيني ويحك أشرب فأبت فأخذ حديدة
إما سكينا وإما مشقصا فجذم به رواهشها فماتت وعب في الماء حتى نهل ثم توجه إلى
قومه فقال رياح فيها وفي الحصينين (
قالت لِيَ اسْتأَسِرْ لِتَكْتِفَني ... حِيناً ويعلو
قولُها قولي ) ( ولأَنتَ أجرأُ من أُسَامَة أو ... منِّي غداةَ وقفتُ للخيلِ ) ( إذِ
الحُصَيْنُ لدى الحُصَيْنِ كما ... عَدَل الرِّجازةُ جانبَ المَيْلِ ) قال الأثرم الرجازة
شيء يكون مع المرأة في هودجها فإذا مال أحد الجانبين وضعته في الناحية الأخرى
ليعتدل قال أبو عبيدة يعني حصين بن زهير بن جذيمة وحصين بن أسيد بن جذيمة وهو ابن عمه
قال أبو عبيدة قال عبد الحميد والله لقد سمعت هذا الحديث على ما حدثتك به منذ ستين
سنة قال عبد الحميد وما سمعت أن بني عبس أدركوا بواحد منهم ولا اقتادوا ولا أنذروا
ولا سمعت فيه من الشعر لنا ولا لغيرنا في الجاهلية بأكثر مما أنشدتك وإلى هذا
انتهى حديثنا وحديثه ولا والله ما قتل خالد بن جعفر ====================== ج21.
كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني زهير بن جذيمة في حربنا غير أن الكميت بن زيد
الأسدي وكانت له أمان من غني ذكر من مقتل أخواله من غني في بني عبس ومن قتلوا من
بني نمير بن عامر في كلمة له واحدة فلعله لهذا الحديث قالها وذكر إدراكاتهم وذكر
قتل شبيب بن سالم النميري فقال في ذلك (
أنا ابنُ غَنِيٍّ والداي كلاهما ... لأُِمَّيْن فيهم في
الفُروع وفي الأصلِ ) ( هم استودعوا هوى شبيبَ بن سالمٍ ... وهم عَدلوا بين
الحُصَيْنَينِ بالنَّبْلِ ) ( وهم قتلوا شَأْسَ المُلوكِ ورَغَّمُوا ... أباه زُهَيْراً
بالمَذَلَّةِ والثُّكْلِ ) ( فما أدركْت فيهم جَذِيمةُ وَتْرَها ... بِما قَوَدٍ يوماً
لديها ولا عَقْلِ ) قال أبو عبيدة فذكر عبد الحميد أنه أتى عليهم هنيئة من الدهر
لا أدري كم وقت ذلك بعد انصرام أمر شأس قال فما زادوا على هذا فهو باطل قال الأثرم
هنيئة من الدهر وهنيهة وبرهة وحقبة بمعنى الدهر مقتل زهير بن جذيمة العبسي قتله خالد
بن جعفر بن كلاب قال أبو عبيدة قال أبو حية النميري كان بين انصراف حديث شأس وحديث
قتل خالد بن جعفر زهير بن جذيمة ما بين العشرين سنة إلى الثلاثين سنة قال أبو
عبيدة وهوازن بن منصور لا ترى زهير بن جذيمة إلا ربا قال وهوازن يومئذ لا خير فيها
ولم تكثر عامر بن صعصعة بعد فهم أذل من يد في رحم وإنما هم رعاء الشاء في الجبال قال
وكان زهير يعشرهم وكان إذا كان أيام عكاظ أتاها زهير ويأتيها الناس من كل وجه
فتأتيه هوازن بالإتاوة التي كانت له في أعناقهم فيأتونه بالسمن والأقط والغنم وذلك
بعد ما خلع ذلك من أبي الجناد أخي بني أسيد بن عمرو بن تميم ثم إذا تفرق الناس عن
عكاظ نزل زهير بالنفرات قال أبو عبيدة عن عبد الحميد وأبي حية النميري قالا فأتته
عجوز رهيش من بني نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن وقال أبو حية بل أتته عجوز من هوازن
بسمن في نحي واعتذرت إليه وشكت السنين التي تتابعن على الناس فذاقه فلم يرض طعمه
فدعها بقوس في يده عطل في صدرها فاستلقت لحلاوة القفا فبدت عورتها فغضبت من ذلك
هوازن وحقدت عليه إلى ما كان في صدرها من الغيظ والدمن وأوحرها من الحسك قال وقد
أمرت عامر بن صعصعة يومئذ فآلى خالد بن جعفر فقال والله لأجعلن ذراعي وراء عنقه
حتى أقتل أو يقتل قال وفي ذلك يقول خالد بن جعفر بن كلاب ( أدِيروني إدارتَكم فإنِّي ... وحَذْفةَ
كالشّجَا تحت الوَرِيدِ ) ( مُقرَّبةٌ أُسَوِّيها بجَزْءٍ ... وأَلْحَفُها رِدائي في
الجَلِيدِ ) ( وأُوصِي الرّاعِيَيْن ليُؤْثِراها ... لها لَبَنُ الخَلِيّةِ
والصَّعُودِ ) ( تراها في الغزاةِ وهنّ شُعْثٌ ... كقُلْبِ العاجِ في الرُّسْغ
الجديدِ ) ( يَبِيتُ رِباطُها بالليل كَفِّي ... على عُود الحشيش وغير عود ) ( لعل اللَّه
يُمْكِنني عليها ... جِهاراً من زُهَيْرٍ أو أَسِيدِ ) ( فإمّا تَثْقَفُونِي فاقتُلوني ...
فَمنْ أَثْقَفْ فليس إلى خُلودِ
) ( وقيس في المَعَارِك غادرتْه ... قَنَاتِي في فوارس
كالأسود ) ( ويرْبُوع بن غَيْظٍ يومَ ساقٍ ... تركناهم كجارية وبيد ) ( تركتُ بها
نساء بني عُصَيمٍ ... أراملَ ما تَحِنّ إلى وليد ) ( يَلُذْنَ
بحَارِثٍ جَزَعاً عليه ... يَقُلْنَ لحارثٍ لولا تسود ) ( ومنِّي بالظُّوَيْلمِ قارعاتٌ ...
تَبِيدُ المُخْزِياتُ ولا تَبِيد
) ( وَحكّتْ بَرْكَها ببني جِحَاشٍ ... وقد أجْرَوْا
إليها من بعيدِ ) ( تركت ابَنيْ جَذِيمةَ في مَكَرٍّ ... ونَصْراً قد تركتُ لها
شُهودي ) قتله خالد بن جعفر وما كان قبل قتله قال أبو عبيدة وحدثني أبو سرار الغنوي
قال كان زهير رجلا عدوسا فانتقل من قومه ببنيه وبني أخويه زنباع وأسيد بركبة يريغ
الغيث في عشراوات له وشول قال وبنو عامر قريب منهم ولا يشعر بهم قال عبد الحميد
وأبو حية بل بنو عامر بدمخ وزهير بالنفرات وبينهم ليلتان أو ثلاث قال فقال أبو
سرار فأتى الحارث بني عامر والله ما تغير طعم اللبن الذي زوده الحارث بن عمرو بن
الشريد السلمي حتى أتى بني عامر فأخبرهم قال أبو عبيدة أخبرني سليمان بن المزاحم
المازني عن أبيه قال بل كانت بنو عامر بالجريثة وزهير بالنفرات وكانت تماضر بنت
عمرو ابن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف السلمي امرأة زهير بن جذيمة وهي
أم ولده فمر بها أخوها الحارث بن عمرو فقال زهير لبنيه إن هذا الحمار لطليعة عليكم
فأوثقوه فقالت أخته لبنيها أيزوركم خالكم فتوثقوه وتحرموه فخلوه فقالت تماضر
لأخيها الحارث إنه ليريبني اكبئنانك وقروبك فلا يأخذن فيك ما قال زهير فإنه رجل
بيذارة غيذارة شنؤة قال ثم حلبوا له وطبا وأخذوا منه يمينا ألا يخبر عنهم ولا ينذر
بهم أحدا قال أبو عبيدة وزعم أبو حية النميري أنه لما أتوه بقراهم أراهم أنه يشربه
في الظلمة وجعل يهوي به إلى جيبه فيصبه بين سرباله وصدره أسفا وغظيا قال وكان الذي
حلب له الوطب وقراه الحارث بن زهير وبه سمي قال فخرج يطير حتى أتى عامرا عند
ناديهم فأتى حاذة أو شجرة غيرها فألقى الوطب تحتها والقوم ينظرون ثم قال أيتها
الشجرة الذليلة اشربي من هذا اللبن فانظري ما طعمه فقال أهل المجلس هذا رجل مأخوذ
عليه عهد وهو يخبركم خبرا فأتوه فإذا هو الحارث بن عمرو وذاقوا اللبن فإذا هو حلو
لم يقرص بعد فقالوا إنه ليخبرنا أن طلبنا قريب فركب معه ستة فوارس لينظروا ما
الخبر وهم خالد بن جعفر بن كلاب على حذفة وحندج بن البكاء ومعاوية بن عبادة بن
عقيل فارس الهرار وهو الأخيل جد ليلى الأخيلية قال والأخيل هو معاوية قال وهو
يومئذ غلام له ذؤابتان وكان أصغر من ركب وثلاثة فوارس من سائر بني عامر فاقتصوا
أثر السير حتى إذا رأوا إبل بني جذيمة نزلوا عن الخيل فقالت النساء إنا لنرى حرجة من
عضاه أو غابة رماح بمكان لم نكن نرى به شيئا ثم راحت الرعاء فأخبروا بمثل ما
للنساء قال وأخبرت راعية أسيد بن جذيمة أسيدا بمثل ذلك فأتى أسيد أخاه زهيرا فأخبره
بما أخبرته به الراعية وقال إنما رأت خيل بني عامر ورماحها فقال زهير كل أزب نفور
فذهبت مثلا وكان أسيد كثير الشعر خناسيا وأين بنو عامر أما بنو كلاب فكالحية إن
تركتها تركتك وإن وطئتها عضتك وأما بنو كعب يصيدون اللأي يريد الثور الوحشي وأما
بنو نمير فإنهم يرعون إبلهم في رؤوس الجبال وأما بنو هلال فيبيعون العطر قال فتحمل
عامة بني رواحة وآلي زهير لا يبرح مكانه حتى يصبح وتحمل من كان معه غير ابنيه
ورقاء والحارث قال وكان لزهير ربيئة من الجن فحدثه ببعض أمرهم حتى أصبح وكانت له
مظلة دوح يربط فيها أفراسه لا تريمه حذرا من الحوادث قال فلما أصبح صهلت فرس منها
حين أحست بالخيل وهي القعساء فقال زهير ما لها فقال ربيئته ( أحسّت الخيل فصهَلت إليهن ... فلم
تُؤْذِنْهم بِهم إلا والخيلُ دَوَائسُ
) محاضير بالقوم غدية فقال زهير وظن أنهم أهل اليمن يا
أسيد ما هؤلاء فقال هؤلاء الذين تعمي حديثهم منذ الليلة قال وركب أسيد فمضى ناجيا قال
ووثب زهير وكان شيخا نبيلا فتدثر القعساء فرسه وهو يومئذ شيخ قد بدن وهو يومئذ
عقوق متهم واعرورى ورقاء والحارث ابناه فرسيهما ثم خالفوا جهة مالهم ليعموا على
بني عامر مكان مالهم فلا يأخذوه فهتف هاتف من بني عامر ياليحامر يريد يحامر وهو
شعار لأهل اليمن لأن يعمي على الجذميين من القوم فقال زهير هذه اليمن قد علمت أنها
أهل اليمن وقال لابنه ورقاء انظر يا ورقاء ما ترى قال ورقاء أرى فارسا على شقراء
يجهدها ويكدها بالسوط قد ألح عليها يعني خالدا فقال زهير شيئا ما يريد السوط الى
الشقراء فذهبت مثلا وقال في المرة الثانية شيئا ما يطلب السوط الى الشقراء وهي
حذفة فرس خالد بن جعفر والفارس خالد بن جعفر قال وكانت الشقراء من خيل غني قال
وتمردت القعساء بزهير وجعل خالد يقول لا نجوت إن نجا مجدع يعني زهيرا فلما تمعطت
القعساء بزهير ولم تتعلق بها حذفة قال خالد لمعاوية الأخيل بن عبادة وكان على
الهرار حصان أعوج أدرك معاوي فأدرك معاوية زهيرا وجعل ابناه ورقاء والحارث يوطشان
عنه أي عن أبيهما قال فقال خالد اطعن يا معاوية في نساها فطعن في أحدى رجليها
فانخذلت القعساء بعض الانخذال وهي في ذلك تمعط فقال زهير اطعن الأخرى يكيده بذلك
لكي تستوي رجلاها فتحامل فناداه خالد يا معاوية أفذ طعنتك أي اطعن مكانا واحدا
فشعشع الرمح في رجلها فانخذلت قال ولحقه خالد على حذفة فجعل يده وراء عنق زهير
فاستخف به عن الفرس حتى قلبه وخر خالد فوقع فوقه ورفع المغفر عن رأس زهير وقال يا
لعامر اقتلونا معا فعرفوا أنهم بنو عامر فقال ورقاء وا أنقطاع ظهراه إنها لبنو
عامر سائر اليوم وقال غيره فقال بعض بني جذيمة وا انقطاع ظهري قال ولحق حندج بن
البكاء وقد حسر خالد المغفر عن رأس زهير فقال نح رأسك يا أبا جزء لم يحن يومك قال
فنحى خالد رأسه وضرب حندج رأس زهير وضرب ورقاء بن زهير رأس خالد بالسيف وعليه
درعان وكان أسجر العينين أزب أقمر مثل الفالج فلم يغن شيئا قال وأجهض ابنا زهير
القوم عن زهير فانتزعاه مرتثا فقال خالد حين استنقذ زهيرا ابناه والهفتاه قد كنت
أظن أن هذا المخرج سيسعكم ولام حندجا فقال حندج وكان لجلالته غصة إذا تكلم السيف
حديد والساعد شديد وقد ضربته ورجلاي متمكنتان في الركابين وسمعت السيف قال قب حين
وقع برأسه ورأيت على ظبته مثل ثمر المرار وذقته فكان حلوا فقال خالد قتلته بأبي
أنت ونظر بنو زهير فإذا الضربة قد بلغت الدماغ ونهي بنو زهير أن يسقوا أباهم الماء
فاستسقاهم فمنعوه حتى نهك عطشا قال وذلك أن المأموم يخاف عليه الماء حتى بلغ منه
العطش فجعل يهتف أميت أنا عطشا وينادي يا ورقاء قال أبو حية فجعل ينادي يا شأس
فلما رأوا ذلك سقوه فمات لثالثة فقال ورقاء بن زهير شعر ورقاء بن زهير حين قتل
والده ( رأيتُ زُهَيْراً تحت كَلْكَلِ خالدٍ ... فأقبلْتُ أسعَى كالعَجُولِ أُبادِرُ ) ( إلى بَطَلَيْن
يَنْهَضانِ كلاهما ... يُريغانِ نَصْلَ السَّيفِ والسيفُ نادرُ ) ( فشَلَّتْ
يميني إذ ضربتُ ابنَ جَعْفَرٍ ... وأَحرزه منِّي الحديدُ الْمُظاهَرُ ) قال أبو عبيدة
وسمعت أبا عمرو بن العلاء ينشد هذا البيت فيها ( وشَلّتْ يميني يوم أضربُ خالداً ...
وشَلَّ بَنَاناها وشلّ الخَنَاصرُ
) قال أبو عبيدة وأنشدني أبو سرار أيضا فيها ( فياليتني من قبلِ
أيّامِ خالدٍ ... ويومِ زُهَيْرٍ لم تَلِدنِي تُمَاضِرُ ) تماضر بنت عمرو بن الشريد بن رياح بن
يقظة بن عصية بن خفاف السلمي امرأة زهير بن جذيمة قال أبو عبيدة أنشدني أبو سرار
فيها ( لَعَمْرِي لقد بُشِّرت بي إذ وَلَدْتنِي ... فماذا الذي رَدّتْ عليكِ البشائرُ ) وقال خالد بن
جعفر يمن على هوازن بقتله زهيرا ويصدق الحديث قال أبو عبيدة أنشدنيه مالك بن عامر
بن عبد الله بن بشر بن عامر ملاعب الأسنة ( بل كيف تكفُرني هوازنُ بعدما ...
أعتقتُهم فَتَوَالَدُوا أحرارا
) ( وقتلتُ ربَّهُم زهيراً بعد ما ... جدع الأُنوف وأكثر
الأوتارا ) ( وجعلتُ حَزْنَ بِلاَدِهم وجِبالهم ... أرضاً فضاءً سهلةً وعشارا ) ( وجعلتُ مَهْرَ
بناتهم ودمائهم ... عَقْلَ الملوكِ هجائناً أبكَارا ) قال أبو عبيدة ألا ترى أنه ذكر في
شعره أن زهيرا كان ربهم وقد كان جدعهم وأنه قتله من أجلهم لا من أجل غني وأن غنيا
ليسوا من ذلك في ذكر ولا لهم فيه معنى قال وقال ورقاء بن زهير ( أمّا كِلاَبٌّ
فإنّا لا نُسالِمُها ... حتى يُسالم ذِئبَ الثَّلةِ الرَّاعِي ) ( بنو جَذِيمةَ
حاموا حول سَيِّدهم ... إلاّ أَسِيداً نجا إذ ثَوَّب الداعي ) قال ثم نعى الفرزدق على بني عبس ضربة
ورقاء خالدا واعتذر بها الى سليمان بن عبد الملك فقال ( إنْ يَكُ سيفٌ خانَ أو قَدَرٌ أبى ...
لتأخير نَفْسٍ حَتْفُها غيرُ شاهدِ )
( فسيفُ بني عَبْسٍ وقد ضربوا به ... نَبَا بِيَدَيْ
وَرْقاءَ عن رأس خالد ) ( كذاك سيوفُ الهِنْدِ تنبو ظُبَاتُها ... وتقطَع أحياناً مناطَ
القلائدِ ) ( ولو شِئتُ قدَّ السيفُ ما بين عُنْقِه ... إلى عَلَقٍ تحت الشَّراسِيفِ جامدِ ) قال وكان ضلع
بني عبس مع جرير فقال الفرزدق فيهم هذه الأبيات هذه رواية أبي عبيدة ماذا قال
الاصمعي عن مقتل زهير وابنه وأما الأصمعي فإنه ذكر فيما رواه الأثرم عنه قال حدثني
غير واحد من الأعراب أن سبب مقتل زهير العبسي أن ابنه شأس بن زهير وفد إلى بعض
الملوك فرجع ومعه حباء قد حبي به فمر بأبيات من بني عامر بن صعصعة وأبيات من بني
غني على ماء لبني عامر أو غيرهم الشك من الأصمعي قال فاغتسل فناداه الغنوي استتر
فلم يحفل بما قال فقال استتر ويحك البيوت بين يديك فلم يحفل فرماه الغنوي رياح بن
الأسك بسهم أو ضربه فقتله والحي خلوف فاتبعه أصحاب شأس وهم في عدة فركب الفلاة
واتبعوه فرهقوه فقتل حصينا وأخاه حصينا ثم نجا على وجهه حتى أدركه العطش فلجأ إلى
منزل عجوز من بني إنسان وبنو إنسان حي من بني جشم فقالت له العجوز لا تبرح حتى
يأتي بني فيأسروك قال الأصمعي فأخبرني مخبران اختلفا فقال أحدهما إنه أخذ سكينا
فقطع عصبتي يديها وقال الآخر أخذ حجرا فشدخ به رأسها ثم أنشأ يقول ( ولأنتَ أشْجَعُ
من أسامةَ أو ... مِنَّي غداةَ وقفتُ للخَيْلِ ) ( إذِ الحُصَيْنُ لدى الحُصَيْنِ كما
... عَدَلَ الرِّجازةُ جانبَ المَيْلِ )
( وإذا أُنَهْنِهُها لأِفتِلَها ... جاشتْ لِيَغْلِبَ
قولُها قولي ) قال فضرب الزمان ضربانه فالتقى خالد بن جعفر بن كلاب وزهير بن
جذيمة العبسي فقال خالد لزهير أما آن لك أن تشتفي وتكف قال الأصمعي يعني مما قتل
بشأس قال فأغلظ له زهير وحقره قال الأصمعي وأخبرني طلحة بن محمد بن سعيد بن المسيب
أن ذلك الكلام بينهما كان بعكاظ عند قريش فلما حقره زهير وسبه قال خالد عسى إن كان
يتهدده ثم قال اللهم أمكن يدي هذه الشقراء القصيرة من عنق زهير بن جذيمة ثم أعني
عليه فقال زهير اللهم أمكن يدي هذه البيضاء الطويلة من عنق خالد ثم خل بيننا فقالت
قريش هلكت والله يا زهير فقال إنكم والله الذين لا علم لكم قال الأصمعي ثم نرجع
إلى حديث العبسيين والعامريين وبعضه من حديث أبي عمرو بن العلاء قال فجاء أخو
امرأة زهير وكانت امرأته فاطمة بنت الشريد السلمية وهي أم قيس بن زهير وكان زهير
قد أساء إليهم في شيء فجاء أخوها إلى بني عامر فقال هل لكم في زهير بن جذيمة ينتج
إبله ليس معه أحد غير أخيه أسيد بن جذيمة وعبد راع لإبله وجئتكم من عنده وهذا لبن
حلبوه لي فذاقوه فإذا هو ليس بحازر فعلموا أنه قريب فخرج حندج بن البكاء وخالد بن
جعفر ومعاوية بن عبادة بن عقيل ليس على أحدهم درع غير خالد كانت عليه درع أعاره
إياها عمرو بن يربوع الغنوي وكانت درع ابن الأجلح المرادي كان قتله فأخذها منه
وكان يقال لها ذات الأزمة وإنما سميت بذلك لأنها كانت لها عرى تعلق فضولها بها إذا
أراد أن يشمرها قال فطلعوا فقال أسيد بن جذيمة قال الأصمعي وكان أسيد شيخا كبيرا
وكان كثير شعر الوجه والجسد أتيت ورب الكعبة فقال زهير كل أزب نفور فذهبت مثلا فلم
يشعر بهم زهير إلا في سواد الليل فركب فرسه ثم وجهها فلحقه قوم أحدهم حندج أو
العقيلي واختلفوا فيهما فطعن فخذ الفرس طعنة خفيفة ثم أراد أن يطعن الرجل الصحيحة
فناداه خالد يا فلان لا تفعل فيستويا أقبل على السقيمة قال فطعنها فانخذلت الفرس
فأدركوه فلما أدركوه رمى بنفسه وعانقه خالد فقال اقتلوني ومجدعا فجاء حندج وكان
أعجم اللسان فقال لخالد وهو فوق زهير نح رأسك يا أبا جزء فنحى رأسه فضرب حندج
زهيرا ضربة على دهش ثم ركبوا وتركوه قال فقال خالد ويحك يا حندج ما صنعت فقال
ساعدي شديد وسيفي حديد وضربته ضربة فقال السيف قب وخرج عليه مثل ثمرة المرار
فطعمته فوجدته حلوا يعني دماغه قال إن كنت صدقت فقد قتلته قال فجاء قوم زهير
فاحتملوه ومنعوه الماء كراهة أن يبتل دماغه فيموت فقال يا آل غطفان أأموت عطشا
فسقي فمات وذلك بعد أيام ففي ذلك يقول ورقاء بن زهير وكان قد ضرب خالدا ضربة فلم
يصنع شيئا فقال ( رأيتُ زهيراً تحت كَلْكَلِ خالدٍ ... فأقبلتُ أسعَى كالعَجُولِ
أُبادِرُ ) ( إلى بَطَلَيْنِ ينهَضان كِلاَهما ... يُريدان نَصْلَ السَّيْفِ والسيفُ نادرُ ) قال الأصمعي
فضرب الدهر من ضربانه إلى أن التقى خالد بن جعفر والحارث بن ظالم ذكر مقتل خالد بن
جعفر بن كلاب قتله الحارث بن ظالم المري قال أبو عبيدة كان الذي هاج من الأمر بين
الحارث بن ظالم وخالد بن جعفر أن خالد بن جعفر أغار على رهط الحارث بن ظالم من بني
يربوع بن غيظ بن مرة وهم في واد يقال له حراض فقتل الرجال حتى أسرع والحارث يومئذ
غلام وبقيت النساء وزعموا أن ظالما هلك في تلك الوقعة من جراحة أصابته يومئذ وكانت
نساء بني ذبيان لا يحلبن النعم فلما بقين بغير رجال طفقن يدعون الحارث فيشد عصاب
الناقة ثم يحلبنها ويبكين رجالهن ويبكي الحارث معهن فنشأ على بغض خالد وأردف ذلك
قتل خالد زهير بن جذيمة فاستحق العدواة في غطفان فقال خالد بن جعفر في تلك الوقعة ( تركتُ نساءَ
يَرْبُوعِ بنِ غَيْظٍ ... أراملَ يشتكين إلى وَلِيدِ ) ( يَقُلْنَ لحارثٍ جَزَعاً عليه ...
لك الخيراتُ مالك لا تسودُ ) ( تركتُ بَنِي جَذِيمةَ في مَكَرٍّ ... ونصراً قد تركتُ لدى
الشهودِ ) ( ومنِّي سوف تَأتِي قارعاتٌ ... تَبِيدُ المخزِياتُ ولا تَبِيدُ ) ( وقيس ابن
المعاركِ غادرتْه ... قَنَاتِي في فوارسَ كالأسود ) ( وحَلّتْ برَكْهَا ببني جِحَاشٍ ...
وقد مَدُّوا إليها من بَعِيد )
( وحَيّ بني سبيعٍ يومَ ساقٍ ... تركناهم كجارية وبيد ) قال أبو عبيدة
فمكث خالد بن جعفر برهة من دهره حتى كان من أمره وأمر زهير بن جذيمة ما كان وخالد
يومئذ رأس هوازن فلما استحق عداوة عبس وذبيان أتى النعمان بن المنذر ملك الحيرة
لينظر ما قدره عنده وأتاه بفرس فألفى عنده الحارث بن ظالم قد أهدى له فرسا فقال
أبيت اللعن نعم صباحك وأهلي فداؤك هذا فرس من خيل بني مرة فلن تؤتى بفرس يشق غباره
إن لم تنسبه انتسب كنت ارتبطته لغزو بني عامر بن صعصعة فلما أكرمت خالدا أهديته
إليك وقام الربيع بن زياد العبسي فقال أبيت اللعن نعم صباحك وأهلي فداؤك هذا فرس من
خيل بني عامر ارتبطت أباه عشرين سنة لم يخفق في غزوة ولم يعتلك في سفره وفضله على
هذين الفرسين كفضل بني عامر على غيرهم قال فغضب النعمان عند ذلك وقال يا معشر قيس
أرى خيلكم أشباها أين اللواتي كأن أذنابها شقاق أعلام وكأن مناخرها وجار الضباع
وكأن عيونها بغايا النساء رقاق المستطعم تعالك اللجم في أشداقها تدور على مذاودها
كأنما يقضمن حصى قال خالد زعم الحارث أبيت اللعن أن تلك الخيل خيله وخيل آبائه فغضب
النعمان عند ذلك على الحارث بن ظالم فلما أمسوا اجتمعوا عند قينة من أهل الجيرة
يقال لها بنت عفزر يشربون فقال خالد تغني ( دارٌ لهندٍ والرَّبَابِ وفَرْتَنَى ...
ولَمِيسَ قَبْلَ حوادثِ الأيّامِ
) وهن خالات الحارث بن ظالم فغضب الحارث بن ظالم حتى
امتلأ غيظا وغضبا وقال ما تزال تتبع أولى بآخرة قال أبو عبيدة ثم إن النعمان بن
المنذر دعاهم بعد ذلك وقدم لهم تمرا فطفق خالد بن جعفر يأكل ويلقي نوى ما يأكل من
التمر بين يدي الحارث فلما فرغ القوم قال خالد بن جعفر أبيت اللعن انظر إلى ما بين
يدي الحارث بن ظالم من النوى ما ترك لنا تمرا إلا أكله فقال الحارث أما أنا فأكلت
التمر وألقيت النوى وأما أنت فأكلته بنواه فغضب خالد وكان لا ينازع فقال أتنازعني
يا حارث وقد قتلت حاضرتك وتركتك يتيما في حجور النساء فقال الحارث ذلك يوم لم
أشهده وأنا مغن اليوم بمكاني قال خالد فهلا تشكر لي إذ قتلت زهير بن جذيمة وجعلتك
سيد غطفان قال بلى أشكرك على ذلك فخرج الحارث بن ظالم إلى بنت عفزر فشرب عندها
وقال لها تغني ( تَعَلَّمْ أبَيْتَ اللَّعْنَ أنِّيَ فاتكٌ ... من اليومِ أو
مِنْ بعدِه بابن جَعْفَرِ ) ( أخالدُ قد نَبَّهْتَني غيرَ نائمٍ ... فلا تَأْمَنَنْ فَتْكِي
يَدَ الدهرِ واحْذَرِ ) ( أعيَّرْتَني أنْ نِلْتَ منّا فوارساً ... غداةَ حُرَاضٍ مثلَ
جِنَّانِ عَبْقَرِ ) ( أصابهمُ الدّهرُ الخَتُورُ بخَتْرِهِ ... ومَنْ لا يَقِ اللهُ
الحوادثَ يَعْثُرْ ) ( فعلّك يوماً أن تنوء بضَرْبةٍ ... بكفِّ فتًى من قومه غير
جَيْدَرِ ) ( يُغِصّ بها عُلْيَا هَوازِنَ والمُنَى ... لقاءُ أبي جَزْءٍ بأبيضَ مِبْتَرِ ) قال فبلغ خالد
بن جعفر قوله فلم يحفل به فقال عبد الله بن جعدة وهو ابن أخت خالد وكان رجل قيس
رأيا لابنه يا بني ائت أبا جزء فأخبره أن الحارث بن ظالم سفيه موتور فأخف مبيتك
الليلة فإنه قد غلبه الشراب فإن أبيت فاجعل بينك وبينه رجلا ليحرسك فوضعوا رجلا
بإزائه ونام ابن جعدة دون الرجل وخالد من خلف الرجل وعرف أن ابن عتبة وابن جعدة
يحرسان خالدا فأقبل الحارث فانتهى إلى ابن جعدة فتعداه ومضى إلى الرجل وهو يحسبه
خالدا فعجنه بكلكله حتى كسره وجعل يكدمه لا يعقل فخلى عنه والرجل تحته ومضى إلى خالد
وهو نائم فضربه بالسيف حتى قتله فقال لعروة أخبر الناس أني قتلت خالدا وقال في ذلك
( أَلاَ
سائِل النُّعْمانَ إن كنتَ سائلاً ... وَحيّ كِلاَب هل فتكتُ بخالدِ ) ( عَشَوْتُ عليه
وابنُ جَعْدةَ دونَه ... وعُرْوةُ يَكْلاَ عمَّه غيرَ راقدِ ) ( وقد نَصَبَا رَجْلاً فباشرتُ
جَوْزَه ... بكَلْكَلِ مَخْشِيِّ العداوةِ حاردِ ) ( فأَضرِبُه بالسَّيفِ يأفُوخَ رأسِه
... فصمّم حتى نال نُوطَ القلائدِ
) ( وأَفلتَ عبدُ الله منِّي بذُعْرِه ... وعُرْوةُ من
بعد ابنِ جَعْدةِ شاهدي ) شعر قيس بن زهير للحارث حين قتل خالدا فلما أبت غطفان أن تجيره
غضبت لذلك بنو عبس وبعث إليه قيس بن زهير بن جذيمة بهذه الأبيات ( جزاك الله خيراً
مِنْ خَلِيلٍ ... شفَى من ذي تُبُولته الخليلا ) ( أزحتَ بها جوىً ودَخِيلَ حُزْنٍ ...
تَمَخَّخَ أعظُمِي زمناً طويلا
) ( كسوتَ الجعفريَّ أبا جُزَيْءٍ ... ولم تَحْفِلْ به
سيفاً صَقِيلا ) ( أبأْتَ به زُهَيْرَ بَنِي بَغِيضٍ ... وكنتَ لِمثْلَها ولها
حَمُولا ) ( كشفتَ له القِناعَ وكنتَ ممن ... يُجَلِّي العارَ والأمرَ الجليلا ) فأجابه الحارث
بن ظالم ( أتانيَ عن قُيَيْسِ بني زُهَيْرٍ ... مقالةُ كاذبٍ ذكر التُّبُولاَ ) ( فلو كنتم كما
قلتم لكنتم ... لقاتل ثأرِكم حِرْزاً أَصِيلا ) ( ولكن قلتُم جَاوِرْ سِوَانَا ...
فقد جَلَّلْتَنا حَدَثاً جليلا
) ( ولو كانوا هُمُ قتلوا أخاكم ... لَمَا طردوا الذي
قتَل القَتيلا ) قال ابوعبيدة فلما منعته غطفان لحق بحاجب بن زرارة فأجاره
ووعده أن يمنعه من بني عامر وبلغ بني عامر مكانه في بني تميم فساروا في عليا هوازن
فلما كانوا قريبا من القوم في أول واد من أوديتهم خرج رجل من بني غني ببعض البوادي
فإذا هو بامرأة من بني تميم ثم من بني حنظلة تجتني الكمأة فأخذها فسألها عن الخبر
فأخبرته بمكان الحارث بن ظالم عند حاجب بن زرارة وما وعده من نصرته ومنعه فانطلق
بها الغنوي الى رحله فانسلت في وسط من الليل فأتى الغنوي الأحوص بن جعفر فأخبره أن
المرأة قد ذهبت وقال هي منذرة عليك فقال له الأحوص ومتى عهدك بها قال عهدي بها
والمني يقطر من فرجها قال وأبيك إن عهدك بها لقريب وتبع المرأة عامر بن مالك يقص
أثرها حتى انتهى إلى بني زرارة والمرأة عند حاجب وهو يقول لها أخبريني أي قوم
أخذوك قالت أخذني قوم يقبلون بوجوه الظباء ويدبرون بأعجاز النساء قال أولئك بنو
عامر قال فحدثيني من في القوم قالت رأيتهم يغدون على شيخ كبير لا ينظر بمأقيه حتى
يرفعوا له من حاجبيه قال ذلك الأحوص بن جعفر قالت ورأيت شابا شديد الخلق كأن شعر
ساعديه حلق الدرع يعذم القوم بلسانه عذم الفرس العضوض قال ذلك عتبة بن بشير بن
خالد قالت ورأيت كهلا إذا أقبل معه فتيان يشرف القوم إليه فإذا نطق أنصتوا قال ذلك
عمرو بن خويلد والفتيان ابناه زرعة ويزيد قالت ورأيت شابا طويلا حسنا إذا تكلم
بكلمة أنصتوا لها ثم يؤلون إليه كما تؤل الشول إلى فحلها قال ذلك عامر بن مالك قال
أبو عبيدة فدعا حاجب الحارث بن ظالم فأخبره برأيه وخبر القوم وقال يا بن ظالم
هؤلاء بنو عامر قد أتوك فما أنت صانع قال الحارث ذلك إليك إن شئت أقمت فقاتلت
القوم وإن شئت تنحيت قال حاجب تنح عني غير ملوم فغضب الحارث من ذلك وقال ( لَعَمْرِي لقد
جاورتُ في حَيِّ وائلٍ ... ومنْ وائلٍ جاورتُ في حَيِّ تَغْلِبِ ) ( فأصبحتُ في
حيِّ الأراقم لم يَقُلْ ... لِيَ القومُ يا حارِ بنَ ظالمٍ أذْهَبِ ) ( وقد كان
ظَنِّي إذ عقلتُ إليكُم ... بني عُدُسٍ ظَنِّي بأصحاب يَثْرِبِ ) ( غَداةَ أتاهم
تُبَّعٌ في جُنودِهِ ... فلم يُسْلِمُوا المرين من حَيِّ يَحْصُبِ ) ( فإنْ تَكُ في
عُلْيَا هَوازِنَ شَوْكَةٌ ... تُخَافُ ففيكم حَدُّ نابٍ ومِخْلَبِ ) ( وإِن يَمْنَعِ
المَرْءُ الزُّرارِيُّ جارَه ... فأَعْجِبْ بها من حاجبٍ ثم أعْجِب ) فغضب حاجب فقال ( لَعَمْرُ أبيك
الخَيْرِ يا حارِ إنني ... لأمْنَعُ جاراً من كُلَيْبِ بن وائلِ ) ( وقد علِم
الحيُّ المَعَدِّيُّ أنّنا ... على ذاك كنّا في الخطوبِ الأوائل ) ( وأنّا إذا ما
خاف جارٌ ظُلاَمةً ... لبِسنا له ثَوْبَيْ وَفاءٍ ونائل ) ( وأنّ تميماً لم تُحارِبْ قبيلةً ...
من النّاس إلا أُولعتْ بالكواهل
) ( ولو حاربتْنا عامرٌ يا بنَ ظالمٍ ... لعَضتْ علينا
عامرٌ بالأنامل ) ( وَلاسْتيقنتْ عُلْيَا هَوازِنَ أنّنا ... سنُوطِئها في دارها
بالقنابلِ ) ( ولكنّني لا أبَعث الحربَ ظالماً ... ولو هِجْتُها لم أُلْفَ
شَحْمةَ آكل ) قال فتنحى الحارث بن ظالم عن بني زرارة فلحق بعروض اليمامة ودعا
معبدا ولقيطا ابني زرارة فقال سيرا في الظعن فموعدكما رحرحان فإنا مقيمون في حامية
الخيل حتى تأتينا بنو عامر وخرج عامر بن مالك الى قومه بالخبر فقالوا ما ترى قال
أن ندعهم بمكانهم ونسبقهم إلى الظعن قال فلقوها برحرحان فاقتتلوا قتالا شديدا
فأصابوها وأسر معبد وجرح لقيط فبعثوا بمعبد الى رجل بالطائف كان يعذب الأسرى فقطعه
إربا إربا حتى قتله وقال عامر بن مالك يرد على حاجب قوله ( أَلِكْني الى المرءِ الزُّرَاريَّ
حاجبٍ ... رئيسِ تَميمٍ في الخطوب الأوائلِ ) ( وفارسِها في كلِّ يومِ كريهةٍ ...
وخيرِ تميمٍ بين جافٍ وناعلِ )
( لَعَمْري لقد دافعتُ عن حيّ مالكٍ ... شآبيبَ من
حَرْبٍ تَلَقَّحُ حائلِ ) ( على كل جَرْداءِ السَّرَاةِ طِمِرّةٍ ... وأجْرَدَ خَوّارِ
العِنَانِ مُناقِلِ ) ( نصحتُ له إذ قلتُ إنْ كنتَ لاحقاً ... بقَوْمٍ فلا تَعْدِلْ
بأبناء وائلِ ) ( ولو ألجأتْه عُصْبةٌ تَغْلِبيّةٌ ... لَسِرْنَا إليهم بالقنا
والقَنَابلِ ) ( ولو رُمْتُمُ أن تمنَعوه رأيتُمُ ... هناك أُموراً غَيُّهَا
غيرُ طائلِ ) ( لشابَ وليدُ الحيِّ قبل مَشِيبهِ ... وعَضّت تميمٌ كلُّها
بالأناملِ ) ( وقامتْ رجالٌ منكمُ خِنْدِفَّيةٌ ... يُنادون جهراً ليتَنا لم
نُقَاتِل ) الحارث يقتل ابن النعمان حين رآه في حجر سلمى بنت ظالم قال فخرج الحارث بن
ظالم من فوره ذلك حتى أتى سلمى بنت ظالم وفي حجرها ابن النعمان فقال لها إنه لن
يجيرني من النعمان إلا تحرمي بابنه فادفعيه إلي وقد كان النعمان بعث إلى جارات
للحارث بن ظالم فسباهن فدعاه ذلك الى قتل الغلام فقتله فوثب النعمان على عم الحارث
بن ظالم فقال له لأقتلنك أو لتأتيني بابن أخيك فاعتذر اليه فخلى عنه فأقبل ينطلق
فقال ( يا حارُ إنّيَ أحْيَا من مُخَبّأةٍ ... وأنت أَجْرَأُ من ذي لَبْدةٍ ضارِي ) ( قد كان بيتيَ
فيكم بالعَلاَءِ فقد ... أحْلَلْتَ بيتيَ بين السَّيْلِ والنارِ ) ( مهما أَخَفْكَ
على شيءٍ تجيء به ... فلم اخفْكَ على أمثالها حارِ ) ( ولم أَخَفْكَ على لَيْثٍ تُخَاتِله
... عَبْلِ الذِّارعَيْنِ للأقرانِ هَصّارِ ) ( وقد علمتُ بأنِّي لن يُنَجِّيَني
... ممّا فعلتَ سوى الإِقرارِ بالعار
) ( فقد عَدَوْتَ على النُّعْمانِ ظالِمَه ... في قتل
طِفْلٍ كمثل البَدْرِ مِعْطارِ
) ( فاعلَمْ بأنّك منه غيرُ مُنْفَلِتٍ ... وقد عدوتَ
على ضِرْغامةٍ شَارِي ) وقال الحارث بن ظالم في ذلك ( قِفَا فاسْمَعَا أخْبِرْكُما إذْ
سألتما ... مُحارِبُ مَوْلاهُ وثَكْلانُ نادمُ ) ( حَسِبْتَ أبا قابُوسَ أنّك سابِقي
... ولَمّا تَذُقْ فَتْكِي وأنفُك راغمُ ) ( أخُصْيَيْ حِمارٍ بات يَكْدُمُ
نَجْمةً ... أتُؤكَلُ جاراتي وجارُك سالم ) ( تَمَنَّيْتَهُ جهراً على غير رِيبةٍ
... أحاديثُ طَسْمٍ إنما أنت حالم
) ( فإنْ تك أذواداً أصبتَ ونسوةً ... فهذا ابنُ سَلْمَى
أمْرُه متفاقم ) ( علوتُ بذي الحَيّاتِ مَفْرِقَ رَأْسِه ... وكان سِلاَحِي
تجتويه الجماجم ) ( فتكتُ به فتكاً كفتكي بخالدٍ ... وهل يركب المكروهَ إلا
الأكارمُ ) ( بدأتُ بهذي ثم أَثنِي بمثلها ... وثالثةٍ تبيضّ منها المَقَادِمُ ) ( شَفَيْتُ
غَلِيلَ الصدرِ منه بضربةٍ ... كذلك يأبى المُغْضَبون القَماقِم ) فقال النعمان بن
المنذر ما يعني بالثالثة غيري قال سنان بن أبي حارثة المري وهو يومئذ رأس غطفان
أبيت اللعن والله ما ذمة الحارث لنا بذمة ولا جاره لنا بجار ولو أمنته ما أمناه فبلغ
ابن ظالم قول سنان بن أبي حارثة فقال في ذلك ( أَلاَ أبْلِغ النُّعْمانُ عنِّي رسالةً
... فكيف بخَطَّابِ الخُطُوبِ الأعاظِم
) ( وأنت طَويلُ البَغْيِ أبْلَخُ مُعْوِرٌ ... فَزُوعٌ
إذا ما خِيفَ إحْدَى العَظَائِم
) ( فما غَرَّة والمرءُ يُدْرِكُ وِتْرَهُ ... بأرْوَعَ
ماضي الهَمِّ من آل ظالم ) ( أخي ثِقَةٍ ماضِي الجَنَانِ مُشَيَّعٍ ... كَمِيشِ التَّوَالِي
عند صِدْقِ العَزَائِم ) ( فأُقْسِم لولا مَنْ تعرَّض دونه ... لَعُولِي بِهِنْديِّ
الحديدةِ صارم ) ( فأقْتُلُ أقواماً لِئاماً أذِلَّةً ... يَعَضُّون من غَيْظٍ
أصولَ الأباهمِ ) ( تمنَّى سِنانٌ ضَلَّةً أن يُخِيفَني ... ويأْمَنَ ما هذا بفعل
المُسالمِ ) ( تَمنَّيتَ جهداً أن تَضِيعَ ظُلامتي ... كذبتَ وربِّ الراقصاتِ
الرَّواسِم ) ( يمين امرىء لم يَرْضَعِ اللُّؤْمَ ثَدْيَه ... ولم
تَتَكَنَّفْه عروقُ الألائِم ) ديهث تستجير بالحارث بن ظالم بعد أن سلبت إبلها قال فأمنه
النعمان وأقام حينا ثم إن مصدقا للنعمان أخذ إبلا لامرأة من بني مرة يقال لها ديهث
فأتت الحارث فعلقت دلوها بدلوه ومعها بني لها فقالت أبا ليلى إني أتيتك مضافة فقال
الحارث إذا أورد القوم النعم فنادي بأعلى صوتك ( دَعَوْتِ بالله ولم تُراعِي ... ذلك
راعيكِ فنعْمَ الرَّاعِي ) ( وتلك ذودُ الحارِث الكساعِ ... يمشي لها بصارمٍ قَطّاعِ ) ( يَشْفِي به
مَجَامع الصُّداعِ ... ) وخرج الحارث في أثرها يقول ( أنا أبو ليلَى وسَيْفِي المَعْلُوبْ
... كَم قد أَجَرْنا من حَرِيبٍ محروب
) ( وكم رَدَدْنا من سَلِيبٍ مسلوبْ ... وطَعنَةٍ
طعنتُها بالمنصوب ) ( ذاك جيهزُ الموت عند المكروبْ ... ) ثم قال لها لا تَرِدَنّ عليكِ
ناقةٌ ولا بعيرٌ تَعْرِفينه إلا أخَذْتِيه ففعلتْ فأتت على لَقُوحٍ لها يحلِبُها
حَبَشِيٌّ فقالت يا أبا ليلى هذه لي فقال الحبشي كذبت فقال الحارث أرسلها لا أم لك
فضرط الحبشي فقال الحارث است الحالب أعلم فسارت مثلا قال أبو عبيدة ففي ذلك يقول
في الإسلام الفرزدق ( كما كان أوْفَى إذ يُنادي ابنُ دَيْهَثٍ ... وصِرْمَتُهُ
كالمَغْنَم المُتَنَهَّبِ ) ( فقام أبو ليلَى اليه ابنُ ظالمٍ ... وكان مَتَى ما يَسْلُلِ
السِّيْفَ يَضْرِبِ ) ( وما كان جاراً غيرَ دَلْوٍ تَعلّقتْ ... بحَبْلَيْنِ في
مُسْتَحْصِدِ القِدِّ مُكْرَبِ
) قال أبو عبيدة حدثني أبو محمد عصام العجلي قال فلما
قتل الحارث بن ظالم خالد بن جعفر في جوار الملك خرج هاربا حتى أتى صديقا له من
كندة يحل شعبي قال شعبي غير ممدود فلما ألح الأسود في طلب الحارث قال له الكندي ما
أرى لك نجاة إلا أن ألحقك بحضرموت ببلاد اليمن فلا يوصل إليك فسار معه يوما وليلة
فلما غربه قال إنني أنقطع ببلاد اليمن فأغترب بها وقد برئت منك خفارتي فرجع حتى
أتى أرض بكر بن وائل فلجأ الى بني عجل بن لجيم فنزل على زبان فأجاره وضرب عليه قبة
وفي ذلك يقول العجلي ( ونحن مَنَعْنا بالرِّماح ابنَ ظالمٍ ... فظلّ يغنِّي آمِناً في
خِبائنا ) قال أبو عبيدة فجاءته بنو ذهل بن ثعلبة وبنو عمرو بن شيبان فقالوا أخرج
هذا المشؤوم من بين أظهرنا لا يعرنا بشر فإنا لا طاقة لنا بالملحاء والملحاء كتيبة
الأسود فأبت عجل أن تخفره فقاتلوه فامتنعت بنو عجل فقال الحارث بن ظالم في الكندي
وفيهم ( يُكَلِّفُني الكِنْدِيُّ سَيْرَ تَنُوفةٍ ... أكابِدُ فيها كلَّ ذِي صُبَّةٍ
مُثْرِي ) الصبة قطعة من الغنم أو بقية منها ( وأقبلَ دُوني جَمْعُ ذُهْلٍ كأنّني ...
خَلاَةٌ لِذُهْلٍ والزَّعانِفِ من عَمْرِو ) ( ودُونِيَ رَكْبٌ من لُجَيْمٍ
مُصَمِّمٌ ... وزَبّانُ جارِي والخَفِيرُ على بَكْرِ ) ( لَعَمْرِيَ لا أخشَى ظُلاَمةَ ظالمٍ
... وسَعْدُ بن عِجْلٍ مُجْمِعون على نَصْرِي ) قال أبو عبيدة ثم قال لهم الحارث إني
قد اشتهر أمري فيكم ومكاني وأنا راحل عنكم فارتحل فلحق بطيىء فقال الحارث في ذلك ( لَعَمْرِي لقد
حلّتْ بِيَ اليومَ ناقتي ... إلى ناصرٍ من طيّىء غيرِ خاذلِ ) ( فأصبحتُ جاراً للمَجَرّةِ منهمُ ...
على باذخٍ يعلو على المُتَطاوِلِ
) قال أبو عبيدة وحدثني أبو حية ان الأسود حين قتل الحارث
خالدا سأل عن أمر يبلغ منه فقال له عروة بن عتبة إن له جارات من بلي بن عمرو ولا
أراك تنال منه شيئا أغيظ له من أخذهن وأخذ أموالهن فبعث الأسود فأخذهن واستاق
أموالهن فبلغ ذلك الحارث فخرج من الحين فانساب في غمار الناس حتى عرف موضع جاراته ومرعى
إبلهن فأتى الإبل فوجد حالبين يحلبان ناقة لهن يقال لها اللفاع وكانت لبونا كأغزر
الإبل إذا حلبت اجترت ودمعت عيناها وأصغت برأسها وتفاجت تفاج البائل وهجمت في المحلب
هجما حتى تسنمه وتجاوبت أحاليلها بالشخب هثا وهثيما حتى تصف بين ثلاثة محالب فصاح
الحارث بهما ورجز فقال ( إذا سَمِعْتِ حَنّةَ اللِّفَاعِ ... فَادْعِي أبا لَيْلَى ولا
تُرَاعي ) ( ذلك راعيكِ فنِعْمَ الرّاعِي ... يُجِبْكِ رَحْبَ البَاعِ والذِّراعِ ) ( مُنَطِّقاً
بصارمٍ قَطَّاعِ ... ) خليا عنها فعرفاه فضرط البائن فقال الحارث است الضارط أعلم
فذهبت مثلا قال الأثرم البائن الحالب الأيمن والمستعلي الحالب الأيسر ثم عمد إلى
أموال جاراته والى جاراته فجمعهن ورد أموالهن وسار معهن حتى اشتلاهن أي أنقذهن رواية
في قتله ابن الملك قال أبو عبيدة ولحق الحارث ببلاد قومه مختفيا وكانت أخته سلمى
بنت ظالم عند سنان بن أبي حارثة المري قال أبو عبيدة وكان الأسود بن المنذر قد
تبنى سنان بن أبي حارثة المري ابنه شرحبيل فكانت سلمى بنت كثير بن ربيعة من بني
غنم بن دودان امرأة سنان بن أبي حارثة المري ترضعه وهي أم هرم وكان هرم غنيا يقدر
على ما يعطي سائليه فجاء الحارث وقد كان اندس في بلاد غطفان فاستعار سرج سنان ولا
يعلم سنان وهم نزول بالشربة فأتى به سلمى ابنة ظالم فقال يقول لك بعلك ابعثي بابن
الملك مع الحارث حتى أستأمن له ويتخفر به وهذا سرجه آية إليك فزينته ثم دفعته الى
الحارث فأتى بالغلام ناحية من الشربة فقتله ثم أنشأ يقول ( قِفَا فاسْمَعَا أخْبِرْكما إذ سألتُما
... مُحارِبُ مولاه وثَكْلانُ نادمُ
) ثكلان نادم يعني الأسود لأنه قتل ابنه شرحبيل محارب
مولاه يعني الحارث نفسه ومولاه سنان (
أَخُصْيَيْ حِمَارٍ باتَ يَكْدِمُ نجمةً ... أتُؤْكَلُ
جاراتي وجارُك سالمُ ) ( حَسِبت أبيتَ اللَّعْنَ أنك فائتٌ ... ولمّا تَذُقْ ثُكْلاً
وأَنْفُك راغمُ ) ( فإن تك أذواداً أصبتَ ونسوةً ... فهذا ابنُ سَلْمَى رأسُهُ
مُتفاقِم ) ( علوتُ بذي الحَيّاتِ مَفْرِقَ رأسِه ... وكان سِلاَحِي تجتويه الجماجم ) ( فتكتُ به كما
فتكتُ بخالدٍ ... ولا يركَب المكروهَ إلاّ الأكارم ) ( بدأتُ بتِلك وانثنيتُ بهذه ...
وثالثةٍ تبيضّ منها المَقَادِمُ
) قال ففي ذلك يقول عقيل بن علفة في الإسلام وهو من بني
يربوع بن غيظ بن مرة لما هاجى شبيب بن البرصاء وأبوه يزيد وهو من بني نشبة بن غيظ
بن مرة ابن عم سنان بن أبي حارثة فعيره بقتل الحارث بن ظالم شرحبيل لأنه ربيب بني
حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ رهط شبيب ففي ذلك يقول عقيل ( قتْلنا شُرَحْبيلاً رِبيبَ أبيكُم ...
بناصيةِ المَعْلُوب ضاحية غصْبَا
) ( فلم تُنْكِرُوا أن يَغْمِزَ القومُ جارَكم ...
بإحْدَى الدَّوَاهِي ثم لم تَطْلُعُوا نَقْبَا ) قال أبو عبيدة وهرب الحارث فغزا
الأسود بني ذبيان إذ نقضوا العهد وبني أسد بشط أريك قال أبو عبيدة وسألته عنه فقال
هما أريكان الأسود والأبيض ولا أدري بأيهما كانت الوقعة قال أبو عبيدة وقال آخرون
إن سلمى امرأة سنان التي أخذ الحارث شرحبيل من عندها من بني أسد قال فإنما غزا
الأسود بني أسد لدفع الأسدية سلمى ابنه إلى الحارث فقتل فيهم قتلا ذريعا وسبى
واستاق أموالهم وفي ذلك يقول الأعشى ميمون ( وشُيوخٍ صَرْعَى بشَطَّيْ أَرِيكٍ ...
ونساءٍ كأنَّهن السَّعالِي ) ( من نَوَاصِي دُودَانَ إذ نقضوا العهدَ ... وذُبْيانَ
والهِجَانِ الغَوالِي ) ( رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَه ذلك اليومَ ... وأَسْرَى من مَعْشَرٍ
أَقْتالِ ) ( هؤلاَ ثم هؤلاَ كُلاًّ أحْذَيْتَ ... نِعالاً مَحْذُوّةً بمِثَالِ ) ( وأرى مَنْ
عصاكَ أصبح مخذولاً ... وكَعْبُ الذي يُطيعك عالي ) قال ووجد نعل شرحبيل عند أضاخ وهو من
الشربة في بني محارب بن خصفة بن قيس عيلان قال فأحمى لهم الأسود الصفا التي بصحراء
أضاخ وقال لهم إني أحذيكم نعالا فأمشاهم على الصفا المحمى فتساقط لحم أقدامهم فلما
كان الإسلام قتل جوشن الكندي رجلا من بني محارب فأقيد به جوشن بالمدينة وكان
الكندي من رهط عباس بن يزيد الكندي فهجا بني محارب فعيرهم بتحريق الأسود أقدامهم
فقال ( على عَهْدِ كِسْرَى نَعَّلتكم ملوكُنا ... صَفاً من أضَاخٍ حامياً يَتَلهّبُ ) قال أبو عبيدة
وصار ذلك مثلا يتوعد به الشعراء من هجوه ويحذرونهم مثل ذلك ومن ذلك أن ابن عتاب
الكلبي ورد على بني النوس من جديلة طيىء فسرقوا سهاما له فقال يحذرهم ( بني النوس
رُدُّوا أَسْهُمي إنّ أَسهُمِي ... كنَعْلِ شُرَحْبِيلَ التي في مُحَارِبِ ) وقال في
الجاهلية ابن أم كهف الطائي في مدحه لمالك بن حمارالشمخي فذكر نعل شرحبيل فقال ( ومولاك الذي قتل
ابنَ سَلْمَى ... عَلانِيةً شُرَحْبِيلَ ابنِ نَعْلِ ) لأنه لولا النعل لم يعرف وإنما عرف
بما صنع أبوه ببني محارب من أجل نعله التي وجدت في بني محارب قال أبو عبيدة وأخذ
الأسود سنان بن أبي حارثة فأتاه الحارث بن سفيان أحد بني الصارد وهو الحارث بن
سفيان بن مرة بن عوف بن الحارث بن سفيان أخو سيار بن عمرو بن جابر الفزاري لأمه
فاعتذر الى الأسود أن يكون سنان بن أبي حارثة علم أو اطلع ولقد كان أطرد الحارث من
بلاد غطفان وقال علي دية ابنك ألف بعير دية الملوك فحملها إياه وخلى عن سنان فأدى
الى الأسود منها ثمانمائة بعير ثم مات فقال سيار بن عمرو أخوه لأمه أنا أقوم فيما
بقي مقام الحارث بن سفيان فلم يرض به الأسود فرهنه سيار قوسه فأدى البقية فلما مدح
قراد بن حنش الصاردي بني فزارة جعل الحمالة كلها لسيار بن عمرو فقال ( ونحن رَهَنَّا
القَوْسَ ثُمّتَ فُودِيت ... بأَلْفٍ على ظَهْرِ الفَزَارِيِّ أَقْرَعَا ) ( بعَشْرِ مِئِينٍ
للملوكِ سَعَى بها ... لِيُوفيَ سَيَّارُ بنُ عمروٍ فأَسْرَعا ) ( رَمَيْنَا
صَفَاهُ بالمِئينَ فأصبحتْ ... ثَنَايَاه للساعين في المَجْدِ مَهْيَعَا ) قال ويقال بل
قالها ربيع بن قعنب فرد عليه قراد فقال ( ما كان ثَعْلَبُ ذِي عاجٍ لِيَحْمِلَها
... ولا الفَزَاريُّ جُوفَانُ بن جُوفَان ) ( لكن تَضَمَّنها ألْفاً فأخرجها ...
على تَكَالِيفها حارُ بنُ سُفْيانِ
) وقال عويف القوافي بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر في
الإسلام يفخر على أبي منظور الوبري حين هاجاه أحد بني وبر بن كلاب ( فهل وجدتم حاملاً
كَحَامِلِي ... إذ رَهَنَ القَوْسَ بألفٍ كاملِ ) ( بدِيَةِ ابنِ الملكِ الحُلاَحِلِ
... فافتكّها من قبلِ عامٍ قابلِ
) ( سَيّارٌ المُوفِي بها ذو السائِل ... ) لحوق الحارث
ببني دارم بعد قتله شرحبيل قال أبو عبيدة فلما قتل الحارث شرحبيل لحق ببني دارم
فلجأ الى بني ضمرة قال وبنو عبد الله بن دارم يقولون بل جاور معبد بن زرارة فأجاره
فجر جواره يوم رحرحان وجر يوم رحرحان يوم جبلة وطلبه الأسود بن المنذر بخفرته فلما
بلغه نزوله ببني دارم أرسل فيه إليهم أن يسلموه فأبوا فقال يمن على بني قطن بن
نهشل بن دارم بما كان من النعمان بن المنذر في أمر بني رشية وهي رميلة حين طلبهم
من لقيط بن زرارة حتى أستنقذهم ورشية أمة كانت لزرارة بن عدس بن زيد المجاشعي
فوطئها رجل من بني نهشل فأولدها وكان زرارة يأتي بني نهشل يطلب الغلمة التي ولدت
وولدت الأشهب بن رميلة والرباب بن رميلة وغيرهما وكانوا يسمعونه ما يكره فيرجع الى
ولده فيقول أسمعني بنو عمي خيرا وقالوا سنبعث بهم إليك عاجلا حتى مات زرارة فقام
لقيط ابنه بأمرهم فلما أتاهم أسمعوه ما كره ووقع بينهم شر فذهب النهشلي إلى الملك
فقال أبيت اللعن لا تصلني وتصل قومي بأفضل من طلبتك إلى لقيط الغلمة ليكف عني فدعاه
فشرب معه ثم استوهبهم منه فوهبهم له فقال الأسود بن المنذر في ذلك ( كَأَيِّنْ لنا من
نِعْمَةٍ في رِقابكم ... بنِي قَطَنٍ فضلاً عليكم وأَنْعُمَا ) ( وكَمْ مِنَّةٍ كانتْ لنا في بُيوتكم
... وقَتْلِ كَرِيم لم تَعُدُّوه مغرَمَا ) ( فإنكُم لا تمنَعون ابنَ ظالمٍ ...
ولم يمس بالأيدِي الوَشِيجَ المُقَوَّما ) فأجابه ضمرة بن ضمرة فقال ( سَنَمْنَع جاراً
عائذاً في بيوتكم ... بأسيافنا حتى يؤوبَ مُسَلَّمَا ) ( إذا ما دَعَوْنَا دَارِماً حالَ
دونَه ... عَوَابِسُ يَعْلُكْنَ الشَّكِيمَ المُعَجَّمَا ) ( ولو كنتَ حَرْباً ما وردتَ
طُوَيْلِعاً ... ولا حَوْفَه إلاّ خَمِيساً عَرَمْرَماً ) ( تركتَ بني ماءِ السماءِ وفِعْلَهم
... وأشبهتَ تَيْساً بالحِجازِ مُزَنَّما ) ( ولن أذْكُرَ النُّعْمانَ إلاّ
بصالحٍ ... فإنّ له فضلاً علينا وأنْعُمَا ) قال وبلغ ذلك بني عامر فخرج الأحوص
غازيا لبني دارم طالبا بدم أخيه خالد بن جعفر حين انطووا على الحارث وقاموا دونه
فغزاهم فالتقوا برحرحان فهزمت بنو دارم وأسر معبد بن زرارة فانطلقوا به حتى مات في
أيديهم وحديثه في يوم رحرحان يأتي بعد ثم أسر بنو هزان الحارث بن ظالم وقال أبو
عبيدة خرج الحارث من عندهم فجعل يطوف في البلاد حتى سقط في ناحية من بلاد ربيعة
ووضع سلاحه وهو في فلاة ليس فيها أثر ونام فمر به نفر من بني سعد قيس بن ثعلبة
ومعهم قوم من بني هزان من عنزة وهو نائم فأخذوا فرسه وسلاحه ثم أوثقوه فانتبه وقد
شدوه فلا يملك من نفسه شيئا فسألوه من أنت فلم يخبرهم وطوى عنهم الخبر فضربوه
ليقتلوه على أن يخبرهم من هو فلم يفعل فاشتراه القيسيون من الهزانيين بزق خمر وشاة
ويقال أشتراه رجل من بني سعد بإغلاق بكرة وعشرين من الشاء ثم انطلقوا به إلى
بلادهم فقالوا له من أنت وما حالك فلم يخبرهم فضربوه ليموت فأبى قال وهو قريب من
اليمامة قال فبينما هم على تلك الحال وهم يريغونه ضربا مرة وتهددا أخرى ولينا مرة ليخبرهم
بحاله وهو يأبى حتى ملوه فتركوه في قيده حتى انفلت ليلا فتوجه نحو اليمامة وهي قريب
منه فلقي غلمة يلعبون فنظر إلى غلام منهم أخلقهم للخير عنده فقال من أنت قال أنا
بجير بن أبجر العجلي وله ذؤابة يومئذ وأمه امراة قتادة بن مسلمة الحنفي فأتاه وأخذ
بحقويه والتزمه وقال أنا لك جار فيقال إن عجلا أجارته في هذا اليوم لا في اليوم
الأول الذي ذكرناه في أول الحديث فأتى الغلام أباه فأخبره وأجاره وقال ائت عمك
قتادة بن مسلمة الحنفي فأخبره فأتى قتادة فأخبره فأجاره قال أبو عبيدة وأما فراس
فزعم أنه أفلت من بني قيس فأقبل شدا حتى أتى اليمامة واتبعوه حتى انتهى إلى نادي
بني حنيفة وفيه قتادة بن مسلمة فلما رأوه يهوي نحوهم قال إن هذا لخائف وبصر بالقوم
خلفه فصاح به الحصن الحصن فأقبل حتى ولج الحصن وجاءت بنو قيس فحال دونه وقال لو
أخذتموه قبل دخوله الحصن لأسلمته إليكم فأما إذ تحرم بي فلا سبيل إليه قال فقالوا
أسيرنا أشتريناه بأموالنا وما هو لك بجار ولا تعرفه وإنما أتاك هاربا من أيدينا
ونحن قومك وجيرتك قال أما أن أسلمه أبدا فلا يكون ذلك ولكن اختاروا مني إن شئتم
فانظروا ما اشتريتموه به فخذوه مني وإن شئتم أعطتيه سلاحا كاملا وحملته على فرس
ودعوه حتى يقطع الوادي بيني وبينه ثم دونكموه فقالوا رضينا فقال ذلك للحارث فقال
نعم فألبسه سلاحا كاملا وحمله على فرسه وقال له إن أفلتهم فرد إلي الفرس والسلاح
لك قال فخرج وتركوه حتى جاز الوادي ثم أتبعوه ليأخذوه فلم يزل يقاتلهم ويطاردهم
حتى ورد بلاد بني قشير وهو قريب من اليمامة أيضا بينهما أقل من يوم فلما صار إلى
بلاد بني قشير يئسوا منه فرجعوا عنه وعرفه بنو قشير فانطووا عليه وأكرموه ورد إلى
قتادة بن مسلمة فرسه وأرسل إليه بمائة من الإبل لا أدري أأعطاه إياها بنو قشير من
أموالهم ليكافىء بها قتادة أم كانت له لم يفسر أبو عبيدة أمرها ولا سألته عنها فقال
الحارث بن ظالم في ابني حلاكة وهما من الذين باعوه من القيسيين وفيما كان من أمره
قال أبو عبيدة ويقال أسره راعيان من بني هزان يقال لهما ابنا حلاكة ( أَبْلِغْ لديكَ
بني قَيْسٍ مُغَلْغَلَةً ... أنِّي أُقَسَّمُ في هِزّانَ أرباعَا ) ( اِبنَا
حُلاَكةَ باعاني بلا ثَمَنٍ ... وباع ذو آل هِزانٍ بما باعا ) ( يا بْنَيْ حُلاَكةَ لمّا تأخُذَا
ثمني ... حتّى أُقَسَّمَ أفراساً وأدراعا ) ( قَتادةُ الخَيْرُ نالتنِي حَذيّتُه
... وكان قِدْماً إلى الخيراتِ طَلاّعا ) وقال في ذلك أيضا ( هَمَّتْ عُكَابةُ أن تَضِيمَ لجيما ...
فأبتْ لُجَيْمَ ما تقول عُكَابَهْ )
( فآسْقِي بُجَيْراً من رَحِيقِ مُدَامةٍ ... واسْقِي
الخفِيرَ وطَهِّري أثوابَهْ ) (
جاءتْ حَنِيفةُ قبل جَيْئةِ يَشْكُرٍ ... كُلاًّ وَجدْنا
أوْفِيَاءَ ذُؤابَهْ ) وزعم أبو عبيدة أن الحارث لما هزمت بنو تميم يوم رحرحان مر
برجل من بني أسد بن خزيمة فقال ياحار إنك مشؤوم وقد فعلت فانظر إذا كنت بمكان كذا
وكذا من برقة رحرحان فإن لي به جملا أحمر فلا تعرض له وإنما يعرض له ويكره أن يصرح
فيبلغ الأسود فيأخذه فلما كان الحارث بذلك المكان أخذ الجمل فنجا عليه وإذا هو لا
يساير من أمامه ولا يسبق من ورائه فبلغ ذلك الأسود فأخذ الأسود الأسدي وناسا من
قومه وبلغ ذلك الحارث بن ظالم فقال كأنه يهجوهم لئلا يتهمهم الأسود ( أرَانِي الله
بالنَّعمِ المُنَدَّى ... بِبُرْقةِ رَحْرَحانَ وقد أرانِي ) ( لِحيِّ الأنكدِينَ وحيِّ عَبْسٍ ...
وحيِّ نَعَامةٍ وبني غُدَانِ ) قال فلما بلغ قوله الأسود خلى عنهم ولحق الحارث بمكة وانتمى
إلى قريش وذلك قوله ( وما قَوْمِي بثَعْلَبةَ بنِ سَعْدٍ ... ولا بفَزَارةَ
الشُّعْرِ الرِّقابَا ) ( وقَوْمِي إنْ سألتِ بنو لُؤَيٍّ ... بمكّةَ عَلَّمُوا مُضَرَ
الضِّرَابا ) قال فزوده وحمله رواحة الجمحي على ناقة فذلك قوله ( وهَشَّ رَوَاحةُ الجُمَحِيُّ رَحْلِي
... بناجيةٍ ولم يَطْلُبْ ثَوَابَا
) ( كأنّ الرَّحْلَ والأنساعَ منها ... ومِيثَرتِي
كُسِينَ أَقَبَّ جَابَا ) خبر مقتله يروى حش وهش وهما لغتان وحش سوى قال فلحق الحارث
بالشام بملك من ملوك غسان يقال هو النعمان ويقال بل هو يزيد بن عمرو الغساني
فأجاره وكانت للملك ناقة محماة في عنقها مدية وزناد وصرة ملح وإنما يختبر بذلك رعيته
هل يجترىء عليه أحد منهم ومع الحارث أمرأتان فوحمت إحدى امرأتيه قال أبو عبيدة
وأصابت الناس سنة شديدة فطلبت الشحم إليه قال ويحك وأنى لي بالشحم والودك فألحت عليه
فعمد إلى الناقة فأدخلها بطن واد فلب في سبلتها أي طعن فأكلت امرأته ورفعت ما بقي
من الشحم في عكتها قال وفقدت الناقة فوجدت نحيرا لم يؤخذ منها إلا السنام فأعلموا
ذلك الملك وخفي عليهم من فعله فأرسل إلى الخمس التغلبي وكان كاهنا فقال من نحر
الناقة فذكر أن الحارث نحرها فتذمم الملك وكذب عنه فقال إن أردت أن تعلم علم ذلك
فدس امرأة تطلب إلى امرأته شحما ففعل فدخل الحارث وقد أخرجت امرأته إليها شحما
فعرف الداء فقتلها ودفنها في بيته فلما فقدت المرأة قال الخمس غالها ما غال الناقة
فإن كره الملك أن يفتشه عن ذلك فليأمر بالرحيل فإذا ارتحل بحث بيته ففعل واستثار
الخمس مكان بيته فوثب عليه الحارث فقتله فأخذ الحارث فحبس فاستسقى ماء فأتاه رجل
بماء فقال أتشرب فأنشأ الحارث يقول (
لقد قال لي عند المجَاهِدِ صاحبي ... وقد حِيلَ دون
العَيْشِ هل أنت شاربُ ) ( وَدِدْتُ بأطرافِ البَنَانِ لَوَ انَّنِي ... بذي أَرْوَنَى
تَرْمِي ورائي الثَّعَالِبُ ) الثعالب من مرة وهم رماة أروني مكان وقال مرة أخرى الثعالب بنو
ثعلبة يقول كانوا يرمون عني ويقومون بأمري قال فأمر الملك بقتله فقال إنك قد
أجرتني فلا تغدرني فقال لا ضير إن غدرت بك مرة فقد غدرت بي مرارا فأمر مالك بن
الخمس التغلبي أن يقتله بأبيه فقال با بن شر الأظماء أنت تقتلني فقتله وقال ابن
الكلبي لما قام ابن الخمس إلى الحارث ليقتله قال من أنت قال ابن الخمس قال أنت ابن
شر الأظماء قال وأنت ابن شر الأسماء فقتله فقال رجل من ضري وهم حي من جرهم يرثي
الحارث بن ظالم ( يا حارِ حِنِّيَّا ... حُرّاً قُطَامِيّا ) ( ما كنت ترْعِيّا ... في البيت
ضِجْعِيّا ) ( أدْعَى لُباخِيَّا ... مُمَّلأً عِيًّا ) وأخذ ابن الخمس سيف الحارث بن ظالم
المعلوب فأتى به سوق عكاظ في الحرم فجعل يعرضه على البيع ويقول هذا سيف الحارث بن
ظالم فاستراه إياه قيس بن زهير بن جذيمة فأراه إياه فعلاه به حتى قتله في الحرم فقال
قيس بن زهير يرثي الحارث بن ظالم (
ما قَصَرتْ من حاضنٍ سِتْرَ بَيْتِها ... أبَرَّ وأوْفَى
منك حَارِ بنَ ظالمِ ) ( أعَزَّ وأحْمَى عند جارٍ وذِمَّةٍ ... وأضْرَبَ في كاب من
النَّقْعِ قاتم ) هذه رواية أبي عبيدة والبصريين وأما الكوفيون فإنهم يذكرون أن
النعمان بن المنذر هو الذي قتله أخبرني بذلك علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو
سعيد عن محمد بن حبيب عن ابن الاعرابي عن المفضل قال لما هرب الحارث إلى مكة أسف
النعمان بن المنذر على فوته إياه فلطف له وراسله وأعطاه الأمان وأشهد على نفسه
وجوه العرب من ربيعة ومضر واليمن أنه لا يطلبه بذحل ولا يسوءه في حال وأرسل به مع
جماعة ليسكن الحارث اليهم وأمرهم أن يتكفلوا له بالوفاء ويضمنوا له عنه أنه لا يهيجه
ففعلوا ذلك وسكن إليه الحارث فأتى النعمان وهو في قصر بني مقاتل فقال للحاجب
استأذن لي والناس يومئذ عند النعمان متوافرون فآستأذن له فقال النعمان ائذن له وخذ
سيفه فقال له ضع سيفك وادخل فقال الحارث ولم أضعه قال ضعه فلا بأس عليك فلما ألح
عليه وضعه ودخل ومعه الأمان فلما دخل قال أنعم صباحا أبيت اللعن قال لا أنعم الله
صباحك فقال الحارث هذا كتابك قال النعمان كتابي والله ما أنكره أنا كتبته لك وقد
غدرت وفتكت مرارا فلا ضير أن غدرت بك مرة ثم نادى من يقتل هذا فقام ابن الخمس
التغلبي وكان الحارث فتك بأبيه فقال أنا أقتله وذكر باقي الخبر في قصته مع ابن
الخمس مثل ما ذكر أبو عبيدة خبر الحارث وعمرو بن الإطنابة وإنما ذكر هاهنا لاتصاله
بمقتل خالد بن جعفر ولأن فيما تناقضاه من الأشعار أغاني صالح ذكرها في هذا الموضع قال
أبو عبيدة كان عمرو بن الإطنابة الخزرجي ملك الحجاز ولما بلغه قتل الحارث بن ظالم
خالد بن جعفر وكان خالد مصافيا له غضب لذلك غضبا شديدا وقال والله لو لقي الحارث
خالدا وهو يقظان لما نظر إليه ولكنه قتله نائما ولو أتاني لعرف قدره ثم دعا بشرابه
ووضع التاج على رأسه ودعا بقيانه فتغنين له ( عَلِّلانِي وعَلِّلاَ صاحِبَيَّا ...
وأسْقِيَانِي مِنَ المُرَوَّقِ رِيّا
) ( إنّ فينا القِيَانَ يَعْزِفْنَ بالدُّفِّ ...
لفِتْيانِنا وعيشاً رَخِيّا ) (
يَتَبارَيْنَ في النَّعِيم ويَصْبُبْنَ خِلالَ القُرونِ
مِسْكاً ذَكِيّا ) ( إنّما هَمُّهنّ أنْ يَتَحَلَّنَ ... سُموطاً وسُنْبلاً
فَارِسيّا ) ( من سُموطِ المَرْجانِ فُصِّلَ بالشَّذْرِ ... فأَحْسِنْ
بِحَلْيِهنّ حُلِيّا ) ( وفتىً يَضرِب الكَتِيبةَ بالسَّيْفِ ... إذا كانتِ السيوفُ
عِصِيّا ) ( إنّنا لا نُسَرُّ في غير نَجْدٍ ... إنّ فِينا بها فتىً خَزْرَجِيَّا ) ( يدفَع
الضَّيْمَ والظُّلاَمةَ عنها ... فَتَجافَيْ عنه لنا يامَنِيّا ) ( أَبْلِغِ
الحارثَ بنَ ظالمٍ الرِّعدِيدَ ... والناذرَ النُّذُور عَلَيّا ) ( أنما يَقْتُل
النِّيَامَ ولا يقتلُ ... يَقْظانَ ذا سلاحٍ كَمِيّا ) ( ومَعِي شِكّتي مَعَابِلُ كالجَمْرِ
... وأعددتُ ضارماً مَشْرَفِيّا
) ( لو هبطتَ البلادّ أَنْسيتُك القتلَ ... كما يُنْسِىء
النَّسِيء النَّسِيا ) شعر الحارث بعد أن انخذل عمرو عنه قال فلما بلغ الحارث شعره
هذا ازداد حنقا وغيظا فسار حتى أتى ديار بني الخزرج ثم دنا من قبة عمرو بن
الإطنابة ثم نادى أيها الملك أغثني فإني جار مكثور وخذ سلاحك فأجابه وخرج معه حتى
إذا برز له عطف عليه الحارث وقال أنا أبو ليلى فاعتركا مليا من الليل وخشي عمرو أن
يقتله الحارث فقال له يا حار إني شيخ كبير وإني تعتريني سنة فهل لك في تأخير هذا
الأمر إلى غد فقال هيهات ومن لي به في غد فتجاولا ساعة ثم ألقى عمرو الرمح من يده
وقال يا حار ألم أخبرك أن النعاس قد يغلبني قد سقط رمحي فاكفف فكف قال أنظرني إلى
غد قال لا أفعل قال فدعني آخذ رمحي قال خذه قال أخشى أن تعجلني عنه أو تفتك بي إذا
أردت أخذه قال وذمة ظالم لا أعجلتك ولا قاتلتك ولا فتكت بك حتى تأخذه قال وذمة
الإطنابة لا آخذه ولا أقاتلك فانصرف الحارث إلى قومه وقال مجيبا له ( اِعْزِفَا لي
بلَذّةٍ قَيْنَتَيّا ... قبلَ أن يُبْكِرَ المنونُ عَلَيّا ) ( قبلَ أن يُبْكِرَ العواذلُ إنِّي
... كنتُ قِدْماً لأِمْرِهِنّ عَصِيّا
) ( ما أُبالِي أراشداً فآصْبَحَانِي ... حَسِبتْني
عَوَاذِلِي أم غَوِيّا ) ( بعدَ ألاَّ أُصِرَّ لله إنَّما ... في حياتي ولا أخونَ صَفِيّا ) ( من سُلافٍ
كأنها دمُ ظَبْيٍ ... في زُجَاجٍ تخالُه رَازِقِيا ) ( بلغتْنا مقالةُ المرءِ عمرٍو ...
فأنِفْنا وكان ذاك بَدِيّا ) ( قد هَمَمْنا بقتلِه إذ بَرَزْنَا ... وَلقِيناهُ ذا سِلاَحٍ
كَمِيّا ) ( غيَر ما نائمٍ تعلَّلَ بالحُلْمِ ... مُعِدًّا بكَفِّه مَشْرَفِيّا ) ( فَمَنَنَّا
عليه بعد عُلُوٍّ ... بوفاءٍ وكنتُ قِدْماً وَفيّا ) ( ورجعنا بالصَّفْحِ عنه وكان ...
المَنُّ منا عليه بعدُ تَلِيّا
) نسبة ما في هذا الخبر من الأغاني منها في شعر عمرو بن
الإطنابة صوت ( عَلِّلانِي وعَلِّلاَ صاحِبَيَّا ... وأسْقِيَانِي مِنَ
المُرَوَّقِ رِيّا ) ( إنّ فينا القِيَانَ يعزِفن بالدفّ ... لفِتْيانِنا وعيشاً
رَخِيّا ) غنته عزة الميلاء من رواية حماد عن أبيه خفيف رمل بالوسطى قال حماد أخبرني
أبي قال بلغني أن معبدا قال دخلت على جميلة وعندها عزة الميلاء تغنيها لحنها في
شعر عمرو بن الإطنابة الخزرجي (
علِّلاني وعللا صاحبيّا ... ) على معزفة لها وقد أسنت فما سمعت
قط مثلها وذهبت بعقلي وفتنتني فقلت هذا وهي كبيرة مسنة فكيف بها لو أدركتها وهي
شابة وجعلت أعجب منها ومنها في شعر الحارث بن ظالم صوت ( ما أُبالي إذا اصطبحتُ
ثلاثاً ... أرشيداً حَسِبْتَني أم غَوِيّا ) ( مِن سُلاَفٍ كأنها دمُ ظَبْيٍ ...
في زُجاجٍ تخالُه رَازِقيّا ) غناه فليح بن أبي العوراء رملا بالبنصر عن عمرو بن بانة وغناه
ابن محرز خفيف ثقيل أول بالخنصر من رواية حبش ومنها صوت ( بلغتْنا مقالةُ المرءِ عمرٍو ...
فأنِفْنا وكان ذاك بَدِيّا ) ( قد هَمَمْنا بقتلِه إذ بَرَزْنا ... ولَقِيناه ذا سَلاحٍ
كَمِيّا ) غناه مالك خفيف رمل بالبنصر من رواية حبش وذكر اسحاق في مجرده أن الغناء
في هذين البيتين ليونس الكاتب ولم ينسب الطريقة ولا جنسها ونذكر ها هنا خبر رحرحان
ويوم قتله إذ كان مقتل الحارث وخبره خبرهما يوم رحرحان الثاني أخبرني علي بن
سليمان ومحمد بن العباس اليزيدي في كتاب النقائض قالا قال أبو سعيد الحسن بن
الحسين السكري عن محمد بن حبيب عن أبي عبيدة قال كان من خبر رحرحان الثاني أن
الحارث بن ظالم المري لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب غدرا عند النعمان بن المنذر
بالحيرة هرب فأتى زرارة بن عدس فكان عنده وكان قوم الحارث قد تشاءموا به فلاموه
وكره أن يكون لقومه زعم عليه والزعم المنة فلم يزل في بني تميم عند زرارة حتى لحق
بقريش وكان يقال إن مرة بن عوف من لؤي بن غالب وهو قول الحارث بن ظالم ينتمي إلى
قريش ( رفعتُ السَّيْفَ إذ قالوا قُرَيْشٌ ... وبَيَّنْتُ الشَّمائلَ والقِبَابَا ) ( فما قوْمِي
بثَعْلَبةَ بنِ سَعْدٍ ... ولا بفَزَارةَ الشُّعْرِ الرِّقابَا ) وأتاهم لذلك
النسب فكان عند عبد الله بن جدعان فخرجت بنو عامر إلى الحارث بن ظالم حيث لجأ إلى
زرارة وعليهم الأحوص بن جعفر فأصابوا امرأة من بني تميم وجدوها تحتطب وكان في رأس
الخيل التي خرجت في طلب الحارث بن ظالم شريح بن الأحوص وأصابوا غلمانا يجتنون
الكمأة وكان الذي أصاب تلك المرأة رجلا من غني فأرادت بنو عامر أخذها منه فقال الأحوص
لا تأخذوا أخيذة خالي وكانت أم جعفر يعني أبا الأحوص خبية بنت رياح الغنوي وهي
إحدى المنجبات ويقال أتى شريح بن الأحوص بتلك المرأة إليه فسألها عن بني تميم
فأخبرتهم أنهم لحقوا بقومهم حين بلغهم مجيئكم فدفعها الأحوص إلى الغنوي فقال
اعفجها الليلة واحذر أن تنفلت فوطئها الغنوي ثم نام فذهبت على وجهها فلما أصبح
دعوا بها فوجدوها قد ذهبت فسألوه عنها فقال هذا حري رطبا من زبها وكانت المرأة
يقال لها حنظلة وهي بنت أخي زرارة بن عدس فأتت قومها فسألها عمها زرارة عما رأت
فلم تستطع أن تنطق فقال بعضهم اسقوها ماء حارا فإن قلبها قد برد من الفرق ففعلوا
وتركوها حتى اطمأنت فقالت يا عم أخذني القوم أمس وهم فيما أرى يريدونكم فاحذر أنت
وقومك فقال لا بأس عليك يا بنت أخي فلا تذعري قومك ولا تروعيهم وأخبريني ما هيئة القوم
وما نعتهم قالت أخذني قوم يقبلون بوجوه الظباء ويدبرون بأعجاز النساء قال زرارة
أولئك بنو عامر فمن رأيت فيهم قالت رأيت رجلا قد سقط حاجباه على عينيه فهو يرفع
حاجبيه صغير العينين عن أمره يصدرون قال ذاك الأحوص بن جعفر قالت ورأيت رجلا قليل
المنطق إذا تكلم اجتمع القوم لمنطقه كما تجتمع الإبل لفحلها وهو من أحسن الناس
وجها ومعه ابنان له لا يدبر أبدا إلا وهما يتبعانه ولا يقبل إلا وهما بين يديه قال
ذلك مالك بن جعفر وابناه عامر وطفيل قالت ورأيت رجلا أبيض هلقامة جسيما والهلقامة
الأفوه وقال ذلك ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب قالت ورأيت رجلا أسود أخنس
قصيرا إذا تكلم عذم القوم عذم المنخوس قال ذلك ربيعة بن قرط بن عبد بن أبي بكر بن
كلاب قالت ورأيت رجلا صغير العينين أقرن الحاجبين كثير شعر السبلة يسيل لعابه على
لحيته إذا تكلم قال ذلك حندج بن البكاء قالت ورأيت رجلا صغير العينين ضيق الجبهة
طويلا يقود فرسا له معه جفير لا يجاوز يده قال ذلك ربيعة بن عقيل قالت ورأيت رجلا
آدم معه ابنان له حسنا الوجه أصبهان إذا أقبلا نظر القوم إليهما حتى ينتهيا وإذا
أدبرا نظروا إليهما قال ذلك عمرو بن خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب وابناه يزيد
وزرعة ويقال قالت ورأيت فيهم رجلين أحمرين جسيمين ذوي غدائر لا يفترقان في ممشى ولا
مجلس فإذا أدبرا اتبعهما القوم بأبصارهم وإذا أقبلا لم يزالوا ينظرون إليهما حتى
يجلسا قال ذانك خويلد وخالد ابنا نفيل قالت ورأيت آدم جسيما كأن رأسه مجز غضورة
والغضورة حشيش دقاق خشن قائم يكون بمكة تريد أن شعره قائم خشن كأنه حشيش قد جز قال
ذلك عوف بن الأحوص قالت ورأيت رجلا كأن شعر فخذيه حلق الدروع قال ذلك شريح بن
الأحوص قالت ورأيت رجلا أسمر طويلا يجول في القوم كأنه غريب قال ذلك عبد الله بن
جعدة ويقال قالت ورأيت رجلا كثير شعر الرأس صخابا لا يدع طائفة من القوم إلا
أصخبها قال ذلك عبد الله بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة فسارت بنو عامر
نحوهم والتقوا برحرحان وأسر يومئذ معبد بن زرارة أسره عامر بن مالك واشترك في أسره
طفيل بن مالك ورجل من غني يقال له أبو عميلة وهو عصمة بن وهب وكان أخا طفيل بن
مالك من الرضاعة وكان معبد بن زرارة رجلا كثير المال فوفد لقيط بن زرارة على عامر
بن مالك في الشهر الحرام وهو رجب وكانت مضر تدعوه الأصم لأنهم كانوا لا يتنادون
فيه يا لفلان ويا لفلان ولا يتغازون ولا يتنادون فيه بالشعارات وهو أيضا منصل الأل
والأل الأسنة كانوا إذا دخل رجب أنصلوا الأسنة من الرماح حتى يخرج الشهر وسأل لقيط
عامرا أن يطلق أخاه فقال أما حصتي فقد وهبتها لك ولكن أرض أخي وحليفي اللذين
اشتركا فيه فجعل لقيط لكل واحد مائة من الإبل فرضيا وأتيا عامرا فأخبراه فقال عامر
للقيط دونك أخاك فأطلق عنه فلما أطلق فكر لقيط في نفسه فقال أعطيهم مائتي بعير ثم
تكون لهم النعمة علي بعد ذلك لا والله لا أفعل ذلك ورجع إلى عامر فقال إن أبي
زرارة نهاني أن أزيد على مائة دية مضر فإن أنتم رضيتم أعطيتكم مائة من الإبل فقالوا
لا حاجة لنا في ذلك فانصرف لقيط فقال له معبد مالي يخرجني من أيديهم فأبى ذلك عليه
فقال إذا يقتسم العرب بني زرارة فقال معبد لعامر بن مالك يا عامر أنشدك الله لما
خليت سبيلي فإنما يريد ابن الحمراء أن يأكل كل مالي ولم تكن أمه أم لقيط فقال له
عامر أبعدك الله إن لم يشفق عليك أخوك فأنا أحق ألا أشفق عليك فعمدوا إلى معبد
فشدوا عليه القد وبعثوا به إلى الطائف فلم يزل به حتى مات فذلك قول شريح بن الأحوص
( لَقِيطُ
وأنت امرؤٌ ماجدٌ ... ولكنّ حِلْمَكَ لا يَهْتدِي ) ( ولَمّا أَمِنْتَ وساغ الشِّرابُ ...
واحتلّ بيتُك في ثَهْمَدِ ) ( رفعتَ برِجْلَيْكَ فوق الفِرَاشِ ... تُهْدِي القصائدَ في
مَعْبَد ) ( وأسلمتَه عند جِدِّ القِتَالِ ... وتبخَل بالمالِ أن تَفْتَدِي ) وقال في ذلك عوف
بن عطية بن الخرع التيمي يعير لقيط بن زرارة ( هَلاَّ فَوارِسَ رَحْرَحانَ هَجَوْتَهم
... عُشَراً تَنَاوَحُ في سَرَارةِ وَاد ) ( لا تأكُل الإِبِلُ الغِراثُ نَباتَه
... ما إن يقومُ عِمادُه بعِمَادِ
) ( هَلاَّ كَرَرْتَ على أُخَيِّك مَعْبَدٍ ...
والعامريُّ يقودُه بصِفَادِ ) (
وذكرتَ من لَبَن المُحَلَّقِ شَرْبةً ... والخيلُ تعدو
بالصِّفَاحِ بَدَاد ) بداد متفرقة والصفاح موضع والمحلق موسومة بحلق على وجوهها يقول
ذكرت لبنها يعني إبله ( لو كنتَ إذ لا تستطيعُ فديتَه ... بهِجانِ أُدْمٍ طارف
وتِلاَدِ ) ( لكنْ تَرَكْتَهُ في عَميقٍ قَعْرُها ... جَزَراً لخامعةٍ وطيرِ عَوَادِ ) ( لو كنتَ
مُسْتَحِياً لِعرْضِكَ مَرّةً ... قاتلتَ أو لَفَدَيْتَ بالأذواد ) وفيها يقول نابغة
بني جعدة ( هَلاَ سألتَ بيومَيْ رَحْرَحانَ وقد ... ظَنّتْ هَوَازِنُ أنّ العِزّ قد زَالاَ ) بعض ما قاله
الشعراء في يوم رحرحان وفيها يقول مقدام أخو بني عدس بن زيد في الإسلام وقتلت بنو
طهية ابنا للقعقاع بن معبد فتوادوا فأخذت بنو طهية منهم الفضل ( وأنتم بنو مَاءِ
السماءِ زعمتمُ ... ومات أبوكم يا بَنِي مَعْبَدٍ هُزْلاً ) وقال المخبل السعدي يذكر معبدا ( فإنْ تَكُ
نالتْنا كُلَيْبٌ بقرَّةٍ ... فيومُك فيهم بالمصيفةِ أَبْرَدُ ) ( هم قَتَلُوا
يومَ المصيفةِ مالكاً ... وشاط بأيديهم لَقِيطٌ ومَعْبَدُ ) وفيها يقول عياض بن مرثد بن أسيد بن
قريط بن لبيد في الإسلام ( نحن أسَرْنَا مَعْبَداً يوم مَعْبَدٍ ... فما افْتُكَّ حتّى
مات مَنْ شِدّةِ الأَسْرِ ) ( ونحن قتلنا بالصَّفَا بعد مَعْبَدٍ ... أخاه بأطرافِ
الرُّدَيْنيّةِ السُّمْرِ ) وهذا يوم شعب جبلة السبب في يوم جبلة قال أبو عبيدة وأما يوم
جبلة وكان من عظام أيام العرب وكان عظام أيام العرب ثلاثة يوم كلاب ربيعة ويوم
جبلة ويوم ذي قار وكان الذي هاج يوم جبلة أن بني عبس بن بغيض حين خرجوا هاربين من
بني ذبيان بن بغيض وحاربوا قومهم خرجوا متلددين فقال الربيع بن زياد العبسي أما
والله لأرمين العرب بحجرها اقصدوا لبني عامر فخرج حتى نزل مضيقا من وادي بني عامر
ثم قال امكثوا فخرج ربيع وعامر ابنا زياد والحارث بن خليف حتى نزلوا على ربيعة بن
شكل بن كعب بن الحريش وكان العقد من بني عامر الى بني كعب بن ربيعة وكانت الرياسة في
بني كلاب بن ربيعة فقال ربيعة بن شكل يا بني عبس شأنكم جليل وذحلكم الذي يطلب منكم
عظيم وأنا أعلم والله ان هذه الحرب أعز حرب حاربتها العرب قط ولا والله ما بد من
بني كلاب فأمهلوني حتى أستطلع طلع قومي فخرج في قوم من بني كعب حتى جاؤوا بني كلاب
فلقيهم عوف بن الأحوص فقال يا قوم أطيعوني في هذا الطرف من غطفان فاقتلوهم
واغنموهم لا تفلح غطفان بعده أبدا ووالله إن تزيدون على أن تسمنوهم وتمنعوهم ثم
يصيروا لقومكم أعداء فأبوا عليه وانقلبوا حتى نزلوا على الأحوص بن جعفر فذكروا له
من أمرهم فقال لربيعة بن شكل أظللتهم ظلك وأطعمتهم طعامك قال نعم قال قد والله
أجرت القوم فانزلوا القوم وسطهم بحبوحة دارهم وذكر بشر بن عبد الله بن حيان
الكلابي أن عبسا لما حاربت قومها أتوا بني عامر وأرادوا عبد الله بن جعدة وابن
الحريش ليصيروا حلفاءهم دون كلاب فأتى قيس بن زهير وأقبل نحو بني جعفر هو والربيع
بن زياد حتى انتهيا الى الأحوص جالسا قدام بيته فقال قيس للربيع إنه لا حلف ولا
ثقة دون أن أنتهي إلى هذا الشيخ فتقدم إليه قيس فأخذ بمجامع ثوبه من وراء فقال هذا
مقام العائذ بك قتلتم أبي فما أخذت له عقلا ولا قتلت به أحدا وقد أتيتك لتجيرنا فقال
الأحوص نعم أنا لك جار مما أجير منه نفسي وعوف بن الأحوص عن ذلك غائب فلما سمع عوف
بذلك أتى الأحوص وعنده بنو جعفر فقال يا معشر بني جعفر أطيعوني اليوم وأعصوني أبدا
وإن كنت والله فيكم معصيا إنهم والله لو لقوا بني ذبيان لولوكم أطراف الأسنة إذا
نكهوا في أفواههم بكلام فابدأوا بهم فاقتلوهم واجعلوهم مثل البرغوث دماغه في دمه فأبوا
عليه وحالفوهم فقال والله لا أدخل في هذا الحلف قال وسمعت بهم حيث قر قرارهم بنو
ذبيان فحشدوا واستعدوا وخرجوا وعليهم حصن بن حذيفة بن بدر ومعه الحليفان أسد
وذبيان يطلبون بدم حذيفة وأقبل معهم شرحبيل بن أخضر بن الجون والجون هو معاوية سمي
بذلك لشدة سواده ابن آكل المرار الكندي في جمع من كندة وأقبلت بنو حنظلة بن مالك
والرباب عليهم لقيط بن زرارة يطلبون بدم معبد بن زرارة ويثربي بن عدس وأقبل معهم
حسان بن عمرو بن الجون في جمع عظيم من كندة وغيرهم فأقبلوا إليهم بوضائع كانت تكون
بالحيرة مع الملوك وهم الرابطة وكان في الرباب رجل من اشرافهم يقال له النعمان بن
قهوس التيمي وكان معه لواء من سار الى جبلة وكان من فرسان العرب وله تقول دختنوس
بنت لقيط بن زرارة يومئذ ( فَرَّ ابنُ قَهْوَسٍ الشُّجَاعُ ... بكَفِّه رُمْحٌ مِتَلُّ ) ( يعدُو به
خَاظِي البَضِيعِ ... كأنّه سِمْعٌ أزَلُّ ) ( إنّك مِنْ تَيْمٍ فَدَعْ ...
غَطَفانَ إن ساروا وحلُّوا ) متل مستقيم يتل به كل شيء الخاظي الشيء المكتنز والسمع ولد
الضبغ من الذئب والعسبار ولد الذئب من الكلبة ( لا مِنْكَ عدُّهمُ ولا ... آبَاكَ إن هَلَكُوا
وذَلُّوا ) ( فَخْرَ البَغِيِّ بحِدْجِ ربَّتها ... إذا النّاسُ استقلُّوا ) ( لا حِدْجَها
رَكِبْت ولا ... لِرَغَالِ فيه مُسْتَظَلُّ ) ( ولقد رأيتُ أباكَ وَسْطَ ...
القَوْمِ يَرْبُقُ أو يَجُلّ )
( مُتَقَلِّداً رِبْقَ الفُرَارِ ... كأنه في الجِيدِ
غُلُّ ) يجل يلقط البعر والفرار أولاد الغنم واحدها فرارة قال وكان معهم رؤساء بني
تميم حاجب بن زرارة ولقيط بن زرارة وعمرو بن عمرو وعتيبة بن الحارث بن شهاب وتبعهم
غثاء من غثاء الناس يريدون الغنيمة فجمعوا جمعا لم يكن في الجاهلية قط مثله أكثر
كثرة فلم تشك العرب في هلاك بني عامر فجاؤوا حتى مروا ببني سعد بن زيد مناة فقالوا
لهم سيروا معنا إلى بني عامر فقالت لهم بنو سعد ما كنا لنسير معكم ونحن نزعم أن
عامر بن صعصعة ابن سعد بن زيد مناة فقالوا أما إذ أبيتم أن تسيروا معنا فاكتموا
علينا فقالوا أما هذا فنعم فلما سمعت بنو عامر بمسيرهم اجتمعوا الى الأحوص بن جعفر
وهو يومئذ شيخ كبير قد وقع حاجباه على عينيه وقد ترك الغزو غير أنه يدبر أمر الناس
وكان مجربا حازما ميمون النقيبة فأخبروه الخبر فقال لهم الأحوص قد كبرت فما أستطيع
أن أجيء بالحزم وقد ذهب الرأي مني ولكني إذا سمعت عرفت فأجمعوا آراءكم ثم بيتوا
ليلتكم هذه ثم اغدوا علي فاعرضوا علي آراءكم ففعلوا فلما أصبحوا غدوا عليه فوضعت
له عباءة بفنائه فجلس عليها ورفع حاجبيه عن عينيه بعصابة ثم قال هاتوا ما عندكم فقال
قيس بن زهير العبسي بات في كنانتي الليلة مائة رأي فقال له الأحوص يكفينا منها رأي
واحد حازم صليب مصيب هات فانثر كنانتك فجعل يعرض كل رأي رآه حتى أنفد فقال له
الأحوص ما أرى بات في كنانتك الليلة رأي واحد وعرض الناس آراءهم حتى أنفدوا فقال
ما أسمع شيئا وقد صرتم إلي احملوا أثقالكم وضعفاءكم ففعلوا ثم قال احملوا ظعنكم
فحملوها ثم قال اركبوا فركبوا وجعلوه في محفة وقال انطلقوا حتى تعلوا في اليمين
فإن أدرككم أحد كررتم عليه وإن أعجزتموهم مضيتم فسار الناس حتى أتوا وادي بحار
ضحوة فإذا الناس يرجع بعضهم على بعض فقال الأحوص ما هذا قيل هذا عمرو بن عبد الله
بن جعدة في فتيان من بني عامر يعقرون بمن أجاز بهم ويقطعون بالنساء حواياهن فقال
الأحوص قدموني فقدموه حتى وقف عليهم فقال ما هذا الذي تصنعون قال عمرو أردت أن
تفضحنا وتخرجنا هاربين من بلادنا ونحن أعز العرب وأكثرهم عددا وجلدا وأحدهم شوكة
تريد أن تجعلنا موالي في العرب إذ خرجت بنا هاربا قال فكيف أفعل وقد جاءنا ما لا
طاقة لنا به فما الرأي قال نرجع الى شعب جبلة فنحرز النساء والضعفة والذراري
والأموال في رأسه ونكون في وسطه ففيه ثمل أي خصب وماء فإن أقام من جاءك أسفل
أقاموا على غير ماء ولا مقام لهم وإن صعدوا عليك قاتلتهم من فوق رؤوسهم بالحجارة فكنت
في حرز وكانوا في غير حرز وكنت على قتالهم أقوى منهم على قتالك قال هذا والله
الرأي فأين كان هذا عنك حين استشرت الناس قال إنما جاءني الآن قال الأحوص للناس
ارجعوا فرجعوا ففي ذلك يقول نابغة بني جعدة ( ونحن حَبَسْنا الحَيَّ عَبْساً وعامراً
... لحسَّانَ وابنِ الجَوْنِ إذ قيل أقْبِلاَ ) ( وقد صَعِدتْ وادي بِحَارٍ نساؤهم
... كإصْعادِ نَسْرٍ لا يرومون منزلاَ
) ( عَطَفْنا لهم عَطْفَ الضَّرُوسِ فصادفوا ... من
الهَضْبةِ الحمراءِ عِزًّا ومَعْقِلا
) الضروس الناقة العضوض فدخلوا شعب جبلة وجبلة هضبة
حمراء بين الشريف والشرف والشريف ماء لبني نمير والشرف ماء لبني كلاب وجبلة جبل
عظيم له شعب عظيم واسع لا يؤتى الجبل إلا من قبل الشعب والشعب متقارب المدخل
وداخله متسع وبه اليوم عرينة من بجيلة فدخلت بنو عامر شعبا منه يقال له مسلح
فحصنوا النساء والذراري والأموال في رأس الجبل وحلؤوا الإبل عن الماء واقتسموا
الشعب بالقداح فأقرع بين القبائل في شظاياه فخرجت بنو تميم ومعهم بارق حي من الأزد
حلفاء يومئذ لبني نمير وبارق هو سعد بن عدي بن حارثة بن عمرو مزيقياء بن عامر ماء
السماء وسمي مزيقياء لأنه كان يمزق عليه كل يوم حلة فولجوا الخليف والخليف الطريق بين
الشعبين شبه الزقاق لأن سهمهم تخلف وفيه يقول معقر بن أوس بن حمار البارقي ( ونحن
الأَْيمَنُونَ بنو نُمَيْرٍ ... يَسِيلُ بنا أمَامَهمُ الخَلِيفُ ) قال وكان معقر
يومئذ شيخا كبيرا أعمى ومعه ابنة له تقود به جمله فجعل يقول لها من أسهل من الناس
فتخبره وتقول هؤلاء بنو فلان وهؤلاء بنو فلان حتى إذا تناهى الناس قال اهبطي لا
يزال هذا الشعب منيعا سائر هذا اليوم وهبط وكانت كبشة بنت عروة الرحال بن عتبة بن
جعفر بن كلاب يومئذ حاملا بعامر بن الطفيل فقالت ويلكم يا بني عامر ارفعوني فوالله
إن في بطني لعز بني عامر القبائل التي شهدت وقعة جبلة فصفوا القسي على عواتقهم ثم
حملوها حتى أثووها بالقنة يقال قنة وقنان فزعموا أنها ولدت عامرا يوم فرغ الناس من
القتال فشهدت بنو عامر كلها جبلة إلا هلال بن عامر وعامر بن ربيعة بن عامر وشهدها مع
بني عامر من العرب بنو عبس بن رفاعة بن الحارث بن بهثة بن سليم وكان لهم بأس وحزم
وعليهم مرداس بن أبي عامر وهو أبو العباس بن مرداس وكانت بنو عبس بن رفاعة حلفاء
بني عمرو بن كلاب وزعم بعض بني عامر أن مرداسا كان مع أخواله غني وكانت أمه فاطمة
بنت جلهمة الغنوية وشهدتها غني وباهلة وناس من بني سعد بن بكر وقبائل بجيلة كلها
إلا قسرا لحرب كانت بين قسر وقومها فارتحلت بجيلة فتفرقت في بطون بني عامر فكانت عادية
بن عامر بن قداد من بجيلة في بني عامر بن ربيعة وكانت سحمة من بجيلة في بني جعفر
بن كلاب ويقال عمرو بن كلاب وكانت عرينة من بجيلة في عمرو بن كلاب وكانت بنو قيس كبة
لفرس يقال لها كبة من بجيلة في بني عامر بن ربيعة وكانت فتيان في بني عامر بن
ربيعة وبنو قطيعة من بجيلة في بني أبي بكر بن كلاب ونصيب بن عبد الله من بجيلة في
بني نمير وكانت ثعلبة والخطام من بجيلة في بني عامر بن ربيعة وبنو عمرو بن معاوية
بن زيد من بجيلة في بني أبي بكر بن كلاب معهم يومئذ نفير من عكل فبلغ جمعهم ثلاثين
ألفا وعمي على بني عامر الخبر فجعلوا لا يدرون ما قرب القوم من بعدهم وأقبلت تميم
وأسد وذبيان ولفهم نحو جبلة فلقوا كرب بن صفوان بن شجنة بن عطارد بن عوف بن كعب بن
سعد بن زيد مناة فقالوا له أين تذهب أتريد أن تنذر بنا بني عامر قال لا قالوا
فأعطنا عهدا وموثقا ألا تفعل فأعطاهم فخلوا سبيله فمضى مسرعا على فرس له عري حتى
إذا نظر إلى مجلس بني عامر وفيهم الأحوص نزل تحت شجرة حيث يرونه فأرسلوا إليه يدعونه
قال لست فاعلا ولكن إذا رحلت فأتوا منزلي فإن الخبر فيه فلما جاؤوا منزله إذا فيه
تراب في صرة وشوك قد كسر رؤوسه وفرق جهته وإذا حنظلة موضوعة وإذا وطب معلق فيه لبن
فقال الأحوص هذا رجل قد أخذ عليه المواثيق ألا يتكلم وهو يخبركم أن القوم مثل
التراب كثرة وأن شوكتهم كليلة وهم متفرقون وجاءتكم بنو حنظلة انظروا ما في الوطب
فاصطبوه فإذا فيه لبن حزر قرص فقال القوم منك على قدر حلاب اللبن إلى أن يحزر فقال
رجل من بني يربوع ويقال قالته دختنوس بنت لقيط بن زرارة ( كَرِبُ بن صَفْوانَ بنِ شِجْنةَ لم
يَدَعْ ... مِن دَارمٍ أحداً ولا مِن نَهْشَلِ ) ( أجعلتَ يَرْبوعاً كقَوْرةِ دائرٍ
... ولَتَحْلِفَنْ بالله أنْ لم تَفْعل
) وذلك قول عامر بن الطفيل بعد جبلة بحين ( أَلاَ أبْلِغْ
جُموعَ سَعْدٍ ... فبِيتُوا لن نَهِيجَكُم نِيَامَا ) ( نَصَحْتُمْ بالمَغِيبِ ولم
تُعِينُوا ... علينا إنكم كنتم كِرَاما
) ( ولو كنتم مع أبن الجَوْنِ كنتم ... كَمَنْ أوْدَى
وأصبح قد أَلاَمَا ) تشاور الأعداء في الصعود الى بني عامر فلما أستيقنت بنو عامر
بإقبالهم صعدوا الشعب وأمر الأحوص بالإبل التي ظمئت قبل ذلك فقال اعقلوها كل بعير بعقالين
في يديه جميعا وأصبح لقيط والناس نزول به وكانت مشورتهم إلى لقيط فاستقبلهم جمل
عود أجرب أحذ أعصل كاشر عن أنيابه فقال الحزاة من بني أسد والحازي العائف اعقروه فقال
لقيط والله لا يعقر حتى يكون فحل إبلي غدا وكان البعير من عصافير المنذر التي
أخذها قرة بن هبيرة بن عامر بن سلمة بن قشير والعصافير إبل كانت للملوك نجائب ثم
أستقبلهم معاوية بن عبادة بن عقيل وكان أعسر فقال ( أنا الغُلامُ الأعْسَرْ ... الخَيْرُ
فيّ والشَرّ ) ( والشرُّ فيّ أكَثْر
... ) فتشاءمت بنو أسد وقالوا ارجعوا عنهم وأطيعونا فرجعت
بنو أسد فلم تشهد جبلة مع لقيط إلا نفيرا يسيرا منهم شأس بن أبي بلي أبو عمرو بن
شأس الشاعر ومعقل بن عامر بن موءلة المالكي وقال الناس للقيط ما ترى فقال أرى أن
تصعدوا إليهم فقال شأس لا تدخلوا على بني عامر فإني أعلم الناس بهم قد قاتلتهم
وقاتلوني وهزمتهم وهزموني فما رأيت قوما قطد أقلق بمنزل من بني عامر والله ما وجدت
لهم مثلا إلا الشجاع فإنه لا يقر في جحره قلقا وسيخرجون إليكم والله لئن بتم هذه
الليلة لا تشعرون بهم إلا وهم منحدرون عليكم فقال لقيط والله لندخلن عليهم فأتوهم
وقد أخذوا حذرهم وجعل الأحوص أبنه شريحا على تعبئة الناس فأقبل لقيط وأصحابه مدلين
فأسندوا الى الجبل حتى ذرت الشمس فصعد لقيط في الناس وأخذ بحافتي الشجن فقالت بنو
عامر للأحوص قد أتوك فقال دعوهم حتى إذا نصفوا الجبل وانتشروا فيه قال الأحوص حلوا
عقل الإبل ثم احدروها واتبعوا آثارها وليتبع كل رجل منكم بعيره حجرين أو ثلاثة
ففعلوا ثم صاحوا بها فلم يفجا الناس إلا الإبل تريد الماء والمرعى وجعلوا يرمونهم
بالحجارة والنبل وأقبلت الإبل تحطم كل شيء مرت به وجعل البعير يدهدي بيديه كذا
وكذا حجرا وقد كان لقيط وأصحابه سخروا منهم حين صنعوا بالإبل ما صنعوا فقال رجل من
بني أسد ( زعمتَ أنّ العِيرَ لا تُقاتِلُ ... بَلَى إذا تَقَعْقَعَ الرحائلُ ) ( واختلف
الهِنْدِيُّ والذّوابلُ ... وقالتِ الأبطالُ مَنْ يُنَازِلُ ) ( بَلَى وفيها حَسَبٌ ونائلُ ... ) شعر بني
عامر في يوم جبلة فانحط الناس منهزمين من الجبل حتى السهل فلما بلغ الناس السهل لم
يكن لأحد منهم همة إلا أن يذهب على وجهه فجعلت بنو عامر يقتلونهم ويصرعونهم
بالسيوف في آثارهم فانهزموا شر الهزيمة فجعل رجل من بني عامر يومئذ يرتجز ويقول ( لم أرَ يوماً
مثلَ يوم جَبَلَهْ ... يوم أتتنا أَسَدٌ وحَنْظَلهْ ) ( وَغَطفانُ والملوكُ أزفَلَهْ ... نَضْرِبُهم
بقُضبٍ مُنْتَخَلَه ) ( لم تَعْدُ أن أَفرش عنها الصَّقَلَهْ ... حتى حَدَوْناهم
حُدَاءَ الزَّوْمَلهْ ) وجعل معقل بن عامر يرتجز ويقول ( نحن حُمَاةُ الشِّعْبِ يومَ جبله ...
بكلِّ عَضْبٍ صارمٍ ومِعْبَلَهْ
) ( وهَيْكَلٍ نَهْدٍ معاً وهَيْكَلَهْ ... ) المعبلة
السهم إذا كان نصله عريضا فهو معبلة والرقيق القطبة وخرجت بنو تميم من الخليف على
الخيل فكركروا الناس يعني ردوهم وانقطع شريح بن الأحوص في فرسان حتى أخذ الجرف
فقاتل الناس قتالا شديدا هناك وجعل لقيط يومئذ وهو على برذون له مجفف بديباج أعطاه
إياه كسرى وكان أول عربي جفف يقول (
عَرَفْتكُمْ والدمعُ مِ الْعَيْن يَكِفْ ... لفارِسٍ
أتلفتموه ما خُلِفْ ) ( إنّ النَّشِيلَ والشِّوَاء والرُّغُفْ ... والقَيْنةَ الحسناءَ
والكأسَ الأُنفْ ) ( وصَفْوةَ القِدْرِ وتَعْجِيلَ اللَّقَفْ ... للطاعنين الخيلَ
والخيلُ قُطُفْ ) وجعل لا يمر به أحد من الجيش إلا قال له أنت والله قتلتنا
وشتمتنا فجعل يقول ( يا قَوْمِ قد أحرقتموني باللَّوْمْ ... ولم أُقَاتِلْ عامراً
قبل اليَوْمْ ) ( فاليومَ إذ قاتلتُهم فلا لَوْمْ ... تَقَدَّموا وقَدِّموني
للقَوْمْ ) ( شَتّانَ هذا والعناقُ والنَّوْمْ ... والمَضْجَعُ الباردُ في ظِلِّ الدَّوْمْ ) وقال شأس بن أبي
بلي يجيبه ( لكن أنا قاتلتها قبلَ اليَوْمْ ... إذ كنتُ لا تُعْصَى أُموري في القَوْمْ ) وجعل لقيط يقول
من كر فله خمسون ناقة وجعل يقول (
أكُلُّكُمْ يَزْجركُمْ أرْحِبْ هَلاَ ... ولن تَرَوْهُ
الدَّهْرَ إلاّ مُقْبِلاَ ) ( يحمل زَغْفاً ورَئيساً حَجْفَلاَ ... وسائلاً في أهله ما فعلا
) وجعل يقول أيضا ( أَشْقَرُ إنْ لم تَتَقَدَّمْ تُنْحَر ... وإنْ تَأخَّرْ عن
هِيَاجٍ تُعْقَرِ ) ثم عاد يقول (
إنّ الشواء والنَّشيلَ والرُّغُفْ ... ) فأجابه شريح بن الأحوص ( إن كنتَ ذا صدْقٍ
فأقْحِمْهُ الجُرُفْ ... وقَرِّب الأشْقَرَ حتى تَعْتَرِفْ ) ( وجوهَنا إنّا بنوالبِيضِ العُطُفْ ... ) وبينه وبينه
جرف منكر فضرب لقيط فرسه وأقحمه عليه الجرف فطعنه شريح فسقط وقد اختلفوا في ذلك
فذكروا أن الذي طعنه جزء بن خالد بن جعفر وبنو عقيل تزعم أن عوف بن المنتفق
العقيلي قتله يومئذ وأنشأ يقول (
ظَلّتْ تلومُ لِما بها عِرْسِي ... جَهْلاً وأنتِ
حَليمةٌ أمْسِ ) ( إنْ تقتلوا بَكْرِي وصاحبَه ... فلقد شَفَيْتُ بسَيْفه نفسي ) ( فقتلتُه في
الشِّعْبِ أوّلَ فارسٍ ... في الشَّرْقِ قبل تَرَحُّلِ الشمس ) فزعموا أن عوفا هذا قتل يومئذ ستة نفر
وقتل ابن له وابن أخ له وأما العلماء فلا يشكون أن شريحا قتله وأرتث وبه طعنات
والارتثاث أن يحمل وهو مجروح فإن حمل ميتا فليس بمرتث فبقي يوما ثم مات فجعل لقيط
يقول عند موته ( يا ليتَ شَعْرِي عَنْكِ دَخْتَنُوسُ ... إذا أتاك الخبرُ المَرْسُوسُ ) ( أتَحْلقُ
القُرُونَ أم تَمِيسُ ... لا بَلْ تَمِيسُ إنّها عَروسُ ) دختنوس بنت لقيط بن زرارة وكانت تحت
عمرو بن عمرو بن عدس وجعلت بنو عبس يضربونه وهو ميت فقالت دختنوس ( أَلاَ يالَها
الوَيْلاتُ وَيْلاتُ مَنْ بَكَى ... لضَرْبِ بني عَبْس لَقِيطاً وقد قَضَى ) ( لقد ضربوا
وجهاً عليه مَهابةٌ ... وما تَحفِلُ الصُّمُّ الجنادلُ مَنْ رَدَى ) ( فلو أنّكم
كنتم غداة لَقِيتُم ... لقيطاً صَبرتُم لِلأَسِنَّةِ والقَنَا ) ( غَدَرْتُم
ولكن كنتمُ مِثْلَ خُضَّبٍ ... أصابَ لها القَنَّاصُ من جانب الشَّرَى ) ( فما ثَأْرُه فيكم
ولكنّ ثأرَه ... شُرَيْحٌ وأردته الأسِنّةُ إذ هَوَى ) ( فإن تُعْقِبِ الأيّامُ من عامرٍ
يَكُنْ ... عليهم حَريقاً لا يُرامُ إذا سما ) ( ليجزيهم بالقتل قَتْلاً مُضَعَّفاً
... وما في دِمَاء الحُمْسِ يا مالُ مِنْ بَوَا ) ( ولو قتلتنا غالبٌ كان قتلُها ...
علينا من العار المجدِّع للعُلاَ
) ( لقد صَبَرْت للموت كعبٌ وحافظت ... كِلابٌ وما أنتم
هناك لمن رأى ) وقالت دختنوس أيضا (
لعمري لئن لاقت من الشرّ دارمٌ ... عناءً لقد آبتْ
حميداً ضِرابُها ) ( فما جَبُنوا بالشِّعب إذ صَبَرتْ لهم ... ربيعةُ يُدْعَى
كَعْبُها وكِلابُها ) ( عَصُوا بسيوف الهِنْدِ وأعتكرت لهم ... بَرَاكاءُ موتٍ لا يطير
غُرابُها ) براكاء مباركة القتال وهو الجد في القتال يقال للرجل إذا وقع في خطب لا
يطير غرابه وقالت دختنوس ( بَكَر النَّعِيُّ بخير خِنْدِفَ ... كَهْلِها وشَبابِها ) ( وبخيرها
نَسَباً إذا ... عُدَّتْ إلى أنسابِها
) ( فرّت بنو أسدٍ حُرُودَ ... الطيرِ عن أربابها ) ( لم يَحْفِلوا
نَسَباً ولم ... يَلْوُوا لفيء عُقَابها ) اخبار الذين نجوا أو قتلوا في الموقعة
وقتل يومئذ قريظ بن معبد بن زرارة وزيد بن عمرو بن عدس قتله الحارث بن الأبرص بن
ربيعة بن عامر بن عقيل وقتل الفلتان بن المنذر بن سلمى بن جندل بن نهشل وقتل أبو
إياس بن حرملة بن جعدة بن العجلان بن حشورة بن عجب بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان وهو
يقول ( أقْدِمْ قَطِينُ إنهم بنو عَبْسْ ... المَعْشَرُ الحِلّةُ في القَوْمِ الحُمْسْ ) الحلة لم يكونوا
يتشددون في دينهم قال واستلحم عمرو بن حسحاس بن وهب بن أعياء بن طريف الأسدي
فاستنقذه معقل بن عامر بن موءلة فداواه وكساه فقال معقل في ذلك ( يَدَيْتُ على ابن
حَسْحَاسِ بنِ وَهْبٍ ... بأسفلِ ذي الجَذَاةِ يدَ الكريمِ ) ( قَصَرْتُ له من الدّهماءِ لمّا ...
شهِدتُ وغاب مَنْ لَهْ مِنْ حميمِ
) ( ولو أنِّي أشاء لكنتُ منه ... مكانَ الفَرْقَدَيْنِ
من النُّجوم ) ( أُخبّره بأن الجُرْحَ يُشْوِي ... وأنّك فوق عِجْلِزَةٍ
جَمُومِ ) يقول إن الجرح الذي بك شوى لم يصب منك مقتلا ( ذكرتُ تَعِلّةَ الفتيانِ يوماً ... وإلحاقَ
المَلامةِ بالمُليم ) قال وحمل معاوية بن يزيد الفزاري فأخذ كبشة بنت الحجاج بن
معاوية بن قشير وكانت عند مالك بن خفاجة بن عمرو بن عقيل فحمل معاوية بن خفاجة أخو
مالك على معاوية بن يزيد فقتله واستنقذ كبشة وقال يا بني عامر إنهم يموتون وقد كان
قيل لهم إنهم لا يموتون ونزل حسان بن عامر بن الجون وصاح يا آل كندة فحمل عليه
شريح بن الأحوص فاعترض دون ابن الجون رجل من كندة يقال له حوشب فضربه شريح بن
الأحوص في رأسه فانكسر السيف فيه فخرج يعدو بنصف السيف وكان مما رعب الناس مكانه وشد
طفيل بن مالك بن جعفر فأسر حسان بن الجون وشد عوف بن الأحوص على معاوية بن الجون
فأسره وجز ناصيته وأعتقه على الثواب فلقيته بنو عبس فأخذه قيس بن زهير فقتله فأتاهم
عوف فقال قتلتم طليقي فأحيوه أو ائتوني بملك مثله فتخوفت بنو عبس شره وكان مهيبا
فقالوا أمهلنا فانطلقوا حتى أتوا أبا براء عامر بن مالك بن جعفر يستغيثونه على عوف
فقال دونكم سلمى بن مالك فإنه نديمه وصديقه وكانا مشتبهين أحمرين أشقرين ضخمة أنوفهما
وكان في سلمى حياء فأتوه فقال سأكلم لكم طفيلا حتى يأخذ أخاه فإنه لا ينجيكم من
عوف إلا ذلك وأيم الله ليأتين شحيحا فانطلقوا إليه فقال طفيل قد أتوني بك ما
أعرفني بما جئتم له أتيتموني تريدون مني ابن الجون تقيدون به من عوف خذوه فأعطاهم
إياه فأتوا به عوفا فجز ناصيته وأعتقه فسمي الجزاز فذلك قول نافع بن الخنجر بن
الحكم بن عقيل بن طفيل بن مالك في الإسلام ( قَضَيْنا الْجَوْنَ عن عَبْسٍ وكانت
... مَنِيّةُ مَعْبَدٍ فينا هُزَالاَ )
قال وشهدها لبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر وهو ابن تسع
سنين ويقال كان ابن بضع عشرة سنة وعامر بن مالك يقول له اليوم يتمت من أبيك إن قتل
أعمامك وقتل يومئذ زهير بن عمرو بن معاوية وجد مقتولا بين ظهراني صفوف بني عامر حيث
لم يبلغ القتال وهو معاوية الضباب بن كلاب فقال أخوه حصين للذي قتله ( يا ضَبُعاً
عثواءَ لا تَسْتَأنِسي ... تلتقم الهَبْرَ من السَّقْبِ الرَّذي ) ( أقسم بالله
وما حجّتْ بَلي ... وما على العُزَّى تُعِزُّه غَنِي ) ( وقد حلفتُ عند مَنْحَر الهَدِي ...
أُعْطيكُم غيرَ صُدور المَشْرَفي
) ( فليس مثلي عن زُهَيْرٍ بغَني ... هو الشُّجاعُ
والخطيبُ اللَّوْذَعِي ) ( والفارسُ الحازمُ والشهمُ الأبي ... والحاملُ الثِّقْلَ إذا
ينزلُ بي ) وذكروا أن طفيل بن مالك لما رأى القتال يوم جبلة قال ويلكم وأين نعم هؤلاء
فأغار على نعم عمرو وإخوته وهم من بني عبدالله بن غطفان ثم من بني الثرماء فاستاق
ألف بعير فلقيه عبيدة بن مالك فاستجداه فأعطاه مائة بعير وقال كأني بك قد لقيت
ظبيان بن مرة بن خالد فقال لك أعطاك من ألفه مائة فجئت مغضبا فلقي عبيدة ظبيان
فقال له كم أعطاك قال مائة فقال أمائة من ألف فغضب عبيدة قال وذكر أن عبيدة تسرع
يومئذ إلى القتال فنهاه أخواه عامر وطفيل أن يفعل حتى يرى مقاتلا فعصاهما وتقدم
فطعنه رجل في كتفه حتى خرج السنان من فوق ثديه فاستمسك فيه السنان فأتى طفيلا فقال
له دونك السنان فانزعه فأبى أن يفعل ذلك غضبا فأتى عامرا فلم ينزعه منه غضبا فأتى
سلمى بن مالك فانتزعته منه وألقي جريحا مع النساء حتى فرغ القوم من القتال وقتلت
بنو عامر يومئذ من تميم ثلاثين غلاما أغرل وخرج حاجب بن زرارة منهزما وتبعه
الزهدمان زهدم وقيس ابنا حزن بن وهب بن عويمر بن رواحة العبسيان فجعلا يطردان
حاجبا ويقولان له استأسر وقد قدرا عليه فيقول من أنتما فيقولان الزهدمان فيقول لا
أستأسر اليوم لموليين فبينما هم كذلك إذ أدركهم مالك ذو الرقيبة بن سلمة بن قشير
فقال لحاجب استأسر قال ومن أنت قال أنا مالك ذو الرقيبة فقال أفعل فلعمري ما
أدركتني حتى كدت أن أكون عبدا فألقى إليه رمحه واعتنقه زهدم فألقاه عن فرسه فصاح
حاجب يا غوثاه وندر السيف وجعل زهدم يريغ قائم السيف فنزل مالك فاقتلع زهدما عن
حاجب فمضى زهدم وأخوه حتى أتيا قيس بن زهير بن جذيمة فقالا أخذ مالك أسيرنا من أيدينا
قال ومن أسيركما قالا حاجب بن زرارة فخرج قيس يتمثل قول حنظلة بن الشرقي القيني
أبي الطمحان رافعا صوته يقول ( أجَدُّ بني الشَّرْقيّ اُولِعَ أنَّني ... مَتَى أسْتَجِرْ
جاراً وإنْ عَزَّ يَغْدُرِ ) ( إذا قلتُ أوفى أدركتْه دَرُوكَةٌ ... فيا مُوزعَ الجِيرانِ
بالغَيِّ أقْصِرِ ) حتى وقف على بني عامر فقال إن صاحبكم أخذ أسيرنا قالوا من
صاحبنا قال مالك ذو الرقيبة أخذ حاجبا من الزهدمين فجاءهم مالك فقال لم آخذه منهما
ولكنه استأسر لي وتركهما فلم يبرحوا حتى حكموا حاجبا في ذلك وهو في بيت ذي الرقيبة
فقالوا من أسرك يا حاجب فقال أما من ردني عن قصدي ومنعني أن أنجو ورأى مني عورة
فتركها فالزهدمان وأما الذي استأسرت له فمالك فحكموني في نفسي قال له القوم قد
جعلنا إليك الحكم في نفسك يقال أما مالك فله ألف ناقة وللزهدمين مائة فكان بين قيس
بن زهير وبين الزهدمين مغاضبة بعد ذلك فقال قيس ( جَزَاني الزهدمانِ جزاءَ سَوْءٍ ...
وكنتُ المرءَ يُجْزَى بالكَرَامهْ
) ( وقد دافعتُ قد عَلِمتْ مَعَدٌّ ... بني قُرْطٍ
وعَمَّهم قُدَامهْ ) ( رَكِبتُ بهم طريقَ الحقِّ حَتَّى ... أَثبْتُهمُ بها مائةً
ظُلاَمهْ ) وقال جرير في ذلك ( ويومَ الشِّعْبِ قد تركوا لَقِيطاً ... كأنّ عليه حُلَّةَ
أُرْجُوَانِ ) ( وكُبِّل حاجبٌ بَشَمامِ حوْلاً ... فَحكّم ذا الرُّقَيْبةِ وهو
عَانِي ) وأما عمرو بن عمرو بن عدس فأفلت يومئذ فزعمت بنو سليم أن الخيل عرضت على
مرداس بن أبي عامر يوم جبلة وكان أبصر الناس بالخيل فعرضت عليه فرس لغلام من بني
كلاب فقال والله لا أعجزها ولا أدركها ذكر ولا أنثى فهذا ردائي بها وخمس وعشرون
ناقة فلما انهزم الناس يوم جبلة خرج الكلابي على فرسه تلك يطلب عمرو بن عمرو قال
الكلابي فراكضته نهارا على السواء والله ما علمت أنه سبقني بمقدار أعرفه ثم زاد
مكانه ونقصت فقلت قمر والله مرداس وهوى عمرو إلى فرسه فضربها بالسوط فانكشفت فإذا
هي خنثى لا ذكر ولا أنثى فأخبرتهم أني سبقت فقالوا قمر السلمي فقلت لا ثم أخبرتهم
الخبر فقال مرداس ( تَمَطَّتْ كُمَيْتٌ كالهِرَاوةِ ضامرٌ ... لعَمْرِو بن عمرٍو
بعد ما مُسَّ باليَدِ ) ( فلولا مَدَى الخُنْثَى وبُعْدُ جِرَائها ... لَقَاظَ ضعيفَ
النَّهْضِ حَقَّ مُقَيَّد ) ( تذكَّر رُبْطاً بالعراقِ وراحةً ... وقد خفَقَ الأسيافُ فوق
المُقَلَّدِ ) وزعم علماء بني عامر أنه لما انهزم الناس خرجت بنو عامر
وحلفاؤهم في آثارهم يقتلون ويأسرون ويسلبون فلحق قيس بن المنتفق بن عامر بن طفيل
بن عقيل عمرو بن عمرو فأسره فأقبل الحارث بن الأبرص بن ربيعة بن عقيل في سرعان
الخيل فرآه عمرو مقبلا فقال لقيس إن أدركني الحارث قتلني وفاتك ما تلتمس عندي فهل
أنت محسن إلي وإلى نفسك تجز ناصيتي فتجعلها في كنانتك ولك العهد لأفين لك ففعل وأدركهما
الحارث وهو ينادي قيسا ويقول أقتل أقتل فلحق عمرو بقومه فلما كان الشهر الحرام خرج
قيس إلى عمرو يستثيبه وتبعه الحارث بن الأبرص حتى قدما على عمرو بن عمرو فأمر عمرو
بن عمرو ابنة أخية آمنة بنت زيد بن عمرو فقال اضربي على قيس الذي أنعم على عمك هذه
القبة وقد كان الحارث قتل أباها زيدا يوم جبلة فجاءت بالقبة فرأت الحارث أهيأهما
وأجملهما فظنته قيسا فضربت القبة على رأسه وهي تقول هذا والله رجل لم يطلع الدهر
عليه بما اطلع به علي فلما رجعت إلى عمها عمرو قال يابنة أخي على من ضربت القبة
فنعتت له نعت الحارث فقال ضربتها والله على رجل قتل أباك وأمر بقتل عمك فجزعت مما
قال لها عمها فقال الحارث بن الأبرص (
أمَا تَدْرين يابنةَ آلِ زَيْدٍ ... أُمَيْنُ بما أجَنّ
اليومَ صدري ) ( فكم من فارسٍ لم تُرْزَئيه ... فَتَى الفتيانِ في عِيصٍ وقصر ) ( رأيتُ مكانَه
فصددتُ عنه ... فأعيا أمره وشددتُ أزري
) ( لقد آمرتُه فعَصَى إمَارِي ... بأمِّ عزيمةٍ في
جَنْبِ عمرو ) ( أمرت به لتَخْمُشَ حَنَّتَاهُ ... فضيّع أمرَه قيسٌ وأمري ) الحنة الزوجة يقال
حنته وطلته ثم إن عمرا قال يا حار مالذي جاء بك فوالله مالك عندي نعمة ولقد كنت
سيء الرأي في قتلت أخي وأمرت بقتلي فقال بل كففت عنك ولو شئت إذ أدركتك لقتلتك قال
ما لك عندي من يد ثم تذمم منه فأعطاه مائة من الإبل ثم انطلق فذهب الحارث فلما جاء
عمرا قيس أعطاه إبلا كثيرة فخرج قيس بها حتى إذا دنا من أهله سمع به الحارث بن
الأبرص فخرج في فوارس من بني أبيه حتى عرض لقيس فأخذ ما كان معه فلما أتى قيس بني
أبيه بني المنتفق اجتمعوا إليه وأرادوا الخروج فقال مهلا لا تقاتلوا إخوتكم فإنه
يوشك أن يرجع وأن يؤول إلى الحق فإنه رجل حسود فلما رأى الحارث أن قيسا قد كف عنه
رد إليه ما أخذ منه وأما عتيبة بن الحارث بن شهاب فإنه أسر يومئذ فقيد في القد
وكان يبول على قده حتى عفن فلما دخل الشهر الحرام هرب فأفلت منهم بغير فداء وغنم
مرداس بن أبي عامر غنائم وأخذ رجلا فأخذ منه مائة ناقة فانتزعها منه بنو أبي بكر
بن كلاب فخرج مرداس إلى يزيد بن الصعق وكان له خليلا فانتهى إليه مرداس وهو يقول ( لعمرُك ما ترجو
مَعَدٌّ ربيعَها ... رجائي يزيداً بل رجائي أكثرُ ) ( يزيد بن عمرو خير مَنْ شَدّ ناقةً
... بأقتادها إذا الرياحُ تُصَرّصِرُ
) ( تداعت بنو بكر عليّ كأنما ... تداعت عليّ بالأحِزَة
بَرْبَرُ ) ( تداعَوْا عليّ أن رأوني بخَلْوةٍ ... وأنتم بأحْدان الفَوارس أبصر ) ويروى بوحدان فركب
يزيد حتى أخذ الإبل من بني أبي بكر فردها إليه فطرَقه البكريون فسقوه الخمر حتى
سكر ثم سألوه الإبل فأعطاهم إياها فلما أصبح ندم فخرج إلى يزيد فوجد الخبر قد جاءه
فقال له يزيد أصاح أنت أم سكران فانصرف فاطرد إبلا من إبل بني جعفر فذهب بها وأنشأ
يقول ( أجُنَّ بلَيْلَى قلبُه أم تَذَكَّرَا ... منازلَ منها حول قُرَّى ومَحْضَرَا ) ( تَخِرُّ
الهِدَالُ فوق خَيْماتِ أَهْلها ... ويُرْسون حِسًّا بالعِقال مُؤَطَّراَ ) الحس الفرس
الخفيفة والمؤطر المعطوف ( سآبَى وأستغنِي كما قد أمرتَني ... وأصرِفُ عنك العُسْرَ لستُ
بأفقرا ) ( وإنّ سُلَيْماً والحجازُ مكانُها ... متى آتِهم أجِدْ لبيتيَ مَهْجَرا ) المهجر الموضع
الصالح يقال هذا أهجر من هذا إذا كان أجود منه وأصلح ( يُفَرِّج عنِّي حَدُّهم وعَدِيدُهم ...
وأُسْرِج لِبْدِي خارجيًّا مُصدَّرا
) ( قَصَرْتُ عليه الحالبَيْنِ فَجَوْدُه ... إذا ما عدا
بلّ الحِزامَ وأمطرا ) الحالبين الراعيين يقول احتبستهما ( فخُذْ إبلاً إنّ العِتابَ كما ترى ...
على خَذَمٍ ثم ارْمِ للنصر جعفرا
) ( فإنّ بأكناف البِحار إلى المَلاَ ... وذي النَّخْل
مَصْحًى إن صحَوْتَ ومَسْكُرا )
( وأرْعَى من الأظلاف أثْلاً وحَمْضةً ... وترعَى من
الأطْواء أثْلاً وعَرعَرَاَ ) وانصرف يومئذ سنان بن أبي حارثة المري في بني ذبيان على حاميته
فلحق بهم معاوية بن الصموت بن الكامل الكلابي وكان يسمى الأسد المجدع ومعه حرملة العكلي
ونفر من الناس فلحق بسنان بن أبي حارثة ومالك بن حمار الفزاري في سبعين فارسا من
بني ذبيان فقال سنان يا مالك كر واحمنا ولك خولة بنت سنان ابنتي أزوجكها فكر مالك
فقتل معاوية ثم اتبعه حرملة العكلي وهو يقول ( لأيِّ يوم يَخْبَأ المرءُ السَّعَهْ
... مُوَدِّعٌ ولا تَرَى فيه الدَّعَهْ
) فكر عليه مالك فقتله ثم اتبعه رجل من بني كلاب فكر
عليه مالك فقتله ثم اتبعه رجلان من قيس كبة من بجيلة فكر عليهما فقتلهما ومضى مالك
وأصحابه فقال مالك في ذلك ( ولقد صَدَدْتُ عن الغَنيمة حَرْمَلاً ... ولَقِيتُه لَدَداً
وخيلي تَطْرُدُ ) ( أقبلته صَدْرَ الأغَرِّ وصارماً ... ذَكَراً فخرّ على
اليَدَينِ الأبعدُ ) ( وابنَ الصموت تركتُ حين لَقِيتُه ... في صدر مارنةٍ يقوم ويقعد ) ( وابنا ربيعةَ
في الغُبَارِ كلاهما ... وابنَا غنِيٍّ عامرٌوالأسْوَدُ ) ( حتى تنفّس بعد نَكْظٍ مُجْحَراً ...
أذهبتُ عنه والفَرَائصُ تُرْعَدُ
) النكظ الجهد قال ( يعدو ببَزِّي سابحٌ ذو مَيْعةٍ ...
نَهْدُ المَرَاكلِ ذُو تَليلٍ أقود
) فخطب إليه مالك خولة فأبى أن يزوجه وأما بنو جعفر
فيزعمون أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر وجد سنان بن أبي حارثة وابنيه هرما ويزيد
على غدير قد كاد العطش أن يهلكهم فجز نواصيهم وأعتقهم ثم إن عروة أتى سنانا بعد
ذلك يستثيبه ثوابا يرضاه فلم يثبه شيئا فقال عروة في ذلك ( أَلاَ مَنْ مبلغٌ عنِّي سِنَاناً ...
أَلوكاً لا أريد بها عِتَابَا )
( أفي الخَضْراءِ تَقْسِمُ هَجْمتَيْكم ... وعُرْوةُ لم
يُثَبْ الا التُّرَابَا ) ( فلو كان الجعافرُ طاوعوني ... غداةَ الشِّعْبِ لم نَذُق
الشَّرَابا ) ( أَتجْزي القَيْنَ نِعْمتَها عليكم ... ولا تَجْزِي بنعمتها
كِلاَبَا ) وأما بنو عامر فيزعمون أن سنانا انصرف ذات يوم هو وناس من طيىء وغيرهم قبل
الوقعة فبلغه أن بني عامر يقولون مننا عليه فأنشأ يقول ( والله ما مَنُّوا ولكن شِكَّتِي ...
مَنَّتْ وحادرةُ المَنَاكِبِ صِلْدِمُ
) ( بخرير شول يومَ يُدْعَى عامرٌ ... لا عاجزٌ وَرَعٌ
ولا مستسلمُ ) وأما مارق فتدعي أسر سنان يومئذ على الثواب ثم أتوه فلم يصنع
بهم خيرا فقال معقر بن أوس بن حمار البارقي ( مَتَى تَكُ في ذُبْيانَ منك صنيعةٌ ...
فلا تَحْمَدَنْها الدَّهْرَ بعد سِنَانِ ) ( يَظَلّ يُمَنِّينا بحسن ثوابهِ ...
لكم مائةٌ يحدو بها فَرَسان ) (
مخاضٌ أُؤدِّيها وجلّ لقائح ... وأُكْرِمُ مثوى منكُم
مَنَ اتاني ) ( فجئناه للنُّعْمَى فكان ثوابَه ... رَغوثٌ ووَطْبَا حازرٍ
مَذِقان ) ( وظلّ ثلاثاً يسأل الحيّ ما يرى ... يُؤامرهم فينا له أمَلان ) ( فإن كنتَ هذا
الدهرَ لا بدّ شاكراً ... فلا تثقنْ بالشكر في غَطَفان ) تأريخ يوم جبلة وما قيل فيه من الشعر
قال وكان جبلة قبل الإسلام بتسع وخمسين سنة قبل مولد النبي بتسع عشرة سنة وولد
النبي عام الفيل ثم أوحى الله إليه بعد أربعين سنة وقبض وهو ابن ثلاث وستين سنة
وقدم عامر بن الطفيل في السنة التي قبض فيها قال وهو ابن ثمانين سنة وقال المعقر
بن أوس بن حمار البارقي حليف بني نمير بن عامر ( أمنْ آل شَعْثاءَ الخُمْولُ البواكرُ
... مع اللّيل أم زالتْ قُبَيْلُ الأباعرُ ) ( وحلّت سُلَيْمَى في هضَابٍ وأيكةٍ
... فليس عليها يومَ ذلك قادر )
( وأتت عصاها واستقرّت بها النَّوَى ... كما قَرّ عيناً
بالإياب المسافر ) ( وصبّحها أملاكُها بكتيبةٍ ... عليها إذا أمستْ من الله ناظرُ ) ( معاويةُ بنُ
الجون ذُبْيانُ حولَه ... وحَسّانُ في جَمْع الرِّباب مُكَاثِرُ ) ( فمرّوا بأطناب
البيوت فردّهم ... رجالٌ بأطراف الرماح مساعرُ ) ( وقد جمعوا جمعاً كأن زُهَاءَه ...
جَرَادٌ هوَى في هَبْوةٍ متطايرُ
) ( فباتوا لنا ضَيْفاً وبِتْنَا بنَعْمةٍ ... لنا
مُسْمِعاتٌ بالدُّفوف وسامِرُ )
( ولم نَقْرِهم شيئاً ولكنّ قَصْدَهم ... صَبُوحٌ لدينا
مَطْلَعَ الشَّمس حازرُ ) ( صَبَحْناهُم عند الشُّروق كتائباً ... كأركان سَلْمَى شَبْرُها
متواتر ) ( كأنّ نَعَامَ الدَّو باضَ عليهمُ ... وأعْيُنُهم تحت الحبِيكِ جواحرُ ) الحبيك في البيض
إحكام عملها وطرائقها ( من الضاربين الكَبْشَ يمشون مَقْدَماً ... إذا غَصّ بالريق
القليلِ الحناجرُ ) ( وظنّ سَراةُ القومِ ألاَّ يُقَتَّلوا ... إذا دُعِيَتْ
بالسَّفْحِ عَبْسٌ وعامرُ ) ( ضربنا حَبِيكَ البَيْض في غَمْر لُجَّةٍ ... فلم يَبْقَ في
الناجين منهم مفاخرُ ) ( ولم ينجُ إلاَّ مَنْ يكون طِمِرُّه ... يُوَائلُ أو نَهْدٌ
مُلِحُّ مُثَابِرُ ) ( هوَى زَهْدَمٌ تحت الغُبَار لحاجبٍ ... كما انقضّ أقنَى ذو
جناحين ماهرُ ) ( هما بطلان يَعْثُران كلاهما ... أراد رئاس السيف والسيف نادر ) ( ولا فضلَ إلا
أن يكون جَراءةٌ ... وذُبيانَ تسمو والرؤوسُ حواسرُ ) ( ينوءُ وكفَّا زَهْدَمٍ من ورائه ...
وقد عَلِقتْ ما بينهن الأظافرُ
) ( يفرِّج عنّا كلَّ ثَغْرٍ نخافُه ... مِسَحٌّ
كسِرْحان القَصيمةِ ضامرُ ) القصيمة من الرمل ما أنبتت الغضى والرمث ( وكلُّ طَمُوحٍ في العِنَانِ كأنّها ...
إذا اغتمست في الماء فَتْخاءُ كاسرُ
) ( لها ناهضٌ في المهد قد مَهَدْت لها ... كما مَهَدْت
للبَعْلِ حسناءُ عاقرُ ) وبهذا البيت سمي معقرا واسمه سفيان بن أوس وإنما خص العاقر
لأنها أقل دلا على الزوج من الولود فهي تصنع له وتداريه ( تخاف نِساءً يبتدرنَ حليلَها ...
مُحَرَّدةٌ قد حَرَّدَتْها الضراءُ
) وقال عامر بن الطفيل بعد ذلك بدهر ( ويومَ الْجَمعِ
لاَقَيْنَا لَقِيطاً ... كَسَوْنَا رأسَه عَضْباً حُسَامَا ) ( أسَرْنَا حاجباً فَثوَى بقدٍّ ...
ولم نترك لنسوته سَوَامَا ) ( وجَمْعُ الجَوْن إذ دَلَفُوا إلينا ... صَبَحْنَا جَمْعَهم
جَيْشاً لُهَامَا ) وقال لبيد بن ربيعة في ذلك ( وهُمُ حُمَاةُ الشِّعْب يومَ تواكلتْ
... أسَدٌ وذُبْيَانُ الصَّفَا وتميمُ
) ( فارتَثّ كَلْماهم عَشِيّةَ هَزْمِهم ... حَيٌّ
بمُنْعَرَجِ المَسِيلِ مُقِيمُ
) تم اليوم والحمد لله صوت ( أيجمُل ما يُؤْتَى إلى
فتياتكم ... وأنتم رجالٌ فيكم عَدَدُ النّمْلِ ) ( فلو أَننا كنا رجالاً وكنتُم ...
نساءَ حِجَالِ لم نُقِرَّ بذا الفعلِ
) الشعر لعفيرة بنت عفار وقيل بنت عباد الجديسية التي
يقال لها الشموس والغناء لعريب خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى البنصر وفيه لحن من
الثقيل الأول قديم سبب مقتل عمليق ملك طسم أخبرني بهذا الشعر والسبب الذي من أجله
قيل علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي عن المفضل أن
عمليقا ملك طسم بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام وجديس بن لاوذ بن إرم بن
سام بن نوح عليه السلام وكانت منازلهم في موضع اليمامة كان في أول مملكته قد تمادى
في الظلم والغشم والسيرة بغير الحق وأن أمرأة من جديس كان يقال لها هزيلة وكان لها
زوج يقال له قرقس فطلقها وأراد أخذ ولدها منها فخاصمته الى عمليق فقالت يا أيها
الملك إني حملته تسعا ووضعته دفعا وأرضعته شفعا حتى إذا تمت أوصاله ودنا فصاله
أراد أن يأخذه مني كرها ويتركني من بعده ورها فقال لزوجها ما حجتك قال حجتي أيها
الملك أني قد أعطيتها المهر كاملا ولم أصب منها طائلا إلا وليدا خاملا فافعل ما
كنت فاعلا فأمر بالغلام أن ينزع منهما جميعا ويجعل في غلمانه وقال لهزيلة ابغيه
ولدا ولا تنكحي أحدا واجزيه صفدا فقالت هزيلة أما النكاح فإنما يكون بالمهر وأما
السفاح فإنما يكون بالقهر وما لي فيهما من أمر فلما سمع ذلك عمليق أمر بأن تباع هي
وزوجها فيعطى زوجها خمس ثمنها وتعطى هزيلة عشر ثمن زوجها فأنشأت تقول ( أتينا أخا طسم
ليحكم بيننا ... فأنفذ حكما في هزيلة ظالما ) ( لَعَمْرِي لقد حُكِّمْتَ لا
مُتَوَرِّعاً ... ولا كنتَ فيما تُبرم الحكم عالما ) ( نَدِمتُ ولم أنْدَمْ وأنِّي
بَعَثْرِتي ... وأصبح بعلي في الحكومة نادِما ) فلما سمع عمليق قولها أمر ألا تزوج بكر
من جديس وتهدى الى زوجها حتى يفترعها هو قبل زوجها فلقوا من ذلك بلاء وجهدا وذلا فلم
يزل يفعل هذا حتى زوجت الشموس وهي عفيرة بنت عباد أخت الأسود الذي وقع الى جبل
طيىء فقتلته طيىء وسكنوا الجبل من بعده فلما أرادوا حملها الى زوجها أنطلقوا بها
الى عمليق لينالها قبله ومعها القيان يتغنين ( اِبدَيْ بِعِمْليقٍ وقُومِي فاركَبِي
... وبَادِرِي الصُّبْحَ لأمرٍ مُعْجِبِ ) ( فسوف تَلقَيْنَ الذي لم تطلُبي ...
وما لِبِكْرٍ عنده من مَهْرَبِ
) افترع عفيرة بنت عباد فحرضت قومها عليه فلما أن دخلت
عليه أفترعها وخلى سبيلها فخرجت إلى قومها في دمائها شاقة درعها من قبل ومن دبر
والدم يسيل وهي في أقبح منظر وهي تقول (
لا أحدٌ أذَلّ من جَدِيسِ ... أهكذا يُفْعَلُ بالعَرُوسِ ) ( يرضَى بهذا يا
لَقوْمِي حُرُّ ... أَهْدَى وقد أعطَى وسِيقَ المَهْرُ ) ( لأخذةُ الموتِ كذا لنفسه ... خيرٌ
مِنَ انْ يُفْعَلَ ذا بعِرْسِه
) وقالت تحرض قومها فيما أتي إليها ( أيَجْمُلُ ما
يُؤْتَى الى فَتَيَاتكم ... وأنتم رجالٌ فيكم عَدَدُ النَّمْلِ ) ( وتُصْبِحُ تمشِي في الدِّماء
عَفِيرةٌ ... جِهاراً وزُفّتْ في النساء الى بعل ) ( ولو أننا كنا رجالاً وكنتم ...
نساءً لَكُنّا لا نُقِرّ بذا الفعل
) ( فموتُوا كِراماً أو أميتوا عَدُوّكم ... ودِبّوا
لنار الحرب بالحَطَبِ الجَزْل )
( وإلا فَخلُّوا بطنَها وتحمّلوا ... الى بَلَدٍ قَفْرٍ
ومُوتوا من الهُزْلِ ) ( فللبينُ خيرٌ من مُقَامٍ على أذًى ... ولَلْمَوْتُ خير من
مُقَامٍ على الذُّلّ ) ( وإن أنتمُ لم تغضَبوا بعدَ هذه ... فكونوا نساءً لا تُعاب من
الكُحْلِ ) ( ودونَكُم طِيبَ العروس فإنما ... خُلِقتم لأثواب العروس وللغِسْل ) ( فبُعْداً
وسُحْقاً للذي ليس دافعاً ... ويختال يمشي بيننا مِشْيةَ الفَحْل ) فلما سمع الأسود
أخوها ذلك وكان سيدا مطاعا قال لقومه يا معشر جديس إن هؤلاء القوم ليسوا بأعز منكم
في داركم إلا بما كان من ملك صاحبهم علينا وعليهم ولولا عجزنا وإدهاننا ما كان له
فضل علينا ولو امتنعنا لكان لنا منه النصف فأطيعوني فيما آمركم به فإنه عز الدهر
وذهاب ذل العمر وأقبلوا رأيي قال وقد أحمى جديسا ما سمعوا من قولها فقالوا نطيعك
ولكن القوم أكثر وأحمى وأقوى قال فإني أصنع للملك طعاما ثم أدعوهم له جميعا فإذا
جاؤوا يرفلون في الحلل ثرنا الى سيوفنا وهم غارون فأهمدناهم بها قالوا نفعل فصنع
طعاما كثيرا وخرج به الى ظهر بلدهم ودعا عمليقا وسأله أن يتغدى عنده هو وأهل بيته
فأجابه الى ذلك وخرج إليه مع أهله يرفلون في الحلى والحلل حتى إذا أخذوا مجالسهم
ومدوا أيديهم إلى الطعام أخذوا سيوفهم من تحت أقدامهم فشد الأسود على عمليق فقتله
وكل رجل منهم على جليسه حتى أماتوهم فلما فرغوا من الأشراف شدوا على السفلة فلم
يدعوا منهم أحدا فقال الأسود في ذلك (
ذُوِقي ببغيك يا طَسْمٌ مجلِّلةً ... فقد أتيتِ
لَعَمْرِي أعجبَ العجبِ ) ( إنّا أبينا فلم ننفكَ نقتُلهم ... والبَغْيُ هيّج منّا سَورةَ
الغضب ) ( ولن يعودَ علينا بغيُهم أبداً ... ولن يكونوا كذي أَنْفٍ ولا ذنب ) ( وإن رَعَيْتم
لنا قُرْبَى مُؤكَّدةً ... كنَّا الأقاربَ في الأرحام والنسب ) ثم إن بقية طسم لجأوا إلى حسان بن تبع
فغزا جديسا فقتلها وأخرب بلادها فهرب الأسود قاتل عمليق فأقام بجبلي طيىء قبل نزول
طيىء إياهما وكانت طيىء تسكن الجرف من أرض اليمن وهو اليوم محلة مراد وهمدان وكان
سيدهم يومئذ أمامة بن لؤي بن الغوث بن طيىء وكان الوادي مسبعة وهم قليل عددهم وقد
كان ينتابهم بعير في أزمان الخريف ولم يدر أين يذهب ولم يروه إلى قابل وكانت الأزد
قد خرجت من اليمن أيام العرم فاستوحشت طيىء لذلك وقالت قد ظعن إخواننا فصاروا الى
الأرياف فلما هموا بالظعن قالوا لأسامة إن هذا البعير يأتينا من بلد ريف وخصب وإنا
لنرى في بعره النوى فلو أننا نتعهده عند انصرافه فشخصنا معه لكنا نصيب مكانا خيرا
من مكاننا هذا فأجمعوا أمرهم على ذلك فلما كان الخريف جاء البعير فضرب في إبلهم
فلما انصرف احتملوا واتبعوه يسيرون بسيره ويبيتون حيث يبيت حتى هبط على الجبلين فقال
أسامة بن لؤي ( اِجْعَلْ طَرِيباً كحبيبٍ يُنْسَى ... لكل قَوْمٍ مُصْبَحٌ
ومُمْسَى ) قال وطريب اسم الموضع الذي كانوا ينزلون به فهجمت طيىء على النخل في
الشعاب وعلى مواش كثيرة وإذا هم برجل في شعب من تلك الشعاب وهو الأسود بن عباد
فهالهم ما رأوا من عظم خلقه وتخوفوه وقد نزلوا ناحية من الأرض واستبروها هل يرون
بها أحدا غيره فلم يروا فقال أسامة بن لؤي لابن له يقال له الغوث أي بني إن قومك
قد عرفوا فضلك عليهم في الجلد والبأس والرمي فإن كفيتنا هذا الرجل سدت قومك آخر
الدهر وكنت الذي أنزلتنا هذا البلد فانطلق الغوث حتى أتى الرجل فكلمه وساءله فعجب
الأسود من صغر خلق الغوث فقال له من أين أقبلتم قال من اليمن وأخبره خبر البعير
ومجيئهم معه وأنهم رهبوا ما رأوا من عظم خلقه وصغرهم عنه وشغلوه بالكلام فرماه
الغوث بسهم فقتله وأقامت طيىء بالجبلين بعده فهم هنالك الى اليوم صوت ( إذا قبّل
الإنسانُ آخرَ يشتهي ... ثناياه لم يَحْرَجْ وكان له أجراً ) ( فإن زاد زاد اللهُ في حَسَناته ...
مثاقيلَ يمحو الله عنه بها وِزْرا
) الشعر لرجل من عذرة والغناء لعريب ثقيل أول بالوسطى عمر
بن أبي ربيعة وصاحبه العذري نسخت هذا الخبر من كتاب محمد بن موسى بن حماد قال ذكر
الرياشي قال قال حماد الراوية أتيت مكة فجلست في حلقة فيها عمر بن أبي ربيعة
فتذاكروا من العذريين فقال عمر بن أبي ربيعة كان لي صديق من عذرة يقال له الجعد بن
مهجع وكان أحد بني سلامان وكان يلقى مثل الذي ألقى من الصبابة بالنساء والوجد بهن
على أنه كان لا عاهر الخلوة ولا سريع السلوة وكان يوافي الموسم في كل سنة فإذا راث
عن وقته ترجمت عنه الأخبار وتوكفت له الأسفار حتى يقدم فغمني ذات سنة إبطاؤه حتى
قدم حجاج عذرة فأتيت القوم أنشد صاحبي وإذا غلام قد تنفس الصعداء ثم قال أعن أبي
المسهر تسأل قلت عنه أسأل وإياه أردت قال هيهات هيهات أصبح والله أبو المسهر لا
مؤيسا فيهمل ولا مرجوا فيعلل أصبح والله كما قال القائل ( لَعَمْرُك ما حُبِّي لأسماء تاركي ...
أعيشُ ولا أقضي به فأموت ) قال قلت وما الذي به قال مثل الذي بك من تهوركما في الضلال
وجركما أذيال الخسار فكأنكما لم تسمعا بجنة ولا نار قلت من أنت منه يا بن أخي قال
أخوه قلت أما والله يا بن أخي ما يمنعك أن تسلك مسلك أخيك من الأدب وأن تركب منه مركبه
إلا أنك وأخاك كالبرد والبجاد لا ترقعه ولا يرقعك ثم صرفت وجه ناقتي وأنا أقول ( أرائحةٌ حُجَّاجُ
عُذْرَةَ وِجْهةً ... ولَمَّا يَرُحْ في القوم جَعْدُ بنُ مِهْجَعِ ) ( خليلانِ نشكو
ما نُلاَقِي من الهوى ... متى ما يَقُلْ أسْمَعْ وإن قلتُ يَسمع ) ( ألاَ ليت شعري
أيُّ شيءٍ أصابه ... فلي زَفَراتٌ هِجْنَ ما بين أضلُعي ) ( فلا يُبْعِدَنْكَ الله خِلاًّ فإنني
... سألقَى كما لاقيتَ في كلِّ مَصْرَعِ ... ) ثم انطلقتُ حتى وقفت موقفي من
عرفات فبينا أنا كذلك إذ أنا بإنسان قد تغير لونه وساءت هيئته فأدنى ناقته من
ناقتي حتى خالف بين أعناقهما ثم عانقني وبكى حتى اشتد بكاؤه فقلت ما وراءك قال برح
العذل وطول المطل ثم أنشأ يقول (
لئن كانت عُدَيَّةُ ذاتَ لُبٍّ ... لقد علمتْ بأنّ الحبّ
داء ) ( ألم تنظُرْ إلى تغيير جسمي ... وأنِّي لا يفارقُني البكاء ) ( ولو أنِّي
تكلّفتُ الذي بي ... لقَفَّ الكَلْمُ وانكشف الغطاء ) ( فإنّ معاشري ورجال قومي ...
حُتُوفُهم الصّبابةُ واللِّقاء
) ( إذا العُذْرِيُّ مات خَليَّ ذَرْعٍ ... فذاك العبدُ
يبكيه الرِّشاء ) فقلت يا أبا المسهر إنها ساعة تضرب إليها أكباد الإبل من شرق
الأرض وغربها فلو دعوت الله كنت قمنا أن تظفر بحاجتك وأن تنصر على عدوك قال فتركني
وأقبل على الدعاء فلما نزلت الشمس للغروب وهم الناس أن يفيضوا سمعته يتكلم بشيء
فأصغيت إليه فإذا هو يقول ( يا رَبَّ كلِّ غَدْوةٍ ورَوْحهْ ... من مُحْرِمٍ يشكو الضُّحَى
ولَوْحَهْ ) ( أنت حسيبُ الخَلْق يومَ الدَّوْحهْ ... ) عمر بن أبي ربيعة يسعى لزواج
الجعد بن مهجع من عشيقته فقلت له وما يوم الدوحة قال والله لأخبرنك ولو لم تسألني فيممنا
نحو مزدلفة فأقبل علي وقال إني رجل ذو مال كثير من نعم وشاء وذو المال لا يصدره
ولا يرويه الثماد وقطر الغيث أرض كلب فانتجعت أخوالي منهم فأوسعوا لي عن صدر
المجلس وسقوني جمة الماء وكنت فيهم في خير أخوال ثم إني عزمت على موافقة إبلي بماء
لهم يقال له الحوذان فركبت فرسي وسمطت خلفي شرابا كان أهداه إلي بعضهم ثم مضيت حتى
إذا كنت بين الحي ومرعى النعم رفعت لي دوحة عظيمة فنزلت عن فرسي وشددته بغصن من
أغصانها وجلست في ظلها فبينا أناكذلك إذ سطع غبار من ناحية الحي ورفعت لي شخوص
ثلاثة ثم تبينت فإذا فارس يطرد مسحلا وأتانا فتأملته فإذا عليه درع أصفر وعمامة خز
سوداء وإذا فروع شعره تضرب خصريه فقلت غلام حديث عهد بعرس أعجلته لذة الصيد فترك ثوبه
ولبس ثوب أمرأته فما جاز علي إلا يسيرا حتى طعن المسحل وثنى طعنة للأتان فصرعهما
وأقبل راجعا نحوي وهو يقول ( نَطْعُنُهم سُلْكَى ومخلوجةً ... كَرَّكَ لامَيْنِ على نابِل ) فقلت إنك قد
تعبت وأتعبت فلو نزلت فثنى رجله فنزل فشد فرسه حذف 176 بغصن من أغصان الشجرة وألقى
رمحه وأقبل حتى جلس فجعل يحدثني حديثا ذكرت به قول أبي ذؤيب ( وإنّ حديثاً منكِ لو تَبْذُلِينَه ...
جَنَى النَّحْلِ في ألبان عُوذٍ مَطَافلِ ) فقمت إلى فرسي فأصلحت من أمره ثم رجعت
وقد حسر العمامة عن رأسه فإذا غلام كأن وجهه الدينار المنقوش فقلت سبحانك اللهم ما
أعظم قدرتك وأحسن صنعتك فقال مم ذاك قلت مما راعني من جمالك وبهرني من نورك قال
وما الذي يروعك من حبيس التراب وأكيل الدواب ثم لا يدري أينعم بعد ذلك أم يبأس قلت
لا يصنع الله بك إلا خيرا ثم تحدثنا ساعة فأقبل علي وقال ما هذا الذي أرى قد سمطت
في سرجك قلت شراب أهداه إلي بعض أهلك فهل لك فيه من أرب قال أنت وذاك فأتيته به
فشرب منه وجعل ينكت أحيانا بالسوط على ثناياه فجعل والله يتبين لي ظل السوط فيهن فقلت
مهلا فإني خائف أن تكسرهن فقال ولم قلت لأنهن رقاق وهن عذاب قال ثم رفع عقيرته
يتغنى ( إذا قبّل الإنسانُ آخر يشتهي ... ثناياه لَمْ يأثَمْ وكان له أجْراً ) ( فإن زاد زاد
الله في حَسَناته ... مثاقيلَ يمحو الله عنه بها الوِزْرَا ) ثم قام إلى فرسه فأصلح من أمره ثم رجع
قال فبرقت لي بارقة تحت الدرع فإذا ثدي كأنه حق عاج فقلت نشدتك الله امرأة قالت إي
والله إلا أني أكره العشير وأحب الغزل ثم جلست فجعلت تشرب معي ما أفقد من أنسها
شيئا حتى نظرت إلى عينيها كأنهما عينا مهاة مذعورة فوالله ماراعني إلا ميلها على
الدوحة سكرى فزين لي والله الغدر وحسن في عيني ثم إن الله عصمني منه فجلست حجرة
منها فما لبث إلا يسيرا حتى انتبهت فزعة فلاثت عمامتها برأسها وجالت في متن فرسها
وقالت جزاك الله عن الصحبة خيرا قلت أو ما تزودينني منك زادا فناولتني يدها
فقبلتها فشممت والله منها ريح المسك المفتوت فذكرت قول الشاعر ( كأنها إذ تقضَّى
النوم وانتبهت ... سَحَابةُ ما لها عينٌ ولا أثرُ ) قلت وأين الموعد قالت إن لي إخوة شرسا
وأبا غيورا ووالله لأن أسرك أحب إلي من أن أضرك ثم انصرفت فجعلت أتبعها بصري حتى
غابت فهي والله يا بن أبي ربيعة أحلتني هذا المحل وأبلغتني فقلت له يا أبا المسهر
إن الغدر بك مع ما تذكر لمليح فبكى واشتد بكاؤه فقلت لاتبك فما قلت لك ما قلت إلا
مازحا ولو لم أبلغ في حاجتك بمالي لسعيت في ذلك حتى أقدر عليه فقال لي خيرا فلما
انقضى الموسم شددت على ناقتي وشد على ناقته ودعوت غلامي فشد على بعير له وحملت
عليه قبة حمراء من أدم كانت لأبي ربيعة المخزومي وحملت معي ألف دينار ومطرف خز
وانطلقنا حتى أتينا بلاد كلب فنشدنا عن أبي الجارية فوجدناه في نادي قومه وإذا هو
سيد الحي وإذا الناس حوله فوقفت على القوم فسلمت فرد الشيخ السلام ثم قال من الرجل
قلت عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة فقال المعروف غير المنكر فما الذي جاء بك قلت خاطبا
قال الكفء والرغبة قلت إني لم آت ذلك لنفسي عن غير زهاده فيك ولا جهالة بشرفك
ولكني أتيت في حاجة ابن أختكم العذري وها هو ذاك فقال والله إنه لكفيء الحسب رفيع
البيت غير أن بناتي لم يقعن إلا في هذا الحي من قريش فوجمت لذلك وعرف التغير في
وجهي فقال أما إني صانع بك ما لم أصنعه بغيرك قلت وما ذاك فمثلي من شكر قال أخيرها
فهي وما اختارت قلت ما أنصفتني إذ تختار لغيري وتولي الخيار غيرك فأشار إلي العذري
أن دعه يخيرها فأرسل إليها إن من الأمر كذا وكذا فأرسلت إليه ما كنت لأستبد برأي
دون القرشي فالخيار في قوله حكمه فقال لي إنها قد ولتك أمرها فاقض ما أنت قاض فحمدت
الله عز و جل وأثنيت عليه وقلت اشهدوا أني قد زوجتها من الجعد بن مهجع وأصدقتها
هذا الألف الدينار وجعلت تكرمتها العبد والبعير والقبة وكسوت الشيخ المطرف وسألته
أن يبني بها عليه في ليلته فأرسل إلى أمها فقالت أتخرج ابنتي كما تخرج الأمة فقال
الشيخ هجري في جهازها فما برحت حتى ضربت القبة في وسط الحريم ثم أهديت إليه ليلا
وبت أنا عند الشيخ فلما أصبحت أتيت القبة فصحت بصاحبي فخرج إلي وقد أثر السرور فيه
فقلت كيف كنت بعدي وكيف هي بعدك فقال لي أبدت لي والله كثيرا مما كانت أخفته عني
يوم لقيتها فسألتها عن ذلك فأنشأت تقول ( كتمتُ الهوى لما رأيتك جازعاً ...
وقلتُ فتىً بعضَ الصديق يريد )
( وأنْ تَطْرَحَنّي أو تقولَ فُتَيَّةٌ ... يَضُرّ بها
بَرْحُ الهوى فتعود ) ( فورّيتُ عمّا بي وفي داخل الحَشَى ... من الوجد بَرْحٌ
فاعْلَمَنّ شديدُ ) فقلت أقم على أهلك بارك الله لك فيهم وانطلقت وأنا أقول ( كفيتُ أخي
العذريَّ ما كان نابَه ... وإني لأعباء النوائب حَمّال ) ( أمَا استُحْسِنتْ منِّي المَكَارِمُ
والعُلاَ ... إذا طُرِحتْ إنِّي لمالي بَذّال ) وقال العذري ( إذا ما أبو الخَطّاب خلّى مكانَه ...
فَاُفٍّ لِدُنْيَا ليس من أهلها عُمَرْ
) ( فلا حَيَّ فِتْيانُ الحجازين بعدَه ... ولا سُقِيتْ
أرضُ الحجازين بالمطرْ ) صوت ( إنّ الخليطَ قَد ازْمَعوا تَرْكي ... فوقفتُ في
عَرَصاتهم أبكي ) ( جِنِّيَّةٌ بَرَزتْ لتقتُلَني ... مَطْلِيّةُ الأَصداغ بالمسك ) ( عجباً لمثلكِ
لا يكونُ له ... خَرْجُ العِراقِ ومِنْبَرُ الملكِ ) الشعر لابن قيس الرقيات يقوله في
عائشة بنت طلحة والغناء لمعبد ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر والسبب في قول ابن
قيس هذا الشعر فيها يذكر في أخبارها إن شاء الله تعالى أخبار عائشة بنت طلحة
ونسبها عائشة بنت طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن
تيم وأمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قال
أبي قال مصعب كانت فريدة بين نساء عصرها كانت عائشة بنت طلحة لا تستر وجهها من أحد
فعاتبها مصعب في ذلك فقالت إن الله تبارك وتعالى وسمني بميسم جمال أحببت أن يراه
الناس ويعرفوا فضلي عليهم فما كنت لأستره ووالله ما في وصمة يقدر أن يذكرني بها
أحد وطالت مرادة مصعب إياها في ذلك وكانت شرسة الخلق قال وكذلك نساء بني تيم هن
أشرس خلق الله وأحظاه عند أزواجهن وكانت عند الحسين بن علي صلوات الله عليهما أم
إسحاق بنت طلحة فكان يقول والله لربما حملت ووضعت وهي مصارمة لي لا تكلمني قال
نالت عائشة من مصعب وقالت علي كظهر أمي وقعدت في غرفة وهيأت فيها ما يصلحها فجهد
مصعب أن تكلمه فأبت فبعث إليها ابن قيس الرقيات فسألها كلامه فقالت كيف بيميني
فقال ها هنا الشعبي فقيه أهل العراق فاستفتيه فدخل عليها فأخبرته فقال ليس هذا
بشيء فقالت أتحلني وتخرج خائبا فأمرت له بأربعة آلاف درهم وقال ابن قيس الرقيات
لما رآها ( جِنِّيَّةٌ بَرَزتْ لتقتلنا ... مَطْلِيَّةُ الأقراب بالمِسْك ) وذكر باقي
الأبيات هي وأشعب يتآمران على مصعب أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن
إسحاق اليعقوبي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم قال كان أشعب يألف
مصعبا فغضبت عليه عائشة بنت طلحة يوما وكانت من أحب الناس إليه فشكا ذلك إلى أشعب فقال
ما لي إن رضيت قال حكمك قال عشرة آلاف درهم قال هي لك فانطلق حتى أتى عائشة فقال
جعلت فداءك قد علمت حبي لك وميلي قديما وحديثا إليك من غير منالة ولا فائدة وهذه
حاجة قد عرضت تقضين بها حقي وترتهنين بها شكري قالت وما عناك قال قد جعل لي الأمير
عشرة آلاف درهم إن رضيت عنه قالت ويحك لا يمكنني ذلك قال بأبي أنت فارضي عنه حتى
يعطيني ثم عودي الى ما عودك الله من سوء الخلق فضحكت منه ورضيت عن مصعب وقد ذكر
المدائني أن هذه القصة كانت لها مع عمر بن عبيد الله بن معمر وأن الرسول إليها
والمخاطب لها بهذه المخاطبة ابن أبي عتيق وأخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد قال
أبي حدثت عن صالح بن حسان قال كان بالمدينة امرأة حسناء تسمى عزة الميلاء يألفها
الأشراف وغيرهم من أهل المروءات وكانت من أظرف الناس وأعلمهم بأمور النساء فأتاها
مصعب بن الزبير وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وسعيد بن العاص فقالوا إنا
خطبنا فانظري لنا فقالت لمصعب يا بن أبي عبد الله ومن خطبت فقال عائشة بنت طلحة فقالت
فأنت يا بن أبي أحيحة قال عائشة بنت عثمان قالت فأنت يابن الصديق قال أم القاسم
بنت زكريا بن طلحة قالت يا جارية هاتي منقلي تعني خفيها فلبستهما وخرجت ومعها خادم
لها فإذا هي بجماعة يزحم بعضهم بعضا فقالت يا جارية انظري ما هذا فنظرت ثم رجعت
فقالت امرأة أخذت مع رجل فقالت داء قديم امض ويلك فبدأت بعائشة بنت طلحة فقالت
فديتك كنا في مأدبة أو مأتم لقريش فتذاكروا جمال النساء وخلقهن فذكروك فلم أدر كيف
أصفك فديتك فألقي ثيابك ففعلت فأقبلت وأدبرت فارتج كل شيء منها فقالت لها عزة خذي
ثوبك فديتك فقالت عائشة قد قضيت حاجتك وبقيت حاجتي قالت عزة وما هي بنفسي أنت قالت
تغنيني صوتا فاندفعت تغني لحنها صوت ( خَليليَ عُوجَا بالمَحَلّة من جُمْلِ ...
وأترابِها بين الأُصَيْفِرِ والخبلِ
) ( نَقفْ بمغانٍ قد محا رسمَها البِلَى ... تَعَاقَبُها
الأيّام بالريح والوبْل ) ( فلو دَرج النملُ الصِّغارُ بجلدها ... لأندَبَ أعلَى جِلْدِها
مَدْرَجُ النملِ ) ( وأحسنُ خلق الله جيداً ومقلةً ... تُشَبَّه في النسوان بالشادن
الطَّفْل ) الشعر لجميل بن عبد الله بن معمر العذري والغناء لعزة الميلاء ثقيل أول
بالوسطى فقامت عائشة فقبلت ما بين عينيها ودعت لها بعشرة أثواب وبطرائف من أنواع
الفضة وغير ذلك فدفعته الى مولاتها فحملته وأتت النسوة على مثل ذلك تقول ذلك لهن
حتى أتت القوم في السقيفة فقالوا ما صنعت فقالت يابن أبي عبد الله أما عائشة فلا
والله إن رأيت مثلها مقبلة ومدبرة محطوطة المتنين عظيمة العجيزة ممتلئة الترائب
نقية الثغر وصفحة الوجه فرعاء الشعر لفاء الفخذين ممتلئة الصدر خميصة البطن ذات
عكن ضخمة السرة مسرولة الساق يرتج مابين أعلاها الى قدميها وفيها عيبان أما أحدهما
فيواريه الخمار وأما الآخر فيواريه الخف عظم القدم والأذن وكانت عائشة كذلك ثم
قالت عزة وأما أنت يا بن أبي أحيحة فإني والله ما رأيت مثل خلق عائشة بنت عثمان
لامرأة قط ليس فيها عيب والله لكأنما أفرغت إفراغا ولكن في الوجه ردة وإن استشرتني
أشرت عليك بوجه تستأنس به وأما أنت يابن الصديق فوالله ما رأيت مثل أم القاسم
كأنها خوط بانة تنثني وكأنها جدل عنان أو كأنها جان يتثنى على رمل لو شئت أن تعقد
أطرافها لفعلت ولكنها شختة الصدر وأنت عريض الصدر فإذا كان ذلك كان قبيحا لا والله
حتى يملأ كل شيء مثله قال فوصلها الرجال والنساء وتزوجوهن أخبرني الطوسي وحرمي عن
الزبير عن عمه وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن الزبيري والمدائني ونسخت
بعض هذه الأخبار من كتاب أحمد بن الحارث عن المدائني وجمعت ذلك قالوا جميعا إن أم
عائشة بنت طلحة أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وأمها حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي
زهير من بني الخزرج بن الحارث قالوا وكانت عائشة بنت طلحة تشبه بعائشة أم المؤمنين
خالتها فزوجتها عائشة عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر وهو ابن أخيها وابن خال
عائشة بنت طلحة وهو أبو عذرها فلم تلد من أحد من أزواجها سواه ولدت له عمران وبه
كانت تكنى وعبد الرحمن وأبا بكر وطلحة ونفيسة وتزوجها الوليد بن عبد الملك ولكل
هؤلاء عقب وكان ابنها طلحة من أجواد قريش وله يقول الحزين الديلي ( فإنْ تك يا
طَلْحَ أعطيتَني ... عُذافِرةً تَسْتخِفّ الضِّفارا ) ( فما كان نَفْعُك لي مَرّةً ... ولا
مَرّتين ولكن مِرارا ) ( أبوك الذي صدّق المصطفى ... وسار مع المصطفى حيث سارا ) ( وأُمُّك بيضاء
تَيْمِيّةٌ ... إذا نُسِب الناسُ كانوا نُضَارا ) قال فصارمت عائشة بنت طلحة زوجها
وخرجت من دارها غضبى فمرت في المسجد وعليها ملحفة تريد عائشة أم المؤمنين فرآها
أبو هريرة فقال سبحان الله كأنها من الحور العين فمكثت عند عائشة أربعة أشهر وكان
زوجها قد آلى منها فأرسلت عائشة إني أخاف عليك الإيلاء فضمها إليه وكان موليا منها
فقيل له طلقها فقال ( يقولون طَلِّقْها لأُصبحَ ثاوياً ... مُقيماً عليّ الهمُّ
أحلامُ نائِم ) ( وإنّ فِرَاقي أهلَ بَيْتٍ أُحِبُّهم ... لهم زُلفةٌ عندي
لإَحدى العظائم ) زواجها من مصعب بن الزبير فتوفي عبد الله بعد ذلك وهي عنده فما
فتحت فاها عليه وكانت عائشة أم المؤمنين تعدد عليها هذا في ذنوبها التي تعددها ثم
تزوجها بعده مصعب بن الزبير فأمهرها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها مثل ذلك وبلغ ذلك
أخاه فقال إن مصعبا قدم أيره وأخر خيره فبلغ ذلك من قوله عبد الملك بن مروان فقال
لكنه أخر أيره وخيره وكتب ابن الزبير إلى مصعب يؤنبه على ذلك ويقسم عليه أن يلحق
به بمكة ولا ينزل المدينة ولا ينزل إلا بالبيداء وقال له إني لأرجو أن تكون الذي
يخسف به بالبيداء فما أمرتك بنزولها إلا لهذا وصار إليه وأرضاه من نفسه فأمسك عنه قال
وحدثني المدائني عن سحيم بن حفص قال كان مصعب بن الزبير لا يقدر عليها إلا بتلاح
ينالها منه وبضربها فشكا ذلك إلى ابن أبي فروة كاتبه فقال له أنا أكفيك هذا إن
أذنت لي قال نعم افعل ما شئت فإنها أفضل شيء نلته من الدنيا فأتاها ليلا ومعه
أسودان فاستأذن عليها فقالت له أفي مثل هذه الساعة قال نعم فأدخلته فقال للأسودان
احفرا هاهنا بئرا فقالت له جاريتها وما تصنع بالبئر قال شؤم مولاتك أمرني هذا
الفاجر أن أدفنها حية وهو أسفك خلق الله لدم حرام فقالت عائشة فأنظرني أذهب إليه قال
هيهات لاسبيل إلى ذلك وقال للأسودين احفرا فلما رأت الجد منه بكت ثم قالت يابن أبي
فروة إنك لقاتلي ما منه بد قال نعم وإني لأعلم أن الله سيجزيه بعدك ولكنه قد غضب
وهو كافر الغضب قالت وفي أي شيء غضبه قال في امتناعك عنه وقد ظن أنك تبغضينه
وتتطلعين إلى غيره فقد جن فقالت أنشدك الله إلا عاودته قال إني أخاف أن يقتلني فبكت
وبكى جواريها فقال قد رققت لك وحلف أنه يغرر بنفسه ثم قال لها فما أقول قالت تضمن
عني ألا أعود أبدا قال فما لي عندك قالت قيام بحقك ما عشت قال فأعطيني المواثيق
فأعطته فقال للأسودين مكانكما وأتى مصعبا فأخبره فقال له استوثق منها بالأيمان
ففعلت وصلحت بعد ذلك لمصعب بعض اخبارها مع مصعب قال ودخل عليها مصعب يوما وهي
نائمة متصبحة ومعه ثماني لؤلؤات قيمتها عشرون ألف دينار فأنبهها ونثر اللؤلؤ في
حجرها فقالت له نومتي كانت الي من هذا اللؤلؤ قال وصارمت مصعبا مرة فطالت مصارمتها
له وشق ذلك عليها وعليه وكانت لمصعب حرب فخرج إليها ثم عاد وقد ظفر فشكت عائشة
مصارمته إلى مولاة لها فقالت الآن يصلح أن تخرجي إليه فخرجت فهنأته بالفتح وجعلت
تمسح التراب عن وجهه فقال لها مصعب إني أشفق عليك من رائحة الخديد فقالت لهو والله
عندي أطيب من ريح المسك الأذفر أخبرني ابن يحيى عن حماد عن أبيه عن المسعر قال كان
مصعب من أشد الناس إعجابا بعائشة بنت طلحة ولم يكن لها شبه في زمانها حسنا ودماثة
وجمالا وهيئة ومتانة وعفة وإنها دعت يوما نسوة من قريش فلما جئنها أجلستهن في مجلس
قد نضد فيه الريحان والفواكه والطيب و المجمر وخلعت على كل امرأة منهن خلعة تامة
من الوشي والخز ونحوهما ودعت عزة الميلاء ففعلت بها مثل ذلك وأضعفت ثم قالت لعزة هاتي
يا عزة فغنينا فغنتهن في شعر امرىء القيس ( وثَغْرٍ أغَرَّ شَتِيتِ النباتِ ...
لذيذِ المُقَبَّلِ والمُبْتَسَمْ
) ( وما ذقتُه غيرَ ظَنٍّ به ... وبالظن يقضِي عليك
الحَكَمْ ) وكان مصعب قريبا منهن ومعه إخوان له فقام فانتقل حتى دنا منهن والستور مسبلة
فصاح يا هذه إنا قد ذقناه فوجدناه على ما وصفت فبارك الله فيك يا عزة ثم أرسل إلى
عائشة أما أنت فلا سبيل لنا إليك مع من عندك وأما عزة فتأذنين لها أن تغنينا هذا
الصوت ثم تعود إليك ففعلت وخرجت عزة إليه فغنته هذا الصوت مرارا وكاد مصعب أن يذهب
عقله فرحا ثم قال لها يا عزة إنك لتحسنين القول والوصف وأمرها بالعود إلى مجلسها وتحدث
ساعة مع القوم ثم تفرقوا وقال المدائني وذكره القحذمي أيضا في خبره فلما قتل مصعب
عن عائشة خطبها بشر بن مروان وقدم عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي من الشام فنزل
الكوفة فبلغه أن بشر بن مروان خطبها فأرسل إليها جارية لها وقال قولي لابنة عمي يقرئك
السلام ابن عمك ويقول لك أنا خير من هذا المبسور المطحول وأنا ابن عمك وأحق بك وإن
تزوجت بك ملأت بيتك خيرا وحرك أيرا فتزوجته فبنى بها بالحيرة ومهدت له سبعة أفرشة
عرضها أربع أذرع فأصبح ليلة بنى بها عن تسع قال فلقيته مولاة لها فقالت أبا حفص
فديتك قد كملت في كل شيء حتى في هذا وقال مصعب في خبره إن بشرا بعث إليها عمر بن
عبيد الله بن معمر يخطبها عليه فقالت له يا مصارع قلة أما وجد بشر رسولا الى ابنة
عمك غيرك فأين بك عن نفسك قال أو تفعلين قالت نعم فتزوجها وقال مصعب الزبيري في
خبره لما بنى بها عمر قال لها لأقتلنك الليلة فلم يصنع إلا واحدة فقالت له لما
أصبح قم يا قتال قال وقالت له حينئذ (
قد رأيناك فلم تَحْلُ لنا ... وبلوناك فلم نرض الخبر ) وهذه الحكاية
تحامل من مصعب الزبيري وعصبية والخبر في رضاها عنه والحكاية في هذا غير ما حكاه
وهو ما سبق زواجها من عمر بن عبيد الله أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه
عن ابن أبي سعد عن القحذمي أن عمر بن عبيد الله لما قدم الكوفة تزوج عائشة بنت طلحة
فحمل اليها ألف ألف درهم خمسمائة ألف درهم مهرا وخمسمائة ألف هدية وقال لمولاتها
لك علي ألف دينار إن دخلت بها الليلة وأمر بالمال فحمل فألقي في الدار وغطي
بالثياب وخرجت عائشة فقالت لمولاتها أهذا فرش أم ثياب قالت انظري إليه فنظرت فإذا مال
فتبسمت فقالت أجزاء من حمل هذا أن يبيت عزبا قالت لا والله ولكن لايجوز دخوله إلا
بعد أن أتزين له وأستعد قالت فيم ذا فوجهك والله أحسن من كل زينة وما تمدين يدك
الى طيب أو ثوب أو مال أو فرش إلا وهو عندك وقد عزمت عليك أن تأذني له قالت افعلي فذهبت
إليه فقالت له بت بنا الليلة فجاءهم عند العشاء الآخرة فأدني إليه طعام فأكل
الطعام كله حتى أعرى الخوان وغسل يده وسأل عن المتوضأ فأخبرته فتوضأ وقام يصلي حتى
ضاق صدري ونمت ثم قال أعليكم إذن قلت نعم فادخل فأدخلته وأسبلت الستر عليهما فعددت
له في بقية الليل على قلتها سبع عشرة مرة دخل المتوضأ فيها فلما أصبحنا وقفت على
رأسه فقال أتقولين شيئا قلت نعم والله ما رأيت مثلك أكلت أكل سبعة وصليت صلاة سبعة
ونكت نيك سبعة فضحك وضرب يده بيده على منكب عائشة فضحكت وغطت وجهها وقالت ( قد رأيناك فلم
تحلُ لنا ... وبلوناك فلم نرضَ الخبر
) ويدل أيضا على بطلان خبره أنه لما مات ندبته قائمة ولم
تندب أحدا من أزواجها إلا جالسة فقيل لها في ذلك فقالت إنه كان أكرمهم علي وأمسهم
رحما بي وأردت ألا أتزوج بعده وكانت ندبة المرأة زوجها قائمة مما تفعله من لا تريد
أن تتزوج بعد زوجها أخبرني بذلك الحسن بن علي عن أحمد بن زهير بن حرب عن محمد بن
سلام وهذا دليل على خلاف ما ذكره مصعب ثم رجع الخبر إلى سياقة خبرها قال المدائني
في خبره قالت أمرأة كنت عند عائشة بنت طلحة فقيل لها قد جاء الأمير فتنحيت ودخل
عمر بن عبيد الله وكنت بحيث أسمع كلامهما فوقع عليها فجاءت بالعجائب ثم خرج فقلت
لها أنت في نفسك وموضعك وشرفك تفعلين هذا فقالت إنا نتشهى لهذه الفحول بكل ما
حركها وكل ما قدرنا عليه قال المدائني وحدثني مسلمة بن محارب قال قالت رملة بنت
عبد الله بن خلف وكانت تحت عمر بن عبيد الله بن معمر وقد ولدت منه ابنه طلحة الجود
لمولاة لعائشة بنت طلحة أريني عائشة متجردة ولك ألفا درهم فأخبرت عائشة بذلك قالت
فإني أتجرد فأعلميها ولا تعرفيها أني أعلم فقامت عائشة كأنها تغتسل وأعلمتها
فأشرفت عليها مقبلة ومدبرة فأعطت رملة مولاتها ألفي درهم وقالت لوددت أني أعطيتك
أربعة آلاف درهم ولم أرها قال وكانت رملة قد أسنت وكانت حسنة الجسم قبيحة الوجه
عظيمة الأنف وفيها وفي عائشة يقول الشاعر ( انْعَمْ بعائشَ عَيْشاً غير ذي رَنَقِ
... وانبِذْ برملةَ نَبْذَ الجَوْرَبِ الخَلَقِ ) ويقال إن رملة قد أسنت عند عمر بن
عبيد الله فكانت تجتنبه في أيام أقرائها ثم تغتسل تريه أنها تحيض وذلك بعد انقطاع حيضها
فقال في ذلك بعض الشعراء ( جعل الله كلَّ قَطْرةِ حَيْضٍ ... قَطَرتْ منكِ في حَمَاليقِ
عيني ) أخبرنا بذلك الجوهري عن عمر بن شبة وذكر هارون بن الزيات عن أبي محلم عن
أبي بكر بن عياش قال قال عمر بن عبيد الله لعائشة بنت طلحة وقد أصاب منها طيب نفس
ما مر بي مثل يوم أبي فديك فقالت له اعدد أيامك واذكر أفضلها فعد يوم سجستان ويوم
قطري بفارس ونحو ذلك فقالت عائشة قد تركت يوما لم تكن في أيامك أشجع منك فيه قال
وأي يوم قالت يوم أرخت عليها وعليك رملة الستر تريد قبح وجهها قال فمكثت عائشة عند
عمر بن عبيد الله بن معمر ثماني سنين ثم مات عنها في سنة اثنتين وثمانين فتأيمت
بعده فخطبها جماعة فردتهم ولم تتزوج بعده أحدا قال المدائني كان عمر بن عبيد الله
من أشد الناس غيرة فدخل يوما على عائشة وقد ناله حر شديد وغبار فقال لها انفضي
التراب عني فأخذت منديلا تنفض به عنه التراب ثم قالت له ما رأيت الغبار على وجه
أحد قط كان أحسن منه على وجه مصعب قال فكاد عمر يموت غيظا وقال أحمد بن حماد بن
جميل حدثني القحذمي قال كانت عائشة بنت طلحة من أشد الناس مغايظة لأزواجها وكانت
تكون لمن يجيء يحدثها في رقيق الثياب فإذا قالوا قد جاء الأمير ضمت عليها مطرنها
وقطبت وكانت كثيرا ما تصف لعمر بن عبيد الله مصعبا وجماله تغيظه بذلك فيكاد يموت وقال
المدائني حدثني مسلمة بن محارب وعبيد الله بن فائد وأخبرنا به حرمي عن الزبير عن
عمه ومحمد بن الضحاك قالوا دخلت عائشة بنت طلحة على الوليد بن عبد الملك وهو بمكة
فقالت يا أمير المؤمنين مر لي بأعوان فضم إليها قوما يكونون معها فحجت ومعها ستون
بغلا عليها الهوادج والرحائل فعرض لها عروة بن الزبير فقال ( عائشُ يا ذاتَ البغالِ الستِّينْ ...
أكُلَّ عامٍ هكذا تَحُجِّينْ ) فأرسلت إليه نعم يا عرية فتقدم إن شئت فكف عنها ولم تتزوج حتى
ماتت حجت مع سكينة بنت الحسين وقال غير المدائني إن عائشة بنت طلحة حجت وسكينة بنت
الحسين عليهما السلام معا وكانت عائشة أحسن آلة وثقلا فقال حاديها ( عائش يا ذات
البغال الستِّين ... لا زِلْتِ ما عِشْتِ كذا تَحُجِّين ) فشق ذلك على سكينة ونزل حاديها فقال ( عائش هذي ضَرَّةٌ
تشكوك ... لولا أبوها ما اهتدى أبوك
) فأمرت عائشة حاديها أن يكف فكف وقال إسحاق بن إبراهيم
في خبره حدثني محمد بن سلام عن يزيد بن عياض قال استأذنت عاتكة بنت يزيد بن معاوية
عبد الملك في الحج فأذن لها وقال ارفعي حوائجك واستظهري فإن عائشة بنت طلحة تحج
ففعلت فجاءت بهيئة جهدت فيها فلما كانت بين مكة والمدينة إذا موكب قد جاء فضغطها
وفرق جماعتها فقالت أرى هذه عائشة بنت طلحة فسألت عنها فقالوا هذه خازنتها ثم جاء
موكب آخر أعظم من ذلك فقالوا عائشة عائشة فضغطهم فسألت عنه فقالوا هذه ماشطتها ثم
جاءت مواكب على هذا الى سننها ثم أقبلت كوكبة فيها ثلثمائة راحلة عليها القباب
والهوادج فقالت عاتكة ماعند الله خير وأبقى وقال هارون بن الزيات حدثني قبيصة عن
ابن عائشة عن أمه عن سلامة مولاة جدته أثيلة بنت المغيرة بن عبد الله بن معمر قالت
زرت مع مولاتي خالتها عائشة بنت طلحة وأنا يومئذ وصيفة فرأيت عجيزتها من خلفها وهي
جالسة كأنها غيرها فوضعت أصبعي عليها لأعلم ما هي فلما وجدت مس أصبعي قالت ما هذا
قلت جعلت فداءك لم أدر ماهو فجئت لأنظر فضحكت وقالت ما أكثر من يعجب مما عجبت منه وزعم
بكر بن عبد الله بن عاصم مولى عرينة عن أبيه عن جده أن عائشة نازعت زوجها إلى أبي
هريرة فوقع خمارها عن وجهها فقال أبو هريرة سبحان الله ما أحسن ما غذاك أهلك
لكأنما خرجت من الجنة قال ابن عائشة وحدثني أبي أن عائشة بنت طلحة وفدت على هشام
فقال لها ما أوفدك قالت حبست السماء المطر ومنع السلطان الحق قال فإني أبل رحمك
وأعرف حقك ثم بعث إلى مشايخ بني أمية فقال إن عائشة عندي فاسمروا عندي الليلة
فحضروا فما تذاكروا شيئا من أخبار العرب وأشعارها وأيامها إلا أفاضت معهم فيه وما
طلع نجم ولا غار إلا سمته فقال لها هشام أما الأول فلا أنكره وأما النجوم فمن أين
لك قالت أخذتها عن خالتي عائشة فأمر لها بمائة ألف درهم وردها إلى المدينة خبرها
مع النميري الشاعر أخبرني عمي عن الكراني عن المغيرة بن محمد المهلبي عن محمد بن
عبد الوهاب عن عبد الرحمن بن عبد الله قال حدثني ابن عمران البزازي قال لما تأيمت
عائشة بنت طلحة كانت تقيم بمكة سنة وبالمدينة سنة تخرج إلى مال لها بالطائف عظيم
وقصر لها فتتنزه وتجلس فيه بالعشيات فتناضل بين الرماة فمر بها النميري الشاعر
فسألت عنه فنسب لها فقالت ائتوني به فقالت له لما أتوها به أنشدني مما قلت في زينب
فامتنع وقال ابنة عمي وقد صارت عظاما بالية قالت أقسمت لما فعلت فأنشدها قوله ( نزلنَ بفَخٍِّ ثم
رُحْنَ عشيّةً ... يُلَبِّين للرحمن مُعْتَمِرات ) ( يخبِّئن أطرافَ الأكُفِّ من التّقَى
... ويخرجن شَطْرَ الليل مُعتجرات
) ( ولمّا رأت رَكْبَ النميريّ أعرضتْ ... وكُنَّ مِنَ
انْ يَلْقَيْنَه حَذِرات ) ( تضوّع مِسكاً بطنُ نَعْمَانَ أن مَشَتْ ... به زينبٌ في نِسوة
خَفِرات ) فقالت والله ما قلت إلا جميلا ولا وصفت إلا كرما وطيبا وتقى ودينا أعطوه ألف
درهم فلما كانت الجمعة الأخرى تعرض لها فقالت علي به فجاء فقالت أنشدني من شعرك في
زينب فقال أو أنشدك من قول الحارث فيك فوثب مواليها فقالت دعوه فإنه أراد أن يستقيد
لابنة عمه هات فأنشدها ( ظعَن الأميرُ بأحسنِ الخَلْقِ ... وغَدَوْا بُلبِّكَ مَطْلَعَ
الّشَّرْق ) ( وتَنُوْءُ تُثْقِلُها عَجيزتُها ... نَهْضَ الضعيفِ ينوء
بالوَسْقِ ) ( ما صَبَّحتْ زوجاً بطَلعتها ... إلاّ غَدَا بكواكب الطَّلْقِ ) ( قُرَشيَّةٌ
عَبِقَ العبيرُ بها ... عَبَقَ الِّرهانِ بجانب الحُقِّ ) ( بيضاءُ من تيم كَلِفْتُ بها ... هذا
الجنون وليس بالعشق ) قالت والله ما ذكر إلا جميلا ذكر أني إذا صبحت زوجا بوجهي غدا
بكواكب الطلق وأني غدوت مع أمير تزوجني إلى الشرق أعطوه ألف درهم واكسوه حلتين ولا
تعد لإتياننا يا نميري أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد
بن سلام أن عبد الملك ولى الحارث بن خالد على مكة فأذن المؤذن وخرج للصلاة فأرسلت
اليه عائشة بنت طلحة قد بقي من طوافي شيء لم آته وكان يتعشقها فأمر المؤذن فكف عن
الإقامة ففرغت من طوافها وبلغ ذلك عبد الملك فعزله فقال ما أهون والله غضبه وعزله
إياي علي عند رضاها عني أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني عمر بن شبة قال قال
سلم بن قتيبة رأيت عائشة بنت طلحة بمنى أو مسجد الخيف فسألتني من أنت قلت سلم بن
قتيبة فقالت رحم الله مصعبا ثم ذهبت تقوم ومعها امرأتان تنهضانها فأعجزتها أليتاها
من عظمهما فقالت إني بكما لمعناة فذكرت قول الحارث ( وتنوء تُثْقِلُها عَجِيزَتُها ...
نَهْضَ الضعيفِ ينوء بالوَسْقِ
) وروى هذا الخبر هارون بن الزيات عن جعفر بن محمد عن
أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو عمرو بن خلاد عن
المدائني قال قال أبو هريرة لعائشة بنت طلحة ما رأيت شيئا أحسن منك إلا معاوية أول
يوم خطب على منبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالت والله لأنا أحسن من النار
في الليلة القرة في عين المقرور رفضت الزواج من أبان بن سعيد أخبرني أحمد بن عبيد
الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ عن محمد بن الحكم عن عوانة قال كتب أبان
بن سعيد إلى أخيه يحيى يخطب عليه عائشة بنت طلحة ففعل فقالت ليحيى ما أنزل أخاك
أيلة قال أراد العزلة قالت اكتب إلى أخيك ( حَلَلْتَ مَحَلَّ الضَّبِّ لاأنتَ
ضائرٌ ... عدوّاً ولا مستنفَعٌ بك نافعُ ) صوت ( إذا المالُ لم يُوجِبْ عليك
عطاءَه ... صنيعة تَقْوَى أو صديقٌ تُوَامِقُهْ ) ( مَنَعْتَ وبعضُ المَنْعِ حَزْمٌ
وقُوةٌ ... فلمَ يَفْتَلِتْك المالَ إلاّ حقائقُهْ ) عروضه من الطويل توامقه تفاعله من
الموامقة أي توده ويودك يقال ومقته أمقه أي أحببته ويفتلتك أي يخرجه من يدك وقبضتك
الشعر لكثير والغناء لمالك بن أبي السمح ويقال إنه للهذلي خفيف ثقيل أول بالبنصر أخبرنا
محمد بن خلف وكيع قال حدثنا طلحة بن عبد الله قال حدثني أبو معمر عافية بن شيبة
قال حدثني العتبي قال أفلس صيرفي بالمدينة فخرج قوم يسألون له فمروا بابن عمران
الطلحي وفتح بابه واجتمع له أصحابه فسألوه فقرع بمخصرته ثم رفع رأسه اليهم فقال ( إذا المالُ لم
يُوجِبْ عليكَ عطاءَه ... صنيعةُ تَقْوَى أو صَدِيقٌ تُوَامِقُه ) ( بَخِلتَ وبعضُ
البُخْلِ حَزْمٌ وقوةٌ ... فلَمَّ يفتَلْتكَ المالَ إلاّ حقائقه ) إنا والله ما
نحيد عن الحق ولانتدفق في الباطل وإن لنا لحقوقا تشغل فضول أموالنا وما كل من أفلس
من صيارفة المدينة قدرنا أن نجبره قوموا قال فقمنا نستبق الباب أخبرني محمد بن
العباس اليزيدي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا أبو مسلمة المديني قال أخبرني أبي
قال كان رجل من الأنصار من بني حارثة مملقا ليس في ديوان ولاعطاء وكان صديقا لإبراهيم
بن هشام بن إسماعيل فقال له يوما إن أمير المؤمنين مسابق عدا بين الخيل وقد أمرت
الحرس ألا يعرضوا لك حتى تكلمه قال فسبق هشاما يومئذ ابن له وكان السبق يشتد عليه فعرض
له الأنصاري فقال يا أمير المؤمنين أنا امرؤ من الأنصار وقد بلغت هذه السن ولسن في
ديوان فإن رأى أمير المؤمنين أن يفرض لي فعل قال فأقبل عليه هشام فقال والله لا
أفرض لك حتى مثل هذه الليلة من السنة المقبلة ثم أقبل على الأبرش فقال يا أبرش
أخطأ أخو الأنصار المسألة فقال يا أمير المؤمنين ابن أبي جمعة يقول ( إذا المالُ لم
يُوجِبْ عليك عطاءَه ... صنيعةُ تَقْوَى أو خليلٌ توامقه ) شعر لعمرو بن شائس ( منعتَ وبعض المنع
حزمٌ وقوّة ... فلم يفتلتك المالَ إلاّ حقائقُه ) صوت ( فوانَدَمي على الشبابِ
ووانَدَمْ ... نَدِمتُ وبان اليومَ منِّي بغير ذَمّْ ) ( وإذ إخوتي حولي وإذ أنا شامخٌ ...
وإذ لا أجيب العاذلاتِ من الصَّمَمْ
) ( أرادتْ عِراراً بالهَوان ومن يُرِدْ ... عراراً
لعمري بالهوان فقد ظَلَم ) ( فإن كنتِ منِّي أو تريدين صُحْبتي ... فكوني له كالسَّمْنِ
رُبَّتْ له الأَدَمْ ) ( وإلاّ فبِينِي مثلَ ما بان راكبٌ ... تيمّممَ خِمْساً ليس في
وِرْده يَتَمْ ) ( فإنّ عِراراً إن يكن واشكيمه ... تَعَافِينها منه فما أمْلِكُ
الشِّيَمْ ) ( وإنّ عِراراً إن يكن غيرَ واضح ... فإنّي أحِبّ الجَوْنَ ذَا
المَنْكِبِ العَمَمْ ) ( وإني لأُعطي غَثّها وسمينها ... وأسِري إذا ما الليلُ ذو
الظُّلَم ادْلَهَمّ ) ( حِذاراً على ما كان قّدم والدي ... إذا روّحتهم حَرْجَفٌ تطرُد
الصِّرَم ) عروضه من الطويل الشعر لعمرو بن شأس الأسدي والغناء في الأول والثاني من
الأبيات لمعبد ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وذكر عمرو أن فيهما
لمالك خفيف رمل بالبنصر وفي الثامن والتاسع لابن جامع هزج بالوسطى عن الهشامي وعلي
بن يحيى وفيهما لإبراهيم ماخوري بالبنصر من نسخة عمرو الثانية ولابن سريج ثاني
ثقيل بالبنصر عن حبش وفيهما رمل مجهول وقيل إنه لسليم الشامخ الذي يشمخ بأنفه زهوا
وكبرا وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه والشيمة الطبيعة ربت له يعني للسمن فلا
تفسده والأدم جمع واحدها أديم وجمعها أدم كما يقال أفيق وأفق واليتم الغفلة
والضيعة واليتيم مأخوذ من هذا واليتيم من البهائم ما اختلج عن أمه والعرب تقول لا
تخلج الفصيل عن أمه فإن الذئب عالم بمكان الفصيل اليتيم ويقال فلان شديد الشكيمة
أي شديد اللسان كثير البيان ومنه شكيمة اللجام وجمعها شكائم قال عويف القوافي ( أقولُ لِفِتْيانٍ
كرامٍ تَرَوّحُوا ... على الجُرْدِ في أفواههن الشكائمُ ) والواضح الأبيض والجون الأسود والأبيض
أيضا وهو من الأضداد والعمم الطويل يقال رجل عمم وامرأة عمم ورجل عميم وامرأة
عميمة ونخل عميم ونبت عميم والسرى السير ليلا وادلهم اشتد سواده والحرجف الريح
الشديدة الباردة والصرم جمع صرمة وهي القطعة من الإبل يعني أن هذه الريح إذا هبت
طرد الرعاء الإبل الى مراحها وأعطانها فتسكن فيها نسب عمرو بن شأس وأخباره في هذا
الشعر وغيره هو عمرو بن شأس بن عبيد بن ثعلبة بن ذؤيبة بن مالك بن الحارث بن سعد
بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة وهذا الشعر يقوله في امرأته أم حسان وابنه عرار
بن عمرو وكانت تؤذيه وتعيره بسواده وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد
بن الحسن الأحول قال قال ابن الأعرابي كانت امرأة عمرو بن شأس من رهطه ويقال لها
أم حسان واسمها حية بنت الحارث بن سعد وكان له ابن يقال له عرار من أمة له سوداء
وكانت تعيره وتؤذي عرارا وتشتمه ويشتمها فلما أعيت عمرا قال فيها ( ديارَ ابنةِ
السَّعْدِيِّ هِيهِ تَكَلَّمي ... بدَافِقةِ الحَوْمانِ فالَّسفْح من رَمَمْ ) ( لَعَمْرُ
ابنةِ السَّعْدِيِّ إنِّي لأتَّقِي ... خلائقَ تُؤْبَى في الثَّرَاء وفي العَدَمْ ) ( وقفتُ بها ولم
أكن قبلُ أرتجي ... إذا الحَبْلُ من إحدى حَبَائبِيَ انصرم ) ( وإنِّي لمُزْرٍ بالمَطِيِّ تَنَقُّلي
... عليه وإيقاعِي المُهَنَّدَ بالعِصَمْ ) ( وإنِّي لأَعْطِي غَثَّها وسَمِينَها
... وأَسْري إذا ما الليلُ ذو الظُّلَمِ ادلهمّ ) ( إذا الثلجُ أضحَى في الديار كأنه
... مَنَاثرُ مِلْحٍ في السُّهول وفي الأَكَمْ ) ( حِذَاراً على ما كان قدّم والدي ...
إذا روّحتهم حَرْجَفٌ تطرُد الصِّرَمْ
) ( وأترك نَدْمِاني يَجُرّ ثيابَه ... وأوصالَه من غير
جُرْحٍ ولا سَقَمْ ) ( ولكنّها من رَيّةٍ بعد رَيّةٍ ... مُعَتّقةٍ صهباء راووقُها
رَذَمْ ) ( من العانيات من مُدَامٍ كأنها ... مَذَابحُ غِزْلانٍ يَطِيبُ بها الشَّمَمْ ) ( وإذ إخوتي
حولي وإذ أنا شامخٌ ... وإذ لا أجيب العاذلات من الصمم ) ( ألم يأتها أنِّي صَحَوْتُ وأنَّني
... تحالمتُ حتى ما أُعارِم من عَرَمْ
) ( وأطرقتُ إطراق الشُّجاعِ ولو يرى ... مَسَاغاً
لِنَابَيْهِ الشجاعُ لقد أزَمْ
) ( وقد علمتْ سعدٌ بأنِّي عميدُها ... قديماً وأنّي
لستُ أَهْضِمُ من هَضَمْ ) يقول لا أظلم أحدا من قومي وأتهضمه فيطلبني بمثل ذلك أي أرفع
نفسي عن هذا ( خُزَيْمةُ رَدّاني الفَعَالَ ومَعْشَرٌ ... قديماً بَنَوْا لي
سُورةَ المَجْدِ والكَرَمْ ) ( إذا ما وَرَدْنا الماءَ كانت حُمَاتَه ... بنو أَسَدٍ يوماً
على رَغْمِ من رَغَمْ ) ( أرادتْ عِراراً بالهوانِ ومن يُرِدْ ... عِرَاراً لَعَمْرِي
بالهوان فقد ظَلَمْ ) طلق زوجته بعد أن يئس من الصلح بينها وبين ابنه عرار وذكر باقي
الأبيات قال ابن الأعرابي وأبو بكر الشيباني فجهد عمرو بن شأس أن يصلح بين ابنه وامرأته
أم حسان فلم يمكنه ذلك وجعل الشر يزيد بينهما فلما رأى ذلك طلقها ثم ندم ولام نفسه
فقال في ذلك ( تَذَكَّر ذِكْرَى أُمِّ حَسّانَ فاقْشَعَرْ ... على دُبُرٍ
لَمّا تَبَيَّنَ ما ائتمر ) ( فكِدتُ أذوقُ الموتَ لو أنّ عاشقاً ... أمَرَّ بمُوساه
الشوارِبَ فانتحرْ ) ( تذكّرتُها وَهْناً وقد حال دونها ... رِعانٌ وقِيعانٌ بها
الزَّهْرُ والشجر ) ( فكنتُ كذاتِ البَوِّ لما تَذَكّرتْ ... لها رُبَعاً حَنَّتْ
لِمَعْهَدِه سَحَرْ ) ( حِفَاظاً ولم تَنْزِعْ هوايَ أَثِيمةٌ ... كذلك شأوُ المرء
يَخْلِجُه القَدَرْ ) قال ابن الأعرابي الأثيمة الفعيلة من الإثم وهي مرفوعة بفعلها
كأنه قال لم تنزع الأثيمة هواي تخلجه تصرفه شأوه همه ونيته قال وقال فيها أيضا ( ألم تَعْلَمِي يا
أمَّ حَسّانَ أنني ... إذا عَبْرةٌ نَهْنَهْتُهَا فَتَخلتِ ) ( رجعتُ الى صَدْرٍ كَجرَّة حَنْتَمٍ
... إذا قُرِعتْ صِفْراً من الماء صَلّتِ ) خبر ابنه عرار مع عبد الملك أخبرني
إسماعيل بن يونس قال حدثنا عمر بن شبة عن إسحاق بن محمد بن سلام وأخبرني إبراهيم
بن أيوب عن ابن قتيبة قال قال ابن سلام لما قتل الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن
الأشعث بعث برأسه مع عرار بن عمرو بن شأس الأسدي فلما ورد به وأوصل كتاب الحجاج
جعل عبد الملك يعجب من بيانه وفصاحته مع سواده فقال متمثلا ( وإنّ عِراراً إن يَكُن غيرَ واضح ...
فإنِّي أُحِبُّ الجَوْنَ ذا المَنْكِبِ العَمَمْ ) فضحك عرار من
قوله ضحكا غاظ عبد الملك فقال له مم ضحكت ويحك قال أتعرف عرارا يا أمير المؤمنين
الذي قيل فيه هذا الشعر قال لا قال أنا والله هو فضحك عبد الملك ثم قال حظ وافق
كلمة وأحسن جائزته وسرحه وقال الطوسي أغار ملك من ملوك غسان يقال له عدي وهو ابن
أخت الحارث بن أبي شمر الغساني على بني أسد فلقيته بنو سعد بن ثعلبة بن دودان
بالفرات ورئيسهم ربيعة بن حذار فاقتتلوا قتالا شديدا فقتلت بنو سعد عديا اشترك في
قتله عمرو وعمير ابنا حذار أخوا ربيعة وأمهما امرأة من كنانة يقال لها تماضر إحدى
بني فراس بن غنم وهي التي يقال لها مقيدة الحمار فقالت فاختة بنت عدي ( لَعَمْرُكَ ما
خَشِيتُ على عَدِيٍّ ... رِماحَ بني مُقَيِّدة الحمارِ ) ( ولكنِّي خشيتُ على عديٍّ ... رماحَ
الجِنِّ أو إيَّاكَ حار ) تعني الحارث بن أبي شمر خاله ( قَتِيلٌ مّا قتيلُ ابنَيْ حُذَارٍ ...
بعيدُ الهَمِّ طَلاَّعُ النّجارِ
) ويروى جواب الصحاري فقال عمرو بن شأس في ذلك صوت (
متَى تَعْرِفِ العينانِ أطلالَ دمْنةٍ ... لليلَى بأعلى ذي مَعَارِكَ تَدْمَعَا ) ( على النحر
والسِّرْبالِ حتى تَبُلَّهُ ... سَجُومٌ ولم تَجْزَعْ على الدار مَجْزَعَا ) ( خليليَّ
عُوجَا اليومَ نَقْضِ لُبَانةً ... وإلاّ تَعُوجَا اليومَ لا نَنْطَلِقْ مَعَا ) ( وإن تنظُراني
اليومَ أتْبَعْكما غداً ... قِيادَ الجَنيبِ أو أذلَّ وأطوعا ) وهي قصيدة غنى في هذه الأبيات إبراهيم
ثقيلا أول بالوسطى عن الهشامي والدمنة في هذا الموضع آثار الناس وما سودوا وهي في
غير هذا الموضع الحقد يقال في صدره علي إحنة وترة وضب وحسيكة ودمنة وعوجا احبسا
وتلبثا عاج يعوج عياجا وما أعيج بكلامك أي ما ألتفت إليه واللبانة الحاجة يقال لي
في كذا لبانة ولبونة ولماسة ووطر وحوجاء ممدودة وقوله لا ننطلق معا يقول إن لم
تقفا تأخرت عنكما فتفرقنا وتنظراني تنظراني يقال نظرته أنظره وأنظرته أنظره إنظارا
ونظرة أيضا إذا أخرته قال الله عز و جل ( فنظرة إلى ميسرة ) والجنيب المجنوب من فرس وغيره والجنيب
أيضا الذي يشتكي رئته من شدة العطش وقال الطوسي قال الأصمعي جاور رجل من بني عامر
بن صعصعة عمرو ابن شأس ومعه بنت له من أجمل الناس وأظرفهم فخطبها عمرو إلى أبيها فقال
أبوها أما ما دمت جارا لكم فلا لأني أكره أن يقول الناس غصبه أمره ولكن إذا أتيت
قومي فاخطبها إلي أزوجكها فوجد عمرو من ذلك في نفسه وأعتقد ألا يتزوجها أبدا إلا
أن يصيبها مسبية فلما ارتحل أبوها هم عمرو بغزو قومها فسار في أثر أبيها فلما وقعت
عينه عليه وظفر به استحيا من جواره وما كان بينهما من العهد والميثاق فنظر إلى
الجارية أمامهم وقد أخرجت رأسها من الهودج تنظر إليه فلما رآها رجع مستحييا متذمما
منها وكان عمرو مع شجاعته ونجدته من أهل الخير فقال في ذلك صوت ( إذا نحن
أدْلَجْنا وأنتِ أمامنا ... كَفَى لمطَايَانَا بوجهكِ هاديا ) ( أليس يزيدُ العِيسَ خِفَّةَ أذْرُعٍ
... وإن كُنَّ حَسْرَى أن تكوني أمَامِيا ) ( ولولا اتِّقاءُ اللهِ والعَهدُ قد
رأى ... مَنِيّتَه منِّي أبوك اللَّيالِيَا ) ( ونحن بنو خيرِ السِّباع أكِيلةً ...
وأحْرَبِه إذا تنفَّس عاديا ) (
بنو أَسَدٍ وَرْدٍ يَشُقّ بِنَابِه ... عظامَ الرجالِ لا
يُجِيب الرَّواقِيا ) ( متى تَدْعُ قيساً أدْعُ خِنْدِفَ إنّهم ... إذا ما دُعُوا
أسمعتَ ثَمَّ الدَّوَاعيا ) ( لنا حاضرٌ لم يَحْضُرِ الناسُ مثلَه ... وبادٍ إذا عدُّوا علينا
البَوَادِيا ) الغناء لإسحاق الموصلي ثاني ثقيل في الأول والثاني من الأبيات
وفيه لحن قديم أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا عبد الله بن
أبي سعد قال حدثنا الحزامي قال حدثنا معن بن عيسى عن رجل عن سويد بن أبي رهم قال قلت
لابن سيرين ما تقول في الشعر قال هو كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح قلت فما تقول في
النسيب قال لعلك تريد مثل قول الشاعر (
إذا نحن أدلجنا وأنتِ أمامنا ... كفى لمطايانا بوجهك
هاديا ) ( أليس يزيد العيسَ خِفّةَ أَذرُعٍ ... وإن كُنَّ حَسْرَى أن تكوني أماميا ) قال وأراد
بإنشاده إياهما أنك قد رأيتني أحفظ هذا الجنس وأرويه وأنشدتك إياه فلو كان به بأس
ما أنشدته صوت ( فإنْ تَكُنِ القَتْلَى بَوَاءً فإنّكم ... فتًى مّا قتلتم آلَ
عَوْفِ بن عامر ) ( فتًى كان أَحْيَا من فتاةٍ حَيِيّةٍ ... وأشْجَعَ من لَيْثٍ
بخَفَّانَ خادرِ ) عروضه من الطويل البواء بالباء التكافؤ يقال ما فلان لفلان
ببواء أي ما هو له بكفء أن يقتل به وما في قولها فتى ما قتلتم صلة وآل عوف نداء وخفان
موضع مشهور وخادر مقيم في مكمنه وغيله وهو مأخوذ من الخدر الشعر لليلى الأخيلية
ترثي توبة بن الحمير والغناء لإسحاق بن إبراهيم الموصلي رمل بإطلاق الوتر في مجرى
البنصر وفيه لإبراهيم خفيف ثقيل بالوسطى عن حبش وفي هذه القصيدة عدة أغان تذكر مع
سائر ما قاله توبة في ليلى وقالت فيه من الشعر عند أنقضاء الخبر في مقتله إن شاء
الله تعالى ذكر ليلى ونسبها وخبر توبة بن الحمير معها وخبر مقتله هي ليلى بنت عبد
الله بن الرحال وقيل ابن الرحالة بن شداد بن كعب بن معاوية وهو الأخيل وهو فارس الهرار
ابن عبادة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة وهي من النساء المتقدمات في
الشعر من شعراء الإسلام وكان توبة بن الحمير يهواها وهو توبة بن الحمير بن حزم بن
كعب بن خفاجة بن عمرو بن عقيل أخبرني ببعض أخبارهما أحمد بن عبد العزيز الجوهري
ومحمد بن حبيب ابن نصر المهلبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد الوراق قال حدثنا
محمد بن علي أبو المغيرة قال حدثنا أبي عن أبي عبيدة قال حدثني أنيس بن عمرو
العامري قال كان توبة بن الحمير أحد بني الأسدية وهي عامرة بنت والبة بن الحارث
وكان يتعشق ليلى بنت عبد الله بن الرحالة ويقول فيها الشعر فخطبها إلى أبيها فأبى
أن يزوجه إياها وزوجها في بني الأدلع فجاء يوما كما كان يجيء لزيارتها فإذا هي
سافرة ولم ير منها إليه بشاشة فعلم أن ذلك لأمر ما كان فرجع إلى راحلته فركبها
ومضى وبلغ بني الأدلع أنه أتاها فتبعوه ففاتهم فقال توبة في ذلك ( نَأتْكَ بليلَى
دارُها لا تزورُها ... وشَطَّتْ نَوَاها واسْتَمَرّ مَرِيرُها ) وهي طويلة يقول
فيها ( وكنتُ إذا ما جئتُ ليلَى تبرقعتْ ... فقد رَابَني منها الغَداةَ سُفُورَها ) كانت تخرج إلى
توبة بن الحمير في برقع أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال كان
توبة بن الحمير إذا أتى ليلى الأخيلية خرجت إليه في برقع فلما شهر أمره شكوه الى
السلطان فأباحهم دمه إن أتاهم فمكثوا له في الموضع الذي كان يلقاها فيه فلما علمت
به خرجت سافرة حتى جلست في طريقة فلما رآها سافرة فطن لما أرادت وعلم أنه قد رصد
وأنها سفرت لذلك تحذره فركض فرسه فنجا وذلك قوله ( وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تبرقعتْ ...
فقد رابني منها الغداةَ سفورُها
) قال أبو عبيدة وحدثني غير أنيس أنه كان يكثر زيارتها
فعاتبه أخوها وقومها فلم يعتب وشكوه الى قومه فلم يقلع فتظلموا منه إلى السلطان
فأهدر دمه إن أتاهم وعلمت ليلى بذلك وجاءها زوجها وكان غيورا فحلف لئن لم تعلمه
بمجيئه ليقتلنها ولئن أنذرته بذلك ليقتلنها قالت ليلى وكنت أعرف الوجه الذي يجيئني
منه فرصدوه بموضع ورصدته بآخر فلما اقبل لم أقدر على كلامه لليمين فسفرت وألقيت
البرقع عن رأسي فلما رأى ذلك أنكره فركب راحلته ومضى ففاتهم أخبرني الحسن بن علي
قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد ابن معاوية بن بكر قال حدثني أبو
زياد الكلابي قال خرج رجل من بني كلاب ثم من بني الصحمة يبتغي إبلا له حتى أوحش
وأرمل ثم أمسى بأرض فنظر إلى بيت بواد فأقبل حتى نزل حيث ينزل الضيف فأبصر امرأة وصبيانا
يدورون بالخباء فلم يكلمه أحد فلما كان بعد هدأة من الليل سمع جرجرة إبل رائحة وسمع
فيها صوت رجل حتى جاء بها فأناخها على البيت ثم تقدم فسمع الرجل يناجي المرأة
ويقول ما هذا السواد حذاءك قالت راكب أناخ بنا حين غابت الشمس ولم أكلمه فقال
لهاكذبت ما هو إلا بعض خلانك ونهض يضربها وهي تناشده قال الرجل فسمعته يقول والله
لا أترك ضربك حتى يأتي ضيفك هذا فيغيثك فلما عيل صبرها قالت يا صاحب البعير يا رجل
وأخذ الصحمي هراوته ثم أقبل يحضر حتى أتاها وهو يضربها فضربه ثلاث ضربات أو أربعا
ثم أدركته المرأة فقالت يا عبد الله مالك ولنا نح عنا نفسك فانصرف فجلس على راحلته
وأدلج ليلته كلها وقد ظن أنه قتل الرجل وهو لا يدري من الحي بعد حتى أصبح في أخبية
من الناس ورأى غنما فيها أمة مولدة فسألها عن أشياء حتى بلغ به الذكر فقال أخبريني
عن أناس وجدتهم بشعب كذا فضحكت وقالت إنك لتسألني عن شيء وأنت به عالم فقال وما
ذاك لله بلادك فوالله ما أنا به عالم قالت ذاك خباء ليلى الأخيلية وهي أحسن الناس
وجها وزوجها رجل غيور فهو يعزب بها عن الناس فلا يحل بها معهم والله ما يقربها أحد
ولا يضيفها فكيف نزلت أنت بها قال إنما مررت فنظرت إلى الخباء ولم أقربه وكتمها
الأمر وتحدث الناس عن رجل نزل بها فضربها زوجها فضربه الرجل ولم يدر من هو فلما
أخبر باسم المرأة وأقر على نفسه تغنى بشعر دل فيه على نفسه وقال ( أَلاَ يا ليلَ
أخْتَ بني عُقَيْلٍ ... أنا الصّحْمِيُّ إنْ لم تَعْرِفيني ) ( دعَتْني دعوةً فحجَزتُ عنها ...
بصَكَّاتٍ رفعتُ بها يميني ) ( فإنْ تَكُ غَيْرةٌ أُبْرِئكَ منها ... وإن تَكُ قد جُنِنْتَ فذا
جُنُوني ) جوابها للحجاج عندما ارتاب بأمرها مع توبة أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا رشد
بن حنتم الهلالي قال حدثني أيوب بن عمرو عن رجل يقال له ورقاء قال سمعت الحجاج
يقول لليلى الأخيلية إن شبابك قد ذهب واضمحل أمرك وأمر توبة فأقسم عليك إلا صدقتني
هل كانت بينكما ريبة قط أو خاطبك في ذلك قط فقال لا والله أيها الأمير إلا أنه قال
لي ليلة وقد خلونا كلمة ظننت أنه قد خضع فيها لبعض الأمر فقلت له ( وذي حاجةٍ قلنا
له لا تَبُحْ بها ... فليس إليها ما حَيِيتَ سبيلُ ) ( لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونَه ...
وأنت لأخْرَى فارغٌ وحَلِيلٌ ) فلا والله ما سمعت منه ريبة بعدها حتى فرق بيننا الموت قال لها
الحجاج فما كان منه بعد ذلك قالت وجه صاحبا له إلى حاضرنا فقال إذا أتيت الحاضر من
بني عبادة بن عقيل فاعل شرفا ثم أهتف بهذا البيت ( عفا الله عنها هل أبِيتَّن ليلةً ...
من الدهرِ لا يَسْرِي إليّ خيَالُها )
فلما فعل الرجل ذلك عرفت المعنى فقلت له ( وعنه عفا ربِّي
وأحسَنَ حالَهُ ... عزيزٌ علينا حاجةٌ لا ينالُها ) نسبة ما في هذا الخبر من الغناء وهو
أجمع في قصيدة توبة ( نأتك بليلى دارها لا تزورها ... ) صوت ( حمامةَ بطن الوادِيَيْن تَرَنَّمي ...
سقاكِ من الغُرِّ الغَوادِي مَطِيرَها
) ( أبِيني لنا لا زالَ رِيشُك ناعماً ... ولا زلتِ في
خَضْراءَ دانٍ بَرِيرُها ) ( وأُشْرِفُ بالقَوْزِ اليَفَاعِ لعلّني ... أرى نارَ ليلى أو
يراني بصيرُها ) ( وكنتُ إذا ما جئتُ ليلى تبرقعتْ ... فقد رابني منها الغداةَ
سُفورُها ) ( عليّ دِماءُ البُدْنِ إن كان بَعْلُها ... يرى ليَ ذنباً غيرَ أنِّي أزورُها ) ( وأنِّي إذا ما
زرتُها قلتُ يا اسْلَمِي ... وما كان في قولي اسْلَمِي ما يَضِيرُها ) ( وغيَّرني إن
كنتِ لَمّا تَغَيَّري ... هَوَاجِرُ تَكْتَنِّينَها وأسيرُها ) ( وأدماءَ من
سِرِّ المَهَارى كأنّها ... مَهاةُ صُوَارٍ غيرَ ما مَسَّ كُورُها ) ( قطعتُ بها
أجوازَ كلِّ تَنُوفةٍ ... مَخٌوفِ رَدَاهَا كلّما استَنَّ مُورُها ) ( ترى ضُعَفَاء
القومِ فيها كأنّهم ... دَعَامِيصُ ماءٍ نَشَّ عنها غديرُها ) غنى في الأربعة الأبيات الأول فليح بن
أبي العوراء ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو وغنى في الثالث والرابع ابن سريج رملا
بالوسطى عن الهشامي وعلي بن يحيى المنجم وذكر غيرهما أنه لمحمد بن إسحاق بن عمرو
بن بزيع وغنى فيها الهذلي ثقيلا أول بالبنصر عن حبش وغنى ابن محرز في علي دماء
البدن والذي بعده خفيف رمل بالبنصر عن عمرو وعن ابن مسجح في ( وغيّرني إن كنتِ لَمّا تَغَيّرِي ... ) وما بعده
لحن ذكر أن عبد الله بن جعفر رواه الأبيات وأمره أن يغني بها أخبرني بذلك إسماعيل
بن يونس الشيعي عن عمر بن شبة عن إسحاق الموصلي عن ابن الكلبي في خبر قد ذكرته في
أخبار ابن مسجح وذكر الهشامي أن اللحن ثقيل أول بالوسطى حدثنا أحمد بن عبيد الله
بن عمار قال حدثني محمد بن يعقوب بالأنبار قال حدثني من أنشد الأصمعي ( عليّ دماءُ
البُدْنِ إن كان زوجُها ... يرى ليَ ذنباً غيرَ أنِّي أزورُها ) ( وأنِّي إذا ما
زرتُها قلت يَا اسْلَمِي ... فهل كان في قولي اسْلَمي ما يَضِيرُها ) فقال الأصمعي
شكوى مظلوم وفعل ظالم سبب وكيفية مقتل توبة بن الحمير أخبرني بالسبب في مقتل توبة
محمد بن الحسن بن دريد إجازة عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عبيدة والحسن بن علي
الخفاف قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن علي بن المغيرة عن أبيه عن
أبي عبيدة وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال أخبرنا أبو سعيد السكري عن محمد بن
حبيب عن ابن الأعرابي ورواية أبي عبيدة أتم واللفظ له قال أبو عبيدة كان الذي هاج
مقتل توبة بن الحمير بن حزم بن كعب بن خفاجة بن عمرو ابن عقيل بن كعب بن ربيعة بن
عامر بن صعصعة أنه كان بينه وبين بني عامر بن عوف بن عقيل لحاء ثم إن توبة شهد بني
خفاجة وبني عوف وهم يختصمون عند همام بن مطرف العقيلي في بعض أمورهم قال وكان
مروان بن الحكم يومئذ أميرا على المدينة في خلافة معاوية بن أبي سفيان فاستعمله
على صدقات بني عامر قال فوثب ثور بن أبي سمعان بن كعب بن عامر بن عوف بن عقيل على
توبة بن الحمير فضربه بجرز وعلى توبة الدرع والبيضة فجرح أنف البيضة وجه توبة فأمر
همام بثور بن أبي سمعان فأقعد بين يدي توبة فقال خذ بحقك يا توبة فقال له توبة ما
كان هذا إلا عن أمرك وما كان ليجترىء علي عند غيرك وأم همام صوبانة بنت جون بن
عامر بن عوف بن عقيل فاتهمه توبة لذلك فانصرف ولم يقتص منه فمكثوا غير كثير وإن
توبة بلغه أن ثور بن أبي سمعان خرج في نفر من رهطه إلى ماء من مياه قومه يقال له
قوباء يريدون مالهم بموضع يقال له جرير بتثليث قال وبينهما فلاة فاتبعه توبة في
ناس من أصحابه فسأل عنه وبحث حتى ذكر له أنه عند رجل من بني عامر بن عقيل يقال له
سارية بن عمير بن أبي عدي وكان صديقا لتوبة فقال توبة والله لا نطرقهم عند سارية
الليلة حتى يخرجوا عنه فأرادوا أن يخرجوا حين يصبحون فقال لهم سارية ادرعوا الليل
فإني لا آمن توبة عليكم الليلة فإنه لا ينام عن طلبكم قال فلما تعشوا ادرعوا الليل
في الفلاة وأقعد له توبة رجلين فغفل صاحبا توبة فلما ذهب الليل فزع توبة وقال لقد
اغتررت الى رجلين ما صنعا شيئا وإني لأعلم أنهم لم يصبحوا بهذه البلاد فاقتص
آثارهم فإذا هو بأثر القوم قد خرجوا فبعث الى صاحبيه فأتياه فقال دونكما هذا الجمل
فأوقراه من الماء في مزادتيه ثم اتبعا أثري فإن خفي عليكم أن تدركاني فإني سأنور
لكما إن أمسيتما دوني وخرج توبة في أثر القوم مسرعا حتى إذا انتصف النهار جاوز
علما يقال له أفيح في الغائط فقال لأصحابه هل ترون سمرات إلى جنب قرون بقر وقرون بقر
مكان هنالك فإن ذلك مقيل القوم لم يتجاوزوه فليس وراءه ظل فنظروا فقال قائل أرى
رجلا يقود بعيرا كأنه يقوده لصيد قال توبة ذلك ابن الحبترية وذلك من أرمى من رمى فمن
له يختلجه دون القوم فلا ينذرون بنا قال فقال عبد الله أخو توبة أنا له قال فاحذر
لا يضربنك وإن استطعت أن تحول بينه وبين أصحابه فافعل فخلى طريق فرسه في غمض من
الأرض ثم دنا منه فحمل عليه فرماه ابن الحبترية قال وبنو الحبتر ناس من مذحج في
بني عقيل فعقر فرس عبد الله أخي توبة واختل السهم ساق عبد الله فانحاز الرجل حتى
أتى أصحابه فانذرهم فجمعوا ركابهم وكانت متفرقة قال وغشيهم توبة ومن معه فلما رأوا
ذلك صفوا رحالهم وجعلوا السمرات في نحو وأخذوا سلاحهم ودرقهم وزحف إليهم توبة
فارتمى القوم لا يغني أحد منهم شيئا في أحد ثم إن توبة وكان يترس له أخوه عبد الله
قال يا أخي لا تترس لي فإني رأيت ثورا كثيرا ما يرفع الترس عسى أن أوافق منه عند
رفعه مرمى فأرميه قال ففعل فرماه توبة على حلمة ثديه فصرعه وجال القوم فغشيهم توبة
وأصحابه فوضعوا فيهم السلاح حتى تركوهم صرعى وهم سبعة نفر ثم إن ثورا قال انتزعوا
هذا السهم عني قال توبة ما وضعناه لننتزعه فقال أصحاب توبة أنج بنا نأخذ آثارنا
ونلحق راويتنا فقد أخذنا ثأرنا من هؤلاء وقد متنا عطشا قال توبة كيف بهؤلاء القوم
الذين لا يمنعون ولا يمتنعون فقالوا ابعدهم الله توبة ما أنا بفاعل وما هم إلا
عشيرتكم ولكن تجيء الراوية فأضع لهم ماء وأغسل عنهم دماءهم وأخيل عليهم من السباع
والطير لا تأكلهم حتى أوذن قومهم بهم بعمق فأقام توبة حتى أتته الراوية قبل الليل
فسقاهم من الماء وغسل عنهم الدماء وجعل في أساقيهم ماء ثم خيل لهم بالثياب على
الشجر ثم مضى حتى طرق من الليل سارية بن عويمر بن أبي عدي العقيلي فقال إنا قد
تركنا رهطا من قومكم بسمرات من قرون بقر فأدركوهم فمن كان حيا فداووه ومن كان ميتا
فادفنوه ثم انصرف فلحق بقومه وصبح سارية القوم فاحتملهم وقد مات ثور بن أبي سمعان
ولم يمت غيره فلم يزل توبة خائفا وكان السليل بن ثور المقتول راميا كثير البغي
والشر فأخبر بغرة من توبة وهو بقنة من قنان الشرف يقال لها قنة بني الحمير فركب في
نحو ثلاثين فارسا حتى طرقه فترقى توبة ورجل من إخوته في الجبل فأحاطوا بالبيوت
فناداهم وهو في الجبل هأنذا من تبغون فاجتنبوا البيوت فقالوا إنكم لن تستطيعوه وهو
في الجبل ولكن خذوا ما استدف لكم من ماله فأخذوا أفراسا له ولإخوته وانصرفوا ثم إن
توبة غزاهم فمر على أفلت بن حزن بن معاوية بن خفاجة ببطن بيشة فقال يا توبة أين
تريد قال أريد الصبيان من بني عوف بن عقيل قال لا تفعل فإن القوم قاتلوك فمهلا قال
لا أقلع عنهم ما عشت ثم ضرب بطن فرسه فاستمر به يحضر وهو يرتجز ويقول ( تنجُو إذا قِيل
لها يعَاطِ ... تنجو بهم من خَلَل الأمشاطِ ) حتى انتهى الى مكان يقال له حجر
الراشدة ظليل أسفله كالعمود وأعلاه منتشر فاستظل فيه هو وأصحابه حتى إذا كان
بالهاجرة مرت عليه إبل هبيرة بن السمين أخي بني عوف بن عقيل واردة ماء لهم يقال له
طلوب فأخذها وخلى طريق راعيها وقال له إذا أتيت صدغ البقرة مولاك فأخبره أن توبة
أخذ الإبل ثم انصرف توبة يطرد الإبل قال فلما ورد العبد على مولاه فأخبره نادى في
بني عوف وقال حتام هذا فتعاقدوا بينهم نحوا من ثلاثين فارسا ثم اتبعوه ونهضت امرأة
من بني خثعم من بني الهرة كانت في بني عوف وكانت تؤخذ لهم فقالت أروني أثره فخرجوا
فأروها أثره فأخذت من ترابه فسافته فقالت اطلبوه فإنه سيحبس عليكم فطلبوه فسبقهم
فتلاوموا بينهم وقالوا ما نرى له أثرا وما نراه إلا وقد سبقكم قال وخرج توبة حتى
إذا كان بالمضجع من أرض بني كلاب جعل نذارته وحبس أصحابه حتى إذا كان بشعب من هضبة
يقال لها هند من كبد المضجع جعل ابن عم له يقال له قابض بن عبد الله ربيئة له على
رأس الهضبة فقال انظر فإن شخص لك شيء فأعلمنا فقال عبد الله بن الحمير يا توبة إنك
حائن أذكرك الله فوالله ما رأيت يوما أشبه بسمرات بني عوف يوم أدركناهم في ساعتهم
التي أتيناهم فيها منه فانج إن كان بك نجاة قال دعني فقد جعلت ربيئة ينظر لنا قال
يرجع بنو عوف بن عقيل حين لم يجدوا أثر توبة فيلقون رجلا من غني فقالوا له هل
أحسست في مجيئك أثر خيل أو أثر إبل قال لا والله قالوا كذبت وضربوه فقال يا قوم لا
تضربوني فإني لم أجد أثرا ولقد رأيت زهاء كذا وكذا إبلا شخوصا في هاتيك الهضبة وما
أدري ما هو فبعثوا رجلا منهم يقال له يزيد بن رويبة لينظر ما في الهضبة فأشرف على
القوم فلما رآهم ألوى بثوبه لأصحابه حتى جاؤوا فحمل أولهم على القوم حتى غشي توبة
وفزع توبة وأخوه الى خيلهما فقام توبة إلى فرسه فغلبته لا يقدر على أن يلجمها ولا
وقفت له فخلى طريقها وغشيه الرجل فاعتنقه فصرعه توبة وهو مدهوش وقد لبس الدرع على
السيف فانتزعه ثم أهوى به ليزيد بن رويبة فاتقاه بيده فقطع منها وجعل يزيد يناشده
رحم صفية وصفية أم له من بني خفاجة وغشي القوم توبة من ورائه فضربوه فقتلوه وعلقهم
عبد الله بن الحمير يطعنهم بالرمح حتى انكسر قال فلما فرغوا من توبة لووا على عبد
الله بن الحمير فضربوا رجله فقطعوها فلما وقع بالأرض أشرع سيفه وحده ثم جثا على
ركبتيه وجعل يقول هلموا ولم يشعر القوم بما أصابه وانصرف بنو عوف بن عقيل وولى
قابض منهزما حتى لحق بعبد العزيز بن زرارة الكلابي فأخبره الخبر قال فركب عبد
العزيز حتى أتى توبة فدفنه وضم أخاه ثم ترافع القوم إلى مروان بن الحكم فكافأ بين
الدمين وحملت الجراحات ونزل بنو عوف بن عقيل البادية ولحقوا بالجزيرة والشام ابو
عبيدة يروي مقتل توبة وسببه قال أبو عبيدة وقد كان توبة أيضا يغير زمن معاوية بن
أبي سفيان على قضاعة وخثعم ومهرة وبني الحارث بن كعب وكانت بينهم وبين بني عقيل
مغاورات فكان توبة إذا أراد الغارة عليهم حمل الماء معه في الروايا ثم دفنه في بعض
المفازة على مسيرة يوم منها فيصيب ما قدر عليه من إبلهم فيدخلها المفازة فيطلبه
القوم فإذا دخل المفازة أعجزهم فلم يقدروا عليه فانصرفوا عنه قال فمكث كذلك حينا ثم
إنه أغار في المرة الأولى التي قتل فيها هو وأخوه عبد الله بن الحمير ورجل يقال له
قابض بن أبي عقيل فوجد القوم قد حذروا فانصرف توبة مخفقا لم يصب شيئا فمر برجل من
بني عوف بن عامر بن عقيل متنحيا عن قومه فقتله توبة وقتل رجلا كان معه من رهطه
واطرد إبلهما ثم خرج عامدا يريد عبد العزيز بن زرارة بن جزء بن سفيان بن عوف بن
كلاب وخرج ابن عم لثور بن أبي سمعان المقتول فقال له خزيمة صر إلى بني عوف بن عامر
بن عقيل فأخبرهم الخبر فركبوا في طلب توبة فأدركوه في أرض بني خفاجة وقد أمن في
نفسه فنزل وقد كان أسرى يومه وليلته فاستظل ببرديه وألقى عنه درعه وخلى عن فرسه
الخوصاء تتردد قريبا منه وجعل قابضا ربيئة له ونام فأقبلت بنو عوف بن عامر
متقاطرين لئلا يفطن لهم أحد فنظر قابض فأبصر رجلا منهم فأقبل الى توبة فأنبهه فقال
توبة ما رأيت قال رأيت شخص رجل واحد فنام ولم يكترث له وعاد قابض الى مكانه فغلبته
عيناه فنام قال فأقبل القوم على تلك الحال فلم يشعر بهم قابض حتى غشوه فلما رآهم
طار على فرس وأقبل القوم إلى توبة وكان أول من تقدم غلام أمرد على فرسه عري يقال
له يزيد بن رويبة بن سالم بن كعب بن عوف بن عامر بن عقيل ثم تلاه ابن عمه عبد الله
بن سالم ثم تتابعوا فلما سمع توبة وقع الخيل نهض وهو وسنان فلبس درعه على سيفه ثم
صوت بفرسه الخوصاء فأتته فلما أراد أن يركبها أهوت ترمحه ثلاث مرات فلما رأى ذلك
لطم وجهها فأدبرت وحال القوم بينه وبينها فأخذ رمحه وشد على يزيد بن رويبة فطعنه
فأنفذ فخذيه جميعا وشد على توبة ابن عم الغلام عبد الله بن سالم فطعنه فقتله
وقطعوا رجل عبد الله فلما رجع عبد الله بعد ذلك الى قومه لاموه وقالوا له فررت عن
أخيك فقال عبد الله بن الحمير في ذلك قال أبو عبيدة وحدثني أيضا مزرع بن عبد الله
بن همام بن مطرف بن الأعلم قال كان أهل دار من بني جشم بن بكر بن هوازن يقال لهم
بنو الشريد حلفاء لبني عداد بن خفاجة في الإسلام فكان بينهم وبين خميس بن ربيعة
رهط قومه قتال على ماءة تدعى الحليفة وعامتها لجد بن همام قال وشهد عبد الله بن
الحمير ذلك وهو أعرج عرج يوم قتل توبة فلم يغن كثير غناء فقالت بنو عقيل لو توبة
تلقاهم لبلوا منه بغير أفوق ناصل فقال عبد الله بن الحمير يعتذر إليهم شعر عبد
الله اخي توبة في اعتذاره لقومه ( تَأَوّبَني بعارمةَ الهمومُ ... كما يعتادُ
ذَا الدَّيْنِ الغريمُ ) ( كأنّ الهَمّ ليس يُريدُ غيري ... ولو أمسَى له نَبَطٌ ورُوم ) ( عَلاَمَ تقومُ
عاذلتي تلومُ ... تُؤرّقني وما انجاب الصَّرِيمُ ) ( فقلتُ لها رُوَيْداً كي تَجَلَّى
... غَوَاشِي النَّوْمِ والليلُ البهيمُ ) ( ألَمّا تَعْلَمِي أنِّي قديماً ...
إذا ما شِئتُ أَعصِي مَنْ يلومُ
) ( وأنّ المرءَ لا يَدْرِي إذا ما ... يَهُمُّ عَلاَمَ
تحمِله الهُمومُ ) ( وقد تُعْدِي على الحاجات حَرْفٌ ... كُركِن الرَّعْن
ذِعْلِبَةٌ عقيمُ ) ( مُدَاخَلةُ الفَقارِ وذاتُ لَوْثٍ ... على الِحُزَّانِ
مُقْحَمةٌ غَشُومُ ) ( كأنّ الرَّحْلَ منها فوق جَأْبٍ ... بذاتِ الحاذِ مَعْقِلُه
الصّرِيمُ ) ( طَبَاه بِرِجْلَةِ البَقّارِ برقٌ ... فبات الليلَ مُنْتَصِباً
يَشيم ) ( فبينَا ذاك إذ هَبَطتْ عليه ... دَلُوحُ المُزْنِ واهيةٌ هَزِيمُ ) ( تَهُبُّ لها
الشَّمالُ فتمتريها ... ويَعْقُبُها بنافحةٍ نسيمُ ) ( يُكِبُّ إذا الرَّذَاذُ جرى عليه
... كما يُصْغِي الى الآسي الأَمِيم
) ( إذا ما قال أقْشَعَ جانباهُ ... نَشَتْ من كلّ
ناحيةٍ غيوم ) ( فأشْعِرَ ليله أرَقاً وقُرًّا ... يُسَهّره كما أرِقَ السليم ) ( ألاَ مَنْ
يشتري رِجلاً بِرِجْلٍ ... تَخَوَّنَهَا السِّلاحُ فما تَسُوم ) ( تَلومُكَ في
القتال بنو عُقَيْلٍ ... وكيف قِتالُ أعرَجَ لا يقوم ) ( ولو كنتُ القتيلَ وكان حيًّا ...
لَقَاتلَ لا ألَفُّ ولا سؤوم )
( ولا جَثَّامةٌ وَرَعٌ هَيوبٌ ... ولا ضَرَِعٌ إذا
يُمْسِي جَثُومُ ) قال ثم إن خفاجة رهط توبة جمعوا لبني عوف بن عامر بن عقيل
الذين قتلوا توبة فلما بلغهم الخبر لحقوا ببني الحارث بن كعب ثم افترقت بنو خفاجة فلما
بلغ ذلك بني عوف رجعوا فجمعت لهم بنو خفاجة أيضا قبائل عقيل فلما رأت ذلك بنو عوف
بن عامر بن عقيل لحقوا بالجزيرة فنزلوها وهم رهط إسحاق بن مسافر بن ربيعة بن عاصم
بن عمرو بن عامر بن عقيل ثم إن بني عامر بن صعصعة صاروا في أمرهم إلى مروان بن
الحكم وهو والي المدينة لمعاوية بن أبي سفيان فقالوا ننشدك الله أن تفرق جماعتنا
فعقل توبة وعقل الآخرين معاقل العرب مائة من الإبل فأدتها بنوعامر قال فخرجت بنو
عوف بن عامر قتلة توبة فلحقوا بالجزيرة فلم يبق بالعالية منهم أحد وأقامت بنو
ربيعة بن عقيل وعروة بن عقيل وعبادة بن عقيل بمكانهم بالبادية رواية اخرى لأبي
عبيدة عن مقتل توبة قال أبو عبيدة وحدثنا مزرع بن عمرو بن همام قال أبو عبيدة وكان
معي أبو الخطاب وغيره قال توبة بن حمير بن ربيعة بن كعب بن خفاجة بن عمرو بن عقيل
وأمه زبيدة فهاج بينه وبين السليل بن ثور بن أبي سمعان بن عامر بن عوف بن عقيل
كلام وكان شريرا ونظير توبة في القوة والبأس فبلغ الحور وهو الكلام إلى أن أوعد كل
واحد منهما صاحبه فالتقى بعد ذلك توبة والسليل على غدير من ماء السماء فرمى توبة
السليل فقتله ثم إن توبة أغار ثانية على إبل بني السمين بن كعب بن عوف بن عقيل
واردة ماءهم فاطردها واتبعوه وهم سبعة نفر يزيد بن رويبة وعبد الله بن سالم
ومعاوية بن عبد الله قال أبو عبيدة ولم يذكر غير هؤلاء فانصرفوا يجنبون الخيل
يحملون المزاد فقصوا أثر توبة وأصحابه فوجدوهم وقد أخذوا في المضجع من أرض بني
كلاب في أرض دمثة تربة فضلت فرس توبة الخوصاء من الليل فأقام واضطجع حتى أصبح وساق
أصحابه الإبل وهم ثلاثة نفر سوى توبة المحرز أحد بني عمرو بن كلاب وقابض بن أبي
عقيل أحد بني خفاجة وعبد الله بن حمير أخو توبة لأمه وأبيه فلما أصبح توبة إذا
فرسه الخوصاء راتعة أدنى ظلم قريبة منه ليس دونها وجاح فأشلاها حتى أتته ثم خرج
يعدو حتى لحق بأصحابه فانتهوا الى هضبة بكبد المضجع فارتقى توبة فوقها ينظر الطلب
فرآه القوم ولم يرهم عند طلوع الشمس وبالت الخوصاء حين انتهت الى الهضبة فقال
القوم إنه لطائر أو إنسان فركب يزيد بن رويبة وكان أحدث القوم سنا وأمه بنت عم
توبة فأغار ركضا حتى انتهى الى الهضبة فإذا بول الفرس وعليه بقية من رغوته وإذا
أثر توبة يعرفونه فرجع فخبر أصحابه واندفع توبة وأصحابه حتى نزلوا إلى طرف هضبة
يقال لها الشجرة من أرض بني كلاب فقالوا بالظهيرة فلم يشعر شعر إلا والإبل قد نفرت
وكانت بركا بالهاجرة من وئيد الخيل فوثب توبة وكان لا يضع السيف فصب الدرع على
السيف متقلده وهلا وداجت القوم فطلب قائم السيف فلم يقدر عليه تحت الدرع فلم يستطع
سله فطار إلى الرمح فأخذه فأهوى به طعنا الى يزيد بن رويبة وقد كان يزيد عاهد الله
ليقتلنه أو ليأخذنه فأنفذ فخذ يزيد واعتنقه يزيد فعض بوجنتيه واستدبره عبد الله
بالسيف ففلق رأس توبة وهيت توبة حين اعتوره الرجلان بقابض يا قابض فلم يلو عليه
وفر قابض والكلابي وذب عبد الله بن حمير عن أخيه فأهوى له معاوية بن عبد الله
بالسيف فأصاب ركبته فاختلعت أي سقطت فأتى قابض من فوره ذلك عبد العزيز بن زرارة
أحد بني أبي بكر بن كلاب فقال قتل توبة فنادى في قومه فجاءه أبوه زرارة فقال أين
تريد فقال قتل توبة فقال أبوه طوط سحقا لك أتطلب بدم توبة أن قتلته بنو عقيل ظالما
لها باغيا عاديا عليها قال لكني أجنه إذا قال أبوه أما هذه فنعم فألقى السلاح
وانطلق حتى أجنه وحمل أخاه عبد الله بن حمير قال فأهل البادية يزعمون أن محرزا سحر
فأخذ عن سيفه شعر ليلى في رثاء توبة فقالت ليلى الأخيلية بنت عبد الله بن الرحالة
بن شداد بن كعب بن معاوية فارس الهرار ابن عبادة بن عقيل ( نظرتُ ورُكْنٌ من ذِقَانَيْنِ دونَه
... مَفَارِزُ حَوْضَى أيّ نَظْرةِ ناظرِ ) ( لأونسَ إنْ لم يَقْصُرِ الطَّرْفُ
عنهُم ... فلم تُقْصُرِ الأخبارُ والطَّرْفُ قاصري ) ( فوارسَ أجلى شأوُها عن عَقِيرةٍ ...
لِعَاقِرِها فيها عَقِيرةُ عاقر
) شأوها سرعتها وهو الطلق وجريها وقال غيره غايتها عقيرة
تعني توبة لعاقرها تعني لعاقر توبة تريد يزيد بن رويبة ووجه آخر في عقيرة عاقر
معنى مدح أي عقيرة كريمة لعاقرها ووجه آخر عقيرة لعاقرها فيها الهلاك بعقرها ( فآنستُ خيلاً
بالرُّقَيِّ مُغيرةً ... سَوَابِقُها مثلُ القَطَا المُتَواتِرِ ) ( قَتِيلُ بني
عَوْفٍ وأَيصُرُ دونَه ... قتيلُ بني عَوْفٍ قتيلُ يُحَابِرِ ) ( تَوَاردَه
أسيافُهم فكأنّما ... تَصَادَرْنَ عن أَقطاع أبيضَ باتر ) ( من الهِندُوانِيات في كلِّ قِطْعةٍ
... دَمٌ زلّ عن أَثْرٍ من السَّيف ظاهر ) ( أتْته المنايَا دون زَغْفٍ حصينةٍ ...
وأسمر خَطِّيٍّ وخَوْصاءَ ضامر
) ( على كلّ جَرْداء السَّراة وسابحٍ ... دَرَأْنَ
بشُبَّاكِ الحديدِ زوافر ) ( عَوَابسَ تعدُو الثَّعْلبيّةَ ضُمَّراً ... وهُنّ شَوَاحٍ
بالشَّكيم الشواجر ) ( فلا يُبْعِدَنْكَ اللهُ يا تَوْبُ إنّما ... لِقاء المنايا
دارعاً مثلُ حاسِر ) ( فإلاّ تَكُ القَتْلَى بَوَاءً فإنّكم ... ستَلْقَوْن يوماً
وِرْدُه غيرُ صادر ) ( وإنّ السليلَ إذ يباوِي قَتِيلَكم ... كمرحومةٍ من عَرْكِها
غيرِ طاهر ) ( فإن تَكُنِ القَتْلَى بَواءً فإنكم ... فَتًى ما قتلتم آلَ
عَوْفِ بن عامر ) ( فَتًى لا تَخَطَّاه الرِّفَاقُ ولا يرى ... لِقَدْرٍ عِيالاً
دون جارٍ مُجَاوِرِ ) ( ولا تأخذُ الكُومُ الجِلادُ رِماحَها ... لتوبةَ في نَحْسِ
الشِّتاء الصَّنَابِرِ ) ( إذا ما رأتْه قائماً بسلاحه ... تَقَتْه الخِفَافُ بالثِّقال
البَهَازِرِ ) ( إذا لم يَجُدْ منها بِرْسلٍ فقَصْرُه ... ذُرَى المُرْهَفاتِ
والقِلاَصِ التَّواجِرِ ) ( قَرَى سيفَه منها مُشَاشاً وضَيْفَه ... سَنَامَ المَهَارِيسِ
السِّباطِ المَشَافِرِ ) ( وتَوْبةُ أحْيَا من فتاةٍ حيِيَّةٍ ... وأجرأُ من لَيْثٍ
بخَفّانَ خادرِ ) ( ونِعْمَ الفتى إنْ كان توبةُ فاجراً ... وفوق الفتى إنْ كان
ليس بفاجر ) ( فتى يُنْهِلُ الحاجاتِ ثم يَعُلُّها ... فيُطلِعُها عنه
ثَنَايا المَصَادِرِ ) صوت ( كأنّ فتى الفِتْيان تَوْبةَ لم يُنِخْ ... قَلائصَ
يَفْحَصْنَ الحَصَا بالكَرَاكرِ
) ( ولم يَبْنِ أبراداً عِتاقاً لِفْتيةٍ ... كِرَامٍ
ويَرْحَلْ قبل فَيْء الهواجر ) في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول لمحمد بن إبراهيم قريض
وهو من خاص صنعته وغنائه ( ولم يَتَجَلَّ الصُّبْحُ عنه وبَطْنُه ... لَطِيف كطَيِّ
السِّبِّ ليس بحادرِ ) ( فتًى كان للمولَى سناءً ورفعة ... وللطارق السارِي قِرًى غيرَ
باسر ) ( ولم يُدْعَ يوماً للحِفَاظِ وللنَّدَا ... وللحَرْبِ يرمى نارَها بالشرائر ) ( وللبازلِ
الكَوْماءِ يرغو حُوَارُها ... وللخيلِ تعدو بالكُمَاةِ المَسَاعر ) ( كأنّكَ لم
تَقْطَعْ فلاةً ولم تُنِخْ ... قِلاصاً لدى فأْوٍ من الأرض غائر ) ( وتُصْبِحْ
بمَوْماةٍ كأنّ صَرِيفَها ... صَريفُ خَطَاطِيفِ الصَّرَى في المَحَاوِرِ ) ( طوتْ نَفْعَها
عنّا كِلاَبٌ وآسَدتْ ... بنَا أجْهَلِيها بين غاوٍ وشاعرِ ) ( وقد كان حقًّا أن تقولَ سَرَاتُهم
... لَعًا لأخينا عالياً غيرَ عاثر
) ( ودَوِّيّةٍ قَفْرٍ يحارُ بها القَطَا ...
تَخَطَّيْتَها بالنّاعجات الضّوامر
) ( فتَاللهِ تَبْنِي بيتَها أُمُّ عاصمٍ ... على مثله
أُخْرَى الليالي الغوابر ) ( فليس شِهَابُ الحربِ تَوْبةُ بعدَها ... بغازٍ ولا غادٍ
برَكْبٍ مُسَافر ) ( وقد كان طَلاّعَ النّجادِ وبَيِّن الل ... سان ومِدْلاجَ
السُّرَى غيرَ فاتِر ) ( وقد كان قبل الحادثاتِ إذا انتحَى ... وسائق أو معبوطةً لم
يُغَادرِ ) ( وكنتَ إذا مولاك خاف ظُلاَمةً ... دعاك ولم يهْتِفْ سواك بناصر ) ( فإنْ يَكُ
عبدُ الله آسَى أبنَ أُمِّه ... وآبَ بأسلاب الكَمِيِّ المُغَاوِرِ ) ( وكان كذات
البَوِّ تَضْرِب عنده ... سِباعاً وقد ألقَيْنَه في الجَرَاجِرِ ) ( فإنك قد
فارقتَه لك عاذراً ... وأَنَّى لِحَيٍّ عُذْرُ مَنْ في المَقَابِرِ ) ( فأقسمتُ أبكي
بعد تَوْبةَ هالكاً ... وأحفِلُ مَنْ نالتْ صروفُ المَقَادرِ ) ( على مثلِ هَمَّامٍ ولابنِ مُطَرِّفٍ
... لِتَبْكِ البَوَاكِي أو لبِشْرِ بن عامر ) ( غُلاَمان كانا استَوْرَدَا كلَّ
سَوْرةٍ ... من المَجْدِ ثم أستوثقا في المَصَادرِ ) ( رَبِيعَيْ حَياً كانَا يَفِيضُ
نَدَاهُما ... على كُلِّ مغمورٍ نَداهُ وغامرِ ) ( كأَنّ سَنَا نارَيْهما كلَّ شَتْوةٍ
... سَنَا البَرْقِ يبدو للعيون النواظر ) وقالت أيضا ترثي توبة عن أم حمير
وأمها أبنة أخي توبة عن أمها قال أبو عبيدة أم حمير أخت أبي الجراح العقيلي قال وأمها
بنت أخي توبة بن حمير قال وكان الأصمعي يعجب بها ( أيا عَيْنُ بَكِّي توبةَ بنَ حُمَيِّرِ
... بسَحٍّ كفيض الجَدْوَلِ المُتَفَجِّرِ ) ( لِتَبْكِ عليه من خَفَاجةَ نسوةٌ
... بماء شؤونِ الغَبْرة المتحدِّر
) ( سَمِعْنَ بهيْجَا أرهقتْ فذكرنَه ... ولا يبعَثُ
الأحزانَ مثلُ التَّذَكُّر ) ( كأنّ فَتَى الفِتْيانِ توبةَ لم يَسِرْ ... بنَجْدٍ ولم
يَطْلُعْ مع المُتَغوِّرِ ) ( ولم يَرِدِ الماء السَّدامَ إذا بَدَا ... سَنَا الصُّبْحِ في
بادي الحواشِي مُنَوِّر ) ( ولم يَغْلِبِ الخَصْمَ الضِّجاجَ ويَمْلأ الجِفانَ ...
سَدِيفاً يوم نَكْباء صَرْصَر )
( ولم يَعْلُ بالجُرْدِ الجيادِ يَقُودُها ... بسُرّةَ
بين الأشْمَساتِ فَايْصُرِ ) ( وصحراءَ مَوْماةٍ يَحارُ بها القَطَا ... قَطَعْتَ على هَوْلِ
الجَنَان بمِنْسَرِ ) ( يقودون قُبًّا كالسَّراحينِ لاَحَها ... سُرَاهُمْ وسَيْرُ
الراكبِ المُتَهَجِّرِ ) ( فلمّا بدتْ أرضُ العدو سَقَيْتَها ... مُجَاجَ بَقِيّاتِ
المَزَادِ المُقَيَّرِ ) ( ولمّا أهابُوا بالنِّهابِ حَوَيْتَها ... بخاظِي البَضيعِ كَرُّه
غيرُ أعْسَرِ ) ( مُمَرٍّ ككَرِّ الأَنْدَرِيِّ مُثَابِرٍ ... إذا ما وَنَيْنَ
مُهْلِبِ الشَّدّ مُحْضِرِ ) ( فألوتْ بأعناقٍ طِوَالٍ وراعَها ... صَلاَصِلُ بَيْضٍ سابغٍ
وسَنَوَّر ) ( ألم تَرَ أنّ العبدَ يقتل ربَّه ... فيظهَرُ جَدُّ العبد من
غير مَظْهَرِ ) ( قتلتم فتىً لا يُسْقطُ الرَّوْعُ رُمْحَه ... إذا الخيلُ جالت
في قنًا متكسِّرِ ) ( فيا تَوْبُ لِلهَيْجَا ويا تَوْبُ للنَّدَى ... ويا تَوْبُ للمُسْتَنْبِحِ
المتنوِّر ) ( ألاَ ربّ مكروبٍ أجَبْتَ ونائلٍ ... بذلتَ ومعروف لديكَ
ومُنْكَر ) وقالت ترثيه ( أقسمتُ أرثِي بعد توبةَ هالكاً ... وأَحْفِلُ مَنْ دارت عليه
الدوائرُ ) ( لَعَمْرُكَ ما بالموتِ عارٌ على الفَتَى ... اذا لم تُصِبْه في الحياةِ المَعَايرُ ) ( وما أحدٌ
حَيٌّ وإنْ عاش سالماً ... بأخْلَدَ ممن غيّبته المقابر ) ( ومَنْ كان مما يُحْدِثُ الدهرُ
جازعاً ... فلا بُدَّ يوماً أن يُرَى وهو صابر ) ( وليس لِذِي عيشٍ عن الموتِ مَقْصَرٌ
... وليس على الأيّامِ والدهر غابرُ
) ( ولا الحيُّ مما يُحْدِثُ الدهرُ مُعْتَبٌ ... ولا
المَيْتُ إن لم يَصْبِرِ الحيُّ ناشرُ
) ( وكلُّ شبابٍ أو جديدٍ إلى بِلًى ... وكلُّ امرىء
يوماً إلى الله صائر ) ( وكُلُّ قَرِينَيْ أُلْفَةٍ لِتَفَرُّقٍ ... شَتَاتاً وإنْ
ضَنّا وطال التّعاشُرُ ) ( فلا يُبْعِدَنْكَ الله حيًّا ومَيِّتاً ... أخَا الحرب إن
دارتْ عليك الدوائرُ ) ويروى ( فلا يُبْعِدَنْك الله يا توبُ هالكاً ... أخا الحرب إن دارت
عليك الدوائر ) ( فآليتُ لا أنفَكّ أبكيك ما دعتْ ... على فَنَنٍ ورقاءُ أو طارَ
طائرُ ) ( قتيلُ بني عَوْفٍ فيا لَهْفَتَا له ... وما كنتُ إيّاهم عليه أُحاذر ) ( ولكنما أخشَى
عليه قبيلةً ... لها بدروب الروم بادٍ وحاضرُ ) وقالت ترثيه ( كم هاتفٍ بك من باكٍ وباكيةٍ ... يا
تَوْبُ للضيف إذ تُدْعَى وللجار
) ( وتَوْبُ للخَصْمِ إن جارُوا وان عَدَلوا ... وبدّلوا
الأمْرَ نَقْضاً بعد إمرارِ ) (
إن يُصْدِرُوا الأمرَ تُطْلِعْهُ مواردَه ... أو
يُورِدوا الأمرَ تُحْلِلْهُ بإصدار
) وقالت ترثيه ( هَرَاقتْ بنو عَوْفٍ دماً غيرَ واحدٍ
... له نَبَأُ نَجْدِيُّه سَيَغُورُ )
( تداعتْ له أفناءُ عوفٍ ولم يكن ... له يوم هَضْبِ
الرّدْهَتَيْنِ نصيرُ ) وقالت ترثيه (
يا عينُ بَكِّي بدَمْعٍ دائمِ السَّجَمِ ... وابْكِي
لتوبةَ عند الرَّوْعِ والبُهَمِ
) ( على فَتًى من بني سعدٍ فُجِعْتُ به ... ماذا أُجِنّ
به في الحُفْرةِ الرَّجَمِ ) ( من كلِّ صافيةٍ صِرْفٍ وقافيةٍ ... مثلِ السِّنَانِ وأمْرٍ
غيرِ مُقْتَسَمِ ) ( ومُصْدِرٍ حين يُعْيِي القومَ مُصْدِرُهم ... وجَفْنةٍ عند
نَحْسِ الكوكب الشَّبِمِ ) وقالت تعير قابضا (
جزى ا لله شَرًّا قابضاً بصَنِيعِهِ ... وكلُّ امرىء يُجْزَى
بما كان ساعيَا ) ( دعا قابضاً والمُرْهَفاتُ يَرِدْنَه ... فقُبِّحْتَ مدعوًّا
ولَبَّيْكَ داعيا ) وقالت لقابض وتعذر عبد الله أخا توبة ( دعا قابضاً والموتُ يَخْفِقُ ظِلُّه
... وما قابضٌ إذ لم يُجِبْ بنَجِيبِ )
( وآسَى عُبَيْدُ الله ثَمَّ أبنَ أمِّه ... ولو شاء
نَجَّى يوم ذاك حَبِيبِي ) خبر توبة مع زنجي لقيه في الشام أخبرني الحسن بن علي عن عبد
الله بن أبي سعد عن أحمد بن معاوية بن بكر قال حدثني أبو الجراح العقيلي عن أمه
دينار بنت خيبري بن الحمير عن توبة بن الحمير قال خرجت إلى الشام فبينا أنا أسير
ليلة في بلاد لا أنيس بها ذات شجر نزلت لأريح وأخذت ترسي فألقيته فوقي وألقيت نفسي
بين المضطجع والبارك فلما وجدت طعم النوم إذا شيء قد تجللني عظيم ثقيل قد برك علي
ونشزت عنه ثم قمصت منه قماصا فرميت به على وجهه وجلست إلى راحلتي فانتضيت السيف
ونهض نحوي فضربته ضربة انخزل منها وعدت إلى موضعي وأنا لا أدري ما هو أإنسان أم
سبع فلما أصبحت إذا هو أسود زنجي يضرب برجليه وقد قطعت وسطه حتى كدت أبريه وانتهيت
إلى ناقة مناخة موقرة ثيابا من سلبه وإذا جارية شابة ناهد وقد أوثقها وقرنها
بناقته فسألتها عن خبرها فأخبرتني أنه قتل مولاها وأخذها منه فأخذت الجميع وعدت
إلى أهلي قال أبو الجراح قالت أمي وأنا أدركتها في الحي تخدم أهلنا جواب ليلى
عندما سألها معاوية عن توبة أخبرنا اليزيدي عن ثعلب عن أبن الأعرابي قال أخبرنا
عطاء بن مصعب القرشي عن عاصم الليثي عن يونس بن حبيب الضبي عن أبي عمرو بن العلاء
قال سأل معاوية بن أبي سفيان ليلى الأخيلية عن توبة بن الحمير فقال ويحك يا ليلى
أكما يقول الناس كان توبة قالت يا أمير المؤمنين ليس كل ما يقول الناس حقا والناس
شجرة بغي يحسدون أهل النعم حيث كانوا وعلى من كانت ولقد كان يا أمير المؤمنين سبط
البنان حديد اللسان شجا للأقران كريم المخبر عفيف المئزر جميل المنظر وهو يا أمير
المؤمنين كما قلت له قال وما قلت له قالت قلت ولم أتعد الحق وعلمي فيه ( بَعيدُ الثَّرَى
لا يبلُغ القومُ قَعْرَه ... أَلَدُّ مُلِدٌّ يَغْلِبُ الحقَّ بَاطِلُه ) ( اذا حلّ
رَكْبٌ في ذَرَاه وظِلّهِ ... لِيَمْنَعَهم مما تُخافُ نَوازِلُهْ ) ( حماهم بنَصْلٍ
السَّيْف من كلِّ فادحٍ ... يخافونه حتى تموتَ خَصَائلُه ) فقال لها معاوية ويحك يزعم الناس أنه
كان عاهرا خاربا فقالت من ساعتها (
مَعَاذَ إلهِي كان واللهِ سَيِّداً ... جَوَاداً على
العِلاَّتِ جَمَّاً نَوَافِلُه
) ( أغَرَّ خَفَاجِيّا يرى البُخْلَ سُبّةً ...
تَحَلَّبُ كَفَّاهُ النَّدَى وأنَامِلُه ) ( عفيفاً بعيدَ الهَمِّ صُلْباً
قناتُه ... جميلاً مُحَيَّاهُ قليلاُ غوائلُه ) ( وقد علِم الجوعُ الذي بات سارياً
... على الضَّيْف والجيرانِ أنّك قاتلُه ) ( وأنك رَحْبُ الباع يا تَوْبُ
بالقِرَى ... إذا مالئيمُ القومِ ضاقت مَنَازِلُه ) ( يَبِيتُ قريرَ العينِ مَنْ بات
جارَه ... ويُضْحِي بخيرٍ ضيفُه ومُنَازِلُه ) فقال لها معاوية ويحك يا ليلى لقد جزت
بتوبة قدره فقالت والله يا أمير المؤمنين لو رأيته وخبرته لعرفت أني مقصرة في نعته
وأني لا أبلغ كنه ما هو أهله فقال لها معاوية من أي الرجال كان قالت ( أتتْه المَنَايَا
حين تَمّ تَمَامُه ... وأقصر عنه كلُّ قِرْنٍ يُطَاوِلُهْ ) ( وكان كليث الغابِ يحمِي عَرِينَه
... وترضَى به أشبالُه وحلائلُه
) ( غَضُوبٌ حليمٌ حين يُطْلَبُ حِلْمُه ... وسُمُّ
زُعافٌ لا تُصَابُ مَقَاتِلُه )
قال فأمر لها بجائزة عظيمة وقال لها خبريني بأجود ما قلت
فيه من الشعر قالت يا أمير المؤمنين ما قلت فيه شيئا إلا والذي فيه من خصال الخير
أكثر منه ولقد أجدت حين قلت ( جزى اللهُ خيراً والجزاءُ بِكَفه ... فتًى من عُقَيْلٍ ساد
غيرَ مُكَلَّفِ ) ( فتىً كانتِ الدُّنيا تهونُ بأَسْرِها ... عليه ولا ينفَكّ
جَمَّ التَّصَرُّفِ ) ( ينالُ عَلِيّاتِ الأُمورِ بهَوْنَةٍ ... إذا هي أعيتْ كلَّ
حِرْقٍ مُشَرَّفِ ) ( هو الذَّوْبُ بل أرْيُ الخَلاَيَا شَبيهُه ... بدرْياقةٍ من
خمر بَيسانَ قَرقفِ ) ( فياتَوْبُ مافي العيش خيرٌ ولا نَدًى ... يُعَدّ وقد أمسيتَ في
تُرْب نَفْنَفِ ) ( وما نَلْتُ منك النَّصْفَ حتى ارتمت بك ال ... بسهمٍ صائب
الوقع أعْجَفِ ) ( فيا أَلْفَ ألفٍ كنتَ حَيّاً مُسَلَّماً ... لألقاكَ مثلَ القَسْوَرِ
المُتَطَرِّفِ ) ( كما كنتَ إذ كنتَ المُنَحَّى من الرَّدَى ... إذا الخيلُ جالت
بالقَنَا المُتَقَصِّفِ ) ( وكمْ من لَهِيفٍ مُحْجَرٍ قد أجبتَه ... بأبيضَ قَطَّاعِ
الضَّرِيبَةِ مُرْهَفِ ) ( فانقذته والموتُ يَحْرُقُ نابَه ... عليه ولم يُطْعَنْ ولم
يُتَنَسَّفِ ) جميل يظهر غيرة على بثينة من توبة أخبرني الحسن بن علي عن ابن
مهرويه عن ابن أبي سعد قال حدثت عن القحذمي عن محارب بن غصين العقيلي قال كان توبة
قد خرج إلى الشام فمر ببني عذرة فرأته بثينة فجعلت تنظر إليه فشق ذلك على جميل
وذلك قبل أن يظهر حبه لها فقال له جميل من أنت قال أنا توبة بن الحمير قال هل لك
في الصراع قال ذلك إليك فشدت عليه بثينة ملحفة مورسة فأتزر بها ثم صارعه فصرعه
جميل ثم قال هل لك في النضال قال نعم فناضله فنضله جميل ثم قال له هل لك في السباق
فقال نعم فسابقه فسبقه جميل فقال له توبة يا هذا إنما تفعل هذا بريح هذه الجالسة
ولكن أهبط بنا الوادي فصرعه توبة ونضله وسبقه ليلى تسخر من عبد الملك عندما حاول
ان يسخر منها أخبرنا إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قال بلغني أن ليلى الأخيلية
دخلت على عبد الملك بن مروان وقد أسنت وعجزت فقال لها ما رأى توبة فيك حين هويك قالت
ما رآه الناس فيك حين ولوك فضحك عبد الملك حتى بدت له سن سوداء كان يخفيها وأخبرني
الحسن بن علي عن ابن أبي سعد عن أحمد بن رشيد بن حكيم الهلالي عن أيوب بن عمرو عن
رجل من بني عامر يقال له ورقاء قال كنت عند الحجاج بن يوسف فدخل عليه الآذن فقال
أصلح الله الأمير بالباب أمرأة تهدر كما يهدر البعير الناد قال أدخلها فلما دخلت
نسبها فانتسبت له فقال ما أتى بك يا ليلى قالت إخلاف النجوم وقلة الغيوم وكلب
البرد وشدة الجهد وكنت لنا بعد الله الرد قال فأخبريني عن الأرض قالت الأرض مقشعرة
والفجاج مغبرة وذو الغنى مختل وذو الحد منفل قال وما سبب ذلك قالت أصابتنا سنون
مجحفة مظلمة لم تدع لنا فصيلا ولا ربعا ولم تبق عافطة ولا نافطة فقد أهلكت الرجال
ومزقت العيال وأفسدت الأموال ثم أنشدته الأبيات التي ذكرناها متقدما وقال في الخبر
قال الحجاج هذه التي تقول ( نحنُ الأَخايِلُ لا يزالُ غُلاَمُنا ... حتّى يَدِبَّ على
العصا مشهورَا ) ( تَبْكِي الرِّماحُ إذا فَقَدْنَ أكُفَّنا ... جَزَعاً
وتَعْرِفُنا الرِّفاقُ بُحورا )
ثم قال لها يا ليلى أنشدينا بعض شعرك في توبة فأنشدته
قولها ( لَعَمْرُكَ ما بالموتِ عارٌ على الفَتَى ... اذا لم تُصِبْه في الحياةِ المَعَايرُ ) ( وما أحدٌ
حَيٌّ وإنْ عاش سالماً ... بأخْلَدَ ممن غيّبته المقابر ) ( فلا الحيُّ مما أحدث الدهرُ
مُعْتَبٌ ... ولا المَيْتُ إن لم يَصْبِرِ الحيُّ ناشرُ ) ( وكلُّ جديدٍ أو شَبَابٍ إلى بِلًى ...
وكلُّ امرىء يوماً إلى الموت صائر
) ( قتيلُ بني عَوْفٍ فيا لَهْفَتَا له ... وما كنتُ
إيّاهم عليه أُحاذر ) ( ولكنّني أخشَى عليه قبيلةً ... لها بدروب الشأم بادٍ وحاضرُ ) فقال الحجاج
لحاجبه أذهب فاقطع لسانها فدعا لها بالحجام ليقطع لسانها فقالت ويلك إنما قال لك
الأمير أقطع لسانها بالصلة والعطاء فارجع إليه واستأذنه فرجع إليه فاستأمره
فاستشاط عليه وهم بقطع لسانه ثم أمر بها فأدخلت عليه فقالت كاد وعهد الله يقطع
مقولي وأنشدته ( حَجّاجُ أنت الذي لا فوقَه أحدٌ ... إلاّ الخليفةُ
والمُسْتَغْفَرُ الصَّمَدُ ) ( حَجّاجُ أنت سِنانُ الحَرْبِ إن نُهِجتْ ... وأنتَ للنَّاسِ في
الداجي لنا تَقِدُ ) أخبرنا الحسن قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو
الحسن ميمون الموصلي عن سلمة بن أيوب بن مسلمة الهمداني قال كان جدي عند الحجاج فدخلت
عليه أمرأة برزة فانتسبت له فإذا هي ليلى الأخيلية وأخبرني بهذا الخبر محمد بن
العباس اليزيدي وأخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال كنت عند الحجاج وأخبرني
وكيع عن إسماعيل بن محمد عن المدائني عن جويرية عن بشر بن عبد الله بن أبي بكر أن
ليلى دخلت على الحجاج ثم ذكر مثل الخبر الأول وزاد فيه فلما قالت ( غُلامٌ إذا هزّ
القناةَ سقاها ... ) قال لها لا تقولي غلام قولي همام وقال فيه فأمر لها بمائتين فقالت
زدني فقال أجعلوها ثلاثمائة فقال بعض جلسائه إنها غنم فقالت الأمير أكرم من ذلك
وأعظم قدرا من أن يأمر لي إلا بالإبل قال فاستحيا وأمر لها بثلاثمائة بعير وإنما
كان أمر لها بغنم لا إبل وأخبرنا به وكيع عن إبراهيم بن إسحاق الصالحي عن عمر بن
شبة عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه وقال فيه ألا قلت مكان غلام همام وذكر
باقي الخبر الذي ذكره من تقدم وقال فيه فقال لها أنشدينا ما قلت في توبة فأنشدته
قولها ( فإنْ تَكُنِ القَتْلَى بَوَاءً فإنّكم ... فتًى ما قلتم آلَ عَوْفِ بن عاِمر ) ( فتًى كان
أَحْيَا من فَتاةٍ حَيِيّةٍ ... وأشْجَعَ من لَيْثٍ بخَفَّانَ خادرِ ) ( أتْته
المنايَا دون دِرْعٍ حَصِينةٍ ... وأسْمَرَ خَطِّيٍّ وجَرْداءَ ضامر ) ( فنِعْمَ الفتى
إنْ كان توبةُ فاجراً ... وفوق الفتى إن كان ليس بفاجر ) ( كأنّ فتَى الفِتْيانِ تَوْبةَ لم
يُنِخْ ... قلائصَ يَفْحَصْنَ الحَصَا بالكَرَاكِر ) فقال لها أسماء بن خارجة أيتها المرأة
إنك لتصفين هذا الرجل بشيء ما تعرفه العرب فيه فقالت أيها الرجل هل رأيت توبة قط
قال لا فقالت أما والله لو رأيته لوددت أن كل عاتق في بيتك حامل منه فكأنما فقىء في
وجه أسماء حب الرمان فقال له الحجاج وما كان لك ولها أخبرني الحسن بن علي قال
حدثنا ابن أبي سعد عن محمد بن علي بن المغيرة قال سمعت أبي يقول سمعت الأصمعي يذكر
أن الحجاج أمر لها بعشرة آلاف درهم وقال لها هل لك من حاجة قالت نعم أصلح الله
الأمير تحملني الى أبن عمي قتيبة بن مسلم وهو على خراسان يومئذ فحملها إليه
فأجازها وأقبلت راجعة تريد البادية فلما كانت بالري ماتت فقبرها هناك هكذا ذكر
الأصمعي في وفاتها وهو غلط وقد أخبرني عمي عن الحزنبل الأصبهاني عمن أخبره عن
المدائني وأخبرني الحسن بن علي عن ابن مهدي عن ابن أبي سعد عن محمد بن الحسن
النخعي عن ابن الخصيب الكاتب واللفظ في الخبر للحزنبل وروايته أتم وفاة ليلى
الأخيلية أن ليلى الأخيلية أقبلت من سفر فمرت بقبر توبة ومعها زوجها وهي في هودج
لها فقالت والله لا أبرح حتى أسلم على توبة فجعل زوجها يمنعها من ذلك وتأبى إلا أن
تلم به فلما كثر ذلك منها تركها فصعدت أكمة عليها قبر توبة فقالت السلام عليك يا توبة
ثم حولت وجهها إلى القوم فقالت ما عرفت له كذبة قط قبل هذا قالوا وكيف قالت أليس
القائل صوت ( ولو أنّ ليلَى الأَخْيَليّةَ سَلَّمتْ ... عليّ ودوني تُرْبةٌ وصفائحُ ) ( لَسَلَّمْتُ
تسليمَ البشَاشةِ أو زَقَا ... إليها صَدًى من جانب القبر صائح ) ( وأُغْبَطُ من
ليلَى بما لا أنالُه ... ألاَ كُلُّ ما قَرَّتْ به العينُ صالح ) فما باله لم
يسلم علي كما قال وكانت الى جانب القبر بومة كامنة فلما رأت الهودج واضطرابه فزعت
وطارت في وجه الجمل فنفر فرمى بليلى على رأسها فماتت من وقتها فدفنت الى جنبه وهذا
هو الصحيح من خبر وفاتها غنى في الأبيات المذكورة آنفا حكم الوادي لحنين أحدهما
رمل بالوسطى عن عمرو والآخر خفيف ثقيل أول بالوسطى عن حبش وقال حبش وفيها لحنان
لجميلة والميلاء رملان بالبنصر وذكر أبو العبيس بن حمدون أن الرمل لعمر الوادي قال
أبو عبيدة كان توبة شريرا كثير الغارة على بني الحارث بن كعب وخثعم وهمدان فكان
يزور نساء منهن يتحدث اليهن وقال (
أَيَذْهَبُ رَيْعانُ الشَّبابِ ولم أَزُرْ ... غرائرَ من
هَمْدانَ بِيضاً نُحورُها ) قال أبو عبيدة وكان توبة ربما ارتفع الى بلاد مهرة فيغير عليهم
وبين بلاد مهرة وبلاد عقيل مفازة منكرة لا يقطعها الطير وكان يحمل مزاد الماء فيدفن
منه على مسيرة كل يوم مزادة ثم يغير عليهم فيطلبونه فيركب بهم المفازة وإنما كان
يتعمد حمارة القيظ وشدة الحر فإذا ركب المفازة رجعوا عنه أخبرني حرمي عن الزبير عن
يحيى بن المقدام الربعي عن عمه موسى بن يعقوب قال دخل عبد الله بن مروان على زوجته
عاتكة بنت يزيد بن معاوية فرأى عندها امرأة بدوية أنكرها فقال لها من أنت قالت أنا
الوالهة الحرى ليلى الأخيلية قال أنت التي تقولين ( أرِيقتْ جِفانُ ابنِ الخَليعِ فأصبحتْ
... حِياضُ النَّدَى زَالَتْ بهنّ المراتبُ ) ( فعُفَاتهُ لهفى يطوفون حوله ... كما
انقضّ عرشُ البئر والوِرْدُ عاصبُ
) قالت أنا التي أقول ذلك قال فما أبقيت لنا قالت الذي
أبقاه الله لك قال وما ذاك قالت نسبا قرشيا وعيشا رخيا وامرة مطاعة قال أفردته
بالكرم قالت أفردته بما أفرده الله به فقالت عاتكة إنها قد جاءت تستعين بنا عليك
في عين تسقيها وتحميها لها ولست ليزيد إن شفعتها في شيء من حاجاتها لتقديمها
أعرابيا حلفا على أمير المؤمنين قال فوثبت ليلى فقامت على رجلها واندفعت تقول ( ستَحْمِلُني
ورَحْلي ذاتُ وَخْدٍ ... عليها بنتُ آباءٍ كرامِ ) ( إذا جعلتْ سوادَ الشَّأم جَنْباً
... وغُلِّقَ دونَها بابُ اللِّئامِ
) ( فليس بعائدٍ أبداً إليهم ... ذوو الحاجات في غَلَسِ
الظَّلام ) ( أعَاتِكُ لو رأيتِ غَداةَ بِنَّا ... عَزاءَ النَّفْسِ عنكُم واعتزامي ) ( إذاً لَعَلمتِ
واستَيْقَنْتِ أنِّي ... مُشَيَّعةٌ ولم تَرْعَيْ ذِمَامِي ) ( أأجعلُ مثلَ توبةَ في نَدَاهُ ...
أبا الذِّبَّانِ فُوهُ الدَّهْرَ دامِي ) ( مَعَاذَ الله ما عَسَفتْ برَحْلِي
... تُغِذّ السَّيْرَ للبلد التَّهَامِي ) ( أقُلْتِ خليفةٌ فَسِواه أحْجَى ...
بإمْرَتِه وأوْلَى باللِّثامِ )
( لِثَامِ الملك حين تُعَدُّ كَعْبٌ ... ذوو الأخطار
والخُطَطِ الجِسَامِ ) فقيل لها أي الكعبين عنيت قالت ما أخال كعبا ككعبي خبر آخر في
وفودها على الحجاج أخبرنا اليزيدي عن الخليل بن أسد عن العمري عن الهيثم بن عدي عن
أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير عن محمد بن الحجاج بن يوسف قال بينا الأمير
جالس إذ استؤذن لليلى فقال الحجاج ومن ليلى قيل الأخيلية صاحبة توبة قال أدخلوها فدخلت
امرأة طويلة دعجاء العينين حسنة المشية إلى الفوه ما هي حسنة الثغر فسلمت فرد
الحجاج عليها ورحب بها فدنت فقال الحجاج دراك ضع لها وسادة يا غلام فجلست فقال ما
أعملك إلينا قالت السلام على الأمير والقضاء لحقه والتعرض لمعروفه قال وكيف خلفت
قومك قالت تركتهم في حال خصب وأمن ودعة أما الخصب ففي الأموال والكلأ وأما الأمن
فقد أمنهم الله عز و جل بك وأما الدعة فقد خامرهم من خوفك ما أصلح بينهم ثم قالت
ألا أنشدك فقال إذا شئت فقالت (
أحَجَّاجُ إنّ اللهَ أعطاك غايةً ... يُقَصِّرُ عنها
مَنْ أرادَ مَدَاهَا ) ( أحَجَّاجُ لا يُفْلَلْ سِلاَحُكَ إنّما المَنَايَا ... بكَفِّ
الله حيث تراها ) ( إذا هبَط الحجّاجُ أرضاً مريضةً ... تَتَبَّعَ أقصَى دائها
فشَفَاها ) ( شَفَاهَا من الدَّاء العُضَالِ الَّذِي بها ... غُلاّمٌ إذا هَزّ القناةَ سَقَاها ) ( سَقَاهَا
دِماءَ المارقينَ وعَلّها ... إذا جَمَحتْ يوماً وخِيفَ أذاها ) ( إذا سَمِع
الحجّاجُ رِزَّ كَتِيبةٍ ... أعَدّ لها قبل النُّزول قِرَاها ) ( أعدّ لها مصقولةً فارسيَّةً ...
بأيدي رِجَالٍ يَحْلِبون صَرَاها
) ( أحَجَّاجُ لا تُعْطِ العُصاةَ مُنَاهُمُ ... ولا
اللهُ يُعْطِي لِلعُصاةِ مُنَاها
) ( ولا كلَّ حَلاَّفٍ تَقَلّدَ بيعةً ... فأعْظَمَ عهدَ
الله ثم شَرَاها ) فقال الحجاج ليحيى بن منقذ لله بلادها ما أشعرها فقال ما لي
بشعرها علم فقال علي بعبيدة بن موهب وكان حاجبه فقال أنشديه فأنشدته فقال عبيدة
هذه الشاعرة الكريمة قد وجب حقها قال ما أغناها عن شفاعتك يا غلام مر لها بخمسمائة
درهم واكسها خمسة أثواب أحدها كساء خز وأدخلها على ابنة عمها هند بنت أسماء فقل
لها حليها فقالت أصلح الله الأمير أضر بنا العريف في الصدقة وقد خربت بلادنا
وانكسرت قلوبنا فأخذ خيار المال قال اكتبوا لها الى الحكم بن أيوب فليبتع لها خمسة
أجمال وليجعل أحدها نجيبا وأكتبوا الى صاحب اليمامة بعزل العريف الذي شكته فقال
ابن موهب أصلح الله الأمير أأصلها قال نعم فوصلها بأربعمائة درهم ووصلتها هند
بثلاثمائة درهم ووصلها محمد بن الحجاج بوصيفتين قال الهيثم فذكرت هذا الحديث
لإسحاق بن الجصاص فكتبه عني ثم حدثني عن حماد الراوية قال لما فرغت ليلى من شعرها
أقبل الحجاج على جلسائه فقال لهم أتدرون من هذه قالوا لا والله ما رأينا امرأة
أفصح ولا أبلغ منها ولا أحسن إنشادا قال هذه ليلى صاحبة توبة ثم أقبل عليها فقال
لها بالله يا ليلى أرأيت من توبة أمرا تكرهينه أو سألك شيئا يعاب قالت لا والله
الذي أسأله المغفرة ما كان ذلك منه قط فقال إذا لم يكن فيرحمنا الله وإياه أخبرني
أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن ابن شبة عن عبد الله بن محمد بن حكيم الطائي عن
خالد بن سعيد عن أبيه قال كنت عند الحجاج فدخلت عليه ليلى الأخيلية ثم ذكر مثل
الخبر الأول وزاد فيه فلما قالت (
غلامٌ إذا هزّ القناةَ سقاها ... ) فقال لا تقولي غلام قولي همام صوت
( سَالَنِي الناسُ أينَ يَعْمِدُ هذا ... قلتُ آتِي في الدَّار قَرْماً سَرِيّا ) ( ما قطعتُ
البلادَ أسْرِي ولا يَمَّمْتُ ... إلاّ إيّاكَ يا زكريّا ) ( كَمْ عطاءٍ ونائلٍ وجزيلٍ ... كان
لي منكُم هَنِيّاً مَرِيّا ) عروضه من الخفيف الشعر للأقيشر الأسدي والغناء لدحمان وله فيه
لحنان أحدهما خفيف ثقيل من أصوات قليلة الأشباه عن إسحاق والآخر ثقيل أول بالبنصر
في الثالث والثاني عن عمرو وذكر يونس أنه للأبجر ولم يجنسه وذكر الهشامي أن لحن
الأبجر خفيف ثقيل وأن لحن ابن بلوع في الثالث ثاني ثقيل وليحيى بن واصل ثقيل أول
بالوسطى بالوسطى ذكر الأقيشر وأخباره سبب تلقيبه الأقيشر الأقيشر لقب غلب عليه
لأنه كان أحمر الوجه أقشر واسمه المغيرة بن عبد الله بن معرض بن عمرو بن أسد بن
خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار وكان يكنى أبا معرض وقد ذكر ذلك في شعره
في مواضع عدة منها قوله ( فإنّ أبا مُعْرِضٍ إذ حَسَا ... من الرَّاحِ كأْساً على
المِنْبَرِ ) ( خَطيبٌ لَبِيبٌ أبو مُعْرِضٍ ... فإنْ لِيمَ في الخَمْرِ لم
يَصْبِرِ ) وعمر عمرا طويلا فكان أقعد بني أسد نسبا وما أخلقه بأن يكون ولد في الجاهلية
ونشأ في أول الإسلام لأن سماك بن مخرمة الأسدي صاحب سماك بالكوفة بناه في أيام عمر
وكان عثمانيا وأهل تلك المحلة إلى اليوم كذلك فيروي أهل الكوفة أن علي بن أبي طالب
صلوات الله عليه لم يصل فيه وأهل الكوفة إلى اليوم يجتنبونه وسماك الذي بناه هو
سماك بن مخرمة بن حمين بن بلث بن عمرو بن معرض بن أسد والأقيشر أقعد نسبا منه وقال
الأقيشر في ذكر مسجد سماك شعرا أخبرني محمد بن الحسن الكندي الكوفي قال أخبرني
الحسن بن عليل العنزي عن محمد بن معاوية وكنيته أبو عبد الله محمد بن معاوية قال
الأقيشر من رهط خريم بن فاتك الأسدي وخريم إنما نسب إلى جد أبيه فاتك وهو خريم بن
الأخرم بن شداد بن عمرو بن فاتك الأسدي وفاتك ابن قليب بن عمرو بن أسد والأقيشر هو
المغيرة بن عبد الله بن معرض بن عمرو بن أسد قال وهو القائل لما بنى سماك بن مخرمة
مسجده الذي بالكوفة وهو أكبر مسجد لبني أسد وهو في خطة بني نصر بن قعين ( غَضِبتْ دُودانُ
من مَسْجِدنا ... وبه يَعْرِفُهم كلُّ أَحَدْ ) ( لو هَدَمْنَا غُدْوةً بنْيانَه ...
لاَنْمحتْ أسماؤهم طُولَ الأبَدْ
) ( اسمُهم فيه وهم جِيرانُه ... واسمُه الدَّهْرَ لعمرو
بن أَسَدْ ) ( كُلّمَا صَلَّوْا قَسَمْنَا أَجْرَه ... فلَنَا النِّصْفُ على
كلِّ جَسَدْ ) فحلف بنو دودان ليضربنه فأتاهم فقال قد قلت بيتا محوت به كل ما
قلت قالوا وما هو يا فاسق قال قلت (
وبنو دُودانَ حَيٌّ سادةٌ ... حَلّ بيتُ المَجْدِ فيهم
والعَدَدْ ) فتركوه أخبرني وكيع عن إسماعيل بن مُجَمِّع عن المدائني قال وأخبرني أبو
أيوب المديني عن محمد بن سلام قال كان الأقيشر كوفيا خليعا ماجنا مدمنا لشرب الخمر
وهو الذي يقول لنفسه ( فإنّ أبا مُعرِضٍ إذ حَسَا ... من الرّاح كأْساً على
المِنْبَرِ ) ( خطيبٌ لبيبٌ أبو مُعْرِضٍ ... فصار خليعاً على المَكْبِرِ ) ( أحَلّ الحرامَ
أبو مُعْرِضٍ ... فإنْ لِيمَ في الخمر لم يَصْبِرِ ) ( يُجِلّ الِّلئامَ يلحي الكرامَ ...
وإن أقصروا عنه لم يُقْصِرِ ) كان يهجو من يناديه بلقبه أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد بن
إسحاق عن أبيه عن المدائني وأخبرني عبد الوهاب بن عبيد الصحاف الكوفي عن قعنب بن
محزر الباهلي عن المدائني أن الأقيشر مر يريد الحيرة فاجتاز على مجلس لبني عبس
فناداه أحدهم يا أقيشر وكان يغضب منها فزجره الأشياخ ومضى الأقيشر ثم عاد إليه
ومعه رجل وقال له قف معي فإذا أنشدت بيتا فقل لي ولم ذلك ثم انصرف وخذ هذين
الدرهمين فقال له أنا أصير معك إلى حيث شئت يا أبا معرض ولا أرزؤك شيئا قال فأفعل فأقبل
حتى أتى مجلس القوم فوقف عليهم ثم تأملهم وقد عرف الشاب فأقبل عليه وقال ( أتدعوني
الأُقَيْشِرَ ذلك اسمي ... وأدعوك ابنَ مُطْفئةِ السِّراجِ ) فقال له الرجل ولم ذاك فقال ( تُناجِي خِدْنَها
بالليلِ سِرًّا ... ورَبُّ الناس يعلَمُ ما تُنَاجِي ) قال قعنب في خبره فلقب ذلك الرجل ابن
مطفئة السراج وقال قعنب في خبره عن المدائني أخبرنا به اليزيدي عن الخراز عن
المدائني في كتاب الجوابات ولم يروه الباقون كان الأقيشر يكتري بغلة أبي المضاء
المكاري فيركبها إلى الخمارين بالحيرة فركبها يوما ومضى لحاجته وعند أبي المضاء
رجل من تميم يكنى أبا الضحاك فقال له من هذا قال الأقيشر فأخذ طبق الميزان وكتب
فيه ( عَجِبْتُ لشاعرٍ من حَيِّ سَوْءٍ ... ضَئِيلِ الجسمِ مِبْطانٍ هَجِينِ ) وقال لأبي
المضاء إذا جاء فأقرئه هذا فلما جاء أقرأه فقال له الأقيشر ممن هو قال من بني تميم
فكتب الأقيشر تحت كتابه ( فلا أَسَداً أسب ولا تَمِيماً ... وكيف يجوزُ سَبُّ الأكرمينَ ) ( ولكنّ
التَّمِيمِي حال بيني ... وبينَك يا ابنَ مُضْرِطةِ العَجِينِ ) فهرب إلى الكوفة
فلم يزد على هذا وقال قعنب في خبره عن المدائني فجاء التميمي فقرأ ما كتب فكتب
تحته ( يأيها المُبْتَغِي حُشّاً لحاجته ... وجهُ الأُقَيْشِرِ حشٌّ غيرُ ممنوعِ ) فلما قرأه قال
اللهم إني أستعديك عليه وكتب تحته (
إنِّي أتاني مقالٌ كنت آمَنُه ... فجاء من فاحشٍ في
الناس مخلوعِ ) ( عبدِ العزيز أبو الضحّاك كُنْيَتُه ... فيه من اللُّؤْمِ
وَهْيٌ غير ممنوع ) ( ولم تَبِتْ أُمُّهُ إلاّ مُطَاحَنَةً ... وأن تُؤَاجَر في سوق
المراضيع ) ( ينساب ماء البرايا في استها سَرِباً ... كأنما انساب في بعض البلاليع ) ( مِنْ ثَمّ
جاءت به والبَظْرُ حَنَّكَه ... كأنه في استها تِمْثالُ يُسروع ) فلما جاءه جزع
ومشى إليه بقوم من بني تميم فطلبوا أن يكف ففعل وأما عبد الله بن خلف فذكر عن أبي
عمرو الشيباني أن الأقيشر قال هذا في مسكين والشعر الذي فيه الغناء يقوله الأقيشر
في زكريا بن طلحة الذي يقال له الفياض وكان مداحا له عبد الملك اعجب بشعره فمدحه
أخبرني الحسن بن علي عن العنزي عن محمد بن معاوية قال غنت جارية عند عبد الملك بن
مروان بشعر الأقيشر ( قرّب اللهُ بالسلامِ وحيّا ... زَكَرِيّا بنَ طَلّحةَ
الفَيَّاضِ ) ( مَعْدِنُ الضَّيْفِ إنْ أناخوا إليه ... بعد أَيْنِ الطلائح الأنقاض ) ( ساهماتُ
العيونِ خوصٌ رَذَايا ... قد براها الكَلاَلُ بعد أياض ) ( زادَه خالدُ ابنُ عمّ أبيه ...
مَنْصِباً كان في العُلاَ ذا انتقاض
) ( فَرْعُ تَيْمِ من مُرّةَ حَقّاً ... قد قضَى ذاك
لابن طلحةَ قاض ) فقال عبد الملك للجارية ويحك لمن هذا قالت للأقيشر قال هذا
المدح لا على طمع ولا فرق وأشعر الناس الأقيشر وذكر عبد الله بن خلف أن أبا عمرو
الشيباني أخبره أن الكميت بن زيد لقي الأقيشر في سفرة فقال له أين تقصد يا أبا
معرض فقال ( سالني الناس أين يَقْصِدُ هذا ... قلتُ آتي في الدار قَرْماً سَرِيّا ) وذكر باقي الأبيات
التي فيها الغناء فلم يزل الكميت يستعيده إياها مرارا ثم قال ما كذب من قال إنك
أشعر الناس اتهم بالعنة فنفى ذلك أخبرني عمي عن الكراني عن ابن سلام قال كان
الاقيشر عنينا وكان لا يأتي النساء وكان كثيرا ما كان يصف ضد ذلك من نفسه فجلس
إليه يوما رجل من قيس فأنشده الأقيشر (
ولقد أروح بِمُشْرِفٍ ذي شَعْرةٍ ... عَسِرِ المَكَرَّةِ
ماؤه يَتَفَصَّدُ ) ( مَرِحٍ يطيرُ من المِرَاحِ لُعَابُه ... وتكاد جِلْدَتُه به
تتقدّد ) ثم قال للرجل أتبصر الشعر قال نعم قال فما وصفت قال فرسا قال أفكنت لو
رأيته ركبته قال إي والله وأثني عطفه فكشف عن أيره وقال هذا وصفت فقم فاركبه فوثب
الرجل من مجلسه وجعل يقول له قبحك الله من جليس سائر اليوم ونسخت من كتاب عبد الله
بن خلف حدثني أبو عمرو الشيباني قال ماتت بنت زياد العصفري فخرج الأقيشر في
جنازتها فلما دفنوها انصرف فلقيه عابس مولى عائذ الله فقال له هل لك في غداء وطلاء
أتيت به من طيزناباذ قال نعم فذهب به إلى منزله فغداه وسقاه فلما شرب قال ( فليتَ زِياداً لا
يَزَلْنَ بَنَاتُه ... يَمُتْنَ وألقَى كُلَّمَا عِشتُ عابسَا ) ( فذلك يومٌ غاب
عنِّيَ شَرُّه ... وأنجحتُ فيه بعد ما كنتُ آيِسا ) ونسخت من كتابه حدثني أبو عمرو قال شرب
الأقيشر في بيت خمار بالحيرة فجاءه الشرط ليأخذوه فتحرز منهم وأغلق بابه وقال لست
أشرب فما سبيلكم علي قالوا قد رأينا العس في كفك وأنت تشرب قال إنما شربت من لبن
لقحة لصاحب الدار فلم يبرحوا حتى أخذوا منه درهمين فقال ( إنَّما لِقْحَتُنا بَاطِيَةٌ ... فإذَا
ما مُزِجتْ كانت عَجَبْ ) ( لَبَنٌ أصفرُ صافٍ لونُه ... يَنْزع الباسورَ من عَجْبِ
الذَّنَبْ ) ( إنما نشرَب من أموالنا ... فسَلوا الشُّرْطِيَّ ما هذا
الغَضَبْ ) أخبرني الحسن بن علي عن العنزي عن محمد بن معاوية قال دخل وفد بني أسد على
عبد الملك بن مروان فقال من شاعركم يا بني أسد قالوا إن فينا لشعراء ما يرضى قومهم
أن يفضلوا عليهم أحدا قال لهم فما فعل الأقيشر قالوا مات قال لم يمت ولكنه مشتغل
بعشقه وما أبعد أن يكون شاعركم إلا أنه يضيع نفسه أليس هو القائل ( يأيُّها السائل
عَمّا مَضَى ... مِنْ عِلْمِ هذا الزَّمن الذاهبِ ) ( إن كنتَ تَبْغِي العلمَ أوْ أهلَه
... أو شاهداً يُخْبِرُ عن غائبِ
) ( فاعتبرِ الأرضَ بأسمائها ... واعتبرِ الصاحبَ
بالصاحبِ ) وذكر عبد الله بن خلف عن أبي عمرو الشيباني أن جارا للأقيشر طحانا كان ينسىء
الناس يكنى أبا عائشة فأتاه الأقيشر يسأله فلم يعطه فقال له ( يُرِيدُ النساءَ ويأبى الرجالَ ... فما
لي وما لأبي عائشه ) ( أدامَ له الله كَدَّ الرِّجالِ ... وأثكله ابنتَه عائشه ) فأعطاه ما أراد
واستعفاه من أن يزيد شيئا نسخت من كتاب عبيد الله بن محمد اليزيدي بخطه قال الهيثم
بن عدي حدثني عطاف بن عاصم بن الحدثان قال مر أعرابي من بني تميم كان يهزأ
بالأقيشر فقال له ( أبا مُعْرِضٍ كن أنتَ إن مُتُّ دَافِنِي ... إلى جَنْبِ قبرٍ
فيه شِلْوُ المُضَلَّلِ ) ( فعَلِّيَ أنْ أنجو من النارِ إنّها ... تُضَرَّمُ للعبد
اللئيمِ المُبَخَّلِ ) ( بذلك أوصاها الإلهُ ولم تَزَلْ ... تُحَشُّ بأوصالٍ وتُرْبٍ
وجَنْدَل ) ( وأنت بحمدِ الله إن شئتَ مُفْلِتِي ... بحَزْمِك فاحْزُمْ يا أقيشرُ واعْجَل ) فقال له ممن أنت
قال من بني تميم ثم أحد بني الهجيم بن عمرو بن تميم فقال الأقيشر ( تميمَ بنَ مُرٍّ
كَفْكِفُوا عن تَعَمُّدِي ... بذُلٍّ فإنِّي لستُ بالمتذلِّلِ ) ( أيهزَأ بي
العبدُ الهُجَيْمِيُّ ضَلَّةَ ... ومثلي رمى ذا التُّدْرَإ المتضلِّل ) ( بداهيةٍ
دَهْياءَ لا يَسْتَطِيعُها ... شماريخُ من أركان سَلْمَى ويَذْبُل ) ( وبالله لولا
أنّ حِلْمِيَ زَاجِرِي ... تركتُ تميماً ضُحْكةً كلَّ مَحْفِلِ ) ( فكُفُّوا
رماكم ذو الجلالِ بخِزْية ... تُصَبِّحُكم في كلِّ جَمْعٍ ومنزل ) ( فأنتم لئامُ
الناسِ لا تُنْكِرونه ... وألأمُكم طُرًّا حُرَيْثُ بن جَنْدَلِ ) فصار إليه شيوخ
من بني الهجيم واعتذروا إليه واستكفوه فكف كان يرتجل الشعر وهو في حلقات الشرب
والغناء أخبرني الأخفش قال حدثني أبو الفياض بن أبي شراعة عن أبيه قال شرب الأقيشر
بالحيرة في بيت فيه خياط مقعد ورجل أعمى وعندهم مغن مطرب فطرب الأقيشر فسقاهم من
شربه فلما انتشوا وثب الأعمى يسعى في حوائجهم وقفز الخياط المقصد يرقص على ظلعه فجهد
في ذلك كل جهد فقال الأقيشر ( ومُقْعَدِ قومٍ قد مشى من شَرَابِنا ... وأَعْمَى سَقَيناه
ثلاثا فأبصرا ) ( شراباً كريح العَنْبَرِ الوَرْدِ رِيحُه ... ومَسْحوقِ
هِنْدِيٍّ من المسكِ أذفرا ) ( من الفَتَياتِ الغُرِّ من أرضِ بابلٍ ... إذا شَفّها الحانِي
من الدَّنّ كبّرا ) ( لها من زُجاج الشام عُنْقٌ غريبة ... تأنّق فيها صانعٌ
وتخيَّرا ) ( ذخائرُ فرعونَ التي جُبِيتْ له ... وكلٌّ يُسَمَّى بالعَتِيق مشهَّرا ) ( إذا ما رآها
بعد إنقاء غَسْلِها ... تدور علينا صائمُ القوم أفطرا ) أخبرنا علي بن سليمان قال حدثني سوار
قال حدثني أبي قال كان الأقيشر صاحب شراب وندامى فأشخص الحجاج بعض ندمائه إلى بعض
النواحي ومات بعضهم ونسك بعضهم وهرب بعضهم فقال في ذلك ( غُلِبَ الصَّبْرُ فاعترتْني هُمُومٌ
... لفِرَاقِ الثِّقاتِ من إخواني
) ( مات هذا وغاب هذا وهذا ... دائبٌ في تِلاَوةِ
القُرْآن ) ( ولقد كان قبل إظهاره النُّسْكَ ... قديماً من أظرف الفتيان ) وأخبرني أبو
الحسن الأسدي عن العنزي قال قال ابن الكلبي حدثني سلمة ابن عبد سواع عن أبيه قال كان
الأقيشر لا يسأل أحدا أكثر من خمسة دراهم يجعل درهمين في كراء بغل إلى الحيرة
ودرهمين للشراب ودرهما للطعام وكان له جار يكنى أبا المضاء له بغل يكريه وكان
يعطيه درهمين ويأخذ بغله فيركبه الى الحيرة حتى يأتي بيت الخمار فينزل عنده ويربطه
بلجامه وسرجه فيقال إنه أعطى ثمنه في الكراء ثم يجلس فيشرب حتى يمسي ثم يركبه وينصرف
فقال في ذلك ( يا بَغْلُ بَغْلَ أبِي المَضاء تَعَلَّمَنْ ... أنِّي حلفتُ
ولليمين نُذُورُ ) ( لتُعَسِّفَنَّ وإن كَرِهْتَ مَهَامِهاً ... فيما أُحِبّ وكلُّ
ذاك يسيرُ ) ( بالرغْمِ يا ولدَ الحمارِ قطعتَها ... عمداً وأنت مُذَلَّلٌ
مصبور ) ( حتى تزور مُسَمِّعاً في داره ... وترى المُدَامةَ بالأكُفِّ تدورُ ) ( لا يَرفعون
بما يسوءُك نَعْرةً ... وإذا سَخِطْتَ فخَطْبُ ذاك صغيرُ ) خبره مع أم حنين في بيت الخمار قال
فأتى يوما من الأيام بيت الخمار الذي كان يأتيه فلم يصادفه فجعل ينتظره ودخلت
الدار امرأة عبادية فقال لها ما فعل فلان قالت مضى في حاجة وأنا امرأته فما تريد
قال نبيذا قالت بكم قال بدرهمين قالت هلم درهميك وانتظرني قال لا قالت فذلك إليك
ومضت وتبعها فدخلت دارا لها بابان وخرجت من أحدهما وتركته فلما طال جلوسه خرج إليه
بعض أهل الدار قالوا وما يجلسك فأخبرهم فقالوا له تلك امرأة محتالة يقال لها أم
حنين من العباديين فعلم أنه قد خدع فانصرف الى خماره فأخبره بالقصة وقال له أنسئني
اليوم فاسقني ففعل وأنشأ الأقيشر يقول (
لم يُغَرَّرْ بذاتِ خُفٍّ سِوَانَا ... بعد أُخت
العِبَادِ أُمِّ حُنَيْنِ ) ( وَعَدتْنَا بدرهمين نبيذاً ... أو طِلاءً مُعَجَّلاً غيرَ
دَيْنِ ) ( ثم ألوتْ بالدرهمين جميعاً ... يا لَقَوْمِي لِضَيْعةِ الدرهمين ) وذكر هذا الخبر
عبد الله بن خلف عن أبي عمرو الشيباني وزاد فيه أن الخمار كان يسمى بحنين وأن
المرأة المحتالة قالت له إنها أم حنين الخمار الذي كان يعامله حتى أخذت الدرهمين
ثم هربت منه وذكر الأبيات الثلاثة التي تقدمت وبعدها ( عاهدتْ زوجَها وقد قال إنِّي ... سوف
أغدُو لحاجتي ولِدَيْنِي ) ( فدَعَتْ كالحِصَانِ أبيضَ جَلْداً ... وافرَ الأَيْرِ مُرْسَلَ
الخُصْيَتَيْنِ ) ( قال ما أَجْرُذا هُدِيت فقالت ... سوف أُعطيك أجْرَه مَرَّتين ) ( فأبدِأ الآنَ
بالسِّفَاحِ فلمّا ... سافحْته أرْضَتْه بالأُخْرَيَيْنِ ) ( تَلَّها للجَبِينِ ثُمَّ امتطاها
... عَالِمُ الأَيْر أفْحَجُ الحالبين
) ( بينما ذاك منهما وهي تحوِي ... ظهرَه بالبَنَانِ
والمِعْصَمَيْنِ ) ( جاءها زَوْجُها وقد شام فيها ... ذا انتصابٍ مُوَثَّقَ
الأَخْدَعَيْنِ ) ( فتأسَّى وقال وَيْلٌ طويلٌ ... لِحُنَيْنٍ من عارِ أُمِّ
حُنَيْنِ ) قال فجاء حنين الخمار فقال له يا هذا ما أردت بهجائي وهجاء أمي قال أخذت
مني درهمين ولم تعطني شرابا قال والله ما تعرفك أمي ولا أخذت منك شيئا قط فانظر
إلى أمي فإن كانت هي صاحبتك غرمت لك الدرهمين قال لاوالله ما أعرف غير أم حنين ما
قالت لي إلا ذلك ولا أهجو إلا أم حنين وابنها فإن كانت أمك فإياها أعني وإن كانت
أم حنين أخرى فإياها أعني فقال أذا لا يفرق الناس بينهما قال فما علي أذا أترى
درهمي يضيعان فقال له هلم إذا أغرمهما لك وأقم ما تحتاج إليه لا بارك الله لك ففعل
كان يرفض القليل من العطاء قال عبد الله وحدثني أبو عمرو قال كان العريان بن
الهيثم النخعي صديقا للأقيشر فقال له يا أقيشر إني أريد أن أمتد الى الشأم فأكتبني
من ملحك فأكتبه فخرج إلى الشأم فأصاب مالا فبعث الى الأقيشر بخمسين درهما ففعل
وقال هات قال المولى على أن تهجوه إذ وضع منك قال نعم فأعطاه خمسين درهما وقال
الأقيشر ( وسألتَني يومَ الرَّحِيلِ قصائداً ... فَملأْتُهُنَّ قصائداً وكتَابَا ) ( إنَّي
صَدَقتُك إذ وجدتُك صادقاً ... وكَذَبْتَني فوجدتَني كَذّابا ) ( وفتحتُ باباً للخِيانةِ عامداً ...
لَمّا فتحتَ من الخِيانةِ بابا
) وكان أبو العريان على الشرطة فخافه الأقيشر من هجاء
ابنه وبلغ الهيثم هذه الأبيات فبعث إليه بخمسمائة درهم وسأله الكف عن ابنه وألا يشهره
فأخذها وفعل قال أبو عمرو وخطب رجل من حضرموت امرأة من بني أسد فأقبل يسأل عنها
وعن حسبها وأمهاتها حتى جاء الأقيشر فسأله عنها فقال له من أين أنت قال من حضرموت فأنشأ
يقول ( حَضْرَمَوْتٌ فَتَّشَتْ أحسابنَا ... وإلينا حَضْرَمَوْتٌ تَنْتَسِبْ ) ( إخوةُ
القِرْدِ وهم أعمامُه ... بَرِئتْ منكم إلى الله العَرَبْ ) أخبرني الحسن بن علي عن أبي أيوب
المديني قال قال أبو طالب الشاعر حدثني رجل من بني أسد قال سمعت عمة الأقيشر تقول
له يوما اتق الله وقم فصل فقال لا أصلي فأكثرت عليه فقال قد أبرمتني فاختاري خصلة
من خصلتين إما أن أصلي ولا أتطهر وإما أن أتطهر ولا أصلي قالت قبحك الله فإن لم
يكن غير هذا فصل بلا وضوء كان يحتال على رجال الشرطة فيتخلص منهم قال أبو أيوب
وحدثت أنه شرب يوما في بيت خمار بالحيرة فجاء شرطي من شرط الأمير ليدخل عليه فغلق
الباب دونه فناداه الشرطي اسقني نبيذا وأنت آمن فقال والله ما آمنك ولكن هذا ثقب
في البال فاجلس عنده وأنا أسقيك منه ثم وضع له أنبوبا من قصب في الثقب وصب فيه
نبيذا من داخل والشرطي يشرب من خارج الباب حتى سكر فقال الأقيشر ( سأل الشُّرْطِيُّ
أن نَسْقِيَه ... فَسَقيناه بأنبوب القَصَبْ ) ( إنما نشرَب من أموالنا ... فسَلُوا
الشُّرْطِيِّ ما هذا الغضب ) أخبرني عمي عن الكراني عن قعنب بن المحرز وحدثنا محمد بن خلف
عن أبي أيوب المديني عن قعنب بن الهيثم بن عدي قال كان قيس بن محمد بن الأشعث ضرير
البصر فأتاه الأقيشر فسأله فأمر قهرمانه فأعطاه ثلاثمائة درهم فقال لاأريدها جملة
ولكن مر القهرمان أن يعطيني في كل يوم ثلاثة دراهم حتى تنفذ فكان يأخذها منه فيجعل
درهما لطعامه ودرهما لشرابه ودرهما لدابة تحمله إلى بيوت الخمارين فلما نفذت
الدراهم أتاه الثانية فسأله فأعطاه وفعل مثل ذلك وأتاه الثالثة فأعطاه وفعل مثل
ذلك وأتاه الرابعة فسأله فقال له قيس لا أبا لك كأنك قد جعلت هذا خراجا علينا فانصرف
وهو يقول ( ألم تَرَ قيسالأَكْمَهَ ابنَ محمد ... يقول ولا تلقَاه للخير يَفْعَلُ ) ( رأيتُكَ أعمَى
العَيْنِ والقلبِ مُمْسِكاً ... وما خيرُ أعمى العينِ والقلب يبخَلُ ) ( فلو صَمَّ
تَمّتْ لَعْنةُ الله كلُّها ... عليه وما فيه من الشرِّ أفضلُ ) فقال قيس لو نجا
أحد من الأقيشر لنجوت منه اخبرني أبو الحسن الأسدي عن العنزي عن محمد بن معاوية
قال اختصم قوم بالكوفة في أبي بكر وعمر وعثمان وعلي فقالوا نجعل بيننا أول من يطلع
علينا فطلع الأقيشر عليهم وهو سكران فقال بعضهم لبعض انظروا من حكمنا فقالوا يا
أبا معرض قد حكمناك قال فيماذا فأخبروه فمكث ساعة ثم أنشأ يقول ( إذا صَلَّيتُ
خمساً كلَّ يومٍ ... فإنّ الله يغفِر لي فُسوقِي ) ( ولم أُشْرِكْ بربّ الناس شيئاً ...
فقد أمسكتُ بالحَبْلِ الوثيقِ )
( وهذا الحقُّ ليس به خَفَاءٌ ... ودَعْنِي من بُنَيّات
الطَّريقِ ) قال محمد بن معاوية وتزوج الأقيشر ابنة عم له يقال لها الرباب على أربعة آلاف
درهم ويقال على عشرة آلاف درهم فأتى قومه فسألهم فلم يعطوه شيئا فأتى ابن رأس
البغل وهو دهقان الصين وكان مجوسيا فسأله فأعطاه الصداق فقال الأقيشر ( كفاني
المَجُوسيُّ مَهْرَ الرَّبابِ ... فِدًى للمجوسيِّ خالي وعمّ ) ( شَهِدتُ بأنّك رَطْبُ المُشَاشِ ...
وأنّ أباك الجوادُ الخِضَمّ ) (
وأنَّك سيِّدُ أهلِ الجحيم ... اذا ما تَرَدَّيْتَ فيمن
ظَلَم ) ( تُجَاوِرُ قارونَ في قَعْرِها ... وفِرْعَوْنَ والمُكْتَنَى بالحَكَمْ ) فقال له المجوسي
ويحك سألت قومك فلم يعطوك وجئتني فأعطيتك فجزيتني هذا القول ولم أفلت من شعرك وشرك
قال أوما ترضى أن جعلتك مع الملوك وفوق أبي جهل ثم جاء إلى عكرمة بن ربعي التميمي
فلم يعطه فقال فيه ( سألتُ رَبِيعةَ مَنْ شَرُّها ... أباً ثم أُمّاً فقالوا لِمَهْ ) ( فقلتُ
لأَعْلَمَ مَنْ شَرُّكُمْ ... وأجعلَ بالسبِّ فيه سِمَه ) ( فقالوا لعِكْرِمةَ المُخْزِياتُ ...
وماذا يرى الناسُ في عِكْرمَهْ
) ( فإنْ يَكُ عبداً زَكَا مالُه ... فما غيرُ ذا فيه من
مَكْرُمَهْ ) شرب بثيابه حتى غلقت قال ابن الكلبي وشرب الأقيشر في حانة خمار حتى أنفد مامعه
ثم شرب بثيابه حتى غلقت فلم يبق عليه شيء وجلس في تبن إلى جانب البيت إلى حلقه
مستدفئا به فمر رجل به ينشد ضالة فقال اللهم اردد عليه واحفظ علينا فقال له الخمار
سخنت عينك أي شيء يحفظ عليك ربك قال هذا التبن لا تأخذه فأموت من البرد فضحك
الخمار ورد عليه ثيابه وقال اذهب فاطلب ما تشرب به ولا تجئني بثيابك فإني لا
أشتريها بعد ذلك قال ابن الكلبي واجتاز الأقيشر برجل يقال له هشام وكان على شرطة
عمرو بن حريث وهو سكران فدعا به فقال له أنت سكران قال لا قال فما هذه الرائحة قال
أكلت سفرجلا ثم قال ( يقولون لي اِنْكَهْ شَرِبتَ مُدامةً ... فقلت كذبتمْ بل أكلتُ
سفرجلا ) فضحك منه ثم قال فإن لم تكن سكران فأخبرني كم تصلي في كل يوم فقال ( يسائلني هشامٌ عن
صلاتي ... صلاةِ المسلمين فقلتُ خمسُ
) ( صلاةُ العصرِ والأولى ثَمَانٍ ... مُوَاتَرةٌ فما
فيهنّ لَبْسُ ) ( وعند مَغِيبِ قَرْنِ الشمس وِترٌ ... وشَفْعٌ بعدها فيهنّ
حَبسُ ) ( وغُدْوةً اثنتانِ معاً جميعاً ... ولمّا تبدُ للرائين شَمْسُ ) ( وبعدهما
لوقتهما صَلاةٌ ... لِنُسْكٍ بالضَّحَاء إذا نَبُسُّ ) ( أأحصيتُ الصلاةَ أيا هشاماً ...
فذاك مُكَدَّرُ الأخلاقِ جبْسُ
) ( تَعَوَّد أن يُلامَ فليس يوماً ... بحامده من
الأقوامِ إنْسُ ) قال فضحك هشام وقال بلى قد أخبرتنا يا أبا معرض فانصرف راشدا أخبرني
محمد بن الحسن بن دريد عن أبي عبيدة قال قدم رجل من بني سلول على قتيبة بن مسلم
بكتاب عامله على الري وهو المعلى بن عمرو المحاربي فرآه على الباب قدامه بن جعدة
بن هبيرة المخزومي وكان صديقا لقتيبة فدخل عليه فقال له ببابك ألأم العرب سلولي
رسول محاربي إلى باهلي فتبسم قتيبة تبسما فيه غيظ وكان قدامة بن جعدة يتهم بشرب
الخمر وكان الأقيشر ينادمه فقال قتيبة ادعوا لي مرداس بن جذام الأسدي فدعي فقال له
أنشدني ما قال الأقيشر في قدامة بن جعدة وهو بالحيرة فأنشده قوله ( رُبَّ نَدْمانٍ
كريمٍ ماجدٍ ... سَيِّدِ الجَدَّيْنِ من فَرْعَيْ مُضَرْ ) ( قد سَقَيْتُ الكأسَ حتى هَرَّها ...
لم يُخَالِطْ صَفوَها منه كَدَرْ
) ( قلتُ قُمْ صَلِّ فصلَّى قاعداً ... تتغشّاه سماديرُ
السَّكَرْ ) ( قرَنَ الظُّهْرَ مع العصر كما ... تُقْرَنُ الحِقَّةُ بالحِقِّ
الذَّكَرْ ) ( تَرَكَ الفجرَ فما يَقْرَؤها ... وقرا الكَوْثَرَ من بين
السُّوَرْ ) قال فتغير لون وجه القرشي وخجل فقال له قتيبة هذه بتلك والبادىء أظلم أخبرني
الأخفش عن محمد بن الحسن بن الحرون قال حدثنا الكسروي عن الأصمعي قال قال عبد
الملك للأقيشر أنشدني أبياتك في الخمر فأنشده قوله ( تُرِيك القَذَى من دونها وهي دونه ...
لِوَجْهِ أخيها في الإناء قُطوبُ
) ( كُمَيْتٌ إذا فُضَّتْ وفي الكأسِ وَرْدةٌ ... لها في
عِظام الشاربين دبيبُ ) فقال له أحسنت يا أبا معرض ولقد أجدت وصفها وأظنك قد شربتها فقال
والله يا أمير المؤمنين إنه ليريبني منك معرفتك بهذا كان ندماؤه يختبئون منه عندما
تنفد دراهمه أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد بن إسحاق عن ابن الكلبي عن رجل من الأزد
قال كان الأقيشر يأتي إخوانا له يسألهم فيعطونه فأتى رجلا منهم فأمر له بخمسمائة
درهم فأخذها وتوجه إلى الحانة ودفعها إلى صاحبها وقال له أقم لي ما أحتاج إليه
ففعل ذلك وانضم إليه رفقاء له فلم يزل معهم حتى نفدت الدراهم فأتاهم بعد إنفاقها
بيوم ثم أتاهم من غد فاحتملوه فلما أتاهم في اليوم الثالث نظر إليه أصحابه من بعيد
فقالوا لصاحب الحانة أصعدنا إلى غرفتك هذه وأعلم الأقيشر أنا لم نأت اليوم فلما
جاء الأقيشر أعلمه ما قالوه له فعلم الأقيشر أنه لا فرج له عند صاحب الحانة إلا
برهن فطرح إليه ثيابه وقال له أقم لي ما أحتاج إليه ففعل فلما أخذ فيه الشراب أنشأ
يقول ( يا خَلِيلَيّ اسْقِيانِيَ كاسَا ... ثم كأساً حتّى أخِرّ نُعَاسَا ) ( إنّ في
الغُرْفةِ التي فوق رأسي ... لأُناساً يُخادِعون أُناسا ) ( يشرَبون المُعَتَّقَ الراحَ صِرْفاً
... ثم لا يرفَعون بالزَّوْرِ راسا
) فلما سمع أصحابه هذا الشعر فدوه بآبائهم وأمهاتهم ثم
قالوا له إما أن تصعد إلينا أو ننزل إليك فصعد إليهم أخبرني الحسن بن علي عن ابن
مهرويه قال حدثني أبو مسلم المستملي عن المدائني قال مدح الأقيشر بشر بن مروان
ودخل إليه فأنشده القصيدة وعنده أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي فقال أيمن هذا والله
كلام حسن من جوف خرب فأجابه بالبيت المذكور وقال أبو عمرو أيضا في خبره فلما صار
الأقيشر إلى منزله بعث عمه فأخذ منه الألف الدرهم وقال والله لا أخليك تفسدها
وتشرب بها الخمر قال فتصنع بها ماذا قال أكسوك واكسو عيالك وأعد لك قوت عامك فتركه
ودخل على بشر فقال له ( أَبلِغْ أبا مَرْوانَ أنّ عطاءه ... أزاغ به مَنْ ليس لي
بعِيالِ ) قال ومن ذلك فأخبره الخبر فأمر صاحب شرطته أن يحضر عمه وينتزع منه الألف
الدرهم ويسلمها إليه وقال خذها ونحن نقوم لعيالك بما يصلحهم أخبرني هاشم بن محمد
عن أبي غسان دماذ عن أبي عبيدة قال مر الأقيشر بخمارة بالحيرة يقال لها دومة فنزل
عندها فاشترى منها نبيدا ثم قال لها جودي لي الشراب حتى أجيد لك المدح ففعلت فأنشأ
يقول ( ألاَ يا دَوْمَ دامَ لك النَّعِيمُ ... وأسْمَرُ مِلءُ كَفِّكِ مستقيمُ ) ( شديدُ الاسْرِ
يَنْبِضُ حالباه ... يُحَمُ كأنّه رجلٌ سقيمُ ) ( يُرَوِّيه الشرابُ فيَزْدَهِيهِ ...
ويَنْفُخُ فيه شيطانٌ رجيمُ ) قال فسرت به الخمارة وقالت ما قيل في أحسن من هذا ولا أسر لي
منه أخبرني أبو الحسن الأسدي عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن أيوب بن عباية قال كان
فاتك بن فضالة بن شريك الأسدي كريما على بني أمية وهو الوافد على عبد الملك بن
مروان قبل أن ينهض الى حرب ابن الزبير فضمن له على أهل العراق طاعتهم وتسليم
بلادهم إليه وأن يسلموا مصعبا إذا لقيه ويتفرقوا عنه وله يقول الأقيشر في هذه
الوفادة ( وَفَد الوفودُ فكنتَ أفضلَ وافدٍ ... يا فاتِكُ بنَ فَضَالةَ بنِ شِرّيكِ ) هجوه بني تميم
أخبرني علي بن سليمان الأخفش عن السكري قال حدثني ابن حبيب قال ولي الكوفة رجل من
بني تميم يقال له مطر فلما علا المنبر انكسرت الدرجة من تحته فسقط عنها فقال
الأقيشر ( أبنَي تَمِيمٍ ما لِمِنْبَرِ مُلْكِكُمْ ... ما يَستقِرّ قرارُه يَتَمَرْمَرُ ) ( إنَّ المنابرَ
أنكرتْ أستاهَكم ... فادعُوا خُزَيْمةَ يَسْتَقِرَّ المنبرُ ) أخبرني محمد بن مزيد عن حماد بن إسحاق
عن أبيه عن عاصم بن الحدثان قال مر رجل من محارب يقال له قريظة بن يقظة بالأقيشر
الأسدي وهو في مجلس من مجالس بني أسد فسلم على الأقيشر وكان به عارفا فقال له
القوم من هذا يا أبا معرض وكان مخمورا فقال ( ومَنْ لي بأنْ أسطيعَ أن أذكُرَ اسْمَه
... وأَعْيا عِقالاً أن يُطِيقَ له ذِكرا ) قال فضحك القوم وقالوا سبحان الله أي
شيء تقول فقال اسمه ونسبه أعظم من أن أقدر على ذكرهما في يوم فإن شئتم سميته اليوم
ونسبته غدا وإن شئتم نسبته اليوم وسميته غدا قالوا هات اسمه اليوم فقال قريظة فقال
رجل منهم ينبغي أن يكون ابن يقظة فقال الأقيشر صدقت والله وأصبت ولقد أثقلني اسمه
حين ذكرته أن أقول نعم فبلغ قريظة قوله وكان شاعرا فقال ( لِسَانُك من سُكْرٍ ثقيلٌ عن التُّقَى
... ولكنّه بالمُخْزِيات طليقُ
) ( وأنتَ حَقيقٌ يا أُقَيْشِرُ أن تُرَى ... كذاك إذا
ما كنتَ غيرَ مُفِيقِ ) ( تَسَفُّ من الصهباء صِرفاً تَخالُها ... جَنَى النَّحلِ
يُهْدِيه إليكَ صديقُ ) فبلغ الأقيشر قول المحاربي وكان يكنى أبا الذيال فأجابه فقال ( عَدمْت أبَا
الذيَّالِ من ذِي نَوَالةٍ ... له في بيوتِ العاهراتِ طريقُ ) ( أبِالخَمْرِ عَيَّرْتَ أمْرَأً ليس
مُقْلِعاً ... وذلك رأيٌ لو عَلِمْتَ وثيقُ ) ( سأشرَبُها ما دُمْتُ حيّاً وإن
أمُتْ ... ففي النَّفْسِ منها زَفرةٌ وشهيقُ ) شعر له في توبته من الخمر أخبرني إسماعيل
بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال بلغني أن الرشيد سمع ليلة رجلا يغني ( إنْ كانتِ الخمرُ
قد عَزّتْ وقد مُنِعتْ ... وحال من دونها الإسلامُ والحَرَجُ ) ( فقد أباكِرُها صِرْفاً وأشْربَهُا
... أَشْفِي بها غُلَّتِي صِرْفاً وأمْتَزِجُ ) ( وقد تقومُ على رأسي مُغَنِّيةٌ ...
لها إذا رَجَّعَتْ في صوتها غُنُجُ
) ( وترفَع الصوتَ أحياناً وتَخْفِضُه ... كما يَطِنّ
ذُبَابُ الرَّوْضةِ الهَزِجُ ) قال فوجه في أثر الصوت من جاءه بالرجل وهو يرعد فقال لا ترع
فإنما أعجبني حسن صوتك فقال والله يا أمير المؤمنين ما تغنيت بهذا الشعر إلا وأنا
قد تبت من شرب النبيذ وهذا شعر يقوله الأقيشر في توبته من النبيذ فقال له الرشيد
وما حملك على تركه قال خشية الله وإني فيه يا أمير المؤمنين كما قال زيد بن ظبيان ( جاءوا بقاقُزَّةٍ
صَفْراءَ مُتْرَعةٍ ... هل بين ذِي كَبْرَةٍ والخمرِ من نَسَبِ ) ( بئس الشَّرابُ
شراباً حين تَشْرَبُه ... يُوهِي العِظامَ وطوراً مُفْتِرُ العَصَبِ ) ( إنِّي أخافُ
مَلِيكِي أنْ يٌعَذِّبَني ... وفي العشيرةِ أن يُزْرِي على حَسَبِي ) فقال له الرشيد
أنت وما اخترت أعلم فأعد الصوت فأعاده وأمر بإحضار المغنين واستعاده وأمرهم بأخذه
عنه فأخذوه ووصله وانصرف وكان صوت الرشيد أياما هكذا ذكر إسماعيل بن يونس عن عمر
بن شبة في هذا الخبر أن الأبيات للأقيشر ووجدتها في شعر أبي محجن الثقفي له لما
تاب من الشراب باع حماره وشرب بثمنه أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا أبو سعيد عن
محمد بن حبيب قال كان القباع وهو الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة قد أخرج الأقيشر
مع قومه لقتال أهل الشأم ولم يكن عند الأقيشر فرس فخرج على حمار فلما عبر جسر سورا
فوصل لقرية يقال لها قنين توارى عند خمار نبطي يبرز زوجته للفجور فباع حماره وجعل
ينفقه هناك ويشرب بثمنه ويفجر إلى أن قفل الجيش وقال في ذلك ( خرجتُ من المِصْرِ الحَوَارِيِّ أهلُه
... بلا نَدْبَةٍ فيها أحتسابٌ ولا جُعْلِ ) ( إلى جَيْشِ أهلِ الشَّأْمِ
أُغْزِيتُ كارهاً ... سَفَاهاً بلا سيفٍ حديد ولا نَبْلِ ) ( ولكنْ بِتُرْسٍ ليس فيه حِمالةٌ ...
ورُمْحٍ ضَعيفِ الزُّجِّ مُنْصَدِعِ النَّصْلِ ) ( حَبَاني به ظُلْمُ القُبَاعِ ولم
أَجِدْ ... سوى أمرِه والسَّيْرِ شيئاً من الفِعْلِ ) ( فأزمعتُ أمْرِي ثم أصبحتُ غازياً
... وسَلّمتُ تسليمَ الغُزَاةِ على أهلي ) ( وقلتُ لَعَلِّي أنْ أُرَى ثَمَّ
راكباً ... على فرس أو ذَا مَتاعٍ على بَغْلِ ) ( جَوادِي حمارٌ كان حيناً لِظَهْرِه
... إكافٌ وإشناق المَزَادةِ والحبلِ
) ( وقد خان عينيه بياضٌ وخانَه ... قوائمُ سَوْءٍ حين
يُزْجَرُ في الوَحْلِ ) ( إذا ما انتَحَى في الماء والوَحْلِ لم تَرِمْ ... قوائمُه حتّى
يُؤَخَّرَ بالحِمْلِ ) ( أنادِي الرِّفاقَ بارَكَ الله فيكمُ ... رُوَيْدَكُمُ حتّى
أجوزَ إلى السَّهْلِ ) ( فسِرْنَا الى قنّين يوماً وليلةً ... كأنّا بَغَايَا ما
يَسِرْنَ الى بَعْلِ ) ( إذا ما نزلنا لم نَجِدْ ظِلَّ ساحةٍ ... سوى يابس الأنهار أو
سَعَفِ النخلِ ) ( مَرَرْنَا على سُورَاءَ نَسْمَع جِسْرَها ... يَئطّ نَقيضاً عن
سفائنه الفضلِ ) ( فلمّا بدا جسرُ السَّراةِ وأَعرضت ... لنا سُوق فُرَّاغِ
الحديثِ إلى شُغْلِ ) ( نزلنا إلى ظِلٍّ ظليلٍ وباءةٍ ... حَلالٍ برغم القلطمان وما
نفلِ ) ( يُشَارِطُه مَنْ شاء كان بدرهمٍ ... عَرُوساً بما بين السَّبيئة والنَّسْلِ ) ( فأتبعتُ
رُمْحَ السَّوْء سمية نصله ... وبِعْتُ حماري واسترحتُ من الثِّقْلِ ) ( تقول ظبايا قل
قليلا ألاليا ... فقلتُ لها إصوي فإنّي على رِسْلِ ) ( مهرت لها جرديقة فتركتُها ... بمرها
كطَرْفِ العين شائلةَ الرِّجْلِ
) ومما يغنى فيه من شعر الأقيشر صوت ( لاَ أَشْرَبَنْ
أبداً راحاً مُسَارَقةً ... إلاّ مع الغُرّ أبناءِ البَطَاريقِ ) ( أفنَى
تِلاَدِي وما جَمَّعتُ من نَشَبٍ ... قَرْعُ القَوَاقيزِ أفواهُ الأباريقِ ) الغناء لحنين
هزج بالبنصر عن عمرو وفيه لعمر الوادي رمل بالبنصر عن الهشامي وفيه ثقيل أول ينسب
إلى حنين وعمر وحكم جميعا وهذا الغناء المذكور من قصيدة للأقيشر طويلة أولها ( إنِّي يذكِّرني
هنداً وجارتَها ... بالطَّفِّ صوتُ حَمامات عل نيق ) صوت ( دَعاني دَعْوةً والخيلُ تَرْدِي ...
فلا أدرِي أبِاسْمِي أمْ كَنَانِي
) ( وكانَ إجَابتي إيَّاهُ إِنِّي ... عَطَفْتُ عليه
خَوَّارَ العِنَانِ ) الشعر لابن الغريزة النهشلي والغناء ليحيى المكي رمل بالوسطى
عن الهشامي وقد جعل المغنون معه هذا البيت ولم أجده في قصيدته ولا أدري أهو له أم لغيره
( أَلاَ
يا مَن لِذَا البَرْقِ اليَمَانِي ... يلوحُ كأنّه مِصْباحُ بانِ ) التالي بمشيئة الله ج22و23و24.