Translate

الجمعة، 22 نوفمبر 2024

ج34وج35وج36..كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني

 

ج34وج35وج36..كتاب:الأغاني لأبي

 الفرج الأصفهاني

  إن قبر ذي الرمة بأطراف عناق من وسط الدهناء مقابل الأواعس وهي أجبل شوارع يقابلن الصريمة صريمة النعام وهذا الموضع لبني سعد ويختلط معهم الرباب قال هارون وحدثني هارون بن مسلم عن الزيادي عن العلاء بن برد قال ما كان شيء أحب إلى ذي الرمة إذا ما ورد ماء من أن يطوي ولا يسقي فأخبرني مخبر أنه مر بالجفر وقد جهده العطش قال فسمعته يقول ( يا مخرجَ الرّوح من جِسْمي إذا احتُضِرتْ ... وفارجَ الكرْب زَحْزِحْنِي عن النار ) ثم قضى أخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن عيسى بن عمر قال كان ذو الرمة ينشد الشعر فإذا فرغ قال والله لأكسعنك بشيء ليس في حسابك سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أخبرني الحسن بن علي ووكيع عن أبي أيوب قال حدثني أبو معاوية الغلابي قال كان ذو الرمة حسن الصلاة حسن الخشوع فقيل له ما أحسن صلاتك فقال إن العبد إذا قام بين يدي الله لحقيق أن يخشع نسخت من كتاب عبيد الله اليزيدي قال حدثني عبد الرحمن عن عمه عن أبي عمرو بن العلاء قال كان مسعود أخو ذي الرمة يمشي معي كثيرا إلى منزلي فقال لي يوما وقد بلغ قريبا من منزلي أنا الذي أقول في أخي ذي الرمة ( إلى الله أشكو لا إلى الناس إنني ... ولَيْلى كلانا مُوجَعٌ مات وافدُهْ ) فقلت له من ليلى فقال بنت أخي ذي الرمة ذكر خبر إبراهيم في هذه الأصوات الماخورية أخبرني أحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة عن إسحاق الموصلي عن أبيه قال صنعت لحنا فأعجبني وجعلت أطلب له شعرا فعسر ذلك علي فأريت في المنام كأن رجلا لقيني فقال لي يا إبراهيم أوقد أعياك شعر لغنائك هذا الذي تعجب به قلت نعم قال فأين أنت من قول ذي الرمة ( ألا يا اسْلَمي يا دارَ ميّ على البِلَى ... ولا زال مُنْهَلاَّ بجرعائكِ القَطَرُ ) قال فانتبهتُ فرحاً بالشعر فدعوت من ضرب علي فغنيته فإذا هو أوفق ما خلق الله فلما علمت هذا الغناء في شعر ذي الرمة نبهت عليه وعلى شعره فصنعت فيه ألحانا ماخورية منها ( أَمَنْزِلَتيْ مَيٍّ سلامٌ عليكما ... هل الأزمُنِ اللائي مَضَيْنَ رَواجعُ ) وغنيت بها الهادي فاستحسنها وكاد يطير فرحا وأمر لكل صوت بألف دينار نسبة ما في هذا الخبر من الغناء صوت ( ألا يا اسلَمي يا دارَ ميّ على البِلَى ... ولا زال مُنهلاً بجرعائكِ القَطْرُ ) ( ولو لم تكوني غير شامٍ بقفرةٍ ... تجرُّ بها الأذيالُ صيفِيَّةٌ كُدرُ ) عروضه من الطويل وقوله يا اسلمي ها هنا نداء كأنه قال يا دار مي اسلمي ويا هذه اسلمي يدعو لها بالسلامة ومثله قول الله عز و جل ( ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ) فسره أهل اللغة هكذا كأنه قال يا قوم اسجدوا لله ومي ترخيم مية إلا أنه أقامه ها هنا مقام الاسم الذي لم يرخم فنونه وقوله على البلى أي اسلمي وإن كنت قد بليت والمنهل الجاري يقال انهل المطر انهلالا إذا سال والجرعاء والأجرع من الرمل الكثير الممتد والشام موضع يخالف لون الأرض وهو جمع واجدته شامة والقفر ما لم يكن فيه نبات ولا ماء تجر بها الأذيال صيفية يعني الرياح الصيفية الحارة وأذيالها مآخيرها التي تسفي التراب على وجه الأرض شبهها بذيل المرأة وعني بها أوائلها والكدر التي فيها الغبرة من القتام والفجاج فهي تعفي الآثار وتدفنها غناه إبراهيم الموصلي ماخوريا بالوسطى ومنها صوت ( أمَنزلَتيْ ميٍّ سَلامٌ عليكما ... هل الأزْمُنُ اللائي مَضينَ رواجعُ ) ( وهل يرجعُ التّسليمَ أو يكشف العَمى ... ثلاثُ الأثافي والدِّيارُ البلاقع ) ( توهمتُها يوماً فقلتُ لصاحبي ... وليس لها إلاَّ الظباءُ الخواضعُ ) ( ومَوْشِيَّةٌ سُحْمُ الصّياصِي كأنها ... مُجَلَّلةٌ حُوٌّ عليها البراقعُ ) عروضه من الطويل غناه إبراهيم ماخوريا بالوسطى والأزمن والأزمان جمع زمان والعمى الجهالة والأثافي الثلاث هي الحجارة التي تنصب عليها القدر واحدتها أثفية والخواضع من الظباء اللاتي قد طأطأت رؤوسها والموشية يعني البقر والصياصي القرون واحدتها صيصية والمجللة التي كأن عليها جلالا سودا والحوة حمرة في سواد ومما يغنى فيه من هذه القصيدة قوله صوت ( قِفِ العَنْسَ ننظُرْ نظرةً في ديارها ... وهل ذاك من داء الصبابة نافعُ ) ( فقال أما تغشى لِميّةَ منزلا ... من الأرض إلا قُلتَ هل أنا رابعُ ) ( وقلّ لأطلالٍ لميٍَّ تحيَّةٌ ... تُحيَّا بها أو أن تُرِشّ المدامعُ ) العنس الناقة والرابع المقيم وقل لأطلال أي ما أقل لهذه الأطلال مما أفعله وترش المدامع أي تكثر نضحها الدموع غناه إبراهيم الموصلي ماخوريا وذكر ابن الزيات عن محمد بن صالح العذري عن الحرمازي قال مر الفرزدق على ذي الرمة وهو ينشد ( أمنزلتي ميٍّ سلام عليكما ... ) فلما فرغ قال له يا أبا فراس كيف ترى قال أراك شاعرا قال فما أقعدني عن غاية الشعراء قال بكاؤك على الدمن ووصفك القطا وأبوال الإبل حدثني ابن عمار والجوهري وحبيب المهلبي عن ابن شبة عن إسحاق الموصلي عن مسعود بن قند قال تذاكرنا ذا الرمة يوما فقال عصمة بن مالك إياي فاسألوا عنه قال كان حلو العينين حسن النغمة إذا حدث لم تسأم حديثه وإذا أنشدك بربر وجش صوته جمعني وإياه مربع مرة فقال لي هيا عصمة إن مية من منقر ومنقر أخبث حي وأقفاه لأثر وأثبته في نظر وأعلمه بشر وقد عرفوا آثار إبلي فهل عندك من ناقة نزدار عليها مية قلت إي والله عندي الجؤذر بنت يمانية الجدلي قال فعلي بها فأتيته بها فركب وردفته فأتينا محلة مية والقوم خلوف والنساء في الرحال فلما رأين ذا الرمة اجتمعن إلى مي وأنخنا قريبا وأتيناهن فجلسن إليهن فقالت ظريفة منهن أنشدنا يا ذا الرمة فقال لي أنشدهن يا عصمة فأنشدت قصيدته التي يقول فيها ( نظرتُ إلى أظعانِ مَيٍّ كأنها ... ذُرا النّخْل أو أثلٌ تميل ذوائبُهْ ) ( فأسبلت العينان والقلبُ كاتمٌ ... بمُغْرَوْرِقٍ نَمَّت عليه سَوَاكِبُهْ ) ( بكاء فتًى خاف الفِراقَ ولم تُجِلْ ... حوائلَها أسرارُه ومعاتبُهْ ) قالت الظريفة فالآن فلتجل ثم أنشدت حتى أتيت على قوله ( وقد حلفتْ بالله ميّة ما الذي ... أحدّثها إلاّ الذي أنا كاذبُهْ ) ( إذاً فرمانِي الله من حيثُ لا أرى ... ولا زال في أرضي عدوٌّ أحارِبُهْ ) فقالت مية ويحك يا ذا الرمة خف الله وعواقبه ثم أنشدت حتى أتيت على قوله ( إذا سَرحَتْ من حبّ ميٍّ سوارحٌ ... على القلب أبَّتْه جميعاً عوازِبُهْ ) فقالت الظريفة قتلته قتلك الله فقالت مية ما أصحه وهنيئا له فتنفس ذو الرمة تنفيسة كاد حرها يطير بلحيتي ثم أنشدت حتى أتيت على قوله ( إذا نازعتْك القولَ ميّةُ أو بدَا ... لك الوجهُ منها أو نضا الدِّرعَ سالبُهْ ) ( فما شئتَ من خدٍّ أسيلٍ ومنطقٍ ... رخيمٍ ومن خَلْقٍ تَعلّل جادبُه ) فقالت الظريفة فقد بدا لك الوجه وتنوزع القول فمن لنا بأن ينضو الدرع سالبه فقالت لها مية قاتلك الله فماذا تأتين به فتضاحكت الظريفة وقالت إن لهذين لشأنا فقوموا بنا عنهما فقامت وقمن معها وقمت فخرجت وكنت قريبا حيث أراهما وأسمع ما ارتفع من كلاميهما فوالله ما رأيته تحرك من مكانه الذي خلفته فيه حتى ثاب أوائل الرجال فأتيته فقلت انهض بنا فقد ثاب القوم فودعها فركب وردفته وانصرفنا ومنها صوت ( إذا هَبَّتِ الأرْواحُ من أيِّ جانبٍ ... به أهلُ ميٍّ هاج قلبي هُبُوبُها ) ( هوًى تذرِف العينانِ منه وإنما ... هوى كلُّ نفس حيثُ كان حبيبُها ) الغناء لابراهيم ماخوري بالوسطى عن الهشامي صوت ( إني تُذكِّرني الزُّبيرَ حمامةٌ ... تدعُو بمجمعِ نخلتين هَديلا ) ( أفَتى النَّدى وفَتَى الطِّعان قتلتُم ... وفَتَى الرِّياح إذا تَهُبُّ بَلِيلا ) ( لو كنت حُرّاً يابن قينِ مجاشعٍ ... شيَّعْتُ ضيْفَك فَرْسخاً أو مِيلاً ) وفي أخرى فرسخين وميلا ( قالت قريشٌ ما أذلَّ مُجاشعاً ... جاراً وأكرم ذا القتيل قتيلا ) الشعر لجرير يهجو الفرزدق ويعيره بقتل عشيرته الزبير بن العوام يوم الجمل والغناء للغريض ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو ذكر مقتل الزبير وخبره الزبير وعلي بن أبي طالب حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار وأحمد بن عبد العزيز عن ابن شبة قالا حدثنا المدائني عن أبي بكر الهذلي عن قتادة قال سار أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه من الزاوية يريد طلحة والزبير وعائشة وصاروا من الفرضة يريدونه فالتقوا عند قصر عبيد الله بن زياد يوم الخميس النصف من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين فلما تراءى الجمعان خرج الزبير على فرس وعليه سلاحه فقيل لعلي صلوات الله عليه هذا الزبير فقال أما والله إنه أحرى الرجلين إن ذكر بالله أن يذكره وخرج طلحة وخرج علي عليه السلام إليهما فدنا منهما حتى اختلفت أعناق دوابهم فقال لهما لعمري لقد أعددتما خيلا ورجالا إن كنتما أعددتما عند الله عذرا فاتقيا الله ولا تكونا ( كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ) ألم أكن أخاكما في دينكما تحرمان دمي وأحرم دماءكما فهل من حدث أحل لكما دمي فقال له طلحة ألبت الناس على عثمان فقال يا طلحة أتطلبني بدم عثمان فلعن الله قتلة عثمان يا زبير أتذكر يوم مررت مع رسول الله وآله في بني غنم فنظر إلي وضحك وضحكت إليه فقلت لا يدع ابن أبي طالب زهوه فقال مه ليس بمزهو ولتقاتلنه وأنت له ظالم فقال اللهم نعم ولو ذكرت ما سرت مسيري هذا والله لا أقاتلك أبدا وانصرف علي صلوات الله عليه إلى أصحابه وقال أما الزبير فقد أعطى الله عهدا ألا يقاتلني قال ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها ما كنت في موطن مذ عقلت إلا وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا قالت وما تريد أن تصنع قال أدعهم وأذهب فقال له ابنه عبد الله أجمعت بين هذين الغارين حتى إذا حدد بعضهم لبعض أردت أن تذهب وتتركهم أخشيت رايات ابن أبي طالب وعلمت أنها تحملها فتية أنجاد فأحفظه فقال إني حلفت ألا أقاتله قال كفر عن يمينك وقاتله فدعا غلاما له يدعى مكحولا فأعتقه فقال عبد الرحمن بن سليمان التيمي ( لم أر كاليوم أخا إخوانِ ... أعجَبَ من مُكَفِّر الأيْمانِ ) ( بالعِتقِ في مَعْصِيَةِ الرَّحمنِ ... ) وقال بعض شعرائهم ( يُعتِق مَكْحولاً لصَوْنِ دِينِهْ ... كفّارةً لِلَّه عن يمينهْ ) ( والنَّكْثُ قد لاح على جَبِينِهْ ... ) حدثني ابن عمار والجوهري قال حدثنا ابن شبة عن علي بن محمد النوفلي عن الهذلي عن قتادة قال وقف الزبير على مسجد بني مجاشع فسأل عن عياض بن حماد فقال له النعمان بن زمام هو بوادي السباع فمضى يريده حدثني ابن عمار والجوهري عن عمر قال حدثني المدائني عن أبي مخنف عمن حدثه عن الشعبي قال خرج النعمان مع الزبير حتى بلغ النجيب ثم رجع قال وحدثنا عن مسلمة بن محارب عن عوف وعن أبي اليقظان قالا مر الزبير ببني حماد فدعوه إلى أنفسهم فقال اكفوني خيركم وشركم فوالله ما كفوه خيرهم وشرهم ومضى ابن فرتنى إلى الأحنف وهو بعرق سويقة فقال هذا الزبير قد مر فقال الأحنف ما أصنع به جمع بين غارين من المسلمين فقتل بعضهم بعضا ثم مر يريد أن يلحق بأهله فقام عمرو بن جرموز وفضالة بن حابس ونفيع بن كعب أحد بني عوف - ويقال نفيع بن عمير - فلحقوه بالعرق فقتل قبل أن ينتهي إلى عياض قتله عمرو بن جرموز حدثني أحمد بن عيسى بن أبي موسى العجلي الكوفي وجعفر بن محمد بن الحسن العلوي الحسني والعباس بن علي بن العباس وأبو عبيد الصيرفي قالوا حدثنا محمد بن علي بن خلف العطار قال حدثنا عمرو بن عبد الغفار عن سفيان الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عليه السلام قال حدثني ابن عباس قال قال لي علي صلوات الله عليه ائت الزبير فقل له يقول لك علي بن أبي طالب نشدتك الله ألست قد بايعتني طائعا غير مكره فما الذي أحدثت فاستحللت به قتالي وقال أحمد بن يحيى في حديثه قل لهما إن أخاكما يقرأ عليكما السلام ويقول هل نقمتما علي جورا في حكم أو استئثارا بفيء فقالا لا ولا واحدة منهما ولكن الخوف وشدة الطمع وقال محمد بن خلف في خبره فقال الزبير مع الخوف شدة المطامع فأتيت عليا عليه السلام فأخبرته بما قال الزبير فدعا بالبغلة فركبها وركبت معه فدنوا حتى اختلفت أعناق دابتيهما فسمعت عليا صلوات الله عليه يقول نشدتك الله يا زبير أتعلم أني كنت أنا وأنت في سقيفة بني فلان تعالجني وأعالجك فمر بي - يعني النبي فقال كأنك تحبه فقلت وما يمنعني قال أما إنه ليقاتلنك وهو لك ظالم فقال الزبير اللهم نعم ذكرتني ما نسيت وولى راجعا ونادى منادي علي ألا لا تقاتلوا القوم حتى يستشهدوا منكم رجلا فما لبث أن أتي برجل يتشحط في دمه فقال علي عليه السلام اللهم اشهد اللهم اشهد اللهم اشهد وأمر الناس فشدوا عليهم وأمر الصراخ فصرخوا لا تذففوا على جريح ولا تتبعوا مدبرا ولا تقتلوا أسيرا حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أيوب المخزومي عن سعيد بن محمد الجرمي عن أبي الأحوص عن عاصم بن بهدلة عن زر بن حبيش ولا أحسبه إلا قال كنت قاعدا عند علي عليه السلام فأتاه آت فقال هذا ابن جرموز قاتل الزبير بن العوام يستأذن على الباب قال ليدخلن قاتل ابن صفية النار إني سمعت رسول الله يقول ( إن لكل نبي حواري وإن حواري الزبير ) أخبرني الطوسي وحرمي عن الزبير عن علي بن صالح عن سالم بن عبد الله بن عروة عن أبيه أن عمرا أو عويمر بن جرموز قاتل الزبير أتى مصعبا حتى وضع يده في يده فقذفه في السجن وكتب إلى عبد الله بن الزبير يذكر له أمره فكتب إليه عبد الله بئس ما صنعت أظننت أني أقتل أعرابيا من بني تميم بالزبير خل سبيله فخلاه عاتكة ترثي الزبير أخبرني الطوسي والحرمي عن الزبير عن عمه قال قتل الزبير وهو ابن سبع وستين أو ست وستين سنة فقالت عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل ترثيه ( غَدَر ابنُ جُرْمُوزٍ بفارس بُهْمَةٍ ... يوم اللقاء وكان غيرَ مُعَرِّدِ ) ( يا عمرُو لو نَبَّهتَه لوجدَته ... لا طائشاً رَعِشَ اللسان ولا اليَدِ ) ( شَلّتْ يمينُك إن قتلتَ لمُسلِماً ... حَلَّت عليك عقوبةُ المُسْتَشْهِدَ ) ( إنَّ الزُّبير لذُو بلاءٍ صادقٍ ... سَمْحٌ سَجِيَّته كريمُ المَشْهَدِ ) ( كم غمرةٍ قد خاضها لم يَثْنِه ... عنها طِرادُك يابْنَ فَقْعِ القَرْدَدِ ) ( فاذهب فما ظَفِرت يداك بمثلِه ... فِيمن مضى مِمن يَروحُ ويَغْتَدِي ) وكانت عاتكة قبل الزبير عند عمر وقبل عمر عند عبد الله بن أبي بكر أخبرني بخبرها محمد بن خلف وكيع عن أحمد بن عمرو بن بكر قال حدثنا أبي قال حدثنا الهيثم بن عدي عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأخبرنا وكيع قال حدثني إسماعيل بن مجمع عن المدائني وأخبرني الطوسي والحرمي قالا حدثنا الزبير عن عمه عن أبيه وأخبرني اليزيدي عن الخليل بن أسد عن عمرو بن سعيد عن الوليد بن هشام بن يحيى الغساني وأخبرني الجوهري عن ابن شبة قال حدثنا محمد بن موسى الهذلي وكل واحد منهم يزيد في الرواية وينقص منها وقد جمعت رواياتهم قالوا تزوج عبد الله بن أبي بكر الصديق عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت امرأة لها جمال وكمال وتمام في عقلها ومنظرها وجزالة رأيها وكانت قد غلبته على رأيه فمر عليه أبو بكر أبوه وهو في علية يناغيها في يوم جمعة وأبو بكر متوجه إلى الجمعة ثم رجع وهو يناغيها فقال يا عبد الله أجمعت قال أوصلى الناس قال نعم - قال وقد كانت شغلته عن سوق وتجارة كان فيها - فقال له أبو بكر قد شغلتك عاتكة عن المعاش والتجارة وقد ألهتك عن فرائض الصلاة طلقها فطلقها تطليقة وتحولت إلى ناحية فبينا أبو بكر يصلي على سطح له في الليل إذ سمعه وهو يقول ( أعاتِكُ لا أنساكِ ما ذرَّ شارِقٌ ... وما ناح قُمْرِيُّ الحمامِ المُطَوَّقُ ) ( أعاتِكُ قلبِي كلَّ يوم وليلة ... لديك بما تُخفي النفوسُ مُعلَّقُ ) ( لها خُلُقٌ جَزْلٌ ورأيٌ ومنطقٌ ... وخَلْقَ مصونٌ في حياءٍ ومصدَقُ ) ( فلم أرَ مثلي طلَّق اليوم مثلَها ... ولا مثلَها في غير شيءٍ تُطَلَّقُ ) فسمع أبو بكر قوله فأشرف عليه وقد رق له فقال يا عبد الله راجع عاتكة فقال أشهدك أني قد راجعتها وأشرف على غلام له يقال له أيمن فقال له يا أيمن أنت حر لوجه الله تعالى أشهدك أني قد راجعت عاتكة ثم خرج إليها يجري إلى مؤخر الدار وهو يقول ( أعاتِكُ قد طُلِّقتِ في غيرِ رِيبةٍ ... ورُوجعتِ للأمر الذي هو كائِنُ ) ( كذلك أمرُ الله غادٍ ورائحٌ ... على الناس فيه أُلفةٌ وتبايُن ) ( وما زال قلبي للتَّفرُّق طائراً ... وقلبِي لما قد قَرَّب اللهُ ساكِنُ ) ( ليَهْنِكِ أني لا أرى فيكِ سَخْطةً ... وأنك قد تَمَّتْ عليك المحاسنُ ) ( فإنك مِمَّنْ زيَّن اللهُ وجهَه ... وليس لِوَجْهٍ زانَه اللهُ شائنُ ) قال وأعطاها حديقة له حين راجعها على ألا تتزوج بعده فلما مات من السهم الذي أصابه بالطائف أنشأت تقول ( فلِلَّه عينَا مَنْ رأى مثلَه فتىً ... أكَرَّ وأحمَى في الهياجِ وأصْبَرا ) ( إذا شُرِعت فيه الأسِنَّةُ خاضَها ... الى الموت حتى يترُك الرُّمح أحمرَا ) ( فأقسمتُ لا تنفَكُّ عيني سَخِينَةً ... عليكَ ولا ينفكُّ جِلْدِيَ أغبرا ) ( مَدَى الدَّهْرِ ما غنّت حمامةُ أيكةٍ ... وما طردَ الليلُ الصَّباحَ المُنَوَّرَا ) عمر بن الخطاب وعاتكة فخطبها عمر بن الخطاب فقالت قد كان أعطاني حديقة على ألا أتزوج بعده قال فاستفتي فاستفتت علي بن أبي طالب عليه السلام فقال ردي الحديقة على أهله وتزوجي فتزوجت عمر فسرح عمر إلى عدة من أصحاب رسول الله فيهم علي بن أبي طالب صلوات الله عليه - يعني دعاهم - لما بنى بها فقال له علي إن لي إلى عاتكة حاجة أريد أن أذكرها إياها فقل لها تستتر حتى أكلمها فقال لها عمر استتري يا عاتكة فإن ابن أبي طالب يريد أن يكلمك فأخذت عليها مرطها فلم يظهر منها إلا ما بدا من براجمها فقال يا عاتكة ( فأقسمتُ لا تنفَكُّ عيني سخِينَةً ... عليكَ ولا ينفكُّ جِلْدِيَ أغبرا ) فقال له عمر ما أردت إلى هذا فقال وما أرادت إلى أن تقول ما لا تفعل وقد قال الله تعالى ( كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون ) وهذا شيء كان في نفسي أحببت والله أن يخرج فقال عمر ما حسن الله فهو حسن فلما قتل عمر قالت ترثيه ( عينُ جُودِي بعَبْرةٍ ونَحيبِ ... لا تمَلِّي على الإِمامِ النَّجِيبِ ) ( فجعتنا المَنُون بالفارِس المُعْلَم ... يوم الهِياجِ والتَّلْبِيبِ ) ( عِصْمَة اللهِ والمُعِينِ على الدَّهْرِ ... غِياثِ المُنْتابِ والمَحْرُوبِ ) ( قل لأَهْلِ الضَّرَّاء والبُؤْسِ مُوتُوا ... قد سَقتْه المَنونُ كأسَ شَعُوبِ ) قالت ترثيه أيضا صوت ( مُنِع الرُّقادُ فعاد عَيْنِيَ عِيدُ ... مَمَّا تضمَّن قَلْبِيَ المَعْمودُ ) ( يا ليلةً حُبِست عليَّ نُجُومُها ... فسَهِرْتُها والشامِتُون هُجودُ ) ( قد كان يُسهِرُني حِذارُك مَرَّةً ... فاليوم حقَّ لِعَينِيَ التسهيدُ ) ( أبكي أميرَ المُؤْمِنِين ودُونَه ... لِلزَّائرين صَفائِحٌ وصَعِيد ) غنى فيه طويس خفيف رمل عن حماد والهشامي فلما انقضت عدتها خطبها الزبير بن العوام فتزوجها فلما ملكها قال يا عاتكة لا تخرجي إلى المسجد وكانت امرأة عجراء بادنة فقالت يا ابن العوام أتريد أن أدع لغيرتك مصلى صليت مع رسول الله وأبي بكر وعمر فيه قال فإني لا أمنعك فلما سمع النداء لصلاة الصبح توضأ وخرج فقام لها في سقيفة بني ساعدة فلما مرت به ضرب بيده على عجيزتها فقالت مالك قطع الله يدك ورجعت فلما رجع من المسجد قال يا عاتكة ما لي لم أرك في مصلاك قالت يرحمك الله أبا عبد الله فسد الناس بعدك الصلاة اليوم في القيطون أفضل منها في البيت وفي البيت أفضل منها في الحجرة فلما قتل عنها الزبير بوادي السباع رثته فقالت ( غَدرَ ابنُ جُرموزٍ بفارس بُهْمةٍ ... يوم اللقاء وكان غيرَ مُعَرِّدِ ) ( يا عَمرُو لو نَبَّهْتَه لوجدْته ... لا طائِشاً رعِشَ اللِّسان ولا اليَدِ ) ( هبِلَتْك أمُّك إن قَتلْت لَمُسْلِماً ... حلَّت عليك عُقوبةُ المُتَعَمِّدِ ) فلما انقضت عدتها تزوجها الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام فكانت أول من رفع خده من التراب - صلى الله عليه وآله ولعن قاتله والراضي به يوم قتل - وقالت ترثيه ( وحُسَيْناً فلا نَسِيتُ حُسَيْناً ... أقصدَتْه أسِنَّةُ الأعداء ) ( غادَروه بكَرْبلاءَ صَريعاً ... جادَتِ المُزنُ في ذَرَى كَرْبَلاء ) ثم تأيمت بعده فكان عبد الله بن عمر يقول من أراد الشهادة فليتزوج بعاتكة ويقال إن مروان خطبها بعد الحسين عليه السلام فامتنعت عليه وقالت ما كنت لأتخذ حما بعد رسول الله أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الخليل بن أسد قال حدثني العمري قال حدثنا أسامة بن زيد عن القاسم بن محمد قال لم يزل السهم الذي أصاب عبد الله بن أبي بكر عند ابي بكر حتى قدم وفد ثقيف فأخرجه إليهم فقال من يعرف هذا منكم فقال سعيد بن عبيد من بني علاج هذا سهمي وأنا بريته وأنا رشته وأنا عقبته وأنا رميت به يوم الطائف فقال أبو بكر فهذا السهم الذي قتل عبد الله والحمد لله الذي أكرمه بيدك ولم يهنك بيده طويس يغني شعرا لعاتكة أخبرني اليزيدي عن الزبير عن أحمد بن عبيد الله بن عاصم بن المنذر بن الزبير قال لما قتل الزبير وخلت عاتكة بنت زيد خطبها علي بن أبي طالب عليه السلام فقالت له إني لأضن بك على القتل يابن عم رسول الله أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن محمد بن سلام قال حدثني أبي قال بينا فتية من قريش ببطن محسر يتذاكرون الأحاديث ويتناشدون الأشعار إذ أقبل طويس وعليه قميص قوهي وحبرة قد ارتدى بها وهو يخطر في مشيته فسلم ثم جلس فقال له القوم يا أبا عبد الله غننا شعرا مليحا له حديث ظريف فغناهم بشعر عاتكة بنت زيد ترثي عمر بن الخطاب ( مُنِع الرُّقادُ فعادَ عَيْنِيَ عِيدُ ... مِمَّا تَضمَّن قَلبِي المَعمودُ ) الأبيات فقال القوم لمن هذه الأبيات يا طويس قال لأجمل خلق الله وأشأمهم فقالوا بأنفسنا أنت من هذه قال هي والله من لا يجهل نسبها ولا يدفع شرفها تزوجت بابن خليفة نبي الله وثنت بخليفة خليفة نبي الله وثلثت بحواري نبي الله وربعت بابن نبي الله وكلا قتلت قالوا جميعا جعلنا فداك إن أمر هذه لعجيب بآبائنا أنت من هذه قال عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل فقالوا نعم هي على ما وصفت قوموا بنا لا يدرك مجلسنا شؤمها قال طويس إن شؤمها قد مات معها قالوا أنت والله أعلم منا صوت ( يا دَنانِيرُ قد تَنَكّر عَقْلِي ... وتَحيَّرتُ بين وَعْدٍ ومَطْلِ ) ( شَغَفِي شافِعِي إليكِ وإلاّ ... فاقتُلِيني إن كنتِ تَهْوَين قتْلِي ) الشعر والغناء لعقيد مولى صالح بن الرشيد خفيف ثقيل وفيه لعريب رمل بالوسطى وهذا الشعر يقوله في دنانير مولاة البرامكة وكان خطبها فلم تجبه وقيل بل قاله أحد اليزيديين ونحله إياه ذكر أخبار دنانير وأخبار عقيد كانت دنانير مولاة يحيى بن خالد البرمكي وكانت صفراء مولدة وكانت من أحسن الناس وجها وأظرفهن وأكملهن أدبا وأكثرهن رواية للغناء والشعر وكان الرشيد لشغفه بها يكثر مصيره إلى مولاها ويقيم عندها ويبرها ويفرط حتى شكته زبيدة إلى أهله وعمومته فعاتبوه على ذلك ولها كتاب مجرد في الأغاني مشهور وكان اعتمادها في غنائها على ما أخذته من بذل وهي خرجتها وقد أخذت أيضا عن الأكابر الذين أخذت بذل عنهم مثل فليح وإبراهيم وابن جامع وإسحاق ونظرائهم أخبرني جحظة قال حدثني المكي عن أبيه قال كنت أنا وابن جامع نعايي دنانير جارية البرامكة فكثيرا ما كانت تغلبنا أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي عن ابن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال قال لي أبي قال لي يحيى بن خالد إن ابنتك دنانير قد عملت صوتا اختارته وأعجبت به فقلت لها لا يشتد إعجابك حتى تعرضيه على شيخك فإن رضيه فارضيه لنفسك وإن كرهه فاكرهيه فامض حتى يتعرضه عليك قال فقال لي أبي فقلت له أيها الوزير فكيف إعجابك أنت به فإنك والله ثاقب الفطنة صحيح التمييز قال أكره أن أقول لك أعجبني فيكون عندك غير معجب إذ كنت عندي رئيس صناعتك تعرف منها ما لا أعرف وتقف من لطائفها على ما لا أقف وأكره أن أقول لك لا يعجبني وقد بلغ من قلبي مبلغا محمودا وإنما يتم السرور به إذا صادف ذلك منك استجادة وتصويبا قال فمضيت إليها وقد تقدم إلى خدمه يعلمهم أنه سيرسل بي إلى داره وقال لدنانير إذا جاءك إبراهيم فاعرضي عليه الصوت الذي صنعته واستحسنته فإن قال لك أصبت سررتني بذلك وإن كرهه فلا تعلميني لئلا يزول سروري بما صنعت قال إسحاق قال أبي فحضرت الباب فأدخلت وإذا الستارة قد نصبت فسلمت على الجارية من وراء الستارة فردت السلام وقالت يا أبت أعرض عليك صوتا قد تقدم لا شك إليك خبره وقد سمعت الوزير يقول إن الناس يفتنون بغنائهم فيعجبهم منه ما لا يعجب غيرهم وكذلك يفتنون بأولادهم فيحسن في أعينهم منهم ما ليس يحسن وقد خشيت على الصوت أن يكون كذلك فقلت هات فأخذت عودها وتغنت تقول صوت ( نَفْسِي أكنتُ عليك مُدّعياً ... أم حين أزمع بَيْنَهم خُنتِ ) ( إن كنت مولعةً بذكرهمُ ... فعلى فراقِهمُ ألا مُتِّ ) قال فأعجبني والله غاية العجب واستخفني الطرب حتى قلت لها أعيديه فأعادته وأنا أطلب لها فيه موضعا أصلحه وأغيره عليها لتأخذه عني فلا والله ما قدرت على ذلك ثم قلت لها أعيديه الثالثة فأعادته فإذا هو كالذهب المصفى فقلت أحسنت يا بنية وأصبت وقد قطعت عليك بحسن إحسانك وجودة إصابتك أنك قائدة للمعلمين إذ قد صرت تحسنين الاختيار وتجيدين الصنعة قال ثم خرج فلقيه يحيى بن خالد فقال كيف رأيت صنعة ابنتك دنانير قال أعز الله الوزير والله ما يحسن كثير من حذاق المغنين مثل هذه الصنعة ولقد قلت لها أعيديه وأعادته علي مرات كل ذلك أريد إعناتها لأجتلب لنفسي مدخلا يؤخذ عني وينسب إلي فلا والله ما وجدته فقال لي يحيى وصفك لها يقوم مقام تعليمك إياها وقد - والله - سررتني وسأسرك فوجه إليه بمال عظيم يحيى بن خالد يشتريها والرشيد يعجب بها وذكر محمد بن الحسن الكاتب قال حدثني ابن المكي قال كانت دنانير لرجل من أهل المدينة وكان خرجها وأدبها وكانت أروى الناس للغناء القديم وكانت صفراء صادقة الملاحة فلما رآها يحيى وقعت بقلبه فاشتراها وكان الرشيد يسير إلى منزله فيسمعها حتى ألفها واشتد عجبه بها فوهب لها هبات سنية منها أنه وهب لها في ليلة عيد عقدا قيمته ثلاثون ألف دينار فرد عليه في مصادرة البرامكة بعد ذلك وعلمت أم جعفر خبره فشكته إلى عمومته فصاروا جميعا إليه فعاتبوه فقال ما لي في هذه الجارية من أرب في نفسها وإنما أربي في غنائها فاسمعوها فإن استحقت أن يؤلف غناؤها وإلا فقولوا ما شئتم فأقاموا عنده ونقلهم إلى يحيى حتى سمعوها عنده فعذروه وعادوا إلى أم جعفر فأشاروا عليها ألا تلح في أمرها فقبلت ذلك وأهدت إلى الرشيد عشر جوار منهن ماردة أم المعتصم ومراجل أم المأمون وفاردة أم صالح وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات أخبرني محمد بن عبد الله الخزاعي قال حدثني عباد البشري قال مررت بمنزل من منازل طريق مكة يقال لها النباج فإذا كتاب على حائط في المنزل فقرأته فإذا هو النيك أربعة فالأول شهوة والثاني لذة والثالث شفاء والرابع داء وحر إلى أيرين أحوج من أير إلى حرين وكتبت دنانير مولاة البرامكة بخطها أخبرني إسماعيل بن يونس عن ابن شبة أن دنانير أخذت عن إبراهيم الموصلي حتى كانت تغني غناءه فتحكيه فيه حتى لا يكون بينهما فرق وكان إبراهيم يقول ليحيى متى فقدتني ودنانير باقية فما فقدتني قال وأصابتها العلة الكلبية فكانت لا تصبر عن الأكل ساعة واحدة فكان يحيى يتصدق عنها في كل يوم من شهر رمضان بألف دينار لأنها كانت تلا تصومه وبقيت عند البرامكة مدة طويلة الرشيد يأمر بصفعها بسبب رفضها الغناء أخبرني ابن عمار وابن عبد العزيز وابن يونس عن ابن شبة عن إسحاق وأخبرني جحظة عن أحمد بن الطيب أن الرشيد دعا بدنانير البرمكية بعد قتله إياهم فأمرها أن تغني فقالت يا أمير المؤمنين إني آليت ألا أغني بعد سيدي أبدا فغضب وأمر بصفعها فصفعت وأقيمت على رجليها وأعطيت العود وأخذته وهي تبكي أحر بكاء واندفعت فغنت صوت ( يا دارَ سَلْمَى بنازحِ السَّنَدِ ... بين الثَّنايا ومَسْقَط اللِّبَدِ ) ( لَمَّا رأيتُ الدِّيارَ قد دَرَسَتْ ... أيقنتُ أنَّ النّعيم لم يَعُدِ ) الغناء للهذلي خفيف ثقيل أول مطلق في مجرى الوسطى وذكر علي بن يحيى المنجم وعمرو أنه لسياط في هذه الطريقة قال فرق لها الرشيد وأمر بإطلاقها وانصرفت ثم التفت إلى إبراهيم بن المهدي فقال له كيف رأيتها قال رأيتها تختله برفق وتقهره بحذق قال علي بن محمد الهشامي حدثني أبو عبد الله بن حمدون أن عقيدا مولى صالح بن الرشيد خطب دنانير البرمكية وكان هويها وشغف بذكرها فردته واستشفع عليها مولاه صالح بن الرشيد وبذل والحسين بن محرز فلم تجبه وأقامت على الوفاء لمولاها فكتب إليها عقيد قوله ( يا دنانيرُ قد تَنَكَّر عَقْلِي ... وتحيّرت بين وَعْدٍ ومَطْلِ ) ( شَفِّعي شافِعي إليك وإلاّ ... فاقتُلِيني إن كنت تَهْوَيْن قَتْلي ) ( أنَا بالله والأمير وما آملُ ... من موعد الحُسَين وبَذْل ) ( ما أُحِبُّ الحياةَ يا حِبُّ إن لم ... يجمع الله عاجلا بكِ شَمْلِي ) فلم يعطفها ذلك على ما يحب ولم تزل على حالها إلى أن ماتت وكان عقيد حسن الغناء والضرب قليل الصنعة ما سمعنا منه بكبير صنعة ولكنه كان بموضع من الحذق والتقدم قال محمد بن الحسن حدثني أبو حارثة عن أخيه أبي معاوية قال شهدت إسحاق يوما وعقيد يغنيه صوت ( هلاّ سألتِ ابنةَ العَبْسِيّ ما حَسبي ... عند الطِّعان إذا ما احمرَّت الحَدَقُ ) ( وجالت الخَيلُ بالأبطال عابِسةً ... شُعْثَ النَّواصي عليها البيضُ تَأتَلِقُ ) الشعر يقال إنه لعنترة ولم يصح له والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالوسطى قال فجعل إسحاق يستعيده ويشرب ويصفق حتى والى بين أربعة أرطال وسأله بعض من حضر من أحسن الناس غناء قال من سقاني أربعة أرطال وفي دنانير يقول أبو حفص الشطرنجي صوت ( أشبهَكِ المسكُ وأشبهتِهِ ... قائمةً في لونه قاعدهْ ) ( لا شك إذ لونُكما واحدٌ ... أنّكما من طينةٍ واحدةْ ) غناه ابن جامع هزجا بالبنصر وقيل إنه لأبي فارة وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن علي بن محمد النوفلي عن مولاة ابن جامع أن مولاها كان يهوى جارية صفراء فقال فيها هذا الشعر وغنى فيه وأظن هذا وهما لأنا لم نسمع لابن جامع بشعر قط ولعله غناه في شعر أبي حفص الشطرنجي فظننته له ومما غناه عقيد في دنانير والشعر للموصلي إلا البيت الأول فليس له صوت ( هَذِي دَنانيرُ تَنْسانِي فأَذْكُرها ... وكيف تنسى مُحِبّاً ليس يَنْساها ) ( واللهِ واللهِ لو كانت إذا بَرَزَتْ ... نَفْسُ المُتَيَّمِ في كَفَّيْه ألْقاها ) والشعر والغناء لعقيد ولحنه من الرمل المطلق في مجرى الوسطى وفيه هزج خفيف محدث قال أحمد بن أبي طاهر حدثني علي بن محمد قال حدثني جابر بن مصعب عن مخارق قال مرت بي ليلة ما مر بي قط مثلها جاءني رسول محمد الأمين وهو خليفة فأخذني وركض بي إليه ركضا فحين وافيت أتي بإبراهيم بن المهدي على مثل حالي فنزلنا وإذا هو في صحن لم أر مثله قد مليء شمعا من شمع محمد الأمين الكبار وإذا به واقف ثم دخل في الكرح والدار مملوءة بالوصائف يغنين على الطبول والسرنايات ومحمد في وسطهن يرتكض في الكرح فجاءنا رسوله فقال قوما في هذا الباب مما يلي الصحن فارفعا أصواتكما مع السرناي أين بلغ وإياكما أن أسمع في أصواتكما تقصيرا عنه قال فأصغينا فإذا الجواري والمخنثون يزمرون ويضربون ( هَذِي دَنانيرُ تَنْسانِي وأَذْكُرها ... وكيف تنسى مُحِبّاً ليس ينساها ) ( أعوذُ بالله من هِجران جاريةٍ ... أصبحتُ من حبِّها أهذِي بذكراها ) ( قد أُكمِلَ الحسن في تركيب صورتها ... فارتجَّ أسفلُها واهتزَّ أعلاها ) ( قامت تَمشَّى فليت الله صَيَّرني ... ذاك الترابَ الذي مَسَّتْه رِجلاها ) ( واللهِ واللهِ لو كانت إذا برزتْ ... نفْسُ المُتَيَّم في كَفَّيه ألْقاها ) فما زلنا نشق حلوقنا مع السرناي ونتبعه حذرا من أن نخرج عن طبقته أو نقصر عنه إلى الغداة ومحمد يجول في الكرح ما يسأمه يدنو إلينا مرة في جولانه ويتباعد مرة وتحول الجواري بيننا وبينه حتى أصبحنا صوت ( ألا طَرَقتْ أسماءُ لا حين مَطْرَقِ ... وأنَّى إذا حلَّتْ بنَجْرانَ نلتقِي ) ( بِوَجِّ وما بالي بِوَجٍّ وبالُها ... ومَن يلقَ يوماً جِدَّة الحبّ يُخْلَقِ ) عروضه من الطويل الشعر لخفاف بن ندبة والغناء لابن محرز خفيف ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق أيضا وذكر عمرو بن بانة أن فيه لحنا لمعبد ثاني ثقيل بالوسطى وفيه لعلوية خفيف رمل بالوسطى وفيه للقاسم بن زرزور خفيف رمل آخر صحيح في غنائه وفيه لابن مسجح ثقيل أول عن إبراهيم ويحيى المكي والهشامي وفيه لمخارق رمل بالبنصر أخبار خفاف ونسبه هو خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريد بن رياح بن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرىء القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار وندبة أمه وهي أمة سوداء وكان خفاف أسود أيضا وهو شاعر من شعراء الجاهلية وفارس من فرسانهم وجعله ابن سلام في الطبقة الخامسة من الفرسان مع مالك بن نويرة ومع ابني عمه صخر ومعاوية ابني عمرو بن الشريد ومالك بن حمار الشمخي كان أحد أغربة العرب أخبرني أبو خليفة إجازة عن محمد بن سلام قال كان خفاف بن ندبة - وهي أمه - فارسا شجاعا شاعرا وهو أحد أغربة العرب وكان هو ومعاوية بن الحارث بن الشريد أغار على بني ذبيان يوم حوزة فلما قتلوا معاوية بن عمرو قال خفاف والله لا أريم اليوم أو أقيد به سيدهم فحمل على مالك بن حمار وهو يومئذ فارس بني فزارة وسيدهم فطعنه فقتله وقال ( فإن تكُ خَيلي قد أصيب صَمِيمُها ... فعمْداً على عيني تيممْتُ مالِكَا ) ( رفعتُ له ما جرَّ إذ جَرَّ موته ... لأبْنِيَ مَجْداً أو لأثأر هالِكا ) ( أقول له والرُّمح يأْطِر مَتْنه ... تأمَّل خُفافاً إنَّني أنا ذَلكا ) قال ابن سلام وهو الذي يقول ( يا هِندُ يا أُختَ بني الصّارِدِ ... ما أَنا بالباقي ولا الخالدِ ) ( إن أُمسِ لا أملِكُ شيئاً فقد ... أملكُ أمر المَنْسِر الحارد ) في هذين البيتين لعبيد الله بن أبي غسان خفيف ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي خفاف والعباس بن مرداس أخبرني عمي عن عبد الله بن أبي سعد عن أحمد بن عمر عن عمر بن خالد بن عاصم بن عمرو بن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن الحجاج السلمي قال كان بدء ما كان بين خفاف بن ندبة والعباس بن مرداس أن خفافا كان في ملأ من بني سليم فقال لهم إن عباس بن مرداس يريد أن يبلغ فينا ما بلغ عباس بن أنس ويأبى ذلك عليه خصال قعدن به فقال له فتى من رهط العباس وما تلك الخصال يا خفاف قال اتقاؤه بخيله عند الموت واستهانته بسبايا العرب وقتله الأسرى ومكالبته للصعاليك على الأسلاب ولقد طالت حياته حتى تمنينا موته فانطلق الفتى إلى العباس فأخبره الخبر فقال العباس يا بن أخي إن لم أكن كالأصم في فضله فلست كخفاف في جهله وقد مضى الأصم بما في أمس وخلفني بما في غد فلما أمسى تغنى وقال ( خُفافٌ ما تزال تجرُّ ذيلاً ... الى الأمرِ المُفارِق للرَّشادِ ) ( إذا ما عاينتك بنو سُلَيمٍ ... ثَنَيْت لهم بِداهيةٍ نآدِ ) ( وقد علم المَعاشِرُ من سُلَيْم ... بأنّي فيهمُ حَسَنُ الأيادي ) ( فأَورِدْ يا خُفافُ فقد بُلِيتم ... بني عوف بحَيَّة بَطْن وادي ) قال ثم أصبح فأتى خفافا وهو في ملأ من بني سليم فقال قد بلغني مقالتك يا خفاف والله لا أشتم عرضك ولا أسب أباك وأمك ولكني رام سوادك بما فيك وإنك لتعلم أني أحمي المصاف وأتكرم على السلب وأطلق الأسير وأصون السبية وأما زعمك أني أتقي بخيلي الموت فهات من قومك رجلا اتقيت به وأما استهانتي بسبايا العرب فإني أحذو القوم في نسائهم بفعالهم في نسائنا وأما قتلى الأسرى فإني قتلت الزبيدي بخالك إذ عجزت عن ثأرك وأما مكالبتي الصعاليك على الأسلاب فوالله ما أتيت على مسلوب قط إلا لمت سالبه وأما تمنيك موتي فإن مت قبلك فأغن غنائي وإن سليما لتعلم أني أخف عليهم مؤونة وأثقل على عدوهم وطأة منك وإنك لتعلم أني أبحث حمى بني زبيد وكسرت قرني الحارث وأطفأت جمرة خثعم وقلدت بني كنانة قلائد العار ثم انصرف فقال خفاف أبياتا لم يحفظ الشيخ منها إلا قوله ( ولم تقتُل أسيرَك من زُبيدٍ ... بخالي بل غَدَرْتَ بمُسْتقادِ ) ( فَزنْدُك في سُلَيْم شر زَنْدٍ ... وزادُك في سُلَيْم شَرُّ زادِ ) فأجابه العباس بقوله ( ألا مَنْ مُبلغٌ عنِّي خُفافاً ... فإنّي لا أحاشِي من خُفافِ ) ( نكحتَ وليدةً ورضعتَ أخْرَى ... وكان أبوكَ تحْمِلهُ قَطافِ ) ( فلستُ لحاصِنٍ إن لم نُزِرْها ... تُثيرُ النَّقعَ من ظَهْر النِّعافِ ) ( سراعاً قد طواها الأينُ دُهْماً ... وكُمتاً لونُها كالوَرس صافِ ) قال ثم كف العباس وخفاف حتى أتى ابن عم للعباس يكنى أبا عمرو بن بدر وكان غائبا فقال يا عباس ما نقول فيك إلا خيرا إلا وهو باطل قال وكيف ذلك ويحك قال أخبرني عنك أكل الذي أقررت به من خفاف في نفيه أباك وتهجينه عرضك ليأس من نصر قومك أو ضعف من نفسك قال لا ولا واحدة منهما ولكني أحببت البقيا قال فاسمع ما قلته قال هات فأنشأ يقول ( أرى العباس ينفضُ مِذْرَوَيْه ... دَهِينَ الرأس تَقْلِيه النساءُ ) ( وقد أَزرَى بوالده خُفافٌ ... ويُحسَب مثله الداءُ العَياء ) ( فلا تُهدِ السِّبابَ إلى خُفافٍ ... فإن السَّبَّ تُحسِنُه الإماءُ ) ( ولا تكذِب وأهْدِ إليه حرباً ... مُعَجَّلَةً فإن الحرب داءُ ) ( أذلّ الله شرَّكما قَبِيلاً ... ولا سَقَّت له رَسْماً سَماءُ ) قال العباس قد آذنت خفافا بحرب ثم أصبحا فالتقيا بقومهما فاقتتلوا قتالا شديدا يوما إلى الليل وكان الفضل للعباس على خفاف فركب إليه مالك بن عوف ودريد بن الصمة الجشمي في وجوه هوازن فقام دريد خطيبا فقال يا معشر بني سليم إنه أعجلني إليكم صدر واد ورأى جامع وقد ركب صاحباكم شر مطية وأوضعا إلى أصعب غاية فالآن قبل أن يندم الغالب ويذل المغلوب ثم جلس فقال مالك بن عوف فقال يا معشر بني سليم إنكم نزلتم منزلا بعدت فيه هوازن وشبعت منكم فيه بنو تميم وصالت عليكم فيه بكر بن وائل ونالت فيه منكم بنو كنانة فانزعوا وفيكم بقية قبل أن تلقوا عدوكم بقرن أعضب وكف جذماء قال فلما أمسينا تغنى دريد بن الصمة فقال ( سُلَيمُ بنَ منصور ألمَّا تُخَبَّرُوا ... بما كان من َحرْبَيْ كُلَيْبٍ وداحِسِ ) ( وما كان في حرب اليَحابِر من دم ... مباحٍ وجَدْعٍ مؤلمٍ للمَعاطِسِ ) ( وما كان في حَرْبيْ سُلَيم وقبلهم ... بحرب بُعاثٍ من هلاك الفوارسِ ) ( تسافهت الأحلامُ فيها جهَالةً ... وأُضرِم فيها كلُّ رَطب ويابِس ) ( فكُفُّوا خُفافاً عن سفاهَةِ رأيهِ ... وصاحِبَه العبّاسَ قبل الدَّهارسِ ) ( وإلاّ فأنتم مثلُ مَنْ كان قبلكم ... ومَنْ يعقِل الأمثالَ غيرُ الأكايسِ ) وقال مالك بن عوف النصري ( سُليم بن منصور دعوا الحربَ إنما ... هي الهُلك للأقْصَيْن أو لِلأَقارِبِ ) ( ألم تعلمُوا ما كانَ في حرب وائِلٍ ... وحرب مُرادٍ أَو لُؤَيّ بن غالبِ ) ( تفرّقت الأحياء منهم لَجاجَةً ... وهم بين مغلوبٍ ذليلٍ وغالبِ ) ( فما لِسُلَيمٍ ناصرٌ من هَوازنٍ ... ولو نُصِرُوا لم تُغنِ نُصرةُ غائبِ ) قال ثم أصبحنا فاجتمعت بنو سليم وجاء العباس وخفاف فقال لهما دريد بن الصمة ولمن حضر من قومهما يا هؤلاء إن أولكم كان خير أول وكل حي سلف خير من الخلف فكفوا صاحبيكم عن لجاج الحرب وتهاجي الشعر قال فاستحيا العباس فقال فإنا نكف عن الحرب ونتهادى الشعر قال فقال دريد فإن كنتما لا بد فاعلين فاذكرا ما شئتما ودعا الشتم فإن الشتم طريق الحرب فانصرفا على ذلك فقال العباس بن مرداس ( فأبلغ لدَيْك بني مالكٍ ... فأنتم بأَنبائِنا أخْبَرُ ) ( فأما النَّخِيلُ فليست لنا ... نخيلٌ تُسّقَّى ولا تُؤْبَرُ ) ( ولكنَّ جَمعاً كجِذْل الحِكاك ... فيه المقَنَّع والحُسَّرُ ) ( مغاويرُ تحمِل أبطالَنا ... الى الموت ساهِمةٌ ضُمَّرُ ) ( وأعددتُ للحرْب خَيفانةً ... تُدِيم الجِراء إذا تَخْطِرُ ) ( صَنِيعاً كقارورة الزّعفرانِ ... ممَّا تُصانُ ولا تُؤْثَرُ ) ويقال صبيغا قال فأجابه خفاف فقال ( أعبّاسُ إنّ استعارَ القَصِيدِ ... في غير مَعْشَره مُنكَرُ ) ( علامَ تَناولُ ما لا تَنالُ ... فتقطَعُ نفسَك أو تَخسرُ ) ( فإنَّ الرِّهانَ إذا ما أُريد ... فصاحبهُ الشامخُ المُخْطِر ) ( تَخاوَصُ لم تستطعْ عُدَّةً ... كأنك من بُغضِنا أعوَرُ ) ( فقصرُك مَأثورةٌ إن بَقِيتُ ... أصحو بها لك أو أسكرُ ) ( لساني وسيفي معاً فانظُرَنْ ... الى تلك أيُّهما تُبْدَرُ ) قال فلما طال الأمر بينهما من الحرب والتهاجي قال عباس إني والله ما رأيت لخفاف مثلا إلا شبام بني زبيد فإنه كان يلقى من ابن عمه ثروان بن مرة من الشتم والأذى ما ألقى من خفاف فلما لج في شتمه تركه وما هو فيه فقال ( وهبتُ لثَروانَ بن مُرَّةَ نفسَه ... وقد أمكَنَتني من ذُؤابَتِه يدِي ) ( وأحمِل ما في اليوم من سُوء رأيهِ ... رَجاء التي يأتي بها الله في غدِ ) فقال خفاف إني والله ما وجدت لعباس مثلا إلا ثروان بني زبيد فإنه كان يلقى من شبام ما ألقى من العباس من الأذى فقال ثروان ( رأيتُ شِباماً لا يزال يَعيبُني ... فلِلَّه ما بالي وبالُ شِبامِ ) ( فقَصْرُك منّي ضربةٌ مازِنِيَّةٌ ... بكفِّ فتىً في القوم غيرِ كَهامِ ) ( فتُقصِر عني يا شِبامُ بنَ مالكٍ ... وما عَضَّ سيفي شاتمي بحرَامِ ) فقال عباس جزاك الله عني يا خفاف شرا فقد كنت أخف بني سليم من دمائها ظهرا وأخمصها بطنا فأصبحت العرب تعيرني بما كنت أعيب عليها من الاحتمال وأكل الأموال وصرت ثقيل الظهر من دمائها منفضج البطن من أموالها وأنشأ يقول ( ألم ترَ أني تركتُ الحروبَ ... وأنّي نَدِمت على ما مَضَى ) ( ندامةَ زارٍ على نفسه ... لتِلك التي عارُها يُتَّقى ) ( فلم أُوقِد الحربَ حتى رَمَى ... خُفافٌ بأسهُمه مَنْ رَمَى ) ( فإن تَعطِف القومَ أحلامُهم ... فيرجِعَ من وُدِّهم ما نأى ) ( فلستُ فَقِيراً إلى حَرْبِهِم ... وما بيَ عن سَلْمِهِم من غِنَى ) فقال خفاف ( أعبَّاسُ إمَّا كَرِهْتَ الحروبَ ... فقد ذُقْتَ من عَضِّها ما كَفَى ) ( أَأَلْقَحْتَ حَرباً لها شِدَّة ... زَماناً تُسعِّرُها باللَّظَى ) ( فلمّا تَرَقَّيْتَ في غَيِّها ... دَحَضْت وزَلَّ بكَ المرْتَقَى ) ( فلا زلتَ تَبكي على زَلَّة ... وماذا يرُدُّ عليك البُكَا ) ( فإن كنتَ أخطأتْ في حَرْبنا ... فلَسْنا نُقِيلُك هذا الخَطَا ) ( وإن كُنتَ تَطْمَعُ في سَلْمِنا ... فزاوِلُ ثَبِيراً ورُكْنَيْ حِرَا ) أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عيسى العبدي عن يحيى بن عبد الله بن الفضل الفزاري وكان علامة بأمر قيس قال كان خفاف بن ندبة في جماعة من قومه فقال إن عباس بن مرداس ليريد أن يبلغ فينا مبلغ عباس بن أنس وتأبى عليه خصال قعدن به عن ذلك فقال فتى من رهط عباس ما تلك الخصال يا خفاف فقال اتقاؤه بخيله عند الموت ومكالبة الصعاليك على الأسلاب وقتله الأسرى واستهانته بسبايا العرب وايم الله لقد طالت حياته حتى تمنينا موته فانطلق الفتى إلى العباس فحدثه الحديث فقال العباس يابن أخي إلا أكن كالأصم في فضله فلست كخفاف في جهله وقد مضى الأصم بما في أمس وخلفني لما في غد فلما أمسى تغنى فقال ( خُفافُ أما تزال تجرُّ ذَيلاً ... الى الأمر المقرِّب للفسادِ ) ( وقد علم المعاشِرُ من سُلَيْم ... بأنّي فيهمُ حَسَنُ الأيادي ) ( وأنّي يوم جَمْعِ بني عُطَيْفٍ ... حملت بحالكٍ وَهِج المرَادِي ) ( وأنّي لا أُعَيَّر في سُلَيْم ... بردِّ الخيلِ سالمةَ الهوادِي ) ( وأنِّي في مُلِمَّةِ كلّ يومٍ ... أَقِي صَحْبي وفي خيلِي تعادِي ) ( ولم أسلِب بحمد الله كَبْشاً ... سِلاحاً بين مختلف الصِّعادِ ) ( ولم أحلُل لمُحْصَنَةٍ نِطاقاً ... ولم أرَ عِتْقَها إلا مُرادي ) ( فأَوردْ يا خُفاف فقد مُنِيتم ... بني عوفٍ بحيّة بطن وادي ) فلما أصبح أتى خفافا وهو في ملأ من قومه فقال قد بلغني مقالك يا خفاف وايم الله إنك لتعلم أني أحمي المصاف وأكره السلب وأطلق الأسير وأصون السبية فأما زعمك أني أتقي بخيلي عند الموت فهات لي من قومك رجلا اتقيت به وأما قتلي الأسرى فإني قتلت الزبيدي بخالك وأما سلبي الأسير فوالله ما أتيت على مسلوب قط إلا لمت سالبه وأما استهانتي بالسبايا فإني أحذو القوم في سباياهم فعالهم في سبايانا وأما تمنيك موتي فإن مت قبلك فأغن غنائي ثم انصرف فقال خفاف مجيبا للعباس عن قوله ( لعمرُ أبيك يا عبّاسُ إني ... لمُنْقَطِع الرِّشاء من الأعادِي ) ( وإني قد تعاتبني سُلَيْم ... على جَرِّ الذيولِ إلى الفسادِ ) ( أكُلَّ الدهر لا تَنْفَكّ تجرِي ... إلى الأمر المفارِق للسَّدادِ ) ( إذا ما عاينَتْكَ بَنُو سُلَيم ... تَبيتُ لهم بداهية نآدِ ) ( فزَندك في سُلَيْم شَرّ زَنْدٍ ... وزادُك في المعاشِر شَرّ زادِ ) ( ألا لله دَرُّك من رئيسٍ ... إذَا عادَيْتَ فانظرُ مَنْ تُعَادِي ) ( جريْتُ مُبَرِّزاً وجَريتَ تكبو ... على تَعَبٍ فهل لك من مَعادِ ) ( ولم تقتل أسيرَك من زُبَيْدٍ ... بخالي بل غدرت بِمُستَقادِ ) ومستقاد الزبيدي وإن رهط خفاف لاموه وقالوا اكفف عن الرجل فقال كيف أكف عن رجل يريد أن يترنا أمرنا بغير فضل وقال رهط العباس له أيها الرجل اكفف فقال قولا جميلا وقال العباس عند ذلك ( هل تعرف الطَّلَل القديمَ كأنّه ... وشْمٌ بأسفل ذي الخيام مُرَجَّعُ ) ( بقِيتْ معارِفُه على مَرّ الصَّبا ... بعد الجميع كأنه قد يمْرُعُ ) ( دارُ التي صادت فؤادك بعدما ... شمِل المَفارِقَ منك شيبٌ أروعُ ) ( وزعمتَ أنّك لا تُراحُ إلى الصَّبا ... وعَلَتْك منه شبيبةُ لا تَرجعُ ) ( يا أيها المرءُ السفيهُ ألاَ ترى ... أني أضرُّ إذا هَوِيتُ وأنفعُ ) ( وأعيش ما قَدَر الإِلهُ على القِلَى ... وأعِفُّ نفسي عن مطامع تُطمِعُ ) ( كرماً على الخطر اليسير ولا ترى ... نفسي إلى الأمر الدنيّ تطلَّعُ ) ( وأردُّ ذا الضِّغن اللئيمَ برأيه ... حتى يموت وليس فينا مَطمعُ ) ( لله دَرُّك لا تَمَنَّ مماتَنا ... فالموتُ وَيْحك قصْرُنا والمرجعُ ) ( لو كان يَهلِك مَنْ تَمَنَّى موتَه ... حلّت عليك دُهَية لا تُرْقَعُ ) ( ومكثت في دار الهوان موطَّأً ... بالذّلِّ ليس لداركم مَنْ يمنعُ ) فقال خفاف مجيبا له ( عَجبَتْ أُمامَةُ إذ رَأتْنِيَ شاحباً ... خَلَق القميص وأنّض رأسي أصلَعُ ) ( وتنفست صُعُداً فقلتُ لها اقصرِي ... إني امرؤ فيما أضرّ وأنفعُ ) ( مهلاً أبا أنس فإني للذّي ... خلّى عليك دُهَيَّةً لا تُرْفَعُ ) ( وضَرَبْتُ أُمَّ شؤون رأسك ضربةً ... فاستكَّ منها في اللِّقاء المسمَعُ ) ( نَعْلَىَّ حَذْوُ نِعالها ولربَّما ... أحذو العِدَا ولكلِّ عادٍ مَصرعُ ) ( لا تفخرَنّ فإنَّ عُودِيَ نبعَةٌ ... أعيت أبا كَرِبٍ وعُودُك خِرْوَعُ ) ( ولقد أقود إلى العدوّ مُقَلِّصاً ... سَلِسَ القِيادِ له تَلِيلٌ أتْلَعُ ) ( نَهْدَ المراكل والدَّسيع يَزينُه ... شَنِجُ النَّسا وأباجِلٌ لا تُقْطَعُ ) ( وعَليَّ سابِغَةٌ كأنَّ قَتِيرَها ... حَدَقَ الجنادب لَيْسَ فيها مطمعُ ) ( زَغَفٌ مُضاعَفَة تَخَيَّر سَرْدَها ... ذو فائشٍ وبنو المُرار وتُبَّعُ ) ( في فِتْيةٍ بِيضِ الوجوه كأنهم ... أُسْدٌ على لحم ببِيشَةُ طُلَّعُ ) ( لا ينكَلون إذَا لَقُوا أعدَاءهَم ... إنّ الحِمامَ هو الطريق المهْيَعُ ) كان خفاف قد كف عن العباس حتى أتاه غلام من قومه فقال أبي العباس إلا جرأة عليك وعيبا لك فغضب خفاف ثم قال ما يدعوه إلى ذلك فوالله إن أباه لرابط السهم وإن أمه لخفية الشخص ولئن طلب مسعاي ليعلمن أنه قصير الخطوة أجذم الكف وما ذنبنا إليه إلا أنا استنقذنا أباه من عصي بني حزام وكافحنا دونه يوم بني فراس ونصرنا أباه على حرب بن أمية وقال خفاف في ذلك ( لن يترك الدهرَ عَبَّاسٌ تَقَحُّمَه ... حتى يذوق وبالَ البَغْي عَبَّاسُ ) ( أمسكتُ عن رَمْيِه حولاً ومَقْتَلُه ... بادٍ لتعذرني في حَرْبِه الناس ) ( عمداً أجرّ له ثوبي لأخدَعه ... عن رأيه ورجائي عنده ياسُ ) ( فالآن إذ صَرَّحت منه حقيقَتُه ... ظُلْماً فليس بشتمي شاتمي بَاسُ ) ( أجُدّ يوماً بقولي كُلَّ مبتَدىء ... كما يَجُدُّ بكفّ الجازرِ الفاسُ ) ( تأبى سُلَيْم إذا عَدّت مساعِيَها ... أن يُحرِزَ السَّبقَ عبّاسٌ ومِرداسُ ) ( أودى أبو عامر عبّاس مُعْتَرِفاً ... أنّا إذا ما سُلَيم حَصَّلت راسُ ) فبلغ العباس أمر خفاف فأتاه فالتقيا عند أسماء بن عروة بن الصلت بن حزام بن عبد الله بن حازم بن الصلت وكان مأمونا في بني سليم فقال العباس قد بلغني قولك يا خفاف ولعمري لا أشتم أباك ولا أمك ولكني رام سوادك بما فيك والله ما كنت إلى ذمك بالهيمان ولا إلى لحمك بالقرم وإن سليما لتعلم أني أبحت حمي بني زبيد وأطفأت جمرة خثعم وكسرت قرني بني الحارث بن كعب وقلدت بني كنانة قلائد العار وإني يا خفاف لأخف منك على بني سليم مؤونة وأثقل منك على عدوهم وطأة وقال مجيبا له ( إني رأيت خُفافاً ليس يُهنئُه ... شيء سوى شتم عبّاس بنِ مرداسِ ) ( مهلاً خُفافُ فإنَّ الحق مَعْضَبَةٌ ... والحمق ليس له في الناس من آسي ) ( سائلْ سُلَيماً إذا ما غارة لَحِقتْ ... منها فوارسُ حُشْدٌ غيرُ أنكاسِ ) ( مِن خَثعَم وزُبَيْدٍ أو بِني قَطَنٍ ... أو رَهْط فروةَ دهراً أو شحا الناسِ ) ( يُنْبوا منِ الفارسُ الحامي حقيقَتَه ... إذا أتوْك بحامٍ غيرِ عبّاس ) ( لا يحسب النّاس قولَ الحق مُعترفاً ... فانظر خُفاف فما في الحق من باس ) ( مَنْ زار خيل بني سعد مُسَوَّمة ... يُهدِي لأولها لأْيُ بن شمّاسِ ) ( يوم اعترضتُ أبا بدر بجائفةٍ ... تعوِي بعرق من الأحشاء قلاّسِ ) ( أُدعَى الرئيسُ إذا ما حربكم كشَفَت ... عن ساقها لَكُم والأمر للرَّاسِ ) ( حتى إذا انكشفت عنكم عَمايتُها ... أنشأت تضرِب أخماساً لأسداسِ ) وسعى أهل الفساد إلى خفاف فقالوا إن عباسا قد فضحك فقال خفاف ( أَلاَ أيُّها المُهْدِي لِيَ الشَّتْمَ ظالِماً ... ولستُ بأَهْلٍ حين أُذْكَر للشَّتْمِ ) ( أبَى الشَّتْمَ أنِّي سَيِّدٌ وابنُ سادةٍ ... مطاعِينَ في الهَيْجا مَطاعِيمَ لِلَّحْمِ ) ( همُ مَنَحوا نَصْراً أباك وطاعَنوا ... وذَلِك إذْ تُرْمَى ذَلِيلاً ولا تَرْمِي ) ( كمُسْتَلْحِمٍ في ظُلمةِ الَّليْل بَعْدَ ما ... رأى المَوتَ صِرْفاً والسيوفُ بها تَهْمي ) ( أدِبُّ على أنماط بيضاء حُرَّةٍ ... مقابَلَة الجِدَّين ماجدةَ العَمِّ ) ( وأنت لَحَنْفاء اليَدَيْن لَوَ انَّها ... تُباع لما جاءت بزَنْدٍ ولا سَهْم ) ( وإني على ما كان أولُ أوّلٍ ... عليه كذاك القَرْم يُنْتَجُ للقَرْم ) ( وأُكرِم نَفسِي عن أمور دَنِيئة ... أصونُ بها عِرْضِي واسو بها كَلْمي ) ( وأصفحُ عَمَّن لو أشاءُ جَزَيتُه ... فيمنعني رُشْدِي ويُدركُني حِلْمِي ) ( وأغفر للمولَى وإنْ ذو عَظيمَةٍ ... على البَغْي منها لا يَضِيقُ بها حَزْمِي ) ( فَهذِي فَعالي ما بَقيِتُ وإنَّنيِ ... لمُوصٍ به عَقْبي إذا كُنتُ في رَجْمي ) فقال له قومه لو كان أول قولك كآخره يا خفاف لأطفأت النائرة وأذهبت سخائم النمائم فقال العباس مجيبا له ( ألاَ أيُّها المُهْدِي لَيَ الشَّتْم ظالماً ... تَبَيَّنْ إذا راميتَ هَضَبَة من تَرْميِ ) ( أبي الذَّمَّ عِرضِي إنَّ عرضي طاهرٌ ... وإني أَبيٌّ من أُباةٍ ذوي غَشْم ) ( وإنّي من القوم الذين دماؤُهُم ... شِفاءٌ لطُلاَّب التراثِ من الوَغْمِ ) وقال أيضا ( إن تَلْقَني تَلقَ ليثاً في عَرينَتِه ... من أُسْد خِفّانَ في أَرساغه فَدَعُ ) ( لا يبرح الدهرَ صيداً قد تقنّصه ... من الرجال على أشداقه القَمَعُ ) وكان العباس وخفاف قد هما بالصلح وكرهت بنو سليم الحرب فجاء غوي من رهط العباس فقال للعباس إن خفافا قد أنحى عليك وعلى والديك فغضب العباس ثم قال قد والله هجاني فكان أعظم ما عابني به أصغر عيب فيه ثم هجا والدي فما ضرهما ولا نفعه ثم برزت له فأخفى شخصه واتقاني بغيره ولو شئت لشتمت أباه وثلبت عرضه ولكني وإياه كما قال شبام بن زبيد لابن عم له يقال له ثروان بن مرة كان أشبه الناس بخفاف ( وهبتُ لثَرْوانَ بنِ مُرَّة نفسَه ... وقد أمكنتني من ذُؤابَتِه يدِي ) ( وأحمِلُ ما في اليوم من سُوء رأيه ... رجاءَ الذي يأتي به الله في غد ) ( ولستُ عليه في السِّفاه كنفسه ... ولَستُ إذا لم أهجُه بمُوعِّدِ ) وقال ( أراني كُلما قاربتُ قومي ... نأَوْا عني وقَطعُهم شدِيدُ ) ( سئمت عِتابَهم فصفحتُ عنهم ... وقلتُ لعلَّ حلمَهُم يعودُ ) ( وعلَّ الله يُمْكِنُ من خُفافٍ ... فأسقِيَه التي عنها يَحِيدُ ) ( بما اكتسبت يداهُ وجَرَّ فينا ... من الشَّحْنا التي ليست تَبيدُ ) ( وأنَّى لي يؤدِّبُني خُفافٌ ... وعوْفٌ والقلوبُ لها وَقودُ ) ( وإني لا أزال أُريدُ خيراً ... وعند الله من نَعَمٍ مَزيدُ ) ( فضاقت بي صدورُهمُ وغصَّت ... حُلوقٌ ما يَبِضُّ لها ورِيدُ ) ( متى أبعُدْ فشرُّهُمُ قريبٌ ... وإن أقرُبْ فوُدُّهم بعيد ) ( أقول لهم وقد لَهِجُوا بشَتمِي ... ترّقَّوْا يا بني عوفٍ وزِيدُوا ) ( فما شَتْمي بنافع حَيِّ عَوفٍ ... أينقُصُني الهبُوطُ أم الصُّعودُ ) ( أتجعلُني سَراةُ بني سُلَيم ... ككلبٍ لا يهرُّ ولا يصيدُ ) ( كأنِّي لم أقُد خيلاً عِتاقاً ... شَوازبَ ما لها في الأرض عودُ ) ( أَجَشَّمها مَهامِهَ طامِساتٍ ... كأَنَّ رمالَ صَحصَحِها قُعودُ ) ( عليها من سَراة بني سُليم ... فوارسُ نجدةٍ في الحربِ صِيدُ ) ( فأُوطِي مَنْ تُريد بني سُلَيم ... بِكَلْكَلِها ومن ليست تُريدُ ) فلما بلغ خفافا قول العباس قال والله ما عبت العباس إلا بما فيه وإني لسليم العود صحيح الأديم ولقد أدنيت سوادي من سواده فلم أحجم ولا نكصت عنه وإني وإياه كما قال ثروان لشبام بني زبيد وكان يلقى منه ما لقي من العباس قال ( رأيتُ شِباماً لا يزال يَعيبني ... فللهِ ما بالي وبالُ شِبام ) ( فقَصرُك منّي ضَربةٌ مازِنيَّةٌ ... بكفّ امرىء في الحرب غير كَهامِ ) ( من اليوم أو من شَيْعِه بمهنَّدٍ ... خَصومٍ لهامات الرجال حُسامِ ) ( فتُقصِر عني يا شِبامُ بنَ مالكٍ ... وما عضَّ سيفي شاتمي بحَرامِ ) وقال خفاف ( أرى العباسَ ينقصُ كلَّ يوم ... ويزعم أنه جَهلاً يَزيدُ ) ( فلو نُقِضَت عزائمُه وزادت ... سلامتُه لكان كما يُريد ) ( ولكنَّ المَعالمَ أفسدته ... وخُلْقٌ في عشيرته زَهيدُ ) ( فعبّاسُ بن مِرْداس بن عمْرو ... وكِذْبُ المرء أقبحُ ما يُفِيدُ ) ( حلفتُ بربِّ مكةَ والمُصلَّى ... وأشياخٍ محلِّقة تَنُودُ ) ( بأنك من مودَّتِنا قريبٌ ... وأنتَ من الذي تَهوَى بَعيدُ ) ( فأبشِر أن بقِيتَ بيوم سوء ... يَشيبُ له من الخوف الوليدُ ) ( كيومك إذ خرجت تَفوق ركضاً ... وطار القلبُ وانتفَخ الورِيدُ ) ( فدَعْ قولَ السّفاهةِ لا تَقُلْه ... فقد طال التَّهَدُّدُ والوعيدُ ) ( رأينا من نُحاربُه شَقِياً ... ومن ذَا في بني عَوْف سَعيدُ ) وقال خفاف أيضا ( أعبّاسُ إنّا وما بينَنا ... كصَدْع الزُّجاجة لا يُجبَرُ ) ( فلستَ بكفءٍ لأعراضِنا ... وأنت بشَتْمِكَنا أجدرُ ) ( ولسنا بأهلٍ لما قُلُتُم ... ونحن بِشَتْمِكُمُ أعذر ) ( أراكَ بَصيراً بتلك التي ... تُريدُ وعن غيرها أعورُ ) ( فقصرُك مني رَقيقُ الذُّبابِ ... عضب كَريهتُه مِبْتَرُ ) ( وأزرقُ في رأسِ خَطِّيَّة ... إذا هُزَّ أكعُبُها تَخطُر ) ( يَلوح السِّنان علَى متْنِها ... كنار على مَرْقَب تُسعرُ ) ( وزَغْفٌ دِلاَصٌ حَباها العَزيزُ ... توارثها قبلَه حِمْيَرُ ) ( فتلك وجرداءُ خَيْفَانَةٌ ... إذا زُجِر الخيلُ لا تُزجرُ ) ( إذا ألقت الخيلُ أذيالَها ... فأنت على جريها أقدرُ ) ( متى يبلُلِ الماء أعطافَها ... تبُذُّ الجِيادَ وما تُبْهَرُ ) ( أُنهِنه بالسوط من غَرْبها ... وأُقدِمُها حيث لا يُنكَرُ ) ( وأرحَضُها غيرَ مذمومةٍ ... بلِّباتها العَلَق الأحمرُ ) ( أقولُ وقد شكَّ أقرابَها ... غدرتَ ومِثلي لا يغدِر ) ( وأُشهدُها غمراتِ الحروب ... فسِيَّانِ تَسلَم أو تُعقر ) وقال العباس ( خُفاف ألم ترَ ما بيننا ... يزيدُ استعاراً إذا يُسعَرُ ) ( ألم ترَ أنا نُهينُ التِّلادَ ... للسائلين وما نُعذِرُ ) ( لأنا نُكلَّفُ فوق التي ... يُكلَّفها الناسُ لو تخبُرُ ) ( لنا شِيَمٌ غَيرُ مجهولةٍ ... تَوارثها الأكبرُ الأكبرُ ) ( وخيلٌ تكدَّسُ بالدَّارعين ... تُنْحَر في الرَّوع أو تُعقرُ ) ( عليها فوارِسُ مَخبورةٌ ... كجنِّ مساكنُها عَبقرُ ) ( ورَجْرَاجةٌ مثلُ لونِ النجومِ ... لا العُزْلُ فيها ولا الحُسَّرُ ) ( وبِيضٌ سوابغُ مَسرودةٌ ... مواريثُ ما أورثت حِمْيَرُ ) ( فقد يعلم الحيُّ عند الصِّياح ... بأن العَقِيلةَ بي تُسترُ ) ( وقد يعلم الحَيُّ عند الرهانِ ... أنِّي أنا الشامخ المُخْطِر ) ( وقد يعلم الحيُّ عند السؤالِ ... أنّي أجودُ وأُسْتَمْطَرُ ) ( فأنَّى تعيِّرني بالفخارِ ... فها أنا هذا هو المُنْكَر ) صوت ( ألا لا أُبالي بعد رَيَّا أوافقتْ ... نَوَانا نَوَى الجِيران أم لم تُوافِقِ ) ( هِجانُ المُحَيَّا حُرَّةُ الوجه سُرْبِلَتْ ... من الحُسن سِربالاً عتيقَ البنائقِ ) الشعر لجبهاء الأشجعي والغناء لإسحاق رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق أخبار جبهاء ونسبه جبهاء لقب غلب عليه يقال جبهاء وجبيهاء جميعا واسمه يزيد بن عبيد ويقال يزيد بن حميمة بن عبيد بن عقيلة بن قيس بن رويبة بن سحيم بن عبيد بن هلال بن زبيد بن بكر بن أشجع شاعر بدوي من مخاليف الحجاز نشأ وتوفي في أيام بني أمية وليس ممن انتجع الخلفاء بشعره ومدحهم فاشتهر وهو مقل وليس من معدودي الفحول ومن الناس من يروي هذه الأبيات لأبي ربيس الثعلبي وليس ذلك بصحيح وهي في شعر جبهاء موجودة جبهاء والفرزدق أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو الحسن الأحول عن الطوسي عن أبي عمرو الشيباني قال قدم جبيهاء الأشجعي البصرة بجلوبة له يريد بيعها فلقيه الفرزدق بالمربد فقال ممن الرجل قال من أشجع قال أتعرف شاعرا منكم يقال له جبهاء أو جبيهاء قال نعم قال أفتروي قوله ( أمِنَ الجَمِيع بذي البقاع ربُوعُ ... هاجت فؤادك والرُّبوعُ تَروعُ ) قال نعم قال فأنشدنيها فأنشده قوله منها ( من بعد ما نَكِرت وغَيَّر آيَها ... قَطْرٌ ومُسبِلَةُ الدّموع خَريعُ ) ( يا صاحِبَيَّ ألا ارْفَعا لي آيةً ... تَشْفي الصُّداع فيُذهَل المرفوعُ ) ( ألواح ناجِيَة كأنَّ تَلِيلَها ... جذْعٌ تُطِيف به الرُّقاةُ مَنيِعُ ) حتى أتى على آخرها فقال الفرزدق فأقسم بالله إنك لجبهاء أو إنك لشيطانه قال الأخفش في خبره عن أصحابه الخريع الذاهبة العقل شبه السحابة بها لأنها لا تتمالك من المطر أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن عبيد المكتب قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال قدم جبيهاء الأشجعي المدينة بجلوبة له فبينا هو يبيعها والفرزدق يومئذ بالمدينة إذ مر به فقال له ممن أنت قال من أشجع قال أتعرف شاعرا منكم يقال له جبهاء أو جبيهاء قال نعم قال أتروي قصيدته ( أَلاَ لا أُبالي بعد رَيَّا أوافَقَتْ ... نَوانَا نَوى الجِيران أم لم تُوافِقِ ) قال نعم قال أنشدنيها فأنشده إياها فقال الفرزدق أقسم بالله إنك لجبيهاء أو إنك لشيطانه جبهاء يهاجر إلى المدينة ويجاور بني تميم أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير قال حدثني عمي عن سليمان بن عياش قال قالت زوجة جبهاء الأشجعي له لو هاجرت بنا إلى المدينة وبعت إبلك وافترضت في العطاء كان خيرا لك قال أفعل فأقبل بها وبإبله حتى إذا كان بحرة واقم من شرقي المدينة شرعها بحوض واقم ليسقيها فحنت ناقة منها ثم نزعت وتبعتها الإبل وطلبها ففاتته فقال لزوجته هذه إبل لا تعقل تحن إلى أوطانها ونحن أحق بالحنين منها أنت طالق إن لم ترجعي وفعل الله بك وفعل وردها وقال ( قالت أُنيْسَةُ دَعْ بلادَك والتمِس ... دَاراً بطَيْبَة رَبَّةِ الآطامِ ) ( تَكتُب عِيالَك في العَطاءِ وتَفْتَرِض ... وكذاك يفعلُ حازِمُ الأَقوامِ ) ( فهمَمْتُ ثم ذكرتُ ليلَ لِقاحِنا ... بِلِوَى عُنَيْزَة أو بقُفِّ بشَامِ ) ( إذ هُنَّ عن حَسَبي مَذَاوِد كُلَّما ... نزل الظلامُ بعُصْبةٍ أغْتامِ ) ( إن المَدينةَ لا مَدِينَة فالْزِمي ... حِقْفَ السِّناد وقُبَّة الأَرجامِ ) ( يُحْلب لكِ اللَّبنُ الغَرِيض ويُنْتَزع ... بالعيس من يَمنٍ إليكِ وشامِ ) ( وتُجاورِي النفَر الذين بِنَبْلهم ... أَرمِي العَدُوَّ إذا نهضت أُرَامِي ) ( الباذلين إذا طلبت تِلادَهم ... والمانِعي ظَهْرِي من الغُرَّامِ ) أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني مصعب قال جاور جبهاء الأشجعي في بني تيم بطن من أشجع فاستمنحه مولى لهم عنزا فمنحه إياها فأمسكها دهرا فلما طال على جبهاء ألا يردها قال جبهاء ( أَموْلَى بَنِي تَيْمٍ ألستَ مُؤَدِّياً ... مَنِيحتَنا فيما تُرَدُّ المَنائِحُ ) ( لها شَعَرٌ صافٍ وجِيدٌ مُقلِّص ... وجسم زُخارِيٌّ وضِرْسٌ مُجالحُ ) فأرسل إليه التيمي يقول ( بَلَى سنؤدِّيها إليكَ ذمِيمَةً ... لِلتَنْكِحها إن أعْوَزَتْكَ المَناكِحُ ) فعمد به جبهاء فنزل وقال ( لو كنتُ شيخاً من سَواةَ نكحتُها ... نِكاحَ يَسارٍ عنزه وهْيَ سارِحُ ) قال وهم يعيرون بنكاح العنز جبهاء وموسى بن زياد أخبرني وكيع قال حدثني أبو أيوب المديني عن مصعب قال استطرق جبهاء الأشجعي موسى بن زياد الأشجعي كبشا فوعده ثم مطله فقال جبهاء ( واعَدَني الكبشَ مُوسَى ثم أخلفَني ... وما لمِثْليَ تُعتَلُّ الأكاذِيبُ ) ( يا ليتَ كَبشَك يا مُوسَى يُصادِفُه ... بين الكُراعِ وبين الوَجْنَةِ الذِّيبُ ) ( أمسى بذي الغُصر أو أمسى بذي سَلَمٍ ... فَقَحَّمَتْه إلى أبياتِك اللُّوبَ ) ( فجاء والحيُّ أيقاظٌ فطاف بهم ... طوفيْن ثم أقرَّته الأحاليبُ ) ( فبات ينظُره حرّانَ مُنطَوِياً ... كأنه طالبٌ للوِتْر مَكروبُ ) ( وقام يَشْتَدّ حتى نال غِرَّتَه ... طاوي الحَشَا ذَرِبُ الأنيابِ مذْبُوبُ ) ( بغَفْلةٍ من زُرَيقٍ فاستمرّ به ... ودونه آكمُ الحِقْفِ الغرابيبُ ) ( سَلْ عنْه أرخمةً بِيضاً وأغرِبةً ... سوداً لهنّ حَنًى أَطْمَى سَلاهيبُ ) ( يَردين رُدْي العَذارَى حول دمنتِهِ ... كما يطوف على الحوض المعاقيبُ ) ( فجاء يحمل قرنيه ويندبه ... فكلُّ حيٍّ إذا ما مات مندوبُ ) صوت ( وَلها ولا ذَنْبَ لها ... حُبٌّ كأَطْراف الرِّماحِ ) ( في القَلْب يَجْرَحُ والحَشا ... فالقَلْبُ مَجروحُ النَّواحِي ) الشعر لوالبة بن الحباب والغناء ليزيد رمل بالوسطى عن الهشامي وعمرو وفيه لسبك الزامر لحن عن ابن خرداذبة أخبار والبة بن الحباب والبة بن الحباب أسدي صليبة كوفي شاعر من شعراء الدولة العباسية يكنى أبا أسامة وهو أستاذ أبي نواس وكان ظريفا شاعرا غزلا وصافا للشراب والغلمان المرد وشعره في غير ذلك مقارب ليس بالجيد وقد هاجى بشارا وأبا العتاهية فلم يصنع شيئا وفضحاه فعاد إلى الكوفة كالهارب وخمل ذكره بعد أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي وأخبرني محمد بن القاسم الأنباري والحسن بن علي الأدمي جميعا عن القاسم بن محمد الأنباري قال حدثنا يعقوب بن عمر قال حدثني أحمد بن سلمان قال حدثني أبو عدنان السلمي الشاعر قال قال المهدي لعمارة بن حمزة من أرق الناس شعرا قال والبة بن الحباب الأسدي وهو الذي يقول ( ولها ولا ذنْبَ لها ... حُبٌّ كأَطْراف الرِّماحِ ) ( في القَلْب يَقْدحُ والحَشا ... فالقلبُ مَجروحُ النَّواحِي ) قال صدقت والله قال فما يمنعك عن منادمته يا أمير المؤمنين قال يمنعني قوله ( قُلتُ لِساقِينا على خَلوةٍ ... أَدْنِ كذا رأسَك من راسِي ) ( ونَمْ على صَدْركِ لي ساعةً ... إنّي امرؤٌ أنكَحُ جُلاَّسِي ) أفتريد أن نكون من جلاسه على هذه الشريطة أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة حدثني عبد الله بن مسلم بن قتيبة ووجدته في بعض الكتب عن ابن قتيبة وروايته أتم فجمعتهما قال حدثني الدعجلي غلام أبي نواس قال أنشدت يوما بين يدي أبي نواس قوله ( يا شقيقَ النفْسِ من حَكمِ ... نمتَ عنْ ليْلِي ولم أنمِ ) وكان قد سكر فقال أخبرك بشيء على أن تكتمه قلت نعم قال أتدري من المعني بقوله يا شقيق النفس من حكم قلت لا قال أنا والله المعني بذلك والشعر لوالبة بن الحباب قال وما علم بذلك غيرك وأنت أعلم فما حدثت بهذا حتى مات قال وقال الجاحظ كان والبة بن الحباب ومطيع بن إياس ومنقذ بن عبد الرحمن الهلالي وحفص بن أبي وردة وابن المقفع ويونس بن أبي فروة وحماد عجرد وعلي بن الخليل وحماد بن أبي ليلى الراوية وابن الزبرقان وعمارة بن حمزة ويزيد بن الفيض وجميل بن محفوظ وبشار المرعث وأبان اللاحقي ندماء يجتمعون على الشراب وقول الشعر ولا يكادون يفترقون ويهجو بعضهم بعضا هزلا وعمدا وكلهم متهم في دينه والبة وأبو العتاهية يتهاجيان أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني إسحاق بن إبراهيم بن محمد السالمي الكوفي التيمي قال حدثني محمد بن عمر الجرجاني قال رأيت أبا العتاهية جاء إلى أبي فقال له إن والبة بن الحباب قد هجاني ومن أنا منه أنا جرار مسكين وجعل يرفع من والبة ويضع من نفسه فأحب أن تكلمه أن يمسك عني قال فكلم أبي والبة وعرفه أن أبا العتاهية جاءه وسأله ذلك فلم يقبل وجعل يشتم أبا العتاهية فتركه ثم جاء أبو العتاهية فسأله عما عمل في حاجته فأخبره بما رد عليه والبة فقال لأبي لي الآن إليك حاجة قال وما هي قال لا تكلمني في أمره قال قلت له هذا أول ما يجب لك قال فقال أبو العتاهية يهجوه ( أوالِبُ أنت في العرَبِ ... كمِثْل الشِّيصِ في الرُّطَبِ ) ( هَلُمَّ إلى المَوالِي الصِّيدِ ... في سعَةٍ وفي رَحَبِ ) ( فأنتَ بنا لعَمْرُ الله ... أشبهُ منك بالعرَبِ ) ( غضِبْتُ عليك ثم رأيتُ ... وجهَك فانْجَلى غَضبِي ) ( لَمَا ذكَّرتني من لون أَجْدادي ... ولونِ أبِي ) ( فقُل ما شئتَ أقبْله ... وإن أطْنبتَ في الكَذِب ) ( لقد أُخبِرت عنك وعن ... أبيك الخالص العرَبي ) ( فقال العارِفُون به ... مُصاصٌ غيرُ مُؤْتَشِبِ ) ( أتانا من بلاد الرُّومِ ... مُعْتَجِراً على قَتَبِ ) ( خفيفَ الحَاذِ كالصّمْصامِ ... أطلسَ غيرَ ذي نَشَبِ ) ( أوالبُ ما دهاكَ وأنتَ ... في الأَعراب ذو نَسبِ ) ( أراك وُلدتَ بالمِرِّيخ ... يابنَ سَبائِك الذهب ) ( فجئتَ أُقَيْشِرَ الخدَّيْن ... أزرقَ عارِمَ الذَّنَبِ ) ( لقد أخطأتَ في شَتمِي ... فخبِّرْني ألم أُصِبِ ) وقال في والبة أيضا ( نَطقتْ بنو أسَدٍ ولم تَجهرْ ... وتكلَّمَت خَفْيا ولم تَظهرْ ) ( وأما وربِّ البيت لو نطقتْ ... لتركتها وصبَاحُها أغبرْ ) ( أيرومُ شتمِي منهمُ رجلٌ ... في وجهه عِبَرٌ لِمَن فكَّرْ ) ( وابنُ الحُبابِ صَلِيبةً زعموا ... ومن المحالِ صليبةٌ أشقَرْ ) ( ما بال مَنْ آباؤه عُرُب الألْوان ... يُحسب من بني قيصرْ ) ( أترون أهلَ البدوِ قد مُسِخوا ... شُقراً أما هذا من المُنْكَرْ ) قال وأول هذه القصيدة ( صَرِّح بما قد قلته واجهَرْ ... لابن الحُباب وقل ولا تَحْصَرْ ) ( ما لي رأيتُ أباك أسوادَ غِربيب ... القَذَالِ كأنه زُرْزُرْ ) ( وكأنّ وجهَك حُمرةً رِئةٌ ... وكأنَّ رأسَك طائرٌ أصفرْ ) قال وبلغ الشعر والبة فجاء إلى أبي فقال قد كلمتني في أبي العتاهية وقد رغبت في الصلح قال له أبي هيهات إنه قد أكد علي إن لم تقبل ما طلب أن أخلي بينك وبينه وقد فعلت فقال له والبة فما الرأي عندك فإنه فضحني قال تنحدر إلى الكوفة فركب زورقا ومضى من بغداد إلى الكوفة وأجود ما قاله والبة في أبي العتاهية قوله ( كان فينا يُكنى أبا إسحاقِ ... وبها الرَّكْبُ سار في الآفاق ) ( فتَكنَّى معتوهُنا بعَتاهٍ ... يا لها كُنيةً أتت باتفاقِ ) ( خلق الله لِحْيةً لك لا تَنْفكُّ ... معقودةً لدى الحلاَّقً ) وله فيه وهو ضعيف سخيف من شعره ( قل لابنِ بائعةِ القِصار ... وابنِ الدَّوارقِ والجرارِ ) ( تَهوى عُتَيْبَةَ ظاهراً ... وهواك في أَيْرِ الحِمارِ ) ( تهجو موالِيك الأُلَى ... فَكُّوك من ذلِّ الإِسارِ ) والبة وعلي بن ثابت أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر قال حدثني ابن أبي فنن قال كان والبة بن الحباب خليلا لعلي بن ثابت وصديقا ودودا وفيه يقول ( حَيّ بها والبَةَ المُصْطَفَى ... حَيِّ كَرِيماً وابن حُرِّ هِجانِ ) ( وقاسِماً نَفْسِي فدَتْ قاسِماً ... من حَدَث المَوْتِ ورَيْبِ الزَّمانِ ) قال ولما مات والبة رثاه فقال ( بكت البَرِيَّة قاطِبَهْ ... جَزَعاً لِمَصْرع والِبَهْ ) ( قامَتْ لِمَوْتِ أبي أُسامةَ ... في الرِّفاق النَّادِبَهْ ) قال وكان والبة أستاذ أبي نواس وعنه أخذ ومنه اقتبس قال وكان والبة قد قصد أبا بجير الأسدي وهو يتولى للمنصور الأهواز فمدحه وأقام عنده فألفى أبا نواس هناك وهو أمرد فصحبه وكان حسن الوجه فلم يزل معه فيقال إنه كشف ثوبه ليلة فرأى حمرة أليتيه وبياضهما فقبلهما فضرط عليه أبو نواس فقال له لم فعلت هذا ويلك قال لئلا يضيع قول القائل ما جزاء من يقبل الاست إلا ضرطة أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل قال حدثني أبو سلهب الشاعر قال كان والبة بن الحباب صديقي وكان ماجنا طبعا خفيف الروح خبيث الدين وكنا ذات يوم نشرب بغمى فانتبه يوما من سكره فقال لي يا أبا سلهب اسمع ثم أنشدني قال ( شَرِبتُ وفاتِكٌ مِثْلي جَمُوحٌ ... بِغُمَّى بالكؤوس وبالبَواطِي ) ( يُعاطِيني الزُّجَاجَةَ أرْيَحِيٌّ ... رَخِيمُ الدلِّ بُورِك من مُعاطِي ) ( أقول له على طَرَبٍ ألِطْني ... ولو بمُؤاجِرٍ عِلْجٍ نَباطِي ) ( فما خَيرُ الشَّرابِ بغَيْر فِسْقٍ ... يُتابَعُ بالزِّناء وباللِّواطِ ) ( جعلتُ الحجَّ في غُمَّى وبِنَّا ... وفي قُطْربُّلٍ أبداً رِباطِي ) ( فقل للخَمْسِ آخرُ مُلتَقانا ... إذا ما كان ذاك على الصِّراطِ ) يعني الصلوات قال وحدثني أنه كان ليلة نائما وأبو نواس غلامه إلى جانبه نائم إذ أتاه آت في منامه فقال له أتدري من هذا النائم إلى جانبك قال لا قال هذا أشعر منك وأشعر من الجن والإنس أما والله لأفتنن بشعره الثقلين ولأغرين به أهل المشرق والمغرب قال فعلمت أنه إبليس فقلت له فما عندك قال عصيت ربي في سجدة فأهلكني ولو أمرني أن أسجد له ألفا لسجدت حكم الوادي يغني شعره أخبرني الحسين بن يحيى قال حدثنا حماد بن إسحاق قال قرأت على أبي عن أبيه أن حكم الوادي أخبره أنه دخل على محمد بن العباس يوما بالبصرة وهو يتململ خمارا وبيده كأس وهو يجتهد في شربها فلا يطيقه وندماؤه بين يديه في أيديهم أقداحهم وكان يوم نيروز فقال لي يا حكم غنني فإن أطربتني فلك كل ما أهدي إلي اليوم قال وبين يديه من الهدايا أمر عظيم فاندفعت أغني في شعر والبة بن الحباب صوت ( قد قابلتنا الكؤوسُ ... ودابَرَتْنا النُّحوسُ ) ( واليوم هرمزروز ... قد عَظَّمتْه المَجوسُ ) ( لم نُخطِه في حِسابٍ ... وذاك ممّا نَسوسُ ) فطرب واستعاد فأعدته ثلاث مرات فشمرت قدحه واستمر في شربه وأمر بحمل كل ما كان بين يديه إلي فكانت قيمته ثلاثين ألف درهم لحن حكم الوادي في هذا الشعر هزج بالبنصر عن الهشامي وإبراهيم وغيرهما صوت ( لقد زادَ الحَياةَ إليَّ حُبًّا ... بناتِي إنَّهُنَّ من الضِّعافِ ) ( مخافَةَ أن يَذُقْنَ البُؤسَ بَعدِي ... وأن يَشْرَبْنَ رَنْقاً بعد صافِ ) ( وأن يَعرَيْن إن كُسِيَ الجَوارِي ... فيُبدي الصُّرُّ عن هُزْلٍ عِجافِ ) ( ولولاهنّ قد سَوَّمْتُ مُهري ... وفي الرَّحْمان للضُّعفاءِ كافِ ) الشعر لعمران بن حطان فيما ذكر أبو عمرو الشيباني وذكر المدائني أنه لعيسى الحبطي وكلاهما من الشراة والغناء لمحمد بن الأشعث الكوفي خفيف رمل بالوسطى من رواية عمرو بن بانة أخبار عمران بن حطان ونسبه هو عمران بن حطان بن ظبيان بن لوذان بن عمرو بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل وقال ابن الكلبي هو عمران بن حطان بن ظبيان بن معاوية بن الحارث ابن سدوس ويكنى أبا شهاب شاعر فصيح من شعراء الشراة ودعاتهم والمقدمين في مذهبهم وكان من القعدة لأن عمره طال فضعف عن الحرب وحضورها فاقتصر على الدعوة والتحريض بلسانه وكان قبل أن يفتن بالشراة مشتهرا بطلب العلم والحديث ثم بلي بذلك المذهب فضل وهلك لعنه الله وقد أدرك صدرا من الصحابة وروي عنهم وروى عنه أصحاب الحديث فما روي عنه ما أخبرنا به محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا أبو الوليد الطيالسي عن أبي عمرو بن العلاء عن أبي صالح بن سرح اليشكري عن عمران بن حطان قال كنت عند عائشة فتذاكروا القضاة فقالت قال رسول الله ( يؤتى بالقاضي العدل فلا يزال به ما يرى من شدة الحساب حتى يتمنى أنه لم يقض بين اثنين في تمرة ) وكان أصله من البصرة فلما اشتهر بهذا المذهب طلبه الحجاج فهرب إلى الشام فطلبه عبد الملك فهرب إلى عُمان وكان يتنقل إلى أن مات في تواريه أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا منيع بن أحمد السدوسي عن أبيه عن جده قال كان عمران بن حطان من أهل السنة والعلم فتزوج امرأة من الشراة من عشيرته وقال أردها عن مذهبها إلى الحق فأضلته وذهبت به الحجاج يطلبه فيهرب إلى الشام وأخبرني بخبره في هربه من الحجاج عمر بن عبد الله بن جميل العتكي ومحمد بن العباس اليزيدي قالا حدثنا الرياشي قال حدثنا الحكم بن مروان قال حدثنا الهيثم بن عدي قال طلب الحجاج عمران بن حطان السدوسي وكان من قعدة الخوارج فكتب فيه إلى عماله وإلى عبد الملك وأخبرني بهذا الخبر أيضا الحسن بن علي الخفاف ومحمد بن عمران الصيرفي قالا حدثنا العنزي قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن عبد الصمد الدارع قال حدثنا أبو عبيدة معمر بن المثنى عن أخيه يزيد بن المثنى أن عمران بن حطان خرج هاربا من الحجاج فطلبه وكتب فيه إلى عماله وإلى عبد الملك فهرب ولم يزل يتنقل في أحياء العرب وقال في ذلك ( حَلَلْنا في بني كَعْبٍ بن عَمْرٍو ... وفي رِعْلٍ وعامرِ عَوْثَبانِ ) ( وفي جَرْمٍ وفي عمرو بن مُرٍّ ... وفي زيدٍ وحيّ بني الغُدان ) ثم لحق بالشام فنزل بروح بن زنباع الجذامي فقال له روح ممن أنت قال من الأزد أزد السراة قال وكان روح يسمر عند عبد الملك فقال له ليلة يا أمير المؤمنين إن في أضيافنا رجلا ما سمعت منك حديثا قط إلا حدثني به وزاد فيما ليس عندي قال ممن هو قال من الأزد قال إني لأسمعك تصف صفة عمران بن حطان لأنني سمعتك تذكر لغة نزارية وصلاة وزهدا ورواية وحفظا وهذه صفته فقال روح وما أنا وعمران ثم دعا بكتاب الحجاج فإذا فيه أما بعد فإن رجلا من أهل الشقاق والنفاق قد كان أفسد علي أهل العراق وحببهم بالشراية ثم إني طلبته فلما ضاق عليه عملي تحول إلى الشام فهو ينتقل في مدائنها وهو رجل ضرب طوال أفوه أروق قال قال روح هذه والله صفة الرجل الذي عندي ثم أنشد عبد الملك يوما قول عمران يمدح عبد الرحمن بن ملجم - لعنه الله - بقتله علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ( يا ضَربةً من كَرِيمٍ ما أرادَ بها ... إلا ليبلُغ من ذِي العَرْشِ رِضوانا ) ( إني لأُفْكرِ فيه ثم أحْسَبه ... أوفَى البَرِيَّةِ عند اللهِ مِيزانَا ) ثم قال عبد الملك من يعرف منكم قائلها فسكت القوم جميعا فقال لروح سل ضيفك عن قائلها قال نعم أنا سائله وما أراه يخفي على ضيفي ولا سألته عن شيء قط فلم أجده إلا عالما به وراح روح إلى أضيافه فقال إن أمير المؤمنين سألنا الذي يقول ( يا ضَرْبَةَ من كَرِيمٍ ما أراد بِها ... . . . . . . . . . . . . . . . ) ثم ذكر الشعر وسألهم عن قائله فلم يكن عند أحد علم فقال له عمران هذا قول عمران بن حطان في ابن ملجم قاتل علي بن أبي طالب قال فهل فيها غير هذين البيتين تفيدنيه قال نعم ( لله دَرُّ المُرَادِيِّ الذي سَفَكت ... كُفّاه مُهْجَة شَرّ الخَلْقِ إنسانا ) ( أمسى عَشِيّة غشَّاه بضَرْبَتِه ... ممّا جَناهُ من الآثام عُرْيانا ) - صلوات الله على أمير المؤمنين ولعن الله عمران بن حطان وابن ملجم - فغدا روح فأخبر عبد الملك فقال من أخبرك بذلك فقال ضيفي قال أظنه عمران بن حطان فأعلمه أني قد أمرتك أن تأتيني به قال أفعل فراح روح إلى أضيافه فأقبل على عمران فقال له إني ذكرتك لعبد الملك فأمرني أن آتيه بك قال كنت أحب ذلك منك وما منعني من ذكره إلا الحياء منك وأنا متبعك فانطلق فدخل روح على عبد الملك فقال له أين أجد صاحبك فقال قال لي أنا متبعك قال أظنك والله سترجع فلا تجده فلما رجع روح إلى منزله إذا عمران قد مضى وإذا هو قد خلف رقعة في كوة عند فراشه وإذا فيها يقول ( يا رَوحُ كم من أخِي مَثْوىً نزلت به ... قد ظنَّ ظنَّك من لخمٍ وغسَّانِ ) ( حتى إذا خِفتُه فارقتُ منزِلَه ... من بعد ما قِيلَ عمرانُ بنُ حِطَّانِ ) ( قد كنتُ ضيفَك حَولاً لا تروِّعَنِي ... فيه الطوارِقُ من إنْسٍ ولا جانِ ) ( حتى أردت بِيَ العُظْمى فأوحَشَني ... ما أوحشَ الناسَ من خوفِ ابنِ مَرْوانِ ) ( فاعذِر أخاكَ ابنَ زِنْباعٍ فإنّ له ... في الحادثاتِ هَناتٍ ذاتَ ألْوانِ ) ( يوما يَمانٍ إذا لاقيتُ ذا يَمنٍ ... وإن لَقِيتُ مَعَدِّياً فعَدْنانِي ) ( لو كنتُ مُستغفِراً يوماً لطاغِيةٍ ... كُنتَ المُقدَّم في سِرِّي وإعلاني ) ( لكن أبتْ ذاك آياتٌ مُطَهَّرةٌ ... عند التِّلاوة في طَهَ وعِمران ) عمران ينزل بزفر بن الحارث بقرقيسيا قال ثم أتى عمران بن حطان الجزيرة فنزل بزفر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا فجعل شباب بني عامر يتعجبون من صلاته وطولها وانتسب لزفر أوزاعيا فقدم على زفر رجل من أهل الشام قد كان رأى عمران بن حطان بالشام عند روح بن زنباع فصافحه وسلم عليه فقال زفر للشامي أتعرفه قال نعم هذا شيخ من الأزد فقال له زفر أزدي مرة وأوزاعي أخرى إن كنت خائفا آمناك وإن كنت عائلا أغنيناك فقال إن الله هو المغني وخرج من عنده وهو يقول ( إن الَّتي أصبحَتْ يَعْيَا بها زُفَرٌ ... أعْيت عَياءً على رَوْحِ بن زِنباعِ ) ( أمسي يُسائِلني حولاً لأُخْبِرَه ... والناسُ من بين مَخدوعٍ وخَدَّاعِ ) ( حتى إذا انْجَذَمَتْ مِنِّي حَبائِلُه ... كَفَّ السُّؤالَ ولم يُولَع بإهلاعِي ) ( فاكْفُف كما كَفَّ روْحٌ إنَّنِي رجلٌ ... إمّا صرِيحٌ وإمّا فَقْعَةُ القاعِ ) ( أمَّا الصَّلاةُ فإني غيرُ تارِكِها ... كلُّ امرىءٍ للَّذي يُعنَى به ساعي ) ( فاكفف لِسانَك عن هَزِّي ومَسْألتي ... ماذا تُريد إلى شيخٍ لأوزاعِ ) ( أكرِمْ برَوْحِ بنِ زِنباعٍ وأُسرتِه ... قوماً دَعا أوّلِيهم للعُلا داعي ) ( جاورتُهم سنَةً فيما دَعوتُ به ... عِرضِي صَحيحٌ ونَوْمي غيرُ تَهجاعِ ) ( فاعمَلْ فإنك مَنْعِيُّ بحاذِثَةٍ ... حَسْبُ اللَّبيبِ بهذا الشيبِ من ناعِي ) وصوله إلى روذميسان ووفاته بها ثم خرج فنزل بعمان بقوم يكثرون ذكر أبي بلال مرداس بن أدية ويثنون عليه ويذكرون فضله فأظهر فضله ويسر أمره عندهم وبلغ الحجاج مكانه فطلبه فهرب فنزل في روذميسان - طسوج من طساسيج السواد إلى جانب الكوفة - فلم يزل به حتى مات وقد كان نازلا هناك على رجل من الأزد فقال في ذلك ( نَزلتُ بحَمْدِ الله في خَيْر أُسرةٍ ... أُسَرُّ بما فيهم من الإِنْس والَخفَرْ ) ( نزلتُ بقومٍ يجمَعُ اللهُ شملَهم ... وما لهم عُودٌ سِوَى المَجْدُ يُعْتَصرْ ) ( ومن الأَزْدِ إنْ الأزْدَ أكرمُ أسرةٍ ... يمانية قَرْبوا إذا نُسِب البَشَرْ ) قال اليزيدي الإنس بالكسر الاستئناس وقال الرياشي أراد قربوا فخفف قال ( وأصبحتُ فيهم آمِناً لا كَمَعْشَرٍ ... بَدَوْنِي فقالوا من ربيعةَ أو مُضَرْ ) ( أو الحيِّ قَحْطانٍ وتلْك سَفاهةٌ ... كما قال لِي رَوْحٌ وصاحِبُه زُفَر ) ( وما مِنهمُ إلا يُسَرُّ بنسبةٍ ... تُقَرِّبني منهم وإن كان ذا نَفر ) ( فنحن بَنو الإسلام والله واحدٌ ... وأولى عِباد الله بالله مَن شكر ) أخبرنا اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا الأصمعي عن المعتمر بن سليمان قال كان عمران بن حطان رجلا من اهل السنة فقدم عليه غلام من عمان كأنه نصل فقلبه عن مذهبه في مجلس واحد أخبرني اليزيدي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا مسدد بن مسرهد قال حدثنا بشر بن المفضل عن سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا عمرو بن علي القلاس وعباس العنبري ومحمد بن عبد الله المخزومي قالوا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن بشر بن المفضل عن سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين قال تزوج عمران بن حطان امرأة من الخوارج فقيل له فيها فقال أردها عن مذهبها فذهبت هي به نسخت عن بعض الكتب حدثنا المدائني عن جويرية قال كتب عيسى الحبطي إلى رجل منهم يقال له أبو خالد كان تخلف عن الخروج مع قطري أو غيره منهم ( أبا خالدٍ انفرْ فلستَ بخالدٍ ... وما تركَ الفُرقانُ عُذْراً لِقاعدِ ) ( أتزعم أنّا الخارجون على الهدى ... وأنت مُقيمٌ بين لِصٍّ وجاحدِ ) فكتب إليه ما منعني عن الخروج إلا بناتي والحدب عليهن حين سمعت عمران بن حطان يقول ( لقد زاد الحياةَ إليَّ حُبَّاً ... بناتي إنّهن من الضِّعافِ ) ( ولولا ذاك قد سَوَّمتُ مُهرِي ... وفي الرَّحمن للضُّعفاء كاف ) قال فجلس عيسى يقرأ الأبيات ويبكي ويقول صدق أخي إن في ذلك لعذرا له وإن في الرحمن للضعفاء كافيا الأخطل يقول عمران أشعر الشعراء وقال هارون أخذت من خط أبي عدنان أخبرني أبو ثروان الخارجي قال سمعت أشياخ الحي يقولون اجتمعت الشعراء عند عبد الملك بن مروان فقال لهم أبقي أحد أشعر منهم قالوا لا فقال الأخطل كذبوا يا أمير المؤمنين قد بقي من هو أشعر منهم قال ومن هو قال عمران بن حطان قال وكيف صار أشعر منهم قال لأنه قال وهو صادق ففاقهم فكيف لو كذب كما كذبوا أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه عن ابن أبي سعد عن أحمد بن محمد بن علي بن حمزة الخراساني عن محمد بن يعقوب بن عبد الوهاب عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن القارئ عن الزهري عن أبيه أن غزالة الحرورية لما دخلت على الحجاج هي وشبيب الكوفة تحصن منها وأغلق عليه قصره فكتب إليه عمران بن حطان وقد كان الحجاج لج في طلبه قال ( أسَدٌ عليَّ وفي الحروبِ نَعامةٌ ... ربداءُ تَجْفَلُ من صَفير الصافر ) ( هلاّ بَرزتَ إلى غَزالة في الوغَى ... بل كان قَلبك في جَناحَيْ طَائرِ ) ( صدعَتْ غَزالةُ قلبه بفوارسٍ ... تركتْ مدابِرَه كأمْس الدَّابر ) ثم لحق بالشام فنزل على روح بن زنباع أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا محمد بن خالد أبو حرب قال حدثنا محمد بن عباد المهلبي قال حدثنا جرير بن حازم قال كان عمران بن حطان أشد الناس خصومة للحرورية حتى لقيه أعرابي حروري فخاصمه فصار عمران حروريا ورجع عن رأيه قال جرير بن حازم كان الفرزدق يقول لقد أحسن بنا ابن حطان حيث لم يأخذ فيما أخذنا فيه ولو أخذ فيما أخذنا فيه لأسقطنا يعني لجودة شعره نسخت من كتاب ابن سعد قال أخبرني الحسن بن عليل العنزي قال أخبرني أحمد بن عبد الله بن سويد بن منجوف السدوسي قال أخبرني أحمد بن مؤرج عن أبيه قال حدثني به تميم بن سوادة وهو ابن أخت مؤرج قال حدثني أبو العوام السدوسي قال كان مالك المذموم رجلا من بني عامر بن ذهل وكان من الخوارج وكان الحجاج يطلبه قال أبو العوام فدخلت عليه يوما وهو في تواريه فأنشدني يقول ( ألم ياْنِ لي يا قَلبُ أن أتْركَ الصِّبا ... وأن أزجرَ النفسَ اللَّجُوجَ عن الهَوَى ) ( وما عُذرُ مَنْ يَعْمَى وقد شاب رأسُه ... ويُبصِر أبوابَ الضَّلالةِ والهُدَى ) ( ولو قُسِم الذَّنبُ الذي قد أصبْتُه ... على النَّاسِ خاف النَّاسُ كُلّهم الرَّدَى ) ( فإن جُنَّ ليلٌ كُنتُ باللَّيل نائما ... وأُصبِح بَطَّالَ العَشِيَّاتِ والضُّحى ) قال فلما فرغ من إنشادها قال سيغلبني عليها صاحبكم يعني عمران بن حطان فكان كذلك لما شاعت رواها الناس لعمران وكان لا يقول أحد من الشعراء شعرا إلا نسب إليه لشهرته إلا من كان مثله في الشهرة مثل قطري وعمرو القنا وذويهما قال ثم هرب إلى اليمامة من الحجاج فنزل بحجر فأتاه آل حكام الحنفيون فقال ( طَيَّروني من البلاد وقالوا ... مالَكَ النِّصفُ من بني حَكَّامِ ) ( ناقَ سِيري قد جَدّ حَقّاً بنا السَّيرُ ... وكونِي جَوَّالةً في الزِّمامِ ) ( فَمَتى تَعْلَقِي يَدَ المَلِك الأسْودِ ... تَسْتَيْقِني بألاّ تُضامِي ) ( قد أُرانِي ولي من الحاكم النِّصْفُ ... بحَدّ السِّنانِ أو بالحُسامِ ) قال والملك الأسود إبراهيم بن عربي والي اليمامة لعبد الملك وكان ابن حكام على شرطته قال ( ومُنينا بِطمْطِمٍ حَبَشيٍّ ... حالكِ الوَجْنَتَيْنِ من آلِ حامِ ) ( لا يُبالِي إذا تَضلَّع خَمْراً ... أبِحِلٍّ زَماك أم بِحرامِ ) قال العنزي فأخبرني محمد بن إدريس بن سليمان بن أبي حفصة عن أبيه قال كان مالك المذموم من أحسن الناس قراءة للقرّآن فقرأ ذات ليلة فسمعت قراءته امرأة من آل حكام فرمت بنفسها من فوق سطح كانت عليه فسمع الصوت أهلها فأتوه فضربوه ضربات فاستعدى عليهم إبراهيم بن عربي وكان عبد الله بن حكام على شرطته فلم يعده عليهم فهجاه بالأبيات الماضية وهجاه بقصيدته التي أولها ( دارَ سَلْمى بالجِزْع ذِي الآطام ... خَبِّرينا سُقِيتِ صوبَ الغَمامِ ) وهي طويلة ينسبونها أيضا إلى عمران بن حطان الفرزدق يعترف بتفوقه أخبرني أحمد بن الحسين الأصبهاني ابن عمي قال حدثني أبو جعفر بن رستم الطبري النحوي قال حدثنا أبو عثمان المازني قال حدثنا عمرو بن مرة قال مر عمران بن حطان على الفرزدق وهو ينشد والناس حوله فوقف عليه ثم قال ( أيُّها المادِحُ العبادَ ليُعْطَى ... إنَّ لِلَّهِ ما بأيْدِي العِبادِ ) ( فاسألِ اللهَ ما طلبتَ إليهم ... وارجُ فضل المُقسِّم العَوَّادِ ) ( لا تقُل في الجَواد ما ليس فيه ... وتُسمِّي البخِيلَ باسم الجَواد ) فقال الفرزدق لولا أن الله عز و جل شغل عنا هذا برأيه للقينا منه شرا وقال هارون بن الزيات أخبرني عبد الرحمن بن موسى الرقي قال حدثنا أحمد بن محمد بن حميد بن سليمان بن حفص بن عبد الله بن أبي جهم بن حذيفة بن غانم العدوي قال حدثنا يزيد بن مرة عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عن عيسى بن يزيد بن بكر المدني قال اجتمع عند مسلمة بن عبد الملك ناس من سماره فيهم عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر فقال مسلمة أي بيت قالته العرب أوعظ وأحكم فقال له عبد الله قوله ( صَبا ما صَبا حتى عَلاَ الشَّيبُ رأْسُه ... فلما علاه قال لِلْباطل أبْعُد ) فقال مسلمة إنه والله ما وعظني شعر قط كما وعظني شعر ابن حطان حيث يقول ( فيُوشِكُ يَومٌ أن يُقارِنَ لَيلَةً ... يَسوقانِ حَتْفاً راح نَحْوك أو غدا ) فقال بعض من حضر والله لقد سمعته أجل الموت ثم أفناه وما صنع هذا غيره فقال مسلمة وكيف ذاك قال قال ( لا يُعجزُ المَوتَ شيءٌ دُونَ خالِقِه ... والموتُ فانٍ إذا ما ناله الأجَلُ ) ( وكُلُّ كَرْبٍ أمامَ الموتِ مُتَّضِعٌ ... للموت والمَوتُ فيما بَعْدَه جَلَلُ ) فبكى مسملة حتى اخضلت لحيته ثم قال رددهما علي فرددهما عليه حتى حفظهما أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا منيع بن أحمد بن مؤرج السدوسي عن ابيه عن جده قال تزوج عمران بن حطان حمزة بنت عمه ليردها عن مذهب الشراية فذهبت به إلى رأيهم فجعل يقول فيها الشعر فمما قال فيها ( يا حَمْزَ إنّي على ما كان من خلقي ... مُثْنٍ بخَلاّت صِدْقٍ كُلُّها فيكِ ) ( اللهُ يعلَم أنِّي لم أقُل كَذِباً ... فيما عَلِمْتُ وأنِّي لا أُزكِّيكِ ) أخبرني الحسن قال حدثنا محمد بن موسى وحدثني بعض أصحابنا عن العمري عن الهيثم بن عدي أن امرأة عمران بن حطان قالت له ألم تزعم أنك لا تكذب في شعرك قال بلى قالت أفرأيت قولك ( وكذاك مَجْزَأة بن ثَوْرٍ ... كان أشجعَ من أُسامَهْ ) أيكون رجل أشجع من الأسد قال نعم إن مجزأة بن ثور فتح مدينة كذا والأسد لا يقدر على فتح مدينة صوت ( نَدِيميَّ قد خَفَّ الشَّرابُ ولم أجد ... له سَورةً في عَظْم رأسي ولا جِلْدي ) ( نَدِيميَّ هذِي غِبُّهُم فاشرَبا بها ... ولا خَيْر في شُرْب يكون على صَرْدِ ) الشعر لعمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي والغناء لابن سريج خفيف ثقيل أخبار عمارة بن الوليد ونسبه عمارة بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب وهو أحد أزواد الركب ويقال له الوحيد وكان أزواد الركب لا يمر عليهم أحد إلا قروه وأحسنوا ضيافته وزودوه ما يحتاج إليه لسفره وكان عمارة بن الوليد فخورا معنا متعرضا لكل ذي عارضة من قريش فأخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا الزبير بن بكار عن الحزامي قال مر عمارة بن الوليد بمسافر بن عمرو فوقف عليه وهو منتش فقال ( خُلق البيضُ الحِسان لنا ... وجِيادُ الرَّيْطِ والأُزُرُ ) ( كابِراً كُنَّا أحقّ به ... حين صِيغ الشَّمْسُ والقَمَرُ ) فأجابه مسافر بن عمرو بن أمية فقال ( أعُمارَ بنَ الوليد لقد ... يذكُر الشَّاعِر مَنْ ذَكَره ) ( هل أخو كَأْسٍ مُخَفِّفها ... ومُوَقٍّ صَحبه سَكَرهْ ) ( ومُحَيِّيهم إذا شَرِبُوا ... ومُقِلٍّ فيهمُ هَذَرَهْ ) ( خُلِق البِيضُ الحِسانُ لنا ... وجياد الرَّيْطِ والحَبَرهْ ) ( كابراً كُنّا أحقَّ به ... كلُّ حيٍّ تابعٌ أثَرَهْ ) أخبرنا عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية أن عمارة بن الوليد خطب امرأة من قومه فقالت لا أتزوجك أو تترك الشراب والزنا قال أما الزنا فأتركه وأما الشراب فلا أتركه ولا أستطيع ثم اشتد وجده بها فحلف ألا يشرب فتزوجها ومكث حينا لا يشرب ثم إنه لبس ذات يوم حلته وركب ناقته وخرج يسير فمر بخمار وعنده شرب يشربون فدعوه فدخل عليهم وقد أنفدوا ما عندهم فقال للخمار أطعمهم ويلك فقال ليس عندي شيء فنحر لهم ناقته فأكلوا منها فقال اسقهم ولم يكن معهم شيء يشربون به فسقاهم ببردته ومكثوا أياما ذوات عدد ثم خرج فأتى أهله فلما رأته امرأته قالت له ألم تحلف ألا ترشب ولامته فقال ( ولسنا بشَرْبٍ أُمَّ عمرو إذا انتشوْا ... ثيابُ النَّدامَى عندهم كالغنائِم ) ( ولكننا يا أُمَّ عَمْرٍو نديمُنا ... بمنزلة الرّيّان ليس بعائمِ ) ( أسرَّك لما صرّع القومَ نشوةٌ ... أنَ اخرُجَ منها سالماً غير غارِمِ ) ( خَلِيّاً كأنِّي لم أكن كُنتُ فيهمُ ... وليس الخِداعُ مُرتضًى في التّنادِم ) عمارة وعمرو بن العاص أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن قادم مولى بني هاشم قال حدثني عمي أحمد بن جعفر عن ابن دأب قال قدم رجل من تجار الروم بحلة من لباس قيصر على أهل مكة فأتى بها عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي فعرضها عليه بمائة حق من الإبل فاستغلاها فأتى بها عمرو بن العاص فقال له هل أتيت بها أحدا قال نعم عمارة بن الوليد فاستغلاها وقال لن تعدم لها غويا من بني سهم قال قد أخذتها فاشتراها بمائة حق يعني مائة بعير ثم أقبل يخطر فيها حتى أتى بني مخزوم فناداه عمارة أتبيع الحلة يا عمرو فغضب والتفت إلى عمارة فقال ( عليكَ بجزّ رأس أبيك إنّا ... كفيناك المُسَهَّمة الرِّقاقا ) ( زَوَوْها عنكُم وغَلَتْ عليكم ... وأعطينا بها مائةً حِقاقا ) ( وقلتم لا نطيق ثيابَ سَهْمٍ ... وكلُّ سوف يَلبُسُ ما أطاقا ) قال فغضب عمارة وقال يا عمرو ما هذا التهور إنك لست بعتبة بن ربيعة ولا بأبي سفيان بن حرب ولا الوليد بن المغيرة ولا سهيل بن عمر ولا أبي بن خلف فقال عمرو إلا أكن بعضهم فإن كل واحد منهم خير ما فيه في من عتبه حلمه ومن أبي سفيان رأيه ومن سهيل جوده ومن أبي بن خلف نجدته وأما الوليد فوالله ما أحب أن في كل ما فيه من خير وشر ولكنك والله مالك عقل الوليد ولا بأس الحارث بن هشام وخالد بن الوليد ولا لسان أبي الحكم يعني أبا جهل وانصر فأمر عمارة بجزور فنحرت على طريق عمرو وأقبل عمرو فقال لمن هذه الجزور قيل لعمارة فقال له أطعمنا منها يا عمارة فضحك منه ثم قال ( عليك بجَزْر أيرِ أبيك إنا ... كفيناك المُشَاشة والعُراقَا ) ( ومَنسَبَة الأطايب من قريشٍ ... ولم تَر كأسَنا إلاَّ دِهاقا ) ( ونلبس في الحوادث كلَّ زَغْفٍ ... وعند الأمن أبْراداً رقاقا ) فوقع الشر بينهم فقال عمرو ( لعَمْرُ أبيك والأخبار تَنْمِي ... لقد هَيَّجْتَني يا بنُ الوليدِ ) ( فلا تعجل عُمارةُ إنَّ سَهْماً ... لمخزومِ بن يَقْظةَ في العديدِ ) ( وأورِدْ يا عُمارة إنَّ عودِي ... منَ اعواد الأباطحِ خيرُ عودِ ) فأجابه عمارة فقال ( ألا يا عمرو هل لك في قُريشٍ ... أبٌ مثلٌ المُغيرة والوليدِ ) ( وجَدٌّ مثلُ عبدِ الله يَنْمِي ... الى عمرِو بن مخزومٍ بِعُودِ ) ( إذا ما عُدَّت الأعواد نَبْعاً ... فَمالِي في الأباطح من نَدِيدِ ) ( وقد عَلِمتْ سَراةُ بني لُؤيٍّ ... بأنّي غيرُ مؤتَشِبٍ زهيدِ ) ( وإني للمُنابذِ من قريشٍ ... شَجاً في الحَلْقِ من دون الوريدِ ) ( أحوطُ ذِمارَهم وأكفُّ عنهم ... وأصبِر في وغى اليوم الشَّديدِ ) ( وأبذُل ما يضنّ به رِجالٌ ... وتُطْمِعُني المروءةُ في المزيدِ ) ( وإنك من بني سَهْمِ بنِ عَمرٍو ... مكان الرِّدْفِ من عَجُزِ القَعودِ ) ( وكان أبوك جَزَّاراً . . وكانت ... له فأس وقِدْرٌ من حديدِ ) أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن أبي عوانة عن عبد الملك بن عمير أن عمر بن الخطاب قسم برودا في المهاجرين قال العمري هكذا ذكر أبو عوانة وقد حدثني الهيثم عن أبي يعقوب الثقفي عن عبد الملك بن عمير قال أخبرني من شهد ذلك أن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بعث إلى عمر بن الخطاب بحلل من اليمن فقال عمر علي بالمحمدين فأتي بمحمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب ومحمد بن طلحة بن عبيد الله ومحمد بن عمرو بن حزم ومحمد بن حاطب بن أبي بلتعة ومحمد بن حطاب أخي حاطب وكلهم سماه النبي محمدا فأقبلوا فاطلع محمد بن حطاب فيها فقال له عمر يا شيبة معمر - يعني عما له قتل يوم بدر - اكفف وكان زيد بن ثابت الأنصاري عنده فقال له عمر أعطهم حلة حلة فنظر إلى أفضلها وكانت أم أحدهم عنده فقال عمر ما هذا فقال هذه لفلان الذي هو ربيبه فقال عمر اردده وتمثل بقول عمارة بن الوليد ( أسرَّك لمّا صرَّع القومَ نشوةٌ ... أن اخرُجَ منها سالماً غيرَ غارمِ ) ( خَلِيّاً كأني لم أكن فيهمُ ... وليس الخِداعُ مُرتضىً في التّنادمِ ) وقال أبو عوانة . . . . من تصافي التنادم ثم أمر بالبرود فغطيت بثوب ثم خلطها ثم قال ليدخل كل امرىء يده فليأخذ حلته وما قسم له صوت ( قد يجمعُ المالَ غيرُ آكلِه ... ويأكلُ المالَ غيرُ من جَمعَهْ ) ( فاقبَلْ من الدَّهر ما أتاك به ... مَنْ قرَّ عيناً بعيشه نَفَعهْ ) ( لكلِّ همٍّ من الهموم سَعَهْ ... والصُّبح والمُسْيُ لا فلاحَ معه ) الشعر للأضبط بن قريع والغناء لأحمد بن يحيى المكي ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر من روايته وسمعناه يغني في طريقة خفيف رمل فسألت عنه ذكاء وجه الرزة فذكر أنه سمعه من محمد بن يحيى المكي في هذه الطريقة ولم يعرف صانعه ولا سأل عنه أخبار الأضبط ونسبه أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن طاهر قال قال أبو محلم أخبرني ضرار بن عيينة أحد بني عبد شمس قال كان الأضبط بن قريع مفركا وكان إذا لقي في الحرب تقدم أمام الصف ثم قال ( أنا الذي تفرُكه حلائلُهْ ... ألا فتىً مُعشَّقٌ أُنازلُهْ ) قال فاجتمع نساؤه ذات ليلة يسمرن فتعاقدن على أن يصدقن الخبر عن فرك الأضبط فأجمعن أن ذلك لأنه بارد الكمرة فقالت لإحداهن خالتها أتعجز إحداكن إذا كانت ليلته منها أن تسخن كمرته بشيء من دهن فلما سمع قولها صاح يا آل عوف يا آل عوف فثار الناس وظنوا أنه قد أتي فقال أوصيكم بأن تسخنوا الكمرة فإنه لا حظوة لبارد الكمرة فانصرفوا يضحكون وقالوا تبا لك ألهذا دعوتنا قال أبو محلم كانت أم الأضبط عجيبة بنت دارم بن مالك بن حنظلة وخالته الطموح بنت دارم أم جشم وعبد شمس ابني كعب بن سعد فحارب بنو الطموح قوما من بني سعد فجعل الأضبط يدس إليهم الخيل والسلاح ولا يصرح بنصرتهم خوفا من أن يتحزب قومه حزبين معه وعليه وكان يشير عليهم بالرأي فإذا أبرمه نقضوه وخالفوا عليه وأروه مع ذلك أنهم على رأيه فقال في ذلك ( لكل هَمٍّ من الهُموم سَعَهْ ... والمُسْيُ والصُّبح لا فلاحَ معه ) ( لا تحقِرنَّ الفقيرَ علَّكَ أن ... تركع يوماً والدهرُ قد رَفعهْ ) ( وصِلْ حِبال البعيد إن وَصلَ الحبْل ... واقْصِ القريبُ إن قطعهْ ) ( قد يجمع المال غيرُ آكلِهِ ... ويأكل المالَ غيرُ من جَمعهْ ) ( ما بال مَن غيُّه مُصِيبُك لا ... يملك شيئاً من أمره وَزعه ) ( حتى إذا ما انجلَتْ غَوايتُه ... أقبل يَلحي وغيُّه فجعهْ ) ( أذودُ عن نفسي ويخدَعُني ... يا قوم مَنْ عاذِرِي من الخُدَعهْ ) ( فأقْبَلْ من الدّهر ما أتاك به ... مَنْ قرَّ عيناً بعيشه نفعهْ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الخراز عن المدائني قال كان الأضبط بن قريع قد تزوج امرأة على مال ووصيفة فنشزت عليه ففارقها ولم يعطها ما كان ضمن لها فلما احتملت أنشأ يقول ( ألم تَرَها بانت بغير وصيفةٍ ... إذا ما الغواني صاحبتها الوَصَائِفُ ) ( ولكنها بانت شَموسٌ بَزِيَّة ... مُنعَّمةُ الأخلاق حدباءُ شارفُ ) ( لو أنّ رسولَ اللّهْوِ سلّم واقِفا ... عليها لرامتْ وَصله وهو واقفُ ) أخبرنا وكيع قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثنا الجماز قال أنشدت أبا عبيدة وخلفا الأحمر شعر الأضبط وصل حبال البعيد إن وصل الحبل وأقص القريب إن قطعه فما عرفا منه إلا بيتا وعجز بيت فالبيت الذي عرفاه فاقبل من الدهر ما أتاك به والعجز ( يا قوم مَنْ عاذِري من الخُدعَهْ ... ) والخدعة قوم من بني سعد بن زيد مناة بن تميم صوت ( وما أنا في أمري ولا في خصومتي ... بمُهْتَضَمٍ حقِّي ولا قارع سِنِّي ) ( ولا مُسلمٍ مولاي عند جنايةٍ ... ولا خائفٍ مولاي من شرٍّ ما أجْنِي ) الشعر لأعشى بني ربيعة والغناء لإبراهيم ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو أخبار الأعشى ونسبه الأعشى اسمه عبد الله بن خارجة بن حبيب بن قيس بن عمرو بن حارثة بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان بن ثعلبة الحصين بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار شاعر إسلامي من ساكني الكوفة وكان مرواني المذهب شديد التعصب لبني أمية الأعشى وعبد الملك بن مروان أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا عمي محمد بن عبيد الله عن محمد بن حبيب وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد عن عمه العباس بن هشام عن أبيه قالا قدم أعشى بني ربيعة على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك ما الذي بقي منك قال أنا الذي أقول ( وما أنا في أمري ولا في خُصومتِي ... بمُهْتَضَمٍ حقِّي ولا قارع سِنّي ) ( ولا مُسلمٍ مولاي عند جنايةٍ ... ولا خائفٍ مولاي من شر ما أجني ) ( وإن فُؤادي بين جَنبيَّ عالمٌ ... بما أبصرت عيني وما سَمِعَتْ أُذْنِي ) ( وفضَّلني في الشِّعر واللُّبِّ أَنَّنِي ... أقولُ على عِلمٍ وأعرِفُ مَن أعْنِي ) ( فأصبحتُ إذ فَضَّلتُ مروانَ وابنَه ... على الناسِ قد فضَّلتُ خيرَ أبٍ وابنِ ) فقال عبد الملك من يلومني على هذا وأمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت ثياب وعشر فرائض من الإبل وأقطعه ألف جريب وقال له امض إلى زيد الكاتب يكتب لك بها وأجرى له على ثلاثين عيلا فأتى زيدا فقال له ائتني غدا فأتاه فجعل يردده فقال له ( يا زيدُ يا فِداكَ كُلُّ كاتبِ ... في الناس بين حاضرٍ وغائبِ ) ( هل لك في حَقِّ عليكَ واجبِ ... في مثله يرغب كُلُّ راغِبِ ) ( وأنت عَفٌّ طَيِّب المكاسبِ ... مُبَرَّأٌ من عَيْبِ كلّ عائِبِ ) ( ولستَ - إن كفَيْتني وصاحِبي ... طُولَ غُدُوٍّ ورَواحٍ دائبِ ) ( وسُدَّةَ الباب وعُنفَ الحاجِبِ ... - من نِعْمةٍ أسَديْتَها بخائبِ ) فأبطأ عليه زيد فأتى سفيان بن الأبرد الكبي فكلمه سفيان فأبطأ عليه فعاد إلى سفيان فقال له ( عُدْ إذ بدأْتَ أبا يَحيى فأنت لَها ... ولا تُكْن حين هاب النَّاسُ هيّابا ) ( واشفَع شفاعةَ أنفٍ لم يكن ذَنَباً ... فإنَّ من شُفَعاءِ النَّاسِ أذْنابا ) فأتى سفيان زيدا الكاتب فلم يفارقه حتى قضى حاجته قال محمد بن حبيب دخل أعشى بني أبي ربيعة على عبد الملك وهو يتردد في الخروج لمحاربة ابن الزبير ولا يجد فقال له يا أمير المؤمنين ما لي أراك متلوما ينهضك الحزم ويقعدك العزم وتهم بالإقدام وتجنح إلى الإحجام انقد لبصيرتك وأمض رأيك وتوجه إلى عدوك فجدك مقبل وجده مدبر وأصحابه له ماقتون ونحن لك محبون وكلمتهم مفترقة وكلمتنا عليك مجتمعة والله ما تؤتى من ضعف جنان ولا قلة أعوان ولا يثبطك عنه ناصح ولا يحرضك عليه غاش وقد قلت في ذلك أبياتا فقال هاتها فإنك تنطق بلسان ودود وقلب ناصح فقال ( آلُ الزُّبَير من الخلافة كالّتي ... عَجِلَ النِّتاجُ بحَمْلها فأَحالَها ) ( أو كالضِّعاف من الحَمولة حُمِّلَت ... ما لا تُطِيق فضَيَّعت أحمالَها ) ( قُوموا إليهم لا تَناموا عنهمُ ... كَم للغُواةِ أطَلْتُمو إِمْهالَها ) ( إنَّ الخِلافةَ فيكمُ لا فيهمُ ... ما زِلْتُمُ أركانها وثِمَالها ) ( أمسْوا على الخيرات قُفْلاً مغلقاً ... فانهض بيُمْنِك فافتَتِحْ أقفالَها ) فضحك عبد الملك وقال صدقت يا أبا عبد الله إن أبا خبيب لقفل دون كل خير ولا نتأخر عن مناجزته إن شاء الله ونستعين الله عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل وأمر له بصلة سنية الأعشى والحجاج قال ابن حبيب كان الحجاج قد جفا الأعشى واطرحه لحالة كانت عند بشر بن مروان فلما فرغ الحجاج من حرب الجماجم ذكر فتنة ابن الأشعث وجعل يوبخ أهل العراق ويؤنبهم فقال من حضر من أهل البصرة إن الريب والفتنة بدآ من أهل الكوفة وهم أول من خلع الطاعة وجاهر بالمعصية فقال أهل الكوفة لا بل أهل البصرة أول من أظهر المعصية مع جرير بن هميان السدوسي إذ جاء مخالفا من السند وأكثروا من ذلك فقام أعشى بني أبي ربيعة فقال أصلح الله الأمير لا براءة من ذنب ولا ادعاء الله في عصمة لأحد من المصرين قد والله اجتهدوا جميعا في قتالك فأبى الله إلا نصرك وذلك أنهم جزعوا وصبرت وكفروا وشكرت وغفرت إذ قدرت فوسعهم عفو الله وعفوك فنجوا فلولا ذلك لبادوا وهلكوا فسر الحجاج بكلامه وقال له جميلا وقال تهيأ للوفادة إلى أمير المؤمنين حتى يسمع هذا منك شفاها انتهى أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال بلغ الحجاج أن أعشى بني أبي ربيعة رثى عبد الله بن الجارود فغضب عليه فقال يعتذر إليه ( أَبِيتُ كأَنِّي من حِذار ابنِ يُوسُفٍ ... طَريدُ دَمٍ ضاقتْ عليه المَسالكُ ) ( ولو غَيْرُ حَجَّاجٍ أراد ظُلامتي ... حَمَتْني من الضَّيْم السُّيوفُ الفواتِكُ ) ( وفِتيانُ صِدْقٍ من ربيعة قُصْرةً ... إذا اختلَفَت يومَ اللِّقاء النّيازِكُ ) ( يُحامون عن أحسابِهم بِسيُوفهم ... وأرماحِهم واليَومُ أسودُ حالكُ ) أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثني أحمد بن عبد الله بن علي بن سويد بن منجوف عن ابن مؤرج عن أبيه قال دخل أعشى بني أبي ربيعة على عبد الملك بن مروان فأنشده قوله ( رَأيتُك أمسِ خيرَ بني معَدٍّ ... وأنتَ اليومَ خيرٌ منك أمسِ ) ( وأنتَ غداً تَزيدُ الضِّعفَ ضِعفاً ... كذاك تزيد سادةُ عَبْدِ شَمْسِ ) فقال له من أي بني أبي ربيعة أنت قال فقلت له من بني أمامة قال فإن أمامة ولد رجلين قيسا وحارثة فأحدهما نجم والآخر خمل فمن أيهما أنت قال قلت أنا من ولد حارثة وهو الذي كانت بكر بن وائل توجته قال فقام بمخصرة في يده فغمز بها في بطني ثم قال يا أخا بني أبي ربيعة هموا ولم يفعلوا فإذا حدثتني فلا تكذبني فجعلت له عهدا ألا أحدث قرشيا بكذب أبدا الأعشى يمدح أسماء بن خارجة أخبرني عمي قال حدثنا ابن أبي سعد قال حدثني أحمد بن الهيثم السلمي قال حدثني أبو فراس محمد بن فراس عن الكلبي قال أتى أعشى بني أبي ربيعة أسماء بن خارجة فامتدحه فأعطاه وكساه فقال ( لأَسماءُ بنُ خارِجَة بنِ حِصْنٍ ... على عِبْء النَّوائِبِ والغَرامَهْ ) ( أقَلُّ تَعَلُّلاً يوماً وبُخْلاً ... على السُّؤَّالِ من كَعْبِ بنِ مامَهْ ) ( ومَصْقَلةُ الذي يَبْتاع بَيْعاً ... رَبِيحاً فوق ناجِية بنِ سامَهْ ) قال الكلبي جعل ناجية رجلا وهي امرأة لضرورة الشعر قال أبو فراس فحدثني الكلبي عن خداش قال دخل أعشى بني أبي ربيعة على سليمان بن عبد الملك وهو ولي عهد فقال ( أتَينا سُليمانَ الأميرَ نزورُه ... وكان امرأً يُحْبَى ويُكرِمُ زائِرُهْ ) ( إذا كُنتَ في النَّجْوى به مُتَفرِّداً ... فلا الجُودُ مُخْلِيه ولا البُخْلُ حاضِرُه ) ( كِلا شافعَيْ سُؤَّالِهِ من ضميرِه ... على البُخْل ناهِيه وبالجود آمِرُه ) فأعطاه وأكرمه وأمر كل من كان بحضرته من قومه ومواليه بصلته فوصلوه فخرج وقد ملأ يديه صوت ( نَأَتْك أُمامةُ إلاّ سُؤالاً ... وإلاّ خيالاً يُوافِي خَيالاَ ) ( يُوافِي مع الليل مِيعادُها ... ويأْبى مع الصُّبح إلا زيالاَ ) ( فذلك يَبذُل من وُدَّها ... ولو شَهِدَت لم تُواتِ النَّوالا ) ( فقد رِيعَ قَلبيَ إذْ أعلنُوا ... وقيل أجدَّ الخلِيطُ احْتِمالاَ ) الشعر لعمرو بن قميئة والغناء لحنين خفيف رمل بالوسطى من رواية احمد بن يحيى المكي وذكر الهشامي وغيره أنه من منحول يحيى إلى حنين أخبار عمرو بن قميئة ونسبه هو فيما ذكر أبو عمرو الشيباني عن أبي برزة عمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار قال ابن الكلبي ليس من العرب من له ولد كل واحد منهم قبيلة مفردة قائمة بنفسها غير ثعلبة بن عكابة فإنه ولد أربعة كل واحد منهم قبيلة شيبان بن ثعلبة وهو أبو قبيلة وقيس بن ثعلبة وهو أبو قبيلة وذهل بن ثعلبة وهو أبو قبيلة وتيم الله بن ثعلبة وهو أبو قبيلة وكان عمرو بن قميئة من قدماء الشعراء في الجاهلية ويقال إنه أول من قال الشعر من نزار وهو أقدم من امرئ القيس ولقيه امرؤ القيس في آخر عمره فأخرجه معه إلى قيصر لما توجه إليه فمات معه في طريقه وسمته العرب عمرا الضائع لموته في غربة وفي غير أرب ولا مطلب نسخت خبره من روايتي أبي عمرو الشيباني ومؤرج وأخبرني ببعضه الحسن بن علي عن أبيه عن ابن أبي سعد عن ابن الكلبي فذكرت ذلك في مواضعه ونسبته إلى رواته قالوا جميعا كان عمرو بن قميئة شاعرا فحلا متقدما وكان شابا جميلا حسن الوجه مديد القامة حسن الشعر ومات أبوه وخلفه صغيرا فكفله عمه مرثد بن سعد وكانت سبابتا قدميه ووسطياهما ملتصقتين وكان عمه محبا له معجبا به رقيقا عليه وأخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا أبو عمر العمري عن لقيط وذكر مثل ذلك سائر الرواة أن مرثد بن سعد بن مالك عم عمرو بن قميئة كانت عنده امرأة ذات جمال فهويت عمرا وشغفت به ولم تظهر له ذلك فغاب مرثد لبعض أمره وقال لقيط في خبره مضى يضري بالقداح فبعثت امرأته إلى عمرو تدعوه على لسان عمه وقالت للرسول ائتني به من وراء البيوت ففعل فلما دخل أنكر شأنها فوقف ساعة ثم راودته عن نفسه فقال لقد جئت بأمر عظيم وما كان مثلي ليدعى لمثل هذا والله لو لم أمتنع من ذلك وفاء لأمتنعن منه خوف الدناءة والذكر القبيح الشائع عني في العرب قالت والله لتفعلن أو لأسوأنك قال إلى المساءة تدعينني ثم قام فخرج من عندها وخافت أن يخبر عمه بما جرى فأمرت بجفنة فكفئت على أثر عمرو فلما رجع عمه وجدها متغضبة فقال لها مالك قالت إن رجلا من قومك قريب القرابة جاء يستامني نفسي ويريد فراشك منذ خرجت قال من هو قالت أما أنا فلا أسميه ولكن قم فافتقد أثره تحت الجفنة فلما رأى الأثر عرفه هروبه من عمه مرثد إلى الحيرة قال مؤرج في خبره فحدثني أبو برزة وعلقمة بن سعد وغيرهما من بني قيس بن ثعلبة قالوا وكان لمرثد سيف يسمى ذا الفقار فأتى ليضربه به فهرب فأتى الحيرة فكان عند اللخميين ولم يكن يقوى على بني مرثد لكثرتهم وقال لعمرو بن هند أنا القوم اطردوني فقال له ما فعلوا إلا وقد أجرمت وأنا أفحص عن أمرك فإن كنت مجرما رددتك إلى قومك فغضب وهم بهجائه وهجاء مرثد ثم أعرض عن ذلك ومدح عمه واعتذر إليه انتهى وأما أبو عمرو فإنه قال لما سمع مرثد بذلك هجر عمرا وأعرض عنه ولم يعاقبه لموضعه من قلبه فقال عمرو ويعتذر إلى عمه ( خليليَّ لا تَسْتَعْجِلا أن تَزَوَّدا ... وأنْ تجمعا شَمْلِي وتَنْتَظِرا غَدا ) ( فما لَبَثِي يوماً بسائِق مغْنَمٍ ... ولا سُرْعتِي يوماً بسائِقة الرَّدى ) ( وإن تُنْظِراني اليومَ أقضِ لُبانةً ... وتستوجبا مَنَّا عليَّ وتُحْمدا ) ( لعمرُك ما نَفْسٌ بجِدِّ رَشيدةٍ ... تؤامرني سُوءاً لأصرم مَرْثَدا ) ( وإن ظهَرت مني قوارِصُ جَمّةً ... وأفرعَ من لَوْمِي مِراراً وأصعدا ) ( على غير جُرْمٍ أن أكون جَنَيْتُه ... سِوَى قولِ باغٍ كادَنِي فتَجهَّدا ) ( لعَمْرِي لنِعْم المَرْءُ تدعو بِخَيْلِه ... إذا ما المُنادِي في المَقامَةِ ندَّدا ) ( عَظيمُ رَمادِ القدْر لا مُتعَبِّسٌ ... ولا مُؤيسٌ منها إذا هو أوقَدَا ) ( وإن صَرَّحَت كَحْلٌ وهَبَّت عَرِيَّةٌ ... من الرّيح لم تَتْرُك من المال مِرْفدا ) ( صَبَرتُ على وَطْء المَوالي وخَطْبِهم ... إذا ضَنَّ ذُو القُرْبى عليهم وأخْمدا ) يعني أخمد ناره بخلا وروى أجمدا المجمد البخيل ( ولم يحمِ فَرْجَ الحَيّ إلا مُحافظٌ ... كرِيم المُحَيَّا ماجِدٌ غَيرُ أجْرَدا ) الأجرد الجعد اليد البخيل حماد الراوية يرى أنه أشعر الناس أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثني عمي الفضل بن إسحاق عن الهيثم بن عدي قال سأل رجل حمادا الراوية بالبصرة وهو عند بلال بن أبي بردة من أشعر الناس قال الذي يقول ( رَمَتْني بَناتُ الدَّهْر من حَيثُ لا أرَى ... فما بالُ مَن يُرمَى ولَيْس بِرام ) قال والشعر لعمرو بن قميئة قال علي بن الصباح في خبره عن ابن الكلبي وعمر ابن قميئة تسعين سنة فقال لما بلغها ( كأنِّي وقد جاوزتُ تِسْعينَ حِجَّةً ... خلَعتُ بها عَنِّي عِنانَ لِجامي ) ( على الرَّاحَتَيْن مَرَّةً وعلى العَصا ... أَنوءُ ثلاثاً بَعْدَهُنَّ قِيامِي ) ( رمَتْنِي بناتُ الدَّهر من حَيْثُ لا أرَى ... فما بالُ من يُرْمَى وليس بِرامِ ) ( فلو أنَّ ما أُرمَى بنَبلٍ رَمَيْتُها ... ولكنَّما أُرمَى بغَيرِ سِهامِ ) ( إذا ما رآني النَّاسُ قالوا ألم يَكُن ... حَدِيثاً جَدِيدَ البَرْي غيرُ كَهامِ ) ( وأفْنَى وما أُفنِي من الدهر ليلةً ... ولم يُفْنِ ما أفنيتُ سِلْكَ نِظامِ ) ( وأهلكَنِي تأمِيلُ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ ... وتأميلُ عامٍ بعد ذاك وعامِ ) أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد بن إسحاق قرأت على أبي حدثنا الهيثم بن عدي عن مجالد عن الشعبي قال دخلت على عبد الملك بن مروان في علته التي مات فيها فقلت كيف تجدك يا أمير المؤمنين فقال أصبحت كما قال عمرو بن قميئة ( كأنِّي وقد جاوزتُ تِسْعينَ حِجَّةً ... خَلعْتُ بها عَنِّي عِنانَ لِجام ) ( رمَتْنِي بناتُ الدَّهر من حَيْثُ لا أرَى ... فكيف بمن يُرْمَى وليس بِرامِ ) ( فلو أنَّها نَبْلٌ إذاً لاتَّقَيْتُها ... ولكنَّما أُرمَى بغَيرِ سِهامِ ) ( وأهلكَنِي تأمِيلُ يَوْمٍ ولَيْلَةٍ ... وتأميلُ عامٍ بعد ذاك وعامِ ) فقلت لست كذلك يا أمير المؤمنين ولكنك كما قال لبيد ( قامَتْ تَشَكَّى إليَّ الموتَ مُجْهِشَةً ... وقد حملتُك سَبْعاً بعد سَبْعِينا ) ( فإِن تُزادِي ثَلاثاً تَبْلُغِي أمَلاً ... وفي الثّلاثِ وَفاءٌ للثمانِينا ) فعاش حتى بلغ التسعين فقال ( كأني وقد جاوزت تِسْعين حِجَّةً ... خلعتُ بها عن مَنْكِبيَّ رِدائيا ) فعاش حتى بلغ عشرا ومائة سنة فقال ( أليسَ في مائةٍ قد عاشها رَجُلٌ ... وفي تكامل عَشْرٍ بعدها عِبَرُ ) فعاش والله حتى بلغ مائة وعشرين سنة فقال ( وغَنِيتُ سَبْتاً قبل مجرَى داحِسٍ ... لو كان للنّفس اللجُوجِ خلُودُ ) ويروى دهرا قبل مجرى داحس فعاش حتى بلغ مائة وأربعين سنة فقال ( ولقد سَئِمتُ من الحياة وطُولِها ... وسُؤالِ هذا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ ) فتبسم عبد الملك وقال لقد قويت من نفسي بقولك يا عامر وإني لأجد خفا وما بي من بأس وأمر لي بصلة وقال لي اجلس يا شعمي فحدثني ما بينك وبين الليل فجلست فحدثته حتى أمسيت وخرجت من عنده فما أصبحت حتى سمعت الواعية في داره خروجه إلى قيصر أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن طهمان السلمي عن إسحاق بن مرار الشيباني قال نزل امرؤ القيس بن حجر ببكر بن وائل وضرب قبته وجلس إليه وجوه بكر بن وائل فقال لهم هل فيكم أحد يقول الشعر فقالوا ما فينا شاعر إلا شيخ قد خلا من عمره وكبر قال فأتوني به فأتوه بعمرو بن قميئة وهو شيخ فأنشده فأعجب به فخرج به معه إلى قيصر وإياه عني امرؤ القيس بقوله ( بَكَى صاحِبِي لَمَّا رأى الدَّرْبَ دُونَه ... وأيْقَن أنَّا لاحِقانِ بقَيْصَرا ) ( فقُلتُ له لا تَبْكِ عينُك إنَّما ... تُحاوِلُ مُلْكاً أو نَموتَ فتُعْذَرَا ) وقال مؤرج في هذا الخبر إن امرأ القيس قال لعمرو بن قميئة في سفره ألا تركب إلى الصيد فقال عمرو ( شَكوتُ إليه أنَّني ذُو جلالةٍ ... وأنِّي كَبِيرٌ ذُو عِيالٍ مُجَنِّبُ ) ( فقال لنا أهلاً وسهلاً ومرحباً ... إذا سَرَّكم لحمٌ من الوَحْش فاركَبُوا ) صوت ( يا آحِ من حَرِّ الهَوَى إنَّما ... يَعرِف حَرَّ الحُبِّ مَنْ جَرَّبا ) ( أصبحتُ للحُبِّ أسِيراً فقد ... صعَّدني الحُبُّ وقد صوَّبا ) ( لا شكَّ أنّي مَيِّتٌ حَسْرَةً ... إن لم أزُر قَبْلَ غَدٍ زَيْنَبا ) ( تِلْك الّتي إن نِلْتُها لم أُبَلْ ... مَنْ شَرَّقَ الدَّهْرَ أو غَرَّبا ) الشعر للمؤمل بن جميل بن يحيى بن أبي حفصة بن عمرو بن مروان بن أبي حفصة والغناء لابن جامع رمل بالوسطى عن إبراهيم والهشامي أخبار المؤمل بن جميل قد مضى نسب أبي حفصة في أخبار مروان وكان يحيى بن أبي حفصة يكنى أبا جميل والمؤمل بن جميل يكنى أبا جميل وأم جميل أميرة بنت زياد بن هوذة بن شماس بن لؤي من بني أنف الناقة الذين يمدحهم الحطيئة وأم المؤمل شريفة بنت المذلق بن الوليد بن طلبة بن قيس بن عاصم المنقري وكان جميل يلقب قتيل الهوى ولقب بذلك لقوله ( قُلن من ذا فَقُلتُ هذا اليمانيّ ... قَتيلُ الهوى أبو الخطابِ ) ( قُلن بالله أنت ذاك يَقيناً ... لا تَقُل قولَ مازحٍ لَعابِ ) ( إن تكن أنتَ هُو فأنت مُنانا ... خالِياً كنتَ أو مع الأصحابِ ) أخبرني بذلك يحيى بن علي إجازة عن محمد بن إدريس بن سليمان عن أبيه وحكى أبو أحمد - رحمه الله - عن محمد بهذا الإسناد أن أبا جميل اشترى غلاما مدنيا مغنيا مجلوبا من مولدي السند على البراءة من كل عيب يقال له المطرز فدعا أصحابا له ذات يوم ودعا شيخين من أهل اليمامة مغنيين يقال لأحدهما السائب وللآخر شعبة فلما أخذ القوم مجلسهم ومعهم المطرز اندفع الشيخان فغنيا فقال المطرز لأبي جميل مولاه ويلك يا أبا جميل يابن الزانية أتدري ما فعلت ومن عندك فقال له ويلك أجننت مالك قال أما أنا فأشهد أنك تأمن مكر الله حين أدخلت منزلك هذين قال وبعثه يوما يدعو أصدقاء له فوجدهم عند رجل من أهل اليمامة يقال له بهلول وهو في بستان له فقال لهم مولاي أبو جميل قد أرسلني أدعوكم وقد بلغتكم رسالته وإن شاورتموني أشرت عليكم فقالوا أشر علينا قال أرى ألا تذهبوا إليه فمجلسكم والله أنزه من مجلسه وأحسن فقالوا قد أطعناك قال وأخرى قالوا وما هي قال تحلفون علي ألا أبرح ففعلوا فأقام عندهم وغضب عليه أبو جميل يوما فبطحه يضربه وهو يقول ويلك أبا جميل اتق الله في الله الله في أمري أما علمت ويلك خبري قبل أن تشتريني قال وكان يبعثه إلى بئر لهم عذبة في بستان له يستقي منها لهم ماء فكان يستقيه ثم يصبه لجيران لهم في حيهم ثم يستقي مكانه من بئر لهم غليظة فإذا أنكر مولاه قال له سل الغلمان إذا أتيت البستان هل استقيت منه فيسألهم فيجده صادقا حدثنا يحيى بن محمد بن إدريس عن أبيه أن يحيى بن أبي حفصة زوج ابنه جميلا شريفة بنت المذلق بن الوليد بن طلبة بن قيس بن عاصم فولدت له المؤمل بن جميل وكان شاعرا ظريفا غزلا وكان منقطعا إلى جعفر بن سليمان بالمدينة ثم قدم العراق فكان مع عبد الله بن مالك وذكره للمهدي فحظي عنده وهو الذي يقول في شكاة اشتكاها عبد الله بن مالك ( ظلّت عليَّ الأرضُ مُظلمةً ... إذْ قيلَ عبدُ الله قد وُعِكاَ ) ( يا ليتَ ما بكَ بي وإن تَلِفت ... نفسِي لذاك وقلَّ ذاكَ لكاَ ) وهو الذي يقول ( يا آحِ من حَرِّ الهَوَى إنَّما ... يَعرِف حَرَّ الحُبِّ مَنْ جَرَّبا ) وذكر الأبيات التي تقدم ذكرها والغناء فيها صوت ( إني وهَبتُ لظالِمي ظُلمِي ... وغفرتُ ذاكَ له على عِلْمِ ) ( ما زال يَظلِمني وأَرْحَمُه ... حتَّى رَثيتُ له من الظّلم ) الشعر لمساور الوراق والغناء لإبراهيم بن أبي العبيس ثاني ثقيل بالوسطى أخبرني بذلك ذكاء وغيره أخبار مساور ونسبه هو مساور بن سوار بن عبد الحميد من آل قيس بن عيلان بن مضر ويقال إنه مولى خويلد من عدوان كوفي قليل الشعر من أصحاب الحديث ورواته وقد روى عن صدر من التابعين وروى عنه وجوه أصحاب الحديث أخبرني علي بن طيفور بن غالب النسائي قال حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب قال حدثنا حماد بن أسامة عن مساور الوراق قال حدثني جعفر بن عمرو بن حريث عن أبيه قال كأني أنظر إلى النبي وهو على ناقته يخطب وعليه عمامة سوداء قد أرخاها بين كتفيه أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرنا الأشنانداني عن الأصمعي قال كان قوم يجلسون إلى ابن أبي ليلى فكتب قوما منهم لعيسى بن موسى وأشار عليه أن يشغلهم ويصلهم فأتى مساور الوراق فكلمه أن يجعله فيهم فلم يفعل فأنشأ يقول ( أراكَ تُشير بأهل الصلاح ... فهل لك في الشاعرِ المُسلم ) ( كَثيرِ العيالِ قليلِ السؤالِ ... عفٍّ مطاعِمُه مُعْدِمِ ) ( يُقيم الصَّلاةَ ويؤْتي الزَّكاةَ ... وقد حَلَّق العامَ بالمَوْسِمِ ) ( وأصبح واللهِ في قَومِه ... وأمسَى وليس بذي دِرْهَمِ ) قال فقال ابن أبي ليلى لا حاجة لنا فيه فقال فيه مساور أبياتا قال أبو بكر بن دريد كرهنا ذكرها صيانة لابن أبي ليلى أخبرني محمد قال حدثني التوزي قال كان مساور الوراق وحماد عحرد وحفص بن أبي بردة مجتمعين فجعل حفص يعيب شعر المرقش الأكبر فأقبل عليه مساور فقال ( لقد كان في عَيْنيك يا حَفْصُ شاغِل ... وأنفٌ كَثِيلِ العَوْدِ عما تَتَبَّعُ ) ( تَتَبَّعْتَ لحناً في كلام مُرَقِّشٍ ... ووجهُك مبنيٌّ على اللحنِ أجمع ) فقام حفص من المجلس خجلا وهاجر مدة وصية مساور لابنه نسخت من كتاب عبيد الله اليزيدي بخطه حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال كان مساور الوراق من جديلة قيس ثم من عدوان مولى لهم فقال لابنه يوصيه ( شَمِّر ثيابَك واستعدَّ لقائلٍ ... واحْكُكْ جَبِينَك للعُهودِ بثُومِ ) ( إنَّ العُهودَ صَفَتْ لكل مُشمِّرٍ ... دَبِرِ الجبين مُصَفِّرٍ موسومِ ) ( أحسِنْ وصاحبْ كُلَّ قارٍ ناسكٍ ... حسنِ التَّعهُّد للصلاة صَؤُومِ ) ( من ضَرْبِ حَمَّادٍ هُناك ومِسْعَرٍ ... وسِمَاكٍ العَتَكِيّ وابنِ حَكِيمِ ) ( وعليك بالغَنَويِّ فاجلِسْ عنده ... حتى تصِيبَ وَدِيعَةً لِيَتيمِ ) ( تَغنِيك عن طلب البُيوع نَسِيئةً ... وتكفّ عنك لِسانَ كُلِّ غَرِيمِ ) ( وإذا دخلت على الرَّبيعِ مُسلِّماً ... فاخْصُصْ شَبابَةَ منك بالتَّسْليمِ ) قال ففعل ما أوصاه به أبوه فلم يلبث مساور أن ولاه عيسى بن موسى عملا ودفع إليه عهده فانكسر عليه الخراج فدفع إلى بطين صاحب عذاب عيسى يستأديه فقال مساور ( وجدت دواهِرَ البَقَّال أهْنَى ... من الفُرْنِيِّ والجَدْيِ السَّمينِ ) ( وخَيراً في العَواقِب حين تُبلى ... إذا كان المَردُّ إلى بَطِينِ ) ( فكُنْ يا ذا المُطِيفِ بقاضِيَيْنا ... غداً من عِلمِ ذاك على يَقينِ ) ( وقُلْ لهما إذا عَرَضا بعَهْدٍ ... بَرئتُ إلى عُرَيْنةَ من عرِين ) ( فإنك طالما بَهْرجْتَ فيها ... بمثل الخُنْفُساء على الجَبينِ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال مر مساور الوراق بمقبرة حميد الطوسي وكان له صديقا فوقف عليها مستعبرا وأنشأ يقول ( أبا غانِمٍ أمَّا ذَرَاك فواسِعٌ ... وقَبرُك مَعمورُ الجوانبِ مُحْكمُ ) ( وما يَنْفَع المقبورَ عُمْرانُ قَبْرِه ... إذا كان فيه جِسْمُه يتَهَدَّمُ ) أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا الرياشي قال حدثنا محمد بن الصباح عن سفيان بن عيينة ونسخت هذا الخبر أيضا من بعض الكتب أن حامد بن يحيى البلخي حدث عن سفيان بن عيينة وهذه الرواية أتم وقال لما سمع مساور الوراق لغط أصحاب أبي حنيفة وصياحهم أنشأ يقول ( كنَّا من الدِّين قبل اليوم في سَعةٍ ... حتى بُلِينا بأصحاب المَقايِيسِ ) ( قَومٌ إذا اْجتمعوا ضَجُّوا كأنّهمُ ... ثعالبٌ ضَبَحتْ بين النَّواويسِ ) فبلغ ذلك أبا حنيفة وأصحابه فشق عليهم وتوعدوه فقال أبياتا ترضيهم وهي وهي ( إذا ما النَّاس يوماً قايسُونا ... بآبدَةٍ من الفُتْيَا ظَريفَهْ ) ( أتيْناهُم بِمقْياسٍ ظَريفٍ ... مُصيبٍ من قِياسِ أبي حَنيفَهْ ) ( إذا سَمِعَ الفَقِيهُ بها وَعاها ... وأثبتها بِحِبْرٍ في صَحيفَهْ ) فبلغ أبا حنيفة فرضي قال مساور ثم دعينا إلى وليمة بالكوفة في يوم شديد الحر فدخلت فلم أجد لرجلي موضعا من الزحام وإذا أبو حنيفة في صدر البيت فلما رآني قال إلي مساور فجئت فإذا مكان واسع وقال لي اجلس فجلست فقلت في نفسي نفعتني أبياتي اليوم قال وكان إذا رآني بعد ذلك يقول لي ها هنا ها هنا ويوسع لي إلى جنبه ويقول إن هذا من أهل الأدب والفهم انتهى أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو المعمر عبد الأول بن مزيد أحد بني أنف الناقة قال كان مساور الوراق لا يضيع حقا لجار له فماتت بنته فلم يشهدها من جيرانه إلا نفر يسير فقال مساور في ذلك ( تَغيَّب عنِّي كُلُّ جافٍ ضرورةً ... وكلّ طُفَيلِي من القوْم عاجِزِ ) ( سَريعٍ إذا يُدْعَى ليومِ وَلَيمةٍ ... بطيءٍ إذا ما كان حَمْلُ الجَنائِزِ ) أخبرني محمد بن الحسن قال حدثنا عبد الأول قال قدم جار لمساور الوراق من سفر فجاءه يسلم عليه فقال يا جارية هاتي لأبي القاسم غداء فجاءت برغيف فوضعته على الخوان فمد يده يأكل مع مساور وقال له يا أبا القاسم كل من هذا الخبز فما أكلت خبزا أطيب منه فقال مساور في ذلك ( ما كنتُ أحسَبُ أنَّ الخُبزَ فاكهةٌ ... حتّى رأيتُك يا وَجْهَ الطَّبَرْزِينِ ) ( كأنَّ لِحيَته في وجهه ذَنَبٌ ... أو شِعْرَةٌ فوق بَظرٍ غيرِ مَخْتونِ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال دخل مساور الوراق على أبي العيص الجرمي يعوده وكان صديقه فكلمه فلم يجبه فبكى مساور جزعا عليه وأدنى رأسه منه يكلمه فقال أبو العيص ( أفي كلّ عامٍ مَرْضةٌ بعد نَقْهةٍ ... وتَنْعَى ولا تُنْعَى متَى ذا إلى مَتى ) ( سيوشك يومٌ أن يجيء ولْيَلَةٌ ... يَسوقان حَتْفاً راح نحوك أو غَدَا ) ( فتُمِسي صَريعاً لا تُجِيب لدَعوةٍ ... ولا تَسْمع الدّاعي وإن جَدَّ في الدُّعا ) ثم لم يلبث أن مات رحمه الله صوت ( تَنامِينَ عن لَيْلِي وأسهَرهُ وَحْدِي ... وأنهَى جُفوني أن تَبُثَّكِ ما عِنْدِي ) ( فإن كُنتِ ما تدْرِينَ ما قد فعلتِه ... بنا فانظُرِي ماذا على قاتل العَمْدِ ) الشعر لسعيد بن حميد الكاتب والغناء لعريب خفيف ثقيل مطلق بالسبابة في مجرى الوسطى أخبار سعيد بن حميد ونسبه سعيد بن حميد بن سعيد بن حميد بن بحر يكنى أبا عثمان من أولاد الدهاقين وأصله من النهروان الأوسط وكان هو يقول إنه مولى بني سامة بن لؤي من أهل بغداد بها ولد ونشأ ثم كان يتنقل في السكنى بينها وبين سر من رأى كاتب شاعر مترسل حسن الكلام فصيح وكان أبوه وجها من وجوه المعتزلة فخالف أحمد بن أبي دواد في بعض مذهبه فأغرى به المعتصم وقال إنه شعوبي زنديق فحبسه مدة طويلة ثم بانت براءته له أو للواثق بعده فخلى سبيله وكان شاعرا أيضا فكان يهجو أحمد بن أبي دواد وأنشدنيها جماعة من أصحابنا قال ( لقد أصبحتَ تُنْسَب في إيادٍ ... بأن يُكْنَى أبوكَ أبا دُوادِ ) ( فلو كان اسمُه عمرَو بنَ مَعْدِي ... دُعِيتَ إلى زُبَيْدٍ أو مُرادِ ) ( لئن أفسدْتَ بالتَّخويِف عيْشِي ... لما أصلحتَ أصلَك في إيادِ ) ( وإن تكُ قد أصبتَ طريف مالٍ ... فبُخْلُكَ باليَسيرِ من التِّلادِ ) فذكر محمد بن موسى أن أبا يوسف بن الدقاق اللغوي أخبره أن حميد بن سعيد بن حميد دفع إليه ابنه سعيدا وهو صبي فقال له امض به معك إلى مجلس ابن الأعرابي قال فحضرناه ذات يوم فأنشدنا أرجوزه لبعض العرب فاستحسنتها ولم تكن معنا محبرة نكتبها منها فلما انصرفنا قلت له فاتتنا هذه الآرجوزه فقال لم تفتك أتحب أن أنشدكها قلت نعم فأنشدنيها وهي نيف وعشرون بيتا قد حفظها عنه وإنما سمعها مرة واحدة فلقيت أباه من غد فقال لي كيف رأيت سعيدا قلت له إنك أوصيتني به وأنا أسألك الآن أن توصيه بي فضحك وسألني عن الخبر فأعلمته فسر به خبره مع أبي العباس بن ثوابة أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثني ابن أبي المدور قال دخل سعيد بن حميد يوما على أبي العباس بن ثوابة وكان أبو العباس يعاتبه على الشغف بالغلمان المرد فرأى على رأسه غلاما أمرد حسن الوجه عليه منطقة وثياب حسان فقال له يا أبا العباس ( أزعمْتَ أنَّك لا تَلوطُ فقُل لنا ... هذا المُقَرْطَقُ قائماً ما يَصنعُ ) ( شَهِدَت مَلاحَتهُ عليكَ بِرِيبَةٍ ... وعلى المُريبِ شَواهدٌ لا تُدفَعُ ) فضحك أبو العباس وقال خذه لا بورك لك فيه حتى نستريح من عتبك أخبرني عمي رحمه الله قال قال لي محمد بن موسى بن الحسن بن الفرات الكاتب كان سعيد بن حميد يهوى غلاما له من أولاد الموالي فغاب عنه مدة ثم جاءه مسلما فقال له غبت عني هذه المدة ثم تجيئني فلا تقيم عندي فقال له قد أمسينا فقال تبيت قال لا والله لا أقدر ولم يزل به حتى اتفقا على أنه إذا سمع أذان العتمة انصرف فقال له قد رضيت ووضع النبيذ فجعل سعيد يحث السقي بالأرطال فلما قرب وقت العتمة أخذ رقعة فكتب فيها إلى إمام المسجد وهو مؤذنه قوله ( قل لداعي الفِراق أخِّرْ قليِلا ... قد قَضيْنا حَقَّ الصّلاةِ طويلا ) ( أخر الوقْتَ في الأذانِ وقدِّم ... بعدها الوقت بُكرةً وأصيلا ) ( ليس في ساعةِ تُؤْخِّرها وِزْرٌ ... فنحيا بها وتأتي جميلا ) ( فتُراعي حقَّ الفُتُوَّةِ فينا ... وتُعافَى من أن تكون ثقيلا ) فلما قرأ المؤذن الرقعة ضحك وكتب إليه يحلف أنه لا يؤذن ليلته تلك العتمة وجعل الفتى ينتظر الأذان حتى أمسى وسمع صوت الحارس فعلم أنها حيلة وقعت عليه وبات في موضعه وقال سعيد في ذلك ( عَرَّضتُ بالحُبّ له وعرَّضا ... حتى طَوَى قلبي على جَمْر الغَضَى ) ( وأظْهَرتْ نفسِي عَن الدَّهْر الرِّضا ... ثم جَفاني وتولَّى مُعرِضا ) ( لم ينقضِ الحبُّ بَلَى صبرِي انقضى ... فِداكَ مَنْ ذاق الكرَى أو غَمَّضَا ) ( حتى طرقتَ فنسيتُ ما مضى ... سألتُه حُوَيْجَةً فأعرضا ) ( وقال لا قولَ مُجيبٍ بِرِضَا ... فكان ما كان وكابرْنا القضا ) في هذه الأبيات هزج لأحمد بن صدقة أخبرني بذلك ذكاء وجه الرزة وجدت في بعض الكتب حدثني أحمد بن سليمان بن وهب أنه كان في مجلس فيه سعيد بن حميد فلما سكروا قام سعيد قومة بعد العصر فلم نشعر إلا وقد أخذ ثيابه فلبسها وأخذ بعضدتي الباب وأنشأ يقول ( سلام عليكم حالت الرَّاحُ بيننا ... وألوتْ بنا عن كل مرأىً ومَسْمَعِ ) ( ولم يَبْقَ إلا أن يَميلَ بنا الكَرَى ... ويجمع نومٌ بين جَنْبِ ومضْجع ) فقام له أهل المجلس وقالوا يا سيدنا اذهب في حفظ الله وفي ستره فانصرف وودعهم اعتذاره لفضل الشاعرة وإخباره معها حدثني محمد بن الطلاس أبو الطيب قال حدثني عبد الله بن طالب الكاتب قال قرأت رقعة بخط سعيد بن حميد إلى فضل الشاعرة يعتذر إليها من تغير ظنته به وفي آخرها ( تَظنُّون أني قد تبدّلتُ بعدكم ... بديلاً وبعضُ الظّنِّ إثمٌ ومُنكَرُ ) ( إذا كان قلبي في يديكِ رَهِينةً ... فكيف بلا قلب أُصافِي وأهْجُرُ ) في هذين البيتين لابن القصار الطنبوري رمل وفيهما لمحمد قريض خفيف رمل أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال حدثني أبو علي المادراني أنه كان في مجلس فيه كعب جارية أبي عكل المقين وكان بعض اهل المجلس يهواها قال فدخل إلينا سعيد بن حميد فقام إليه أهل المجلس جميعا سوى الجارية والفتى فأخذ سعيد الدواة فكتب رقعة وألقاها في حجرها فإذا فيها قوله ( ما على أحسن خلْق ... الله أن يحسُنَ فِعلُهْ ) ( بأبِي أنتَ وأُمِّي ... من مَليكٍ قَلَّ عَدْله ) ( وبَخيلٍ بالهَوَى لو ... كان يُسلَى عنه بخلُه ) ( أكثَرَ العاذِلُ في حُبِّك ... لو ينفع عَذْلُه ) ( فهو مَشْغولٌ بعَذْلِي ... وفؤادي بك شُغْلُه ) ( أُكثِرُ الشَّكْوى وأستَعْدِي ... على مَنْ قَلَّ بذْلُه ) فوثبت الجارية فقبلت رأسه وجلست إلى جنبه فقال الرجل الذي كان يهواها هذا والله كلام الشياطين ورقية الزنا وبهذا يتم الأمر أما أنا فإني أشهدكم لا قرأت اليوم في صلاتي غير هذه الأبيات لعلها تنفعني فضحك سعيد وقال بحياتي قومي فارجعي إليه حتى تكون الأبيات قد نفعته قبل أن يقرأها في صلاته وسريني بذلك فقامت فرجعت إلى موضعها قال علي بن العباس وحدثني أبو علي المادراني أنه كان عنده يوما فدخلت إليه جارية - كان يهواها - غفلة على غير وعد فسر بذلك وقال لها قد كنت على عتابك فأما الآن فلا فقالت أما العتاب فلا طاقة لي به ووالله ما جئتك إلا عند غفلة البواب فقال سعيد في ذلك ( زاركَ زَوْرٌ على ارتقابِ ... مُغتَنماً غَفْلةَ الحُجّابِ ) ( مُستَتِراً بالنِّقابِ يَبدُو ... ضِياءُ خَدَّيه في النِّقاب ) ( كالشَّمْسِ تبدو وقد طَواها ... دُونَك سِتْرٌ من السَّحابِ ) ( قد كان في النفس منك عَتْبٌ ... يدعو إلى شدَّة اجْتِنابِ ) ( فمِلتُ بالعَتْب عن حبيبٍ ... يَضعُف عن موقف العِتابِ ) ( والذَّنبُ منه وأنتَ تَخْشَى ... في هَجْرِه صولةَ العِقابِ ) أخبرني عمي قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن داود قال كان أبي يستحسن قول سعيد بن حميد ( تَظُنُّون أنِّي قد تَبَدَّلْتُ بعدكم ... بدَيِلاً وبعَضُ الظَّنِّ إثمٌ ومُنْكَرُ ) ( إذا كان قَلْبِي في يَدَيْكِ رَهِينةً ... فكيف بلا قْلبٍ أُصافِي وأهجُرُ ) ويقول لئن عاش هذا الغلام ليكونن له في الشعر شأن في هذين البيتين غناء من خفيف الرمل وذكر قريض أنه له أخبرني ابن أبي طلحة قال حدثني إسحاق بن مسافر أنه كان عند سعيد بن حميد يوما إذ دخلت عليه فضل الشاعرة على غفلة فوثب إليها وسلم عليها وسألها أن تقيم عنده فقالت قد جاءني وحياتك رسول من القصر فليس يمكنني الجلوس وكرهت أن أمر ببابك ولا أراك فقال سعيد من وقته على البديهة ( قَرُبتِ ولا نَرْجُو اللِّقاء ولا نَرَى ... لنا حِيلَةً يُدْنِيكِ منّا احْتيالُها ) ( فأصبحْتِ كالشمس المُنيرةِ ضَوْءها ... قريبٌ ولكن أيْنَ مِنّاَ مَنَالُها ) ( كَظاعِنةٍ ضنَّتْ بها غُرْبةُ النَّوَى ... علينا ولكن قد يُلِمُّ خيَالُها ) ( تُقرِّبها الآمالُ ثم تَعُوقُها ... مُماطَلة الدّنيا بها واعتلالُها ) ( ولكنها أُمنِيَّةٌ فلعلها ... يجودُ بها صَرْفُ النَّوَى وانْتِقالُها ) أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن يعقوب بن داود قال تغاضب سعيد بن حميد وفضل الشاعرة أياما ثم كتب إليها ( تعالَيْ نُجدِّدُ عَهْدَ الرِّضا ... ونَصفَح في الحُبِّ عمَّا مَضَى ) ( ونَجرِي على سُنَّةِ العاشقين ... ونضمن عني وعنكِ الرِّضا ) ( ويَبذُل هَذا لِهَذا هَواهُ ... ويَصْبر في حُبِّه للقضا ) ( ونخضع ذُلاًّ خُضوع العَبيدِ ... لمولىً عزيز إذا أعرضا ) ( فإنّيَ مُذْ لَجَّ هذا العِتابُ ... كأنِّي أبطنْتُ جَمْرَ الغَضَى ) فصارت إليه وصالحته في هذه الأبيات لهاشم بن سليمان ثقيل أول بالوسطى وفيها لابن القصار خفيف رمل أخبرني ابن أبي طلحة قال حدثنا أبو العباس بن أبي المدور قال بات سعيد بن حميد عند أبي الفضل بن أحمد بن إسرائيل واصطبحا على غناء حسن كان عندهما فجاءه رسول الحسن بن مخلد وقد أمر ألا يفارقه لأمر مهم فقام فلبس ثيابه وأنشأ يقول ( يا ليلةً باتَ النُّحوسُ بَعيدةً ... عنها على رَغْم الرَّقِيب الرَّاصِدِ ) ( تَدعُ العَواذِلَ لا يقُمْن لِحاجةٍ ... وتقوم بهجتُها بِعُذرِ الحاسدِ ) ( ضَنَّ الزَّمانُ بها فلمَّا نِلْتُها ... وَردَ الفراقُ فكان أقبحَ واردِ ) ( والدَّمعُ ينطق للضمير مُصدِّقاً ... قَوْلَ المُقِرّ مُكذِّباً للجاحدِ ) أخبرني ابن أبي طلحة قال حدثني أبو العباس بن أبي المدور قال كان سعيد بن حميد صديقا لأبي العباس بن ثوابة فدعاه يوما وجاءه رسول فضل الشاعرة يسأله المصير إليها فمضى معه وتأخر عن أبي العباس فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها معاتبة فيها بعض الغلظة فكتب إليه سعيد ( أقللْ عِتَابك فالبقاءُ قليلُ ... والدهرُ يَعدِل تارةً ويَميلُ ) ( لم أَبكِ من زَمن ذَممتُ صروفَه ... إلا بكيتُ عليه حين يَزولُ ) ( ولِكُلِّ نائبةٍ المَّت مُدَّةً ... ولكلِّ حالٍ أقبلت تحويلُ ) ( والمُنتمُون إلى الإخاء جماعةً ... إن حصّلوا أفناهم التَّحصيلُ ) ( ولعلَّ أحداثَ الليالي والرّدى ... يَوْماً ستَصْدَعُ بيننا وتحولُ ) ( فلئن سبقتُ لتبكينَّ بحسرة ... وليكثُرن عليَّ منكَ عويلُ ) ( ولتُفجَعَنَّ بمخلصٍ لك وامقٍ ... حبلُ الوفاء بحبله موصولُ ) ( وليذهبنَّ جمالُ كلّ مروءة ... وليعفُونَّ فِناؤها المأهولُ ) ( ولئن سَبقْتَ ولا سَبَقْتَ ليمْضِيَنْ ... مَنْ لا يشاكله لديَّ عديلُ ) ( وأراك تَكْلَف بالعتاب وودُّنا ... باقٍ عليه من الوفاء دليلُ ) ( ودٌّ بدا لذَوِي الإخاء جميلُه ... وبدت عليه بهجةٌ وقبولُ ) ( ولعلَّ أيام الحياة قصيرةٌ ... فَعلام يكثُر عتبنا ويطولُ ) أخبرني الطلحي قال حدثني أبو علي بن أبي الرعد أن سعيد بن حميد كان يهوى مظلومة جارية الدقيقي فبلغه أنها تواصل بعض أعدائه فهجرها مدة فكتبت إليه تعاتبه وتتشوقه فكتب إليها ( أمرِي وأمرُك شيءٌ غير مُتَّفقِ ... والهجر أفضل من وصلٍ على مَلَقِ ) ( لا أُكْذِبُ الله ما نفسِي بساليةٍ ... ولا خليقةُ أهل الغدْرِ مِنْ خُلُقِي ) ( فإن وثقتِ بُودٍّ كنتُ أبذُله ... فعاوِدِي سوءَ ظن بي ولا تَثِقِي ) وذكر اليوسفي الكاتب أنه حضر سعيدا في منزل بعض إخوانه وعندهم هبة المغنية وكان سعيد يتعشقها ويهيم بها فغضبت عليه يوما لبعض الكلام على النبيذ ودخلت بعد ذلك وهو في القوم فسلمت عليهم سواه فقالوا لها أتهجرين أبا عثمان فقالت أحب أن تسألوه ألا يكلمني فقال سعيد ( اليوم أيقنتُ أنّ الهجرَ مَتلَفةٌ ... وأنَّ صاحبَه منه على خَطَرِ ) ( كيف الحياة لِمَن أمسى على شَرفٍ ... من المنِيّة بين الخَوْفِ والحَذَرِ ) ( يلومُ عَينَيه أحياناً بذَنْبهما ... ويحمِل الذنبَ أحياناً على القَدَرِ ) ( تنأوْنَ عنه وَينأى قلبُه معكم ... فقلبُه أبداً منه على سَفَرِ ) فوثبت إليه وقبلت رأسه وقالت لا أهجرك والله أبدا ما حييت أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال غضبت فضل الشاعرة على سعيد بن حميد فكتب إليها ( يا أيها الظالم ما لِي ولَكْ ... أهكذا تَهْجر مَنْ واصَلَكْ ) ( لا تصرفِ الرّحمة عن أهلها ... قد يعطِف الموْلَى على منْ مَلّكْ ) ( ظلمتَ نفساً فيكَ عَلْقتُها ... فدَارَ بالظُّلم عليَّ الفَلَكْ ) ( تباركَ الله فما أعلم الله ... بما ألقَى وما أغفلَكْ ) فراجعت وصله وصارت إليه جوابا للرقعة في هذه الأبيات لعريب ثاني ثقيل وهزج عن ابن المعتز وأخبرني ذكاء وجه الرزة أن الثقيل لأحمد بن أبي العلاء أخبرني الطوسي الطلحي قال حدثنا محمد بن السري أن سعيد بن حميد كان في مجلس الحسن بن مخلد إذ جاءه الغلام برقعة فضل الشاعرة تشكو فيها شدة شوقها فقرأها وضحك فقال له الحسن بن مخلد بحياتي عليك أقرئنيها فدفعها إليه فقرأها وضحك وقال له قد وحياتي ملحت فأجب فكتب إليها ( يا واصفَ الشوق عندي من شواهده ... قلبٌ يهيم وعَينٌ دَمعُها يكِفُ ) ( والنَّفسُ شاهدةٌ بالوُدّ عارفةٌ ... وأنفُسُ الناس بالأهواء تأتلفُ ) ( فكن على ثِقَةٍ مِنِّي وبيِّنةٍ ... إنِّي على ثقةٍ من كل ما تصِف ) أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال لما عشقت فضل الشاعرة بنان بن عمرو المغني وعدلت عن سعيد بن حميد إليه أسف عليها وأظهر تجلدا ثم قال فيها ( قالوا تَعزّ وقد بانوا فقُلتُ لهم ... بانَ العزاءُ على آثارِ مَنْ بانا ) ( وكيف يملكُ سلواناً لحبِّهِمُ ... مَنْ لم يُطِق للهَوى سَتْراً وكتمانا ) ( كانت عزائمُ صَبْرِي أستعين بها ... صارتْ عليَّ بحمد الله أعوانا ) ( لا خَيْرَ في الحبِّ لا تبدو شواكِلُهُ ... ولا تَرى منه في العينين عُنوانا ) قال أبو الحسن جحظة وغنى فيه بعض المحدثين لحنا حسنا وأظنه عنى نفسه أخبرني الطلحي قال حدثني أبو عيسى الكاتب أن أبا هفان بلغه عن سعيد بن حميد كلام فيه جفاء وطعن على شعره فتوعد بالهجاء وكان الحاكي عن ذلك كاذبا فبلغ سعيدا ما جرى فكتب إلى أبي هفان ( أمسَى يُخَوِّفني العبديُّ صوْلَتَه ... وكيف آمنُ بأْسَ الضَّيْغَمِ الهَصِر ) ( من ليس يُحرِزُني من سيفِه أجلي ... وليس يمنعني مِنْ كيده حذَرِي ) ( ولا أُبارزُه بالأمرِ يَكرهه ... ولو أُعِنْتُ بأنصار من الغِيَرِ ) ( له سِهامٌ بلا رِيشٍ ولا عَقَبٍ ... وقَوْسُه أبداً عُطْلٌ من الوَترِ ) ( وكيف آمنُ مَنْ نَحْرِي له غَرضٌ ... وسَهمُه صائبٌ يَخْفَى عن البَصر ) أخبرني الطلحي قال حدثني محمد بن السري أنه سار إلى سعيد بن حميد وهو في دار الحسن بن مخلد في حاجة له قال فإني عنده إذ جاءته رقعة فضل الشاعرة وفيها هذان البيتان صوت ( الصبر ينقُص والسَّقامُ يزيدُ ... والدّارُ دانِيةٌ وأنتَ بعيدُ ) ( أشكوك أم أشكو إليك فإنه ... لا يستطيع سِواهُما المجهودُ ) أنا يا أبا عثمان في حال التلف ولم تعدني ولا سألت عن خبري فأخذ بيدي فمضينا إلينا فسأل عن خبرها فقالت هو ذا أموت وتستريح مني فأنشأ يقول ( لا مُتِّ قبلِي بل أحيا وأنتِ معاً ... ولا أعيشُ إلى يومِ تَمُوتِينا ) ( لكن نَعيش بما نَهوَى ونأمُلُه ... ويُرغِمُ الله فينا أنْفَ واشينا ) ( حتى إذا قدَّر الرحمنُ ميتتنا ... وحان من أمرنا ما ليس يَعْدُونا ) ( مِتْنا جميعاً كغُصْنَيْ بانةٍ ذَبُلا ... مِنْ بعد ما نَضَرا وَاستوسقا حِينا ) ( ثمَّ السَّلام علينا في مضاجعنا ... حتى نعودَ إلى ميزان مُنْشِينا ) أخبرني إبراهيم بن القاسم بن زرزور قال قال لي أبي كانت فضل الشاعرة تتعشق سعيد بن حميد مدة طويلة ثم تعشقت بنانا وعدلت عنه فقال فيها قصيدته الدالية التي يقول فيها ( تَنامينَ عن ليلي وأسهَرُه وَحدِي ... ) فلم تتعطف عليه وبلغها بعد ذلك أنه قد عشق جارية من جواري القيان فكتبت إليه ( يا عاليَ السنِّ سَيِّءَ الأدَب ... شِبتَ وأنتَ الغُلام في الطّربِ ) ( ويحك إنَّ القِيانَ كالشَّرك المَنْصوب ... بينَ الغُرور والعَطبِ ) ( لا تَصدَّيْنَ للفقير ولا ... يَطْلُبْن إلا معادِنَ الذهبِ ) ( بينا تَشَكَّى هواك إذ عدَلَتْ ... عن زفرات الشّكْوى إلى الطَّلبِ ) ( تَلْحَظ هذا وذَاك وَذا ... لحظ مُحِبٍّ وفِعْلَ مُكْتسبِ ) أخبرني إبراهيم قال وحدثني أبي قال افتصد سعيد بن حميد فسألتني فضل الشاعرة وسألت عريب أن نمضي إليه ففعلنا وأهدت إليه هدايا فكان منها ألف جدى وحمل وألف دجاجة فائقة وألف طبق ريحان وفاكهة ومع ذلك طيب كثير وشراب وتحف حسان فكتب إليها سعيد إن سروري لا يتم إلا بحضورك فجاءته في آخر النهار وجلسنا نشرب فاستأذن غلامه بنان فأذن له فدخل إلينا وهو يومئذ شاب طرير حسن الوجه حسن الغناء نظيف الثياب شكل فذهب بها كل مذهب وأقبلت عليه بحديثها ونظرها فتشمز سعيد واستطير غضبا وتبين بنان القصة فانصرف وأقبل عليها سعيد يعذلها ويؤنبها ساعة ثم أمسك فكتبت إليه ( يا من أطلتُ تَفرُّسِي ... في وَجْهه وتَنفُّسِي ) ( أَفديك من مُتَدَلِّلٍ ... يُزْهَى بقَتل الأنفُسِ ) ( هَبْني أسأْتُ وما أسَأْتُ ... بَلَى أُقِرّ أنا المُسِي ) ( أَحْلفْتَنِي ألاَّ أُسارق ... نَظْرةً في مَجْلِسي ) ( فنظرتُ نظرةَ مُخطىءٍ ... أَتْبَعْتُها بتَفَرُّسِ ) ( ونَسيتُ أَنِّي قد حَلَفْت ... فما عُقوبَةُ مَنْ نسي ) فقام سعيد فقبل رأسها وقال لا عقوبة عليه بل نحتمل هفوته ونتجافى عن إساءته وغنت عريب في هذا الشعر هزجا فشربنا عليه بقية يومنا ثم افترقنا وأثر بنان في قلبها وعلقت به فلم تزل حتى واصلته وقطعت سعيدا وجدت في بعض الكتب عن عبد الله بن المعتز قال قال لي إبراهيم بن المهدي كانت فضل الشاعرة من أحسن خلق الله خطا وأفصحهم كلاما وأبلغهم في مخاطبة وأثبتهم في محاورة فقلت يوما لسعيد بن حميد أظنك يا أبا عثمان تكتب لفضل رقاعها وتقيدها وتخرجها فقد أخذت نحوك في الكلام وسلكت سبيلك فقال لي وهو يضحك ما أخيب ظنك ليتها تسلم مني ولا آخذ كلامها ورسائلها والله يا أخي لو أخذ أفاضل الكتاب وأماثلهم عنها لما استغنوا عن ذلك صوت ( كلُّ حَيٍّ لاقِي الحِمام فَمُودِي ... ما لِحَيٍّ مُؤمِّلٍ مِنْ خُلودِ ) ( لا تَهابُ المَنونُ شَيئاً ولا تُبْقِي ... على والدٍ ولا مَوْلُودِ ) الشعر لابن مناذر والغناء لبنان ثقيل أول بالسبابة في مجرى الوسطى من كتابه الذي جمع فيه صنعته وفيه لساجي جارية عبيد الله بن عبد الله بن طاهر ثقيل أول أيضا على مذهب النوح ابتداؤه نشيد أخبار ابن مناذر ونسبه هو محمد بن مناذر مولى بني صبير بن يربوع ويكنى ابا جعفر وقيل إنه كان يكنى أبا عبد الله ووجدت في بعض الكتب رواية عن ابن حبيب أنه كان يكنى أبا ذريح وقد كان له ابن يسمى ذريحا فمات وهو صغير وإياه عني بقوله ( كأنَّك للمنايا يا ... ذَرِيحُ اللهُ صَوَّركَا ) ( فناطَ بوَجْهك الشِّعْرَى ... وبالإِكليل قَلَّدكَا ) ولعله اكنتى به قبل وفاته وقال الجاحظ كان محمد بن مناذر مولى سليمان القهرمان وكان سليمان مولى عبيد الله بن أبي بكرة مولى رسول الله وكان أبو بكرة عبدا لثقيف ثم ادعى عبيد الله بن أبي بكرة أنه ثقفي وادعى سليمان القهرمان أنه تميمي وادعى ابن مناذر أنه صليبة من بني صبير بن يربوع فابن مناذر مولى مولى مولى وهو دعي مولى دعي وهذا ما لا يجتمع في غيره قط ممن عرفناه وبلغنا خبره كان فصيحا مقدما في العلم باللغة ومحمد بن مناذر شاعر فصيح مقدم في العلم باللغة وإمام فيها وقد أخذ عنه أكابر أهلها وكان في أول أمره يتأله ثم عدل عن ذلك فهجا الناس وتهتك وخلع وقذف أعراض أهل البصرة حتى نفي عنها إلى الحجاز فمات هناك وهذه الأبيات يرثي بها ابن مناذر عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي وكان عبد الوهاب محدثا جليلا وقد روى عنه وجوه المحدثين وكبراء الرواة وكان ابن مناذر يهوى عبد المجيد هذا فكان في أيام حياته مستورا متألها جميل الأمر فلما مات عبد المجيد حال عن جميع ما كان عليه وأخبارهما تذكر في مواضعها أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال كان ابن مناذر مولى صبير بن يربوع وكان إماما في علم اللغة وكلام العرب وكان في أول أمره ناسكا ملازما للمسجد كثير النوافل جميل الأمر إلى أن فتن بعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتهتك بعد ستره وفتك بعد نسكه ثم ترامى به الأمر بعد موت عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي إلى أن شتم الأعراض وأظهر البذاء وقذف المحصنات ووجبت عليه حدود فهرب إلى مكة وبقي بها حتى مات وكان يجالس سفيان بن عيينة فيسأله سفيان عن معاني حديث النبي فيخبره بها ويقول له كذا وكذا مأخوذ من كذا فيقول سفيان كلام العرب بعضه يأخذ برقاب بعض قال وأدرك المهدي ومدحه ومات في أيام المأمون أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد وغيره أن محمد بن مناذر كان إذا قيل له ابن مناذر بفتح الميم يغضب ثم يقول أمناذر الصغرى أم مناذر الكبرى وهما كورتان من كور الأهواز إنما هو مناذر على وزن مفاعل من ناذر فهو مناذر مثل ضارب فهو مضارب وقاتل فهو مقاتل قال محمد بن يزيد ولما عدل محمد بن مناذر عما كان عليه من النسك والتأله وعظته المعتزلة فلم يتعظ وأوعدته بالمكروه فلم يزدجر ومنعوه من دخول المسجد فنابذهم وطعن عليهم وهجاهم وكان يأخذ المداد بالليل فيطرحه في مطاهرهم فإذا توضؤوا به سود وجوههم وثيابهم وقال في توعد المعتزلة إياه ( أبلِغْ لديك بني تَميمٍ مَأْلُكاً ... عَنِّي وعَرِّج في بَني يَرْبُوعِ ) ( أَنِّي أخٌ لكُمُ بِدارِ مَضِيعَةٍ ... بُومٌ وغِرْبانٌ عليه وُقوعُ ) ( يا لَلْقبائل من تَميمٍ ما لكُم ... رَوْبَى ولَحْمَ أَخِيكم بمَصِيعِ ) ( هُبُّوا له فلقد أُراه بنَصْرُكُم ... يَأْوِي إلى جَبَلٍ أَشَمَّ مَنِيعِ ) ( وإذا تحزَّبت القَبائلُ كُنْتُمُ ... ثِقَتِي لِكُلّ مُلِمَّةٍ وفظِيعِ ) ( إن أنتمُ لن تَثْأرُوا لأخيكُم ... حتى يُباءَ بوِتْرِه المَتْبُوعِ ) ( فخُذوا المَغازِل بالأَكُفّ وأيقِنوا ... ما عِشْتُمُ بمَذَلَّةٍ وخضوعِ ) ( إن كنتمُ حُدُباً على أحسابكم ... سُمُعاً فقد أسمعتُ كُلَّ سَمِيعِ ) ( أين الصُّبَيْريُّون لم أرَ مِثْلَهم ... في النائبات وأين رَهْطَ وَكِيعِ ) قال ثم استحيا من قوله أين الصبيريون لقلة عددهم فقال أين الرياحيون أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الحسن بن علي قال حدثني مسعود بن بشر قال قال لي ابن مناذر ولع بي قوم من المعتزلة ففرقت منهم قال وكان مولى صبير بن يربوع فقلت بنو صبير نفسان ونصف فمن أدعو منهم فقلت ليس إلا إخوتهم بنو رياح فقلت أبياتا حرضتهم فيها وحضضت بنو رياح فقلت ( أين الرِّياحِيُّون لم أَرَ مِثلَهم ... في النَّائبات وأينَ رَهْط وكيع ) قال فجاء خمسون شيخا من بني رياح فطردوهم عني أخبرني علي بن سليمان قال حدثني محمد بن يزيد قال حدثني الجاحظ عن مسعود بن بشر عن أبي عبيدة قال ما زادت بنو صبير بن يربوع قط على سبعة نفر كلما ولد منهم مولود مات منهم ميت أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني يعقوب بن نعيم قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني أبو عثمان المازني قال كان ابن مناذر من أهل عدن وإنما صار إلى البصرة في طلب الأدب لتوافر العلماء فيها فأقام فيها مدة ثم شغل بعبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي فتطاول أمره إلى أن خرج عنها وكان مقيما بمكة فلما مات عبد المجيد نسك وقوم يقولون إنه كان دهريا خلاعته وكره الناس له وذكر أبو دعامة عن عطاء الملط قال كان ابن مناذر يؤم الناس في المسجد الذي في قبيلته فما أظهر ما أظهره من الخلاعة والمجون كرهوا أن يصلي بهم وأن يأتموا به فقالوا شعرا وذكروا ذلك فيه وهجوه وألقوا الرقعة في المحراب فلما قضى صلاته قرأها ثم قلبها وكتب فيها يقول ( نُبِّئْت قافيةً قِيلت تَناشَدَها ... قومٌ سأترك في أعراضهم نَدَبا ) ( نَاك الذين رَوَوْها أُمَّ قائِلها ... وناك قائلُها أُمَّ الذي كَتَبا ) ثم رمى بهم إليهم ولم يعد إلى الصلاة بهم أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا أبو الفضل بن عبدان بن ابي حرب الصفار قال حدثني الفضل بن موسى مولى بني هاشم قال دخل ابن مناذر المسجد الجامع بالبصرة فوقعت عينه على غلام مستند ألى سارية فخرج والتمس غلاما ورقعة ودواة فكتب أبياتا مدحه بها وسأل الغلام الذي التمسه أن يوصل الرقعة إلى الفتى المستند إلى السارية فذهب بها إلى الغلام فلما قرأها قلبها وكتب على ظهرها يقول ( مِثلُ امْتِداحِك لي بلا وَرِقٍ ... مثلُ الجِدار بُنِي على خُصِّ ) ( وألذُّ عِنْدي من مديحك لي ... سُودُ النِّعالِ ولَيِّن القُمْصِ ) ( فإذا عَزَمْتَ فهَيِّ لي وَرِقاً ... فإذا فعلت فلستُ أستَعْصِي ) فلما قرأها ابن مناذر قام إليه فقال له ويلك أأنت أبو نواس قال نعم فسلم عليه وتعانقا وكان ذلك أول المودة بينهما أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني أبو حاتم قال اجتمع أبو العتاهية ومحمد بن مناذر فقال له أبو العتاهية يا ابا عبد الله كيف أنت في الشعر قال أقول في الليلة إذا سنح القول لي واتسعت القوافي عشرة أبيات إلى خمسة عشر فقال له أبو العتاهية لكنى لو شئت أن أقول في الليلة ألف بيت لقلت فقال ابن مناذر أجل والله إذا أردت أن أقول مثل قولك ( ألا يا عُتُبةَ السَّاعَةْ ... أموتُ السَّاعةَ السَّاعَةْ ) قلت ولكني لا أعود نفسي مثل هذا الكلام الساقط ولا أسمح لها به فخجل أبو العتاهية وقام يجر رجله أخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني سهل بن محمد أبو حاتم وأحمد بن يعقوب بن المنير ابن أخت أبي بكر الأصم قال ابن مهرويه وحدثني به يحيى بن الحسن الربيعي عن غسان بن المفضل قال اجتمع أبو العتاهية وابن مناذر فاجتمع الناس إليهما وقالوا هذان شيخا الشعراء فقال أبو العتاهية لابن المناذر يا أبا عبد الله كم تقول في اليوم من الشعر وذكر باقي الخبر مثل المتقدم سواء أخبرني أبو دلف هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا العباس بن ميمون طائع قال سمعت الأصمعي يقول حضرنا مأدبة ومعنا أبو محرز خلف الأحمر وحضرها ابن مناذر فقال لخلف الأحمر يا أبا محرز إن يكن النابغة وامرؤ القيس وزهير قد ماتوا فهذه أشعارهم مخلدة فقس شعري إلى شعرهم واحكم فيها بالحق فغضب خلف ثم أخذ صحفة مملوءة مرقا فرمى بها عليه فملأه فقام ابن مناذر مغضبا وأظنه هجاه بعد ذلك أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا خلاد الأرقط قال لقيني ابن مناذر بمكة فأنشدني قصيدته ( كُلُّ حَيٍّ لاقِي الحِمام فمُودِي ... ) ثم قال لي أقرىء أبا عبيدة السلام وقل له يقول لك ابن مناذر اتق الله واحكم بين شعري وشعر عدي بن زيد ولا تقل ذلك جاهلي وهذا إسلامي وذاك قديم وهذا محدث فتحكم بين العصرين ولكن حكم بين الشعرين ودع العصبية قال وكان ابن مناذر ينحو نحو عدي بن زيد في شعره ويميل إليه ويقدمه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عثمان الكزبري قال أخبرني محمد بن الحجاج الجراداني قال قلت لابن مناذر من أشعر الناس قال من كنت في شعره فقلت له ومن ذاك فقال عدي بن زيد وكان ينحو نحوه في شعره ويقدمه ويتخذه إماما والأبيات التي فيها الغناء أول قصيدة لمحمد بن مناذر رثى بها عبد المجيد بن عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وكان يهواه وكان عبد المجيد هذا فيما يقال من أحسن الناس وجها وأدبا ولباسا وأكملهم في كل حال وكان على غاية المحبة لابن مناذر والمساعدة له والشغف به وكان يبلغ خبره أباه على جلالته وسنه وموضعه في العلم فلا ينكر ذلك لأنه لم تكن تبلغه عنه ريبة وكان ابن مناذر حينئذ حميد الأمر حسن المروءة عفيفا فحدثني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن حدان قال حدثني قدامة بن نوح قال قيل لعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي إن ابن مناذر قد أفسد ابنك وذكره في شعره وشبب به فقال عبد الوهاب أولا يرضى ابني أن يصحبه مثل ابن مناذر ويذكره في شعره أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد بن سليمان النوفلي قال أم عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي الذي كان يشبب به ابن مناذر بانة بنت أبي العاصي وهي مولاة جنان التي يشبب بها أبو نواس قال فحدثني من رأى محمد بن مناذر يوم ثالث بانة هذه وقد خرج جواريها إلى قبرها فخرج معهن نحو الجبانة بالبصرة قال فقلت له يا أبا عبد الله أين تريد فقال ( اليومُ يومُ الثُّلاثا ... وَيومُ ثالثِ بانَهْ ) ( اليوم تَكثُر فيه الظِّباءُ ... في الجَبَّانَهْ ) قال أبو الحسن ولدت بانة من عبد الوهاب بن عبد المجيد أولاده عبد المجيد وأبا العاصي وزيادا وزياد الذي عناه أبو نواس في قوله يشبب بجنان ( جَفْنُ عيني قد كاد يَسْقط ... من طول ما اختلَجْ ) ( وفُؤادِي مِنْ حَرّ حُبِّكِ ... قد كاد أو نَضَجْ ) ( خَبِّرِيني فَدَتْكِ نَفْسِي ... وأهْلِي مَتَى الفَرَج ) ( كان ميعادُنا خُروجَ ... زيادٍ فقد خَرَجْ ) قال ابن عمار قال لي النوفلي في هذه الأبيات غناء حلو مليح لو سمعته لشربت عليه أربعة أرطال قال النوفلي وكان لعبد الوهاب ابن يقال له محمد كان أسن ولده ويقال إنه كان يتعشق بانة ابنة أبي العاصي هذه امرأة ابيه وإن زياد بن عبد الوهاب منه وكان أشبه الناس به حدثني ابن عمار قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبي قال خرج ابن مناذر يوما من صلاة التراويح وهو في المسجد بالبصرة وخرج عبد المجيد بن عبد الوهاب خلفه فلم يزل يحدثه إلى الصبح وهما قائمان إذا انصرف عبد المجيد شيعة ابن مناذر إلى منزله فإذا بلغه وانصرف ابن مناذر شيعة عبد المجيد لا يطيب أحدهما نفسا بفراق صاحبه حتى أصبحا فقيل لعبد الوهاب بن عبد المجيد ابن مناذر قد أفسد ابنك فقال أو ما يرضي ابني أن يرضى بما يرضى به ابن مناذر ابن مناذر وعبد المجيد بن عبد الوهاب وفي عبد المجيد يقول ابن مناذر يمدحه وهو من مختار ما قاله فيه أنشدنيها علي بن سليمان الأخفش عن محمد بن زيد من قصيدة أولها ( شَيَّب رَيبُ الزَّمان رأسِي ... لَهْفي على ريبِ ذَا الزّضمانِ ) ( يَقدَحُ في الصُّمِّ من شَرَوْرَى ... ويَحْدُر الصُّمَّ من أبانِ ) يقول فيها يمدح عبد المجيد ( مِنّي إلي الماجد المُرَجَّى ... عبدِ المَجِيد الفَتَى الهِجانِ ) ( خَيرِ ثَقِيفٍ أباً ونَفْساً ... إذا التَقَت حَلْقتَا البِطانِ ) ( نفسِي فِداءٌ له وأَهْلِي ... وكُلُّ ما تَمْلِك اليَدانِ ) ( كأنَّ شَمسَ الضُّحَى وبدر الدُّجَى ... عليه مُعلَّقان ) ( نِيطا معاً فوق حاجِبَيْه ... والبدرُ والشَّمسُ يَضْحَكانِ ) ( مُشمِّرٌ همُّه المَتعالِي ... ليس بِرَثٍّ ولا بِوانِي ) ( بَنَى له عَزَّةً وَمْجداً ... في أولِ الدَّهرِ بانيان ) ( بانٍ تَلقَّاه من ثَقِيفٍ ... ومن ذُرَا الأزدِ خَيرُ باني ) ( فاسأَلْه ممَّا حَوَت يَداَه ... يَهْتَزُّ كالصَّارِم اليَماني ) أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة صالح بن محمد قال مرض عبد المجيد بن عبد الوهاب الثقفي مرضا شديدا بالبصرة وكان ابن مناذر ملازما له يمرضه ويخدمه ويتولى أمره بنفسه لا يكله إلى أحد فحدثني بعض أهلهم قال حضرت يوما عنده وقد أسخن له ماء حار ليشربه واشتد به الأمر فجعل يقول آه بصوت ضعيف فغمس ابن مناذر يده في الماء الحار وجعل يتأوه مع عبد المجيد ويده تحترق حتى كادت يده تسقط فجذبناها وأخرجناها من الماء وقلنا له أمجنون أنت أي شيء هذا أينتفع به ذاك فقال أساعده وهذا جهد من مقل ثم استقل من علته تلك وعوفي مدة طويلة ثم تردى من سطح فمات فجزع عليه جزعا شديدا حتى كاد يفضل أهله وإخوته في البكاء والعويل وظهر منه من الجزع ما عجب الناس له ورثاه بعد ذلك بقصيدته المشهورة فرواها أهل البصرة ونيح بها على عبد المجيد وكان الناس يعجبون بها ويستحسنونها أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم النوشجاني قال سمعت أبي يقول حضرت سفيان بن عيينة يقول لابن مناذر أنشدني ما قلت في عبد المجيد فأنشده قصيدته الطويلة الدالية قال سفيان بارك الله فيك فلقد تفردت بمراثي أهل العراق فأخبرني عمي قال حدثني أبو هفان قال قال الجماز تزوج عبد المجيد امرأة من أهله فأولم عليها شهرا يجتمع عنده في كل يوم وجوه أهل البصرة وأدباؤها وشعراؤها فصعد ذات يوم إلى السطح فرأى طنبا من أطناب الستارة قد انحل فأكب عليه ليشده فتردى على رأسه ومات من سقطته فما رأيت مصيبة قط كانت أعظم منها ولا أنكأ للقلوب أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني العباس بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان قال حدثني محمد بن عمر الخراز قال قال لي ابن مناذر ويحك لست أرى نساء ثقيف ينحن على عبد المجيد نياحة على استواء قلت فما تحب قال تخرج معي حتى أطارحك فطارحني القصيدة التي يقول فيها ( إنَّ عبدَ المجيد يوم تَوَلَّى ... هَدَّ رُكناً ما كان بالمَهْدُودِ ) ( هَدَّ عبدُ المجيد رُكْنِي وقد كُنْتُ ... بِرُكْنٍ أبوءُ منه شَديدِ ) قال فما زلت حتى حفظتها ووعيتها ووضعنا فيها لحنا فلما كان في الليلة التي يناح بها على عبد المجيد فيها صلينا العشاء الآخره في المسجد الجامع ثم خرجنا إلى دارهم وقد صعد النساء على السطح ينحن عليه فسكتن سكتة لهن فاندفعنا أنا وهو ننوح عليه فلما سمعننا أقبلن يلطمن ويصحن حتى كدن ينقلبن من السطح إلى أسفل من شدة تشرفهن علينا وإعجابهن بما سمعنه منا وأصبح أهل المسجد ليس لهم حديث غيرنا وشاع الخبر بالبصرة وتحدث به الناس حتى نقل من مجلس إلى مجلس وأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال لي حدثني موسى بن حماد بن عبد الله القرشي قال حدثني محمد بن النعمان بن جبلة الباهلي قال لما قال ابن مناذر ( لأُقِيَمَنَّ مأتماً كَنُجوم اللّيْل ... زُهْراً يَلْطُمْن حُرَّ الخُدُودِ ) ( مُوجَعاتٍ يَبْكِين للكَبِدِ ... الحَرَّى عليه وللفُؤادِ العَمِيدِ ) قالت أم عبد المجيد والله لأبرن قسمه فأقامت مع أخوات عبد المجيد وجواربه مأتما عليه وقامت تصيح عليه واي ويه واي ويه فيقال إنها أول من فعل ذلك وقاله في الإسلام وأخبرني بهذا الخبر ابن عمار عن علي بن محمد النوفلي عن عمه أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد عن محمد بن عامر النخعي قال أنشدني محمد بن مناذر لنفسه يرثي عبد المجيد بن عبد الوهاب يقول ( يا عَينُ حَقَّ لك البُكاءُ ... لحادِثِ الرُّزء الجَليلِ ) ( فابْكي على عبد المجيد ... وأَعوِلِي كلَّ العَوِيل ) ( لا يُبْعِدُ اللهُ الفَتى الله الفَيَّاضَ ... ذَا الباعِ الطَّوِيل ) ( عَجِل الحِمامُ به فودَّ ... عَنا وآذنَ بالرَّحِيل ) ( لَهفِي على الشَّعَر المُعَفّر ... منكَ والخَدِّ الأَسيلِ ) ( كَسَفتْ لِفقْدِك شَمسُنا ... والبدْرُ آذن بالأُفولِ ) حدثني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني النضر بن عمرو عن المازني قال حدثنا حيان أن ابن مناذر دفع قصيدته الدالية إليه وقال اعرضها على ابي عبيدة فأتيته وهو على باب أبي عمرو بن العلاء فقرأت عليه منها خمسة أبيات فلم تعجبه وقال دعني من هذا فإني قد تشاغلت بحفظ القرآن عنه وعن مثله قال وكان أبو عبيدة يبغضه ويعاديه لأنه هجاه أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال ابن مناذر قلت ( يَقدَحُ الدهرُ في شماريخ رَضْوَى ... ) ثم مكثت حولا لا أدري بن أتممه فسمعت قائلا يقول هبود قلت وما هبود فقال لي جبيل في بلادنا فقلت ( ويحُطُّ الصُّخورَ من هَبُّودِ ... ) قال إسحاق وسمع أعرابي هذا البيت فقال ما أجهل قائله بهبود والله إنها لأكيمة ما توارى الخارىء فكيف يحط منها الصخور أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني أبو حاتم قال سمعت أبا مالك عمرو بن كركرة يقول أنشدني ابن مناذر قصيدته الدالية التي رثى فيها عبد المجيد فلما بلغ إلى قوله ( يَقدَحُ الدهرُ في شماريخ رَضْوَى ... ويحُطَّ الصُّخورَ مِنْ هَبُّودِ ) قلت له هبود أي شيء هو فقال جبل فقلت سخنت عينك هبود والله بئر باليمامة ماؤها ملح لا يشرب منه شيء خلقه الله وقد والله خريت فيها مرات فلما كان بعد مدة وقفت عليه في مسجد البصرة وهو ينشدها فلما بلغ هذا البيت أنشدها ( ويحُط الصُّخورَ من عَبُّود ... ) فقلت له عبود أي شيء هو ذا فقال جبل بالشام فلعلك يا بن الزانية خريت عليه أيضا فضحكت ثم قلت لا ما خريت عليه ولا رأيته وانصرفت عنه وأنا أضحك أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي قال كان يحيى بن زياد يرمى بالزندقة وكان من أظرف الناس وأنظفهم فكان يقال أظرف من الزنديق وكان الحاركي واسمه محمد بن زياد يظهر الزندقة تظارفا فقال فيه ابن مناذر ( يا بنَ زيادٍ يا أبا جعفَرٍ ... أظهرتَ دِيناً غيرَ ما تُخفي ) ( مُزَنْدَق الظاهِر باللفظ في ... باطنِ إسلامٍ فَتىً عَف ) ( لسْتَ بزِنديقٍ ولكنّما ... أرَدْت أن تُوسَم بالظَّرْفِ ) وقال فيه أيضا ( يا أبا جَعْفرٍ كأنك قد صِرْت ... على أجْردٍ طَويلِ الجِرانِ ) ( من مَطايا ضَوامرٍ ليس يَصْهَلْنَ ... إذا ما رُكِبْنَ يوم رِهانِ ) ( لم يُذلَّلنَ بالسُّرُوج ولا أقْرَح ... أََشداقَهنَّ جذبُ العِنان ) ( قائماتٍ مُسوَّمات لدى الجِسْر ... لأمثالِكم من الفِتْيان ) أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة عن ابن عائشة قال كان عتبة النحوي من أصحاب سيبويه وكان صاحب نحو فهما بما يشرحه ويفسره على مذاهب أصحابه وكان ابن مناذر يتعاطى ذلك ويجلس إليه قوم يأخذونه عنه فجلس عتبة قريبا من حلقته فتقوض الناس إليه وتركوا ابن مناذر فلما كان في يوم الجمعة الأخرى قام ابن مناذر من حلقته فوقف على عتبة ثم أنشأ يقول ( قُوموا بنا جميعاً ... لحَلْقَة العَذارِي ) ( تَجمعن للشقاء ... إلى عُتْبةِ الخَسارِ ) ( ما لي ومَا لِعُتْبَة ... إذ يبتغي ضِرارِي ) قال فقام عتبة إليه فناشده ألا يزيد ومنع من كان يجلس إلى ابن مناذر من حضور حلقته وجلس هو بعيدا من ابن مناذر بعد ذلك حدثني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال كان لابن مناذر جار يقال له ابن عمير من المعتزلة فكان يسعى بابن مناذر إليهم ويسبه ويذكره بالفسق ويغريهم به فقال يهجوه ( بَنو عُمَيرْ مَجدُهم دارُهْم ... وكُلّ قَوْم فلَهُم مَجْدُ ) ( كأنهم فَقْعٌ بِدَوِّيَّةٍ ... وليس لهم قَبْلٌ ولا بَعْدُ ) ( بَثّ عُمَيرٌ لؤمَه فيهمُ ... فكُلُّهم من لُؤْمه جُعْدُ ) وأخبرني بهذا الخبر الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن النوفلي بمثله وزاد فيه وعبد الله بن عمير - أبو هؤلاء الذين هجاهم - أخو عبد الله بن عامر لأمه أمهما دجاجة بنت إسماعيل بن الصلت السلمي أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا الخليل بن أسد قال كان ابن مناذر من أحضر الناس جوابا قال له رجل ما شانك قال عظم في أنفي قال وسأله رجل يوما ما الجرباء فأومأ بيده إلى الأرض قال هذه يهزأ به وإنما الجرباء السماء ابن مناذر والخليل بن أحمد أخبرني أحمد بن العباس العسكري المؤدب قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني جعفر بن محمد عن دماذ قال دار بين الخليل بن أحمد وبين ابن مناذر كلام فقال له الخليل إنما أنتم معشر الشعراء تبع لي وأنا سكان السفينة إن قرظتكم ورضيت قولكم نفقتم وإلا كسدتم فقال ابن مناذر والله لأقولن في الخليفة قصيدة أمتدحه بها ولا أحتاج إليك فيها عنده ولا إلى غيرك فقال في الرشيد قصيدته التي أولها ( ما هَيَّجَ الشوقَ من مُطَوَّقَةٍ ... أوفَتْ على بانةٍ تُغَنِّينَا ) يقول فيها ( ولو سألْنا بحُسْن وَجْهك يا ... هارونُ صَوْبَ الغمام أُسقِينَا ) قال وأراد أن يفد بها إلى الرشيد فلم يلبث أن قدم الرشيد البصرة حاجا ليأخذ على طريق النباج وكان الطريق قديما فدخلها وعديله إبراهيم الحراني فتحمل عليه ابن مناذر بعثمان بن الحكم الثقفي وأبي بكر السلمي حتى أوصلاه إلى الرشيد فأنشده إياها فلما بلغ آخرها كان فيها بيت يفتخر فيه وهو ( قومي تَمِيمٌ عند السِّماك لهم ... مَجْدٌ وعِزٌّ فما يُنالونا ) فلما أنشده هذا البيت تعصب عليه قوم من الجلساء فقال له بعضهم يا جاهل أتفخر في قصيدة مدحت بها أمير المؤمنين وقال آخر هذه حماقة بصرية فكفهم عنه الرشيد ووهب له عشرين ألف درهم الرشيد يبعث له بجائزة وهو بالحجاز أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدثني سهيل السلمي أن الرشيد استسقى في سنة قحط فسقي الناس فسر بذلك وقال لله در ابن مناذر حيث يقول ( ولو سألْنا بحُسْن وَجْهك يا ... هارونُ صَوْبَ الغمام أُسقِينَا ) وسأل عن خبره فأخبر أنه بالحجاز فبعث إليه بجائزة أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي عن محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال حدثني محمد بن عباد المهلبي قال شهد بكر بن بكار عند عبيد الله بن الحسن بن الحصين بن الحر العنزي بشهادة فتبسم ثم قال له يا بكر مالك ولابن مناذر حيث يقول ( أَعوذُ بالله من النّار ... ومنكَ يا بَكْرَ بنَ بَكَّارِ ) فقال أصلح الله القاضي ذاك رجل ماجن خليع لا يبالي ما قال فقال له صدقت وزاد تبسمه وقبل شهادته وقام بكر وقد تشور وخجل قال العنزي فحدثني أبو غسان دماذ قال أنشدني ابن مناذر هذا الشعر الذي قاله في بكر بن بكار وهو ( أَعوذُ بالله من النّارِ ... ومنكَ يا بكرُ بنَ بَكَّارِ ) ( يا رَجُلاً ما كان فيما مَضَى ... لآلِ حِمْران بِزَوَّارِ ) ( ما مَنزِلٌ أحدثْتُه رابِعاً ... مُعْتَزلاً عن عَرْصَة الدَّارِ ) ( ما تَبْرحُ الدَّهرَ على سَوْأَةٍ ... تطرحُ حَبّاً للخُشَنْشارِ ) ( يا معشَر الأحداثِ يا وَيْحَكم ... تَعَوَّذُوا بالخالِق البارِي ) ( مِن حَرْبةٍ نِيطَت على حَقْوِه ... يَسْعَى بها كالبَطَل الشّارِي ) ( يوم تَمنَّى أنَّ في كَفِّه ... أَيْرَ أَبِي الخِضْر بدِينارِ ) قال ابن مهرويه في خبره والخشنشار هو معاوية الزيادي المحدث ويكنى أبا الخضر وكان جميل الوجه وقال العنزي في حديثه حدثني إسحاق بن عبد الله الحمراني وقد سألته عن معنى هذا الشعر فقال الخشنشار غلام أمرد جميل الوجه كان في محلتنا وهذا لقبه وكان بكر بن بكار يتعشقه فكان يجيء إلى أبي فيذاكره الحديث ويجالسه وينظر إلى الخشنشار قال العنزي حدثني عمر بن شبة قال بلغني أن عبيد الله بن الحسن لقي ابن مناذر فقال له ويحك ما أردت إلى بكر بن بكار ففضحته وقلت فيه قولا لعلك لم تتحققه فبدأ ابن مناذر يحلف له بيمين ما سمعت قط أغلظ منها أن الذي قاله في بكر شيء يقوله معه كل من يعرف بكرا ويعرف الخشنشار ويجمع عليه ولا يخالفه فيه فانصرف عبيد الله مغموما بذلك قد بان فيه فلما بعد عنا قلت لابن مناذر برىء الله منك ويلك ما أكذبك أكل من يعرف بكر بن بكار يقول فيه مثل قولك حتى حلفت بهذه اليمين فقال سخنت عينك فإذا كنت أعمى القلب أي شيء أصنع أفتراني كنت أكذب نفسي عند القاضي إنما موهت عليه وحلفت له أن كل من يعرفها يقول مثل قولي وعنيت ما ابتدأت به من الشعر وهو قولي ( أَعوذُ بالله من النّارِ ... ) أفتعرف أنت أحدا يعرفهما أو يجهلهما إلا يقول كما قلت أعوذ بالله من النار إنما موهت على القاضي وأردت تحقيق قولي عنده قال مؤلف هذا الكتاب وبكر بن بكار رجل محدث قد روى عن ورقاء عن ابن أبي نجيح تفسير مجاهد وروى حديثا صالحا أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا بكر بن بكار عن عبد الله بن المحرز عن قتادة عن أنس أن النبي قال ( زينوا القرآن بأصواتكم ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني الأحوص بن الفضل البصري قال حدثنا ابن معاوية الزيادي وأبوه الخشنشار الذي يقول فيه ابن مناذر ( تطرحُ حبّاً للخُشَنْشارِ ... ) قال حدثني من لقي ابن مناذر بمكة فقال ألا تشتاق إلى البصرة فقال له أخبرني عن شمس الوزانين أعلى حالها قال نعم قال وثيق بن يوسف الثقفي حي قال نعم قال فغسان بن الفضل الغلابي حي قال نعم قال لا والله لا دخلتها ما بقي فيها واحد من الثلاثة قال وشمس الوزانين في طرف المربد بحضرة مسجد الأنصار في موضع حيطانه قصار لا تكاد الشمس تفارقه أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال كان محمد بن عبد الوهاب الثقفي أخو عبد المجيد يعادي محمد بن مناذر بسبب ميله إلى أخيه عبد المجيد وكان ابن مناذر يهجوه ويسبه ويقطعه وكل واحد منهما يطلب لصاحبه المكروه ويسعى عليه فلقي محمد بن عبد الوهاب ابن مناذر في مسجد البصرة ومعه دفتر فيه كتاب العروض بدوائره ولم يكن محمد بن عبد الوهاب يعرف العروض فجعل يلحظ الكتاب ويقرؤه فلا يفهمه وابن مناذر متغافل عن فعله ثم قال له ما في كتابك هذا فخبأه في كمه وقال وأي شيء عليك مما فيه فتعلق به ولببه فقال له ابن مناذر يا أبا الصلت الله الله في دمي فطمع فيه وصاح يا زنديق في كمك الزندقة فاجتمع الناس إليه فأخرج الدفتر من كمه وأراهم إياه فعرفوا براءته مما قذفه به ووثبوا على محمد بن عبد الوهاب واستخفوا به وانصرف بخزي وقال ابن مناذر يهجوه ( إذا أنتَ تَعلَّقْتَ ... بحَبْلٍ من أبي الصَّلْتِ ) ( تَعلَّقْتَ بحَبْل واهن ... القُوَّة مُنْبَتِّ ) ( إذا ما بَلغ المجدَ ... ذَوُو الأحساب بالمَتِّ ) ( تقاصَرْتَ عن المَجْد ... بأَمرٍ رائبٍ شَخْتِ ) ( فلا تَسْمُو إلى المَجْد ... فما أمرُك بالثَّبْتِ ) ( فلا فَرُعك في العِيدَانِ ... عُودٌ ناضِرُ النَّبْتِ ) ( وما يُبقِي لكم ياقوْمُ ... من أثْلَتِكم نَحْتِي ) ( فها فاْسمَع قَرِيضاً من ... رقيقٍ حَسَنِ النَّعْتِ ) ( يقول الحقَّ إن قال ... ولا يرميك بالبَهْتِ ) ( وفي نَعْتٍ لِوَجْعاء ... قد استَرْخَت من الفَت ) ( فعِنْدِي لك يا مَأْبُونُ ... مِثلُ الفالجِ البُخْتِي ) ( عُتُلٌّ يُعمِلُ الكُومَ ... من السَّبْتِ إلى السَّبْتِ ) ( له فَيْشَلَةٌ إن أُدْ ... خِلَتْ واسعةُ الخَرْت ) ( وإلإ فاطْلِ وجعاءكَ ... بالخَضْخاضِ والزِّفْتِ ) ( ألم يبلغْك تَسآلِي ... لدى العَلاَّمَةِ المَرْتِ ) ( فقال الشيخُ سَرْجُويه ... داءُ المرء من تَحْتِ ) ( فخُذْ من وَرَق الدِّفْلَى ... وخذ من ورق القَتِّ ) ( وخذ من جَعْرِ كَيْسانٍ ... ومن أظفار نِسَّخْتِ ) ( فغَرْغِرْه به واسْعَطْ ... بِذَا في دَائِه أُفْتِي ) قال ونسخت لقب أبي عبيدة وهو اسم من أسماء اليهود لقب به تعريضا بأن جده كان يهوديا وكان أبو عبيدة وسخا طويل الأظفار أبدا والشعر وكان يغضب من هذا اللقب فأخبرني الحسن بن علي عن ابن مهرويه عن علي بن محمد النوفلي قال لما قال ابن مناذر هذه الأبيات ( إذا أنت تعلَّقْتَ ... بحَبْل من أبي الصَّلْتِ ) ( تَعلّقْتَ بحبْل واهن ... القُوَّة مُنْبَتِّ ) ( وقال الشيخُ سَرْجُويه ... داء المَرْء من تَحت ) فبلغ ذلك سرجويه فجاء إلى محمد بن عبد الوهاب فوقف عليه في مجلسه وعنده جماعة من أهله وإخوانه وجيرانه فسلم عليه وكان أعجميا لا يفصح ثم قال له بركست كمن كفتم أن كسر مناذر كفت داء المرء من تحت فكاد القوم أن يفتضحوا من الضحك وصاح به محمد اعزب قبحك الله فظن أنه لم يقبل عذره فأقبل يحلف له مجتهدا ما قال ذاك ومحمد يصيح به ويلك اعزب عني وهو في الموت منه وكلما زاده من الصياح إليه زاده في العذر واجتهد في الأيمان وضحك الناس حتى غلبوا وقام محمد خجلا فدخل منزله وتفرقوا قال أبو الحسن النوفلي ثم مضى لذلك زمان وهجا أبو نعامة أبا عبد الله هريسة الكاتب فقال فيه ( ورَوَى شَيخُ تَمِيمٍ ... خالدٌ أنَّ هَرِيسَهْ ) ( يُدْخِلُ الأصلعَ ذا الخُرْجَيْن ... في جَوْفِ الكَنِيسَهْ ) فلقي خالد بن الصباح هذا هريسة وكان يعاديه وأراد أن يخجله فحلف له مجتهدا أنه لم يقل فيه ما قاله أبو نعامة فقال هريسة يا بارد لم ترد أن تعتذر إنما أردت أن تتشبه بابن مناذر ومحمد بن عبد الوهاب وبأبي الشمقمق وأحمد بن المعذل ولست من هؤلاء في شيء قرأت في بعض الكتب عن ابن أبي سعد قال حدثني أبو الخطاب الحسن بن محمد عن محمد بن إسحاق البلخي قال دخلت على ابن مناذر يوما وعنده رجل ضرير جالس عن يمينه ورجل بصير جالس عن شماله ساكت لا ينطق قال فقلت له ما خبرك فقال ( بين أَعْمَى وأخْرَسٍ أخْرَس الله ... لسانَ الأَعمَى وأعْمَى البَصِيرا ) قال فوثبا فخرجا من عنده وهما يشتمانه اخباره مع سفيان بن عيينة ونسخت من كتاب ابن أبي الدنيا حدثني أبو محمد التميمي قال حدثني إبراهيم بن عبد الله عن الحسن بن علي قال كنا عند باب سفيان بن عيينة وقد هرب منا وعنده الحسن بن علي التختاخ ورجل من الحجبة ورجل من أصحاب الرشيد فدخل بهم وليس يأذن لنا فجاء ابن مناذر فقرب من الباب ثم رفع صوته فقال ( بعَمْرٍو وبالزُّهْريّ والسَّلَفِ الأُلَى ... بهم ثَبَتَتْ رِجْلاك عند المَقاوِمِ ) ( جعلتَ طَوالَ الدهر يَوْماً لصالِحٍ ... ويوْماً لصبَّاحٍ ويوماً لحاتِمِ ) ( وللحسَنِ التَّخْتاخ يوماً ودونهم ... خَصصتَ حُسَيْناً دُونَ أهل المواسمِ ) ( نظرتُ وطالَ الفِكْر فيك فلم أَجِد ... رَحاك جَرَت إلاّ لأَخْذِ الدَّراهمِ ) فخرج سفيان وفي يده عصا وصاح خذوا الفاسق فهرب ابن مناذر منه وأذن لنا فدخلنا أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو بكر المؤدب قال حدثني محمد بن قدامة قال سمعت سفيان بن عيينة يقول لابن مناذر يا أبا عبد الله ما بقي أحد أخافه غيرك وكأني بك قد مت فرثيتني فلما مات سفيان بن عيينة قال ابن مناذر يرثيه ( راحوا بسُفيانَ على نَعْشِه ... والعِلْمُ مَكسُوّيْن أكْفانا ) ( إنّ الذي غُودِرَ بالمُنْحَنَى ... هَدَّ من الإِسلام أَركانا ) ( لا يُبعِدَنْكَ اللهُ من مَيّتٍ ... وَرَّثْنا عِلْماً وأحزانا ) أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال حدثني شيخ من أهل الكوفة يقال له عوام قال سمعت سفيان بن عيينة وقد تكلم بكلام استحسن فسأله محمد بن مناذر أن يمليه عليه فتبسم سفيان وقال له هذا كلام سمعتك تتكلم به فاستحسنته فكتبته عنك قال وعلى ذلك أحب أن تمليه علي فإني إذا رويته عنك كان أنفق له من أن أنسبه إلى نفسي قال عوام وأنشدني ابن عائشة لابن مناذر يرثي سفيان بن عيينة بقوله ( يَجْنِي من الحِكْمة نُوّارَها ... ما تَشْتَهي الأنْفُسُ ألوانا ) ( يا واحدَ الأمَّة في عِلْمِه ... لَقِيتَ من ذِي العَرش غُفرانا ) ( راحوا بسُفْيانَ على نَعْشِه ... والعلمِ مَكْسُوَّين أكفانا ) أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد عن محمد بن عامر الحنفي قال لما مات عبد المجيد بن عبد الوهاب خرج ابن مناذر إلى مكة وترك النسك وعاد للمجون والخلع وقال في هذا المعنى شعرا كثيرا حتى إذا مدح أو فخر لم يجعل افتتاح شعره ومباديه إلا المجون وحتى قال في مدحه للرشيد ( هل عندكم رُخْصةٌ عن الحسن الْبصْرِيّ ... في العِشْقِ وابن سِيرِينا ) ( إنَّ سَفاهاً بذِي الجَلاَلَة والشَّيْبَة ... ألاّ يزالَ مَفْتونا ) وقال أيضا في هذا المعنى ( ألا يا قمر المَسْجد ... هل عنْدَك تَنْويلُ ) ( شِفائي منك - إن ... نَوَّلْتَنِي - شَمٌّ وتَقْبِيلُ ) ( سَلاَ كُلُّ فُؤادٍ و ... فُؤادي بك مَشْغُولُ ) ( لقد حُمِّلْت من حُبِّيك ... مالا يَحمِل الفِيلُ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثنا العباس بن الفضل الربعي قال حدثني التوزي قال قال ابن مناذر ليونس النحوي يعرض به أخبرني عن جبل أتنصرف أم لا وكان يونس من أهلها فقال له قد عرفت ما أردت يا بن الزانية فانصرف ابن مناذر فأعد شهودا يشهدون عليه بذلك وصار إليه وسأله هل تنصرف جبل وعلم يونس ما أراد فقال له الجواب ما سمعته أمس اخباره مع حجاج الصواف أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني إسحاق بن عمرو السعدي قال حدثني الحجاج الصواف وأخبرني الحسن بن علي أيضا قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني إسحاق بن محمد قال حدثني أمية بن أبي مروان قال حدثني حجاج الصواف الأعور قال خرجت إلى مكة فكان هجيراي في الطريق ابن مناذر وكان لي إلف وخدنا وصديقا فدخلت مكة فسألت عنه فقالوا لا يبرح المسجد فدخلت المسجد فالتمسته فوجدته بفناء زمزم وعنده أصحاب الأخبار والشعراء يكتبون عنه فسلمت وأنا أقدر أن يكون عنده من الشوق إلي مثل ما عندي فرفع رأسه فرد السلام ردا ضعيفا ثم رجع إلى القوم يحدثهم ولم يحفل بي فقلت في نفسي أتراه ذهبت عنه معرفتي فبينا أنا أفكر إذ طلع أبو الصلت بن عبد الوهاب الثقفي من باب بني شيبة داخلا المسجد فرفع رأسه فنظر إليه ثم أقبل علي فقال أتعرف هذا فقلت نعم هذا الذي يقول فيه من قطع الله لسانه ( إذا أنتَ تعلَّقْتَ ... بحَبْلٍ من أبي الصَّلْتِ ) ( تَعلّقتَ بحَبلٍ واهنِ ... القُوَّةِ مُنْبَتِّ ) قال فتغافل عني وأقبل عليهم ساعة ثم أقبل علي فقال من أي البلاد أنت قلت من أهل البصرة فقال وأين تنزل منها قلت بحضرة بني عائش الصوافين قال أتعرف هناك ابن زانية يقال له حجاج الصواف قلت نعم تركته ينيك أم ابن زانية يقال له ابن مناذر فضحك وقام إلي فعانقني قال مؤلف هذا الكتاب ولابن مناذر هجاء في حجاج الصواف على سبيل العبث وهو قوله ( إنَّ ادِّعاءِّ الحجَّاجِ في العَرَبِ ... عنْدَ ثَقِيفٍ من أَعْجَبِ العَجُبِ ) ( وهو ابنُ زانٍ لألف زَانيةٍ ... وألف عِلْجٍ مُعَلْهَجِ النَّسبِ ) ( ولو دَعاهُ داعٍ فقال له ... يا ألأم النَّاسِ كُلّهم أَجِبِ ) ( إذاً لقالَ الحجَّاج لبّيْكَ مِنْ ... داعٍ دَعاني بالحَقِّ لا الكَذِب ) ( ولو دَعاه دَاعٍ فقال له ... مَنِ المُعَلَّى في اللؤمِ قال أبي ) ( أبوه زَانٍ والأمُّ زَانيَةٌ ... بِنتُ زُناةٍ مَهْتُوكَةُ الحُجُبِ ) ( تقول عَجِّلْ أدْخِلْ لِنائِكها ... اترُكْه في اسْتي إن شئْتَ أو ركَبِي ) ( مَنْ ناكَنِي فيهما فأوْسَعَنِي ... رَهْزاً دِراكاً أعطيتُه سَلَبِي ) ( هَمُّ حِري النَّيكُ فابتَغُوا لِحرِي ... أَيْرَ حِمارٍ أقضي به أَرَبِي ) ( أُحِبُّ أيرَ الحِمارِ وا بِأبِي ... فَيْشةُ أيْر الحِمار وابِأبِي ) ( إذا رأتْه قالت فديتُك يا ... قُرَّة عَيْنِي ومُنْتَهى طَلَبِي ) ( إذا سَمعْتُ النَّهِيقَ هاج حِرِي ... شَوْقاً إليه وهاج لي طَرَبِي ) ( يَأْخُذُني في أسافِلي وحِرِي ... مِثلُ اضْطرام الحريقِ في الحَطَبِ ) ( شَكَتْ إلى نِسْوة فقُلْن لها ... وهي تنادي بالوَيْل والحَرَبِ ) ( كُفِّي قَليلاً قالت وكَيْفَ وبِي ... في جَوفِ صَدْعي كَحِكَّة الجَرَبِ ) ( أرى أُيورَ الرّجال من عصبٍ ... لَيتَ أُيورَ الرِّجال من خَشَبِ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن محمد الرازي أبو عبد الله قال حدثني أبو بجير قال كان ابن مناذر يجلس إلى إسكاف بالبصرة فلا يزال يهجوه بالأبيات فيصيح من ذلك ويقول له أنا صديقك فاتق الله وأبق على الصداقة وابن مناذر يلح فقال الإسكاف فإني أستعين الله عليك وأتعاطى الشعر فلما أصبح غدا عليه ابن مناذر كما كان يفعل فأخذ يعبث به ويهجوه فقال الإسكاف ( كَثُرَتْ أُبوَّتُه وقَلَّ عَديدُه ... ورمى القَضاء به فِراشَ مُناذِرِ ) ( عبدَ الصُّبيْرِيِّين لم تَكُ شاعِراً ... كيف ادَّعيتَ اليومَ نِسْبَة شاعِرِ ) فشاع هذان البيتان بالبصرة ورواهما أعداؤه وجعلوا يتناشدونهما إذا رأوه فخرج من البصرة إلى مكة وجاور بها فكان هذا سبب هربه من البصرة أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن أبي حاتم قال قال ابن مناذر ما مر بي شيء قط أشد علي مما مر بي من قول أبي العسعاس في ( كَثُرت أُبوَّتُه وقَلَّ عَديدُه ... وَرَمى القَضاءُ به فِراشَ مُناذِرِ ) انظر بكم صنف قد هجاني في هذا البيت قبحه الله ثم منعني من مكافأته أنى لم أجد له نباهة فأغضها ولا شرفا فأهدمه ولا قدرا فأضعه أخبرني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني بشر بن دحية الزيادي أبو معاوية قال سمعت ابن مناذر يقول إن الشعر ليسهل علي حتى لو شئت ألا أتكلم إلا بشعر لفعلت أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا العباس بن ميمون طايع قال حدثني بعض أصحابنا قال رأيت ابن مناذر بمكة وهو يتوكأ على رجل يمشي معه وينشد ( إذا ما كِدْتُ أشْكُوها ... إلى قَلْبِي لها شَفَعَا ) ( ففرَّق بيننا دَهْرٌ ... يُفرِّقُ بين ما اجْتَمَعا ) فقلت إن هذا لا يشبه شعرك فقال إن شعري برد بعدك أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثنا بعض أصحابنا أن محمد بن عبد الوهاب الثقفي تزوج امرأة من ثقيف يقال لها عمارة وكان ابن مناذر يعاديه فقال في ذلك ( لمّا رأيتُ القَصْفَ والشَّارَهْ ... والبَزَّ قد ضاقَتْ به الحارَهْ ) ( والآسَ والرّيحان يُرْمَى بهِ ... من فَوْقِ ذِي الدَّارَةِ والدَّارَه ) ( قُلتُ لمَنْ ذا قِيلَ أعجوبةٌ ... مُحمَّدٌ زُوِّج عَمّارَهْ ) ( لا عَمَّر اللهُ بها رَبْعَه ... فإنّ عَمَّارة بَدْ كاَره ) ( وَيْحَك فرِّي واعصُبِي فاكِ لي ... فهذه أُختُكِ فَرَّارَهْ ) قال فوالله ما لبثت عنده إلا مديدة حتى هربت وكانت لها أخت قبلها متزوجة إلى بعض أهل البصرة ففركته وهربت منه فكانوا يعجبون من موافقة فعلها قول ابن مناذر قال أبو أيوب وحدثت أن أبا امية واسمه خالد - وهو الذي يقول فيه أبو نواس ( أيها المُقْبِلان من حَكَمان ... كيف خَلَّفْتُما أبا عُثْمان ) ( وأبا أُمَيَّة المُهَذَّب والمَاجِد ... والمُرتَجَى لرَيْبِ الزّمانِ ) - كان خطب امرأة من ثقيف ثم من ولد عثمان بن أبي العاصي فرد عنها وتصدى للقاضي أن يضمنه مالا من اموال اليتامى فلم يجبه إلى ذلك ولم يثق به فقال فيه ابن مناذر ( أبا أُميَّة لا تَغْضَبْ عليَّ فَما ... جَزاءُ ما كان فيما بيننا الغَضبُ ) ( إن كان رَدَّك قومٌ عن فَتاتِهمُ ... ففي كَثير من الخُطّاب قد رَغِبُوا ) ( قالوا عَلَيْك دُيورٌ ما تَقومُ بها ... في كلّ عام بها تُسْتَحْدَثُ الكُتُبُ ) ( وقد تَقَحَّم من خَمْسِينَ غايَتُها ... معْ أنه ذو عيال بَعْدَ ما انْشَعَبُوا ) ( وفي الَّتي فَعَل القاضي فلا تَجدَنْ ... فلَيْس في تلك لي ذَنْبٌ ولا ذَنَبُ ) ( أردتَ أموالَ أيتام تُضَمِّنُها ... وما يُضَمِّنُ إلاَّ مَنْ له نَشَبُ ) نماذج من شعره في الرثاء والهجاء والمدح أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن زهير قال سمعت إبراهيم بن المنذر الخزامي يقول بلغ ابن مناذر عن ابن دأب قول قبيح قال فدعاني وقال اكتب ( فمن يَبْغِ الوَصاةَ فإنَّ عِنْدي ... وَصاةً للكُهولِ ولِلشَّبابِ ) ( خُذُوا عنْ ماِلكٍ وعن ابْنِ عَوْنٍ ... ولا تَرْوُوا أحادِيثَ ابنِ دابِ ) ( ترى الغاوِين يَتَّبعون منها ... ملاهِيَ من احادِيثٍ كِذابِ ) ( إذا التُمِسَت مَنافِعُها اضمَحَلَّتْ ... كما يَرْفَضُّ رَقْراقُ السَّحابِ ) قال فرويت وافتضح بها ابن دأب قال الحزامي فلما قدمت العراق وجدتهم قد جعلوها ( خُذُوا عن يُونُسٍ وعَنِ ابن عَوْن ... ) أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا أبو حاتم قال كان الرشيد قد وصل ابن مناذر مرات صلات سنية فلما مات الرشيد رثاه ابن مناذر فقال ( مَنْ كان يَبكِي للعُلا ... مَلِكاً وللهِمَمِ الشَّرِيفَهْ ) ( فليَبْكِ هارونَ الخَلِيفةَ ... للخَلِيفَة والخَلِيفَة ) أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد بن سلام قال كان محمد بن طليق وسائر بني طليق أصدقاء لابن مناذر فلما ولي المهدي الخلافة استقضى خالد بن طليق وعزل عبيد الله بن الحسن بن الحر فقال ابن مناذر يهجو خالدا مجونا وخبثا منه ( أصبح الحاكمُ يا للناسِ ... من آلِ طَلِيقِ ) ( جالِسَاً يَحْكُم في النّا ... سِ بِحُكْمِ الجاثَلِيقِ ) ( يدع القَصْدَ ويَهْوِي ... في بُنَيَّاتِ الطَّرِيق ) ( يا أَبَا الهَيْثَمِ ما كنتَ ... لهذا بخَليقِ ) ( لا ولا كنتَ لما حُمِّلتَ ... منه بمُطيِق ) ( حَبْلُه حَبْلُ غرورٍ ... عنده غيرُ وَثِيقِ ) قال ابن سلام فقلت لابن مناذر ويحك إذا بلغ إخوانك وأصدقاءك من آل طليق أنك هجوتهم ما يقولون لك وبأي شيء تعتذر إليهم فقال لا يصدقون إذا بلغهم أني هجوتهم بذلك لأنهم يثقون بي أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الحسن بن عليل عن مسعود بن بشر قال حدثنا محمد بن مناذر قال كنت بمكة فاشتكيت فلم يعدني من قريش إلا بنو مخزوم وحدهم فقلت أمدحهم ( جاءت قُريشٌ تعودُنِي زُمَراً ... فقد وَعَى أجرَها لها الحَفَظَهْ ) ( ولم تَعُدْنِي تَيْمٌ وإخوتُها ... وزارَنِي الغُرُّ من بني يقَظَهْ ) ( لن يَبْرَحَ العِزُّ منهمُ أبداً ... حتى تَزُولَ الجِبالُ من قُرَظَهْ ) أخبرني الحسن عن ابن مهرويه عن إسحاق بن محمد النخعي قال كنا عند ابن عائشة فقال لعبد الرحمن ابنه أنشدني مرثية ابن مناذر عبد المجيد فجعل ينشدها فكلما أتى على بيت استحسنه حتى أتى على هذا البيت ( لأَقِيمَنَّ مَأْتماً كَنُجومِ اللَّيْل ... زُهْراً يَخْمِشْنَ حُرَّ الخُدودِ ) فقال ابن عائشة هذا كلام لين كأنه من كلام المخنثين فلما أتى على هذا البيت ( كُنتَ لي عِصْمةً وكُنتَ سماءً ... بك تَحْيا أرضِي ويَخْضرُّ عُودِي ) فقال هذا بيتها ثم أنشد ( إنَّ عبدَ المَجِيد يوم تَولَّى ... هَدَّ رُكْناً ما كان بالمَهْدُودِ ) ( ما دَرَى نَعشُه ولا حامِلُوه ... ما على النَّعشِ من عفَافٍ وجُودِ ) ( وَأُرانا كالزَّرع يَحصُدُنا الدَّهْر ... فمِن بَيْن قائمٍ وحَصيدِ ) فقال ابن عائشة أحصلنا زرعا يحصدنا الله فليس هذا من كلام المسلمين ألا ترى إلى قوله إنه يقول ( يَحكُم الله ما يشاءَ فَيُمْضِي ... ليس حُكم الإِله بالمَرْدُودِ ) أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن موسى ولم يتجاوزه بالإسناد ونسخت هذا الخبر من كتاب ابن أبي مريم الحاسب حدثني ابن القداح وعبد الله بن إبراهيم بن قدامة الجمحي قالا حدثنا ابن مناذر قال حج الرشيد بعد إيقاعه بالبرامكة وحج معه الفضل بن الربيع وكنت مضيقا مملقا فهيأت فيه قولا أجدت تنميقه وتنوقت فيه فدخلت إليه في يوم التروية وإذا هو يسأل عني ويطلبني فبدرني الفضل بن الربيع قبل أن أتكلم فقال يا أمير المؤمنين هذا شاعر البرامكة وما دحهم وقد كان البشر ظهر لي في وجهه لما دخلت فتنكر وعبس في وجهي فقال الفضل مره يا أمير المؤمنين أن ينشدك قوله فيهم ( أتانا بَنُو الأَملاك من آلِ بَرْمك ... ) فقال لي أنشد فأبيت فتوعدني واكرهني فأنشدته ( أتانَا بَنُو الأملاكِ من آلِ بَرْمَكٍ ... فيا طِيبَ أخبارٍ ويا حُسْن مَنْظرِ ) ( إذا ورَدوا بطحاءَ مكةَ أشرقت ... بيَحْيَى وبالفضل بن يحيى وجَعْفَرِ ) ( فتُظلم بَغدادٌ ويَجْلُو لنا الدُّجى ... بمكّةَ ما حجّوا ثلاثةُ أقْمُرِ ) ( فما صلَحت إلا لِجُودٍ أكُفُّهم ... وأرجلُهم إلا لأعوادِ مِنْبَرِ ) ( إذا راضَ يحيى الأمرَ ذَلَّتْ صِعَابُه ... وحَسْبُكَ مِنْ رَاعٍ له ومُدَبِّر ) ( ترى الناسَ إجلالاً له وكأنَّهم ... غرانِيقُ ماءٍ تحت بازٍ مُصَرْصَرِ ) ثم أتبعت ذلك بأن قلت كانوا أولياءك يا أمير المؤمنين أيام مدحتهم وفي طاعتك لم يلحقهم سخطك ولم تحلل بهم نقمتك ولم أكن في ذلك مبتدعا ولا خلا أحد من نظرائي من مدحهم وكانوا قوما قد أظلني فضلهم وأغناني رفدهم فأثنيت بما أولوا فقال يا غلام الطم وجهه فلطمت والله حتى سدرت وأظلم ما كان بيني وبين أهل المجلس ثم قال اسحبوه على وجهه ثم قال والله لأحرمنك ولا تركت أحدا يعطيك شيئا في هذا العام فسحبت حتى أخرجت وانصرفت وأنا أسوأ الناس حالا في نفسي وحالي وما جرى علي ولا والله ما عندي ما يقيم يومئذ قوت عيالي لعيدهم فإذا بشاب قد وقف علي ثم قال أعزز علي والله يا كبيرنا بما جرى عليك ودفع إلي صرة وقال تبلغ بما في هذه فظننتها دراهم فإذا هي مائة دينار - قال الصولي في خبره فإذا هي ثلاثمائة دينار - فقلت له من أنت جعلني الله فداءك قال أنا أخوك أبو نواس فاستعن بهذه الدنانير واعذرني فقبلتها وقلت وصلك الله يا أخي وأحسن جزاءك أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا يحيى بن الحسن الربيعي قال حدثنا أبو معاوية الغلابي قال قال سفيان بن عيينة كلمني ابن مناذر في أن أكلم له جعفر بن يحيى فكلمته له وقد كان ابن مناذر ترك الشعر فقال إن أحب أن يعود إلى الشعر أعطيته خمسين ألفا وإن أحب أن أعطيه على القراءة أعطيته عشرة آلاف فذكرت ذلك له فقال لي خذ لي على القراءة فإني لا آخذ على الشعر وقد تركته أخبرني عمي عن الكراني عن الرياشي قال قال العتبي جاءت قصيدة لا يدرى من قائلها فقال ابن مناذر ( هَذِه الدَّهماءُ تَجرِي فِيكُم ... أُرْسِلَتْ عَمْداً تَجُرُّ الرَّسَنَا ) قال الكراني وحدثني الرياشي قال سمعت خلف بن خليفة يقول قال لي ابن مناذر قال لي جعفر بن يحيى قل في وفي الرشيد شعرا تصف فيه الألفة بيننا فقلت ( قد تُقطَع الرَّحِمُ القريبُ وتُكفَر ... النُّعمَى ولا كَتَقارُب القَلْبينِ ) ( يُدْنِي الهَوَى هذا ويُدْنِي ذَا الهَوَى ... فإذا هُما نَفْسٌ تُرَى نَفْسَيْنِ ) قال مؤلف هذا الكتاب هذا أخذه من كلام رسول الله نقلا فإن ابن عيينة روى عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس عن ابن عباس أن النبي قال ( إن الرحم تقطع وإن النعم تكفر ولن ترى مثل تقارب القلوب ) أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا العباس بن ميمون قال حدثنا سليمان الشاذكوني قال كنا عند سفيان بن عيينة فحدث عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز و جل ( قالوا سلاما ) قالوا سدادا قال فقال ابن مناذر وهو إلى جنبي التنزيل أبين من التفسير ابن مناذر وخبره مع أبي حية النميري أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن أبي حاتم عن العتبي عن أبي معبد قال مر بنا أبو حية النميري ونحن عند ابن مناذر فقال لنا علام اجتمعتم فقلنا هذا شاعر المصر فقال له أنشدني فأنشده ابن مناذر فلما فرغ قال له أبو حية ألم أقل لك أنشدني فقالوا له أنشدنا أنت يا أبا حية فأنشدهم قوله ( ألا حَيِّ من أجْل الحَبيبِ المَغانِيا ... لَبِسْن البِلَى ممّا لَبِسْنَ اللَّيالِيا ) ( إذا ما تَقَاضَى المرءَ يومٌ وليلةٌ ... تَقاضاه شيء لا يَملَّ التَّقَاضِيَا ) فلما فرغ قال له ابن مناذر ما أرى في شعرك شيئا يستحسن فقال له ما في شعري شيء يعاب إلا استماعك إياه فكادا أن يتواثبا ثم افترقا أخبرني عمي قال حدثني الكراني عن ابن عائشة قال ولي خالد بن طليق القضاء بالبصرة وعيسى بن سليمان الإمارة بها فقال محمد بن مناذر يهجوهما بقوله ( الحمدُ لله على ما أرى ... خالدٌ القاضي وعيسَى أمير ) ( لكنّ عيسَى نوكُه ساعة ... ونوكُ هذا مَنْجَنُونٌ يدُور ) وقال في شيرويه الزيادي وشيرويه لقب واسمه أحمد وسأله حاجة فأبى أن يقضيها إلا على أن يمدحه ( يا سَمِيَّ النَّبِيِّ بالعَربِيَّهْ ... وسَمِيَّ اللّيُوثِ بالفارِسيَّهْ ) ( إن غَضِبْنَا فأنت عَبدُ ثَقِيفٍ ... أو رَضِينا فأنتَ عبدُ أُمَيَّهْ ) فغضب شيرويه وجعل يشتمه وشاع الشعر بالبصرة فكان بعد ذلك إذا قيل لشيرويه ابن مناذر عليك غضبان أو عنك راض يشتم من يقول له ذلك أخبرني الحسن بن القاسم الكوكبي قال حدثنا ابن أبي الدنيا قال سمعت محمد بن قدامة الجوهري يقول سمعت سفيان بن عيينة يقول لمحمد بن مناذر كأنك بي قد مت فرثيتني فلما مات قال ابن مناذر يرثيه ( إنّ الذي غُودِر بالمُنْحَنى ... هَدّ من الإسلام أركانا ) ( راحوا بسُفيانَ على نَعْشِه ... والعِلم مَكسُوَّيْنِ أكفانا ) ( لا يُبعِدَنْك اللهُ من هالِكٍ ... وَرَّثَتنا عِلْماً وأحزانا ) أخبرنا عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا عبد الله بن مروان بن معاوية الفزاري قال حدثنا سفيان قال سمعت أعرابية تقول من يشتري مني الحزاة فقلت لها وما الحزاة قالت تشتريها النساء للطشة والخافية والإقلات قال عبد الله بن مروان فسألت ابن مناذر عن تفسير ذلك فقال الطشة وجع يصيب الصبيان في رؤوسهم كالزكام والخافية ما خفي من العلل المنسوبة إلى أذى الجن والإقلات قلة الولد وأنشدني ابن مناذر بعقب ذلك ( بُغاثُ الطَّيْر أكثرُها فِراخاً ... وأُمُّ الصَّقْرِ مِقْلاَتٌ نَزُورُ ) أي قليلة الفراخ أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني أبو حاتم قال سمعت محمد بن مناذر يقول العذراء البتول والبتور والبتيل واحد وهي المنقطعة إلى ربها قال وسأله - يعني ابن مناذر - أبو هريرة الصيرفي بحضرتي فقال كيف تقول أما لا أو إمالا فقال له مستهزئا به أمالا ثم التفت إلي فقال أسمعت أعجب من هذه المسألة أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني العباس بن الفضل الربعي قال حدثنا التوزي قال سألت أبا عبيدة عن اليوم الثاني من النحر ما كانت العرب تسميه قال ليس عندي من ذلك علم فلقيت ابن مناذر بمكة فأخبرته بذلك فعجب وقال أيسقط هذا عن مثل أبي عبيدة هي أربعة أيام متواليات كلها على الراء أولها يوم النحر والثاني يوم القر والثالث يوم النفر والرابع يوم الصدر فحدثته - يعني أبا عبيدة - فكتبه عن ابن مناذر وقد روى ابن مناذر الحديث المسند ونقله عنه المحدثون بعض روايات له أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا الخليل بن أسد عن محمد بن مسعدة الدراع أبي الجهجاه قال حدثني محمد بن مناذر الشاعر قال حدثني سفيان الثوري عن الأغر عن وهب بن منبه قال كان يقال الحياء من الإيمان والمذى مكسور الميم مقصور من النفاق فقلت إن الناس يقولون المذاء فقال هو كما أخبرتك فقلت له وما المذا قال اللين في أمر النساء ومنه درع ماذي وعسل ماذي أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن عبد الله بن الجنيد قال حدثني حامد بن يحيى البلخي قال حدثني محمد بن مناذر الشاعر قال حدثني يحيى بن عبد الله بن مجالد عن الشعبي عن مسروق عن عبد الله قال لما نظر رسول الله يوم بدر إلى القتلى وهم مصرعون قال لأبي بكر لو أن أبا طالب حي لعلم أن أسيافنا قد أخذت بالأماثل يعني قول أبي طالب ( كذبتُم وبَيْتِ الله إن جَدَّ ما أرى ... لتَلْتَبِسَنْ أسيافُنا بالأماثِلِ ) أخبرني محمد بن خلف قال حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال حدثنا ابن مناذر حدثنا سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال قال علي عليه السلام ما قام بي من النساء إلا الحارقة أسماء قال ابن مناذر الحارقة التي تجامع على جنب أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي عن العباس بن عبد الواحد عن محمد بن عمرو عن محمد بن مناذر عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن أبي هريرة قال جاء الشيطان إلى عيسى قال ألست تزعم أنك صادق قال بلى قال فأوف على هذه الشاهقة فألق نفسك منها فقال ويلك ألم يقل الله يا بن آدم لا تبلني بهلاكك فإني أفعل ما أشاء أخبرني عيسى بن الحسين الوراق عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال نظر محمد بن مناذر إلى غلام حسن الوجه في مسجد البصرة فكتب إليه بهذه الأبيات ( وجدتُ في الآثارِ في بَعْض ما ... حدَثنا الأشياخُ في المُسْنَدِ ) ( مِمّا رَوَى الأعمَشُ عن جابرٍ ... وعامِر الشَّعبي والأَسودِ ) ( وما روى شُعْبةُ عن عاصمٍ ... وقاله حَمّاد عن فَرْقَدِ ) ( وصيَّةً جاءت إلى كل ذي ... خدٍّ خَلا من شَعْرٍ أسودِ ) ( أن يقْبَلُوا الرّاغب في وَصْلِهم ... فاقبَلْ فإني فيك لم أزْهَدِ ) ( نَوِّلْ فكَمْ من جمْرَةٍ ضَمَّها ... قَلْبِي من حُبَّيك لم تبْرُدِ ) فلما قرأها الفتى ضحك وقلب الرقعة وكتب في ظهرها لست شاعرا فأجيبك ولا فاتكا فأساعدك وأنا أعوذ بالله ربك من شرك أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا محمد بن عبد الله العبدي قال حدثنا علي بن المبارك الأحمر قال لقي أبو العتاهية ابن مناذر بمكة فجعل يمازحه ويضاحكه ثم دخل على الرشيد فقال يا أمير المؤمنين هذا ابن مناذر شاعر البصرة يقول قصيدة في سنة وأنا أقول في سنة مائتي قصيدة فقال الرشيد أدخله إلي فأدخله إليه وقدر أنه يضعه عنده فدخل فسلم ودعا فقال ما هذا الذي يحكيه عنك أبو العتاهية فقال ابن مناذر وما ذاك يا أمير المؤمنين قال زعم أنك تقول قصيدة في سنة وأنه يقول كذا وكذا قصيدة في السنة فقال يا أمير المؤمنين لو كنت أقول كما يقول ( ألا يا عُتْبَة السَّاعةْ ... أموتُ السَّاعةَ السَّاعةْ ) لقلت منه كثيرا ولكني الذي أقول ( إنَّ عبدَ المَجِيدِ يوم تَولَّى ... هَدَّ رُكْناً ما كان بالمَهْدُودِ ) ( ما دَرَى نَعْشُه ولا حامِلُوه ... ما عَلَى النَّعْشِ مِنْ عَفافٍ وجُودِ ) فقال له الرشيد هاتها فأنشدنيها فأنشده فقال الرشيد ما كان ينبغي أن تكون هذه القصيدة إلا في خليفة أو ولي عهد ما لها عيب إلا أنك قلتها في سوقة وأمر له بعشرة آلاف درهم فكاد أبو العتاهية يموت غما وأسفا أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا إبراهيم بن الجنيد قال سألت يحيى بن معين عن محمد بن مناذر الشاعر فقال لم يكن بثقة ولا مأمون رجل سوء نفي من البصرة ووصفه بالمجنون والخلاعة فقلت إنما تكتب شعره وحكايات عن الخليل بن أحمد فقال هذا نعم وأما الحديث فلست أراه موضعا له خبر وفاته أخبرني الحسن قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال رأيت ابن مناذر في الحج سنة ثمان وتسعين ومائة قد كف بصره وتقوده جويرية حرة وهو واقف يشتري ماء قربة فرأيته وسخ الثوب والبدن فلما صرنا إلى البصرة أتتنا وفاته في تلك الأيام أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا خلاد الأرقط قال تذاكرنا ابن مناذر في حلقة يونس فقدح فيه أكثر أهل الحلقة حتى نسبوه إلى الزندقة فلما صرت في السقيفة التي في مقدم المسجد سمعت قراءة قريبة من حائط القبلة فدنوت فإذا ابن مناذر قائم يصلي فرجعت إلى الحلقة فقلت لأهلها قلتم في الرجل ما قلتم وها هو ذا قائم يصلي حيث لا يراه إلا الله عز و جل أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني النحوي قال حدثنا أحمد بن القاسم البرقي قال حدثنا أحمد بن يعقوب قال حدثني أحمد بن يحيى الهذلي التمار عن عبد الله بن عبد الصمد الضبي قال كنا يوما جلوسا في حلقة هبيرة بن جرير الضبي إذ أقبل محمد بن مناذر في برد قد كسته إياه بانة بنت أبي العاصي فسلم علي وحدي ولم يعرف منهم أحدا ثم قام فجلس إلى أبي خيرة فخاطبه مخاطبة خفيفة وقام مغضبا فقال لي هبيرة من هذا فقلت محمد بن مناذر فقال إنا لله قوموا بنا فقام إلى أبي خيرة فقال له ماذا قال لك ابن مناذر قال سألني عن شيء وكنت مشغولا عنه فقال يا أبا خيرة إن العشائر تغبطنا لعلمك وما جعل الله عندك فنشدناك الله أن تكون لنا كما كان عرادة لبني نمير فإنه تعرض لجرير فهجاه فعمهم فقال ( عَرادَةُ من بَقيَّةِ قَوْمِ لُوطٍ ... ألاَ تَبّاً لِمَا فَعَلوا تَبابا ) أتدري من كان عندك آنفا قال لا قال ابن مناذر وما تعرض لأعراض قوم قط إلا هتكها وهتكهم فإذا جاءك يسألك عن شيء فأجبه ولا تعتل عليه بالبول ولا تطلب منه شيئا وكل ما أردت من جهته ففي مالي قال أفعل قال وكان أبوه خيرة إذا سأله إنسان عن شيء ولم يعطه شيئا يعتل عليه بالبول فما شعرنا من غد إلا بابن مناذر وقد أقبل فعلمنا أنه قصد أبا خيرة فأتيناه فلما رأى جمعنا استحيا منا وسلم علينا وتبسم ثم قال يا أبا خيرة قد قلت شعرا وقبيح بمثلي أن يسأل عنه فلا يدري ما فيه وإني ذكرت فيه إنسانا فشبهته بالأفار فأي شيء هو فاحمر وجه أبي خيرة واضطرب وقال هو التيس الوثاب الذي ينزو وقضيبه رخو فلا يصل فقال جزيت خيرا ووثب وهو يضحك فقمنا إليه وقلنا قد علمنا أنك عنيت هذا الشيخ فإن رأيت أن تهبه لنا فافعل فإنه شيخنا قال والله ما عنيت غيره وقد وهبته لكم وكرامة والله لا يسمع مني أحد ما قلت فيه ولا أذكره إلا بخير أبدا وإن كان قد أساء العشرة أمس صوت ( لا زلتَ تَنشُرُ أعياداً وتَطْوِيها ... تمضي بها لَكَ أَيَّامٌ وتُمْضِيها ) ( ولا تَقضَّت بك الدنيا ولا بَرِحَتْ ... تَطْوِي لك الدهرَ أياماً وتُفْنِيها ) الشعر لأشجع السلمي والغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل مطلق في مجرى البنصر وفيه لمحمد قريض لحن من الثقيل الأول وهو من مشهور غنائه ومختاره نسب أشجع وأخباره أخبرني محمد بن عمران الصيرفي والحسن بن علي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني علي بن الفضل السلمي قال كان أشجع بن عمرو السلمي يكنى أبا الوليد من ولد الشريد بن مطرود السلمي تزوج أبوه امرأة من أهل اليمامة فشخص معها إلى بلدها فولدت له هناك أشجع ونشأ باليمامة ثم مات أبوه فقدمت به أمه البصرة تطلب ميراث أبيه وكان له هناك مال فماتت بها وربي أشجع ونشأ بالبصرة فكان من لا يعرفه يدفع نسبه ثم كبر وقال الشعر وأجاد وعد في الفحول وكان الشعر يومئذ في ربيعة واليمن ولم يكن لقيس شاعر معدود فلما نجم أشجع وقال الشعر افتخرت به قيس وأثبتت نسبه وكان له أخوان أحمد وحريث ابنا عمرو وكان أحمد شاعرا ولم يكن يقارب أشجع ولم يكن لحريث شعر ثم خرج أشجع إلى الرقة والرشيد بها فنزل على بني سليم فتقبلوه وأكرموه ومدح البرامكة وانقطع إلى جعفر خاصة وأصفاه مدحه فأعجب به ووصله إلى الرشيد ومدحه فأعجب به أيضا فأثرى وحسنت حاله في أيامه وتقدم عنده أخباره مع الرشيد أخبرني محمد بن عمران قال حدثني العنزي قال حدثني صخر بن أسد السلمي قال حدثني أبي أسد بن جديلة قال حدثني أشجع السلمي قال شخصت من البصرة إلى الرقة فوجدت الرشيد غازياً ونالتني خَلَّة فخرجت حتى لقيته منصرفا من الغزو وكنت قد اتصلت ببعض أهل داره فصاح صائح ببابه من كان ها هنا من الشعراء فليحضر يوم الخميس فحضرنا سبعة وأنا ثامنهم وأمرنا بالبكور في يوم الجمعة فبكرنا وأدخلنا وقدم واحد منا ينشد على الأسنان وكنت أحدث القوم سنا وأرثهم حالا فما بلغ إلي حتى كادت الصلاة أن تجب فقدمت والرشيد على كرسي وأصحاب الأعمدة بين يديه سماطان فقال لي أنشدني فخفت أن أبتدىء من أول قصيدتي بالتشبيب فتجب الصلاة ويفوتني ما أردت فتركت التشبيب وأنشدته من موضع المديح في قصيدتي التي أولها ( تذكَّر عهدَ البِيضِ وَهْو لها تِرْبُ ... وأيَّامُ يُصبي الغَانياتِ ولا يَصْبُو ) فابتدأت قولي في المديح ( إلى مَلِك يَستغْرِقُ المالَ جُودُه ... مكارِمُه نَثْر ومَعْروفُه سَكْبُ ) ( وما زالَ هارونُ الرِّضا بنُ مُحمَّد ... له من مياهِ النَّصْر مَشْرَبُها العَذْبُ ) ( متى تَبلُغ العِيسُ المَراسيلُ بابَه ... بنا فهناك الرُّحبُ والمنزلُ الرَّحْبُ ) ( لقد جُمِعت فيكَ الظُّنون ولم يكن ... بغيرك ظَنٌّ يسترِيح له القَلْبُ ) ( جَمعتَ ذَوِي الأهواء حتى كأنَّهُم ... على مَنهجٍ بَعْد افتراقِهم رَكْبُ ) ( بَثَثْتَ على الأعداء أبناءَ دُرْبةٍ ... فلم يَقِهم منهم حُصونٌ ولا دَرْبُ ) ( وما زلتَ تَرْمِيهم بهم مُتَفَرّداً ... أنِيسَاك حَزْمُ الرَّأيِ والصَّارمُ العضب ) ( جَهَدْتُ فلم أبلغ عُلاكَ بِمدْحَةٍ ... وليس على مَنْ كان مُجتهِداً عَتْبُ ) فضحك الرشيد وقال لي خفت أن يفوت وقت الصلاة فينقطع المديح عليك فبدأت به وتركت التشبيب وأمرني بأن أنشده التشبيب فأنشدته إياه فأمر لكل واحد من الشعراء بعشرة آلاف درهم وأمر لي بضعفها أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن سيار الجرجاني وكان راوية شاعرا مداحا ليزيد بن مزيد قال دخلت أنا وأشجع والتيمي وابن رزين الخراساني على الرشيد في قصر له بالرقة وكان قد ضرب أعناق قوم في تلك الساعة فجعلنا نتخلل الدماء حتى وصلنا إليه فأنشده أبو محمد التيمي قصيدة له يذكر فيها نقفور ووقعته ببلاد الروم فنثر عليه مثل الدر من جودة شعره وأنشده أشجع قوله ( قَصْرٌ عليه تَحِيَّةٌ وسَلامُ ... ألقَتْ عليه جَمالَها الأيَّامُ ) ( قَصُرتْ سُقوفُ المزن دُون سُقُوفِه ... فيه لأعلام الهُدَى أعلامُ ) ( تُثنِي على أيَّامِك الأيَّامُ ... والشاهِدانِ الحِلُّ والإِحْرامُ ) ( أدنتك من ظل النبي وصيّة ... وقرابةٌ وشَجَت بها الأرحام ) ( برقت سماؤك في العدو وأمطرت ... هاماً لها ظلّ السيوف غمام ) ( وإذا سيوفك صافحت هام العِدَى ... طارت لهن عن الرؤوس الهامُ ) ( وعلى عَدُوِّك يابْن عَمِّ مُحمَّد ... رَصَدانِ ضوءُ الصُّبْح والإِظَلامُ ) ( فإذا تَنَبَّه رُعْتَه وإذا غَفَا ... سَلَّت عليه سيُوفَك الأحْلامُ ) وأنشدته أنا قولي ( زَمَنٌ بأعْلى الرَّقْمَتَيْن قَصِير ... ) حتى انتهيت إلى قولي ( لا تَبْعَدِ الأيَّامُ إذ وَرَقُ الصِّبا ... خَضِلٌ وإذ غَضُّ الشبابِ نضِيرُ ) فاستحسن هذا البيت ومضيت في القصيدة حتى أتممتها فوجه إلي الفضل بن الربيع أنفذ إلي قصيدتك فإني أريد أن أنشدها الجواري من استحسانه إياها قال وركب الرشيد يوما قبة وسعيد بن سالم معه في القبة فقال أين محمد البيذق وكان رجلا حسن الصوت ينشد الشعر فيطرب بحسن صوته أشد من إطراب الغناء فحضر فقال أنشدني قصيدة الجرجاني فأنشده فقال الشعر في ربيعة سائر اليوم فقال له سعيد بن سالم يا أمير المؤمنين استنشده قصيدة أشجع بن عمرو فأبى فلم يزل به حتى أجاب إلى استماعها فلما أنشده هذين البيتين ( وعلى عَدُوِّك يابْن عَمّ مُحمَّد ... ) والذي بعده قال له سعيد بن سالم والله يا أمير المؤمنين لو خرس بعد هذين لكان أشعر الناس أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال بلغني أن أشجع لما أنشد الرشيد هذين البيتين ( وعلى عَدُوِّك يابْنَ عَمِّ مُحمَّد ... ) والذي بعده طرب الرشيد وكان متكئا فاستوى جالسا وقال أحسن والله هكذا تمدح الملوك أخبرني أحمد بن إسحاق العسكري والحسن بن علي قالا حدثنا أحمد بن سعيد بن سالم الباهلي عن أبيه قال كنت عند الرشيد فدخل إليه أشجع ومنصور النمري فأنشده أشجع قوله ( وعلى عَدُوِّك يابْن عَمِّ مُحمَّد ... رَصَدانِ ضوءُ الصُّبْح والإِظلامُ ) ( فإذا تَنَبَّه رُعتَه وإذا غفَا ... سلَّت عليه سيُوفَك الأحْلامُ ) فاستحسن ذلك الرشيد وأومأت إلى أشجع أن يقطع الشعر وعلمت أنه لا يأتي بمثلهما فلم يفعل ولما أنشده ما بعدهما فتر الرشيد وضرب بمخصرة كانت بيده الأرض واستنشد منصورا النمري فأنشده قوله ( ما تنْقَضِي حَسْرةٌ مِنِّي ولا جَزَعُ ... إذا ذَكرتُ شباباً ليس يُرْتَجعُ ) فمر والله في قصيدة قل ما تقول العرب لها فجعل الرشيد يضرب بمخصرته الأرض ويقول الشعر في ربيعة سائر اليوم فلما خرجنا قلت لأشجع غمزتك أن تقطع فلم تفعل ويلك ولم تأت بشيء فهلا مت بعد البيتين أو خرست فكنت تكون أشعر الناس أخباره مع جعفر بن يحيى أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني موسى بن عيسى قال اشترى جعفر بن يحيى المرغاب من آل الرشيد بعشرين ألف ألف درهم ورده على أصحابه فقال أشجع السلمي يمدحه بذلك ويقول ( ردَّ السِّباخَ نَدَى يَدَيْه وأهلُها ... منها بمنزلة السِّماكِ الأعزَلِ ) ( قد أيقَنُوا بذهابِها وهلاكِهم ... والدَّهرُ يُوعِدُهم بيَوْمٍ أعضَلِ ) ( فافتكَّها لهُم وهم من دَهْرِهم ... بين الجِرانِ وبين حَدِّ الكَلْكَل ) ( ما كان يُرجَى غَيرُه لفَكاكِها ... يُرجَى الكَرِيمُ لكل خَطْبٍ مُعضِلِ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثني أحمد بن محمد حران عن قدامة بن نوح قال جلس جعفر بن يحيى بالصالحية يشرب على مستشرف له فجاءه أعرابي من بني هلال فاشتكى واستماح بكلام فصيح ولفظ مثله يعطف المسؤول فقال له جعفر بن يحيى أتقول الشعر يا هلالي فقال قد كنت أقوله وأنا حدث أتملح به ثم تركته لما صرت شيخا قال فأنشدنا لشاعركم حميد بن ثور فانشده قوله ( لِمَنِ الدِّيارُ بجانب الحُمْسِ ... كمَحَطِّ ذي الحاجاتِ بالنّفْسِ ) حتى أتى على آخرها فاندفع أشجع فأنشده مديحا له فيه قاله لوقته على وزنها وقافيتها فقال ( ذهبَتْ مكارِمُ جَعْفَرٍ وفِعالُه ... في النّاس مِثْلَ مذاهب الشمْسِ ) ( مَلك تسوسُ له المَعَالِي نفسُه ... والعقلُ خَيْرُ سياسةِ النّفْسِ ) ( فإذا تراءتْه المُلوكُ تراجَعوا ... جَهْرَ الكلام بمَنْطِقٍ هَمْسِ ) ( سادَ البرامِكَ جَعْفرٌ وهم الأُلى ... بعد الخلائف سادَةُ الإنْسِ ) ( ما ضرَّ مَنْ قَصَدَ ابنَ يَحيى راغباً ... بالسّعْدِ حلَّ به أم النَّحسِ ) فقال له جعفر صف موضعنا هذا فقال ( قُصُورُ الصالِحيَّة كالعَذارَى ... لَبِسْنَ ثيابَهُنَّ ليَوْمِ عُرْسِ ) ( مطلاّتٌ على بَطْنٍ كَسَتْه ... أيادي الماء وَشْياً نَسْجَ غَرْسِ ) ( إذا ما الطّلُّ أثّر في ثَراه ... تَنفّس نَوْرُه من غير نَفْسِ ) ( فتَغْبِقُه السَّماءُ بِصبْغِ وَرْسٍ ... وتُصْبحهُ بأكؤُس عَين شَمسٍ ) فقال جعفر للأعرابي كيف ترى صاحبنا يا هلالي فقال أرى خاطره طوع لسانه وبيان الناس تحت بيانه وقد جعلت له ما تصلني به قال بل نقرك يا أعرابي ونرضيه وأمر للأعرابي بمائة دينار ولأشجع بمائتين أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو دعامة قال حدثني أشجع السلمي قال كنت ذات يوم في مجلس بعض إخواني أتحدث وأنشد إذ دخل عليهم أنس بن أبي شيخ النصري صاحب جعفر بن يحيى فقام له جميع القوم غيري ولم أعرفه فأقوم له فنظر إلي وقال من هذا الرجل قالوا أشجع السلمي الشاعر قال أنشدني بعض قولك فأنشدته فقال إنك لشاعر فما يمنعك من جعفر بن يحيى فقلت ومن لي بجعفر بن يحيى فقال أنا فقل أبياتا ولا تطل فإنه يمل الإطالة فقلت لست بصاحب إطالة فقلت أبياتا على نحو ما رسم لي وصرت إلى أنس فقال تقدمني إلى الباب فتقدمت فلم يلبث أن جاء فدخل وخرج أبو رمح الهمذاني حاجب جعفر بن يحيى فقال أشجع فقمت فقال ادخل فدخلت فاستنشدني فأنشدته أقول ( وتَرَى المُلوكَ إذا رَأيْتَهُمُ ... كُلٌّ بعيد الصَّوْت والجَرْس ) ( فإذا بَدَا لَهُم ابنُ يَحْيى جعفرٌ ... رَجَعوا الكلاَمَ بمَنْطِقٍ هَمْسِ ) ( ذَهَبَتْ مكارِمُ جَعْفرٍ وفِعالُه ... في النَّاسِ مِثْلَ مذاهِبِ الشَّمْسِ ) قال فأمر له بعشرة آلاف درهم قال وكان أشجع يحب الثياب وكان يكتري الخلعة كل يوم بدرهمين فيلبسها أياما ثم يكتري غيرها فيفعل بها مثل ذلك قال فابتعت أثوابا كثيرة بباب الكرخ فكسوت عيالي وعيال إخوتي حتى أنفقتها أشجع والفضل بن يحيى ثم لقيت المبارك مؤدب الفضل بن يحيى بعد أيام فقال لي أنشدني ما قلته في جعفر فأنشدته فقال ما يمنعك من الفضل فقلت ومن لي بالفضل فقال أنا لك به فأدخلني عليه فأنشدته ( وما قدَّم الفَضْلَ بنَ يَحيى مكانُه ... على غيرِه بل قدَّمَتْه المَكارِمُ ) ( لقد أرهَبَ الأعداءَ حتى كأنما ... على كل ثَغْرٍ بالمَنِيَّةِ قائمُ ) فقال لي كم أعطاك جعفر فقلت عشرة آلاف درهم فقال أعطوه عشرين ألفا أخبرني علي بن صالح قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال حدثني داود بن مهلهل قال لما خرج جعفر بن يحيى ليصلح أمر الشام نزل في مضربه وأمر بإطعام الناس فقام أشجع فأنشده قوله ( فِئتان بَاغِيةٌ وطاغِيةٌ ... جلَّت أُمورُهما عن الخَطْبِ ) ( قد جاءكُم بالخيل شازِبَةً ... ينقلن نحوكم رَحَى الحرْبِ ) ( لم يَبْقَ إلا أن تَدُورَ بكم ... قد قام هاديها على القُطْبِ ) قال فأمر له بصلة ليست بالسنية وقال له دائم القليل خير من منقطع الكثير فقال له ونزره أكثر من جزيل غيره فأمر له بمثلها قال وكان يجري عليه في كل جمعة مائة دينار مدة مقامه ببابه أخبرني محمد بن النحوي صهر المبرد قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثنا إسحاق الموصلي قال دخلت إلى الرشيد يوما وهو يخاطب جعفر بن يحيى بشيء لم أسمع ابتداءه وقد علا صوته فلما رآني مقبلا قال لجعفر بن يحيى أترضى بإسحاق قال جعفر والله ما في علمه مطعن إن أنصف فقال لي أي شيء تروي للشعراء المحدثين في الخمر أنشدني من أفضل ما عندك وأشده تقدما فعلمت أنهما كانا يتماريان في تقديم أبي نواس فعدلت عنه إلى غيره لئلا أخالف أحدهما فقلت لقد أحسن أشجع في قوله ( ولقد طَعنتُ الليلَ في أعجازِه ... بالكأْسِ بين غَطارفٍ كالأنْجُمِ ) ( يَتَمايلُون على النعيم كأنّهُم ... قُضُبٌ من الهِنديّ لم تتثلّمِ ) ( وسَعَى بها الظَّبيُ الغَرير يزيدُها ... طِيباً ويَغْشِمُها إذا لم تَغْشِمِ ) ( والليلُ مُنْتَقِبٌ بفَضْل رِدائِه ... قد كاد يَحْسَر عن أغرٍّ أرثَمِ ) ( فإذا أدارَتْها الأكفُّ رأيتَها ... تَثْنِي الفصيحَ إلى لسان الأعجمِ ) ( وعلى بَنانِ مُديرها عِقْيانَةٌ ... من سَكْبها وعلى فضول المِعْصَمِ ) ( تَغْلي إذا ما الشِّعْريانِ تَلَظّيا ... صيفا وتَسْكُن في قلوع المِرْزَم ) ( ولقد فَضَضْناها بخاتَم رَبّها ... بِكْراً وليس البِكْرُ مثلَ الأَيِّمُ ) ( ولها سُكونٌ في الإِناء وخلفَها ... شَغَبٌ يُطوِّحُ بالكَمِيّ المُعْلِمِ ) ( تُعطي على الظّلم الفَتى بِقِيادِها ... قُسْراً وتَظلمه إذا لم يَظْلِمِ ) فقال لي الرشيد قد عرفت تعصبك على أبي نواس وإنك عدلت عنه متعمدا ولقد أحسن أشجع ولكنه لا يقول أبدا مثل قول أبي نواس ( يا شَقِيقَ النَّفس من حَكَم ... نِمْتَ عن لَيْلي ولم أَنَمِ ) فقلت له ما علمت ما كنت فيه يا أمير المؤمنين وإنما أنشدت ما حضرني فقال حسبك قد سمعت الجواب قال الفضل وكان في إسحاق تعصب على أبي نواس لشيء جرى بينهما شعر أشجع يطرب الواثق أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال اصطبح الواثق في يوم مطير واتصل شربه وشربنا معه حتى سقطنا لجنوبنا صرعى وهو معنا على حالنا فما حرك أحد منا عن مضجعه وخدم الخاصة يطوفون علينا ويتفقدوننا وبذلك أمرهم وقال لا تحركوا أحدا عن موضعه فكان هو أول من أفاق منا فقام وأمر بإنباهنا فأنبهنا فقمنا فتوضأنا وأصلحنا من شأننا وجئت إليه وهو جالس وفي يده كأس وهو يروم شربها والخمار يمنعه فقال لي يا إسحاق أنشدني في هذا المعنى شيئا فأنشدته قول أشجع السلمي ( ولقد طعنت الليلَ في أعْجازه ... بالكأس بين غَطارِفٍ كالأنجُم ) ( يتمايلُون على النَّعيم كأنَّهم ... قُضُبٌ من الهنديّ لم تَتَثلّمِ ) ( وسَعَى بها الظَّبيُ الغَرِيرُ يَزيدُها ... طيباً ويَغْشِمُها إذا لم تُغْشِم ) ( والليل مُنْتَقِب بفضل رِدائِه ... قد كان يُحَسر عن أغرٍّ أرْثَمِ ) ( وإذا أدارتها الأكفُّ رأيتها ... تثْنِي الفَصِيحَ إلى لِسانِ الأعْجَمِ ) ( وعلى بَنانِ مُديرها عِقْيانَةٌ ... من لونها وعلى فُضُولِ المِعْصَمِ ) ( تَغَلي إذا ما الشِّعريانِ تَلَظّياً ... صيفا وتسكُن في طُلوع المِرْزَم ) ( ولقد فَضَضْناها بخاتَم رَبِّها ... بِكْراً وليس البِكْرُ مثلَ الأيِّمِ ) ( ولها سُكونٌ في الإِناء وخلفَها ... شَغَبٌ يُطوِّحُ بالكَمِيّ المُعْلمِ ) ( تُعطِي على الظّلْمِ الفَتَى بِقِيادِها ... قَسْراً وتَظلمه إذا لم يَظْلِمِ ) فطرب وقال أحسن والله أشجع وأحسنت يا أبا محمد بحياتي فأعدتها وشرب كأسه وأمر لي بألف دينار أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا أبو هفان قال ذكر أبو دعامة أن أشجع دخل على الفضل بن الربيع وقد توفي ابنه العباس والناس يعزونه فعزاه فأحسن ثم استأذنه في إنشاد مرثية قالها فيه فأذن له فأنشده ( لا تبكِينَّ بعَيْن غير جائدةٍ ... وكلُّ ذِي حَزَنٍ يبكِي كما يجِدُ ) ( أيُّ امريءٍ كان عباسٌ لنائبةٍ ... إذا تَقَنَّع دونَ الوالد الوَلَدُ ) ( لم يُدنِه طمعٌ من دار مُخْزِيَةٍ ... ولم يَعِزّ له من نعمة بلَدُ ) ( قد كنتُ ذا جَلَدٍ في كلّ نائبةٍ ... فبانَ منِّي عليك الصبرُ والجلَدُ ) ( لمَّا تسامتْ بِك الآمالُ وابتهجت ... بك المروءةُ واعتدَّت بك العُدَدُ ) ( ولم يكُن لِفَتًى في نفسه أملٌ ... إلا إليك به من أرضه يَفِدُ ) ( وحين جئت أمام السّابقين ولم ... يبلل عِذارَك مِيْدانٌ ولا أمدُ ) ( وافاكَ يومٌ على نَكْراء مشتمِلٌ ... لم يَنْجُ من مِثلِه عادٌ ولا لُبَدُ ) ( فما تَكشّف إلا عن مُوَلْوِلَةٍ ... حَرَّى ومُكْتئبٍ أحشاؤُه تَقِدُ ) قال فبكى الفضل وبكى الناس معه وما انصرفوا يومئذ يتذاكرون غير أبيات أشجع أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسن بن محمد بن طالب الديناري قال حدثني علي بن الجهم قال دخل أشجع على الرشيد وقد مات ابن له والناس يعزونه فأنشده قوله ( نقْصٌ من الدين ومن أهله ... نقصُ المنايا من بني هاشمِ ) ( قدّمته - فاصبِر على فقدِه - ... إلى أبِيه وأبي القاسمِ ) فقال الرشيد ما عزاني اليوم أحد أحسن من تعزية أشجع وأمر له بصلة أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا العنزي قال حدثني عبد الرحمن بن النعمان السلمي قال كنا بباب جعفر بن يحيى وهو عليل فقال لنا الحاجب إنه لا إذن عليه فكتب إليه أشجع ( لمَّا اشتَكَى جعفرُ بنُ يَحيى ... فارقَني النَّومُ والقَرارُ ) ( ومَرَّ عَيشِي عليَّ حتى ... كأنّما طَعمُه المُرارُ ) ( خوفاً على جعفر بن يَحيَى ... لا حُقِّقَ الخَوفُ والحِذارُ ) ( إن يُعفِه الله لا نُحاذِرْ ... ما أحدثَ الليلُ والنهارُ ) قال فأوصل الحاجب رقعته ثم خرج فأمره بالوصول وحده وانصرف سائر الناس أخبرني الحسن قال حدثنا العنزي قال حدثني محمد بن الحسين عن عمرو بن علي أن أشجع السلمي كتب إلى الرشيد وقد أبطأ عنه شيء أمر له به ( أبلِغْ أميرَ المؤمنين رسالَةً ... لها عَنَقٌ بين الرُّواةِ فسيحُ ) ( بأنّ لسانَ الشعرِ يُنْطِقُه النَّدى ... ويُخرِسه الإبطاءُ وهو فصيحُ ) فضحك الرشيد وقال له لن يخرس لسان شعرك وأمر له بتعجيل صلته مدحه محمد بن منصور أخبرني الحسن ومحمد بن يحيى الصولي قالا حدثنا العنزي قال حدثني أحمد بن محمد بن منصور بن زياد وكان يقال لأبيه فتى العسكر قال أقبل أشجع إلى باب أبي فرأى ازدحام الناس عليه فقال ( على بابِ ابنِ منصور ... علاماتٌ من البَذْلِ ) ( جماعات وحسْب البابِ ... نُبْلاً كثرةُ الأهلِ ) فبلغ أبي بيتاه هذان فقال هما والله أحب مدائحه إلي أخبرني عمي والحسن بن علي قال حدثنا الفضل بن محمد اليزيدي قال حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال لما ولى الرشيد جعفر بن يحيى خراسان جلس للناس فدخلوا عليه يهنئونه ثم دخل الشعراء فأنشدوه فقام أشجع آخرهم فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشده قوله ( أتصبِرُ للبَيْن أم تجزَعُ ... فإنّ الدِّيارَ غداً بَلْقَعُ ) ( غداً يتفرَّق أهلُ الهوى ... ويكثُر باكٍ ومُسْتَرجِعُ ) حتى انتهى إلى قوله ( ودَوِّيَةٍ بين أقطارِها ... مقاطيعُ أرضِينَ لا تُقْطعُ ) ( تَجاوزْتُها فوق عَيْرانَةٍ ... من الريح في سَيرها أَسرعُ ) ( إلى جعفرٍ نزعتْ رَغبةٌ ... وأيّ فَتىً نحوه تَنْزِعُ ) ( فما دُونه لامرىءٍ مَطْمَعٌ ... ولا لامرىءٍ غيره مقنعُ ) ( ولا يرفع الناسُ مَنْ حَطَّه ... ولا يَضَعُون الذي يَرفعُ ) ( يُريدُ الملوكُ مَدى جعفرٍ ... ولا يَصنعُون كما يَصْنَعُ ) ( وليس بأوْسَعِهم في الغِنَى ... ولكنَّ معروفه أوسعُ ) ( تلوذُ الملوكُ بآرائه ... إذا نالها الحدَثُ الأفظعُ ) ( بَدِيهَتهُ مِثلُ تَدْبيره ... متى رُمْتَه فهو مُسْتَجْمِعُ ) ( وكم قائلٍ إذْ رأى ثَرْوَتي ... وما في فضول الغنى أصنعُ ) ( غدَا في ظِلال نَدَى جعفرٍ ... يَجُرُّ ثِيابَ الغِنَى أشجعُ ) ( فقُلْ لخراسانَ تحيا فقد ... أتاها ابنُ يحيى الفَتَى الأروعُ ) فأقبل عليه جعفر بن يحيى ضاحكا واستحسن شعره وجعل يخاطبه مخاطبة الأخ أخاه ثم أمر له بألف دينار قال ثم بدا للرشيد في ذلك التدبير فعزل جعفرا عن خراسان بعد أن أعطاه العهد والكتب وعقد له العقد وأمر ونهى فوجم لذلك جعفر فدخل عليه أشجع فأنشده يقول ( أمست خُراسانُ تُعزَّى بما ... أخْطأها من جعفرِ المُرْتَجَى ) ( كان الرشيدُ المُعتَلَى أمرُه ... ولى عليها المُشرِقَ الأبلَجَا ) ( ثم أراه رأيُه أنّه ... أمسَى إليه منهمُ أحْوَجا ) ( فكمْ به الرَّحمنُ من كُربة ... في مُدَّةٍ تقصُر قد فَرّجا ) فضحك جعفر ثم قال لقد هونت علي العزل وقمت لأمير المؤمنين بالعذر فسلني ما شئت فقال قد كفاني جودك ذلة السؤال فأمر له بألف دينار آخر مدحه محمد الأمين وهو طفل أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن أبي دعامة عن أشجع قال دخلت على محمد الأمين حين أجلس مجلس الأدب للتعليم وهو ابن أربع سنين وكان يجلس فيه ساعة ثم يقوم فأنشدته ( ملكٌ أَبُوه وأُمُّه من نَبْعَةٍ ... منها سِراجُ الأُمَّةِ الوَهَّاجُ ) ( شَرِبَتْ بمكة في رُبا بَطْحائها ... ماءَ النُّبوّة ليس فيه مِزاجُ ) يعني النبعة قال فأمرت له زبيدة بمائة ألف درهم قال ولم يملك الخلافة أحد أبوه وأمه من بني هاشم إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ومحمد بن زبيدة أخبرني الحسن بن علي ومحمد بن يحيى الصولي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا المهزمي قال لما ولى إبراهيم بن عثمان بن نهيك الشرطة دخل عليه أشجع فأنشده قوله فيه ( لِمَن المنازلُ مثلُ ظَهْر الأرقَمِ ... قَدُمت وعَهْدُ أَنِيسِها لم يَقْدُمِ ) ( فَتَكَتْ بها سَنَتانَ تَعْتَوِرانِها ... بالمُعْصِفات وكلّ أَسْحَم مُرزِم ) ( دِمَنٌ إذا استَثْبَتَّ عينك عهدَها ... كرَّت إليك بنَطْرَة المُتَوّهِّم ) ( ولقد طعَنْتُ الليلَ في أعْجَازِه ... بالكأسِ بين غَطارفٍ كالأَنْجُمِ ) ( يَتمايَلُون على النَّعيم كأنَّهم ... قُضُبٌ من الهِنْدِيّ لم تَتَثلَّمِ ) ( والليلُ مُشْتَمِلٌ بفَضْلِ رِدائِه ... قد كاد يَحْسُر عن أغرٍّ أرثَمِ ) ( لِبَني نُهَيكٍ طاعةٌ لو أنها ... زُحِمت جَونِبها ببَأْسٍ مُحْطِم ) ( في سَيْف إبراهيمَ خوفٌ واقِعٌ ... لِذَوِي النِّفاقِ وفيه أمْنُ المُسْلِمِ ) ( ويَبيتُ يكْلاُّ - والعُيونُ هواجِعٌ - ... مَالَ المُضِيع ومُهْجَةَ المُسْتَسْلِم ) ( لَيلٌ يُواصِلُه بضَوْءِ نَهارِه ... يَقظانُ ليس يَذُوق نَوْمَ النُّوَّمِ ) ( شَدَّ الخِطامَ بأنفِ كلّ مُخالِفٍ ... حتى استَقام له الذي لم يُخْطَمِ ) ( لا يُصلِح السُّلطانَ إلا شِدَّةٌ ... تَغْشَى البَرِيءَ بفضل ذَنْب المُجْرِمِ ) ( مَنَعَتْ مهابَتُك النفوسَ حَدِيثَها ... بالشيء تكرهه وإن لم تَعْلَمِ ) ( ونهَجْتَ في سُبُل السِّياسة مَسْلَكاً ... ففهِمتَ مذهبَها الذي لم يُفْهَمِ ) فوصله وحمله وخلع عليه أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا الغلابي قال حدثنا مهدي بن سابق قال أعطى جعفر بن يحيى مروان بن أبي حفصة - وقد مدحه - ثلاثين ألف درهم وأعطى أبا البصير عشرين ألفا وأعطى أشجع - وقد أنشده معهما - ثلاثة آلاف درهم وكان ذلك في أول اتصاله به فكتب إليه أشجع يقول ( أعطيتَ مروانَ الثَّلاثِينَ ... التي دَلَّت رِعاثَهْ ) ( وأبا البَصِيرِ وإنما ... أعطيتَني منهم ثلاثَهْ ) ( ما خانَنِي حَوْكُ القريضِ ... ولا اتّهمتَ سِوَى الحداثهْ ) فأمر له بعشرين ألف درهم أخرى حدثني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري قال حدثني أبو هفان قال حدثني سعيد بن هريم وأبو دعامة قالا كان انقطاع أشجع إلى العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس فقال الرشيد للعباس يوما يا عم إن الشعراء قد أكثروا في مدح محمد بسببي وبسبب أم جعفر ولم يقل أحد منهم في المأمون شيئا وأنا أحب أن أقع على شاعر فطن ذكي يقول فيه فذكر العباس ذلك لأشجع وأمره أن يقول فيه فقال ( بَيْعَةُ المأمون آخِذَةٌ ... بِعِنان الحَقِّ في أُفُقِهْ ) ( أُحكِمتْ مِرَّاتُها عُقداً ... تمنع المُخْتال في نَفَقِهْ ) ( لن يفكّ المرءُ رِبْقَتَها ... أو يفكَّ الدِّين من عُنُقهْ ) ( وله من وَجه والِدِه ... صُورةٌ تمَّت ومن خُلُقِهْ ) قال فأتى بها العباس الرشيد وأنشده إياها فاستحسنها وسأله لمن هي فقال هي لي فقال قد سررتني مرتين بإصابتك ما في نفسي وبأنها لك وما كان لك فهو لي وأمر له بثلاثين ألف دينار فدفع إلى أشجع منها خمسة آلاف درهم وأخذ باقيها لنفسه أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال وعد يحيى بن خالد أشجع السلمي وعدا فاخره عنه فقال له قوله ( رَأَيْتُكَ لا تَسْتَلِذُّ المِطالَ ... وتُوفِي إذا غَدَرَ الخائنُ ) ( فماذا تُؤخِّر من حاجَتِي ... وأنتَ لتَعْجِيلها ضامنُ ) ( ألَمْ تَرَ أنَّ احتباسَ النَّوالِ ... لمَعْرُوفِ صاحِبِه شائِنُ ) فلم يتعجل ما أراد فكتب إليه ( رُويدَكَ إنَّ عِزَّ الفَقْر أدنَى ... إليَّ من الثّراء مع الهَوانِ ) ( وماذا تَبلُغُ الأيَّامُ مِنِّي ... برَيْبِ صُرُوفِها ومَعِي لِسانِي ) فبلغ قوله جعفرا فقال له ويلك يا أشجع هذا تهدد فلا تعد لمثله ثم كلم أباه فقضى حاجته فقال ( كَفانِي صُروفَ الدَّهْر يَحْيى بنُ خَالد ... فأصبَحْتُ لا أَرتاعُ للحَدَثانِ ) ( كَفانِي - كفاه الله كُلَّ مُلِمَّةٍ - ... طِلابَ فُلانٍ مَرَّةً وفُلانِ ) ( فأصبَحْتُ في رغْدٍ من العَيْش واسعٍ ... أُقلِّب فيه ناظِري ولِسانِي ) أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي عن ابن النطاح قال ولى جعفر بن يحيى أشجع عملا فرفع إليه أهله رفائع كثيرة وتظلموا منه وشكوه فصرفه جعفر عنهم فلما رجع إليه من عمله مثل بين يديه ثم أنشأ يقول ( أمُفسِدةٌ سُعادُ عليَّ دِينيِ ... ولائِمَتي على طُولِ الحَنِينِ ) ( وما تَدرِي سُعاد إذا تَخَلَّتْ ... من الأَشْجان كَيْفَ أَخُو الشُّجُونِ ) ( تَنامُ ولا أَنامُ لِطُول حُزْنِي ... وأَيْنَ أَخُو السُّرور من الحَزِين ) ( لقد راعَتْك عند قَطِين سُعْدَى ... رواحلُ غادِياتٌ بالقَطِين ) ( كأنَّ دُموعَ عَيْني يوم بانوا ... عِيانا سَحُّ مُطّرِدٍ مَعِين ) ( لقد هَزَّت سِنانَ القَوْلِ منِّي ... رِجالُ رَفِيعَةٍ لم يَعْرِفُونِي ) ( همُ جازُوا حِجابَك يا بْنَ يَحْيَى ... فقالوا بالذي يَهْوَوْنَ دُونِي ) ( أَطافُوا بي لديك وغِبتُ عنهم ... ولو أدْنَيْتَنِي لتَجَنَّبُونِي ) ( وقد شهدتْ عُيونُهُم فمالَت ... عليَّ وغُيِّبَتْ عنهم عيُونِي ) ( ولَمَّا أن كَتبْتُ بما أَرادُوا ... تَدَرّع كُلُّ ذي غَمْزٍ دَفين ) ( كَففتُ عن المقاتل بادياتٍ ... وقد هَيَّأْتُ صَخْرةَ مَنْجَنُون ) ( ولو أرسلتُها دَمَغَتْ رِجالاً ... وصالَت في الأخِشَّة والشُّؤُون ) ( وكنت إذا هززتُ حُسامَ قَوْلٍ ... قطعت بحُجَتَّيِ عَلَق الوَتِينِ ) ( لعلّ الدهر يُطلِق من لساني ... لهم يوماً ويَبْسط من يَمِيني ) ( فأقضِيَ دَيْنَهم بوفاء قَوْلٍ ... وأثقلهم لصدقي بالديونِ ) ( وقد علموا جَمِيعاً أنّ قَولِي ... قَرِيب حينَ اَدْعُوه يَجِيني ) ( وكُنتُ إذا هَجَوتُ رَئِيسَ قَوْمٍ ... وَسَمْتُ على الذُّؤابة والجَبِين ) ( بخطٍّ مثلِ حَرْقِ النّارِ باقٍ ... يلوح على الحَواجِب والعُيُون ) ( أمائِلَةٌ بوُدِّك يابْنَ يَحْيَى ... رِجالاتٌ ذَوُو ضِغْن كَمِينِ ) ( يَشِيمون السُّيوفَ إذا رَأوْني ... فإن ولَّيْتُ سُلَّت من جُفونِ ) ( ولو كُشِفَت سرائِرُنا جَمِيعاً ... علمتَ مَن البَرِيءُ من الظَّنينِ ) ( علامَ - وأنتَ تَعْلَم نُصْحَ جَنْبي ... وأَخْذِي منك بالسَّبَب المتينِ ) ( وعَسْفِي كُلَّ مَهْمَهَةٍ خلاءٍ ... إليك بكل يَعْمَلَةٍ أَمُونِ ) ( وإحْيائي الدُّجَى لك بالقَوافِي ... أُقِيم صُدُورَهُنّ على المُتونِ ) ( تُقرِّب منك أَعْدائي وأُنْأَى ... ويجلسُ مَجْلِسي مَنْ لا يَلِيني ) ( ولو عاتبت نَفْسكَ في مكاني ... إذاً لنَزلتُ عندك باليَمِينِ ) ( ولَكِنَّ الشُّكُوكَ نَأَيْنَ عَنِّي ... بودّك والمَصِيرُ إلى اليقِين ) ( فإن أنَصفْتَنِي أحرقتَ منهم ... بنُضْج الكَيِّ أَثْباجَ البطونِ ) اتصاله بجعفر بن المنصور أخبرني محمد بن يحيى الصولي والحسن بن علي قالا حدثنا العنزي قال حدثنا علي بن الفضل السلمي قال أول ما نجم به أشجع أنه اتصل بجعفر بن المنصور وهو حدث وصله به أحمد بن يزيد السلمي وابنه عوف فقال أشجع في جعفر بن المنصور قوله ( اذُكروا حُرمَة العَواتِك مِنّا ... يا بني هاشمِ بن عبدِ منافِ ) ( قد وَلَدْناكُم ثَلاثَ ولاداتٍ ... خَلَطْنَ الأشرافَ بالأشرافِ ) ( مَهَّدَت هاشِماً نجومُ قُصَىٍّ ... وبنو فَالحٍ حجُور عَفافِ ) ( إنّ أرماحَ بُهْثَةَ بنَ سُلَيْمٍ ... لعِجافِ الأطراف غيرُ عِجافِ ) ( ولأسيافهم فِرىً غَيْرُ لَذٍّ ... راجِعٌ في مَراجِع الأكتافِ ) ( معشَرٌ يُطْعِمُون من ذِرْوَة الشَّول ... ويَسْقون خَمْرَة الأَقْحاف ) ( يَضرِبُون الجَبَّار في أخدَعَيْه ... ويُسَقُّونه نَقِيعَ الذُّعافِ ) فشاع شعره وبلغ البصرة ولم يزل أمره يتراقى إلى أن وصلته زبيدة بعد وفاة أبيها بزوجها هارون الرشيد فأسنى جوائزه وألحقه بالطبقة العليا من الشعراء أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني شيبة بن أحمد بن هشام قال حدثني أحمد بن العباس الربيعي أن الذي أوصل أشجع السلمي إلى الرشيد جده الفضل بن الربيع وأنه أوصله له وقال له هو أشعر شعراء أهل هذا الزمان وقد اقتطعته عنك البرامكة فأمره بإحضاره وإيصاله مع الشعراء ففعل فلما وصل إليه أنشده قوله ( قَصْرٌ عليه تَحِيَّةٌ وسَلامُ ... نَثَرَتْ عليه جَمالَها الأَيَّامُ ) ( فيه اجْتَلَى الدُّنْيا الخليفَةُ والْتَقتْ ... للملك فيه سلامَةٌ وسَلامُ ) ( قَصْرٌ سُقوفُ المُزْنِ دُونَ سُقُوفِه ... فيه لأعلام الهُدَى أعْلامُ ) ( نَشَرت عليه الأَرضُ كُسوتَها التي ... نَسَجَ الرَّبيعُ وزخرَف الإرْهام ) ( أدنَتْك من ظِلّ النَّبيِّ وَصِيَّةٌ ... وقرابَةٌ وُشِجَتْ بها الأَرحامُ ) ( برقَتْ سَماؤُك في العَدُوِّ وأَمْطَرت ... هَاماً لها ظِلُّ السُّيوف غَمامُ ) ( وإذا سُيوفُك صافَحتْ هامَ العِدَا ... طارت لهُنَّ عن الرؤوس الهامُ ) ( تثني على أَيَّامِكَ الأَيَّامُ ... والشَّاهِدان الحِلُّ والإِحْرامُ ) ( وعَلَى عَدُوِّك يابْنَ عَمِّ مُحَمَّدٍ ... رَصَدان ضَوءُ الصُّبح والإظلامُ ) ( فإذا تنَبَّه رُعتَه وإذا غَفَا ... سَلَّتْ عليه سُيوفَك الأَحْلامُ ) قال فاستحسنها الرشيد وأمر له بعشرين ألف درهم فمدح الفضل بن الربيع وشكر له إيصاله إياه إلى الرشيد فقال فيه قصيدته التي أولها ( غَلَب الرُّقادُ على جُفونِ المُسْهَدِ ... وغَرِقْتُ في سَهَرٍ وليلٍ سَرْمَدِ ) ( قد جَدَّ بي سَهَرٌ فلم أرقُد له ... والنَّومُ يلعب في جُفون الرُّقَّدِ ) ( ولَطَالَما سَهِرَتْ لِحُبِّيَ أَعْيُنٌ ... أهدَى السُّهاد لها ولَمَّا أسْهدِ ) ( أيّامَ أرعى في رياضِ بِطالةٍ ... وِرْدَ الصِّبا منها الذي لم يُورَدِ ) ( لَهْوٌ يُساعِده الشّبابُ ولم أجِدْ ... بعد الشَّبِيبَة في الهَوى من مُسْعِدِ ) ( وخَفِيفَةِ الأحشاء غير خَفِيَفة ... مَجْدُولَة جَدْلَ العِنانِ الأَجْرَدِ ) ( غَضِبَتْ على أعْطافِها أردافُها ... فالحَرْبُ بين إزارها والمِجْسَدِ ) ( خالفتُ فيه عاذِلا ليَ ناصحا ... فرشَدْتُ حين عَصيْتُ قَول المُرْشِدِ ) ( أَأُقِيمُ مُحْتَمِلاً لِضَيْم حَوادِثٍ ... مع هِمَّةٍ موصولة بالفَرْقَدِ ) ( وأَرَى مخايِلَ ليس يُخلِفُ نَوؤُها ... للفضل إن رَعَدتْ وإن لم تَرْعَدِ ) ( للفَضل أموالٌ أطافَ بها النَّدَى ... حتى جُهِدْن وجُودُه لم يَجْهَد ) ( يابْنَ الرَّبيعَ حَسْرتُ شُكْرِي بالتي ... أوليْتَنيِ في عَوْدِ أمرك والبَدِي ) ( أوصَلْتَني ورَفَدْتَنِي وكلاُهُما ... َشرفٌ فقأتُ به عيُونَ الحُسَّدِ ) ( ووصَفْتَني عند الخَلِيفة غائِباً ... وأذِنْتَ لي فشَهِدْتُ أفخَر مَشْهَد ) ( وكفَيْتَنِي مِنَنَ الرِّجال بنائلٍ ... أغنَى يَدِي عن أن تُمَدَّ إلى يَدِ ) أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا العنزي قال حدثني صخر بن أحمد السلمي عن أبيه قال كنت أنا وأشجع بالرقة جلوسا فمر بنا غلام أمرد رومي جميل الوجه فكلمه أشجع وسأله هل يبيعه مالكه فقال نعم فقال أشجع يمدح جعفر بن يحيى وسأله ابتياعه له فقال ( ومُضْطرِبِ الوِشاحِ لمُقْلَتَيْه ... علائِقُ ما لِوَصْلتِها انْقِطاعُ ) ( تعرَّض لِي بنَظْرَةِ ذِي دَلالٍ ... يُرِيعُ بمُقْلَتيه ولا يُراعُ ) ( لِحاظٌ ليس تُحجَب عن قُلُوبٍ ... وأمرٌ في الذي يهوى مُطاعُ ) ( ووسْعِي ضَيِّقٌ عنه ومالَي ... وضِيقُ الأمر يَتْبَعُه اتِّساعُ ) ( وتَعْوِيلِي على مال ابن يَحْيَى ... إليه حَنَّ شَوْقِي والنِّزاعُ ) ( وَثِقْتُ بجَعْفَرٍ في كلِّ خَطْب ... فلا هُلْكٌ يُخافُ ولا ضَياعُ ) فأمر له بخمسة آلاف درهم وقال اشتره بها فإن لم تكفك فازدد أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن الحارث قال كانت لأشجع جارية يقال لها ريم وكان يجد بها وجدا شديدا فكانت تحلف له إن بقيت بعده لم تعرض لغيره وكان يذكرها في شعره فمن ذلك قوله في قصيدته التي يرثي بها الرشيد ( وليس لأَحزان النِّساء تَطاولٌ ... ولكنَّ أحزانَ الرِّجال تَطولُ ) ( فلا تَبْخَلِي بالدَّمْعِ عَنِّي فإنّ من ... يَضِنُّ بدَمْعٍ عن هَوىً لبَخِيلُ ) ( فلا كُنتُ ممن يُتْبِع الرِّيح طَرفَه ... دَبُوراً إذا هَبَّت له وقَبُولُ ) ( إذَا دارَ فَيءٌ أتبعَ الفَيْءَ طَرفَه ... يَمِيل مع الأَيَّام حَيْثُ تَمِيلُ ) قال وقال فيها أيضا ( إذا غَمَّضَتْ فَوْقي جفُونُ حَفيرَةٍ ... من الأرض فابْكِيني بما كُنتُ أصنَعُ ) ( تُعَزِّكِ عَنّي عند ذلك سَلْوَةٌ ... وأَنْ ليس فِيمَن وَارَت الأرضُ مَطْمَعُ ) ( إذا لم ترَىْ شَخْصِي وتُغْنِيكِ ثروتي ... ولم تَسْمَعِي منّي ولا منك أسمعُ ) ( فحِينَئِذٍ تَسْلِينَ عنِّي وإن يكن ... بُكاءٌ فأقصى ما تُبكِّين أرْبَعُ ) ( قَليلٌ ورَبِّ البيْتِ يا رِيمُ ما أرى ... فَتاةً بمَنْ وَلّى به الموتُ تَقْنَعُ ) ( بمن تَدْفَعِين الحادِثاتِ إذا رَمَى ... عليك بها عامٌ من الجَدْبِ يَطلُعُ ) ( فحينئذ تَدْرِين مَنْ قد رُزِيِتهِ ... إذا جَعَلتْ أركانٌ بينك تُنْزَعُ ) قال فشكته ريم إلى أخيه أحمد بن عمرو فأجابه عنها بشعر نسبه إليها ومدح فيه الفضل أيضا فاختير شعره على شعر أخيه وهو ( ذكرتُ فِراقاً والفراقُ يُصدِّعُ ... وأيُّ حياةٍ بعد مَوْتِك تَنْفَعُ ) ( إذا الزَّمنُ الغَرَّار فَرَّق بيننا ... فما ليَ في طِيبٍ من العيش مَطْمَعُ ) ( ولا كان يومٌ يابْنَ عَمْرٍو وليلةٌ ... يُبدَّدُ فيها شَمْلُنا ويُصَدَّعُ ) ( ولا كان يومٌ فيه تَثْوِي رهينةً ... فتَرْوَى بجسمي الحادِثاتُ وتَشبعُ ) ( وألطمُ وجهاً كنتُ فيكَ أصونُه ... وأخشعُ مما لم أكُن منه أخشعُ ) ( ولو أنني غُيِّبْتُ في اللَّحْد لم تَبْلْ ... ولم تَزل الراؤون لي تتوجَّعُ ) ( وهل رجلٌ أبصرته متوجِّعاً ... على امرأةٍ أو عينُه الدَّهرَ تدمعُ ) ( ولكن إذا ولَّتْ يقولُ لها اذهبِي ... فمِثلُك أُخْرَى سوفَ أَهوَى وأتبَعُ ) ( ولو أبصَرَتْ عيناك ما بي لأبْصَرَت ... صبابةَ قلب غيمُها ليس يُقْشَعُ ) ( إلى الفَضل فارْحَلْ بالمدِيح فإنه ... مَنيعُ الحِمَى مَعروفُه ليس يُمْنَعُ ) ( وزُرْه تَزُرْ حِلْماً وعِلْماً وسُودَداً ... وبأْساً به أنفُ الحوادث يُجدَعُ ) ( وأبدِعْ إذا ما قلتَ في الفَضْل مِدْحَةً ... كما الفضل في بذل المواهِب يُبْدِعُ ) ( إذا ما حِياضُ المجدِ قلّتْ مِياهُها ... فحوضُ أبي العَبَّاسِ بالجودِ مُتْرَعُ ) ( وإن سَنةٌ ضَنَّتْ بخصبٍ على الوَرَى ... ففي جُودِه مرعىً خصيبٌ ومَشْرَعُ ) ( وما بَعُدتْ أرضٌ بها الفَضْلُ نَازلٌ ... ولا خابَ مَنْ في نائِلِ الفَضْلِ يَطْمَعُ ) ( فنِعم المُنادَى الفَضْلُ عند مُلِمَّةٍ ... لدفع خُطوبٍ مِثْلُها ليس يُدفعُ ) ( إليكَ أَبا العَبَّاسِ سارَتْ نجائِبٌ ... لها هِمَمٌ تَسْمُو إليك وتَنْزِع ) ( بِذكْرِك نَحدُوهَا إذا ما تأخَّرَتْ ... فتمضِي على هَوْلِ المُضِيّ وتُسرِعُ ) ( وما لِلسانِ المدحِ دونك مَشْرَعٌ ... ولا للمطايا دُون بابك مَفْزَعُ ) ( إليكَ أبا العَبَّاسِ أحملُ مِدْحَةً ... مَطِيَّتُها - حتى توافيك - أشجَعُ ) ( فَزِعْتُ إلى جَدْواك فيها وإنما ... الى مَفزع الأملاكِ يُلْجا ويُفزَعُ ) قال فأنشدها أشجع الفضل وحدثه بالقصة فوصل أخاه وجاريته ووصله وقال أحمد بن الحارث فقيل لأحمد بن عمرو أخي أشجع مالك لا تمدح الملوك كما يمدحهم أخوك فقال إن أخي بلاء علي وإن كان فخرا لأني لا أمدح أحدا ممن يرضيه دون شعري ويثيب عليه بالكثير من الثواب إلا قال أين هذا من قول أشجع فقد امتنعت من مدح أحد لذلك قال أحمد بن الحارث وقال أحمد بن عمرو يهجو أخاه أشجع وقد كان أحمد مدح محمد بن جميل بشعر قاله فيه فسأل أخاه أشجع إيصاله ودفع القصيدة إليه فتوانى عن ذلك فقال يهجوه - أخبرني بذلك أحمد بن محمد بن جميل - ( وسائلةٍ لِيَ ما أَشْجَعُ ... فقلتُ يضر ولا يَنفعُ ) ( قَرِيبٌ من الشَّرِّ واعٍ له ... أَصَمُّ عن الخير ما يَسمَعُ ) ( بَطيءٌ عن الأمر أحظَى به ... إلى كل ما ساءني مُسرِعُ ) ( شَرودُ الوِدادِ على قُربهِ ... يُفَرِّقُ منه الذي أجمَعُ ) ( أُسَبُّ بأنّي شقِيقٌ له ... فأَنْفِي به أبداً أَجَدعُ ) أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال دخلت على الفضل بن يحيى وقد بلغ الرشيد إطلاقه يحيى بن عبد الله بن حسن وقد كان أمره بقتله فلم يظهر له أنه بلغه إطلاقه فسأله عن خبره هل قتلته فقال لا فقال له فأين هو قال ولم قال لأنه سألني بحق الله وبحق رسوله وقرابته منه ومنك وحلف لي أنه لا يحدث حدثا وأنه يجيبني متى طلبته فأطرق ساعة ثم قال امض بنفسك في طلبه حتى تجيئني به واخرج الساعة فخرج قال فدخلت عليه مهنئا بالسلامة فقلت له ما رأيت أثبت من جنانك ولا أصح من رأيك فيما جرى وأنت والله كما قال أشجع ( بدِيهَتُه وفكرتُه سَواءٌ ... إذا ما نابَه الخَطْبُ الكَبِيرُ ) ( وأَحزمُ ما يَكونُ الدَّهرَ رأياً ... إذا عَيَّ المُشاوِرُ والمُشِيرُ ) ( وصَدرٌ فيه للهمِّ اتِّساعٌ ... إذا ضاقَت بما تَحوِي الصُّدورُ ) فقال الفضل انظروا كم أخذ أشجع على هذه القصيدة فاحملوا إلى أبي محمد مثله قال فوجده قد أخذ ثلاثين ألف درهم فحملت إلي أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة قال حدثني محمد بن عجلان قال حدثنا ابن خلاد عن حسين الجعفي قال كان أشجع إذا قدم بغداد ينزل على صديق له من أهلها فقدمها مرة فوجده قد مات والنوح والبكاء في داره فجزع لذلك وبكى وأنشأ يقول ( وَيْحَها هل دَرَتْ على مَنْ تَنوحُ ... أسَقيمٌ فُؤادُها أم صَحِيحُ ) ( قَمَرٌ أطبَقُوا عليه ببغدَادَ ... ضريحاً ماذا أَجَنَّ الضَّرِيحُ ) ( رحِمَ اللهُ صاحبِي ونَدِيمي ... رحمةً تَغْتدِي وأُخرى ترُوحُ ) وهذه القصيدة التي فيها الأبيات المذكورة والغناء فيها من قصيدة يمدح بها أشجع الرشيد ويهنئه بفتح هرقلة وقد مدحه بذلك وهنأه جماعة من الشعراء وغنى في جميعها فذكرت خبر فتح هرقلة لذكر ذلك سبب غزاه الرشيد هرقلة أخبرني بخبره علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال كان من خبر غزاة الرشيد هرقلة أن الروم كانت قد ملكت امرأة لأنه لم يكن بقي في أهل زمانها من أهل بيتها - بيت المملكة - غيرها وكانت تكتب إلى المهدي والهادي والرشيد أول خلافته بالتعظيم والتبجيل وتدر عليه الهدايا حتى بلغ ابن لها فحاز الملك دونها وعاث وأفسد وفاسد الرشيد فخافت على ملك الروم أن يذهب وعلى بلادهم أن تعطب لعلمها بالرشيد وخوفها من سطوته فاحتالت لابنها فسملت عينه فبطل منه الملك وعاد إليها فاستنكر ذلك أهل المملكة وأبغضوها من أجله فخرج عليها نقفور وكان كاتبها فأعانوه وعضدوه وقام بأمر الملك وضبط أمر الروم فلما قوي على أمره وتمكن من ملكه كتب إلى الرشيد نقفور والرشيد من نقفور ملك الروم إلى الرشيد ملك العرب أما بعد فإن هذه المرأة كانت وضعتك وأباك وأخاك موضع الملوك ووضعت نفسها موضع السوقة وإني واضعك بغير ذلك الموضع وعامل على من تطرق بلادك والهجوم على أمصارك أو تودي إلى ما كانت المرأة تودي إليك والسلام فلما ورد كتابه على الرشيد كتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم - من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم أما بعد فقد فهمت كتابك وجوابك عندي ما تراه عيانا لا ما تسمعه ثم شخص من شهره ذلك يؤم بلاد الروم في جمع لم يسمع بمثله وقواد لا يجارون نجدة ورأيا فلما بلغ ذلك نقفور ضاقت عليه الأرض بما رحبت وشاور في أمره وجد الرشيد يتوغل في بلاد الروم فيقتل ويغنم ويسبي ويخرب الحصون ويعفي الآثار حتى صار إلى طرق متضايقة دون قسطنطينية فلما بلغها وجدها وقد أمر نقفور بالشجر فقطع ورمي به في تلك الطرق وألقيت فيه النار فكان أول من لبس ثياب النفاطين محمد بن يزيد بن مزيد فخاضها ثم أتبعه الناس فبعث إليه نقفور بالهدايا وخضع له أشد الخضوع وأدى إليه الجزية عن رأسه فضلا عن أصحابه فقال في ذلك أبو العتاهية ( إمامَ الهُدَى أصَحْتَ بالدِّين مَعْنِيّاً ... وأصبحتَ تَسقِي كُلَّ مستمطِرٍ رِيا ) ( لك اسمانِ شُقّا من رَشادٍ ومن هُدىً ... فأنت الذي تُدعَى رَشيداً ومَهْدِيَّا ) ( إذا ما سَخِطْتَ الشيء كان مُسَخَّطاً ... وإن تَرضَ شَيْئاً كان في النَّاس مَرْضِيَّا ) ( بَسَطَتْ لنا شَرْقاً وغَرْباً يَدَ العُلا ... فأوسعتَ شَرْقِيَّاً وأوسَعْتَ غَرْبِيَّا ) ( ووشَّيْت وَجْهَ الأرضِ بالجُود والنَّدى ... فأصبَح وَجهُ الأرض بالجُودِ مَوْشِيَّا ) ( وأنت - أمير المؤمنين - فَتَى التقَى ... نشرتَ من الإِحسان ما كان مَطْوِيَّا ) ================================================= ج35. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وإني واضعك بغير ذلك الموضع وعامل على تطرق بلادك والهجوم على أمصارك أو تؤدي إلى ما كانت المرأة تودى إليك والسلام فلما ورد كتابه على الرشيد كتب إليه بسم الله الرحمن الرحيم - من عبد الله هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم أما بعد فقد فهمت كتابك وجوابك عندي ما تراه عيانا لا ما تسمعه ثم شخص من شهره ذلك يؤم بلاد الروم في جمع لم يسمع بمثله وقواد لا يجارون نجدة ورأيا فلما بلغ ذلك نقفور ضاقت عليه الأرض بما رحبت وشاور في أمره وجد الرشيد يتوغل في بلاد الروم فيقتل ويغنم ويسبي ويخرب الحصون ويعفي الآثار حتى صار إلى طرق متضايقة دون قسطنطينية فلما بلغها وجدها وقد أمر نقفور بالشجر فقطع ورمي به في تلك الطرق وألقيت فيه النار فكان أول من لبس ثياب النفاطين محمد بن يزيد بن مزيد فخاضها ثم أتبعه الناس فبعث إليه نقفور بالهدايا وخضع له أشد الخضوع وأدى إليه الجزية عن رأسه فضلا عن أصحابه فقال في ذلك أبو العتاهية ( إمامَ الهُدَى أصبَحْتَ بالدِّين مَعْنِيّاً ... وأصبحتَ تَسقِي كُلَّ مستمطِرٍ رِيا ) ( لك اسمانِ شُقّا من رَشادِ ومن هُدًى ... فأنت الذي تُدعَى رَشيداً ومَهْدِيَّا ) ( إذا ما سَخِطْتَ الشيء كان مُسَخَّطاً ... وإن تَرضَ شَيْئاً كان في النَّاس مَرْضِيَّا ) ( بَسَطْتَ لنا شَرْقاً وغَرْباً يَدَ العُلا ... فأوسعتَ شَرْقِيَّا وأوسَعْتَ غَرْبِيَّا ) ( ووشَّيتَ وَجْهَ الأرضِ بالجُود والنَّدى ... فأصبَح وَجهُ الأرض بالجُودِ مَوْشِيَّا ) ( وأنت - أمير المؤمنين - فَتَى التقَى ... نشرتَ من الإِحسان ما كان مَطْوِيَّا ) ( قَضَى اللهُ أن يَبْقى لِهارونَ مُلْكهُ ... وكان قَضاءُ الله في الخَلْق مَقْضِيَّا ) ( تجلَّلَت الدُّنْيا لِهارُون ذِي الرِّضا ... وأصبح نَقْفُورٌ لهارون ذِمِّيَّا ) فرجع الرشيد - لما أعطاه نقفور ما أعطاه - إلى الرقة فلما سقط الثلج وأمن نقفور أن يغزى اغتر بالمهلة ونقض ما بينه وبين الرشيد ورجع إلى حالته الأولى فلم يجترىء يحيى بن خالد - فضلا عن غيره - على إخبار الرشيد بغدر نقفور فبذل هو وبنوه الأموال للشعراء على أن يقولوا أشعارا في إعلام الرشيد بذلك فكلهم كع وأشفق إلا شاعرا من أهل جدة كان يكنى أبا محمد وكان مجيدا قوي النفس قوي الشعر وكان ذو اليمينين اختصه في أيام المأمون ورفع قدره جدا فإنه أخذ من يحيى وبنيه مائة ألف درهم ودخل على الرشيد فأنشده ( نَقَض الذي أعْطاكه نَقْفورُ ... فعَلَيه دائرَةُ البَوارِ تَدُورُ ) ( أبشِرْ أميرَ المُؤْمِنِين فإنّه ... فَتْحٌ أتاك به الإِلهُ كَبِيرُ ) ( فلقَد تباشَرَت الرَّعِيَّة أن أتى ... بالنَّقْض عنه وافد وبَشِيرُ ) ( ورجَتْ بيُمْنِك أن تُعجِّل غَزوةً ... تَشفِي النُّفوس نَكالُها مَذْكُورُ ) ( أعْطاكَ جِزْيته وَطَأْطَأ خَدَّه ... حَذَرَ الصَّوارِم والرَّدَى مَحْذُورُ ) ( فأجرْتَه من وَقْعِها وكأنَّها ... بأكُفِّنا شُعلُ الضِّرام تَطِيرُ ) ( وصرفت في طول العساكر قافلا ... عنه وجارُك آمِنٌ مَسْرُورُ ) ( نقْفورُ إنَّك حين تَغْدِر أنْ نَأى ... عنك الإمامُ لجاهِلٌ مَغْرورُ ) ( أظَنَنْتَ حين غَدَرْت أنك مُفْلِتٌ ... هَبِلَتْك أُمُّك ما ظَنَنْت غُرورُ ) ( ألقاك حَيْنُك في زواخِر بَحْره ... فَطَمت عليك من الإمام بُحور ) ( إنَّ الإمامَ على اقْتِسارك قادِرٌ ... قَرُبَت دِيارُك أو نَأت بِك دُورُ ) ( لَيْس الإمامُ وإن غَفِلنا غَافِلاً ... عما يَسُوس بحَزْمه ويُديرُ ) ( مَلِكٌ تَجرَّدَ للجهادِ بنَفْسِه ... فَعدُوُّه أبداً به مَقْهورُ ) ( يا مَن يُريد رِضا الإله بسَعْيِه ... واللهُ لا يَخْفى عليه ضَميرُ ) ( لا نُصْحَ ينفَع مَنْ يغشُّ إمامَه ... والنُّصْحُ من نُصَحائِه مَشْكورُ ) ( نُصْحُ الإمام على الأنامِ فَرِيضةٌ ... ولأهله كفَّارةٌ وطَهُورُ ) فتح هرقلة قال فلما أنشده قال الرشيد أو قد فعل وعلم أن الوزراء احتالوا في إعلامه ذلك فغزاه في بقية من الثلج فافتتح هرقلة في ذلك الوقت فقال أبو العتاهية في فتحه إياها ( ألا نادَت هِرقَلةُ بالخرابِ ... من الملِك المُوَفَّق للصَّوابِ ) ( غَدَا هارونُ يُرعِدُ بالمَنايا ... ويُبرِق بالمُذَكَّرَةِ القِضابِ ) ( وراياتٍ يَحُلُّ النَّصُر فيها ... تمرُّ كأنّها قِطَعُ السَّحابِ ) ( أميرَ المؤمنينَ ظَفِرتَ فاسْلَمْ ... وأبشِر بالغَنيمة والإيابِ ) قال محمد وجعل الرشيد قبل وصوله إلى هرقلة يفتح المدن والحصون ويخربها حتى أناخ على هرقلة وهي أوثق حصن وأعزه جانبا وأمنعه ركنا فتحصن أهلها وكان بابها يطل على واد ولها خندق يطيف بها فحدثني شيخ من مشايخ المطوعة وملازمي الثغور يقال له علي بن عبد الله قال حدثني جماعة أن الرشيد لما حصر أهل هرقلة وغمهم وألح بالمجانيق والسهام والعرادات فتح الباب فاستشرف المسلمون لذلك فإذا برجل من أهلها كأكمل الرجال قد خرج في أكمل السلاح فنادى قد طالت مواقعتكم إيانا فليبرز إلي منكم رجلان ثم لم يزل يزيد حتى بلغ عشرين رجلا فلم يجبه أحد فدخل وأغلق باب الحصن وكان الرشيد نائما فلم يعلم بخبره إلا بعد انصرافه فغضب ولام خدمه وغلمانه على تركهم إنباهه وتأسف لفوته فقيل له إن امتناع الناس منه سيغويه ويطغيه وأحر به أن يخرج في غد فيطلب مثل ما طلب فطالت على الرشيد ليلته وأصبح كالمنتظر له ثم إذا هو بالباب قد فتح وخرج طالبا للمبارزة وذلك في يوم شديد الحر وجعل يدعو بأنه يثبت لعشرين منهم فقال الرشيد من له فابتدره جلة القواد كهرثمة ويزيد بن مزيد وعبد الله بن مالك وخزيمة بن حازم وأخيه عبد الله وداود بن يزيد وأخيه فعزم على إخراج بعضهم فضجت المطوعة حتى سمع ضجيجهم فأذن لعشرين منهم فاستأذنوه في المشورة فأذن لهم فقال قائلهم يا أمير المؤمنين قوادك مشهورون بالبأس والنجدة وعلو الصوت ومداوسة الحروب ومتى خرج واحد منهم فقتل هذا العلج لم يكبر ذلك وإن قتله العلج كانت وضيعة على العسكر عجيبة وثلمة لا تسد ونحن عامة لم يرتفع لأحد منا صوت إلا كما يصلح للعامة فإن رأى أمير المؤمنين أن يخلينا نختار رجلا فنخرجه إليه فإن ظفر علم أهل الحصن أن أمير المؤمنين قد ظفر بأعزهم على يد رجل من العامة ومن أفناء الناس ليس ممن يوهن قتله ولا يؤثر وإن قتل الرجل فإنما استشهد رجل ولم يؤثر ذهابه في العسكر ولم يثلمه وخرج إليه رجل بعده مثله حتى يقضي الله ما شاء قال الرشيد قد استصوبت رأيكم هذا فاختاروا رجلا منهم يعرف بابن الجزري وكان معروفا في الثغر بالبأس والنجدة فقال الرشيد أتخرج قال نعم وأستعين الله فقال أعطوه فرسا ورمحا وسيفا وترسا فقال يا أمير المؤمنين أنا بفرسي أوثق ورمحي بيدي أشد ولكني قد قبلت السيف والترس فلبس سلاحه واستدناه الرشيد فوعده واستتبعه بالدعاء وخرج معه عشرون رجلا من المطوعة فلما انقض في الوادي قال لهم العلج وهو يعدهم واحدا واحدا إنما كان الشرط عشرين وقد زدتم رجلا ولكن لا بأس فنادوه ليس يخرج إليك منا إلا رجل واحد فلما فصل منهم ابن الجزري تأمله الرومي وقد أشرف أكثر الروم من الحصن يتأملون صاحبهم والقرن حتى ظنوا أنه لم يبق في الحصن أحد إلا أشرف فقال الرومي أتصدقني عما أستخبرك قال نعم فقال أنت بالله ابن الجزري قال اللهم نعم فكفر له ثم أخذا في شأنهما فاطعنا حتى طال الأمر بينهما وكاد الفرسان أن يقوما وليس يخدش واحد منهما صاحبه ثم تحاجزا بشيء فزج كل واحد منهما برمحه وأصلت سيفه فتجالدا مليا واشتد الحر عليهما وتبلد الفرسان وجعل ابن الجزري يضرب الرومي الضربة التي يرى أنه قد بلغ فيها فيتقيها الرومي وكان ترسه حديدا فيسمع لذلك صوت منكر ويضربه الرومي ضرب منذر لأن ترس ابن الجزري كان درقة فكان العلج يخاف أن يعض بالسيف فيعطب فلما يئس من وصول كل واحد منهما إلى صاحبه انهزم ابن الجزري فدخلت المسلمين كآبة لم يكتئب مثلها قط وعطعط المشركون اختيالا وتطاولا وإنما كانت هزيمته حيلة منه فأتبعه العلج وتمكن منه ابن الجزري فرماه بوهق فوقع في عنقه وما أخطأه وركض فاستله عن فرسه ثم عطف عليه فما وصل إلى الأرض حيا حتى فارقه رأسه فكبر المسلمون أعلى تكبير وانخذل المشركون وبادروا الباب يغلقونه واتصل الخبر بالرشيد فصاح بالقواد اجعلوا النار في المجانيق وارموها فليس عند القوم دفع ففعلوا وجعلوا الكتان والنفط على الحجارة وأضرموا فيها النار ورموا بها السور فكانت النار تلصق به وتأخذ الحجارة وقد تصدع فتهافتت فلما أحاطت بها النيران فتحوا الباب مستأمنين ومستقبلين فقال الشاعر المكي الذي كان ينزل جدة صوت ( هَوَتْ هِرَقْلَةُ لَمَّا أن رأتْ عَجَباً ... حوائماً تَرْتَمِي بالنِّفط والنَّارِ ) ( كأنَّ نِيرَانَنا في جَنْب قَلْعتِهِم ... مُصَبَّغاتٌ على أَرْسانِ قَصَّارِ ) في هذين البيتين لابن جامع لحن من الثقيل الأول بالبنصر قال محمد بن يزيد وهذا كلام ضعيف لين ولكن قدره عظيم في ذلك الموضع والوقت وغنى فيه المغنون بعد ذلك وأعظم الرشيد الجائزة للجدي الشاعر وصبت الأموال على ابن الجزري وقود فلم يقبل التقويد إلا بغير رزق ولا عوض وسأل أن يعفى وينزل بمكانه من الثغر فلم يزل به طول عمره أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا أحمد بن علي بن أبي نعيم المروزي قال خرج الرشيد غازيا بلاد الروم فنزل بهرقلة فدخل عليه ابن جامع فغناه ( هوت هَرَقْلة لَمَّا أَنْ رأت عَجَباً ... حوائِماً ترتَمِي بالنِّفْط والنَّارِ ) فنظر الرشيد إلى ماشية قد جِيء بها فظن أن الطاغية قد أتاه فخرج يركض على فرس له وفي يده الرمح وتبعه الناس فلما تبين له أنها ماشية رجعوا فغناه ابن جامع صوت ( رأى في السَّما رَهْجا فيَمَّمم نحوَه ... يجُرُّ رُدَيْنِيّاً وللرَّهْجِ يَسْتَقْرِي ) ( تناولتَ أطرافَ البلادِ بقُدرَةٍ ... كأنَّك فيها تَقْتَفي أَثَر الخِضْرِ ) الغناء لابن جامع ثاني ثقيل عن بذل وابن المكي أشجع يهنىء الرشيد بفتح هرقلة أخبرني هاشم بن محمد أبو دلف الخزاعي قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق الموصلي قال لما انصرف الرشيد من غزاة هرقلة قدم الرقة في آخر شهر رمضان فلما عيد جلس للشعراء فدخلوا عليه وفيهم أشجع فبدرهم وأنشأ يقول ( لا زلتَ تَنشُر أعياداً وتَطْوِيها ... تَمْضِي بها لكَ أيام وتَثْنِيها ) ( مُستَقبِلاً زِينةَ الدُّنيا وبَهْجَتها ... أيامنا لك لا تَفْنَى وتُفْنِيها ) ( ولا تَقضَّت بك الدُّنيا ولا بَرِحَتْ ... يَطْوِي لك الدَّهرُ أياماً وتَطوِيها ) ( ولْيَهْنِكَ الفتحُ والأيّام مُقبِلةٌ ... إليكَ بالنصر مَعقوداً نواصِيها ) ( أمسَتْ هِرقْلَةُ تَهْوِي من جوانبِها ... وناصرُ اللهِ والإِسلامِ يَرْمِيها ) ( مُلِّكْتَها وقَتلتَ النّاكِثين بها ... بنَصْرِ مِنْ يملِكُ الدُّنيا وما فيها ) ( ما رُوعي الدِّينُ والدُّنيا على قَدَم ... بِمثْل هارون رَاعِيهِ وراعِيها ) قال فأمر له بألف دينار وقال لا ينشدني أحد بعده فقال أشجع والله لأمره بألا ينشده أحد بعدي أحب إلي من صلته حدثني أحمد بن وصيف ومحمد بن يحيى الصولي قالا حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثني عبد الله بن عمرو الوراق قال حدثني أحمد بن محمد بن منصور بن زياد عن أبيه قال دخل أشجع على الرشيد ثاني يوم الفطر فأنشده صوت ( استَقْبِل العيد بعُمْرٍ جَديد ... مَدَّت لك الأَيَّامُ حبْلَ الخُلود ) ( مُصَعِّداً في دَرَجاتِ العُلاَ ... نجْمُكَ مقرونٌ بِسَعْد السُّعود ) ( واطْوِ رداءَ الشَّمس ما أطلعَتْ ... نُوراً جديداً كلَّ يومٍ جَدِيد ) ( تَمضِي لك الأيامُ ذا غِبْطة ... إذا أتَى عِيدٌ طَوَى عُمرَ عِيد ) فوصله بعشرة آلاف درهم وأمر أن يغنى في هذه الأبيات أخبرني محمد بن جعفر النحوي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثني أبو عبد الله النخعي قال دخل أشجع على الرشيد فأنشده قوله ( أبَتْ طَبرِسْتانُ غيرَ الذِي ... صَدَعْتَ به بين أَعضائِها ) ( ضَمَمْتَ مَناكِبَها ضَمَّةً ... رمَتْك بما بين أحشائِها ) ( سَمَوْتَ إليها بمثْلِ السَّماء ... تدَلَّى الصَّواعِقُ في مائِها ) ( فلمَّا نظرتَ إلى جُرحِها ... وضَعْتَ الدَّواءَ على دَائِها ) ( فرَشْت الجهادَ ظُهورَ الجِياد ... بأبنائه وبأبنائها ) ( بنَفْسِك تَرمِيهمُ والخُيول ... كَرْمي العُقابِ بأَفْلائِها ) ( نظرتَ برأْيك لَمّا هممتَ ... دُونَ الرِّجال وآرائها ) قال فأمر له بألف دينار أخبرني محمد بن جعفر قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثني أبو عمرو الباهلي البصري قال دخل أشجع بن عمرو السلمي على هارون الرشيد حين قدم من الحج وقد مطر الناس يوم قدومه فأنشده يقول ( إنَّ يُمْنَ الإمام لَمَّا أتانا ... جَلَب الغَيْثَ من متونِ الغمامِ ) ( فابْتِسامُ النَّباتِ في أثر الغَيْثِ ... بنُوَّاره كسُرج الظَّلام ) ( مَلِكٌ من مَخافة الله مُغْضٍ ... وهو مُغضَّى له من الإعظام ) ( ألف الحَجَّ والجهادَ فما يَنْفَكُّ ... من سَفْرَتيْن في كُلّ عام ) ( سَفَرٍ للجهاد نحو عَدُوٍّ ... والمطايا لسَفْرَةِ الإحرام ) ( طَلَب اللهَ فهو يَسْعى إليه ... بالمَطايا وبالجِياد السَّوامِي ) ( فيَداهُ يَدٌ بمكَّة تدْعوهُ ... وأُخْرى في دَعْوةِ الإِسلام ) أخبرني محمد بن جعفر قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال أخبرني أبو عبد الله النخعي قال أمر الرشيد بحفر نهر لبعض أهل السواد وقد كان خرب وبطل ما عليه فقال أشجع السلمي يمدحه ( أجرَى الإمامُ الرَّشيدُ نَهْراً ... عاش بعُمرانِه المَواتُ ) ( جادَ عليه بِرِيقِ فيهِ ... وسِرّ مَكْنُونه الفُراتُ ) ( ألْقَمَه دَرَّة لَقُوحاً ... يَرْضَع أخْلافَهَا النَّباتُ ) أخبرني جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال رأى الرشيد فيما يرى النائم كأن امرأة وقفت عليه وأخذت كف تراب ثم قالت له هذه تربتك عن قليل فأصبح فزعا وقص رؤياه فقال له أصحابه وما هذا قد يرى الناس أكثر مما رأيت وأغلظ ثم لا يضر فركب وقال والله إني لأرى الأمر قد قرب فبينا هو يسير إذ نظر إلى امرأة واقفة من وراء شباك حديد تنظر إليه فقال هذه والله المرأة التي رأيتها ولو رأيتها بين ألف امرأة ما خفيت علي ثم أمرها أن تأخذ كف تراب فتدفعه إليه فضربت بيدها إلى الأرض التي كانت عليها فأعطته منها كف تراب فبكى ثم قال هذه والله التربة التي أريتها وهذه المرأة بعينها ثم مات بعد مدة فدفن في ذلك الموضع بعينه اشتري له ودفن فيه وأتى نعيه بغداد فقال أشجع يرثيه ( غَرَبت بالمَشْرِق الشَّمْسُ ... فقل للعين تَدْمَعْ ) ( ما رأينَا قَطُّ شمسًا ... غَرَبت من حَيْث تَطْلُعْ ) أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال كان حرب بن عمرو الثقفي نخاسا وكانت له جارية مغنية وكان الشعراء والكتاب وأهل الأدب ببغداد يختلفون إليها يسمعونها وينفقون في منزله النفقات الواسعة ويبرونه ويهدون إليه فقال أشجع ( جاريةٌ تهتَزُّ أردافُها ... مُشْبعةُ الخَلْخالِ والقُلْبِ ) ( أشكُو الذي لاقَيتُ من حُبِّها ... وبُغْضِ مَوْلاها إلى الرَّبِّ ) ( من بُغْض مولاها ومن حُبِّها ... سَقِمتُ بين البُغْض والحُبِّ ) ( فاْختَلَجا في الصدر حتى استَوى ... أمرُهما فاقْتَسَما قَلْبي ) ( تَعجَّل اللهُ شِفائي بها ... وعَجَّل السُّقْم إلى حَرْبِ ) قال مؤلف هذا الكتاب فأخذ هذا المعنى بعض المحدثين من أهل عصرنا فقال في مغنية تعرف بالشاة ( بِحُبّ الشِّاةِ ذُبْتُ ضَنًى ... وطال لزوجها مَقْتِي ) ( فلو أنِّي مَلَكْتُهُما ... لأَسْعِد في الهَوَى بَخْتِي ) ( فأُدْخِل في استها أيْرِي ... ولِحْيَة زَوْجها في اسْتِي ) أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثني صالح بن سليمان قال اعتل يحيى بن خالد ثم عوفي فدخل الناس يهنئونه بالسلامة ودخل أشجع فأنشد ( لقد قَرعتْ شَكاةُ أبي عَليٍّ ... قُلوبَ مَعاشِرٍ كانوا صحاحا ) ( فإن يَدْفَع لنا الرَّحمنُ عنه ... صُروفَ الدَّهْر والأجَل المُتاحَا ) ( فقد أمسى صَلاحُ أبي عَليٍّ ... لأهلِ الدِّينِ والدّنيا صَلاحَا ) ( إذا ما المَوْتُ أخطأَ فَلسنا ... نُبالِي الموتَ حيث غَدَا وَراحَا ) قال فما أذن يومئذ لأحد سواه في الإنشاد لاختصاص البرامكة إياه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا محمد بن عمران الضبي قال سمعت محمد بن أبي مالك الغنوي يقول دخل أشجع السلمي على علي بن شبرمة يعوده فأنشأ يقول ( إذا مَرِض القاضي مَرِضْنا بأسرنا ... وإن صَحَّ لم يُسمَع لنا بِمَريضِ ) ( فأصبحتُ - لما اعتَلَّ يوماً - كَطائرٍ ... سَما بجَناحٍ للنهوض مَهِيضِ ) قال فشكره ابن شبرمة وحمله على بغلة كانت له أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمران قال سمعت محمد بن أبي مالك يقول جاء أشجع ليدخل على أبان بن الوليد البجلي فمنعه حاجبه وانتهره غلمانه فقال فيه ( ألا أيُّها المُشْلِي عليّ كِلابَه ... وَلِي - غير أنْ لم أشْلِهنّ - كِلابُ ) ( رُويدَك لا تَعْجَلْ عليّ فقد جرى ... بخِزيك ظبيٌ أعْضبٌ وغُرابُ ) ( علام تَسُدّ البابَ والسِّرُّ قد فَشا ... وقد كنتَ مَحْجُوباً ومالك بابُ ) ( فلو كُنتُ مِمَّن يَشْرَبِ الخَمر سادِراً ... إذاً لم يَكُن دُوني عليك حِجابُ ) ( ولكنَّه يَمْضِي ليَ الحول كامِلاً ... ومالِيَ إلاّ الأبيَضيْن شَرابُ ) ( من الماء أو من شَخْبِ دَهْماء ثَرَةٍ ... لها حالبٌ لا يَشْتَكِي وحِلابُ ) أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثنا علي بن الجهم قال حدثني ابن أشجع السلمي قال لما مر أبي وعماي أحمد ويزيد - وقد شربوا حتى انتشوا - بقبر الوليد بن عقبة وإلى جانبه قبر أبي زبيد الطائي - وكان نصرانيا - والقبران مختلفان كل واحد منهما متجه إلى قبلة ملته وكان أبو زبيد أوصى لما احتضر أن يدفن إلى جنب الوليد بالبليخ قال فوقفوا على القبرين وجعلوا يتحدثون بأخبارهما ويتذاكرون أحاديثهما فأنشأ أبي يقول ( مَررتُ على عِظامِ أبي زَبِيدٍ ... وقد لاحَت ببَلْقَعَةٍ صَلُودِ ) ( وكان له الوَليدُ نديمَ صِدْقٍ ... فنادم قَبرهُ قَبْرَ الوَليدِ ) ( أَنِيسا أُلفَةٍ ذَهَبَتْ فأَمْسَتْ ... عظامُهُما تَآنس بالصَّعِيدِ ) ( وما أَدْرِي بمَنْ تبدا المَنايا ... بأَحْمَدَ أو بأَشْجَعَ أو يَزيدِ ) قال فماتوا والله كما رتبهم في الشعر أولهم أحمد ثم أشجع ثم يزيد صوت ( حيّ ذا الزَّوْرَ وانْهَه أن يَعودَا ... إنَّ بالباب حارِسينَ قُعودَا ) ( من أساويرَ ما يَنُون قِياماً ... وخلاخيل تُذِهل المَوْلُودا ) ( لا ذَعَرتُ السَّوامَ في فَلَق الصُّبْح ... مُغِيراً ولا دُعِيتُ يَزيدَا ) ( يوم أُعطِي مخافَة المَوْت ضَيْماً ... والمَنايا يَرْصُدْنَنِي أَنْ أَحِيدا ) الشعر ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري والغناء لسياط خفيف رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر أحمد بن المكي أنه لأبيه يحيى وذكر الهشامي أنه لفليح قال ومن هذا الصوت سرق لحن ( تِلْكَ عِرْسِي تلُومُني في التَّصابي ... ) أخبار ابن مفرغ ونسبه هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ ولقب جده مفرغا لأنه راهن على سقاء لبن أن يشربه كله فشربه كله حتى فرغه فلقب مفرغا ويكنى أبا عثمان وهو من حمير فيما يزعم أهله وذكر ابن الكلبي وأبو عبيدة أن مفرغا كان شعابا بتبالة فادعى أنه من حمير وقال علي بن محمد النوفلي ليس أحد بالبصرة من حمير إلا آل الحجاج بن ناب الحميري وبيتا آخر ذكره ودفع بيت ابن مفرغ أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال أخبرني أحمد بن الهيثم القرشي قال أخبرني العمري عن لقيط بن بكر المحاربي قال هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري حليف قريش ثم حليف آل خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس قال العمري وكان ابن المكي يقول كان مفرغ عبدا للضحاك بن عبد عوف الهلالي فأنعم عليه قال محمد بن خلف أخبرني محمد بن عبد الرحمن الأسدي عن محمد بن رزين قال قال الأخفش كان ربيعة بن مفرغ شعابا بالمدينة وكان يُنسب إلى حمير وإنما سمي مفرغا لتفريغه العس وكان شاعرا غزلا محسنا والسيد من ولده أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العيناء قال سئل الأصمعي عن شعر تبع وقصته ومن وضعهما فقال ابن مفرغ وذلك أن يزيد بن معاوية لما سيره إلى الشام وتخلصه من عباد بن زياد أنزله الجزيرة وكان مقيما برأس عين وزعم أنه من حمير ووضع سيرة تبع وأشعاره وكان النمر بن قاسط يدعي أنه منهم وقال الهيثم بن عدي هو يزيد بن زياد بن ربيعة بن مفرغ اليحصبي من حمير يحصب بن مالك بن زيد بن الغوث بن سعد بن عوف بن عدي بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن الهميسع بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان أخبرني بخبره جماعة من مشايخنا منهم أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة ومحمد بن خلف بن المرزبان عن جماعة من أصحابه وأحمد بن عبد العزيز الجوهري عن علي بن محمد النوفلي عن أبيه فما اتفقت رواياتهم من خبره جمعتها في ذكره وما اختلفت أفردت كل منفرد منهم بروايته ابن مفرغ وعباد بن زياد أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن مسلمة بن محارب وأخبرني الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال قرأت على محمد بن الحسن بن دريد عن ابن الأعرابي وأخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد ابن الهيثم قال حدثنا العمري عن لقيط بن بكير قالوا جميعا لما ولي سعيد بن عثمان بن عفان خراسان استصحب يزيد بن ربيعة ابن مفرغ واجتهد به أن يصحبه فأبى عليه وصحب عباد بن زياد فقال له سعيد بن عثمان أما إذ أبيت أن تصحبني وآثرت عبادا فاحفظ ما أوصيك به إن عبادا رجل لئيم فإياك والدالة عليه وإن دعاك إليها من نفسه فإنها خدعة منه لك عن نفسك وأقلل زيارته فإنه طرف ملول ولا تفاخره وإن فاخرك فإنه لا يحتمل لك ما كنت احتمله ثم دعا سعيد بمال فدفعه إلى ابن مفرغ وقال استعن به على سفرك فإن صلح لك مكانك من عباد وإلا فمكانك عندي ممهد فائتني ثم سار سعيد إلى خراسان وتخلف ابن مفرغ عنه وخرج مع عباد قال ابن دريد في خبره عن مسلمة بن محارب فلما بلغ عبيد الله بن زياد صحبه ابن مفرغ أخاه عبادا شق عليه فلما سار أخوه عباد شيعه وشيع الناس معه وجعلوا يودعونه ويودع الخارجون مع عباد عبيد الله بن زياد فلما أراد عبيد الله أن يودع أخاه دعا ابن مفرغ فقال له إنك سألت عبادا أن تصحبه وأجابك إلى ذلك وقد شق علي فقال له ابن مفرغ ولم أصلحك الله قال لأن الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من بعض لأنه يظن فيجعل الظن يقينا ولا يعذر في موضع العذر وإن عبادا يقدم على أرض حرب فيشتغل بحروبه وخراجه عنك فلا تعذره أنت وتكسبنا شرا وعارا فقال له لست كما ظن الأمير وإن لمعروفه عندي لشكرا كثيرا وإن عندي - إن أغفل أمري - عذرا ممهدا قال لا ولكن تضمن لي إن أبطأ عنك ما تحبه ألا تعجل عليه حتى تكتب إلي قال قال نعم قال امض إذا على الطائر الميمون قال فقدم عباد خراسان واشتغل بحربه وخراجه فاستبطأه ابن مفرغ ولم يكتب إلى عبيد الله بن زياد يشكوه كما ضمن له ولكنه بسط لسانه فذمه وهجاه وكان عباد عظيم اللحية كأنها جوالق فسار يزيد بن مفرغ يوما مع عباد فدخلت الريح فنفشتها فضحك ابن مفرغ وقال لرجل من لخم كان إلى جنبه قوله ( ألا لَيْتَ اللِّحَى كانَتْ حَشِيشاً ... فَنَعْلِفَها خِيولَ المُسْلِمينا ) فسعى به اللخمي إلى عباد فغضب من ذلك غضبا شديدا وقال لا يجمل بي عقوبته في هذه الساعة مع الصحبة لي وما أؤخرها إلا لأشفي نفسي منه لأنه كان يقوم فيشتم أبي في عدة مواطن وبلغ الخبر ابن مفرغ فقال إني لأجد ريح الموت من عباد ثم دخل عليه فقال له أيها الأمير إني كنت مع سعيد بن عثمان وقد بلغك رأيه في ورأيت جميل أثره علي وإني اخترتك عليه فلم أحظ منك بطائل وأريد أن تأذن لي في الرجوع فلا حاجة لي في صحبتك فقال له أما اختيارك إياي فإني اخترتك كما اخترتني واستصحبتك حين سألتني وقد أعجلتني عن بلوغ محبتي فيك وقد طلبت الإذن لترجع إلى قومك فتفضحني فيهم وأنت على الإذن قادر بعد أن أقضي حقك فأقام وبلغ عبادا أنه يسبه ويذكره وينال من عرضه وأجرى عباد الخيل فجاء سابقا فقال ابن مفرغ ( سَبَق عَبَّادٌ وصَلَّت لِحْيَتُه ... ) وطلب عليه العلل ودس إلى قوم كان لهم عليه دين فأمرهم أن يقدموه إليه ففعلوا فحبسه وأضر به فبعث إليه أن بعني الأراكة وبردا وكانت الأراكة قينة لابن مفرغ ويرد غلامه رباهما وكان شديد الضن بهما فبعث إليه ابن مفرغ مع الرسول أيبيع المرء نفسه أو ولده فأضر به عباد حتى أخذهما منه هذه رواية مسلمة وأما لقيط وعمر بن شبة فإنهما ذكرا أنه باعهما عليه فاشتراهما رجل من أهل خراسان قال لقيط فلما دخلا منزله قال له برد وكان داهية أريبا أتدري ما اشتريت قال نعم اشتريتك وهذه الجارية قال لا والله ما اشتريت إلا العار والدمار والفضيحة أبدا ما حييت فجزع الرجل وقال له كيف ذلك ويلك قال نحن ليزيد بن ربيعة بن مفرغ والله ما أصاره إلى هذه الحال إلا لسانه وشره أفتراه يهجو ابن زياد وهو أمير خراسان وأخوه أمير العراقين وعمه الخليفة في أن استبطأه ويمسك عنك وقد ابتعتني وابتعت هذه الجارية وهي نفسه التي بين جنبيه والله ما أرى أحدا أدخل بيته أشأم على نفسه وأهله مما أدخلته منزلك فقال فاشهد أنك وإياها له فإن شئتما أن تمضيا إليه فامضيا على أني أخاف على نفسي إن بلغ ذلك ابن زياد وإن شئتما أن تكونا له عندي فافعلا قال فاكتب إليه بذلك فكتب الرجل إلى ابن مفرغ في الحبس بما فعله فكتب إليه يشكر فعله وسأله أن يكونا عنده حتى يفرج الله عنه قال وقال عباد لحاجبه ما أرى هذا يعني ابن مفرغ يبالي بالمقام في الحبس فبع فرسه وسلاحه وأثاثه واقسم ثمنها بين غرمائه ففعل ذلك وقسم الثمن بينهم وبقيت عليه بقية حبسه بها فقال ابن مفرغ يذكر غلامه بردا وجاريته الأراكة وبيعهما ( َشريتَ بُرداً ولو مُلِّكت صَفْقَته ... لَمَا تطلَّبت في بَيْع له رَشَدَا ) ( لولا الدَّعِيُّ ولولا ما تَعرَّض لي ... من الحوادث ما فارقتُه أبَدَا ) ( يا بُردُ ما مَسَّنَا بَرْدٌ أضرَّ بنا ... من قَبْل هذا ولا بِعْنا له وَلَدا ) ( أمّا الأراكُ فكانَتْ من مَحارِمِنا ... عَيْشاً لَذِيذاً وكانت جَنَّةً رَغَدا ) ( كانت لنا جَنَّةً كُنَّا نَعِيشُ بها ... نفنى بها إن خَشينَا الأَزْل والنَّكَدا ) ( يا لَيْتَني قبل ما نابَ الزَّمانُ به ... أهلي لقيت على عُدْوانِه الأَسَدا ) ( قد خَانَنا زَمَن لم نَخْشَ عَثْرَته ... مَنْ يأْمَن اليومَ أم مَنْ ذا يَعِيشُ غَدا ) ( لامَتْنِيَ النَّفْسُ في بُرْد فقلت لها ... لا تَهْلَكِي إثْرَ بُرْدٍ هَكَذا كَمَدا ) ( كَمْ من نَعِيمٍ أصبْنا من لذاذَتِه ... قُلْنا له إذ تولَّى ليتَه خَلَدَا ) هربه إلى البصرة قالوا وعلم ابن مفرغ أنه أقام على ذم عباد وهجائه وهو في محبسه زاد نفسه شرا فكان يقول للناس إذا سألوه عن حبسه ما سببه رجل أدبه أمير ليقوم من أوده أو يكف من غربه وهذا العمري خير من جر الأمير ذيله على مداهنة لصاحبه فلما بلغ عبادا قوله رق له وأخرجه من السجن فهرب حتى أتى البصرة ثم خرج منها إلى الشام وجعل ينتقل في مدنها هاربا ويهجو زيادا وولده وقال المدائني في خبره لما بلغ عباد بن زياد أن ابن المفرغ قال ( سَبَق عَبَّاد وصَلَّت لِحْيَتُه ... ) دعا ابنه والمجلس حافل فقال له له أنشدني هجاء أبيك الذي هجي به فقال أيها الأمير ما كلف أحد قط ما كلفتني فأمر غلاما له أعجميا وقال له قم على رأسه فإن أنشد ما أمرته به وإلا فصب السوط على رأسه أبدا أو ينشده فأنشده أبياتا هجي بها أبوه أولها ( قَبَحَ الأِلهُ ولا يُقبِّح غيره ... وَجْهَ الحمار رَبِيعةَ بن مُفرِّغ ) وجعل عباد يتضاحك به فخرج ابن ابن مفرغ من عنده وهو يقول والله لا يذهب شتم شيخي باطلا وقال يهجوه بقوله ( أَصَرَمْتَ حبلك من أُمامَهْ ... من بعد أيَّام بِراَمْه ) ( فالرِّيحُ تَبكِي شَجْوَها ... والبرقُ يَضْحَكُ في الغَمامَهْ ) ( لَهَفي على الأمْرِ الذِي ... كانت عواقِبُه نَدَامَهْ ) ( تَرْكِي سَعِيداً ذَا النَّدى ... والبَيْت تَرْفَعُه الدِّعامَهْ ) ( فُتِحَتْ سَمَرْقَنْدٌ له ... وبَنَى بعَرْصَتِها خِيامَهْ ) ( وتَبِعْتُ عَبْدَ بَنِي عِلاجٍ ... تِلك أشراطُ القِيامَهْ ) ( جاءَت به حَبَشِيّةٌ ... سَكَّاءُ تحسَبُها نَعامَهْ ) ( وشَرَيْتَ بُرداً لَيْتَنِي ... من بَعْد بُرد كُنتُ هامَهْ ) ( أو بُومَةً تدعُو صَدىً ... بين المُشَقَّر واليمَامَهْ ) ( فالهول يَركَبُه الفَتَى ... حَذَرَ المَخازِي والسَّآمَهْ ) ( والعَبْدُ يُقْرَعُ بالعَصَا ... والحُرُّ تَكْفِيه المَلامَهْ ) قال ثم لج في هجاء بني زياد حتى تغنى أهل البصرة في أشعاره فطلبه عبيد الله طلبا شديدا حتى كاد يؤخذ فلحق بالشام واختلفت الرواة فيمن رده إلى ابن زياد فقال بعضهم معاوية وقال بعضهم يزيد والصحيح أنه يزيد لأن عباد بن زياد إنما ولي سجستان في أيام يزيد وقال بعضهم بل الذي ولاه معاوية وهو الذي ولى سعيد بن عثمان خراسان أخبرني محمد بن العباس اليزيدي وعبيد الله بن محمد الرازي قالا حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال دخل سعيد بن عثمان على معاوية بن أبي سفيان فقال علام جعلت يزيد ولي عهدك دوني فوالله لأبي خير من أبيه وأمي خير من أمه وأنا خير منه وقد وليناك فما عزلناك وبنا نلت ما نلت فقال له معاوية أما قولك إن أباك خير من أبيه فقد صدقت لعمر الله إن عثمان لخير مني وأما قولك إن أمك خير من أمه فحسب المرأة أن تكون في بيت قومها وأن يرضاها بعلها وأن ينجب ولدها وأما قولك إنك خير من يزيد فوالله يا بني ما يسرني أن لي بيزيد ملء الغوطة مثلك وأما قولك إنكم وليتموني فما عزلتموني فما وليتموني وإنما ولاني من هو خير منكم عمر فأقررتموني وما كنت بئس الوالي لكم لقد قمت بثأركم وقتلت قتلة أبيكم وجعلت الأمر فيكم وأغنيت فقيركم ورفعت الوضيع منكم فكلمه يزيد في أمره فولاه خراسان رجع الحديث إلى سياقة أخبار ابن مفرغ هجاؤه بني زياد قالوا فلم يزل ينتقل في قرى الشام ونواحيها ويهجو بني زياد وأشعاره فيهم ترد البصرة وتنتشر وتبلغهم فكتب عبيد الله بن زياد إلى معاوية وقال الآخرون إنه كتب إلى يزيد وهو الصحيح يقول له إن ابن مفرغ هجا زيادا وبني زياد بما هتكه في قبره وفضح بنيه طول الدهر وتعدى ذلك إلى أبي سفيان فقذفه بالزنا وسب ولده فهرب من خراسان إلى البصرة وطلبته حتى لفظته الأرض فلجأ إلى الشام يتمضغ لحومنا بها ويهتك أعراضنا وقد بعثت إليك بما هجانا به لتنتصف لنا منه ثم بعث بجميع ما قاله ابن مفرغ فيهم فأمر يزيد بطلبه فجعل ينتقل من بلد إلى بلد فإذا شاع خبره انتقل حتى لفظته الشام فأتى البصرة ونزل على الأحنف بن قيس فالتجأ به واستجار فقال له الأحنف إني لا أجير على ابن سمية فأعزل وإنما يجير الرجل على عشيرته فأما على سلطانه فلا فإن شئت أجرتك من بني سعد وشعرائهم فلا يريبك أحد منهم فقال له ابن مفرغ بأستاه بني سعد وما عساهم أن يقولوا في هذا ما لا حاجة لي فيه ثم أتى خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فاستجار به فأبى أن يجيره فأتى عمر بن عبيد الله بن معمر فوعده وأتى طلحة الطلحات فوعده وأتى المنذر بن الجارود العبدي فأجاره وكانت بحرية بنت المنذر تحت عبيد الله وكان المنذر من أكرم الناس عليه فاغتر بذلك وأدل بموضعه منه وطلبه عبيد الله وقد بلغه وروده البصرة فقيل له أجاره المنذر بن الجارود فبعث عبيد الله إلى المنذر فأتاه فلما دخل عليه بعث عبيد الله بالشرط فكبسوا داره وأتوه بابن مفرغ فلم يشعر المنذر إلا بابن مفرغ قد أقيم على رأسه فقام المنذر إلى عبيد الله فكلمه فيه فقال أذكرك الله - أيها الأمير - أن تخفر جواري فإني قد أجرته فقال عبيد الله يا منذر ليمدحن أباك وليمدحنك ولقد هجاني وهجا أبي ثم تجيره علي لا ها الله لا يكون ذلك أبدا ولا أغفرها له فغضب بتطليق البتة فخرج المنذر من عنده وأقبل عبيد الله على ابن مفرغ فقال له بئسما صحبت به عبادا قال بئسما صحبني به عباد اخترته على سعيد وأنفقت على صحبته كل ما أفدته وكل ما أملكه وظننت أنه لا يخلو من عقل زياد وحلم معاوية وسماحة قريش فعدل عن ظني كله ثم عاملني بكل قبيح وتناولني بكل مكروه من حبس وغرم وشتم وضرب فكنت كمن شام برقا خلبا في سحاب جهام فأراق ماءه طمعا فيه فمات عطشا وما هربت من أخيك إلا لما خفت من أن يجري في إلى ما يندم عليه وقد صرت الآن في يدك فشأنك فاصنع بي ما أحببت فأمر بحبسه وكتب إلى يزيد بن معاوية يسأله أن يأذن له في قتله فكتب إليه إياك وقتله ولكن عاقبة بما ينكله ويشد سلطانك ولا تبلغ نفسه فإن له عشيرة هي جندي وبطانتي ولا ترضى بقتله مني ولا تقنع إلا بالقود منك فاحذر ذلك واعلم أنه الجد منهم ومني وأنك مرتهن بنفسه ولك في دون تلفها مندوحة تشفي من الغيظ فورد الكتاب على عبيد الله بن زياد فأمر بابن مفرغ فسقي نبيذا حلوا قد خلط معه الشبرم فأسهل بطنه وطيف به وهو في تلك الحال وقرن بهرة وخنزيرة فجعل يسلح والصبيان يتبعونه ويقولون له بالفارسية أين جيست فيقول آبست نبيذ است عصارات زبيبست سمية روسبيد است وجعل كلما جر الخنزيرة ضجت فجعل يقول ( ضَجّتْ سُميّة لما لزّها قَرني ... لا تَجزَعي إنَّ شَرَّ الشّيمة الجزَعُ ) فجعل يطاف به في أسواق البصرة والصبيان خلفه يصيحون به وألح عليه ما يخرج منه حتى أضعفه فسقط فعرف ابن زياد ذلك فقيل إنه لما به لا نأمن أن يموت فأمر به أن يغسل ففعلوا ذلك به فلما اغتسل قال ( يَغسل الماءُ ما فعلتَ وقَوْلِي ... راسخٌ منك في العِظام البَوالي ) عبيد الله يرده إلى الحبس فرده عبيد الله إلى الحبس وأمره بأن يسلم محجما وقدموا له علوجا وأمر بأن يحجمهم فكان يأخذ المشارط فيقطع بها رقابهم فيتوارون منه فتركه ورده إلى محبسه وقامت الشرط على رأسه تصب عليه السياط ويقولون له احجمهم فقال ( وما كنتُ حجَّاماً ولكن أحلّني ... بمنزلةِ الحجَّام نأْيِي عن الأهل ) وقال عمر بن شبة في خبره جمع عباد بن زياد كل شيء هجاه به ابن مفرغ وكتب به إلى أخيه عبيد الله وهو يومئذ وافد على معاوية فكان فيما كتب إليه قوله ( إذا أَوْدَى مُعَاويةُ بنُ حربٍ ... فبشِّرْ شَعْب قعْبك بانِصِداعِ ) ( فأشْهدُ أن أمّك لم تباشر ... أبا سُفيان واضعةَ القِنَاعِ ) ( ولكن كان أمرٌ فيهِ لَبْس ... على وَجَل شديدٍ وامتناع ) وقوله ( أَلا أبلغْ مُعاويةَ بنَ حَرْبٍ ... مُغلْغَلةً مِن الرّجل اليَمانِي ) ( أتغضبُ أنْ يُقال أبوك عَفٌّ ... وتَرْضى أنْ يُقال أبُوك زَانِي ) ( فأشهدُ أنَّ رِحْمَكَ مِن زيادٍ ... كرِحْمِ الفيل من ولَدِ الأتانِ ) ( وأشهدُ أنها ولدت زياداً ... وصخرٌ من سُمَيَّةَ غيرُ دَانِي ) فدخل عبيد الله بن زياد على معاوية فأنشده هذه الأشعار واستأذنه في قتله فلم يأذن له وقال أدبه أدبا وجيعا منكلا ولا تتجاوز ذلك إلى القتل وذكر باقي الحديث كما ذكره من تقدم قالوا جميعا وقال ابن مفرغ يذكر جوار المنذر بن الجارود إياه وأمانه ( تركتُ قُريْشاً أن أجاوِر فيهمُ ... وجاورتُ عَبْدَ القَيْس أهل المُشَقَّرِ ) ( أُناسٌ أجارونا فكان جِوارُهم ... أعاصِيرَ من قَسْو العِراق المُبَذَّرِ ) ( فأصبح جارِي من خُزَيْمَةَ قائماً ... ولا يمنع الجِيرانَ غَيْرُ المُشَمَّرِ ) وقال أيضا في ذلك ( أصبحتُ لا من بَنِي قَيْس فتَنْصُرنِي ... قيسُ العِراق ولم تغْضَب لنا مُضَرُ ) ( ولم تَكَلَّمْ قُريشٌ في حَلِيفِهمُ ... إذ غَابَ ناصِرُه بالشَّام واحتَضَرُوا ) ( والله يعلم ما تُخْفِي النُّفوس وما ... سَرَّى أُمَيَّةُ أو ما قال لي عُمَرُ ) ( وقال لي خالِدٌ قولاً قَنِعْتُ به ... لو كنت أعلم أنَّى يَطْلع القَمَرُ ) ( لو أَننِي شَهِدَتْنِي حِمْيَرٌ غضِبَتْ ... دُونِي فكان لهم فيما رَأَوْا عِبَرُ ) ( أو كُنتُ جَارَ بَنِي هِنْدٍ تَداركني ... عوفُ بنُ نُعْمان أو عِمْرانُ أو مَطَرُ ) وقال أيضا يذكر ذلك وما فعل به ابن زياد ( دَارَ سَلْمى بالخَبْت ذِي الأَطْلالِ ... كيف نَومُ الأسير في الأغلالِ ) ( أَينَ مِنِّي السَّلامُ من بَعْد نَأْيٍ ... فارْجعِي لي تَحِيَّتي وسُؤالِي ) ِ ( أَينَ مَنِّي نَجائبي وجِيادِي ... وغَزالِي سَقَى الإِلهُ غَزالِي ) ( أينَ لا أينَ جُنَّتِي وسِلاحي ... ومَطايا سَيَّرْتُها لارْتِحالي ) ( هدمَ الدَّهْر عَرْشَنا فتَداعَى ... فبَلِينا إذ كُلُّ عَيْش بالِي ) ( إذ دعانا زَوالُه فأجَبْنَا ... كُلُّ دُنْيا ونِعْمةٍ لِزَوَالِ ) ( أم قَضَيْنا حاجاتنا فإلى المَوْتِ ... مَصِيرُ المُلوكِ والأَقْيَالِ ) ( لا وصَوْمِي لِرَبِّنا وزَكاتِي ... وصَلاتِي أدعُو بها وابْتِهالِي ) ( ما أتيتُ الغداةَ أمراً دَنِيّاً ... ولَدَى الله كابرُ الأعمالِ ) ( أيُّها المالك المُرهِّب بالقَتْل ... بَلَغْتَ النَّكال كُلَّ النّكال ) ( فاخشَ ناراً تَشْوِي الوُجوهَ ويَوْماً ... يَقْذِفُ الناسَ بالدَّواهِي الثِّقالِ ) ( قد تعدَّيْتَ في القصاص وأَدْرَكْتَ ... ذُحولاً لمَعْشَر أَقْتالِ ) ( وكَسَرْتَ السِّنَّ الصَّحِيحةَ مِنّي ... لا تُذِلَّنْ فمُنْكَرٌ إذْلالِي ) ( وقَرَنْتُم مع الخَنازير هِرّاً ... ويَميني مَغْلوُلة وشِمالِي ) ( وكلاباً يَنْهَشْنَنِي من وَرائِي ... عَجِبَ النَّاسُ ما لهُنَّ ومَالِي ) ( وأَطَلْتم مع العُقُوبة سِجْناً ... فكَم السّجْن أو مَتَى إرْسالِي ) ( يَغسلُ الماءُ ما صَنَعْتَ وقَولِي ... راسخٌ مِنك في العِظام البَوالي ) ( لو قبلتَ الفِدَاءَ أو رُمْتَ مالي ... قُلتُ خُذْه فِداء نَفْسِيَ مالي ) ( لو بِغَيْرِي من مَعْشَرِي لَعِب الدَّهْر ... لما ذَمَّ نُصرَتي واحتِيالي ) ( كم بَكانِي من صاحِبٍ وخَلِيل ... حافِظِ الغَيْب حامِدٍ للخِصالِ ) ( ليتَ أَنِّي كُنتُ الحَلِيفَ للَخْم ... وجُذامٍ أو طيِّىء الأجمال ) ( بَدَلاً من عِصابَة من قُرَيْش ... أسلَمُونِي للخَصْم عند النِّضالِ ) ( البَهالِيلُ من بني عَبْد شَمْس ... فَضَلُوا النّاسَ بالعُلاَ والفِعالِ ) ( وبَنو التَّيْم تَيْمِ مُرَّة لَمَّا ... لَمَع المَوتُ في ظِلالِ العَوالِي ) ( مَنَعُوا البَيْتَ بَيْتَ مَكَّةَ ذا الحِجْر ... إذِ الطَّيْرُ عُكَّفٌ في الظِّلالِ ) ( والبَهالِيلُ خالِدٌ وسَعيدٌ ... شَمْسُ دَجْنٍ وَوُضَّحٌ كالهِلالِ ) ( في الأروماتِ والذُّرَى من بَنِي العِيص ... قُرومٌ إذا تُعَدُّ المَعالِي ) ( كُنتُ منهم ما حَرَّموا فحَرَامٌ ... لم يُرامُوا وحِلُّهُم من حَلال ) ( وذوو المجد من خزاعة كانوا ... أهل ودي في الخصب والأمحال ) ( خذلوني وهم لذاك دعوني ... ليس حامي الذمار بالخذّال ) ( لا تَدَعْنِي فِداك أهلِي ومالِي ... إنَّ حَبْلَيْكَ من مَتِينِ الحِبالِ ) ( حَسْرَتا إذ أطَعْتُ أَمْرَ غُواتِي ... وعَصَيْتُ النَّصِيحَ ضَلَّ ضَلالِي ) يهجو عبادا ويذكر سعيد بن عثمان وقال يهجو عباد بن زياد ويذكر سعيد بن عثمان ( أيُّها الشاتمِ جَهْلاً سَعِيداً ... وسَعِيدٌ في الحَوادِثِ نَابُ ) ( ما أبوكم مُشبِهاً لأبيه ... فاسألوا الناسَ بذاكم تُجابُوا ) ( سادَ عَبّادٌ ومُلِّكَ جَيْشاً ... سَبَّحت من ذاكَ صُمٌّ صِلاَبُ ) ( إنّ عاماً صِرْتَ فيه أميراً ... تَمْلِكُ النّاسَ لَعامٌ عُجابُ ) قال واتصل هجاؤه زيادا وولده وهو في الحبس فرده عبيد الله إلى أخيه عباد بسجستان ووكل به رجالا ووجههم معه وكان لما هرب من عباد يهجوه ويكتب كل ما هجاه به على حيطان الخانات وأمر عبيد الله الموكلين به أن يأخذوه بمحو ما كتبه على الحيطان بأظافيره وأمرهم ألا يتركوه يصلي إلا إلى قبلة النصارى إلى المشرق فكانوا إذا دخلوا بعض الخانات التي نزلها فرأوا فيها شيئا مما كتبه من الهجاء أخذوه بأن يمحوه بأظافره فكان يفعل ذلك ويحكه حتى ذهبت أظافره فكان يمحوه بعظام أصابعه ودمه حتى سلموه إلى عباد فحبسه وضيق عليه قال عمر بن شبة في خبره فقال ابن مفرغ ( سَرَتْ تحت أقطاع من اللَّيلِ زَينَبُ ... سلامٌ عليكم هَلْ لما فاتَ مَطْلَبُ ) ويروى ( ألاَ طَرقْتنا آخرَ اللَّيل زَيْنَبُ ... ) ( أصابَ عَذابِي اللونَ فاللَّونُ شاحِبٌ ... كما الرأسُ من هَوْل المنيّة أشيبُ ) ( قُرنتُ بخِنْزِير وهِرٍّ وكلْبةٍ ... زماناً وشَانَ الجلدَ ضربٌ مُشدِّبُ ) ( وجُرِّعتُها صَهباءَ من غير لَذَّة ... تُصعِّد في الجُثمان ثم تُصوَّبُ ) ( وأُطعِمْت ما إن لا يَحِلّ لآكلٍ ... وصَلَّيْتُ شَرْقاً بَيتُ مكَّة مَغرِبُ ) ( من الطَّفِّ مجَنوناً إلى أرضِ كابُلٍ ... فمَلُّوا وما مَلَّ الأسيرُ المُعذَّبُ ) ( فلو أنَّ لَحْمِي إذ هَوَى لَعِبَتْ به ... كِرامُ المُلوكِ أو أُسودٌ وأَذْؤُبُ ) ( لَهوَّن وَجْدِي أو لزَادت بَصِيرَتِي ... ولكنما أَوْدَتْ بلَحْمِيَ أكْلُبُ ) ( أَعبَّادُ ما لِلُّؤْمِ عنك مُحوَّلٌ ... ولا لَك أُمٌّ في قُريْش ولا أبُ ) ( سيَنْصُرني مَنْ ليس تَنْفَع عِنْده ... رُقاكَ وقَرْمٌ من أُميَّة مُصْعَبُ ) ( وقل لعُبَيْد الله مالَكَ والِدٌ ... بَحقٍّ ولا يَدرِي امرؤٌ كيف تُنْسَبُ ) في أول هذا الشعر غناء نسبته صوت ( ألا طرَقَتْنا آخرَ اللَّيلِ زينَبُ ... سلامٌ عليكم هَلْ لِما فات مَطْلَبُ ) ( وقالت تَجَنَّبْنا ولا تَقْربَنَّنَا ... فكَيْفَ وأنتُم حاجَتِي أتجَنَّبُ ) الغناء لسياط ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي وقالوا جميعا فلما طال مقام ابن مفرغ في السجن استأجر رسولا إلى دمشق وقال له إذا كان يوم الجمعة فقف على درج جامع دمشق ثم اقرأ هذين البيتين بأرفع ما يمكنك من صوتك وكتبهما في رقعة وهما ( أبلِغْ لديك بني قَحْطان قاطِبةً ... عَضَّت بأيْر أبيها سادةُ اليَمَنِ ) ( أضحَى دَعِيُّ زِيادٍ فَقْعَ قَرْقَرَةٍ ... - يا لَلْعجائب - يلهو بابن ذِي يَزَنِ ) ففعل الرسول ما أمره به فحميت اليمانية وغضبوا له ودخلوا على معاوية فسألوه فيه فدفعهم عنه فقاموا غضابا وعرف معاوية ذلك في وجوههم فردهم ووهبه لهم ووجه رجلا من بني أسد يقال له خمخام ويقال جهنام بريدا إلى عباد وكتب له عهدا وأمره بأن يبدأ بالحبس فيخرج ابن مفرغ منه ويطلقه قبل أن يعلم عباد فيم قدم فيغتاله ففعل ذلك به فلما خرج من الحبس قربت إليه بغلة من بغال البريد فركبها فلما استوى على ظهرها قال ( عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليكِ إمارةٌ ... نجوتِ وهذا تَحْمِلينَ طَلِيقُ ) ( فإن الَّذي نَجَّى من الكَرْب بَعدَما ... تَلاحَمَ في دَرْبٍ عليكِ مضيقُ ) ( أتاك بخَمْخامٍ فأَنْجاك فالْحقي ... بأَهْلِك لا تُحبَسْ عليكِ طَريقُ ) ( لعمْري لقد أنجاك من هُوَّةِ الرَّدَى ... إمامٌ وحَبلٌ للأنام وَثِيقُ ) ( سأشكُر ما أوليتَ من حُسْن نِعمة ... ومِثْلي بشُكْر المُنْعِمين حَقِيقُ ) معاوية يعفو عنه قال عمر بن شبة في خبره ووافقه لقيط بن بكير فلما أدخل على معاوية بكى وقال ركب مني ما لم يركب من مسلم قط على غير حدث في الإسلام ولا خلع يد من طاعة ولا جرم فقال ألست القائل ( أَلا أبلِغْ مُعاويةَ بنَ حَرْبٍ ... مُغلْغَلةً مِن الرّجل اليَمانيِ ) ( أتغضَب أنْ يُقال أبوك عَفٌّ ... وتَرْضى أنْ يُقال أبُوكَ زانِ ) ( فأشهدُ أنَّ رِحْمَكَ مِن زيادٍ ... كرِحْمِ الفيل من ولَدِ الأتانِ ) ( وأشهدُ أنها ولدت زياداً ... وصخرٌ من سُمَيَّةَ غيرُ دَانِ ) فقال لا والذي عظم حقك يا أمير المؤمنين ما قلته ولقد بلغني أن عبد الرحمن بن الحكم قاله ونسبه إلي قال أفلم تقل ( شْهدتُ بأنَّ أمّك لم تباشر ... أبا سُفيان واضعةَ القِنَاعِ ) ( ولكن كان أمرٌ فيهِ لَبْسٌ ... على وَجَلٍ شديدٍ وارتِياع ) أولست القائل ( إنَّ زِياداً ونافِعاً وأبَا ... بَكْرةَ عِنْدِي من أعْجَب العَجب ) ( إنّ رِجالاً ثَلاثَةً خُلِقُوا ... في رَحْمِ أُنْثَى ما كُلهم لأبِ ) ( ذا قُرَشِيٌّ كما يَقُولُ وذا ... مَوْلىً وهذا بزَعمه عَرَبي ) في أشعار كثيرة قلتها في هجاء زياد وبنيه اذهب فقد عفوت عن جرمك ولو إيانا تعامل لم يكن شيء مما كان فاسكن أي أرض شئت فاختار الموصل فنزلها ثم ارتاح إلى البصرة فقدمها فدخل على عبيد الله ابن زياد واعتذر إليه وسأله الصفح والأمان فأمنه وأقام بها مدة ثم دخل عليه بعد أن أمنه فقال أصلح الله الأمير إني قد ظننت أن نفسك لا تطيب لي بخير أبدا ولي أعداء لا آمن سعيهم علي بالباطل وقد رأيت أن أتباعد فقال له إلى أين شئت فقال كرمان فكتب له إلى شريك بن الأعور وهو عليها بجائزة وقطيعة وكسوة فشخص فأقام بها حتى هرب عبيد الله من البصرة فعاد إليها هذه رواية عمر بن شبة وقال محمد بن خلف في روايته عن أحمد بن الهيثم عن المدائني وعن العمري عن لقيط أن ابن مفرغ لما طال حبسه وبلاؤه ركب طلحة الطلحات إلى الحجاز ولقي قريشا - وكان ابن مفرغ حليفا لبني أمية - فقال لهم طلحة يا معشر قريش إن أخاكم وحليفكم ابن مفرغ قد ابتلي بهذه الأعبد من بني زياد وهو عديدكم وحليفكم ورجل منكم ووالله ما أحب أن يجري الله عافيته على يدي دونكم ولا أفوز بالمكرمة في أمره وتخلوا منها فانهضوا معي بجماعتكم إلى يزيد بن معاوية فإن أهل اليمن قد تحركوا بالشام فركب خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد وأمية بن عبد الله أخوه وعمر بن عبيد الله بن معمر ووجوه من خزاعة وكنانة وخرجوا إلى يزيد فبينا هم يسيرون ذات ليلة إذ سمعوا راكبا يتغنى في سواد الليل بقول ابن مفرغ ويقول ( إنَّ تركِي نَدَى سَعِيدِ بن عُثمانَ ... بن عفَّانَ ناصِري وعدِيدِي ) ( واتِّباعي أخَا الضَّرَاعةِ واللُّؤم ... لنقصٌ وفَوتُ شَأوٍ بَعيدِ ) ( قلتُ واللَّيلُ مُطبِقٌ بعُراه ... ليتَني مِتُّ قبل تركِ سِعيدِ ) ( ليتني مِتُّ قبل تَرْكي أخا النَّجْدة ... والحَزْم والفَعالِ الَّسديدِ ) ( عَبْشميٌّ أبُوه عبدُ مَنافٍ ... فازَ منها بتاجها المَعقُودِ ) ( ثُمّ جُودٌ لو قِيلَ هل من مَزيدٍ ... قلتُ للسائلين ما من مَزيدِ ) ( قُلْ لقَوْمي لَدَى الأباطح مِنْ آل ... لُؤَيِّ بنِ غالبٍ ذِي الجُودِ ) ( سامَني بعدَكم دَعِيُّ زيادٍ ... خُطَّةَ الغادر اللئيم الزَّهيد ) ( كانَ ما كانَ في الأراكة واجتَبَّ ... ببُرْدٍ سَنامَ عِيسِي وجِيدِي ) ( أوْغلَ العَبدُ في العُقوبة والشَّتْم ... وأوْدَى بطارِفي وتليدِي ) ( فارحلوا في حليفكم وأخيكم ... نحوَ غوْث المُسْتَصْرِخِين يزيدِ ) ( فاطلبوا النَّصفَ من دَعيِّ زيادٍ ... وسلوني بما ادّعيْتُ شهُودِي ) قال فدعا القوم بالراكب فقالوا له ما هذا الذي سمعناه منك تغني به فقال هذا قول رجل والله إن أمره لعجب رجل ضائع بين قريش واليمن وهو رجل الناس قالوا ومن هو قال ابن مفرغ قالوا والله ما رحلنا إلا فيه وانتسبوا له فضحك وقال أفلا أسمعكم من قوله أيضا قالوا بلى فأنشدهم قوله ( لَعمْرِيَ لو كان الأسيرُ ابنَ مَعْمرٍ ... وصاحبَه أو شِكلَه ابنَ أسِيدِ ) ( ولو أنَّهم نالوا أُميَّة أَرقَلَتْ ... براكبها الوَجناءُ نحو يزيدِ ) ( فأبلغتُ عذراً في لؤيِّ بنِ غالبٍ ... وأتلفتُ فيهم طارفي وتَليدي ) ( فإن لم يُغيِّرْها الإمامُ بحقِّها ... عَدلتُ إلى شُمٍّ شَوامخَ صِيدِ ) ( فناديتُ فيهم دعوةً يَمنيَّةً ... كما كان آبائِي دَعَوْا وَجُدُودِي ) ( ودافعتُ حتىَّ أبلغ الجهدَ عنهمُ ... دِفاعَ امرىءٍ في الخير غير زَهيدِ ) ( فإن لم تكُونوا عند ظَنِّي بِنَصْركم ... فليس لها غَيْرُ الأغَرِّ سَعيدِ ) ( بِنَفسي وأَهلي ذَاك حَيّاً وَميِّتاً ... نُضارٌ وُعودُ المرء أكرمُ عُودِ ) ( فَكم من مُقامٍ في قريش كفَيته ... ويومٍ يُشِيبُ الكاعِبات شَديدِ ) ( وخَصْمٍ تحاماه لُؤيُّ بنُ غالِبٍ ... شَببتُ له ناري فهاب وَقُودِي ) ( وخيرٍ كثيرٍ قد أفأتُ عليكُم ... وأنتم رُقودٌ أو شَبِيهُ رُقودِ ) قال فاسترجع القوم لقوله وقالوا والله لا نغسل رؤوسنا في العرب إن لم نغسلها بفكه فأغذ القوم السير حتى قدموا الشام وفد اليمانية إلى يزيد بن معاوية وبعث ابن مفرغ رجلا من بني الحارث بن كعب فقام على سور حمص فنادى بأعلى صوته الحصين بن نمير - وكان والي حمص - بهذه الأبيات وكان عظيم الجبهة ( أبلِغْ لدَيك بني قَحْطان قاطبةً ... عَضَّتْ بأيْر أبيها سادةُ اليَمَنِ ) ( أمسى دَعِيُّ زِيادٍ فَقْعَ قَرْقَرَةٍ ... - يا لَلْعجائب - يلهو بابن ذِي يَزَنِ ) ( والحِميريُّ طريحٌ وسط مَزْبلةٍ ... هذا لعَمرُكمُ غَبنٌ من الغَبنِ ) ( ولأجبَهُ ابنُ نُمير فوق مَفْرشه ... يدنُو إلى أحْوَر العَيْنَيْن ذي غُنَنِ ) ( قُوموا فقُولُوا أميرَ المؤمنين لنا ... حَقٌّ عليك ومَنٌّ ليس كالمِنَن ) ( فاكفُف دَعِيَّ زِيادٍ عن أكارمنا ... ماذا يُريدُ على الأحقادِ والإحَنِ ) فاجتمعت اليمانية إلى حصين فعيروه بما قاله ابن مفرغ فقال الحصين ليس لي رأي دون يزيد بن أسد ومخرمة بن شرحبيل فأرسل إليهما فاجتمعوا في منزل الحصين فقال لهما الحصين اسمعا ما أهدى إلي شاعركم وقاله لكم في أخيكم - يعني نفسه - وأنشدهم فقال يزيد بن أسد قد جئتكم بأعظم من هذا وهو قوله ( وما كنتُ حجَّاماً ولكِنْ أحلَّنِي ... بِمنزِلةِ الحَجَّامِ نَأْيي عن الأَصلِ ) فقال الحصين والله لقد أساء إلينا أمير المؤمنين في صاحبنا مرتين إحداهما أنه هرب إليه فلم يجره وأخرى أنه أمر بعذابه غير مراقب لنا فيه وقال يزيد بن أسد إني لأظن أن طاعتنا ستفسد ويمحوها ما فعل بابن مفرغ ولقد تطلع من نفسي شيء للموت أحب إلي منه وقال مخرمة بن شرحبيل أيها الرجلان اعقلا فإنه لا معاوية لكما واعرفا أن صاحبكما لا تقدح فيه الغلظة فاقصدا التضرع فركب القوم إلى دمشق وقدموا على يزيد بن معاوية وقد سبقهم الرجل فنادى بذلك الشعر يوم الجمعة على درج مسجد دمشق فثارت اليمانية وتكلموا ومشى بعضهم إلى بعض وقدم وفد القرشيين في أمره مع طلحة الطلحات فسبقوا القرشيين ودخلوا على يزيد بن معاوية فتكلم الحصين بن نمير فذكر بلاءه وبلاء قومه وطاعتهم وقال يا أمير المؤمنين إن الذي أتاه ابن زياد إلى صاحبنا لا قرار عليه وقد سامنا عبيد الله وعباد خطة خسف وقلدانا قلادة عار فأنصف كريمنا من صاحبه فوالله لئن قدرنا لنعفون ولئن ظلمنا لننتصرن وقال يزيد بن أسد يا أمير المؤمنين إنا لو رضينا بمثلة ابن زياد بصاحبنا وعظيم ما انتهك منه لم يرض الله عز ذكره بذلك ولئن تقربنا إليك بما يسخط الله ليباعدننا الله منك وإن يمانيتك قد نفرت لصاحبها نفرة طار غرابها وما أدري متى يقع وكل نائرة تقدح في الملك وإن صغرت لم يؤمن أن تكبر وإطفاؤها خير من إضرامها لا سيما إذا كانت في أنف لا يجدع ويد لا تقطع فأنصفنا من ابني زياد وقال مخرمة بن شرحبيل وكان متألها عظيم الطاعة في أهل اليمن إنه لا يد تحجزك عن هواك ولو مثلت بأخينا وتوليت ذلك منه بنفسك لم يقم فيه قائم ولم يعاتبك فيه معاتب ولكن ابني زياد استخفانا بما يثقل عليك من حقنا وتهاونا بما تكرمه منا وأنت بيننا وبين الله ونحن بينك وبين الناس فأنصفنا من صاحبيك ولينفعنا بلاؤنا عندك فقال يزيد إن صاحبكم أتى عظيما نفي زيادا من أبي سفيان ونفى عبادا وعبيد الله من زياد وقلدهم طوق الحمامة وما شجعه على ذلك إلا نسبه فيكم وحلفه في قريش فأما إذ بلغ الأمر ما أرى وأشفى بكم على ما أشفى فهو لكم وعلي رضاكم وفد القرشيين إلى يزيد قال وانتهى القرشيون إلى الحاجب فاستأذن لهم وقال لليمانيين قد أتتكم برى الذهب من أهل العراق فدخلوا وسلموا والغضب يتبين في وجوههم فظن يزيد الظنون وقال لهم ما لكم انفتق فتق أو حدث حدث فيكم قالوا لا فسكن فقال طلحة الطلحات يا أمير المؤمنين أما كفى العرب ما لقيت من زياد حتى استعملت عليها ولده يستكثرون لك أحقادها ويبغضونك إليها إن عبيد الله وأخاه أتيا إلى ابن مفرغ ما قد بلغك فأنصفنا منهما إنصافا تعلم العرب أن لنا منك خلفا من أبيك فوالله لقد خبأ لك فعلهما خبئا عند أهل اليمن لا تحمده لك ولا تحمده لنفسك وتكلم خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد فقال يا أمير المؤمنين إن زيادا ربي في شر حجر ونشأ في أخبث نشء فأثبتم نصابه في قريش وحملتموه على رقاب الناس فوثب ابناه على أخينا وحليفنا وحليفك ففعلا به الأفاعيل التي بلغتك وقد غضبت له قريش الحجاز ويمن الشام ممن لا أجب والله لك غضبه فأنصفنا من ابني زياد وتكلم أخوه أمية بنحو مما تكلم أخوه وقال والله يا أمير المؤمنين لا أحط رحلي ولا أخلع ثياب سفري أو تنصفنا من ابني زياد أو تعلم العرب أنك قد قطعت أرحامنا ووصلت ابني زياد بقطعنا وحكمت بغير الحق لهما علينا وقال ابن معمر يا أمير المؤمنين إن ابن مفرغ طالما ناضل عن عرضك وعرض أبيك وأعراض قومك ورمى عن جمرة أهلك وقد أتى بنو زياد فهي ما لو كان معاوية حيا لم يرض به وهذا رجل له شرف في قومه وقد نفروا له نفرة لها ما بعدها فأعتبهم وأنصف الرجل ولا تؤثر مرضاة ابني زياد على مرضاة الله عز و جل يزيد يرحب بالوفدين فقال يزيد مرحبا بكم وأهلا والله لو أصابه خالد ابني بما ذكرتم لأنصفته منه ولو رحلتم في جميع ما تحيط به العراق لوهبته لكم وما عندي إلا إنصاف المظلوم ولكن صاحبكم أسرف على القوم وكتب يزيد ببناء داره ورد ماله وتخلية سبيله وألا إمرة لأحد من بني زياد عليه وقال لولا أن في القود بعد ما جرى منه فسادا في الملك لأقدته من عباد وسرح يزيد رجلا من حمير يقال له خمخام وكتب معه إلى عباد بن زياد نفسك نفسك وإن تسقط من ابن مفرغ شعرة فأقيدك والله به ولا سلطان لك ولا لأخيك ولا لأحد غيري عليه فجاء خمخام حتى انتزعه جهارا من الحبس بمحضر الناس وأخرجه قالوا فلما دخل على يزيد قال له يا أمير المؤمنين اختر مني خصلة من ثلاث خصال في كلها لي فرج إما أن تقيدني من ابن زياد وإما أن تخلي بيني وبينه وإما أن تقدمني فتضرب عنقي فقال له يزيد قبح الله ما اخترته وخيرتنيه أما القود من ابن زياد فما كنت لأقيدك من عامل كان عليك ظلمته وشتمت عرضه وعرضي معه وأما التخلية بينك وبينه فلا ولا كرامة ما كنت لأخلي بينك وبين أهلي تقطع أعراضهم وأما ضرب عنقك فما كنت لأضرب عنق مسلم من غير أن يستحق ذلك ولكني أفعل ما هو خير لك مما اخترته لنفسك أعطيك ديتك فإنهم قد عرضوك للقتل واكفف عن ولد زياد فلا يبلغني أنك ذكرتهم وانزل أي البلاد شئت وأمر له بعشرة آلاف درهم اعتذاره لعبيد الله بن زياد فخرج حتى أتى الموصل وأقام ما شاء الله ثم خرج ذات يوم يتصيد فلقي دهقانا على حمار له فقال من أين أقبلت قال من العراق قال من أيها قال من البصرة ثم من الأهواز قال فما فعل المسرقان قال على حاله قال أفتعرف أناهيد بنت أعنق قال نعم قال ما فعلت قال على أحسن ما عهدت قال فضرب برذونه وسار حتى أتى الأهواز ولم يعلم أهله ولا غيرهم بمسيره ثم أتى عبيد الله بن زياد فدخل عليه واعتذر إليه وسأله الأمان فأمنه ثم سأله أن يكتب له إلى شريك بن الأعور فكتب له ووصله هجاؤه بني زياد وخرج فأقام بكرمان حتى غلب ابن الزبير على العراق وهرب ابن زياد وكان أهل البصرة قد أجمعوا على قتله فخرج عن البصرة هاربا فعاد ابن مفرغ إلى البصرة وعاود هجاء بني زياد فقال يذكر هرب عبيد الله وتركه أمه بقوله ( أعُبَيدُ هَلاّ كنتَ أَوَّلَ فارسٍ ... يوم الهِياج دعا بحَتْفِك داعِ ) ( أسلمْتَ أُمَّكَ والرِّماحُ تَنوشُها ... يا ليتَني لك ليلةَ الإِفزاعِ ) ( إذ تَسْتغيث وما لنفسِك مانعٌ ... عبْدٌ تردِّدُه بدارِ ضيَاعِ ) ( هلاّ عجوزك إذ تُمَدُّ بثَدْيِها ... وتَصيح ألاّ تَنْزِعُنَّ قِناعِي ) ( أنقذتَ من أيدي العُلوجِ كأنها ... رَبْداءُ مُجفِلةٌ ببطن القاعِ ) ( فركبتَ رأسَك ثم قلتَ أرى العِدَا ... كَثُروا وأَخلفَ مَوْعِدي أشْياعِي ) ( فانْجى بنَفْسِك وابتغي نَفَقاً فما ... لي طاقَةٌ بك والسلامُ وَدَاعِي ) ( ليسَ الكَريمُ بمَنْ يُخَلِّف أُمَّه ... وفَتاتَه في المَنزلِ الجَعجاع ) ( حَذَر المَنِيَّةِ والرِّماحُ تَنوشُه ... لم يَرْمِ دون نِسائه بكُراع ) ( مُتأبِّطاً سيفاً عليه يَلْمَقٌ ... مثل الحمار أثرتَه بيَفاعِ ) ( لا خيرَ في هَذِرٍ يهُزُّ لسانَه ... بكلامه والقلبُ غيرُ شُجاعِ ) ( لابنُ الزُّبير غَداةَ يَذْمُر مُنْذِراً ... أَوْلى بغايَة كلِّ يوم وِقاعِ ) ( وأحقُّ بالصبر الجميل من امرىءٍ ... كُزٍّ أناملُه قصيرَ الباعِ ) ( جَعْدِ اليدين عن السَّماحة والنَّدى ... وعن الضَّرِيبة فاحِشٍ مَنَّاعِ ) ( كم يا عُبَيْد الله عندك من دَمٍ ... يسعَى ليُدْرِكَه بقَتلك ساعِ ) ( ومعاشرٍ أُنُفٍ أبحْتَ حريمَهم ... فَرَّقتَهم من بعد طُول جِماعِ ) ( اذكُرْ حُسَيْناً وابنَ عُروَةَ هانئاً ... وابنَي عَقِيلٍ فارس المِرْباعِ ) وقال أيضا يذكر هربه ( أقَرَّ بعيني أنَّه عَقَّ أُمَّه ... دعَتْه فولاَّها اسْتَه وهو يَهرُبُ ) ( وقال عليكِ الصبرَ كُوني سَبِيَّةً ... كما كنتِ أو مُوتي فذلك أقرَبُ ) ( وقد هتفتْ هنْدٌ بماذا أمرتَنِي ... أَبِنْ لي وحَدِّثني إلى أينَ أذهبُ ) ( فقال اقْصِدِي للأَزْدِ في عَرَصاتِها ... وبَكْرٍ فما إن عَنهُمُ مُتَجَنَّبُ ) ( أخافُ تَمِيماً والمَسالِحُ دونَها ... ونيرانُ أعدائِي عليَّ تلهَّبُ ) ( ووَلَّى وماءُ العين يَغسِل وَجْهَها ... كأن لم يكُن والدَّهر بالناس قُلَّبُ ) ( بما قَدَّمَتْ كَفَّاك لا لكَ مَهْرَبٌ ... إلى أيّ قَوْم والدِّماء تَصَبَّبُ ) ( فكمْ من كَرِيمٍ قد جَرَرْتَ جَريرةً ... عليه فمَقْبورٌ وعانٍ يُعَذَّبُ ) ( ومن حُرَّةٍ زهراءَ قامت بسُحْرةٍ ... تُبكِّي قتيلاً أو صدًى يَتَأَوَّبُ ) ( فصبراً عُبَيْدُ بنَ العَبِيد فإنما ... يُقاسِي الأُمورَ المُسْتَعِدُّ المُجَرِّبُ ) ( وذُقْ كالذي قد ذاقَ منك معاشِرٌ ... لَعِبْتَ بهم إذ أَنت بالنَّاسِ تلعَبُ ) ( فلو كنتَ حُرّاً أو حَفِظْتَ وَصِيَّةً ... عطَفْتَ على هِنْدٍ وهِنْدٌ تُسًحَّبُ ) ( وقاتلتَ حتى لا تُرِي لك مَطْمَعاً ... بسَيْفِك في القومِ الذين تَحزَّبُوا ) ( وقلتَ لأُمِّ العَبْد أُمَّك إنني ... وإن كَثُر الأعداءُ حامٍ مُذَبّبُ ) ( ولكن أبى قلبٌ أُطِيرَتْ بَناتُه ... وعِرْقٌ لكم في آلِ مَيْسان يَضرِبُ ) وقال في ذلك أيضا ( ألاَ أبلِغْ عُبيْدَ اللهِ عنِّي ... عُبيدَ اللؤم عبدَ بني عِلاجِ ) ( عَليَّ لكم قلائدُ باقِياتٌ ... يُثِرْنَ عليكمُ نَقْع العَجاجِ ) ( تدَّعيْت الخضارِمَ من قُريشٍ ... فما في الدِّين بعدك من حِجاجِ ) ( أبِنْ لي هل بِيثْرِبَ زَندُ وَرْدٍ ... قُرَى آبائك النَّبَط العَجاج ) وقال فيه أيضا ( عُبَيد الله عَبْدُ بني عِلاجٍ ... كذاكَ نسبتُه وكذاكَ كانا ) ( أعبْدَ الحارثِ الكِنديِّ ألاَّ ... جعلتَ لإِسْتِ أُمِّكَ دَيْدبانا ) ( فتَستُرَ عَورةً كانتْ قدِيماً ... وتمنع أُمّك النَّبَطَ البِطانا ) وقال يهجو عبيد الله وعبادا أنشدناه جماعة منهم هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ عن أبي عبيدة وهذا من قصيدة له طويلة أولها ( جرَتْ أُمُّ الظِّباءِ بِبَيْنِ لَيلى ... وكلُّ وِصالِ حَبْلٍ لانقطاعِ ) يقول فيها ( ولا لاَقيتُ من أيّامِ بُؤْس ... ولا أمرٍ يَضيقُ به ذراعِي ) ( ولم تَكُ شِيمتِي عَجْزاً وَلُؤْما ... ولم أَكُ بالمُضلَّلل في المسَاعي ) ( سِوَى يَوم الهَجِين ومَنْ يُصاحِبْ ... لئامَ الناس يُغْضِ على القذاع ) ( حَلفتُ برَبِّ مَكَّة لو سِلاحي ... بكفي إذ تُنازعني مَتاعِي ) ( لباشَرَ أُمَّ رأسِك مَشرَفِيٌّ ... كذاكَ دَواؤنا وجع الصُّداعِ ) ( أَفِي أحسابِنا تُزرِي علينا ... هُبِلْتَ وأنتَ زائدَةُ الكُراعِ ) ( تبغَّيْتَ الذُّنوب عَليّ جَهْلاً ... جُنوناً ما جُنِنْتَ ابنَ اللَّكاع ) ( فما أسفي على تَرْكي سَعِيداً ... وإسحاقَ بنَ طَلحةَ واتّباعِي ) ( ثَنايا الوَبْر عبدَ بنِي عِلاجٍ ... عُبيْدةَ فقْعَ قَرْقَرةٍ بِقاعِ ) ( إذا ما رايةٌ رُفِعَتْ لمجد ... وودّع أهلُها خيْرَ الوَداعِ ) ( فأير في است أُمّك من أمير ... كذاك يقال للحمق اليراعِ ) ( ولا بُلَّتْ سماؤك من أميرٍ ... فبِئْسَ مُعَرَّسُ الرّكْبِ الجِياعِ ) ( ألم تَرَ إذْ تُحالِف حِلْف حَرْبٍ ... عليك غَدَوْتَ من سَقَطِ المَتاعِ ) ( وكدتَ تَمُوتُ أنْ صاح ابن آوَى ... ومثْلُك مات من صوت السِّباعِ ) ( ويَوْمَ فَتَحتَ سيفَك من بَعيدٍ ... أُضِعْتَ وكلُّ أمرِك للضّياعِ ) ( إذ أودَى مُعاويةُ بنُ حَرْبٍ ... فبشِّرْ شَعْبَ قَعْبك بانْصِداعِ ) ( فأشهدُ أنُّ أُمَّك لم تُباشِر ... أَبا سُفيانَ واضعةَ القِناعِ ) ( ولكن كانَ أَمراً فيه لَبْسٌ ... على عجَلٍ شديدٍ وارْتياعِ ) قال وكان عباد في بعض حروبه ذات ليلة نائما في عسكره فصاحت بنات آوى فثارت الكلاب إليها ونفر بعض الدواب ففزع عباد وظنها كبسة من العدو فركب فرسه ودهش فقال افتحوا سيفي فعيره بذلك ابن مفرغ ومما قاله ابن مفرغ في هجاء بني زياد وغني فيه صوت ( كم بالدُّروبِ وأرضِ الهند من قَدَمٍ ... ومِنْ جَماجم قَتلَى ما هُمُ قُبِرُوا ) ( ومن سَرابيلِ أَبطالٍ مُضرّجَةٍ ... ساروا إلى الموت ما خامُوا ولا ذُعِروا ) ( بقُنْدُهارَ ومَنْ تُحتَمْ منيَّتُهُ ... بقُندهارَ يُرجَّم دونَه الخبَرُ ) غنى في هذه الأبيات ابن جامع ( أَجَدّ أهلُك لا يأتيهمُ خَبَرٌ ... منَّا ولا منهم عَيْنٌ ولا أَثَرُ ) ( ولم تكلَّم قُريْش في حَلِيفِهمُ ... إذ غابَ أنصارُه بالشَّام واحتُضِروا ) ( لو أنَّني شهِدتني حِمْيَرٌ غَضِبَتْ ... إذاً فكان لها فيما جَرَى غِيَرُ ) ( رَهطُ الأغرِّ شرَاحِيلِ بن ذِي كَلَع ... ورهطُ ذي فائشٍ ما فوقهم بَشر ) ( قُولاَ لطَلْحة ما أغنتْ صَحيفتكم ... وهل لجارك إذ أوردْتَه صَدَرُ ) ( فمَنْ لنا بشَقِيقٍ أو بأُسرته ... ومَنْ لنا ببني ذُهْلٍ إذا خَطَرُوا ) ( همُ الذينَ سمَوْا والخيلُ عابِسَةٌ ... والناسُ عند زياد كلهم حَذرُ ) ( لولاهمُ كان سلاّمٌ بِمَنْزِلَتي ... أَوْلَى لهم ثمَّ أولَى بعدما ظَفِرُوا ) أخبرني محمد بن خلف عن أبي بكر العامري عن إسحاق بن محمد عن القحذمي قال هجا سلام الرافعي مقاتل بن مسمع فقال فيه ( أَبَى لك يا ذا المَجْدِ أَنَّ مُقاتِلاً ... زَنَى واستَحَلَّ الفارِسِيَّ المُشَعْشَعَا ) في أبيات هجاه بها فحبسه مقاتل بالعربة فركب شقيق بن ثور في جماعة من بني ذهل إلى الحبس فأخرجه فضرب به ابن مفرغ المثل في الشعر الماضي أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو عبد الله اليماني قال حدثنا الأصمعي عن عبد الرحمن بن أبي الزناد قال قال لي عبيد الله بن زياد ما هجيت بشيء أشد علي من قول ابن مفرغ ( فكِّرْ ففي ذاك إن فَكَّرْتَ مُعْتَبَرٌ ... هل نِلْتَ مكرُمَةً إلا بتَأْميرِ ) ( عاشَتْ سُمَيَّةُ ما تَدْرِي وقد عَمرَتْ ... أَنَّ ابنها من قُريْشٍ في الجَماهِير ) وروى اليزيدي في روايته عن الأحول قال أبو عبيدة كان زياد يزعم أن أمه سمية بنت الأعور من بني عبد شمس بن زيد مناة بن تميم فقال ابن مفرغ يرد ذلك عليه ( فأُقسِم ما زيادٌ من قُرَيْشٍ ... ولا كانت سُمَيَّة من تمِيمِ ) ( ولكنْ نَسْلُ عَبْدٍ من بَغيٍّ ... عريقِ الأصلِ في النَّسَب اللَّئِيمِ ) أخبرني هاشم بن محمد قال حدثنا أبو غسان دماذ قال أنشدني أبو عبيدة لابن مفرغ يهجو ابن زياد ويرميه بالأبنة ( أَبلِغْ قُريشاً قَضَّها وقَضِيضَها ... أَهلَ السَّمَاحةِ والحُلُومِ الرَّاجِحَهْ ) ( أنِّي ابتُلِيت بحَيَّةٍ ساوَرْتُه ... بيَدٍ لعَمْرِي لم تَكُنْ لِيَ رابِحَهْ ) ( صَفَقَ المُبَخَّل صَفْقةً ملعُونَةً ... جرَّتْ عليه من البلايا فادِحَهْ ) ( شتّانَ مَنْ بَطحاءُ مَكَّةَ دارُه ... وَبَنُو المُضافِ إلى السِّباخ المالحهْ ) ( جَعُدَتْ أنامِلُه ولامَ نِجارُه ... وبذاك تُخبِرُنا الظِّباء السانِحَهْ ) ( فإذا أُميَّة صَلْصَلَتْ أحسابُها فبَنُو زيادٍ في الكلاب النَّابِحَهْ ... ) ( قالوا يُناكُ فقلتُ في جَوْفِ استِه ... وبذاك خَبَّرَنِي الصَّدُوقُ الفاضِحَهْ ) ( لم يبقَ أيرٌ أسودٌ أو أبيضٌ ... إلاّ له استُكَ في الخَلاء مُصافِحَهْ ) مقتل عبيد الله بن زياد وأخبرني إبراهيم بن السري بن يحيى قال حدثني أبي عن شعيب عن سيف قال لما قتل عبيد الله بن زياد يوم الزاب قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد ويقال إن إبراهيم بن الأشتر حمل على كتيبته فانهزموا ولقي عبيد الله فضربه فقتله وجاءه إلى أصحابه فقال إني ضربت رجلا فقددته نصفين فشرقت يداه وغربت رجلاه وفاح منه المسك وأظنه ابن مرجانة وأومأ لهم إلى موضعه فجاؤوا إليه وفتشوا عليه فوجدوه كما ذكر وإذا هو ابن زياد فقال ابن مفرغ يهجوه ( إنَّ الذِي عاش خَتَّاراً بذِمَّتهِ ... وعاش عَبْداً قَتِيلُ الله بالزَّابِ ) ( العَبْدُ للعبد لا أصْلٌ ولا طَرَفٌ ... ألْوَتْ به ذَاتُ أظْفارٍ وأنْيابِ ) ( إنّ المَنايا إذا ما زُرْنَ طاغِيةً ... هَتَكْن عنه سُتوراً بين أَبْوابِ ) ( هَلاّ جُموع نِزار إذ لقِيتَهمُ ... كنتَ امرَأً من نِزارٍ غير مُرتابِ ) ( لا أنتَ زاحَمْت عن مُلْكٍ فتمَنعَه ... ولا مَدَدْت إلى قَوْمٍ بأَسْبابِ ) ( ما شُقَّ جَيبٌ ولا ناحَتْك نائِحَةٌ ... ولا بَكَتْك جِيادٌ عند أسلابِ ) ( لا يتركُ اللهُ أنْفاً تَعْطِسُون بها ... بني العَبِيد شُهوداً غيرَ غُيَّابِ ) ( أقولُ بُعْداً وسُحْقاً عند مَصْرعه ... لابن الخَبِيثَةِ وابن الكَوْدَنِ الكَابِي ) والقصيدة المذكورة بها غناء فيه منها وقال ( حَيِّ ذا الزَّوْرَ وانهَهُ أن يَعُودا ... إنَّ بالباب حارسين قُعودَا ) ( من أساوِيرَ ما يَنُون قِياماً ... وخَلاخيلَ تُذْهِل المَوْلُودا ) ( وطماطِيمَ من مشايخ جُونٍ ... ألْبَسُونِي مع الصَّباح قُيُودا ) ( أيّ بلوى معيشة قد بلَوْنا ... فنَعمْنا وما رَجونا خُلودا ) ( ودهورٍ لَقِينَنا مُوجِعاتٍ ... وزمانٍ يُكسِّر الجلمودا ) ( فصبرنا على مواطن ضِيقٍ ... وخطوبٍ تُصَيِّرُ البِيضَ سُودا ) ( ظلّ فيها النصيحُ يُرسِل سِرًّا ... لا تُهالَنّ إن سمعتَ الوعيدا ) ( أفإِنْسٌ ما هكذا صَبْرُ إنْسٍ ... أم من الجِنّ أم خُلِقْتَ حَدِيدَا ) ( لا ذَعَرْتُ السَّوامَ في فلَقِ الصُّبحِ ... مغيراً ولا دُعِيتُ يزيدا ) ( يومَ أُعطِي مخافةَ الموت ضَيْماً ... والمنايا يرصُدْنَنِي أن أحيدا ) قال وهي قصيدة طويلة وتمثل الحسين بن علي صلوات الله عليه بهذين البيتين لما خرج من المدينة إلى مكة عند بيعة يزيد ( لا ذَعَرْتُ السَّوامَ في فلَقِ الصُّبحِ ... مغيراً ولا دُعِيتُ يزيدا ) ( يومَ أُعطِي مخافةَ الموت ضَيْماً ... والمنايا يرصُدْنَنِي أن أحيدا ) حدثني أحمد بن عيسى أبو موسى العجلي العطار بالكوفة فقال حدثني الحسين بن نصر بن مزاحم المنقري قال حدثني أبي قال حدثنا عمر بن سعد عن أبي مخنف قال حدثني عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن أبي سعيد المقبري قال والله لرأيت حسينا عليه السلام وهو يمشي بين رجلين يعتمد على هذا مرة وعلى هذا مرة حتى دخل المسجد وهو يقول لا ذعرت السوام البيتين قال فقلت عند ذلك إنه لا يلبث إلا قليلا حتى يخرج فما لبث أن خرج فلحق بمكة فلما خرج من المدينة قال ( فخرج منها خائفا أن يترقب قال رب نجني من القوم الظالمين ) ولما توجه نحو مكة قال ( ولما توجه تلقاء مدين قال عسى ربي أن يهديني سواء السبيل ) ابن مفرغ ومروان بن الحكم أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال لما قدم ابن مفرغ إلى معاوية مع خمخام الذي وجهه إليه فانتزعه من عباد بن زياد نزل على مروان بن الحكم وهو يومئذ عند معاوية فأعطاه وكساه وقام بأمره واسترفد له كل من قدر عليه من بني أبي العاص بن أمية فقال ابن مفرغ يمدحه من قصيدته ( وأقمْتُمُ سُوقَ الثَّناء ولم تكُن ... سُوقُ الثَّناء تُقامُ في الأَسْوَاقِ ) ( فكأنما جَعَل الإِلهُ إليكُمُ ... قَبْضَ النُّفوسِ وقِسْمةَ الأرزاقِ ) أخبرني هشام بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال كان ابن مفرغ يهوى أناهيد بنت الأعنق وكان الأعنق دهقانا من الأهواز له ما بين الأهواز وسرق ومناذر والسوس وكان لها أخوات يقال لهن أسماء والجمانة وأخرى قد سقط اسمها عن دماذ فكان يذكرهن جميعا في شعره فمن ذلك قوله في صاحبته أناهيد من أبيات ( سِيرِي أناهِيدُ بالعيْرَيْنِ آمنةً ... قد سلَّم اللهُ من قومٍ بهم طَبَع ) ( لا بارك الله فيهم معشراً جُبُناً ... ولا سقى دارَهم قَطْراً ولا رُبِعوا ) ( السارقين إذا جاعوا نَزِيلَهُمُ ... والأخبَثِين بطُوناً كلما شبِعُوا ) ( لا تأمنَنَّ حِزاميًّا نزلتَ به ... قوم لديهم تناهى اللُّؤمُ والصَّرَعُ ) ( جاورْ بني خَلَفٍ تَحْمَدْ جِوارَهُمُ ... الأَعْظَمِينَ دفاعاً كلما دفعوا ) ( والمطعِمين إذا ما شَتْوَةٌ أزَمَتْ ... فالناس شتّى إلى أبوابهم شَرَعُ ) ( هم خير قَومهمُ إن حَدَّثوا صدقوا ... أو حاولوا النفعَ في أشياعهم نفعوا ) ( المانعين من المخزاة جارَهُمُ ... والرّافعين من الأدنَيْنَ ما صَنَعُوا ) ( انزِلْ بطلحةَ يوماً إنّ مَنْزِلَه ... سَهلُ المباءَة بالعلياء مرتفع ) وفي أسماء أختها يقول ( تَعلَّق من أسماءَ ما قد تَعَلَّقا ... ومثل الذي لاقَى من الحُبّ أَرَّقَا ) ( وحَسبُكَ من أسماء نَأيٌ وأنها ... إذا ذُكِرتْ هاجَتْ فُؤاداً مُعَلَّقا ) ( سَقَى هَزِمُ الإرعادِ مُنْبَجِسُ العُرَى ... منازلَها بالمَسْرُقَانِ فَسُرَّقا ) ( وتُستَر لا زالت خَصِيباً جنابُها ... الى مَدْفَع السُّلاَّن من بطن دَوْرَقا ) ( إلى الكَوثَج الأعلى إلى رامَهُرْمُزٍ ... الى قَريات الشِّيحِ من فوق سَفْسَقا ) رامهرمز بلد من أعمال الأهواز معروف ( بلادٌ بنات الفارسية إنَّها ... سقتنا على لَوْحِ شراباً مُعَتَّقا ) أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي وأخبرنا هاشم بن محمد قال حدثنا دماذ أبو غسان عن أبي عبيدة قالا لما فصل ابن مفرغ من عند معاوية نزل بالموصل على أخواله من آل ذي العشراء من حمير قال الهيثم في روايته فزوجوه امرأة منهم ولم يذكر ذلك أبو عبيدة فلما كان اليوم الذي يكون البناء في ليلته خرج يتصيد ومعه غلامه برد فإذا هو بدهقان على حمار يبيع عطرا وأدهانا فقال له ابن مفرغ من أين أقبلت قال من الأهواز قال ويحك كيف خلفت المسرقان وبرد مائة قال على حاله قال ما فعلت دهقانة يقال لها أناهيد بنت أعنق قال أصديقه ابن مفرغ قال نعم قال ما تجف جفونها من البكاء عليه فقال لغلامه أي برد أما تسمع قال بلى قال هو بالرحمن كافر إن لم يكن هذا وجهي إليها فقال له برد أكرمك القوم وقاموا دونك وزوجوك كريمتهم ثم تصنع هذا بهم وتقدم على ابن زياد بعد خلاصك منه من غير أمره ولا عهد منه ولا عقد ابق أيها الرجل على نفسك وأقم بموضعك وابن بأهلك وانظر في أمرك فإن جد عزمك كنت حينئذ وما تختاره قال دع ذا عنك هو بالرحمن كافر إن عدل عن الأهواز ولا عرج على شيء غيرها ومضى لوجهه من غير أن يعلم أهله وقال قصيدته ( سَمَا برقُ الجُمانة فاستَطارا ... لعلّ البرقَ ذاك يَحورُ نارا ) ( قعدتُ له العِشاءَ فهاج شَوقِي ... وذكَّرني المَنازِلَ والدِّيارا ) ( ديارٌ للجُمانة مقْفِراتٌ ... بَلِينَ وهِجْن للقَلْب ادِّكارا ) ( فلم أملِك دُموعَ العَيْن مِنِّي ... ولا النَّفسَ التي جاشَت مِرارا ) ( بُسرَّقَ فالقُرَى من صَهرتاجٍ ... فدير الراهب الطلل القِفارا ) ( فقلتُ لصاحبي عرِّجْ قَليلاً ... نُذاكِرْ شوقَنا الدُّرسَ البَوارا ) ( بآية ما غَدَوْا وهُمُ جَمِيعٌ ... فكاد الصبُّ ينتَحِر انْتِحارا ) ( فقال بكَوْا لفقدك منذُ حِينٍ ... زمانا ثم إنَّ الحيَّ سَارا ) ( بدِجْلةَ فاستمرَّ بهم سَفِينٌ ... يَشُقُّ صُدُورُها اللُّجَجَ الغِمارا ) ( كأن لم أَغْنَ في العَرَصاتِ منها ... ولم أّذْعَرْ بقاعَتِها ِ صُوارا ) ( ولم أسمع غِناءً من خَلِيل ... وصوتَ مُقَرْطَقٍ خَلَع العِذَار ) قال فقدم البصرة فذكر لعبيد الله بن زياد مقدمه فلم يعرض له وأرسل إليه أن أقم آمنا فأقام بالبصرة أشهرا يختلف من البصرة إلى الأهواز فيزور أناهيد ويقيم عندها ثم أتى عبيد الله بن زياد فقال له إني امرؤ لي أعداء ولست آمن بعضهم أن يقول شيئا على لساني يحفظ الأمير علي وأحب أن يأذن لي أن أتنحى عنه فقال له حل حيث شئت فخرج حتى قدم على شريك بن الأعور الحارثي وهو يومئذ عامل عبيد الله بن زياد على فارس وكرمان فأعطاه ثلاثين ألف درهم فقدم بها الأهواز فأعطاها أناهيد ابن مفرغ وعبيد الله بن أبي بكرة أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثني محمد بن الحكم عن عوانة أن عبيد الله بن أبي بكرة كتب إلى يزيد بن مفرغ إني قد توجهت إلى سجستان فالحق بي فلعلك إن قدمت علي ألا تندم ولا يذم رأيك فتجهز ابن مفرغ وخرج حتى قدم سحستان ممسيا فدخل عليه فشغله بالحديث وأمر له بمنزل وفرش وخدم وجعل يطاوله حتى علم أنه قد استتم له ما أمر له به ثم صرفه إلى المنزل الذي قد هيىء له ثم دعا به في اليوم الثاني فقال له يابن مفرغ إنك فد تجشمت إلي شقة بعيدة واتسع لك الأمل فرحلت إلي لأقضي عنك دينك ولأغنيك عن الناس وقلت أبو حاتم بسجستان فمن لي بالغنى بعده فقال والله ما أخطأت أيها الأمير ما كان في نفسي فقال عبيد الله أما والله لأفعلن ولأقلن لبثك عندي ولأحسنن صلتك وأمر له بمائة ألف درهم ومائة وصيفة ومائة نجيبة وأمر له بما ينفقه إلى أن يبلغ بلده سوى المائة الألف وبمن يكفيه الخدمة من غلمانه وأعوانه وقال له إن من خفة السفر ألا تهتم بخف ولا حافر وكان مقامه عنده سبعة أيام ثم ارتحل وشيعه عبيد الله إلى قرية على أربعة فراسخ يقال لها زالق ثم قال له يا بن مفرغ إنه ينبغي للمودع أن ينصرف وللمتكلم أن يسكت وأنا من قد عرفت فأبق على الأمل وحسن ظنك بي ورجائك في وإذا بدا لك أن تعود فعد والسلام قال وسار ابن مفرغ حتى أتى رامهرمز فنزل بقرية أبجر فنزلت إليه بنت الأبجر فقالت يا بن مفرغ لمن هذا المال قال لابنة أعنق دهقانة الأهواز وإذا رسولها في القافلة بكتابها إنك لو كنت على العهد الأول لتعجلت إلي ولم تساير ثقلك ولكن قد علمت أن المال الذي أعطاكه عبيد الله قد شغلك عني قال فأعطى رسولها مالا على أن يقول فيه خيرا وقد قال لابنة أبجر في جواب قولها له ( حَباني عُبيْدُ الله يابنةَ أَبجرِ ... بهذا وهذا للجُمانة أجْمعُ ) ( يَقَرّ بعيني أن أراها وأهلَها ... بأفضل حالٍ ذاك مرْأَى ومَسمَعُ ) ( وخُبِّرتُها قالت لقد حال بَعدنا ... فقد جعلت نفسي إليها تَطَلّعُ ) ( وقلتُ لها لمّا أتاني رسولُها ... وأيُّ رَسولٍ لا يضرُّ وينفعُ ) ( أُحِبُّك ما دامَتْ بنَجْد وشيجةٌ ... وما رُفِعت يوماً إلى الله إصبعُ ) ( وإني مَلءٌ يا جُمانةُ بالهَوى ... وصِدْقِ الهوى إن كان ذلك يُقْنِعُ ) قال فلما انتهت رسل عبيد الله بن أبي بكرة معه إلى الأهواز قالوا له قد بلغنا حيث أمرنا قال أجل ثم أمر ابنة أعنق أن تفتح الباب وقال لها كل ما دخل دارك فهو لك مدحه عبيد الله بن أبي بكرة وأقام بالأهواز ودعا ندماء كانوا له من فتيان العرب فلم يبق طريف ولا مغن إلا أتاه واستماحه جماعة قصدوه من أهل البصرة والكوفة والشام فأعطاهم ولم يفارق أناهيد ومعه شيء من المال وجعل القوم يسألونه عن عبيد الله بن أبي بكرة وكيف هو وأخلاقه وجوده فقال ( يُسائِلُني أهلُ العِراق عن النَّدَى ... فقلتُ عُبيْدُ الله حِلْفُ المكارِم ) ( فتى حاتمِيٌّ في سِجستانَ رَحله ... وحَسبُك جُوداً أن يكون كحاتِم ) ( سَما لِينالَ المكْرُماتِ فنالَها ... بِشِدّة ضِرْغام وَبَذْلِ الدّراهم ) ( وحِلْمٍ إذا ما سَوْرةُ الحقْد أطلَقت ... حُبَا القَوْم عند الفادِح المُتفاقِم ) ( وإنّ له في كلِّ حيٍّ صَنيعةً ... يُحدِّثها الرُّكبانُ أهلَ المَواسِم ) ( دَعاني إليه جودُه وَوفاؤه ... ومَنْ دون مَسراه عُداةُ الأعاجِم ) ( فلم أَبْقَ إلا جُمْعةً في جِوارِه ... ويَوْمَيْنِ حلاًّ من أليَّةِ آثِم ) ( إلى أن دَعاني زَانَه الله بالعُلا ... فأنبَت رِيشي من صَميم القَوادِم ) ( وقال إذا ما شئتَ يا بنَ مُفرِّغ ... فعُدْ عودةً ليست كأَضْغاثِ حالم ) ( فقلتُ له - لا يُبعد اللهُ دارَه - ... أعودُ إذا ما جئتُكم غيرَ حاشِم ) ( وأحمدْتُ وِرْدِي إذْ وردتُ حِياضَه ... وكلُّ كريم نُهزَةٌ للأَكارِمِ ) ( فأصبَح لا يرجُو العِراقُ وأهلُه ... سِواه لنَفع أو لِدفْع العَظائم ) ( وإنّ عُبيْدَ الله هنّأ رفدَه ... سَرَاحاً وأُعْطى رفدَه غيرَ غانِم ) وقال الهيثم في خبره كان عمرو بن مفرغ عم يزيد بن ربيعة بن مفرغ رجلا له جاه وقدر عند السلطان وكان ذا مال وثروة وذا دين وفضل وصلاح فكان يعنف ابن أخيه في أمر أناهيد عشيقته ويعذله ويعيره بها فلما أكثر عليه أتاه يوما فقال له يا عم جعلت فداك إن لي بالأهوازحاجة ولي على قوم بها نحو من ثلاثين ألف درهم قد خفت أن تتوى علي فإن رأيت أن تتجشم العناء معي إليها حتى تطالب لي بحقي وتعينني بجاهك على غرمائي وكان عمرو بن مفرغ قد استخلفه ابن عباس عليها إذ كان عامل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعلى آله على البصرة وكان عامل الأهواز حين سأل ابن مفرغ عمه أن يخرج معه ميمون بن عامر أخو بني قيس بن ثعلبة الذي يقال لدراهمه اليوم اليمونية فلم يزل ابن مفرغ بعمه حتى أجابه إلى الخروج فاستأجر سفينة وتوجه إلى الأهواز وكتب إلى أناهيد أن تهيئي وتزيني بأحسن زينتك واخرجي إلي مع جواريك فإني موافيك ومنزلها يومئذ بين سرق ورامهرمز فلما نزلوا منزلها خرجت إليهم وجلست معهم في هيئتها وزيها وحليها وآلتها فلما رآها عمه قال له قبحك الله أفهلا إذ فعلت ما فعلت كنت علقت مثل هذه فقال يا عم أوقد أعجبتك فقال ومن لا تعجبه هذه قال ألجد هذا منك قال نعم والله قال فإنها والله هذه بعينها فقال يا خبيث إنما أشخصتني لهذا يا غلام ارحل بنا فانصرف عمه إلى البصرة وأقام هو معها ولم يزل يتررد كذلك حتى مات في الطاعون في أيام مصعب بن الزبير أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا القحذمي قال لزم يزيد بن مفرغ غرماؤه بدين فقال لهم انطلقوا نجلس على باب الأمير عسى أن يخرج الأشراف من عنده فيروني فيقضوا عني فانطلقوا به فكان أول من خرج إما عمر بن عبيد الله بن معمر وإما طلحة الطلحات فلما رآه قال أبا عثمان ما أقعدك ها هنا قال غرمائي هؤلاء لزموي بدين لهم علي قال وكم هو قال سبعون ألفا قال علي منها عشرة آلاف درهم ثم خرج الآخر على الأثر فسأله كما سأل صاحبه فقال هل خرج أحد قبلي قالوا نعم فلان قال فما صنع قالوا ضمن عشرة آلاف درهم قال فعلي مثلها قال ثم جعل الناس يخرجون فمنهم من يضمن الألف إلى أكثر من ذلك حتى ضمنوا أربعين ألفا وكان يأمل عبيد الله بن أبي بكرة فلم يخرج حتى غربت الشمس فخرج مبادرا فلم يره حتى كاد يبلغ بيته فقيل له إنك مررت بابن مفرغ ملزوما وقد مر به الأشراف فضمنوا عنه فقال واسوأتاه إني أخاف أن يظن أني تغافلت عنه فكر راجعا فوجده قاعدا فقال له أبا عثمان ما يجلسك ها هنا قال غرمائي هؤلاء يلزمونني قال كم عليك قال سبعون ألفا قال وكم ضمن عنك قال أربعون ألفا قال فاستمتع بها وعلي دينك أجمع فقال فيه يخاطب نفسه ( لو شِئتِ لم تَغْنَيْ ولم تَنْصَبِي ... عِشْتِ بأسبابِ أبي حاتِم ) ( عِشْتِ بأسباب الجَواد الذي ... لا يَخْتِم الأموالَ بالخاتَمِ ) ( من كفِّ بُهلولٍ له عُدَّةٌ ... ما إن لمَن عاداه من عاصِم ) ( المُطْعِم النّاسَ إذا حاردتْ ... نكباؤها في الزّمن العارم ) ( والفاصِلِ الخطة يوم اللِّجا ... للأَمر عند الكُرْبةِ اللازمِ ) ( جاورتُه حِيناً فأحْمَدْتُه ... أُثني وما الحامدُ كاللائم ) ( كم من عدُوٍّ شامتٍ كاشِحٍ ... أخزيْتَه يوماً ومن ظالِم ) ( أذقْتَه الموتَ على غِرّةٍ ... بأبيضَ ذِي رَوْنَقٍ صارمِ ) أخبرني عمي قال حدثني أبو أيوب المديني قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال قدم بديح الكوفة فغنى بها دهرا وأصاب مالا كثيرا ثم خرج إلى البصرة ثم أتى الأهواز ثم عاد إلى البصرة فصحب ابن مفرغ في سفينة حتى إذا كان في نهر معقل تغنى وهو لا يعرف ابن مفرغ بقوله ( سَمَا برقُ الجُمانة فاستَطارا ... لعلّ البرقَ ذاك يعودُ نارا ) قال فطرب ابن مفرغ وقال يا ملاح كر بنا إلى الأهواز فكر وهو يغنيه ثم كر راجعا إلى البصرة وكروا معه وهو يعيد هذا الصوت قال ووصل ابن مفرغ بديحا وكساه صوت ( رَضِيتُ الهَوى إذ حَلّ بي مُتَخيِّراً ... نديماً وما غَيرِي له من يُنادِمُهْ ) ( أُعاطِيه كأسَ الصَّبرِ بَيني وبينَه ... يُقاسِمُنِيها مرّةً وأُقاسِمُهْ ) يقال إن الشعر لبشار والغناء للزبير بن دحمان هزج بالوسطى عن الهشامي وأحمد بن المكي أخبار الزبير بن دحمان الزبير والرشيد قد مضت أخبار أبيه ونسبه وولاؤه في متقدم الكتاب وكان الزبير أحد المحسنين المتقنين الرواة الضراب المتقدمين في الصنعة وقدم على الرشيد من الحجاز وكان المغنون في أيامة حزبين أحدهما في حزب إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق والآخر في حزب ابن جامع وابن المهدي وكان إبراهيم بن المهدي أوكد أسباب هذا التحزب والتعصب لما كان بينه وبين إسحاق وكان الزبير بن دحمان في حزب إسحاق وأخوه عبيد الله في حزب إبراهيم بن المهدي فأخبرني محمد بن مزيد قال حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال لما قدم الزبير بن دحمان على الرشيد من الحجاز قدم رجل ما شئت من رجل عقلا ونبلا ودينا وأدبا وسكونا ووقارا وكان أبوه قبله كذلك وقدم معه أخوه عبيد الله فلما وصلا إلى الرشيد وجلسا معنا تخيلت في الزبير الفضل فقلت لأبي يا أبت أخلق بالزبير أن يكون أفضل من أخيه فقال هذا لا يجيء بالظن والتخيل والجواد إنما يمتحن في الميدان فقلت له فالجواد عينه فراره فضحك وقال ننظر في فراستك فلما غنيا بان فضل الزبير وتقدمه فاصطفاه أبي واصطفيته لأنفسنا وقرظناه ووصفناه وصار في حيزنا وغنى الرشيد غناء كثيرا من غناء المتقدمين فأجاد وأحسن وسأله الرشيد أن يغنيه شيئا من صنعته فالتوى بعض الإلتواء وقال قد سمع أمير المؤمنين غناء الحذاق من المتقدمين وغناء من بحضرته من خدمه ومن وفد عليه من الحجازيين وما عسى أن يأتي من صنعتي فأقسم عليه أن يغنيه شيئا من صنعته وجد به في ذلك فكان أول صوت غناه منها صوت ( ارحَلاَ صاحِبَيَّ حانَ الرَّحِيلُ ... وابْكِيانِي فليس تَبْكِي الطُّلُولُ ) ( قد تَولَّى النَّهارُ وانقَضَتِ الشَّمسُ ... يَمِيناً وحان منها أُفولُ ) لحن هذا الصوت خفيف ثقيل قال فسمعت والله صنعة حسنة متقنة لا مطعن عليها فطرب الرشيد واستعاده هذا الصوت ثلاث مرات وأمر له بثلاثين ألف درهم ولأخيه بعشرين ألف درهم ثم لم يزل زبير معنا كواحد منا وانحاز عبيد الله إلى جنبه إبراهيم بن المهدي فكان معه قال حماد فقلت لأبي كيف كانت صنعة عبيد الله قال أنا أجمل لك القول لو كان زبير مملوكا لاشتريته بعشرين ألف دينار ولو كان عبيد الله مملوكا ما طابت نفسي على أن أشتريه بأكثر من عشرين دينارا فقلت قد أجبتني بما يكفيني حدثني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهدي ومحمد بن الحارث بن بسخنر أن الرشيد كتب في إشخاص الزبير بن دحمان إلى مدينة السلام فوافاها واتفق قدومه في وقت خروج الرشيد إلى الري لمحاربة بندارهرمز أصبهذ طبرستان فأقام الزبير بمدينة السلام إلى أن دخل الرشيد فلما قدم دخل عليه بالخيزرانة وهو الموضع الذي يعرف بالشماسية فغناه في أول غنائه صوتا في شعر قاله هو أيضا في الرشيد مدحه به وذكر خروجه إلى طبرستان وهو صوت ( ألا إنَّ حِزْبَ الله ليس بمُعْجِزِ ... وأنصارُه في مَنْعَة المُتَحَرِّزِ ) ( أَبَى اللهُ أن يُعصَى لِهارُونَ أمرُه ... وذُلَّت له طَوْعاً يَدُ المُتَعَزِّزِ ) ( إذا الرَّايَةُ السَّوداءُ راحَتْ أو اغْتَدتْ ... إلى هارِبٍ فليس بِمُعْجِزِ ) ( لَطاعَتْ لِهارُونَ العُداةُ لدى الوَغَى ... وكَبَّر للإِسلام بندارُ هُرْمُزِ ) لم أجد هذا الصوت منسوبا في شيء من الكتب إلا في كتاب بذل وهو فيه غير مجنس وذكر إبراهيم بن المهدي أن الشعر للزبير بن دحمان وهذا خطأ الشعر لأبي العتاهية وهو موجود في شعره من قصيدة طويلة مدح بها الرشيد قال أبو إسحاق فاستحسن الرشيد الشعر والغناء وأمر له بألف دينار فدفعت إليه ومكث ساعة ثم غنى صوتا ثانيا وهو صوت ( وأحور كالغُصْن يَشْفِي السَّقَام ... ويَحكِي الغَزالَ إذا ما رَنا ) ( شَرِبتُ المُدامَ على وَجْهِه ... وعاطَيْتُه الكأسَ حتى انْثَنَى ) ( وقُلتُ مَديحاً أُرَجِّي به ... من الأَجْر حظّاً ونَيْلَ الغِنَى ) ( وأَعنِي بذاك الإمامَ الذي ... به اللهُ أعطى العِبادَ المُنَى ) لحن هذا الصوت ثاني ثقيل مطلق قال فما فرغ من الصوت حتى أمر له بألف دينار آخر فقبضه وخف على قلبه واستظرفه فأغناه في مدة يسيرة من الأيام أخبرني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة عن القطراني عن محمد بن حبيب قال كان الرشيد بعد قتله البرامكة شديد الأسف عليهم والتندم على ما فعله بهم ففطن الزبير بن دحمان فكان يغنيه في هذا المعنى ويحركه فغناه يوما والشعر لامرأة من بني أسد ( مَنْ للخُصومِ إذا جدّ الخِصامُ بهم ... يومَ النِّزال ومَنْ للضُّمَّر القُودِ ) ( ومَوقفٍ قد كَفيتَ النّاطِقِين به ... في مَجْمَعٍ من نَواصِي النَّاس مَشْهودِ ) ( فَرّجتَه بلسان غيرِ مُلْتَبِسٍ ... عند الحِفاظ وقولٍ غيرِ مردودِ ) فقال له الرشيد أعد فأعاد فقال له ويحك كأن قائل هذا الشعر يصف به يحيى بن خالد وجعفر بن يحيى وبكى حتى جرت دموعه ووصل الزبير صلة سنية الزبير وإسحاق أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد قال كان أبي يقول ما كان دحمان يساوي على الغناء أربعمائة درهم وأشبه خلق الله به غناء ابنه عبيد الله وكان يفضل الزبير بن دحمان على أبيه وأخيه تفضيلا بعيدا وفي الزبير يقول إسحاق وله فيه غناء وهو صوت ( أَسعْد بدَمْعِك يا أبا العَوَّامِ ... صَبّاً صريعَ هَوىً ونِضْوَ سِقامِ ) ( ذَكَر الأحبَّةَ فاستُجِنَّ وهاجه ... للشوق نوحُ حمامةٍ وحَمامِ ) ( لم يُبدِ ما في الصَّدْر إلاَّ أنَّه ... حيَّا العِراقَ وأهلَه بِسلامِ ) ( ودَعاه داعٍ للهَوَى فأجابَه ... شَوقاً إليه وقادَه بزِمامِ ) الشعر والغناء لإسحاق ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وهذا الشعر قاله إسحاق وهو بالرقة مع الرشيد يتشوق إلى العراق أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر قال حدثني جدي حمدون بن إسماعيل قال قال لي إسحاق كنا مع الرشيد بالرقة وخرج يوما إلى ظهرها يصيد وكنت في موكبه أساير الزبير بن دحمان فذكرني بغداد وطيبها وأهلي وإخواني وحرمي فتشوقت لذلك شوقا شديدا وعرض لي هم وفكر حتى أبكاني فقال لي الزبير مالك يا أبا محمد فشكوت إليه ما عرض وقلت ( أسعِدْ بِدَمْعِكَ يا أبا العَوَّامِ ... صَبَّاً صرِيعَ هَوىً ونِضْوَ سَقامِ ) وذكر باقي الأبيات وعلمت أن الخبر سينمي إلى الرشيد فصنعت في الأبيات لحنا فلما جلس الرشيد للشرب ابتدأت فغنيته إياه فقال لي تشوقت والله يا إسحاق وشوقت وبلغت ما أردت وأمر لي بثلاثين ألف درهم وللزبير بعشرين ألفا ورحل إلى بغداد بعد أيام أخبرني يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال أخبرني أبي قال قال لي إسحاق وأخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك عن إسحاق قال جاءني الزبير بن دحمان ذات يوم مسلما فاحتبسته فقال قد أمرني الفضل بن الربيع بأن أصير إليه فقلت ( أقِمْ يا أبا العَوَّامِ وَيْحك نَشْرَبُ ... ونَلْهُو مع اللاَّهِين يوماً ونَطربُ ) ( إذا ما رأيتَ اليومَ قد جاء خَيرُه ... فخُذْهُ بشُكْرٍ واترك الفَضْلَ يَغْضَبُ ) قال فأقام عندي فشربنا باقي يومنا ثم سار الزبير إلى الفضل فسأله عن سبب تأخره عنه فحدثه بالحديث وأنشده الشعر فغضب وحول وجهه عني وأمر عونا حاجبه ألا يدخلني اليوم ولا يستأذن لي عليه ولا يوصل لي رقعة إليه قال فقلت ( حَرامٌ عليّ الكَأْسُ ما دُمْتَ غَضْباناً ... وما لم يَعُد عَنِّي رِضاكَ كما كانا ) ( فأَحسِنْ فإِنِّي قد أسأتُ ولم تَزَل ... تُعَوِّدُني عند الإساءة إحسانا ) قال وأنشدته إياهما فضحك ورضي عني وعاد لي إلى ما كان عليه وأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه بهذا الخبر فذكر نحو ما ذكره الآخران وزاد فيه وقلت في عون حاجبه ( عونُ يا عونُ ليس مثلَك عَوْنُ ... أنتَ لي عُدَّةٌ إذا كان كَوْنُ ) ( لكَ عندِي واللهِ إن رَضِيَ الفَضْل ... غُلامٌ يُرْضِيك أو بِرْذَوْنُ ) فأتى عون الفضل بالشعرين جميعا فلما قرأهما ضحك وقال له ويلك إنما عرض لك بقوله غلام يرضيك بالسوأة فقال قد وعدني ما سمعت فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم فأمره أن يرسل إلي وأتاني رسوله فضرت إليه ورضي عني أخبرني الحسن بن علي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال حدثني إسحاق قال كان عندي الزبير بن دحمان يوما فغنيت لحن أبي ( أَشاقَك من أرض العراق طُلُولُ ... تَحَمَّلَ منها جِيرَةٌ وحُمولُ ) فقال لي الزبير أنت الأستاذ وابن الأستاذ السيد وقد أخذت عن أبيك هذا الصوت وأنا أغنيه أحسن فقلت له والله إني لا أحب أن يكون ذلك كذلك فغضب وقال فأنا والله أحسن غناء منك وتلاحينا طويلا فقلت له هلم نخرج إلى صحراء الرقة فيكون اكلنا وشربنا هناك ونرضى في الحكم بأول من يطلع علينا قال أفعل فأخرجنا طعامنا وشرابنا وجلسنا نشرب على الفرات فأقبل حبشي يحفر الأرض بالبال فقلت له أترضى بهذا قال نعم فدعوناه فأطعمناه وسقيناه وبدرني الزبير بالغناء فغنى الصوت فطرب الحبشي وحرك رأسه حتى طمع الزبير في ثم أخذت العود فغنيته فتأملني الحبشي ساعة ثم صاح وأي شيطان هوه ومد بها صوته فما أذكر أني ضحكت مثل ضحكي يومئذ وانخذل الزبير نسبه هذا الصوت صوت ( أَشاقَك من أرض العراق طُلُولُ ... تَحمَّل منها جِيرَةٌ وحُمولُ ) ( وكيف ألذُّ العيشَ بعد مَعاشرٍ ... بهم كنتُ عند النَّائِباتِ أَصولُ ) الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن أحمد بن المكي وفيه للحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى وهذا البيتان من قصيدة مدح بها أبو العتاهية الفضل بن الربيع قال أنشدنيها عبد الله بن الربيع الربيعي قال أنشدنيها أبو سويد عبد القوي بن محمد بن أبي العتاهية لجده يمدح الفضل بن الربيع وإنما ذكرت ذلك ها هنا لأن من الناس من ينسبهما إلى غيره فذكرت الأبيات الأول وفيها يقول في مدح الفضل بن الربيع ( قبائِل من أَقْصَى وأَدْنَى تَجَمَّعَتْ ... فهُنَّ على آلِ الرَّبِيعِ كلولُ ) ( تمرُّ رِكابُ السَّفْر تُثنِي عليهمُ ... عليها من الخَيْر الكَثِير حُمولُ ) ( إليكَ أبا العَبَّاس حَنَّتْ بأَهلِها ... مغانٍ وحَنَّت ألسنٌ وعُقولُ ) ( وأنت جَبِينُ المُلكِ بل أنتَ سَمعهُ ... وأنت لِسانُ المُلْك حين تَقولُ ) ( وللمُلك مِيزانٌ يَداك تُقيمُه ... يزول مع الإحسان حيث يَزولُ ) حدثني الصولي قال حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال حدثنا الزبير قال حدثني رجل من ثقيف قال غضب الرشيد على أم جعفر ثم ترضاها فأبت أن ترضى عنه فأرق ليله ثم قال افرشوا لي على دجلة ففعلوا فقعد ينظر إلى الماء وقد رأى زيادة عجيبة فسمع غناء في هذا الشعر صوت ( جَرَى السيلُ فاستَبْكانِيَ السَّيْلُ إذ جَرَى ... وفاضَت له من مُقْلَتَيَّ غُرُوبُ ) ( وما ذاكَ إلاّ حين خُيِّرتُ أنَّهُ ... يمُرُّ بوادٍ أنتِ منه قَرِيبُ ) ( يكونُ أُجاجاً ماؤُه فإذا انْتَهَى ... إليكم تَلقَّى طِيبَكم فيَطِيبُ ) ( فيا ساكِني شَرْقيّ دِجْلة كُلُّكم ... الى القَلْب من أجل الحَبِيبِ حَبيبُ ) الشعر للعباس بن الأحنف والغناء للزبير بن دحمان خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي فسأل عن الناحية التي فيها الغناء فقيل دار ابن المسيب فبعث إليه أن ابعث بالمغني فإذا هو الزبير بن دحمان فسأله عن الشعر فقال هو للعباس بن الأحنف فأحضر واستنشده فأنشده إياه وجعل الزبير يغنيه وعباس ينشده وهو يستعيدهما حتى أصبح وقام فدخل إلى أم جعفر فسألت عن سبب دخوله فعرفته فوجهت إلى العباس بألف دينار وإلى الزبير بألف دينار أخرى أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد عن جده حمدون قال تشوق الرشيد بغداد وهو بالرقة فانحدر إليها وأقام بها مدة وخلف هناك بعض جواريه وكانت حظية له فيهن خلفها لمغاضبة كانت بينه وبينها فتشوقها تشوقا شديدا وقال فيها صوت ( سَلامٌ على النَّازح المُغْتَرِبْ ... تحيَّة صبٍّ به مُكْتَئِبْ ) ( غَزالٌ مراتِعُه بالبَلِيخِ ... إلى دير زَكَّى فجِسْر الخَشَبْ ) ( أيا مَنْ أعان على نَفْسِه ... بتخليفِه طائِعاً مَنْ أحَبُّ ) ( سأسْتُر والسِّتر من شِيمَتي ... هَوَى من أُحِبّ لمن لا أُحِبُّ ) وجمع المغنين فحضر إبراهيم الموصلي وابن جامع وفليح وزبير بن دحمان والمعلى بن طريف وحسين بن محرز وسليم بن سلام ويحيى المكي وابنه وإسحاق وأبو زكار الأعمى وأعطاهم الشعر وقال ليعمل كل واحد منكم فيه لحنا قال فلقد عملوا فيه عشرين لحنا فما أعجب منها إلا بلحن الزبير وحده أعجب به إعجابا شديدا وأجازه خاصة دون الجماعة بجائزة سنية غنى إبراهيم في هذه الأبيات ولحنه ماخوري بالوسطى ولفليح فيها ثاني ثقيل بالوسطى ولابن جامع رمل بالبنصر ولابن المكي ثقيل أول بالوسطى وللزبير بن دحمان خفيف ثقيل بالسبابة في مجرى البنصر وللمعلى خفيف رمل بالوسطى ولإسحاق رمل بالوسطى وللحسين بن محرز هزج بالوسطى صوت ( يا ناعِشَ الجَدّ إذا الجَدُّ عَثَرْ ... وجابِرَ العَظْم إذا العَظْمُ انْكَسَرْ ) ( أنتَ ربيعِي والرَّبيعُ يُنْتَظَرْ ... وخَيرُ أنواءِ الرَّبيع ما بَكَرْ ) الشعر للعماني الراجز والغناء لشارية خفيف رمل من كتاب ابن المعتز وروايته نسب العماني وخبره اسمه محمد بن ذويب بن محجن بن قدامة بن بلهية الحنظلي ثم الدارمي صليبة وقيل العماني وهو بصري لأنه كان شديد صفرة اللون وليس هو ولا أبوه من أهل عمان وكان شاعرا راجزا متوسطا من شعراء الدولة العباسية ليس من نظراء الشعراء الذين شاهدهم في عصره مثل أشجع وسلم ومروان ولكنه كان لطيفا داهيا مقبولا فأفاد بشعره أموالا جليلة العماني والرشيد أخبرني ابن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جبر بن رياط الأسدي أن عبد الملك بن صالح أدخل العماني على الرشيد فأنشده ( يا ناعِشَ الجَدّ إذا الجَدّ عَثَرْ ... وجابر العَظْم إذا العَظْم انْكَسَرْ ) ( أنت رَبيعِي والرَبيعُ يُنْتَظَرْ ... وخير أنواءِ الرَّبيع ما بَكَرْ ) فقال له الرشيد إذا يبكر عليك ربيعنا يا فضل أعطه خمسة آلاف دينار وخمسين ثوبا قال إسحاق قال جبر لما دخل الرشيد الرقة استقبله العماني فلما بصر به ناداه ( هارونُ يا بنَ الأَكْرمِين مَنْصبا ... لما ترحَّلْتَ فصرت كَثَبا ) ( من أرضِ بَغْداد تؤُمُّ المَغْرِبا ... طابت لنا رِيحُ الجَنُوبِ والصَّبا ) ( ونَزَل الغيْثُ لنا حتى ربا ... ما كان من نَشزٍ وما تَصَوَّبا ) ( فمَرْحباً ومَرحَباً ومَرحَبا ... ) فقال له الرشيد وبك مرحبا يا عماني وأهلا وأجزل صلته أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد المعروف بابن الصيدلاني قال حدثنا محمد بن موسى عن حماد قال قال العتبي لما وجه الفضل بن يحيى الوفد من خراسان إلى الرشيد يحضونه على البيعة لابنه محمد قعد لهم الرشيد وتكلم القوم على مراتبهم وأظهروا السرور بما دعاهم إليه من البيعة لابنه وكان فيمن حضر محمد بن ذؤيب العماني فقام بين صفوف القواد ثم أنشأ يقول ( لما أتانا خَبرٌ مُشَهَّرُ ... أغرُّ لا يَخْفَى على مَنْ يُبصِرُ ) ( جاء به الكُوفِيُّ والمُبَصِّرُ ... والراكِبُ المُنجِدُ والمُغَوِّرُ ) ( يُخَبِّر النّاسَ وما يَسْتَخْبِرُ ... قلتُ لأصحابي ووَجْهِي مُسْفِرُ ) ( وللذرجال حَسْبُكُم لا تُكْثِرُوا ... فاز بها محمد فأَقْصِرُوا ) ( قد كان هذا قبل هذا يُذْكرُ ... في كُتُب العِلم التي تُسَطَّرُ ) ( فقل لمن كان قَديماً يَتْجَرُ ... قد نُشِر العَدْل فبيعُوا واشْتَرُوا ) ( وشرِّقُوا وغَرِّبوا وبَشِّروا ... فقد كَفَى الله الذي يُسْتَقْدَرُ ) ( بمَنّه أفعال ما قد يُحْذَرُ ... والسيفُ عَنَّا مُغْمَدٌ ما يُشهَرُ ) ( وقُلِّد الأمرَ الأَغرُّ الأزهَرُ ... نَوءُ السِّماكَيْن الذي يُسْتَمْطَر ) ( بوَجْهِه إن كان عام أغْبَرُ ... سُرَّت به أسِرَّةٌ ومِنبرُ ) ( وابتَهَج النّاسُ به واسْتَبْشَروا ... وهَلّلو لرَبِّهم وكَبَّرُوا ) ( شُكراً ومن حقّهمُ أن يَشْكُروا ... إذ ثَبَتَتْ أوتادُ ملك يَعْمُرُ ) ( من هاشمٍ في حَيْث طابَ العُنْصرُ ... وطاح مَنْ كان عليها يزفِرُ ) ( إنّ بني العَبّاسِ لم يُقَصِّروا ... إذ نهضوا لملكهم فشَمَّرُوا ) ( وعَقَدوا ونَزَعوا وأمَّرُوا ... ودَبَّروا فأحْكَمُوا ما دَبَّرُوا ) ( وأوردُوا بالحَزْم ثم أصدَرُوا ... والحَزْم رأيٌ مثلُه لا يُنْكَرُ ) ( إذا الرِّجالُ في الرِّجالِ خُيِّروا ... يا أيها الخليفة المُطَهَّر ) ( والمؤمِنُ المُباركُ المُوقَّرُ ... والطَّيِّبُ الأَغْصانِ والمُظَفَّرُ ) ( ما النَّاس إلا غَنَم تَنَشَّرُ ... إن لم تَداركْهُم براعٍ يَخْطِرُ ) ( على قَوَاصِي طُرْقِها ويستُرُ ... ويمنَع الذِّئبَ فلا يُنفِّرُ ) ( فامُنْن علينا بيَدٍ لا تُكفَر ... مَشْهورةٍ ما دام زَيْتٌ يُعْصَرُ ) ( وانظر لنا وخلِّ مَنْ لا ينظُر ... واجْسِرْ كما كان أبوك يَجْسِرُ ) ( لا خير في مُجَمْجَمٍ لا يَظْهَرُ ... ولا كتابِ بَيْعةٍ لا يُنْشَرُ ) ( وقد تربصت فليس تُعْذَر ... فليت شِعْري ما الذي تَنْتَظِرُ ) ( أأنت قائِمٌ به أم تَسْخَرُ ... ما لك في محمدٍ لا تَعْذِرُ ) ( وليتَ شِعْرِي والحديثُ يُؤْثَرُ ... أترقُدُ الليلَ ونحن نَسهرُ ) ( خوفاً على أمورنا ونَضْجَرُ ... واللهِ واللهِ الذي يُسْتَغْفَرُ ) ( لأنْ يموتَ مَعْشَرٌ ومَعْشَرُ ... خَيرٌ لنا من فِتْنَةٍ تَسعَّرُ ) ( يَهلِك فيها دينُهم ويُوزَروا ... وقد وَفَى القومُ الذين انْتَصَروا ) ( لصاحب الرُّوم وذاك أصغرُ ... منه وهذا البَحْرُ لا يُكَدَّرُ ) ( وذاكم العِلْجُ وهذا الجَوْهَرُ ... يَنْمِي به محمدٌ وجَعْفَرُ ) ( والخُلفَاءُ والنَّبِيُّ الأكبَرُ ... ونبعةٌ من هاشِمٍ وعُنْصُرُ ) ( واعلمْ وأنتَ المرءُ لا يُبَصَّرُ ... والله يبقيك لنا وتجبر ) ( منّا ذوِي العُسْرة حتى يُوسِرُوا ... أنَّ الرِّجالَ إن وَلُوها آثَرُوا ) ( ذَوِي القَراباتِ بها واستَأْثَرُوا ... بها وضَلَّ أمرهُم واستَكْبَرُوا ) ( والمُلك لا رِحْم له فيأصِرُ ... ذا رَحِمٍ والناسُ قد تَغَيَّرُوا ) ( فأَحكمِ الأمرَ وأنتَ تَقْدِرُ ... فمِثْلُ هذا الأمْرِ لا يُؤَخَّرُ ) فلما فرغ من أرجوزته قال له الرشيد أبشر يا عماني بولاية محمد العهد فقال إي والله يا أمير المؤمنين بشرى الأرض المجدبة بالغيث والمرأة النزور بالولد والمريض المدنف بالبرء قال ولم ذاك قال لأنه نسيج وحده وحامي مجده وموري زنده قال فما لك في عبد الله قال مرعى ولا كالسعدان فتبسم الرشيد وقال قاتله الله من أعرابي ما أعرفه بمواضع الرغبة وأسرعه إلى أهل البذل والعائدة وأبعده من أهل الحزم والعزم والذين لا يستمنح ما لديهم بالثناء أما والله إني لأعرف في عبد الله حزم المنصور ونسك المهدي وعز نفس الهادي ولو أشاء أن أنسبه إلى الرابعة لنسبته إليها أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا علي بن الحسن الشيباني وأخبرني به محمد بن جعفر عن محمد بن موسى عن حماد عن أبي محمد المطبخي عن علي بن الحسن الشيباني قال أخبرني أبو خالد الطائي عن جبير بن ضبينة الطائي قال أخبرني الفضل قال حضرت الرشيد يوما وجلس للشعراء فدخل عليه الفضل بن الربيع وخلفه العماني فأدناه الرشيد واستنشده فأنشده أرجوزة له فيه حتى انتهى إلى هذا الموضع ( قُلْ للإِمام المقْتَدَى بأَمِّهِ ... ما قاسمٌ دُونَ مَدى ابنِ أُمِّهِ ) ( وقد رَضِيناه فقُمْ فسمِّهِ ... ) قال فتبسم الرشيد ثم قال ويحك أما رضيت أن أوليه العهد وأنا جالس حتى أقوم على رجلي فقال له العماني ما أردت يا أمير المؤمنين قيامك على رجليك إنما أردت قيام العزم قال فإنا قد وليناه العهد وأمر بالقاسم أن يحضر ومر العماني في أرجوزته يهدر حتى أتى على آخرها وأقبل القاسم فأومأ إليه الرشيد فجلس مع أخويه فقال له يا قاسم عليك جائزة هذا الشيخ فقد سألنا أن نوليك العهد وقد فعلنا فقال حكمك يا أمير المؤمنين فقال وما أنا وهذا بل حكمك وأمر له الرشيد بجائزة وأمر له القاسم بجائزة أخرى مفردة أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال دخل محمد بن ذؤيب العماني على أبي الحر التميمي بالبصرة فأطعمه وسقاه وجلله بكساء فقال له ( إن أبا الحُرِّ لَعَينُ الحُرِّ ... يدفع عنَّا سَبراتِ القُرِّ ) ( باللحم والشَّحم وخُبز البُرّ ... ونُطْفة مكنُونة في الجَرِّ ) ( يَشْربُها أشياخُنا في السِّرِّ ... حتى نرى حديثَنا كالدُّرِّ ) العماني يمدح عبد الملك بن صالح أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد عن أبيه قال قصد العماني عبد الملك بن صالح الهاشمي متوسلا به إلى الرشيد في الوصول إليه مع الشعراء ومدح عبد الملك بقصيدته التي يقول فيها ( نمَتْه العَرانينُ من هاشمٍ ... الى النَّسَب الأَوضح الأصْرحِ ) ( إلى نبْعةٍ فرعُها في السماء ... ومغرسُها سُرَّةُ الأَبطَحِ ) فأدخله عبد الملك إلى الرشيد بالرقة فأنشده ( هارونُ يابنَ الأكرمين حَسَبا ... لما ترحَّلْتَ فكنت كَثَبا ) ( من أرض بغدادَ تؤمُّ المغربا ... طابَتْ لنا ريحُ الجنوِب والصَبا ) ( وَنَزلَ الغيثُ لنا حتى رَبا ... ما كان من نَشْزٍ وما تصوّبا ) ( فمرْحباً ومَرْحباً ومَرْحبا ... ) فأعطاه خمسة آلاف دينار وخمسين ثوبا أخبرني عمي والحسين بن القاسم الكوكبي قالا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا إسحاق بن عبد الله الأزدي عن محمد بن عبد الله العامري القرشي عن العماني الشاعر أنه تغدى مع محمد بن سليمان بن علي فكان أول ما قدم إليهم فرنية في لبن عليها سكر ثم تتابع الطعام فقال له قل فيما أكلت شعرا تصفه فقال ( جاؤوا بفُرْنَي لهم مَلبونِ ... بات يُسَقَّى خالص السُّمُونِ ) ( مُصَوْمَعٍ أكومَ ذي غُصونِ ... قد حُشِيَتْ بالسُّكَّرِ المَطحُونِ ) ( ولَوّنوا ما شِئْت من تلوين ... من باردِ الطَّعامِ والسّخينِ ) ( ومن شراسِيف ومن طُرْدين ... ومن هُلامٍ ومَصُوصٍ جُونِ ) ( ومن إِوَزٍّ فائقٍ سَمِينِ ... ومن دَجاجٍ قِيتَ بالعجِينِ ) ( فالشَّحْمُ في الظُّهورِ والبُطونُ ... وأَتْبعُوا ذلك بالجَوْزَينِ ) ( وبالخَبِيصِ الرَّطْب واللَّوْزين ... وَفّكَّهُوا بعِنبٍ وتِينِ ) ( والرُّطْب الأزاذِ والهَيْرون ... محمد يا سيّد البَنِينِ ) ( وبِكْر بِنْت المُصطفى الأمينِ ... الصادقِ المُباركِ المَيْمُونِ ) ( وابنِ وُلاةِ البَيْتِ والحَجُونِ ... اسمعْ لنعتٍ غيرِ ذي تَفنينِ ) ( يخْرُجُ من فنٍّ إلى فُنونِ ... إن الحديثَ فيكَ ذو شُجونِ ) أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال حدثني أبو هاشم القيني قال كان محمد بن ذؤيب العماني الراجز من أهل البصرة ويكنى أبا عبد الله وإنما قيل له العماني لأنه أقبل يوما وقد خرج من علة ووجهه أصفر فقال له بعض أصحابنا يا أبا عبد الله قد خرجت من هذه العلة كأنك جمل عماني قال وكانت جمال عمان تحمل الورس من اليمن إلى عمان فتصفر قال وهو من بني تميم ثم من بني فقيم قال فقدم على عيسى بن موسى فلما وصل إليه أنشده مديحا له وفد إليه به فاستحسنه ووصله واقتطعه إليه وخصه وجعله في جلسائه فقال العماني فيه ( ما كنتُ أدري ما رَخاءُ العَيْشِ ... ولا لبِستُ الوَشْي بعد الخَيْشِ ) ( حتى تمدَّحْتُ فتى قُرَيشِ ... عِيسى وعيسى عند وقْت الهَيْشِ ) ( حين يخفّ غَيرُه للطَّيش ... زَيْن المقيمين وعِزّ الجَيشِ ) ( راش جَناحيَّ وفوق الرِّيشِ ... ) أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن علي بن أبي نعيم قال حدثنا موسى بن صبيح المروزي قال خرج الرشيد غازيا بلاد الروم فنزل بهرقلة ونصب الحرب عليها فدخل عليه العماني وهو يذكر بغداد وطيبها وما فيه أهلها من النعمة فأنشده العماني قصيدة له في هذا المعنى يذكر فيها طيب العيش ببغداد وسعة النعم وكثرة اللذات يقول فيها ( ثم أتَوْهم بالدَّجاج الدُّجَّجِ ... بين قَدِيدٍ وشِواءٍ مُنضَجِ ) ( وبِعَبيطٍ ليس بالمُلَهْوَجِ ... فدُقَّ دَقَّ الكودَنيّ الدَّيْرَجِ ) ( حتى مَلاَ أعفاج بطنٍ نُفَّجِ ... وقال للقَيْنَة صُبِّي وامزُجِي ) قال فوهب له على القصيدة ثلاثين ألف درهم ثم دخل إليه ابن جامع وقد أمر الرشيد أن يوضع الكبريت والنفط الأبيض على الحجارة وتلف بالمشاقة وتوقد فيها النار ثم توضع في كفة المنجنيق ويرمى بها السور ففعلوا ذلك وكانت النار تثبت في السور وتصدعه حتى طلبوا الأمان حينئذ فغناه ابن جامع وقال ( هَوَتْ هِرَقْلَةُ لَمَّا أن رأتْ عَجَباً ... حوائماً تَرْتَمِي بالنِّفط والنَّارِ ) ( كأنَّ نِيرَانَنا في جَنْب قَلْعتِهِم ... مُصَبَّغاتٌ على أَرسان قَصَّارِ ) فأمر له بثلاثين ألف درهم أخرى أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو هفان قال حدثني أحمد بن سليمان قال قال يزيد بن عقال كنا وقوفا والمهدي قد أجرى الخيل فسبقها فرس له يقال له الغضبان فطلب الشعراء فلم يحضر أحد منهم إلا أبو دلامة فقال له قلده يا زند فلم يفهم ما أراد فقلده عمامته فقال له المهدي يابن اللخناء أنا أكثر عمائم منك إنما أردت أن تقلده شعرا ثم قال يا لهفي على العماني فلم يتكلم بها حتى أقبل العماني فقيل له ها هوذا قد أقبل الساعة يا أمير المؤمنين فقال قدموه فقدموه فقال قلد فرسي هذا فقال غير متوقف ( قد غَضِبَ الغَضْبانُ إذ جدَّ الغَضَبْ ... وجاء يحمي حَسَباً فَوقِّ الحَسَبْ ) ( من إرْثِ عَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبْ ... وجاءت الخَيْلُ به تَشْكو التَّعَبْ ) ( له عليها ما لَكُم على العَرَبْ ... ) فقال له المهدي أحسنت والله وأمر له بعشر آلاف درهم صوت ( لقد عَلِمْتُ وما الإسرافُ من خُلُقي ... أن الذي هو رِزْقِي سوفَ يأْتِيني ) ( أسعَى له فيُعَنّيني تَطلُّبُه ... ولو قعدتُ أتاني لا يُعَنِّينِي ) الشعر لعروة بن أذينة والغناء لمخارق ثقيل أول بالبنصر عن عمرو أخبار عروة بن أذينة ونسبه هو عروة بن أذينة وأذينة لقبه واسمه يحيى بن مالك بن الحارث بن عمرو بن عبد الله بن زحل بن يعمر وهو الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار وسمي يعمر بالشداخ لأنه تحمل ديات قتلى كانت بين قريش وخزاعة وقال قد شدخت هذه الدماء تحت قدمي فسمي الشداخ قال ابن الكلبي الشداخ بضم الشين ويكنى عروة بن أذينة أبا عامر وهو شاعر غزل مقدم من شعراء أهل المدينة وهو معدود في الفقهاء والمحدثين روى عنه مالك بن أنس وعبيد الله بن عمر العدوي أخبرني بذلك أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن عمر بن شبة وروى جده مالك بن الحارث عن علي بن أبي طالب عليه السلام أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني عن ابن دأب عن عروة بن أذينة عن أبيه قال حدثني أبي مالك بن الحارث قال خرج مع علي بن أبي طالب عليه السلام رجل من قومي كان مصطلما فخرجت في أثره وخشيت انقراض أهل بيته فأردت أن استأذن له من علي فأدركت عليا عليه السلام بالبصرة وقد هزم الناس ودخل البصرة فجئته فقال مرحبا بك يابن الفقيمة أبدا لك فينا بداء قلت والله إن نصرتك لحق وإني لعلى ما عهدت أحب العزلة ثم ذاكرته أمر ابن عمي ذلك فلم يبعد عنه فكنت آتية أتحدث إليه فركب يوما يطوف وركبت معه فإني لأسير إلى جانيه إذ مررنا بقبر طلحة فنظر إليه نظرا شديدا ثم أقبل علي فقال أمسى والله أبو محمد بهذا المكان غريبا ثم تمثل ( وما تَدْرِي وإن أزمعْتَ أمْراً ... بأيّ الأَرْض يُدْرِكُك المَقِيلُ ) والله إني لأكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب قال فوقع العراقيون يشتمون طلحة وسكت علي وسكت حتى إذا فرغوا أقبل علي عليه السلام علي فقال إيه يا بن الفقيمة والله إنه وإن قالوا ما سمعت لكما قال أخو جعفي ( فَتىً كان يُدْنيه الغِنى من صَدِيقه ... إذا ما هو اسْتَغْنَى ويُبْعِدُه الفَقْرُ ) ثم أردت أن أكلمه بشيء فقلت يا أمير المؤمنين فقال وما منعك أن تقول يا أبا الحسن فقلت آبيت فقال والله إنها لأحبهما إلي لولا الحمقى ولوددت أني خنقت بحبل حتى أموت قبل أن يفعل عثمان ما فعل وما أعتذر من قيام بحق ولكن العافية مما ترى كانت خيرا عروة بن أذينة يرى حريق الكعبة حدثنا محمد بن خلف وكيع والحسن بن علي الخفاف قالا حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا محمد بن سعد عن الواقدي عن عبيد الله بن يزيد عن عروة بن أذينة قال قدمت مع أبي مكة يوم احترقت الكعبة فرأيت الخشب وقد خلصت إليه النار ورأيت الكعبة متجردة من الحريق ورأيت الركن قد اسود وتصدع من ثلاثة أمكنة فقلت ما أصاب الكعبة فأشاروا إلى رجل من أصحاب ابن الزبير فقالوا هذا احترقت بسببه أخذ قبسا في رأس رمح فطيرت الريح منه شيئا فضربت أستار الكعبة فيما بين اليماني إلى الأسود وفود على هشام بن عبد الملك حدثني محمد بن جرير الطبري وحفظته وأخبرنا به أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عمر بن مخروس الوراق بن أقيصر السلمي قال حدثنا يحيى بن عروة بن أذينة قال أتى أبي وجماعة من الشعراء هشام بن عبد الملك فنسبهم فلما عرف أبي قال له أنت القائل ( لقد عَلِمْتُ وما الإسرافُ من خُلُقي ... أنَّ الذي هو رِزْقِي سوفَ يأْتِيني ) ( أسعَى له فيُعَنّيني تَطلُّبُه ... ولو جلستُ أتِاني لا يُعَنِّينِي ) هذان البيتان فقط ذركهما المهلبي والجوهري وذكر محمد بن جرر في خبره الأبيات كلها ( وأنَّ حظَّ امرىءٍ غيرِي سَيَبْلُغُه ... لا بُدَّ لا بُدَّ أن يحتازَه دُوني ) ( لا خَيرَ في طَمعٍ يُدنِي لِمنْقَصةٍ ... وغُفَّة من قَوام العيش تَكْفِيني ) ( لا أركبُ الأمرَ تُزْرِي بي عَوَاقِبُه ... ولا يُعابُ به عِرْضِي ولا دِيني ) ( كم مِنْ فَقِيرٍ غَنِيِّ النَّفْسِ تَعرِفُه ... ومن غَنِيٍّ فَقِيرِ النَّفس مِسْكِينِ ) ( ومن عَدُوٍّ رَمانِي لو قَصدتُ له ... لم يَأْخُذِ النِّصْفَ مني حين يرمِينِي ) ( ومن أخٍ لي طوى كَشْحاً فقلتُ له ... إنَّ انْطِوَاءَك عني سوف يَطْوِيني ) ( إني لأنْطِق فيما كان من أَرَبِي ... وأُكْثِرُ الصَّمْتَ فيما ليس يَعْنِيني ) ( لا أَبْتَغِي وَصْلَ من يَبْغِي مفارقتي ... ولا أَلِينُ لمَنْ لا يَشْتَهِي لِيني ) فقال له ابن أذينة نعم أنا قائلها قال أفلا قعدت في بيتك حتى يأتيك رزقك وغفل عنه هشام فخرج من وقته وركب راحلته ومضى منصرفا ثم افتقده هشام فعرف خبره فأتبعه بجائزة وقال للرسول قل له أردت أن تكذبنا وتصدق نفسك فمضى الرسول فلحقه وقد نزل على ماء يتغذى عليه فأبلغه رسالته ودفع الجائزة فقال قل له صدقني ربي وكذبك قال يحيى بن عروة وفرض له فريضتين فكنت أنا في إحداهما أخبرنا وكيع قال حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك قال حدثني الزبير بن بكار قال حدثني أبو غزية قال حدثني أنس بن حبيب قال خرج ابن أذينة إلى هشام بن عبد الملك في قوم من أهل المدينة وفدوا عليه وكان ابنه مسلمة بن هشام سنة حج أذن لهم في الوفود عليه فلما دخلوا على هشام انتسبوا له وسلموا عليه فقال ما جاء بك يا ابن أذينة فقال ( أَتينا نمُتُّ بأرحامِنا ... وجِئْنا بإذْن أبي شَاكِر ) ( فإنَّ الذي سارَ مَعروفُه ... بنجْدٍ وَغار مع الغَائِرِ ) ( إلى خَيْر خِنْدِفَ في ملكها ... لِبادٍ من النَّاس أو حَاضِر ) فقال له هشام ما اراك إلا قد أكذبت نفسك حيث تقول ( لقد عَلِمْتُ وما الإسرافُ من خُلُقِي ... أن الذي هو رِزْقِي سوفَ يأْتِيني ) ( أسعَى له فيُعَنّيني تَطلُّبُه ... ولو جلست أتاني لا يُعَنِّينِي ) فقال له ابن أذينة ما أكذبت نفسي يا أمير المؤمنين ولكني صدقتها وهذا من ذاك ثم خرج من عنده فركب راحلته إلى المدينة فلما أمر لهم هشام بجوائزهم فقده فقال أين ابن أذينة فقالوا غضب من تقريعك له يا أمير المؤمنين فانصرف راجعا إلى المدينة فبعث إليه هشام بجائزته أخبرنا وكيع قال حدثنا هارون بن محمد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن عروة بن عبيد الله قال كان عروة بن أذينة نازلا مع أبي في قصر عروة بالعقيق وخرج أبي يوما يمشي وأنا معه وابن أذينة ونظر إلى غنم كانت له في يدي راع يقال له كعب وهي مهملة وكعب نائم حجرة فجعل ابن أذينة ينزو حوله وهو يضربه ويقول ( لو يَعْلَم الذِّئبُ بنَوْم كَعْبِ ... إذاً لأَمْسَى عندنا ذا ذَنْبِ ) ( أضرِبُه ولا يَقُول حَسْبِي ... لا بدَّ عند ضَيْعَةٍ من ضَرْبِ ) ابن عائشة يغني بشعره أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي وإسماعيل بن يونس الشيعي قالوا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان محمد بن يحيى عن بعض أصحابه قال مر ابن عائشة المغني بعروة بن أذينة فقال له قل لي أبياتا هزجا أغني فيها فقال له اجلس فجلس فقال صوت ( سُلَيْمَى أجمَعَتْ بَيْننا ... فأينَ تقولُها أينا ) ( وقد قالت لأترابٍ ... لها زُهرٍ تلاقَينا ) ( تعالَيْنَ فقد طابَ ... لنا العَيْشُ تَعالَيْنا ) ( وغاب البَرِمُ الليْلة ... والعَيْنُ فلا عَيْنا ) ( فأقبلنَ إليها مُسر ... عاتٍ يَتَهادَيْنا ) ( إلى مثل مَهاة الرّم ... تكسو المَجلسَ الزَّينا ) ( تمنَّين مُناهُنّ ... فكُنَّا ما تمنّينا ) قال أبو غسان فحدثت أن ابن عائشة رواها ثم ضحك لما سمع قوله ( تمنَّين مُناهُنّ ... فكُنَّا ما تمنّينا ) ثم قال يا ابا عامر تمنيتك لم اأقبل بخرك وأدبر ذكرك قال عمر بن شبة قال قال أبو غسان فحدثني حماد الحسيني قال ذكر ابن أذينة عند عمر بن عبد العزيز فقال نعم الرجل أبو عامر على أنه الذي يقول ( وقد قالت لأترابٍ ... لها زُهرٍ تلاقَينا ) وأخبرني بهذا الخبر وكيع قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات عن الزبير عن محمد بن يحيى عن إسحاق بن إبراهيم عن قسطاس قال مر ابن عائشة بابن أذينة ثم ذكر الخبر مثل الذي قبله أخبرني حبيب بن نصر المهلبي والحرمي بن أبي العلاء قالا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني أبو معاوية عبد الجبار بن سعيد المساحقي وأخبرنا به وكيع قال حدثنا أبو أيوب المدائني عن الحارث بن محمد العوفي قال وقفت سكينة بنت الحسين بن علي عليهما السلام على عروة بن أذينة في موكبها ومعها جواريها فقالت يا أبا عامر أنت الذي تزعم أن لك مروءة وأن غزلك من وراء عفة وأنك تقي قال نعم قالت أفأنت الذي تقول صوت ( قالت وأَبْثْثتُها وَجْدِي فبُحتُ به ... قد كنتَ عندي تحبُّ السَّتر فاسَتترِ ) ( ألستَ تُبصِر مَنْ حَوْلي فقلت لها ... غَطَّى هواكِ وما ألقَى على بَصرِي ) قال لها بلى قالت هن حرائر إن كان هذا خرج من قلب سليم أو قالت من قلب صحيح في هذين البيتين لعلويه رمل بالبنصر وفيهما لأسحاق هزج بالوسطى وفيهما لمخارق ثقيل أول بالبنصر عن الهشامي وعمر بن بانة وذكر حبش أن الثقيل الأول لمعبد اليقطيني وذكر علي بن محمد بن نصر البسامي أن خاله أبا عبد الله بن حمدون بن إسماعيل قال كنت جالسا بين يدي المتوكل وبين يديه المنتصر فأحضر المعتز وهو صبي صغير فلعب فأفرط في اللعب والمنتصر يرمقه كالمنكر لفعله فنظر إليه المتوكل عدة دفعات ثم التفت إلى المنتصر فقال يا محمد ( قالتْ وأَبْثثْتُها وَجْدِي فبُحتُ به ... قد كنُتَ عندي تحُبُّ السّتر فاسْتترِ ) قال فاعتذر إليه المنتصر عذرا قبله وهو مقطب معرض قال وكان المنتصر أشد خلق الله بغضا للمعتز وطعنا عليه ولقد دخلت إليه يوما ودخل إليه أبو خالد المهلبي بعد قتل المتوكل وإفضاء الخلافة إليه ومع المهلبي درع كأنها فضة فقال يا أمير المؤمنين هذه درع المهلب فأخذها وقام فلبسها ورأى المعتز وعليه وشي مثقل وما أشبه ذلك فتمثل ببيت جرير ( لَبِسْتُ سِلاحِي والفرزدقُ لُعبةٌ ... عليه وشاحاً كُرَّجٍ وجلاجِلُهْ ) أخبرني وكيع قال حدثني هارون بن محمد قال حدثني عبد الله بن شعيب الزبيري قال حدثني عبد العزيز بن أبي سلمة قال مرت امرأة بابن أذينة وهو بفناء داره فقالت له أأنت ابن أذينة قال نعم قالت أأنت الذي يقول الناس إنك امرؤ صالح وأنت الذي تقول ( إذا وَجدتُ أُوارَ الحُبِّ في كَبِدِي ... عَمَدتُ نحوَ سِقاء القَوْمِ أَبْتَرِدُ ) ( هَبْنِي بَرَدْتُ ببَرْدِ الماءِ ظاهره ... فمَنْ لِحَرٍّ على الأَحشاء يَتَّقِدُ ) أبو السائب المخزومي يطلب سماع شعر عروة أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي عن عروة بن عبد الله وأخبرنا به وكيع عن هارون بن الزيات عن الزبيري عن عمه عن عروة بن عبد الله وذكره حماد عن أبيه عن الزبيري عن عروة هذا قال كان عروة في أذينة نازلا في دار أبي بالعقيق فسمعه ينشد صوت ( إنَّ التي زعمَتْ فُؤادَك ملَّها ... جُعِلَتْ هَواكَ كما جُعِلْتَ هوًى لها ) ( فَبكَ الَّذِي زَعَمَتْ بها وكلاكُما ... يُبدِي لِصاحِبه الصَّبابةَ كُلَّها ) ( ويَبِيتُ بين جَوانِحي حُبٌّ لها ... لو كان تحت فِراشِها لأَقَلَّها ) ( ولعمرُها لو كان حبُّك فوقها ... يوماً وقد ضَحِيَتْ إذاً لأظلَّها ) ( وإذا وجدتُ لها وَساوسَ سَلْوَةٍ ... شَفَع الفُؤادُ إلى الضَّمير فسلَّهَا ) ( بيضاءُ باكَرَها النَّعِيمُ فَصاغَها ... بِلَباقَةٍ فأدَقَّها وأَجَلَّها ) ( لما عَرضْتُ مُسَلِّماً لي حاجَةٌ ... أرجُو مَعونَتَها وأخْشَى دَلَّها ) ( مَنَعَتْ تَحِيَّتَها فقلتُ لصاحِبِي ... ما كان أكْثَرها لنا وأَقَلَّها ) ( فدنا فقال لَعَلَّها مَعْذُورةٌ ... من أجل رِقْبَتِها فقلتُ لَعَلَّها ) قال فأتاني أبو السائب المخزومي وأنا في دار بالعقيق فقلت له بعد الترحيب هل بدت لك حاجة فقال نعم أبيات لعروة بن أذينة بلغني أنك سمعتها منه فقلت له وأية أبيات فقال وهل يخفى القمر قوله ( إنّ الَّتِي زَعَمَتْ فؤادك مَلَّها ... ) فأنشدته إياها فلما بلغت إلى قوله فقلت لعلها قال أحسن والله هذا والله الدائم العهد الصادق الصبابة لا الذي يقول ( إن كان أهلُكِ يَمْنَعونكِ رَغْبَةً ... عَنّي فأَهْلِي بي أضَنُّ وأرغَبُ ) اذهب لاصحبك والله ولا وسع عليك يعني قائل هذا البيت لقد عدا الأعرابي طوره وإني لأرجو أن يغفر الله لصاحبك يعني عروة لحسن ظنه بها وطلبه العذر لها قال فعرضت عليه الطعام فقال لا والله ما كنت لآكل بهذه الأبيات طعاما إلى الليل وانصرف ذكر ما في هذا الخبر من الغناء في الشعر المذكور فيه لعروة في البيت الأول والرابع من الأبيات خفيف رمل بالوسطى نسبه ابن المكي إلى ابن مسجح وقيل إنه من منحوله إليه وفيهما وفي البيت الثالث من شعر ابن أذينة خفيف ثقيل لابن الهربذ والبيت ( ويبيتُ بين جَوانِحي حُبٌّ لها ... لو كان تحت فِرَاشِها لأَقَلَّها ) أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عمر بن أبي بكر المؤملي قال أخبرنا عبد الله بن أبي عبيدة قال قلت لأبي السائب المخزومي ما أحسن عروة بن أذينة حيث يقول صوت ( لَبِثُوا ثَلاثَ مِنىً بِمَنْزِلِ غِبْطَةٍ ... وهُم على غَرَضٍ لَعَمْرُك ما هُمُ ) ( مُتجاوِرِين بغَيْر دارِ إقامةٍ ... لو قد أجدَّ رَحِيلُهم لم يَنْدَمُوا ) ( ولَهُنَّ بالبَيْت العَتِيق لُبانةٌ ... والبَيْتُ يعرفهنَّ لَوْ يَتَكَلَّم ) ( لو كان حيّاً قَبْلَهنَّ ظعائِناً ... حَيّا الحَطِيمُ وُجُوهَهنَّ وزَمْزَمُ ) ( وكأَنَّهُنّ وقد حَسَرْنَ لواغِباً ... بَيْضٌ بأَكْناف الحطِيمِ مُركَّمُ ) في هذه الأبيات الثلاثة لابن سريج ثاني ثقيل بالبنصر عن عمرو قال فقال لا والله ما أحسن ولا أجمل ولكنه أهجر وأخطل في صفتهن بهذه الصفة ثم لا يندم على رحيلهن أهكذا قال كثير حيث يقول صوت ( تَفرّق أهواءُ الحجِيج على مِنىً ... وَصدَّعَهم شَعْب النَّوَى صُبْحَ أرْبَع ) ( فَرِيقان مِنْهُم سَالِكٌ بَطْنَ نَخْلة ... وآخرُ منهم سَالِك بطنَ تَضْرُعِ ) في هذين البيتين للدلال ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي وحبش ( فلم أَرَ داراً مِثْلَها دارَ غِبْطَةٍ ... وملقًى إذا التَفَّ الحَجيِجُ بمَجْمَعِ ) ( أقلَّ مُقِيماً راضِياً بمَكانِه ... وأكثرَ جاراً ظاعناً لم يُوَدَّعِ ) انظر إليه كيف تقدمت شهادته علمه وكبا لسانه ببيانه هل يغتبط عاقل بمقام لا يرضى به ولكن مكره أخوك لا بطل والعرجي كان أوفى بالعهد منهما وأولى بالصواب حين تعرض لها نافرة من منى فقال لها عاتبا مستكينا ( عُوِجِي عليَّ فَسَلِّمي جَبْرُ ... فِيمَ الصُّدودُ وأنتمُ سَفْرُ ) ( ما نَلْتَقِي إلاّ ثلاثَ مِنىً ... حتى يُفرِّقَ بَيْنَنَا النَّفَرُ ) في هذين البيتين غناء قد تقدمت نسبته في أخبار ابن جامع في أول الكتاب أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني جعفر بن موسى اللهبي قال كان عبد الملك بن مروان إذا قدم مكة أذن للقرشيين في السلام عليه فإذا أراد الخروج لم يأذن لأحد منهم وقال أكذبنا إذا قول الملحي يعني كثيرا حيث يقول ( تَفرّق أهواء الحجِيج على مِنىً ... وَصدَّعهم شعْب النَوى صُبحَ أرْبَع ) وذكر الأبيات الأربعة أخبرنا علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد قال حدث الزبيري عن خالد صامة وكان أحد المغنين قال قدمت على الوليد بن يزيد فدخلت إليه وهو في مجلس ناهيك به وهو على سرير وبين يديه معبد ومالك وابن عائشة وأبو كامل فجعلوا يغنون حتى بلغت النوبة إلي فغنيته صوت ( سَرَى هَمِّي وهَمُّ المرءِ يَسْرِي ... وغارَ النَّجْم إلا قِيسَ فِتْرِ ) ( أُراقِبُ في المَجَرَّة كُلَّ نَجْمٍ ... تعرَّضَ للمَجَرَّةٍ كيف يَجْري ) ( لهمٍّ ما أزال له مديماً ... كأن القلب أُضْرِمَ حرَّ جمر ) ( على بَكْرٍ أخِي وَلَّى حَمِيداً ... وأيُّ العَيْش يصفُو بعد بَكْر ) فقال لي الوليد أعد يا صام ففعلت فقال لي من يقول هذا الشعر قلت عروة بن أذينة يرثي أخاه بكرا فقال لي وأي العيش لا يصفو بعده هذا العيش والله الذي نحن فيه على رغم أنفه والله لقد تحجر واسعا لابن سريج في هذه الأبيات ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو وابن المكي وغيرهما وفيها رمل ينسب إلى ابن عباد الكاتب وإلى حاجب الحزور وإلى مسكين بن صدقة حدثنا الأخفش عن محمد بن يزيد قال قال الزبيري حدثت أن سكينة بنت الحسين عليه السلام أنشدت هذا الشعر فقالت من بكر هذا أليس هو الأسود الدحداح الذي كان يمر بنا قالوا نعم فقالت لقد طاب كل شيء بعده حتى الخبز والزيت وأخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال لقي ابن أبي عتيق عروة بن أذينة فأنشده قوله ( لا بَكْرَ لي إذ دَعَوتُ بَكْراً ... ودُونَ بَكْرٍ ثَرىً وطِينُ ) حتى فرغ منها ثم أنشده ( سَرَى هَمِّي وَهَمُّ المرءِ يَسرِي ... ) حتى بلغ إلى قوله ( وأيُّ العَيْش يصفُو بعد بَكْرِ ... ) فقال له ابن أبي عتيق كل العيش والله يصلح بعده حتى الخبز والزيت فغضب عروة من قوله وقام عن مجلسه وحلف ألا يكلمه أبدا فماتا متهاجرين ذكر مخارق وأخباره هو مخارق بن يحيى بن ناووس الجزار مولى الرشيد وقيل بل ناووس لقب أبيه يحيى ويكنى أبا المهنأ كناه الرشيد بذلك وكان قبله لعاتكة بنت شهدة وهي من المغنيات المحسنات المتقدمات في الضرب ذكر ذلك مخارق واعترف به ونشأ بالمدينة وقيل بل كان منشؤه بالكوفة وكان أبوه جزارا مملوكا وكان مخارق وهو صبي ينادي على ما يبيعه أبوه من اللحم فلما بان طيب صوته علمته مولاته طرفا من الغناء ثم أرادت بيعه فاشتراه إبراهيم الموصلي منها وأهداه للفضل بن يحيى فأخذه الرشيد منه ثم أعتقه أخبرني الحسين بن يحيى قال قال حماد حدثني زكريا مولاهم وأخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الملك قال حدثنا حماد بن إسحاق عن زكريا مولاهم قال مخارق يصير إلى الرشيد قدمت مولاة مخارق به من الكوفة فنزلت المخرم وصار إبراهيم إلى جدي الأصبع بن سنان المقين وسيرين بن طرخان النخاس فقالا له إن ها هنا امرأة من اهل الكوفة قد قدمت ومعها غلام يتغنى فأحب أن تنفعها فيه قال فوجهني مع مولاته لأحمله فوجدته متمرغا في رمل الجزيرة التي بإزاء المخرم وهو يلعب فحملته خلفي وأتيت به إبراهيم فتغنى بين يديه فقال لها من أملك فيه قالت عشرة آلاف درهم قال قد أخذته بها وهو خير منها فقالت أقلني قال قد فعلت فكم أملك فيه قالت عشرون ألفا قال قد أخذته بها وهو خير منها فقالت والله ما تطيب نفسي أن أمتنع من عشرين ألف درهم بكبد رطبة فهل لك في خصلة تعطيني به ثلاثين ألف درهم ولا أستقيلك بعدها فقال قد فعلت وهو خير منها فصفقت على يده وبايعته وأمر بالمال فأحضر وأمر بثلاثة آلاف درهم فزيدت عليه وقال تكون هذه لهدية تهدينها أو كسوة تكتسينها ولا تثلمين المال وراح إلى الفضل بن يحيى فقال له ما خبر غلام بلغني أنك اشتريته قال هو ما بلغك قال فأرنيه فأحضره فلما تغنى بين يدي الفضل قال له ما أرى فيه الذي رأيت قال أنت تريد أن يكون في الغناء مثلي في ساعة واحدة ولم يكن مثله في الدنيا ولا يكون أبدا فقال بكم تبيعه فقال اشتريته بثلاثة وثلاثين ألف درهم وهو حر لوجه الله تعالى إن بعته إلا بثلاثة وثلاثين ألف دينار فغضب الفضل وقال إنما أردت أن تمنعنيه أو تجعله سببا لأن تأخذ مني ثلاثة وثلاثين ألف دينار فقال له أصنع بك خصلة أبيعك نصفه بنصف هذا المال وأكون شريكك في نصفه وأعلمه فإن أعجبك إذا علمته أتممت لي باقي المال وإلا بعته بعد ذلك وكان الربح بيني وبينك فقال له الفضل إنما أردت أن تأخذ مني المال الذي قدمت ذكره فلما لم تقدر على ذلك أردت أن تأخذ نصفه وغضب فقال له إبراهيم فأنا أهبه لك على أنه يساوي ثلاثة وثلاثين ألف دينار قال قد قبلته قال قد وهبته لك وغدا إبراهيم على الرشيد فقال له يا إبراهيم ما غلام بلغني أنك وهبته للفضل قال فقلت غلام يا أمير المؤمنين لم تملك العرب ولا العجم مثله ولا يكون مثله أبدا قال فوجه إلى الفضل فأمره بإحضاره فوجه به إليه فتغنى بين يديه فقال لي كم يساوي قال قلت يساوي خراج مصر وضياعها فقال لي ويلك أتدري ما تقول مبلغ هذا المال كذا وكذا فقلت وما مقدار هذا المال في شيء لم يملك أحد مثله قط قال فالتفت إلى مسرور الكبير وقال قد عرفت يميني ألا أسأل أحدا من البرامكة شيئا بعد فنفنة فقال مسرور فأنا أمضي إلى الفضل فأستوهبه منه فإذا وهبه لي وكان عبدي فهو عبدك فقال له شأنك فمضى مسرور إلى الفضل فقال له قد عرفتم ما وقعتم فيه من أمر فنفنة وإن منعتموه هذا الغلام قامت القيامة واستوهبه منه فوهبه له فبلغ ما رأيت فكان علويه إذا غضب على مخارق يقول له حيث يقول أنا مولى أمير المؤمنين متى كنت كذلك إنما أنت عبد الفضل بن يحيى أو مولى مسرور أخبرني ابن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان مخارق بن ناووس الجزار وإنما لقب بناووس لأنه بايع رجلا أنه يمضي إلى ناووس الكوفة فيطبخ فيه قدرا بالليل حتى تنضج فطرح رهنه بذلك فدس الرجل الذي راهنه رجلا فألقى نفسه في الناووس بين الموتى فلما فرغ من الطبيخ مد الرجل يده من بين الموتى وقال له أطعمني فعرف ملء المغرفة من المرقة فصبها في يد الرجل فأحرقها وضربها بالمغرفة وقال له اصبر حتى نطعم الأحياء أولا ثم نتفرغ للموتى فلقب بناووس لذلك فنشأ ابنه مخارق وكان ينادي عليه إذا باع الجزور فخرج له صوت عجيب فاشتراه أبي وأهداه للرشيد فأمره بتعليمه فعلمه حتى بلغ المبلغ الذي بلغه مخارق يغني للرشيد وكان يقف بين يدي الرشيد مع الغلمان لا يجلس ويغني وهو واقف فغني ابن جامع ذات يوم بين يدي الرشيد ( كأنَّ نِيرَانَنا في جَنْب قَلْعتِهِم ... مُصَبَّغاتٌ على أَرْسانِ قَصّار ) ( هَوَتْ هِرَقْلَةُ لَمَّا أن رأتْ عَجَباً ... حوائماً تَرتمِي بالنِّفط والنَّارِ ) فطرب الرشيد واستعاده عدة مرات وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة وأقبل يومئذ على ابن جامع دون غيره فغمز مخارق إبراهيم بعينه وتقدمه إلى الخلاء فلما جاءه قال له مالي أراك منكسرا قال أما ترى إقبال أمير المؤمنين على ابن جامع بسبب هذا الصوت فقال قد والله أخذته فقال له ويحك إنه الرشيد وابن جامع من تعلم ولا يمكن معارضته إلا بما يزيد على غنائه وإلا فهو الموت قال دعني وخلاك ذم وعرفه أني أغني به فإن أحسنت فإليك ينسب وإن أسأت فإلي يعود فقال للرشيد يا أمير المؤمنين أراك متعجبا من هذا الصوت بغير ما يستحقه وأكثر مما يستوجبه فقال لقد أحسن ابن جامع ما شاء قال أو لابن جامع هو قال نعم كذا ذكر قال له فإن عبدك مخارقا يغنيه فنظر إلى مخارق فقال نعم يا أمير المؤمنين فقال هاته فغناه وتحفظ فيه فأتى بالعجائب فطرب الرشيد حتى كاد يطير فرحا وشرب ثم أقبل على ابن جامع فقال له ويلك ما هذا فابتدأ يحلف له بالطلاق وكل محرجة أنه لم يسمع ذلك الصوت قط إلا منه ولا صنعه غيره وأنها حيلة جرت عليه فأقبل على إبراهيم وقال اصدقني بحياتي فصدقه عن قصة مخارق فقال له أكذلك هو يا مخارق قال نعم يا مولاي فقال اجلس إذن مع أصحابك فقد تجاوزت مرتبة من يقوم وأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار وأقطعه ضيعة ومنزلا أخبرني محمد بن خلف وكيع وحدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال وكيع حدثني هارون بن مخارق وقال ابن المرزبان ذكر هارون ابن مخارق قال كان أبي إذا غنى هذا الصوت ( يا رَبْعَ سَلْمى لقد هيّجْتَ لي طَرَباً ... زدْتَ الفؤادَ على عِلاَّتِهِ وَصبَا ) ( رَبْعٌ تَبدَّلَ مِمَّن كانَ يَسْكُنُه ... عُفْر الظِّباء وظِلماناً بهِ عصبا ) يبكي ويقول أنا مولى هذا الصوت فقلت له وكيف ذاك يا أبت فقال غنيته مولاي الرشيد فبكى وشرب عليه رطلا ثم قال أحسنت يا مخارق فسلني حاجتك فقلت أن تعتقني يا أمير المؤمنين أعتقك الله من النار فقال أنت حر لوجه الله فأعد الصوت فأعدته فبكى وضرب رطلا ثم قال أحسنت يا مخارق فسلني حاجتك فقلت ضيعة تقيمني غلتها قال قد أمرت لك بها أعد الصوت فأعدته فبكى وقال سل حاجتك فقلت يا أمير المؤمنين تأمر لي بمنزل وفرش وخادم قال ذلك لك أعد الصوت فأعدته فبكى وقال سل حاجتك فقبلت الأرض بين يديه وقلت حاجتي أن يطيل الله بقاءك ويديم عزك ويجعلني من كل سوء فداءك فأنا مولى هذا الصوت بعد مولاي المأمون يسأل عن مخارق وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن أبان بن سعيد حدثه أن المأمون سأل إسحاق عن إبراهيم بن المهدي ومخارق فقال يا أمير المؤمنين إذا تغنى إبراهيم بن المهدي بعلمه فضل مخارقا وإذا تغنى مخارق بطبعه وفضل صوته فضل إبراهيم فقال له صدقت أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا المبرد بهذا الخبر فقال حدثني بعض حاشية السلطان أن إبراهيم الموصلي غنى الرشيد يوما هذا الصوت فأعجب به وطرب له واستعاده مرارا فقال له فكيف لو سمعته من عبدك مخارق فإنه أخذه عني وهو يفضل فيه الخلق جميعا ويفضلني فدعا بمخارق فأمره أن يغنيه وذكر باقي الخبر مثل الذي تقدم أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن أبي الدنيا عن إسحاق بن محمد النخعي عن الحسين بن الضحاك عن مخارق أن الرشيد قال يوما للمغنين وهو مصطبح من منكم يغني ( يا رَبْعَ سَلْمى لقد هَيْجتَ لي طَرَباً ... ) فقمت فقلت أنا أمير المؤمنين فقال هاته فغنيته فطرب وشرب ثم قال علي بهرثمة بن أعين فقلت في نفسي ما يريد منه فجاؤوا بهرثمة فأدخل إليه وهو يجر سيفه فقال له يا هرثمة مخارق الشاري الذي قتلناه بناحية الموصل ما كانت كنيته فقال أبو المهنأ فقال انصرف فانصرف ثم أقبل علي وقال قد كنيتك أبا المهنأ لإحسانك وأمر لي بمائة ألف درهم فانصرفت بها وبالكنية أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن محمد بن نصر البسامي قال حدثني خالي أبو عبد الله بن حمدون قال رحنا إلى الواثق وأمه عليلة فلما صلى المغرب دخل إلى أمه وأمر بألا نبح وكان في الصحن حصر غير مفروشة فقال لي مخارق امض بنا حتى نفرش حصيرا من هذه الحصر فنجلس على بعضه ونتكىء على المدرج منه وكانت ليلة مقمرة فمضينا ففرشنا بعض تلك الحصر واستلقينا وتحدثنا وأبطأ الواثق عند أمه فاندفع مخارق فغنى ( أَيا بَيْتَ ليْلى إنَّ ليْلَى غَريبةً ... بِراذانَ لا خالٌ لديها ولا ابنُ عَم ) فاجتمع علينا الغلمان وخرج الواثق فصاح يا غلام فلم يجبه أحد ومشى من المجلس إلى أن توسط الدار فلما رأيته بادرت إليه فقال لي ويلك هل حدث في داري شيء فقلت لا يا سيدي فقال فمالي أصيح فلا أجاب فقلت مخارق يغني والغلمان قد اجتمعوا عليه فليس فيهم فضل لسماع غير ما يسمعونه منه فقال عذر والله لهم يا بن حمدون وأي عذر ثم جلس وجلسنا بين يديه إلى السحر وذكر هارون بن محمد بن عبد الملك أن مخارقا كان ينادي على اللحم الذي يبيعه أبوه فيسمع له صوت عجيب فاشترته عاتكة بنت شهدة وعلمته شيئا من الغناء ليس بالكثير ثم باعته من آل الزبير فأخذه منهم الرشيد وسلمه إلى إبراهيم الموصلي فأخذ عنه وكان إبراهيم يقدمه ويؤثره ويخصه بالتعليم لما تبينه منه ومن جودة طبعه كان مملوكا لعاتكة بنت شهدة أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب قال حدثني ابن خرداذبه قال كان مخارق بن يحيى بن ناووس الجرار وكان عبدا لعاتكة بنت شهدة وكانت عاتكة أحذق الناس بالغناء وكان ابن جامع يلوذ منها بالترجيع الكثير فتقول له أين يذهب بك هلم إلى معظم الغناء ودعني من جنونك قال فحدثني من حضرهما أن عاتكة أفرطت يوما في الرد على ابن جامع بحضرة الرشيد فقال لها أي أم العباس أنا يشهد الله أحب أن تحتك شعرتي بشعرتك فقالت له اسكت قطع الله لسانك ولم تعاود بعد ذلك أذيته قال وكانت شهدة أم عاتكة نائحة هكذا ذكر ابن خرداذبه وليس الأمر في ذلك كما ذكره حدثني محمد بن يحيى الصولي حدثنا الغلابي قال حدثني علي ابن محمد النوفلي عن عبد الله بن العباس الربيعي أنه كان هو وابن جامع وإبراهيم الموصلي وإسماعيل بن علي عند الرشيد ومعهم محمد بن داود بن علي فغنى المغنون جميعا ثم اندفع محمد بن داود فغناه صوت ( أمَّ الوَليد سَلْبتِني حِلمي ... وقتلْتِنِي فتَحلَلي إثْمِي ) ( بالله يا أمَّ الوَليد أمَا ... تَخْشَين فيَّ عواقبَ الظّلم ) ( وتَركْتِني أبغي الطّبِيبَ وَما ... لِطبيبنا بالدَّاء من عِلمِ ) قال فاستحسنه الرشيد وكل من حضر وطربوا له فسأله الرشيد عمن أخذته فقال أخذته عن شهدة جارية الوليد بن يزيد قال عبد الله بن العباس هي أم عاتكة بنت شهدة الأبيات المذكورة التي فيها الغناء لعبيد الله بن قيس الرقيات وتمامها ( لله دَرُّكِ في ابن عَمِّك قَدْ ... زَوَّدتهِ سُقْماً على سُقمِ ) ( في وجهها ماءُ الشَّباب ولم ... تُقبِل بمَكْروهٍ ولا جَهمِ ) والغناء فيه لابن محرز لحنان كلاهما له أحدهما ثقيل الأول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق والآخر خفيف ثقيل الأول بالنصر عن عمرو بن بانة وفيه لمالك ثاني ثقيل عن الهشامي وحبش وفيه لسليمان خفيف رمل بالبنصر عنهما وثقيل أول للحسين بن محرز مخارق والواثق وقال هارون بن محمد بن عبد الملك الزيات قال أبي قال الواثق أمير المؤمنين خطأ مخارق كصواب علويه وخطأ إسحاق كصواب مخارق وما غناني مخارق قط إلا قدرت أنه من قلبي خلق ولا غناني إسحاق إلا ظننت أنه قد زيد في ملكي ملك آخر قال وكان يقول أتريدون أن تنظروا فضل مخارق على جميع أصحابه انظروا إلى هؤلاء الغلمان الذين يقفون في السماط فكانوا يتفقدونهم وهم وقوف فكلهم يسمع الغناء من المغنين جميعا وهو واقف مكانه ضابط لنفسه فإذا تغنى مخارق خرجوا عن صورهم فتحركت أرجلهم ومناكبهم وبانت أسباب الطرب فيهم وازدحموا على الحبل الذي يقفون من ورائه قال هارون وحدثت أنه خرج مرة إلى باب الكناسة بمدينة السلام والناس يرتحلون للخروج إلى مكة فنظر إليهم واجتماعهم وازدحامهم فقال لأصحابه الذين خرجوا معه قد جاء في الخبر أن ابن سريج كان يتغنى في أيام الحج والناس بمنى فيستوقفهم بغنائه وسأستوقف لكم هؤلاء الناس وأستلهيهم جميعا لتعلموا أنه لم يكن ليفضلني إلا بصنعته دون صوته ثم اندفع يؤذن فاستوقف أولئك الخلق واستلهاهم حتى جعلت المحامل يغشى بعضها بعضا وهو كالأعمى عنها لما خامر قلبه من الطرب لحسن ما يسمع مخارق وأبو العتاهية أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ابن أخت الحاركي وأبو سعيد الرامهرمزي وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد الأزدي عن أحمد بن عيسى الجلودي عن محمد بن سعيد الترمذي وكان إسحاق إذا ذكر محمدا وصفه بحسن الصوت ثم قال قد أفلتنا منه فلو كان يغني لتقدمنا جميعا بصوته قالوا جاء أبو العتاهية إلى باب مخارق فطرقه واستفتح فإذا مخارق قد خرج إليه فقال له أبو العتاهية يا حسان هذا الأقليم يا حكيم أرض بابل أصبب في أذني شيئا يفرح به قلبي وتنعم به نفسي فقال انزلوا فنزلنا فغنانا قال محمد بن سعيد فكدت أسعى على وجهي طربا قال وجعل أبو العتاهية يبكي ثم قال له يا دواء المجانين لقد رققت حتى كدت أحسوك فلو كان الغناء طعاما لكان غناؤك أدما ولو كان شرابا لكان ماء الحياة نسخت من كتاب ابن أبي الدنيا حدثني بعض خدم السلطان قال قال رجل لأبي العتاهية وقد حضرته الوفاة هل في نفسك شيء تشتهيه قال أن يحضر مخارق الساعة فيغنيني ( سيُعرَض عن ذِكري وتُنْسَى مودَّتي ... ويحدثُ بعدي للخليل خليلُ ) ( إذا ما انقضت عنِّي من الدهر مُدَّتي ... فإن غَناء الباكيات قليلُ ) أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن علي بن حمزة العلوي قال حدثنا علي بن الحسين بن الأعرابي قال لقى مخارق أبا العتاهية فقال له يا أبا إسحاق أأنت القائل ( اصْرِف بطَرْفِك حيثُ شِئتَ ... فلن تَرى إلاَّ بخيلا ) قال له نعم قال بخلت الناس جميعا قال فاصرف بطرفك يا أبا المهنأ فانظر فإنك لن ترى إلا بخيلا وإلا فأكذبني بجواد واحد فالتفت مخارق يمينا وشمالا ثم أقبل عليه فقال صدقت يا أبا إسحاق فقال له أبو العتاهية فديتك لو كنت مما يشرب لذررت على الماء وشربت عندما يغني مخارق يترك الناس أعمالهم أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني بعض آل نوبخت قال كان أبي وعبد الله بن أبي سهل وجماعة من آل نوبخت وغيرهم وقوفا بكناسة الدواب في الجانب الغربي من بغداد يتحدثون فإنهم لكذلك إذ أقبل مخارق على حمار أسود وعليه قميص رقيق ورداء مسهم قال فيم كنتم فأخبروه فقال دعوني من وسواسكم هذا أي شيء لي عليكم إن رميت بنفسي بين قبرين من هذه القبور وغطيت وجهي وغنيت صوتا فلم يبق بهذه الكناسة ولا في الطريق من مشتر ولا بائع ولا صادر ولا وارد إلا ترك عمله وقرب مني واتبع صوتي فقال له عبد الله إني لأحب أن أرى هذا فقل ما شئت فقال فرسك الأشقر الذي طلبته منك فمنعتنيه قال هو لك إن فعلت ما قلت ثم دخلها ورمى بنفسه بين قبرين وتغطى بردائه ثم اندفع يغني فغنى في شعر أبي العتاهية ( نادَتْ بوَشْك رَحِيلَكَ الأَيَامُ ... أفلسْتَ تسمَعُ أمْ بك استِصْمامُ ) قال فرأيت الناس يتقوضون إلى المقبرة أرسالا من بين راكب وراجل وصاحب شول وصاحب جدي ومار بالطريق حتى لم يبق بالطريق أحد ثم قال لنا من تحت ردائه هل بقي أحد قلنا لا وقد وجب الرهن فقام فركب حماره وعاد الناس إلى صنائعهم فقال لعبد الله أحضر الفرس فقال على أن تقيم اليوم عندي قال نعم فانصرفنا معهما وسلم الفرس إليه وبره وأحسن إليه وأحسن رفده نسبة هذا الصوت صوت ( نادَتْ بوَشْك رَحِيلِك الأَيَامُ ... أَفلسْتَ تَسْمَعُ أم بك استِصْمامُ ) ( ومضَى أمامكَ مَنْ رأيت وأنْت لِلْباقين ... حتّى يَلْحقوك إمامُ ) ( مالي أراكَ كأنَّ عينَك لا تَرى ... عِبراً تمرُّ كأنَّهن سِهامُ ) ( تمضي الخُطوبُ وأنت مُنتَبهٌ لها ... فإذا مَضَتْ فكأنَّها أحلامُ ) الشعر لأبي العتاهية والغناء لإبراهيم ثقيل أول بالوسطى وفيه لمخارق هزج بالوسطى كلاهما عن عمرو وفيه رمل يقال إنه لعلويه ويقال إنه لمخارق عن الهشامي أخبرني جحظة قال ذكر ابن المكي المرتجل عن أبيه أن أبا العتاهية دخل يوما إلى صديق له وعنده جارية تغني فقال أبا إسحاق إن هذه الجارية تغني صوتا حسنا في شعر لك أفتنشط إلى سماعه قال هاتيه فغنته لحنا لعمرو بن بانة في قوله ( نادَت بِوَشْك رحيلك الأَيَّامُ ... ) فعبس وبسر وقال لا جزى الله خيرا من صنع هذه الصنعة في شعري قال فإنها تغني فيه لحنا لمخارق قال فلتغنه فغنته فأعجبه وطرب حتى بكى ثم قال جزى الله هذا عني خيرا وقام فانصرف وقد روى هذا الخبر هارون بن الزيات عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن غزوان أنه كان وعبيد الله بن أبي غسان وأبو العتاهية ومحمد بن عمرو الرومي عند ابن أبي مريم ومعهم مغنية يقال لها بنت إبليس فغنى عبيد الله ابن أبي غسان في لحن مخارق ( نادَتْ بوَشْك رَحِيلَك الأَيَّامُ ... ) فلم يستحسنه أبو العتاهية ثم غنى فيه لحنا لإبراهيم بن المهدي فأطربه وقال جزى الله عني هذا خيرا أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال بلغني أن المتوكل دخل إلى جارية من جواريه وهي تغني صوت ( أَمِنْ قَطْر النَّدى نظَّمْتَ ... ثغرَك أم من البَرَدِ ) ( وريقُكَ من سُلاف الكَرْمِ ... أم من صفْوة الشُّهُدِ ) ( أيا مَنْ قد جرى مِنِّي ... كمجْرَى الرُّوح في الجسَدِ ) ( ضَمِيرُك شاهِدي فيما ... أُقاسِيه من الكَمدِ ) والغناء لمخارق رمل فقال لها ويحك لمن هذا الغناء فقالت أخذته من مخارق قال فألقيه على الجواري جميعا ففعلت فلما أخذنه عنها أمر بإخراجهن إليه ودعا بالنبيذ وأمر بألا يغنينه غيره ثلاثة أيام متوالية وكان ذلك بعد وفاة مخارق وأخبرنا إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة قال قال عمر بن نوح بن جرير سألت أبا المضاء الأسدي أن ينشدني فقال أنشدك من شعري شيئا قلته لرجل لقيته على الجسر ببغداد فأعجبه مني ما يرى من دماثتي وأقبلت أحدثه وهو ينصت لي وأنشده وهو يحسن الإصغاء إلى أنشادي ويحدثني فيحسن الحديث حتى بلغنا منزله فأدخلني فغداني ثم لم يرم حتى كساني وسقاني فرواني ثم أسمعني والله شيئا ما طار في مسامعي شيء قط أحسن منه فلما خرجت سألت عنه فقال لي غلمانه هذا أبو المهنأ مخارق فقلت فيه ( أعاد اللهُ يوم أبي المُهنَّا ... علينا إنَّه يوم نضير ) ( تغيَّبَ نَحسُه عنَّا وأرخَى ... علينا وابلٌ جَودٌ مطيرُ ) قال يا إسحاق هذا والله صاحب اللواء غدا إن مات أبوك أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال رأيت وأنا حدث كأن شيخا جالسا على سرير في روضة حسنة قد دعاني فقال لي غنني يا مخارق فقلت أصوتا تقترحه أم ما حضر فقال ما حضر فغنيته بصنعتي في صوت ( دَعِي القَلبَ لا يزْدَدْ خَبالاً مع الذي ... به منك أو داوِي جَواه المُكتَّما ) ( وليس بتزْويِق اللسانِ وصوْغِه ... ولكنَّه قد خالط اللَّحمَ والدَّمَا ) ولحن مخارق فيه ثقيل أول وفيه لابن سريج رمل قال فقال لي أحسنت يا مخارق ثم أخذ وترا من أوتار العود فلفه على المضراب ودفعه إلي فجعل المضراب يطول ويغلظ والوتر ينتشر ويعرض حتى صار المضراب كالرمح والوتر كالعذبة عليه وصار في يدي علما ثم انتبهت فحدثت برؤياي إبراهيم الموصلي فقال لي الشيخ بلا شك إبليس وقد عقد لك لواء صنعنك فأنت ما حييت رئيس أهلها قال مؤلف هذا الكتاب وأظن أن الشاعر الذي مدح مخارقا إنما عنى هذه الرؤيا بقوله ( لقد عَقَد الشَّيخُ الذي غرَّ آدما ... وأخرجَه من جَنَّةٍ وحدائقِ ) ( لِواءَيْ فُنونٍ للقريض وللغِنا ... وأقسَم لا يُعطِيها غيرَ حاذِقِ ) وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن هارون بن مخارق حدثه فقال كان الواثق شديد الشغف بأبي وكان قد اقتطعه عنا وأمر له بحجرة في قصره وجعل له يوما في الأسبوع لنوبته في منزله وكان جواريه يختلفن لذلك اليوم قال فانصرف إلينا مرة في نوبته فصلى الغداة مع الفجر على أسرة في صحن الدار في يوم صائف وجلس يسبح فما راعنا إلا خدم بيض قد دخلوا فسلموا عليه وقالوا إن أمير المؤمنين قد دعا بنا في هذه الساعة فأعدنا عليه الصوت الذي طرحته علينا فلم يرضه من أحد منا وأمرنا بالمصير إليك لنصححه عليك قال فأمر غلمانه فطرحوا لهم عدة كراسي فجلسوا عليها ثم قال لهم ردوا الصوت فردوه فلم يرضه من أحد منهم فدعا بجاريته عميم فردته عليهم فلم يرضه منها قال فتحول إليهم ثم اندفع فرد الصوت على الخدم فخرج الوصائف من حجر جواريه حتى وقفن حوالى الأسرة ودخل غلام من غلمانه وكان يستقي الماء فهجم على الصحن بدلوه وجاءت جارية على كتفها جرة من جرار المزملات حتى وقفت بالقرب منه قال وسبقتني عيناي فما كففت دموعها حتى فاضت ثم قطع الصوت حين استوفاه فرجع الوصائف الأصاغر سعيا إلى حجر الجواري وخرج الغلام السقاء يشتد إلى بغلة ورجعت الجارية الحاملة الجرة المزملة شدا إلى الموضع الذي خرجت منه فتبسم أبي وقال ما شأنك يا هارون فقلت يا أبت جعلني الله فداءك ما ملكت عيني قال وأبوك أيضا لم يملك عينه مخارق وإبراهيم بن المهدي وذكر هارون بن الزيات عن أصحابه قال جمع إبراهيم بن المهدي المغنين ذات يوم في منزله فأقاموا فلما دخلوا في الليل ثمل مخارق وسكر سكرا شديدا فسألوه أن يغني صوتا فغني هذا البيت من شعر عمر بن أبي ربيعة المخزومي ( قال سارُوا وأمعَنوا واستَقلّوا ... وبرْغمِي لو استَطعتُ سبيلا ) فانتهى منه إلى قوله واستقلوا وانثنى نائما فقال إبراهيم بن المهدي مهدوه ولا تزعجوه فمهدوه ونام حتى مضى أكثر الليل ثم استقل من نومه فانتبه وهو يغني تمام البيت ( وبَرْغمِي لو اسْتَطعتُ سبيلا ... ) وهو تمام البيت من حيث قطعه وسكت عليه من صوته قال فجعل إبراهيم يتعجب منه ويعجب منه من حضره من جودة طبعه وذكائه وصحة فهمه حدثنا يحيى بن علي بن يحيى المنجم قال حدثنا حماد بن إسحاق قال قال محمد بن الحسن بن مصعب قلت لإسحاق يوما أسألك بالله إلا صدقتني في مخارق وإبراهيم بن المهدي أيهما أحذق وأحسن غناء فقال لي إسحاق أجاد أنت والله ما تقاربا قط والدليل على فضل مخارق عليه أن إبراهيم لا يؤدي صوتا قديما ثقيلا جيدا أبدا ولا يستوفيه وإنما يغني الأهزاج والغناء الخفيف وأما الذي فيه عمل شديد فلا يصيبه أخبرني يحيى قال حدثنا أبو أيوب المديني قال حدثني بعض ولد سعيد بن سلم قال دخل مخارق على سعيد بن سلم فسأله حاجة فلما خرج قيل له أما تعرف هذا هذا مخارق فقال ويحكم دخل ولم نعرفه وخرج ولم نعرفه ردوه فردوه فقال له دخلت علينا ولم نعرفك فلما عرفناك أحببنا ألا تخرج حتى نسمعك فقال له أي شيء تشتهي أن أسمعك فقال ( يا ريحُ ما تَصنَعِين بالدِّمَنِ ... كم لك من مَحْوِ منْظرٍ حَسن ) فغناه مخارق فلما خرج قال لبعض بنيه أبوكم هذا نكس يشتهى على مثلي ( يا ريحُ ما تَصنَعين بالدِّمَنِ ... ) أخبرنا يحيى بن علي قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني عمي محمد قال سمعت أبي يقول وقد غنى مخارق الفسيله نعم الفسيلة غرس إبليس في الأرض أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد قال سمع محمد بن سعيد القارىء مهدية جارية يعقوب بن الساحر تغني صوتا لمخارق بحضرته وقد كانت أخذته عنه وهو ( ما لقلبي يزداد في اللهو غيَّا ... والليالي قد أَنَضجَتْني كَيَّا ) ( سَهَلت بعدك الحوادثُ حتَّى ... لستُ أخشَى ولا أُحاذِرُ شَيَّا ) فأحسنت فيه ما شاءت وانصرف محمد بن سعيد وقرأ على لحنه ( يا يحيى خذ الكتاب بقوة ) حدثني عمي قال حدثنا عبد الله قال حدثني محمد قال كنت عند مخارق أنا وهارون بن أحمد بن هشام فلعب مع هارون بالنرد فقمره مخارق مائتي رطل باقلا طريا فقال مخارق وأنتم عندي أطعمكم من لحم جزور من الصناعة يعني من صناعة أبيه يحيى بن ناووس الجزار قال ومر بهارون بن أحمد فصيل ينادي عليه فاشتراه بأربعة دنانير ووجه به إلى مخارق وقال يكون ما تطعمنا من هذا الفصيل فاجتمعنا وطبخ مخارق بيده جزورية وعمل من سنامه وكبده ولحمه غضائر شويت في التنور وعمل من لحمه لونا يشبه الهريسة بشعير مقشر في نهاية الطيب فأكلنا وجلسنا نشرب فإذا نحن بامرأة تصيح من الشط يا أبا المهنا الله الله في حلف زوجي علي بالطلاق أن يسمع غناءك ويشرب عليه فقال اذهبي وجيئي به فجاء فجلس فقال له ما حملك على ما صنعت فقال له يا سيدي كنت سمعت صوتا من صنعتك فطربت عليه حتى استخفني الطرب فحلفت أن أسمعه منك ثقة بإيجابك حق زوجتي وكانت زوجته داية هارون بن مخارق فقال وما هو الصوت فقال صوت ( بكَرتْ عليّ فهيَّجَتْ وَجْدَا ... هُوجُ الرياح وأَذْكرتْ نَجْدا ) ( أتحِنُّ من شوْقٍ إذا ذُكِرَتْ ... نجدٌ وأنْتَ تركتَها عَمْدا ) الشعر لحسين بن مطير والغناء لمخارق ثقيل أول وفيه لإسحاق ثقيل أول آخر فغناه إياه وسقاه رطلا وأمره بالانصراف ونهاه أن يعاود وخرج فما لبثنا أن عادت المرأة تصرخ الله الله في يا أبا المهنا قد أعاد زوجي المشؤوم اليمين أنك تغنيه صوتا آخر فقال لها أحضريه فأحضرته أيضا فقال له ويلك مالي ولك أي شيء قصتك فقال له يا سيدي أنا رجل طروب وكنت قد سمعت صوتا لك آخر فاستفزني الطرب إلى أن حلفت بالطلاق ثلاثا أني أسمعه منك قال وما هو قال لحنك ( أَبلغ سَلامةَ أنَّ البَينَ قد أفِدا ... وأنَّ صَحْبَك عنها رائحُون غَدَا ) ( هذا الفِراق يَقيناً إن صَبرتَ لهُ ... أوْ لا فإنّك منها مَيِّتٌ كَمَدا ) ( لا شَكَّ أنَّ الذي بي سَوْف يُهلِكُني ... إن كانَ أهلك حُبٌّ قبله أحدَا ) فغناه إياه مخارق وسقاه رطلا وقال له احذر ويلك أن تعاود فأنصرف ولم تلبث أن عاودت الصياح تصرخ يا سيدي قد عاود اليمين ثلاثة الله الله في وفي أولادي قال هاتيه فأحضرته فقال لها انصرفي أنت فإن هذا كلما انصرف حلف وعاد فدعيه يقيم يومه كله فتركته وانصرفت فقال له مخارق ما قصتك أيضا قال قد عرفتك يا سيدي أنني رجل طروب وكنت سمعت صوتا من صنعتك فاستخفني الطرب له فحلفت أني أسمعه منك قال وما هو قال ( أَلِفَ الظَّبْيُ بِعادِي ... ونَفَى الهمُّ رُقادِي ) ( وعَدَا الهْجرُ على الوصْل ... بأَسيافٍ حِدادِ ) ( قل لِمَنْ زيَّف وُدِّي ... لستَ أهلاً لِودادي ) قال فغناه إياه وسقاه رطلا ثم قال يا غلام مقارع فجىء بها فأمر به فبطح وأمر بضربه فضرب خمسين مقرعة وهو يستغيث فلا يكلمه ثم قال له احلف بالطلاق أنك لا تذكرني أبدا وإلا كان هذا دأبك إلى الليل فحلف الطلاق ثلاثا على ما أمره به ثم أقيم فأخرج عن الدار فجعلنا نضحك بقية يومنا من حمقه أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا أحمد بن محمد قال حدثني إسحاق بن عمر بن بزيع قال أتيت مخارقا ذات يوم ومعي زرزور الكبير لنقيم عنده فوجدته قد أخرج رأسه من جناح له وهو مشرف على المقابر يغني هذا البيت ويبكي ( أينَ الملوكُ التي كانت مُسَلَّطةً ... ) قال فاستحسنا ما سمعناه منه استحسان من لم يسمع قط غناء غيره فقال لنا انصرفوا فليس في فضل اليوم بعد ما رأيتم قال محمد وكان والله مخارق ممن لو تنفس لأطرب من يسمعه استماع نفسه الظباء تصغي لغناء مخارق وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن محمد بن أحمد بن يحيى المكي حدثه عن أبيه قال خرج مخارق مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزهات فنظر إلى قوس مذهبه مع أحد من خرج معه فسأله إياها فكأن المسؤول ضن بها قال وسنحت ظباء بالقرب منه فقال لصاحب القوس أرأيت إن تغنيت صوتا فعطفت عليك به خدود هذه الظباء أتدفع إلي هذه القوس قال نعم فاندفع يغني صوت ( ماذا تقُول الظِّباءُ ... أفُرْقةٌ أمْ لِقاء ) ( أمْ عهْدُها بسُلَيْمَى ... وفي البيان شِفاءُ ) ( مرَّت بنا سانحاتٍ ... وقد دَنا الإِمساءُ ) ( فما أحارَتْ جواباً ... وطال فيها العَناء ) في هذه الأبيات ليحيى المكي ثقيل أول بالوسطى قال فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه مستشرفة تنظر إليه مصغية تسمع صوته فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها وناوله الرجل القوس فأخذها وقطع الغناء فعاودت الظباء نفارها ومضت راجعة على سننها قال ابن المكي وحدثني رجل من أهل البصرة كان يألف مخارقا ويصحبه قال كنت معه مرة في طيار ليلا وهو سكران فلما توسط دجلة اندفع بأعلى صوته فغنى فما بقي أحد في الطيار من ملاح ولا غلام ولا خادم إلا بكى من رقة صوته ورأيت الشمع والسرج من جانبي دجلة في صحون القصور والدور يتساعون بين يدي أهلها يستمعون غناءه حدثني الصولي قال حدثني محمد بن عبد الله التميمي الحزنبل قال كنا في مجلس ابن الأعرابي إذ أقبل رجل من ولد سعيد بن سلم كان يلزم ابن الأعرابي وكان يحبه ويأنس به فقال له ما أخرك عني فاعتذر بأشياء منها أنه قال كنت مع مخارق عند بعض بني الرشيد فوهب له مائة ألف درهم على صوت غناه إياه فاستكثر ابن الأعرابي ذلك واستهوله وعجب منه وقال له بأي شيء غناه قال غناه بشعر العباس بن الأحنف صوت ( بكتْ عَيْنِي لأنواعٍ ... من الحُزْن وأَوْجاعِ ) ( وإنِي كلَّ يوم عندكم ... يَحْظى بيَ السَّاعِي ) فقال ابن الأعرابي أما الغناء فما أدري ما هو ولكن هذا والله كلام قريب مليح لحن مخارق في هذين البيتين ثقيل أول من جامع صنعته وفيهما لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو بن بانة وذكر حبش أن فيهما لإبراهيم بن المهدي لحنا ماخوريا أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال غنت شارية يوما بحضرة أبي صوتا فأحد النظر إليها وصبر حتى قطعت نفسها ثم قال لها أمسكي فأمسكت فقال لها قد عرفت إلي أي شيء ذهبت أردت أن تتشبهي بمخارق في تزايده قالت نعم يا سيدي قال إياك ثم إياك أن تعودي فإن مخارقا خلقه الله وحده في طبعه وصوته ونفسه يتصرف في ذلك أجمع كيف أحب ولا يلحقه في ذلك أحد وقد أراد غيرك أن يتشبه به في هذه الحال فهلك وافتضح ولم يلحقه فلا أسمعنك تتعرضين لمثل هذا بعد وقتك هذا غلمان المعتصم يتركونه لدى سماعهم غناء مخارق أخبرني عمي قال حدثني علي بن محمد بن نصر البسامي قال حدثني خالي أبو عبد الله عن أبيه قال كنا بين يدي المعتصم ذات ليلة نشرب إلى أن سكرنا جميعا فقام فنام وتوسدنا أيدينا ونمنا في مواضعنا ثم انتبه فصاح فلم يجبه أحد وسمعنا صياحه فتبادرنا نسأل عن الغلمان فإذا مخارق قد انتبه قبلنا فخرج إلى الشط يتنسم الهواء واندفع يغني فتلاحق به الغلمان جميعا فجئت إلى المعتصم فأخبرته وقلت مخارق على الشط يغني والغلمان قد اجتمعوا عليه فليس فيهم فضل لشيء غير استماعه فقال لي يا بن حمدون عذر والله وأي عذر ثم جلس وجلسنا بين يديه إلى السحر وذكر محمد بن الحسن الكاتب أن أبان بن سعيد حدثه أن المأمون سأل إسحاق عن إبراهيم بن المهدي ومخارق فقال يا أمير المؤمنين إذا تغنى إبراهيم بعلمه فضل مخارقا وإذا تغنى مخارق بطبعه وفضل صوته فضل إبراهيم فقال له صدقت مخارق ومحمد الأمين نسخت من كتاب هارون بن الزيات حدثني هارون بن مخارق عن أبيه قال دعاني محمد الأمين يوما وقد اصطبح فاقترح علي ( استَقبلَتْ وَرَقَ الرّيحانِ تَقطِفُهُ ... وَعنْبَرَ الهِنْد والورْدِيَّة الجُدُدا ) ( ألستَ تَعرفني في الْحَيّ جاريةً ... وَلَمْ أَخُنْك ولم ترْفع إلي يدا ) فغنيته إياه فطرب طربا شديدا وشرب عليه ثلاثة أرطال ولاء وأمر لي بألف دينار وخلع علي جبة وشي كانت عليه مذهبه ودراعة مثلها وعمامة مثلها تكاد تعشي البصر من كثرة الذهب فلما لبست ذلك ورآه علي ندم وكان كثيرا ما يفعل ذلك فقال لبعض الخدم قل للطباخ يأتينا بمصلية معقودة الساعة فأتى بها فقال لي كل معي وكنت أعرف الناس بمذهبه وبكراهته لذلك فامتنعت فحلف أن آكل معه فحين أدخلت يدي في الغضارة رفع يده ثم قال أف نغصتها علي والله وقذرتها عندي بإدخالك يدك فيها ثم رفس القصعة رفسة فإذا هي في حجري وودكها يسيل على الخلعة حتى نفذ إلى جلدي فقمت مبادرا فنزعتها وبعثت بها إلى منزلي وغيرت ثيابي وعدت وأنا مغموم منها وهو يضحك فلما رجعت إلى منزلي جمعت كل صانع حاذق فجهدوا في إخراج ذلك الأثر منها فلم يخرج ولم أنتفع بها حتى أحرقتها فأخذت ذهبها وضرب الدهر بعد ذلك ضرباته مخارق والمأمون ثم دعاني المأمون يوما فدخلت إليه وهو جالس وبين يديه مائدة عليها رغيفان ودجاجتان فقال لي تعال فكل فامتنعت فقال لي تعال ويلك فساعدني فجلست فأكلت معه حتى استوفى ووضع النبيذ ودعا علوية فجلس وقال لي يا مخارق أتغني ( أقولُ التِماسَ العذْرِ لمَّا ظلمْتِنِي ... وحَمَّلتِني ذَنباً وما كنتُ مُذْنِبا ) فقلت نعم يا سيدي قال غنه فغنيته فعبس في وجهي ثم قال قبحك الله أهكذا يغني هذا ثم أقبل علي علوية فقال أتغنيه قال نعم يا سيدي قال غنه فغناه فوالله ما قاربني فيه فقال أحسنت والله وشرب رطلا وأمر له بعشرة آلاف درهم واستعاده ثلاثا وشرب عليه ثلاثة أرطال يعطيه مع كل عشرة آلاف درهم ثم خذف بإصبعه وقال برق يمان وكان إذا أراد قطع الشرب فعل ذلك وقمنا فعلمت من أين أتيت فلما كان بعد أيام دعاني فدخلت إليه وهو جالس في ذلك الموضع بعينه يأكل هناك فقال لي تعال ويلك فساعدني فقلت الطلاق لي لازم إن فعلت فضحك ثم قال ويلك أتراني بخيلا على الطعام لا والله ولكنني أردت أن أؤدبك إن السادة لا ينبغي لعبيدها أن تؤاكلها أفهمت فقلت نعم قال فتعال الآن فكل على الأمان فقلت أكون إذا أول من أضاع تأديبك إياه واستحق العقوبة من قريب فضحك حتى استغرب ثم أمر لي بألف دينار ومضيت إلى حجرتي المرسومة لي للخدمة وأتيت هناك بطعام فأكلت ووضع النبيذ ودعاني وبعلوية فلما جلسنا قال له يا علي أتغني ( ألم تَقُولي نَعَمْ قالت أرَى وَهَماً ... منّي وهل يُؤْخذ الإِنسانُ بالوَهَمِ ) فقال نعم يا سيدي فقال هاته فغناه فعبس في وجه وبسر وقال قبحك الله أتغني هذا هكذا ثم أقبل علي فقال أتغنيه يا مخارق فقلت نعم يا سيدي وعلمت أنه أراد أن يستقيد لي من علويه ويرفع مني وإلا فما أتى علويه بما يعاب فيه فغنيته فطرب وشرب رطلا وأمر لي بعشرة آلاف درهم وفعل ذلك ثلاث مرات كما فعل به ثم أمر بالانصراف فانصرفنا وما عاودت بعد ذلك مؤاكلة خليفة إلى وقتنا هذا نسبة ما في هذا الخبر من الغناء صوت ( استقبلتْ ورَقَ الرّيحان تقطُفهُ ... وعَنْبَر الهِنْد والوردِيَّة الجدُدا ) ( ألستَ تعرفِني في الْحيِ جاريةً ... ولم أخنك ولم تَمْدُد إليَّ يَدا ) الشعر فيما يقال لعمر بن أبي ربيعة والغناء للغريض خفيف رمل بالسبابة في مجرى الوسطى عن إسحاق وأصله يماني وفيه لابن جامع هزج صوت ( أقولُ التِماسَ العُذْرِ لمَّا ظلمْتِنِي ... وحَمَّلتِني ذَنباً وما كنتُ مُذْنِبا ) ( هبيني امرأً إمَّا بريئاً ظلمتِه ... وإمَّا مُسِيئاً قد أناب وأَعتبا ) الشعر للأحوص والغناء لمالك خفيف رمل بالوسطى عن عمرو صوت ( ألم تَقُولي نَعَمْ قالت أرَى وهَماً ... منّي وهل يُؤْخَذ الإِنسان بالوَهَمِ ) ( قُولِي نَعمْ إنّ لا - إن قُلت - قاتلتي ... ماذا تُريدين من قَتْلي بغير دمِ ) الغناء لسياط خفيف رمل بالبنصر عن عمرو ولم يقع إلي لمن الشعر قال هارون وحدثني أبو معاوية الباهلي قال حضرت علويه ومخارقا مجتمعين في مجلس فغنى علويه صوتا فأحسن فيه وأجاده فأعاده مخارق وبرز عليه وزاد فرده علوية وتعمل فيه واجتهد فزاد على مخارق فجثا مخارق على ركبتيه وغناه وصاح فيه حتى اهتز منكباه فما ظننا إلا أن الأرض قد زلزلت بنا وغلب والله ما سمعنا على عقولنا ونظرت إلى لون علويه وقد امتقع وطار دمه فلما فرغ مخارق توقعنا أن يغني علويه فما فعل ولا غنى بقية يومه قال وكان مخارق إذا صاح قطع أصحاب النايات أخبرني وسواسة بن الموصلي وهو أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم قال حدثنا حماد بن إسحاق قال قال لي مخارق دعاني يوما محمد المخلوع فدخلت عليه وعنده إبراهيم بن المهدي فقال غنني يا مخارق فغنيته أصواتا عديدة فلم يطرب لها وقال هذا كله معاد فغنني ( لقد أزمعت للبين هِندٌ زِيالها ... ) فقلت والله ما أحسنه فقال غنني ( لا والذي نُحِرتْ له البُدْنُ ... ) فقلت لا والله ما أحسنه فقال غنني ( يا دارَ سُعْدَى سقى أَطلالَكِ الدِّيَما ... ) فقلت لا والله لا أحسنه فغضب وقال ويلك أسألك عن ثلاثة أصوات فلا تحسن منها واحدا فقال له إبراهيم بن المهدي ما ذنبه إسحاق أستاذه وعليه يعتمد وهو يضايقه في صوت يعلمه إياه فقلت قد والله صدق ما يعطيني شيئا ولا يعلمنيه قال فما دواؤه فقد والله أعياني فقال له إبراهيم توكل به من يصب على رأسه العذاب حتى يعلمه مائة صوت قال أما هذا فبعيد ولكن اذهب إليه عني فمره أن يعلمك هذه الثلاثة الأصوات فإن فعل وإلا فصب السوط على رأسه حتى يعلمك فدخلت إلى إسحاق فجلست بغير أمره وسلمت سلاما منكرا ثم أقبلت عليه فقلت يأمرك أمير المؤمنين أن تعلمني كذا وكذا قال ما أحسنه فقلت إني أنفذ فيك ما أمرني به فقال تنفذ في ما أمرت به ألا تستحي ويحك مني ومن تربيتي إياك قلت فلا بد من أن تعلمني ما أمرك به أمير المؤمنين قال فإني لست أحسنه ولكن فلانة تحسنه هاتوها فجاءت وجعلت تطارحني حتى أخذت الأصوات الثلاثة وجعل كل من جاء يومئذ لا يحجبه ليروني وجاريته تطارحني فلما أخذت الأصوات رجعت إلى محمد وأخبرته الخبر وحضر إسحاق فغنيته إياها فطرب وجعل إبراهيم بن المهدي يقول أحسن والله أحسن والله فلما فرغت قال إسحاق لا والله ما أحسن ولا أصاب هو ولا إبراهيم في استحسانه ولقد جهدت الجارية جهدها أن يأخذه عنها فلم يتوجه له ثم اندفع فغناها فكأني والله كنت ألعب عندما سمعت ثم أقبل على إبراهيم بن المهدي فقال له كم أقول لك ليس هذا من علمك ولا مما تحسنه وأنت تكابر وتدخل نفسك فيما لا تحسنه فقال ألا تراه يا أمير المؤمنين يصيرني مغنيا فقال له إسحاق ولم تجحد ذلك أو أسررت إلي منه شيئا لم تظهره للناس وتعلمهم إياه ومتى صرت تأنف من هذا وأنت تتبجح به فليتك تحسنه والله ما تفرق بين الخطأ والصواب فيه وإن شئت الآن ألقيت عليك ثلاثين مسألة من أي علم شئت فإن أجبت في واحدة منهن وإلا علمت أنك متكلف فقال يا أمير المؤمنين يستقبلني بهذا بين يديك قال وما هذا مما لا أستقبلك به فقال له محمد نعم اختر ما شئت حتى نسألك عنه فقال إنما يفعل هذا الصبيان وانكسر حتى رحمته فقلت لمحمد يا أمير المؤمنين لعلك ترى مع هذا القول أنه لا يحسن بلى والله إنه ليحسن كل شيء وما يقدر أحد أن يقول هذا غيري وإنه ليتقدم كثيرا من الناس في كل شيء فجعل محمد يضحك وهو يقول تشجه بيد وتدهنه بيد وتجرحه بيد وتأسوه بيد نسبة هذه الأصوات صوت ( لقد أزمعتْ لِلبين هندٌ زيالَها ... وزَمُّوا إلى أَرْضِ العِراقِ جِمالَها ) ( فما ظبيةٌ أَدْماءُ واضحةُ القَرَا ... تَنُصُّ إلى بَرْد الظِّلال غَزَالها ) ( تَحُتُّ بقَرنيها بَرِيرَ أَراكةٍ ... وتَعْطو بظِلْفَيْها إذا الغُصْنُ طالها ) ( بأُحْسنَ منها مُقلةً ومُقلَّداً ... وجيداً إذا دانَتْ تنوطُ شِكالَها ) الشعر لكثير والغناء لمعبد خفيف ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيه لابن سريج في الثالث والثاني ثقيل أول بالسبابة في مجرى البنصر عن إسحاق ولإبراهيم ثقيل أول بالوسطى عن عمرو في الثاني ثم في الثالث وفي كتاب حكم لحكم فيه خفيف ثقيل وعن حبش لطويس فيه رمل بالوسطى وذكر أيضا أن لحن معبد ثاني ثقيل صوت ( يا دارَ سُعدَى سَقَى أطْلالَك الدِّيما ... مُسْقِي الرَّوايا وإن هيَّجتِ لي سَقَما ) ( دارٌ خَلَتْ وعفَتْ منها معالِمُها ... إلاّ الثُّمامَ وإلاَّ النُّؤْيَ والحُمَمَا ) الغناء لقفا النجار ثقيل أول بالوسطى عن عمرو والهشامي وإبراهيم صوت ( لا والذي نُحِرتُ له البُدُنُ ... وله بمَكَّةَ قُبِّلَ الرُّكْنُ ) ( ما زلتُ يا سَكَنِي أخا أرَقٍ ... مُتكنِّفاً بي الهمُّ والحزَنُ ) ( أخشى عليك وبعضه شَفقٌ ... أن يَفْتنوك وأنت مُفْتتنُ ) الغناء لابن سريج رمل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق وذكر الهشامي أنه لسليمان الوادي أوله فيه لحن ونسبه إبراهيم إلى ابن عباد ولم يجنسه أخبرني عمي حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني عبد الوهاب المؤذن قال انحدرنا مع المعتصم من السن ونحن في حراقته وحضر وقت الأذان فأذنت فلما فرغت من الأذان اندفع مخارق بعدي فأذن وهو جاث على ركبتيه فتمنيت والله أن دجلة أهرقت لي فغرقت فيها مخارق والمعتصم أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن عبد الله بن حمدون قال حدثني أبي قال غضب المعتصم على مخارق فأمر به أن يجعل في المؤذنين ويلزمهم ففعل ذلك وأمهل حتى علم أن المعتصم يشرب وأذنت العصر فدخل هو إلى الستر حيث يقف المؤذن للسلام ثم رفع صوته جهده وقال السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته الصلاة يرحمك الله فبكى حتى جرت دموعه وبكى كل من حضره ثم قال أدخلوه إلي ثم أقبل علينا وقال سمعتم هكذا قط هذا الشيطان لا يترك أحدا يغضب عليه فأمر به فأدخل إليه فقبل الأرض بين يديه فدعاه المعتصم إليه وأعطاه يده فقبلها وأمره بإحضار عوده فأحضر فأعاده إلى مرتبته وجدت في بعض الكتب عن علي بن محمد البسامي عن جده حمدون بن إسماعيل قال غنى علويه يوما بين يدي إسحاق الموصلي ( هجرْتُكِ إشفاقاً عليكِ من الأذى ... وخَوْفَ الأعادِي واتِّقاءَ النَّمائِمِ ) فقال له إسحاق أحسنت يا أبا الحسن أحسنت واستعاده ثلاثا وشرب فقال له علويه يا أستاذ أين أنا الآن من صاحبي يعني مخارقا مع قولك هذا لي فقال لا ترد أن تعرف هذا قال بي والله إلى معرفته أعظم الحاجة فقال إذا غنيتما ملكا اختاره عليك وأعطاه الجائزة دونك فضجر علويه وقال لإسحاق أف من رضاك وغضبك نسبة هذا الصوت صوت ( هجرْتُكِ إشفاقاً عليكِ من الأذى ... وخَوْفَ الأعادِي واتِّقاءَ النَّمائِم ) ( وإنِّي وذاك الهجْرَ لو تَعلمِينَه ... كساليةٍ عن طِفلِها وهي رائمُ ) الشعر لهلال بن عمر الأسدي والغناء لعلويه ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وقال الجاحظ قال أبو يعقوب الخريمي ما رأيت كثلاثة رجال كانوا يأكلون الناس أكلا حتى إذا رأوا ثلاثة رجال ذابوا كما يذوب الرصاص على النار كان هشام بن الكلبي علامة نسابة ورواية للمثالب عيابة فإذا رأى الهيثم بن عدي ذاب كما يذوب الرصاص وكان علي بن الهيثم جونقا مفقعا نيا صاحب تقعر يستولي على كل كلام لا يحفل بخطيب ولا شاعر فإذا رأى موسى الضبي ذاب كما يذوب الرصاص وكان علويه واحد الناس في الغناء رواية وحكاية ودراية وصنعة وجودة ضرب وأضراب وحسن خلق فإذا رأى مخارقا ذاب كما يذوب الرصاص على النار أخبرني علي بن عبد العزيز الكاتب عن ابن خرداذبة قال هوي مخارق جارية لأم جعفر فحج في السنة التي حجت فيها أم جعفر بسبب الجارية فقال أحمد بن هشام فيه ( يحجُّ النَّاسُ من بِرٍّ وتَقْوى ... وحجُّ أبي المُهنَّا للتَّصابي ) قال وكان المعتصم قد وهب دار مخارق لما قدم بغداد ليونازة خليفة الأفشين فقال عيسى بن زينب في ذلك ( يا دارُ غيَّر رسمَها يُونَازهْ ... وبَقِي مُخارِق قاعداً في فازهْ ) ( لا تَجْزَعن أبا المُهنَّا إنَّها ... دُنيا تُنالُ بِذلّة وعَزازهْ ) أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي قال حدثنا عمر بن شبة وحدثني محمد بن يحيى الصولي قال وجدت بخط عبد الله بن الحسين حدثني الحسن بن إبراهيم بن رياح قالا كان مخارق يهوى جارية لأم جعفر يقال لها بهار ويستر ذلك عن أم جعفر حتى بلغها ذلك فأقصته ومنعته من المرور ببابها وكان بها كلفا قال الصولي في خبره فلما علم أن الخبر قد بلغ أم جعفر قطعها وتجافاها إجلالا لأم جعفر وطمعا في السلو عنها وضاق ذرعه بذلك فبينا هو ذات ليلة في زلال وقد انصرف من دار المأمون وأم جعفر تشرب على دجلة إذ حاذى دارها فرأى الشمع يزهر فيها فلا صار بمسمع منها ومرأى اندفع فغنى صوت ( إن تمنَعوني مَمرِّي قُربَ دارِهمُ ... فسوف أنظُرُ من بُعْدٍ إلى الدَّارِ ) ( سِيما الهَوى شُهِرَتْ حتى عُرِفْتُ بها ... أنِّي مُحِبٌّ وما بالحبِّ من عارِ ) ( ما ضَرّ جِيرانَكم - والله يُصلِحهم ... لولا شَقائَي - إقبالي وإدْبارِي ) ( لا يَقْدِرونَ على مَنعِي ولو جَهَدُوا ... إذا مررتُ وتَسلِيمي بإضْماري ) الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لمخارق رمل بالوسطى فقالت أم جعفر مخارق والله رده فصاحوا بملاحه قدم فقدم وأمره الخدم بالصعود فصعد وأمرت له أم جعفر بكرسي وصينية فيها نبيذ فشرب وخلعت عليه وأمرت الجواري فغنين ثم ضربن عليه فغنى فكان أول ما غنى صوت ( أغيبُ عنكِ بوُدٍّ ما يُغيِّرُه ... نأْيُ المَحلِّ ولا صَرفٌ من الزَمنِ ) ( فإن أعِشْ فلعلَّ الدَّهرَ يجمعُنا ... وإن أمُتْ فقَتِيل الهمِّ والحزَنِ ) ( قد حَسَّن الله في عيْنيَّ ما صنعَتْ ... حتَّى أرى حسَناً ما ليس بالحَسَنِ ) الشعر للعباس بن الأحنف والغناء لمخارق رمل قال فاندفعت بهار فغنت كأنها تباينه وإنما أجابته عن معنى ما عرض لها به ( تعتلُّ بالشُّغل عنا ما تُلِمُّ بنا ... والشُّغْلُ للقلب ليس الشُّغل للبَدَنِ ) ففطنت أم جعفر أنها خاطبته بما في نفسها فضحكت وقالت ما سمعنا بأملح مما صنعتما وقال إسماعيل بن يونس في خبره ووهبتها له وقال هارون بن الزيات حدثني هارون بن مخارق عن أبيه أن المأمون سأله لما قدم مكة عن أحدث صوت صنعه فغناه صوت ( أقبلَتْ تحصِب الجِمارَ وأقْبلْتُ ... لِرَمْي الجِمار من عرَفاتِ ) ( لَيتَنِي كُنتُ في الجِمار أنا المحصُوب ... من كَفِّ زيْنبٍ حَصياتِ ) الشعر للنميري والغناء لمخارق خفيف رمل بالبنصر قال فضحك ثم قال لعمري إن هذا لأحدث ما صنعت ولقد قنعت بيسير وما أظن بهار كانت تبخل عليك بأن تحصبك بحصاة كما تحصب الجمار واستعاده الصوت مرات أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني هارون بن مخارق قال حدثني أبي قال كنا عند المأمون يوما فجاءه الخادم الحرمي فأسر إليه شيئا فوثب فدخل معه ثم أبطأ علينا ساعة وعاود وعينه تذرف فقال لنا دخلت الساعة إلى جارية لي كنت أتحظاها فوجدتها في الموت فسلمت عليها فلم تستطع رد السلام إلا إيماء بإصبعها فقلت هذين البيتين ( سلامٌ على مَن لم يُطِق عند بَيْنِه ... سلاماً فأَوْمَى بالبَنان المخضَّبِ ) ( فما اسطَعْتُ توديعاً له بِسوَى البُكا ... وذلك جهْد المُستهامِ المُعذَّبِ ) ثم قال غن فيها يا مخارق ففعلت فما استعادني ذلك الغناء قط إلا بكى أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي إجازة قال حدثني أحمد بن أبي العلاء قال حدثني أبي قال حج رجل مع مخارق فلما قضيا الحج وعادا قال له الرجل في بعض طريقه بحقي عليك غنني صوتا فغناه ( رَحلنا فشَرَّقْنا وراحوا فغَرَّبُوا ... ففاضَتْ لرَوْعاتِ الفراقِ عُيونُ ) فرفع الرجل يده إلى السماء وقال اللهم إني أشهدك أني قد وهبت حجتي له وتوفي مخارق في أول خلافة المتوكل وقيل بل في آخر خلافة الواثق وذكر ابن خرداذبة أن سبب وفاته أنه أكل قنبيطية باردة فقتلته من فوره صوت ( إذا مِتّ فادفِنِّي إلى جنبِ كَرْمَة ... تُرَوِّي مُشاشِي بعد موتي عُرُوقُها ) ( ولا تَدْفِنَنِّي بالفلاة فإنّنِي ... أَخافُ إذا ما مِتُّ ألاَّ أذوقَها ) عروضه من الطويل ويروى ( إذا رحت مدفوناً فلستُ أذوقها ... ) الشعر لأبي محجن الثقفي والغناء لإبراهيم الموصلي ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيه لحنين لحن ذكره إبراهيم ولم يجنسه إلى هنا انتهى الجزء الثامن عشر من كتاب الأغاني ويليه الجزء التاسع عشر وأوله ذكر أبي محجن ونسبه بسم الله الرحمن الرحيم ذكر أبي محجن ونسبه أبو محجن عبد الله بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن عنزة بن عوف قسي وهو ثقيف وقد مضى نسبه في عدة مواضع وأبو محجن من المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام وهو شاعر فارس شجاع معدود في أولي البأس والنجدة وكان من المعاقرين للخمر المحدودين في شربها عمر ينفيه إلى جزيرة حضوضى أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن الحسن الأحول عن ابن الأعرابي عن المفضل قال لما كثر شرب أبي محجن الخمر وأقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عليه الحد مراراً وهو لا ينتهي نفاه إلى جزيرة في البحر يقال لها حضوضى وبعث معه حرسيّا يقال له ابن جهراء فهرب منه على ساحل البحر ولحق بسعد بن أبي وقاص وقال في ذلك يذكر هربه من ابن جهراء ( الحَمْدُ للهِ نَجّاني وخَلّصَني ... من ابن جَهْراءَ والبُوصِيُّ قد حُبِسَا ) ( من يَجشَمِ البَحْرَ والبُوصِيُّ مَرْكبُه ... إلى حَضَوْضَى فبئْس المَرْكبُ الْتَمسا ) ( أبلغْ لَدَيْك أبا حَفْص مُغَلْغَلةً ... عبدَ الإِله إذا ما غارَ أو جَلَسَا ) ( أَنِّي أَكُرُّ على الأُولى إذا فَزِعوا ... يوماً وأَحبِس تحت الرّايةِ الفَرَسَا ) ( أغشَى الهِياجَ وتَغْشاني مُضاعَفةٌ ... من الحَدِيد إذا ما بعضهم خَنَسَا ) هذه رواية ابن الأعرابي عن المفضل قال ابن الأعرابي وحدثني ابن دأب بسببِ نفي عمر إياه فذكر أن أبا محجن هوي امرأة من الأنصار يقال لها شموس فحاول النظر إليها بكل حيلة فلم يقدر عليها فآجر نفسه من عامل يعمل في حائط إلى جانب منزلها فأشرف من كوة في البستان فرآها فأنشأ يقول ( ولقد نظرتُ إلى الشَّموسِ ودُونها ... حَرَجٌ من الرّحمن غيرُ قليلِ ) ( قد كنتُ أحْسَبُني كأغْنَى واحدٍ ... وَرَدَ المدِينَةَ عن زراعة فُولِ ) فاستعدى زوجها عليه عمر بن الخطاب فنفاه إلى حضوضى وبعث معه رجلاً يقال له ابن جهراء قد كان أبو بكر رضي الله عنه يستعين به قال له عمر لا تدع أبا محجن يخرج معه سيفاً فعمد أبو محجن إلى سيفه فجعل نصله في غرارة وجعل جفنه في غرارة أخرى فيهما دقيق له فلما انتهى به إلى الساحل وقرب البوصي اشترى أبو محجن شاةً وقال لابن جهراء هلم نتغدّ ووثب إلى الغِرارة كأنه يخرج منها دقيقاً فأخذ السيف فلما رآه ابن جهراء والسيف في يده خرج يعدو حتى ركب بعيره راجعاً إلى عمر فأخبره الخبر أبو محجن يقاتل يوم أرماث وأقبل أبو محجن إلى سعد بن أبي وقاص وهو يقاتل العجم يوم القادسية وبلغ عمر خبرُه فكتب إلى سعد بحبسه فحبسه فلما كان يوم أرماث والتحم القتال سأل ابو محجن امرأة سعد أن تعطيه فرس سعد وتحل قيده ليقاتل المشركين فإن استشهد فلا تبعه عليه وإن سلم عاد حتى يضع رجله في القيد فأعطته الفرس وخلت سبيله وعاهدها على الوفاء فقاتل فأبلى بلاء حسناً إلى الليل ثم عاد إلى حبسه حدثني بهذا الحديث عمي الخراز عن المدائني عن إبراهيم بن حكيم عن عاصم بن عروة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه غرب رجلاً من ثقيف وهو أبو محجن وكان يدمن الخمر وأمر ابن جهراء النصريّ ورجلاً آخر أن يحملاه في البحر وذكر الخبر مثل الذي قبله وزاد فيه وقال أبو محجن أيضاً صوت ( صاحِبَا سَوْءٍ صَحِبتُهما ... صاحَباني يوم أرْتحِلُ ) ( ويَقولان ارتَحِل مَعنا ... فأُنادِي إِنّني ثملُ ) ( إنّني باكرتُ مُترعةً ... مُزّةً راوُوقها خَضِلُ ) الغناء في البيتين الأخيرين لنشو خفيف رمل وأوله ( ويقُولان اصْطبح مَعَنا ... ) قال الأصبهاني وهذه القصة كانت لأبي محجن في يوم من أيام حرب القادسية يقال له يوم أرماث وكانت أيامها المشهورة يوم أغواث ويوم أرماث ويوم الكتائب وخبرها يطول جداً وليس في كلها كان لأبي محجن خبر وإنما ذكرنا هاهنا خبره فذكرنا منها ما كان اتصاله بخبر أبي محجن حدثنا بذلك محمد بن جرير الطبري قال كتب إلي السري بن يحي يذكر عن شعيب عن سيف عن محمد بن طلحة وزياد وابن مخراق عن رجل من طيء قال لما كان يوم الكتائب اقتتل المسلمون والفرس منذ أصبحوا إلى أن انتصف النهار فلما غابت الشمس تزاحف الناس فاقتتلوا حتى انتصف الليل وهذه الليلة كان في صبيحتها يوم أرماث وقد كان المسلمون يوم أغواث أشرفوا على الظفر وقتلوا عامة أعلام الفرس وجالت خيلهم في القلب فلولا أن رجلهم ثبتوا حتى كرت الخيل لكان رئيسهم قد أخذ لأنه كان ينزل عن فرسه ويجلس على سريره ويأمر الناس بالقتال قالوا فلما انتصف الليل تحاجز الناس وبات المسلمون ينتمون منذ لدن أمسوا وسمع ذلك سعد فاستلقى لينام وقال لبعض من عنده إن تم الناس على الانتماء فلا توقظني فإنهم أقوياء على عدوهم وإن سكتوا وسكت العدو فلا تنبهني فإنهم على السواء وإن سمعت العدو ينتمون وهؤلاء سكوت فأنبهني فإن إنتماء العدو من السوء قالوا ولما اشتد القتال في تلك الليلة وكان أبو محجن قد حبسه سعد بكتاب عمر وقيده فهو في القصر صعد أبو محجن إلى سعد يستعفيه ويستقيله فزبره ورده فنزل فأتى سلمى بنت أبي حفصة فقال يا بنت آل أبي حفصة هل لك إلى خير قالت وما ذاك قال تخلين عني وتعيرينني البلقاء فلله علي إن سلمني الله أرجع إلى حضرتك حتى تضعي رجلي في قيدي فقالت وما أنا وذاك فرجع يوسف في قيوده ويقول ( كَفَى حَزنَاً أن تَرْدِيَ الخَيْلُ بالقَنَا ... وأُترَكَ مَشْدُوداً عليَّ وِثاقِيَا ) ( إذا قُمتُ عَنَّاني الحديدُ وغُلِّفَت ... مَصارِيعُ من دُونِي تُصِمُّ المُنادِيا ) ( وقد كُنتُ ذا مالٍ كَثيرٍ وإخوةٍ ... فقد تركوني واحداً لا أخَالِيا ) ( وقد شَفَّ جِسْمِي أنّنِي كلَّ شَارِقٍ ... أُعالِج كَبْلاً مُصْمتاً قد بَرانِيَا ) ( فلِلّه دَرِّي يومَ أُترَكُ مُوثَقا ... وتَذهَلُ عنّي أُسْرَتي ورِجالِيا ) ( حَبيساً عن الحَرْبِ العَوانِ وقد بدت ... وإعمالُ غَيْري يوم ذَاكَ العَوَاليَا ) ( وللهِ عَهْدٌ لا أخِيسُ بعَهْده ... لئن فُرِجَت ألاّ أزُورَ الحوانِيَا ) فقالت له سلمى إني استخرت الله ورضيت بعهدك فأطلقته وقالت أما الفرس فلا أعيرها ورجعت إلى بيتها فاقتداها أبو محجن وأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها ثم دب عليها حتى إذا كان بحيال الميمنة وأضاء النهار وتصاف الناس كبر ثم حمل على ميسرة القوم فلعب برمحه وسلاحه بين الصفين ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فبدر أمام الناس فحمل على القوم فلعب بين الصفين برمحه وسلاحه وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفاً منكراً فعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه بالأمس فقال بعض القوم هذا من أوائل أصحاب هشام بن عتبة أو هشام بنفسه وقال قوم إن كان الخضر يشهد الحروب فهو صاحب البلقاء وقال آخرون لولا أن الملائكة لا تباشر القتال ظاهراً لقلنا هذا ملاك بيننا وجعل سعد يقول وهو مشرف ينظر إليه الطعن طعن أبي محجن والضبر ضبر البلقاء ولولا محبس أبي محجن لقلت هذا أبو محجن وهذه البلقاء فلم يزل يقاتل حتى انتصف الليل فتحاجز أهل العسكرين وأقبل أبو محجن حتى دخل القصر ووضع عن نفسه ودابته وأعاد رجليه في القيد وأنشأ يقول ( لقد عَلِمتْ ثقيفٌ غَيرَ فخر ... بأنّا نحن أكرمُهم سُيوفَا ) ( وأكثرُهم دُروعاً سابغاتٍ ... وأصبرُهم إذا كرهوا الوُقوفَا ) ( وأنّا رِفْدُهم في كلِّ يوم ... فإن جحدوا فَسلْ بهمُ عَرِيفَا ) ( ولَيْلَةَ قادسٍ لم يَشْعُروا بي ... ولم أكْرَهْ بمخرجيَ الزُّحوفَا ) ( فإن أُحبَسْ فقد عَرفوا بَلائِي ... وإن أُطلَقْ أُجرِّعْهم حُتوفَا ) فقالت له سلمى يا أبا محجن في أي شيء حبسك هذا الرجل فقال أما والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية وأنا امرؤ شاعر يدب الشعر على لساني فينفثه أحياناً فحبسني لأني قلت ( إذا مِتُّ فادفنِّي إلى أصل كَرْمةٍ ... تُروِّي عِظامِي بعد مَوْتِي عُروقُها ) ( ولا تَدْفِنَنِّي في الفَلاة فإنني ... أخافُ إذا ما مِتّ ألاّ أذُوقُها ) ( لِيُروَى بخمر الحُصِّ لَحمِي فإنَّني ... أسِيرٌ لها من بعد ما قد أسُوقُها ) سعد بن أبي وقاص يفرج عن أبي محجن قال وكانت سلمى قد رأت في المسلمين جولة وسعد بن أبي وقاص في القصر لعلة كانت به لم يقدر معها على حضور الحرب وكانت قبله عند المثنى بن حارثة الشيباني فلما قتل خلف عليها سعد فلما رأت شدة البأس صاحت وامثنياه ولا مثنى لي اليوم فلطمها سعد فقالت أف لك أجبنا وغيرة وكانت مغاضبة لسعد عشية أرماث وليلة الهدأة وليلة السواد حتى إذا أصبحت أتته وصالحته وأخبرته خبر أبي محجن فدعا به وأطلقه وقال اذهب فلست مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله قال لا جرم والله إني لا أجبت لساني إلى صفة قبيح أبداً أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري وحبيب بن نصر المهلبي قالا حدثنا عمر بن شبّة قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا محمد بن حازم قال حدثنا عمرو بن المهاجر عن إبراهيم بن محمد بن سعد عن أبيه وأخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن الحسن بن دينار مولى بني هاشم عن ابن الأعرابي عن المفضل وروايته أتم قالوا كان أبو محجن الثقفي فيمن خرج مع سعد بن أبي وقاص لحرب الأعاجم فكان سعد يؤتى به شارباً فيتهدده فيقول له لست تاركها إلا لله عز و جل فأما لقولك فلا قالوا فأتي به يوم القادسية وقد شرب الخمر فأُمر به إلى القيد وكانت بسعد جراحه فلم يخرج يومئذٍ إلى الناس فاستعمل على الخيل خالد بن عرفطة فلما التقى الناس قال أبو محجن ( كفى حَزَناً أن تَرْدِيَ الخيلُ بالقَنَا ... وأُتركَ مَشْدُوداً عليّ وِثاقِيَا ) وذكر الأبيات وسائر خبره مثل ما ذكره محمد بن جرير وزاد فيه فجاءت زبراء امرأة سعد هكذا قال والصحيح أنها سلمى فأخبرت سعداً بخبره فقال سعد أما والله لا أضرب اليوم رجلاً أبلى الله المسلمين على يده ما أبلاهم فخلي سبيله فقال أبو محجن قد كنت أشربها إذ كان الحد يقام علي وأطَّهَّر منها فأما إذ بهرجتني فلا والله لا أشربها أبداً وقال ابن الأعرابي في خبره وقال أبو محجن في ذلك ( إن كانت الخمرُ قد عزَّت وقد مُنِعَتْ ... وحال من دونها الإسلامُ والحَرَجُ ) ( فقد أُباكِرُها صِرْفاً وأمزُجُها ... رِيّاً وأَطرب أحياناً وأَمتزِجُ ) ( وقد تَقومُ على رأْسي مُنَعَمَّةٌ ... خَوْذٌ إذا رَفَعت في صَوْتها غُنُجُ ) ( تُرَفِّعُ الصّوتَ أحياناً وتخفِضُه ... كما يَطِنُّ ذُبابُ الرَّوضَةِ الهَزِجُ ) أخبرني الجوهري والمهلبي قالا حدثنا عمر بن شبة قال لما انصرف أبو محجن ليعود إلى محبسه رأته امرأة فظنته منهزماً فأنشأت تعيره بفراره ( مَنْ فارِسٌ كَرِه الطِّعان يُعيِرُني ... رُمْحاً إذا نزلوا بمزج الصُّفَّرِ ) فقال لها أبو محجن ( إن الكِرامَ على الجِياد مَبِيتُهُم ... فَدَعِي الرِّمَاحَ لأهْلِها وتَعَطَّرِي ) أبو محجن يرثي أبا عبيد بن مسعود وذكر السري عن شعيب عن سيف في خبره ووافقته رواية ابن الأعرابي عن المفضل أن الناس لما التقوا مع العجم يوم قس الناطف كان مع الأعجام فيل يكر عليهم تقوم له الخيل فقال أبو عبيد بن مسعود هل له مقتل فقيل له نعم خرطومه إلا أنه لا يفلت منه من ضربه قال فأنا أهب نفسي لله وكمن له حتى إذا أقبل وثب إليه فضرب خرطومه بالسيف فرمى به ثم شد عليه الفيل فقتله ثم استدار فطحن الأعاجم وانهزموا فقال أبو محجن الثقفي أبا عبيد ( أَنَّى تَسَدَّت نحوَنا أُمُّ يوسُفٍ ... ومِنْ دُونِ مَسْرَاها فَيَافٍ مَجَاهِلُ ) ( إلى فِتيةٍ بالطَّفِّ نِيلَت سَرَاتُهم ... وغُودِر أَفراسٌ لهم وروَاحِلُ ) ( وأَضْحَى أَبو جَبْرٍ خلاءً بيُوتُه ... وقد كان يَغْشاها الضِّعافُ الأرامِلُ ) ( وأَضْحى بَنُو عمرو لدَى الجِسْر منهمُ ... إلى جانب الأبْيَات جُودٌ ونائِلٌ ) ( وما لُمْتُ نفسِي فيهمُ غَيْرَ أَنّها ... لها أَجَلٌ لم يأْتِها وهو عاجِلُ ) ( وما رِمتُ حتى خَرّقُوا بسِلاحهم ... إِهابي وجادَت بالدِّماءِ الأباجِل ) ( وحتى رأيتُ مُهْرتي مُزْوَئِرّةً ... مِنَ النَّبْلِ يَدْمَى نَحْرُها والشّواكِلُ ) ( وما رُحْتُ حتى كنتُ آخرَ رائحٍ ... وصُرِّع حولي الصّالِحُون الأماثِلُ ) ( مَرَرْتُ على الأَنصارِ وَسْط رِحالِهم ... فقلتُ ألا هَلْ منكم اليوم قافِلُ ) ( وقرَّبْتُ رَوَّاحاً وكُوراً ونُمرقاً ... وغُودِر في أُلَّيس بكْرٌ ووائِلُ ) ( أَلا لَعن الله الذين يَسرُّهم ... رَدَايَ وما يَدْرون ما الله فاعِلُ ) قال الأخفش في روايته عن الأحول عن ابن الأعرابي عن المفضل قال أبو محجن في تركه الخمر ( رأيتُ الخَمر صالحةً وفيها ... مناقبُ تُهلِك الرّجل الحَليما ) ( فلا واللهِ أشربُها حَيَاتي ... ولا أَسقي بها أبداً نَدِيماً ) أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا العمري عن لقيط عن الهيثم بن عدي وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه وأخبرني إبراهيم بن أيوب عن ابن قتيبة قالوا دخل ابن أبي محجن على معاوية فقال له أليس أبوك الذي يقول ( إذا مِتُّ فادفني إلى أصل كَرْمَةٍ ... تُروِّي عِظامي بعد مَوتي عُروقُها ) ( ولا تَدْفِنَنِّي بالفلاة فإنّني ... أخاف إذا ما متّ ألاَّ أذوقُها ) فقال ابن أبي محجن لو شئت لذكرت ما هو أحسن من هذا من شعره قال وما ذاك قال قوله ( لا تَسألِي الناسَ عن مالي وكَثْرَتِه ... وسائلي الناسَ ما فِعْلي وما خُلُقي ) ( أُعطِي السِّنانَ غداة الرَّوْعِ حِصته ... وعامِلَ الرُّمح أَرويه من العَلق ) ( وأَطعن الطعنةَ النَّجلاءَ عن عُرُضٍ ... وأحفظُ السرَّ فيه ضَرْبةُ العُنقِ ) ( عَفُّ المَطالب عمّا لستُ نائلَه ... وإن ظُلِمتُ شديدُ الحِقْد والحَنقَ ) ( وقد أجودُ ومالي بذِي فَنَعٍ ... وقد أكرُّ وراء المُحجَر البَرِقِ ) ( والقومُ أعلْم أني من سَراتِهمُ ... إذا سَما بَصَرُ الرِّعديدة الشّفِق ) ( قد يُعسِر المرءُ حيناً وهو ذُو كَرَم ... وقد يَثوب سَوامُ العاجزِ الحَمِق ) ( سيَكثُر المالُ يَوماً بعد قِلَّته ... ويكتسي العُودُ بعد اليُبس بالوَرَق ) فقال معاوية لئن كنا أسأنا لك القول لنحسنن لك الصفد ثم أجزل جائزته وقال إذا ولدت النساء فلتلد مثلك عمر بن الخطاب يحدّه في شرب الخمر أخبرني الحسن بن علي وعيسى بن الحسين الوراق قالا حدثنا ابن مهرويه قال حدثني صالح بن عبد الرحمن الهاشمي عن العمري عن العتبي قال أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجماعة فيهم أبو محجن الثقفي وقد شربوا الخمر فقال أشربتم الخمر بعد أن حرمها الله ورسوله فقالوا ما حرمها الله ولا رسوله إن الله تعالى يقول ( ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ) فقال عمر لأصحابه ما ترون فيهم فاختلفوا فيهم فبعث إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فشاوره فقال علي إن كانت هذه الآية كما يقولون فينبغي أن يَستحلّوا الميتة والدم ولحم الخنزير فسكتوا فقال عمر لعلي ما ترى فيهم قال أرى إن كانوا شربوها مستحلين لها أن يقتلوا وإن كانوا شربوها وهم يؤمنون أنها حرام أن يحدوا فسألهم فقالوا والله ما شككنا في أنها حرام ولكنا قدرنا أن لنا نجاة فيما قلناه فجعل يحدهم رجلاً رجلاً وهم يخرجون حتى انتهى إلى أبي محجن فلما جَلده أنشأ يقول ( ألم تَرَ أنّ الدهرَ يعثُر بالفتى ... ولا يستطيع المَرءُ صرفَ المَقادرِ ) ( صَبرتُ فلم أجزَع ولم أكُ كائعاً ... لحادثِ دَهْر في الحُكومة جائرِ ) ( وإني لذُو صَبر وقد مات إخوتي ... ولست عن الصهباء يَوماً بصابر ) ( رَماها أميرُ المُؤمنين بحتْفِها ... فخُلاّنُها يبكون حول المَعاصرِ ) فلما سمع عمر قوله ( ولستُ عن الصّهْباء يوماً بصابر ... ) قال قد أبديت ما في نفسك ولأزيدنك عقوبة لإصرارك على شرب الخمر فقال له علي عليه السلام ما ذلك لك وما يجوز أن تعاقب رجلاً قال لأفعلن وهو لم يفعل وقد قال الله في الشعراء ( وأنهم يقولون ما لا يفعلون ) فقال عمر قد استثنى الله منهم قوماً فقال ( إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) فقال علي عليه السلام أفهؤلاء عندك منهم وقد قال رسول الله لا يشرب العبد الخمر حين يشربها وهو مؤمن ) أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم بن فراس قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال أخبرني من مر بقبر أبي محجن الثقفي في نواحي أذربيجان أو قال في نواحي جرجان فرأيت قبره وقد نبتت عليه ثلاثة أصول كرم قد طالت وأثمرت وهي معروشة وعلى قبره مكتوب هذا قبر أبي محجن الثقفي فوقفت طويلاً أتعجب مما اتفق له حتى صار كأمنية بلغها حيث يقول ( إذا مِتُّ فادْفِنِّي إلى أصلِ كَرْمةٍ ... تُروِّي عِظامي بعد مَوْتي عُروقُها ) ( ألا يا لَقومي لا أرى النَّجْمَ طالعاً ... ولا الشّمسَ إِلاَّ حاجِبِي بيَمِينِي ) ( مُعزِّيَتِي خَلْف القفا بعمُودِها ... فجُلُّ نكيري أَن أقولَ ذَرِيني ) ( أمينٌ على أسرارِهنّ وقد أُرَى ... أكونُ على الأسرار غيرَ أمينِ ) ( فلَلموتُ خيرٌ من حِداجٍ مُوَطَّأٍ ... مع الظُّعْنِ لا يأتي المحلَّ لحينِ ) عروضه من الطويل والمعزية امرأة تكون مع الشيخ الخَرِف تكلؤه وقوله ( أمينٌ على أسرارِهنّ . . ... . ) أي أن النساء صرن يتحدثن بين يدي بأسرارهن ويفعلن ما كن قبل ذلك يرهبنني فيه لأني لا أضرهن والحداج والحدج مركب من مراكب النساء الشعر لزهير بن جناب الكلبي والغناء لأهل مكة ولحنه من خفيف الثقيل الأول بالوسطى عن الهشامي وحبش وفيه لحنين ثاني ثقيل بالوسطى أخبار زهير بن جناب ونسبه زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة شاعر جاهلي وهو أحد المعمرين وكان سيد بني كلب وقائدهم في حروبهم وكان شجاعاً مظفراً ميمون النقيبة في غزواته وهو أحد من مل عمره فشرب الخمر صرفاً حتى قتلته ولم يوجد شاعر في الجاهلية والإسلام ولد من الشعراء أكثر ممن ولد زهير وسأذكر أسماءهم وشيئاً من شعرهم بعقب ذكر خبره إن شاء الله تعالى غزوة غطفان قال ابن الأعرابي كان سبب غزوة زهير بن جناب غطفان أن بني بغيض حين خرجوا من تهامة ساروا بأجمعهم فتعرضت لهم صداء وهي قبيلة من مذحج فقاتلوهم وبنو بغيض سائرون بأهليهم ونسائهم وأموالهم فقاتلوا عن حريمهم فظهروا على صداء فأوجعوا فيهم ونكأوا وعزت بنو بغيض بذلك وأثرت وأصابت غنائم فلما رأوا ذلك قالوا أما والله لنتخذن حرماً مثل حرم مكة لا يقتل صيده ولا يعضد شجره ولا يهاج عائذه فوليت ذلك بنو مرة ابن عوف ثم كان القائم على أمر الحرم وبناء حائطه رياح بن ظالم ففعلوا ذلك وهم على ماء لهم يقال له بس وبلغ فعلهم وما أجمعوا عليه زهير بن جناب وهو يومئذٍ سيد بني كلب فقال والله لا يكون ذلك أبداً وأنا حي ولا أخلي غطفان تتخذ حرماً أبداً فنادى في قومه فاجتمعوا إليه فقام فيهم فذكر حال غطفان وما بلغه عنها وأن أكرم مأثرة يعتقدها هو وقومه أن يمنعوهم من ذلك ويحولوا بينهم وبينه فأجابوه واستمد بني القين من جشم فأبوا أن يغزوا معه فسار في قومه حتى غزا غطفان فقاتلهم فظفر بهم زهير وأصاب حاجته فيهم وأخذ فارساً منهم أسيراً في حرمهم الذي بنوه فقال لبعض أصحابه اضرب رقبته فقال إنه بسل فقال زهير وأبيك ما بسل علي بحرام ثم قام إليه فضرب عنقه وعطل ذلك الحرم ثم من على غطفان ورد النساء واستاق الأموال وقال زهير في ذلك ( ولم تَصْبِر لنا غطفَانُ لَمّا ... تلاقَيْنا وأُحرِزَت النِّساءُ ) ( فَلَوْلا الفَضْلُ منّا ما رَجَعتم ... إلى عذراءَ شِيمَتُها الحَياءُ ) ( وكم غادَرتُمُ بَطَلاً كمِيّاً ... لدى الهَيْجَاء كان له غَنَاءُ ) ( فدُونكم دُيوناً فاطْلبُوها ... وأوْتاراً ودُونكم اللِّقاءُ ) ( فإِنّأ حَيْثُ لا نَخْفى عليكم ... لُيوثٌ حين يحتَضِرُ الِلّوَاء ) ( فَخَلّي بعدَهَا غطفَانُ بُسّاً ... وما غَطَفَانُ والأَرض الفَضَاء ) ( فقد أضْحى لِحَيّ بني جَنابٍ ... قضاءُ الأَرضِ والماءُ الرَّواءُ ) ( ويصدُق طَعنُنَا في كلّ يوم ... وعِنْد الطّعن يُختبَر اللِّقاءُ ) ( نَفيْنَا نَخْوَةَ الأَعداء عنّا ... بأَرْمَاحٍ أَسِنّتُها ظِماءُ ) ( ولولا صبرُنا يوم التَقْينا ... لَقِينَا مِثل ما لقيتْ صُدَاءُ ) ( غَداةَ تَعرّضوا لِبَني بغِيضٍ ... وصِدْقُ الطّعن للنَّوْكى شِفاءُ ) ( وقد هَرَبَتْ حِذارَ الموتِ قَيْنٌ ... على آثارِ مَنْ ذَهَبَ العَفاءُ ) ( وقد كُنّا رَجوْنا أن يُمِدّوا ... فأَخْلَفنا من أخْوتِنا الرَّجاءُ ) ( وأَلهَى القَينَ عن نَصر الموالي ... حِلابُ النِّيبِ والمرعى الضَّرَاء ) وقال أبو عمرو الشيباني كان أبرهة حين طلع نجداً أتاه زهير بن جناب فأكرمه أبرهة وفضله على من أتاه من العرب ثم أمره على ابني وائل تغلب وبكر فوليهم حتى أصابتهم سنة شديدة فاشتد عليهم ما يطلب منهم زهير فأقام بهم زهير في الجدَبْ ومنعهم من النجعة حتى يؤدّوا ما عليهم فكادت مواشيهم تهلك فلما رأى ذلك ابن زيّابة أحد بني تيم الله بن ثعلبة وكان رجلاً فاتكاً بيت زهيراً وكان نائماً في قبة له من أدم فدخل فألْفى زهيراً نائماً وكان رجلاً عظيم البطن فاعتمد التيمي بالسيف على بطن زهير حتى أخرجه من ظهره مارقاً بين الصفاق وسلمت أعفاج بطنه وظن التيمي أنه قد قتله وعلم زهير أنه قد سلم فتخوف أن يتحرك فيجهز عليه فسكت وانصرف ابن زيابة إلى قومه فقال لهم قد والله قتلت زهيراً وكفيتكموه فسرهم ذلك ولما علم زهير أنه لم يقدم عليه إلا عن ملأ من قومه بكر وتغلب وإنما مع زهير نفر من قومه بمنزلة الشرط أمر زهير قومه فغيبوه بين عمودين في ثياب ثم أتوا القوم فقالوا لهم إنكم قد فعلتم بصاحبنا ما فعلتم فأذنوا لنا في دفنه ففعلوا فحملوا زهيراً ملفوفاً في عمودين والثياب عليه حتى إذا بعدوا عن القوم أخرجوه فلففوه في ثيابه ثم حفروا حفيرة وعمقوا ودفنوا فيها العمودين ثم ساروا ومعهم زهير فلما بلغ زهير أرض قومه جمع لبكر وتغلب الجموع وبلغهم أن زهيرا حي فقال ابن زباية ( طَعْنَةً ما طَعَنتُ في غَبَش اللَّيل ... زُهَيرا وقد تَوافَى الخُصومُ ) ( حين تَجْبِي له المواسِمَ بَكرٌ ... أَينَ بَكْر وأَيْنَ منها الحُلومُ ) ( خانَنِي السيفُ إذ طَعنتُ زُهَيْراً ... وهو سيفٌ مُضلِّل مَشؤومُ ) زهير يغزو بكراً وتغلب قال وجمع زهير بني كلب ومن تجمع له من شُذاذ العرب والقبائل ومن أطاعه من أهل اليمن فغزا بكراً وتغلب ابني وائل وهم على ماء يقال له الحبي وقد كانوا نذروا به فقاتلهم قتالاً شديداً ثم انهزمت بكر وأسلمت بني تغلب فقاتلت شيئاً من قتال ثم انهزمت وأسر كليب ومهلهل ابنا ربيعة واستيقت الأموال وقتلت كلب في تغلب قتلى كثيرة وأسروا جماعة من فرسانهم ووجوههم وقال زهير بن جناب في ذلك ( تَبّاً لِتَغْلبَ أنْ تُساقَ نِساؤُهم ... سَوْقَ الإماء إلى المواسِم عُطّلا ) ( لحقتْ أوائِلُ خَيلِنا سَرَعانَهم ... حتى أسَرْنَ على الحُبَيّ مُهَلْهِلاً ) ( إنَّا مُهَلْهِلُ مَا تَطِيشُ رِماحُنَا ... أيام تَنْقُفُ في يديْك الحَنْظَلاَ ) ( وَلَّت حُمَاتُك هاربين من الوَغَى ... وبَقيتَ في حَلَق الحديد مُكبَّلاَ ) ( فلئن قُهِرْتَ لقد أسرتُك عَنْوةً ... ولئن قُتِلْتَ لقد تَكُون مُؤَمَّلاَ ) وقال أيضاً يعير بني تغلب بهذه الوقعة في قصيدة أولها حيِّ داراً تَغَيَّرت بالجَنابِ ... أقْفَرَتْ من كواعبٍ أترابِ ) يقول فيها ( أيْنَ أَيْنَ الفِرارُ من حذَر المَوْت ... وإذا يَتَّقُون بالأسلابِ ) ( إذْ أسِرنَا مُهلْهِلاً وأخاهُ ... وابنَ عَمْرو في القِدِّ وابنَ شَهَابِ ) ( وسَبَيْنا من تَغْلب كلَّ بَيْضاءَ ... رَقُودِ الضُّحى بَرُود الرُّضابِ ) ( يَوْمَ يدعُو مُهلْهلٌ يا لَبَكْرها ... أهَذِي حفِيظَةُ الأحسابِ ) ( وَيْحَكم وَيْحكم أُبيح حِماكُم ... يا بني تغْلبٍ أمَا من ضِرابِ ) ( وهُمُ هاربُون في كلِّ فجٍّ ... كشَريد النَّعام فوقَ الرّوابِي ) ( واستدارَت رَحَى المنَايَا عليهم ... بِلُيوثٍ من عامرٍ وجنَابِ ) ( طَحَنتهم أرحاؤُها بطَحونٍ ... ذاتِ ظُفرٍ حدِيدَةِ الأنيابِ ) ( فهُمُ بَيْن هارب ليس يأْلُوا ... وَقَتيلٍ مُعفّرٍ في التُّرابِ ( فضَل العِزُّ عِزُّنا حين نَسْمُوا ... مِثْل فَضْل السَّماء فَوْقَ السَّحاب ) أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا عمي عن ابن الكلبي عن أبيه قال وفد زهير بن جناب وأخوه حارثة على بعض ملوك غسان فلما دخلا عليه حدثاه وأنشداه فأعجب بهما ونادمهما فقال يوماً لهما إن أمي عليلة شديدة العلة وقد أعياني دواؤها فهل تعرفان لها دواء فقال حارثة كميرة حارة وكانت فيه لوثة فقال الملك أي شيء قلت فقال له زهير كميئة حارة تطعمها فوثب الملك وقد فهم الأولى والآخرة يريهما أنه يأمر بإصلاح الكمأة لها وحلم عن مقالة حارثة وقال حارثة لزهير يا زهير اقلب ما شئت ينقلب فأرسلها مثلاً بلغ عمراً طويلاً فكان يخرج تائهاً أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن الغيث الباهلي عن أبيه قال كان من حديث زهير بن جناب الكلبي أنه كان قد بلغ عمراً طويلاً حتى ذهب عقله وكان يخرج تائها لا يدري أين يذهب فتلحقه المرأة من أهله والصبي فترده وتقول له إني أخاف عليك الذئب أن يأكلك فأين تذهب فذهب يوماً من أيامه ولحقته ابنة له فردته فرجع معها وهو يهدج كأنه رأل وراحت عليهم سماء في الصيف فعلتهم منها بغشة ثم أردفها غيث فنظر وسمع له الشيخ زجلاً منكراً فقال ما هذا يا بنية فقالت عارض هائل إن أصابنا دون أهلنا هلكنا فقال انعتيه لي فقالت أراه منبطحاً مسلنطحاً قد ضاق ذرعاً وركب ردعاً ذا هيدب يطير وهماهم وزفير ينهض نهض الطير الكسير عليه مثل شباريق الساج في ظلمة الليل الداج يتضاحك مثل شعل النيران تهرب منه الطير وتوائل منه الحشرة قال أي بنية وائلي منه إلى عصر قبل أن لا عين ولا أثر أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثني أحمد ابن عبيد عن ابن الكلبي عن مشيخة من الكلبيين قالوا عاش زهير بن جناب بن هبل بن عبد الله خمسين ومائتي سنة أوقع فيها مائتي وقعة في العرب ولم تجتمع قضاعة إلا عليه وعلى حن بن العذري ولم يكن في اليمن أشجع ولا أخطب ولا أوجه عند الملوك من زهير وكان يدعى الكاهن لصحة رأيه قال هشام ذكر حماد الراوية أن زهيرا عاش أربعمائة وخمسين سنة قال وقال الشرقي بن القطامي عاش زهير أربعمائة سنة فرأته ابنة له فقالت لابن ابنها خذ بيد جدك فقال له من أنت فقال فلان بن فلان بن فلانة فأنشأ يقول ( أبَنِيَّ إِنْ أهْلِكْ فقد ... أوْرَثْتُكُمْ مَجْداً بَنِيَّهْ ) ( وَتَرَكْتُكُم أبناءَ ساداتٍ ... زنَادُكم وَرِيَّهْ ) ( ولكُلُّ ما نالَ الفَتَى ... قد نِلْتُه إلا التَّحِيَّهْ ) ( والموتُ خَيْرٌ لِلفَتَى ... فَلْيَهْلِكَنْ وبه بَقيَّهْ ) ( مِن أنْ يُرَى الشَّيْخَ البَجالَ ... وَقَدْ تَهادَى بالعَشِيَّهْ ) ( ولقد شَهِدتُ النَّارَ للأَسْلاف ... تُوقَد في طَمِيَّهْ ) ( ولقد رَحَلْتُ البازِلَ الكَوْمَاء ... ليس لها وَلِيَّهْ ) ( وخَطَبتُ خُطْبَةَ ماجِدٍ ... غَيْرِ الضَّعِيف ولا العَيِيَّهْ ) ( ولقد غَدوتُ بمُشرِف القُطْرين ... لم يَغمِزْ شَظِيّهْ ) ( فأصبتُ من بَقَر الجَناب ... ضُحىًومن حُمُرِ القَفِيَّهْ ) قال ابن الكلبي وقال زهير في كبره أيضاً ( ألا يالَقَوْمِي لا أرى النَّجم طَالِعاً ... ولا الشَّمسَ إلا حاجِبي بِيَميني ) ( مُعَزِّبتِي عند القَفا بعَمُودِها ... فأَقْصَى نَكِيري أن أقول ذَرِيني ) ( أمِينٌ على أسرَارِهِنَّ وقد أُرَى ... أكُونُ على الأسرارِ غَيرَ أمِينِ ) ( فللْموتْ خيرٌ من حداجٍ مُوَطَّأٍ ... على الظُّعْن لا يأتي المحلَّ لحِينِ ) قال وقال زهير أيضاً في كبره ( إن تُنْسي الأيامُ إلا جلاَلةَ ... أمُتْ حين لا تأسَى عليَّ العوائِدُ ) ( فَيأذَى بيَ الأدنى ويشْمت بي العدا ... ويأمَن كَيْدي الكاشِحُون الأباعدُ ) قال وقال زهير أيضاً ( لقد عُمِّرتُ حتى لا أُبالِي ... أحتْفي في صَباحِي أم مَسائي ) ( وحُقَّ لمن أتَتْ مِائتَان عاماً ... عليه أنْ يملَّ من الثَّوَاء ) ( شَهِدتُ المُوقدين على خَزَازى ... وبالسُّلاَّن جمْعاً ذا زُهاءِ ) ( ونادمتُ المُلوكَ مِنَ آلِ عَمْرو ... وبعدهُمُ بني ماءِ السماءِ ) قال ابنُ الكلبي وكان زهير إذا قال ألا إن الحي ظاعن ظعنت قضاعة وإذا قال ألا إن الحي مقيم نزلوا وأقاموا فلما أن أسن نصب ابن أخيه عبد الله ابن عليم للرياسة في كلب وطمع أن يكون كعمه وتجتمع قضاعة كلها عليه فقال زهير يوماً ألا إن الحي ظاعن فقال عبد الله ألا إن الحي مقيم فقال زهير ألا إن الحي مقيم فقال عبد الله ألا إن الحي ظاعن فقال زهير من هذا المخالف علي منذ اليوم فقالوا ابن أخيك عبد الله بن عليم فقال أعدى الناس للمرء ابن أخيه إلا أنه لا يدع قاتل عمه أو يقتله ثم أنشأ يقول ( وكَيْفَ بِمَنْ لا أَستَطِيعُ فِراقَه ... ومَنْ هو إن لم تَجْمَعِ الدَّارُ آلِفُ ) ( أمِيرُ شِقاقٍ إنْ أُقِم لا يُقِم مَعِي ... وَيَرْحَلْ وإن أرحَل يُقِم ويخالِفُ ) ثم شرب الخمر صرفا حتى مات قال وممن شرب الخمر صرفاً حتى مات عمرو بن كلثوم التغلبي وأبو براء عامر بن مالك ملاعب الأسنة قال هشام عاش هبل بن عبد الله جد زهير بن جناب ستمائة سنة وسبعين وهو القائل ( يا رُبَّ يَومٍ قد غَنِي فيه هُبَلْ ... له نَوالٌ ودُرُورٌ وجَذَلْ ) ( كأنَّه في العِزِّ عَوْفٌ أو حَجَلْ ... ) قال عوف وحجل قبيلتان من كلب وقال أبو عمرو الشيباني كان الجلاح بن عوف السحمي قد وطأ لزهير بن جناب وأنزله معه فلم يزل في جناحه حتى كثر ماله وولده وكانت أخت زهير متزوجة في بني القين بن جسر فجاء رسولها إلى زهير ومعه برد فيه صرار رمل وشوكة قتاد فقال زهير لأصحابه أتتكم شوكة شديدة وعدد كثير فاحتملوا فقال له الجلاح أنحتمل لقول امرأة والله لا نفعل فقال زهير ( أمَّا الجُلاحُ فإِنَّني فارقْتُه ... لا عن قِلىً ولقدتَشِطُّ بنا النَّوَى ) ( فَلئن ظَعَنْتَ لأُصبِحَنَّ مُخَيِّماً ... ولَئنْ أقمتَ لأظعَنَنَّ على هَوَى ) حارب الجيش وقتل رئيساً منهم قال فأقام الجلاح وظعن زهير وصبحهم الجيش فقتل عامةُ قوم الجلاح وذهبوا بماله قال واسم الجلاح عامر بن عوف بن بكر بن عوف بن عامر بن عوف ابن عذرة ومضى زهير لوجهه حتى اجتمع مع عشيرته من بني جناب وبلغ الجيش خبره فقصدوه فحاربهم وثبت لهم فهزمهم وقتل رئيساً منهم فانصرفوا عنه خائبين فقال زهير ( أمِن آلِ سَلْمى ذا الخَيالُ المُؤَرِّقُ ... وقد يَمِقُ الطيفَ الغريبُ المُشوَّقُ ) ( وأَنَّى اهْتَدَت سَلمَى لِوَجْهِ محلِّنا ... وما دونها من مَهْمَه الأرض يَخفِقُ ) ( فلم تَرَ إلا هاجعاً عند حُرَّةٍ ... على ظهرها كُورٌ عَتِيقٌ ونُمْرُقُ ) ( ولمّا رَأتْني والطَّلِيحَ تبَسَّمَتْ ... كما انهلَّ أعْلَى عارضٍ يتألَّقُ ) ( فحُيِّيتِ عَنَّا زَوِّدينا تحيَّةً ... لعلَّ بها العانِي من الكَبْل يُطْلَقُ ) ( فردَّت سَلاماً ثم وَلت بحاجَةٍ ... ونحنُ لعَمْرِي يابْنَةَ الخَيْرِ أشْوَقُ ) ( فيا طِيبَ ما رَيّا ويا حُسْنَ مَنْظَرٍ ... لَهَوْتُ به لو أنَّ رُؤْياكِ تَصْدُقُ ) ( ويومَ أُثالَى قد عرفتُ رُسومَها ... فعُجْنا إليها والدُّموعُ تَرَقْرَقُ ) ( وكادت تُبِينُ القَولَ لَمّا سأَلتُها ... وتُخْبرُني لو كانت الدارُ تَنْطِقُ ) ( فيا دارَ سَلْمى هِجْتِ للعين عَبْرةً ... فماءُ الهوى يرفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ ) وقال زهير في هذه القصيدة يذكر خلاف الجلاح عليه ( أيا قَوْمَنا إن تَقْبَلوا الحَقَّ فاْنتَهوا ... وإلا فأنيابٌ من الحرب تَحْرُقُ ) ( فجاؤوا إلى رَجْراجَةٍ مُكْفَهِرَّة ... يكاد المديرُ نحوَها الطَّرْفَ يَصْعَقُ ) ( سُيوفٌ وأرماحٌ يأيدي أعزَّةٍ ... ومَوْضُونةٌ مِمَّا أفاد مُحَرِّقُ ) ( فما بَرحُوا حتى تَرَكْنا رئيسَهم ... وقد مار فيه المَضْرَحِيُّ المُذَلَّقُ ) ( وكائِنْ تَرَى من ماجِدٍوابْنِ مَاجدٍ ... له طَعْنةٌ نجلاءُ للوَجْه يشْهَقُ ) وقال زهير في ذلك أيضاً ( سائِل أُمَيْمَةَ عَنِّي هل وَفَيْتُ لها ... أم هل منعْتُ من المخْزاة جيرانا ) ( لا يَمْنَع الضَّيفَ إلا ماجدٌ بطَلٌ ... إنَّ الكريم كريمٌ أينما كانا ) ( لَمَّا أَبَى جِيرَتي إلا مُصَمِّمةً ... تكْسُو الوُجوه من المخْزاة ألوانَا ) ( ملْنا عليهم بورد لا كفاء له ... يفْلقْن بالبيض تحت النَّقْع أبْدَانَا ) ( إذا ارجَحَنُّوا عَلوْنا هامَهم قُدُماً ... كأنَّمَا نَخْتَلي بالهامِ خُطْبانَا ) ( كم من كريم هَوَى للوَجْه مُنْعِفراً ... قد اكْتَسَى ثوبُه في النَّقْع ألوانَا ) ( ومِنْ عَمِيدٍ تَنَاهَى بعد عَثرَته ... تَبدُو نَدامتُه للقَوْم خَزيانَا ) نماذج من أولاده الشعراء وأما الشعراء من ولد زهير فمنهم مصاد بن أسعد بن جنادة بن صهبان بن امرئ القيس بن زهير بن جناب وهو القائل ( تَمَنَّيْتَ أن تَلْقَى لِقاحَ ابن محْرزٍ ... وقبلك شامتها العُيونُ النّواظرُ ) ( مُمَنَّحةٌ في الأقربين مُناخةً ... وللضّيف فيها والصِّديق مَعاقرُ ) ( فهَلاَّ بَني عَيْناء عاينتَ جَمْعَهمْ ... بحالة إذ سُدَّت عليك المَصادرُ ) ومنهم حُريْثُ بن عامر بن الحارث بن امرئ القيس بن زهير بن جناب وهو القائل ( أرى قَوْمي بني قَطَنٍ أرادُوا ... بألاَّ يتركوا بِيَديَّ مالاَ ) ( فإن لم أجْزِهم غَيْظاً بغَيْظٍ ... وأُورِدْهُم على عَجَلٍ شِلالاَ ) ( فَلَيْتَ التَّغْلَبِيَّة لم تَلِدْني ... ولا أغْنَتْ بما ولدت قِبالا ) ومنهم الحزنبل بن سلامة بن زهير بن أسعد بن صهبان بن امرئ القيس ابن زهير بن جناب وهو القائل ( عَبَثَت بمُنْخَرِق القَمِيص كأنَّه ... وَضَحُ الهِلال على الخُمُور مُعذلِ ) ( يا سَلْمَ وَيْحكِ والخَلِيل مُعاتبٌ ... أزْمَعْتِ أن تَصِلي سِواي وتَبْخَلي ) ( لَمَّا رأيتِ بعارضَيّ ولمَّتي ... غِيَرَ المَشيب على الشباب المُبْدَلِ ) ( صَرَّمْتِ حَبْل فتىً يهشُّ إلى النَّدى ... لو تَطْلُبِين نداه لم يَتَعَلَّلِ ) ( إنا لنَصْبر عند مُعترَك الوغَى ... ونَبُذُ مكرُمَة الكريمِ المُفْضِلِ ) ومنهم غرير بن أبي جابر بن زهير بن جناب وهو القائل ( أبلِغ أبَا عَمْروٍ وأنْتَ ... عليَّ ذُو النِّعَم الجَزِيلَهْ ) ( أَنَّا مَنَعْنا أَنْ تَذِلَّ ... بلادُكُمْ وَبَنُو جَدِيلهْ ) ( وطرقْتُهم لَيلاً أُخَبِّرهم ... بهم ومعِي وَصِيلَهْ ) ( فصدَقْتُهُم خَبَري فَطارُوا ... في بِلادِهم الطَّوِيلَهْ ) ومنهم عرفجة بن جنادة بن أبي بن النعمان بن زهير بن جناب وهو القائل ( عفا أَبرقُ العَزَّاف من أُمّ جابرٍ ... فمُنْعَرجُ الوادي عفا فَحَفِيرُ ) ( فرَوْضُ ثُوَيْر عن يمين رَوِيَّةٍ ... كأن لَمْ تَرَبَّعْه أوانِسُ حُورُ ) ( رِقاقُ الثَّنَايا والوُجوه كأنها ... ظِباءُ الفلا في لَحْظِهِن فُتُورُ ) ومنهم المسيب بن رفل بن حارثة بن جناب بن قيس بن امرئ القيس ابن أبي جابر بن زهير بن جناب وهو القائل ( قَتلْنا يَزِيدَ بن المُهَلَّب بعد ما ... تَمَنّتُمُ أن يَغلِبَ الحَقَّ باطِلُهْ ) ( وما كان منكم في العِراقِ مُنافِقٌ ... عن الدَّين إلا من قُضاعة قاتِلُه ) ( تَجلَّله قَحْلٌ بأَبْيضَ صارِمٍ ... حُسامٍ جَلاَ عن شفرَتَيْه صَياقِلُه ) يعني بالقحل ابن عياش بن شمر بن أبي شراحيل بن غرير بن أبي جابر بن زهير بن جناب وهو الذي قتل يزيد بن المهلب ومن بني زُهَير شعراء كثير ذكرت منهم الفحول دون غيرهم صوت ( تَدَّعي الشوقَ إن نَأَتْ ... وتَجنَّى إذا دَنَتْ ) ( سرَّني لو صَبَرتُ عنها ... فتُجزَى بما جَنَتْ ) ( إنَّ سَلْمَى لو اتَّقَتْ ... رَبَّها فِيَّ أَنْجَزتْ ) ( زَرَعت في الحَشَا الهَوَى ... وسقَتْه حتى نَبَتْ ) الشعر لمسلم بن الوليد والغناء لعريب خفيف ثقيل وقيل إنه لأبي العبيس بن حمدون وذكر الهشامي أن لإسحاق في إنّ سلمى وما بعده لحنا من الثقيل الأول بالبنصر نسب مسلم بن الوليد وأخباره وهو مسلم بن الوليد أبوه الوليد مولى الأنصار ثم مولى أبي أمامة أسعد بن زرارة الخزرجي يُلقب صريع الغواني شاعر متقدم من شعراء الدولة العباسية منشؤه ومولده الكوفة وهو فيما زعموا أول من قال الشعر المعروف بالبديع هو لقب هذا الجنس البديع واللطيف وتبعه فيه جماعة وأشهرهم فيه أبو تمام الطائي فإنه جعل شعره كله مذهباً واحداً فيه ومسلم كان متفنناً متصرفاً في شعره أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال قال أبو العباس محمد بن يزيد كان مسلم شاعرا حسن النمط جيد القول في الشراب وكثير من الرواة يقرنه بأبي نواس في هذا المعنى وهو أول من عقد هذه المعاني الظريفة واستخرجها حدثنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال سمعت أبي يقول أول من أفسد الشعر مسلم بن الوليد جاء بهذا الذي سماه الناس البديع ثم جاء الطائي بعده فتفنن فيه مسلم ويزيد بن مزيد أخبرني إبراهيم بن أيوب عن عبد الله بن مسلم الدينوري قال كان مسلم بن الوليد وأخوه سليمان منقطعين إلى يزيد بن مزيد ومحمد ابن منصور بن زياد ثم الفضل بن سهل بعد ذلك وقلد الفضل مسلماً المظالم بجرجان فمات بها أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد قال كان السبب في قول مسلم ( تَدّعِي الشوقَ إن نأَتْ ... وَتجَنَّى إذا دَنَتْ ) أنه علق جارية ذات ذكر وشرف وكان مَنزِلها في مهب الشمال من منزله وفي ذلك يقول صوت ( أُحِبُّ الرَّيحَ ما هَبَّتْ شَمالا ... وأَحسُدُها إذا هَبَتْ جَنُوبا ) ( أَهابُكِ أن أبوحَ بذاتِ نَفْسي ... وأفرَقُ إنْ سَأَلْتُكِ أن أخِيبا ) ( وأهجُر صاحِبي حُبَّ التَّجَنِّي ... عليه إذا تَجَنّيْتِ الذُّنوبا ) ( كأنّي حين أُغضِي عن سِواكمْ ... أخافُ لكم على عيْني رَقيبا ) غنى عبد الله بن العباس الربيعي في هذه الأبيات هزجاً بالبنصر عن الهشامي قال وكانت له جارية يرسلها إليها ويبثها سره وتعود إليه بأخبارها ورسائلها فطال ذلك بينهما حتى أحبتها الجارية التي علقها مسلم ومالت إليها وكلتاهما في نهاية الحسن والكمال وكان مسلم يحب جاريته هذه محبة شديدة ولم يكن يهوى تلك إنما كان يريد الغزل والمجون والمراسلة وأن يشيع له حديث بهواها وكان يرى ذلك من الملاحة والظرف والأدب فلما رأى مودة تلك لجاريته هجر جاريته مظهراً لذلك وقطعها عن الذهاب إلى تلك وذلك قوله ( وأَهْجُر صاحِبي حُبَّ التَجَنِّي ... عليه إذا تجنَّيْت الذُّنُوبا ) وراسلها مع غير جاريته الأولى وذلك قوله ( تَدَّعي الشوقَ إن نأتْ ... وتجنَّى إذا دنتْ ) ( واعدتنا وأخلفتْ ... ثم ساءتْ فأحسنت ) ( سرَّني لو صبرتُ عنها فتُجْزَى بما جنتْ ) ( إنَّ سَلْمَى لو أتَّقت ... رَبّها فيّ أَنجزَتْ ) ( زرعت في الحشا الهوى ... وسقته حتى نَبَتْ ) مسلم يختلف مع أبي نواس في الشعر أخبرني الحسين بن يحي ومحمد بن يزيد قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال لقي مسلم بن الوليد أبا نواس فقال له ما أعرف لك بيتاً إلا فيه سقط قال فما تحفظ من ذلك قال قل أنت ما شئت حتى أريك سقطه فيه فأنشده ( ذكر الصّبوحَ سُحَيرةً فارتاحا ... وأَمَلَّه دِيكُ الصبّاح صِيَاحَا ) فقال له مسلم فلم أمله وهو الذي أذكره وبه ارتاح فقال أبو نواس فأنشدني شيئاً من شعرك ليس فيه خلل فأنشده مسلم ( عاصَى الشَّبَابَ فراح غير مُفنَّد ... وأَقام بين عزيمة وتَجَلُّدِ ) فقال له أبو نواس قد جعلته رائحاً مقيماً في حال واحدة وبيت واحد فتشاغبا وتسابا ساعة وكلا البيتين صحيح المعنى أخبرني جعفر بن قدامة قال قال لي محمد بن عبد الله بن مسلم حدثني أبي قال اجتمع أصحاب المأمون عنده يوماً فأفاضوا في ذكر الشعر والشعراء فقال له بعضهم أين أنت يا أمير المؤمنين عن مسلم بن الوليد قال حيث يقول ماذا قال حيث يقول وقد رثى رجلاً ( أرادوا ليُخْفوا قبرَه عن عَدُوِّه ... فَطِيبُ تُرابِ القبر دلّ عَلَى القَبْرِ ) وحيث مدح رجلاً بالشجاعة فقال ( يَجودُ بالنَّفْس إذْ ضَنَّ الجَواد بها ... والجُودُ بالنَّفْس أقْصَى غايةِ الجُودِ ) وهجا رجلاً بقبح الوجه والأخلاق فقال ( قَبُحَتْ مناظِرُه فحين خَبرتُه ... حَسُنَتْ مناظرُه لِقُبْح المَخْبَرِ ) ( وتغازل فقال ( هَوىً يَجِدُّ وحَبيبٌ يَلَعَبُ ... أَنْتَ لَقىً بينهما مُعَذَّبُ ) فقال المأمون هذا أشعر من خضتم اليوم في ذكره أخبرني محمد بن عمران الصيرفي والحسن بن علي الخفاف قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزيّ قال حدثني قعنب بن المحرز وابن النطاح عن القحذمي قال قال يزيد بن مزبد أرسل إلى الرشيد يوماً في وقت لا يرسل فيه إلى مثلي فأتيته لابساً سلاحي مستعداً لأمر إن أراده فلما رآني ضحك إلي ثم قال يا يزيد خبرني من الذي يقول فيك ( تَراهُ في الأمْنِ في دِرْع مُضاعَفَة ... لا يأمَنُ الدَّهرَ أن يُدْعَى على عَجَلِ ) ( صَافِي العِيان طَمُوحُ العَيْن هِمَّتُه ... فَكُّ العُناةِ وأَسْرُ الفَاتِك الخَطِل ) ( لله من هاشِم في أرضِه جَبَلٌ ... وأنتَ وابنُك رُكْنَا ذلك الجَبَلِ ) فقلت لا أعرفه يا أمير المؤمنين قال سوءة لك من سيد قوم يمدح بمثل هذا الشعر ولا تعرف قائله وقد بلغ أمير المؤمنين فرواه ووصل قائله وهو مسلم بن الوليد فانصرفت فدعوت به ووصلته ووليته يزيد بن مزيد يأمر له بجائزة أخبرني محمد بن عمران الصيرفي والحسن بن علي الخفاف قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أبو عبد الله أحمد بن محمد بن سليمان الحنفي ذو الهدمين قال حدثني أبي قال دخل يزيد بن مزيد على الرشيد فقال له يا يزيد من الذي يقول فيك ( لا يَعبَقُ الطِّيبُ خَدَّيْه ومفرِقَه ... ولا يُمسِّح عَيْنَيه من الكُحُلِ ) ( قد عَوَّدَ الطَّير عاداتٍ وَثِقْن بها ... فهُنَّ يَتْبَعْنه في كُلّ مُرْتَحَلِ ) فقال لا أعرف قائله يا أمير المؤمنين فقال له هارون أيقال فيك مثل هذا الشعر ولا تعرف قائله فخرج من عنده خجلاً فلما صار إلى منزله دعا حاجبه فقال له من بالباب من الشعراء قال مسلم بن الوليد فقال وكيف حجبته عني فلم تعلمني بمكانه قال أخبرته أنك مضيق وأنه ليس في يديك شيء تعطيه إياه وسألته الإمساك والمقام أياماً إلى أن تتسع قال فأنكر ذلك عليه وقال أدخله إلي فأدخله إليه فأنشده قوله ( أُجْرِرتُ حبلَ خَلِيع في الصِّبَا غَزِل ... وشَمَّرتْ هِمَمُ العُذَّالِ في عَذَلِي ) ( رَدَّ البُكاءَ على العَيْن الطَّمُوحِ هَوىً ... مُفرَّقٌ بين تَوديعٍ ومُرْتَحَلِ ) ( أَمَا كَفَى البَيْنَ أن أُرمَى بأَسْهُمِه ... حتى رَمانِي بلَحْظِ الأَعيُنِ النُّجُلِ ) ( مما جَنَت لي وإن كانت مُنىً صَدَقَتْ ... صبَابَةً خُلَسُ التَّسلِبم بالمُقَلِ ) فقال له قد أمرنا لك بخمسين ألف درهم فاقبضها واعذر فخرج الحاجب فقال لمسلم قد أمرني أن أرهن ضيعة من ضياعه على مائة ألف درهم خمسون ألفاً لك خمسون ألفاً لنفقته وأعطاه إياها وكتب صاحب الخبر بذلك إلى الرشيد فأمر ليزيد بمائتي ألف درهم وقال أقض الخمسين الألف التي أخذها الشاعر وزده مثلها وخذ مائة ألف لنفقتك فافتك ضيعته وأعطى مسلما خمسين ألفاً أخرى أخبرني الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن عبيد الكوفي وعلي بن الحسن كلاهما قال أخبرني علي بن عمرو قال حدثني مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغوائي قال كنت يوما جالسا في دكان خياط بإزاء منزلي إذ رأيت طارقاً ببابي فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل الكوفة قد قدم من قم فسررت به وكأن إنساناً لطم وجهي لأنه لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه فقمت فسلمت عليه وأدخلته منزلي وأخذت خفين كانا لي أتجمل بهما فدفعتهما إلي جاريتي وكتبت معهما رقعة إلى بعض معارفي في السوق أسأله أن يبيع الخفين ويشتري لي لحماً وخبزاً بشيء سميته فمضت الجارية وعادت إلي وقد اشترى لها ما قد حددته له وقد باع الخفين بتسعة دراهم فكأنها إنما جاءت بخفين جديدين فقعدت أنا وضيفي نطبخ وسألت جاراً لي أن يسقينا قارورة نبيذ فوجه بها إلي وأمرت الجارية بأن تغلق باب الدار مخافة طارق يجيء فيشركنا فيما نحن فيه ليبقى لي وله ما نأكله إلى أن ينصرف فإنا لجالسان نطبخ حتى طرق الباب طارق فقلت لجاريتي انظري من هذا فنظرت من شق الباب فإذا رجل عليه سواد وشاشية ومنطقة ومعه شاكري فخبرتني بموضعه فأنركت أمره ثم رجعت إلى نفسي فقلت لست بصاحب دعارة ولا للسلطان على سبيل ففتحت الباب وخرجت إليه فنزل عن دابته وقال أأنت مسلم بن الوليد قلت نعم فقال كيف لي بمعرفتك قلت الذي دلك على منزلي يصحح لك معرفتي فقال لغلامه امض إلى الخياط فسله عنه فمضى فسأله عني فقال نعم هو مسلم بن الوليد فأخرج إلي كتاباً من خفه وقال هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إلي يأمرني ألا أفضه إلا عند لقائك فإذا فيه أذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع إليه هذه العشرة آلاف درهم التي أنفذتها تكون له في منزله وادفع ثلاثة آلاف درهم نفقة ليتحمل بها إلينا فأخذت الثلاثة والعشرة ودخلت إلى منزلي والرجل معي فأكلنا ذلك الطعام وازددت فيه وفي الشراب واشتريت فاكهة واتسعت ووهبت لضيفي من الدراهم ما يهدي به هدية لعياله وأخذت في الجهاز ثم ما زلت معه حتى صرنا إلى الرقة إلى باب يزيد فدخل الرجل وإذا هو أحد حجابه فوجده في الحمام فخرج إلي فجلس معي قليلاً ثم خبر الحاجب بأنه قد خرج من الحمام فأدخلني إليه وإذا هو على كرسي جالس وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة وبيده هو مرآة ومشط يسرح لحيته فقال لي يا مسلم ما الذي بطأ بك عنا فقلت أيها الأمير قلة ذات اليد قال فأنشدني فأنشدته قصيدتي التي مدحته فيها ( أَجْرَرْتُ حَبل خَلِيع في الصَّبَا غزِلِ ... وشَمّرتْ هِمَمُ العُذّالِ في عَذَلِي ) فلما صرت إلى قولي لا يعبَقُ الطِّيبُ خَدّيْه ومفرِقَه ... ولا يُمَسِّحُ عَيْنَيْه من الكُحُلِ ) وضع المرآة في غلافها وقال للجارية انصرفي فقد حرم علينا مسلم الطيب فلما فرغت من القصيدة قال لي يا مسلم أتدري ما الذي حداني إلى أن وجهت إليك فقلت لا والله ما أدري قال كنت عند الرشيد منذ ليال أغمز رجليه إذ قال لي يا يزيد من القائل فيك ( سَلَّ الْخَلِيفَةُ سَيْفاً من بَني مَطَرٍ ... يَمضي فَيَخْتَرِمُ الأجسادَ والهاما ) ( كالدَّهْر لا يَنْثَني عمّا يَهُمّ به ... قد أوسَعَ الناسَ إنعاماً وإرغاماً ) فقلت لا والله ما أدري فقال لي الرشيد يا سبحان الله أنت مقيم على أعرابيتك يقال فيك مثل هذا الشعر ولا تدري من قائله فسألت عن قائله فأخبرت أنك أنت هو فقم حتى أدخلك على أمير المؤمنين الرشيد يجيزه ويحذره ثم قام فدخل على الرشيد فما علمت حتى خرج علي الإذن فأذن فدخلت على الرشيد فأنشدته ما لي فيه من الشعر فأمر لي بمائتي ألف درهم فلما انصرفت إلى يزيد أمر لي بمائة وتسعين ألفاً وقال لا يجوز لي أن أعطيك مثل ما أعطاك أمير المؤمنين وأقطعني إقطاعات تبلغ غلتها مائتي ألف درهم قال مسلم ثم أفضت بي الأمور بعد ذلك إلى أن أغضبني فهجوته فشكاني إلى الرشيد فدعاني وقال أتبيعني عرض يزيد فقلت نعم يا أمير المؤمنين فقال لي بكم فقلت برغيف خبز فغضب حتى خفته على نفسي وقال قد كنت علي أن أشتريه منك بمال جسيم ولست أفعل ولا كرامة فقد علمت إحسانه إليك وأنا نفي من أبي ووالله ثم والله لئن بلغني أنك هجوته لأنزعن لسانك من بين فكيك فأمسكت عنه بعد ذلك وما ذكرته بخير ولا شر أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عبد الله اليعقوبي قال حدثني البيدق الراوية وكان من أهل نصيبين قال دخلت دار يزيد بن مزيد يوما وفيها الخلق وإذا فتى شاب جالس في أفناء الناس ولم يكن يزيد عرفه بعد وإذا هو مسلم بن الوليد فقال لي ما في نفسي أن أقول شعراً أبداً فقلت ولم قال لأني قد مدحت هذا الرجل بشعر ما مدح بمثله قط ولست أجد من يوصله فقلت له أنشدني بعضه فأنشدني منه ( مُوفٍ على مُهَجٍ في يوم ذِي رَهَجٍ ... كأَنَّه أجَلٌ يَسْعَى إلى أمَلِ ) ( يَقرِي السُّيوفَ نُفوسَ النَّاكِثِين به ... وَيَجْعَل الرُّوسَ تِيجَانَ القَنَا الذُّبُلِ ) ( لا يَعبَقُ الطِّيبُ خَدّيْه ومَفْرِقَه ... ولا يُمَسّح عَيْنَيْه من الكُحُلِ ) ( إذا انتَضَى سيفَه كانت مسالِكُه ... مسالكَ المَوْت في الأجسام والقُلَلِ ) ( وإن خَلَتْ بحَدِيث النَّفْسِ فِكرَتُه ... عاش الرّجاءُ ومات الْخَوْفُ من وَجَلِ ) ( كاللّيث إن هِجْتَه فالمَوْتُ راحتُه ... لا يَسْتَريحُ إلى الأيّام والدُّوَلِ ) ( للهِ من هاشم في أرضِه جَبَلٌ ... وَأنتَ وابْنُك رُكْناً ذَلك الجَبَلِ ) ( صدّقْتَ ظَنِّي وصدَّقتَ الظُّنونَ به ... وَحَطَّ جُودُكَ عَقْدَ الرَّحْل عن جملي ) قال فأخذت منها بيتين ثم قلت له أنشدني أيضا ما لك فيه فأنشدني قصيدة أخرى ابتداؤها ( طيفَ الخيال حَمِدْنَا منكَ إلمامَا ... داوَيْتَ سُقْماً وقد هَيّجْتَ أسقامَا ) يقول فيها ( كالدّهْر لا يَنْثَنِي عَمّا يَهُمّ به ... قد أوسعَ النَّاس إنعاماً وإرغامَا ) قال فأنشدت هذه الأبيات يزيد بن مزيد فأمر له بخمسمائة درهم ثم ذكرته بالرقة فقلت له هذا الشاعر الذي قد مدحك فأحسن يقتصر به على خمسمائة درهم فبعث إليه بخمسمائة درهم أخرى قال فقال لي مسلم جاءتني وقد رهنت طيلساني على رؤوس الإخوان فوقعت مني أحسن موقع أخبرني محمد بن عمران قال حدثنا العنزي عن محمد بن بدر العجلي عن إبراهيم بن سالم عن أبي فرعون مولى يزيد بن مزيد قال ركب يزيد يوماً إلى الرشيد فتغلف بغالية ثم لم يلبث أن عاد فدعا بطست فغسل الغالية وقال كرهت أن أكذب قول مسلم بن الوليد ( لا يَعبَق الطِّيبُ خَدّيْهِ ومَفرِقَه ... ولا يُمَسِّح عَينَيْه من الكُحُلِ ) أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة قال كان مسلم بن الوليد جالساً بين يدي يزيد بن مزيد فأتاه كتاب فيه مهم له فقرأه سراً ووضعه ثم أعاد قراءته ووضعه ثم أراد القيام فقال له مسلم بن الوليد ( الحَزْمُ تَحْرِيقهُ إن كنت ذا حَذَر ... وإنَّما الحَزْم سُوءُ الظَّنِّ بالنَّاسِ ) ( لقد أتاك وقد أَدّى أمانتَه ... فاجعل صِيانَتَه في بَطْنِ أرماسِ ) قال فضحك يزيد وقال صدقت لعمري وخرق الكتاب وأمر بإحراقه حدثني عمي وجحظة قالا حدثنا علي بن الحسين بن عبد الأعلى قال حدثني أبو محلم وحدثني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة قال كان مسلم بن الوليد صديقاً ليزيد بن مزيد ومداحاً له فلما مات انقطع إلى ابنه محمد بن يزيد ومدحه كما مدح أباه فلم يصنع له خيراً ولم يرضه ما فعله به فهجره وانقطع عنه فكتب إليه يستحفيه ويلومه على انقطاعه عنه ويذكره حقوق أبيه عليه فكتب إليه مسلم ( لَبْستُ عَزاءً عن لِقاءِ محمدٍ ... وأَعرضتُ عنه مُنْصِفاً ووَدُودَا ) ( وقُلتُ لنَفْسٍ قادَها الشَّوقُ نحوه ... فَعوَّضَها حُبُّ اللّقاء صُدودَا ) ( هَبِيه امرأً قد كان أصْفاكِ وُدَّه ... فمات وإلاَّ فاحسُبيه يَزيدَا ) لَعَمْرِي لقد وَلَّى فلم ألقَ بعده ... وَفاءً لِذِي عَهْد يُعَدُّ حَمِيدَا ) رثاؤه يزيد بن مزيد أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني أبي قال حدثني أحمد ابن محمد بن أبي سعد قال أهديت إلى يزيد بن مزيد جارية وهو يأكل فلما رفع الطعام من بين يديه وطئها فلم ينزل عنها إلا ميتاً وهو ببرذَعة فدفن في مقابر برذَعة وكان مسلم معه في صحابته فقال يرثيه ( قَبرٌ ببَرْذَعة استَسَرَّ ضريحُه ... خَطَراً تقَاصَرُ دُونُه الأخْطارُ ) ( أبقَى الزَّمانُ على رَبيعَةَ بعده ... حُزْناً كعُمر الدّهر لَيْس يُعارُ ) ( سلكت بك العُربُ السَّبيلَ إلى العُلا ... حتى إذا بَلَغوا المَدَى بك حَارُوا ) ويروى ( حتى إذا سَبق الرَّدَى بك حاروا ... ) هكذا أنشده الأخفش ( نُفِضَتْ بك الأحلاس نَفْضَ إقامةٍ ... واسترجَعَت رُوَّادَها الأمصارُ ) ( فاذهَبْ كما ذَهَبتْ غَوادِي مُزْنَةٍ ... أثنى عليها السَّهلُ والأوْعارُ ) نسخت من كتاب جدي يحي بن محمد بن ثوابة حدثني الحسن بن سعيد عن أبيه قال كان داود بن يزيد بن حاتم المهلبي يجلس للشعراء في السنة مجلسا واحداً فيقصدونه لذلك اليوم وينشدونه فوجه إليه بن الوليد روايته بشعره الذي يقول فيه ( جعلتُه حيث تَرتابُ الرّياح به ... وتحسُد الطَّيرَ فيه أَضْبُعُ البِيدِ ) فقدم عليه يوم جلوسه للشعراء ولحقه بعقب خروجهم عنه فتقدم إلى الحاجب وحسر لثامه عن وجهه ثم قال له استأذن لي على الأمير قال ومن أنت قال شاعر قال قد انصرم وقتك وانصرف الشعراء وهو على القيام فقال له ويحك قد وفدت على الأمير بشعر ما قالت العرب مثله قال وكان مع الحاجب أدب يفهم به ما يسمع فقال هات حتى أسمع فإن كان الأمر كما ذكرت أوصلتك إليه فأنشده بعض القصيدة فسمع شيئاً يقصر الوصف عنه فدخل على داود فقال له قد قدم على الأمير شاعر بشعر ما قيل فيه مثله فقال أدخل قائلة فأدخله فلما مثل بين يديه سلم وقال قدمت على الأمير أعزه الله بمدح يسمعه فيعلم به تقدمي على غيري ممن امتدحه فقال هات فلما افتتح القصيدة وقال ( لا تَدْعُ بي الشَّوق إني غَيرُ مَعْمودِ ... نَهَى النُّهى عن هَوَى البيضِ الرَّعاديد ) استوى جالساً وأطرق حتى أتى الرجل على آخر الشعر ثم رفع رأسه إليه ثم قال أهذا شعرك قال نعم أعز الله الأمير قال في كم قلته يا فتى قال في أربعة أشهر أبقاك الله قال لو قلته في ثمانية أشهر لكنت محسناً وقد اتهمتك لجودة شعرك وخمول ذكرك فإن كنت قائل هذا الشعر فقد أنظرتك أربعة أشهر في مثله وأمرت بالإجراء عليك فإن جئتنا بمثل هذا الشعر وهبت لك مائة ألف درهم وإلا حرمتك فقال أو الإقالة أعز الله الأمير قال أقلتك قال الشعر لمسلم بن الوليد وانا راويته الوافد عليك بشعره فقال أنا ابن حاتم إنك لما افتتحت شعره فقلت ( لا تَدْعُ بي الشَّوْقَ إنِّي غَيْرُ مَعْمودِ ... ) سمع كلام مسلم يناديني فأجبت نداءه واستويت جالساً ثم قال يا غلام أعطه عشرة آلاف درهم واحمل الساعة إلى مسلم مائة ألف درهم أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني مسعود بن عيسى العبدي قال أخبرني موسى بن عبد الله التميمي قال الفضل بن سهل يوليه جرجان دخل مسلم بن الوليد الأنصاري على الفضل بن سهل لينشده شعراً فقال له أيها الكهل إني أجلك عن الشعر فسل حاجتك قال بلى تستتم اليد عندي بأن تسمع فأنشده ( دُموعُها من حِذارِ البَيْن تَنْسكِبُ ... وقَلبُها مُغرَمٌ من حَرّها يَجِبُ ) ( جدَّ الرَّحِيلُ به عنها ففارَقَها ... لَبَيْنِه اللَّهوُ واللَّذَّاتُ والطّربُ ) ( يَهْوَى المَسِيرَ إلى مَرْوٍ ويَحزُنُه ... فِراقُها فهو ذو نَفْسَيْن يرتَقِبُ ) فقال له الفضل إني لأجلك عن الشعر قال فأغني بما أحببت من عملك فولاه البريد بجرجان أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني الحسين بن أبي السري وأخبرني بهذه الأخبار محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إبراهيم بن محمد الوراق عن الحسين بن أبي السري قال قيل لمسلم بن الوليد أي شعرك أحب إليك قال إن في شعري لبيتاً أخذت معناه من التوراة وهو قولي ( دَلَّت على عَيْبِها الدُّنْيَا وصَدَّقَها ... ما استَرْجَع الدَّهرُ ممّا كان أَعْطاني ) قال الحسين وحدثني جماعة من أهل جرجان أن راوية مسلم جاء إليه بعد أن تاب ليعرض عليه شعره فتغافله مسلم ثم أخذ منه الدفتر الذي في يده فقذف به البحر فلهذا قل شعره فليس في أيدي الناس منه إلا ما كان بالعراق وما كان في أيدي الممدوحين من مدائحهم قال الحسين وحدثني الحسين بن دعبل قال قال أبي لمسلم ما معنى قولك ( لا تَدْعُ بي الشّوقَ إنّي غَيرُ مَعْمُود ... ) قال لا تدعني صريع الغواني فلست كذلك وكان يلقب هذا اللقب وكان له كارهاً أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال عتب عيسى بن داود على مسلم بن الوليد فهجره وكان إليه محسناً فكتب إليه مسلم ( شَكرتُك للنُّعْمى فلمّا رَمَيْتَني ... بِصدِّكَ تأديباً شكرتُك في الهَجْرِ ) ( فعِنديَ للتَّأديب شُكْرٌ وللنّدى ... وإن شِئْت كان العَفْوُ أَدْعى إلى الشُّكرِ ) ( إذا ما اتّقاك المستليمُ بعُذْرِه ... فَعفْوك خَيْر من مَلامٍ على عُذْرِ ) قال فرضي عنه وعاد إلى حاله دعبل يقول كان مسلم من أبخل الناس أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني محمد بن الأشعث قال حدثني دعبل بن علي قال كان مسلم بن الوليد من أبخل الناس فرأيته يوماً وقد استقبل الرضا عن غلام بعد موجدة فقال له قد رضيت عنك وأمرت لك بدرهم أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني محمد بن عمرو بن سعيد قال خرج دعبل إلى خراسان لما بلغه خطوة مسلم بن الوليد عند الفضل بن سهل فصار إلى مرو وكتب إلى الفضل بن سهل ( لا تَعْبَأَنْ بِابْن الوَليد فإنه ... يرمِيك بعد ثَلاثَةٍ بمَلالِ ) ( إنَّ المَلُولَ وإن تَقَادَم عَهْدُه ... كانت مَودَّتُه كَفيْءِ ظِلالِ ) قال فدفع الفضل إلى مسلم الرقعة وقال له انظر يا أبا الوليد إلى رقعة دعبل فيك فلما قرأها قال له هل عرفت لقب دعبل وهو غلام أمرد وهو يفسق به قال لا قال كان يلقب بمياس ثم كتب إليه ( مَيَّاسُ قل لي أينَ أنْتَ من الوَرَى ... لا أنتَ مَعلومٌ ولا مجْهولُ ) ( أمّا الهِجاءُ فدَقَّ عِرضك دونَه ... والمَدْح عنك كما عَلِمْتَ جَليلُ ) ( فاذهَبْ فأنتَ طَلِيقُ عِرضك إنّه ... عِرضٌ عزَزْتَ به وأنتَ ذلِيلُ ) أخبرني محمد بن الحسين الكندي الكوفي مؤدبي قال حدثني أزهر بن محمد قال حدثني الحسين بن دعبل قال سمعت أبي يقول بينا أنا جالس بباب الكرخ إذ مرت بي جارية لم أر أحسن منها وجهاً ولا قداً تتثنى في مشيها وتنظر في أعطافها فقلت متعرضاً لها ( دُمُوع عيينِي بها انْبِساطٌ ... ونَومُ عيني به انْقِباضُ ) فأجابتني بسرعة فقالت ( وذا قليلٌ لمَن دَهَتْه ... بلَحْظِها الأعيُنُ المِراضُ ) فأدهشتني وعجبت منها فقلت ( فهل لِموْلاَي عَطفُ قَلْبٍ ... ولِلَّذي في الحَشَا انقِراضُ ) فأجابتني غير مُتوقَّفة فقالت ( إن كُنتَ تهوى الوِدادَ منا ... فالوُدُّ في دِيننا قِراضُ ) قال فما دخل أذني كلام قط أحلى من كلامها ولا رأيت أنضر وجهاً منها فعدلت بها عن ذلك الشعر وقلت ( أتُرى الزَّمانُ يَسرُّنا بتَلاقِ ... ويَضُمُّ مُشتَاقاً إلى مُشْتاقِ ) فأجابتني بسُرعة فقالت ( ما لِلزَّمانِ وللتَّحكُّم بيننا ... أنتَ الزَّمان فسُرَّنا بتَلاقِ ) قال فمضيت أمامها أؤمّ بها دار مسلم بن الوليد وهي تتبعني فصرت إلى منزله فصادفته على عسرة فدفع إلي منديلاً وقال اذهب فبعه وخذ لنا ما نحتاج إليه وعد فمضيت مسرعاً فلما رجعت وجدت مسلماً قد خلا بها في سرداب فلما أحس بي وثب إلي وقال عرفك الله يا أبا علي جميل ما فعلت ولقاك ثوابه وجعله أحسن حسنة لك فغاظني قوله وطنزه وجعلت أفكر أي شيء أعمل به فقال بحياتي يا أبا علي أخبرني من الذي يقول ( بِتُّ في دِرْعِها وبات رفيقِي ... جُنُب القَلبْ طاهرَ الأطْرافِ ) فقلت ( مَنِ لَهُ في حِرِ أُمِّه ألفُ قَرْنٍ ... قد أنافَت على عُلُوِّ مناف ) وجعلت أشتمه وأثب عليه فقال لي يا أحمق منزلي دخلت ومنديلي بعت ودراهمي أنفقت على من تحرد أنت وأي شيء سبب حردك يا قواد فقلت له مهما كذبت علي فيه من شيء فما كذبت في الحمق والقيادة نماذج من هجائه أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه والعنزي عن محمد ابن عبد الله العبدي قال هجا مسلم بن الوليد سعيد بن سلم ويزيد بن مزيد وخزيمة بن خازم فقال ( ديُونُك لا يُقضَى الزَّمان غَريمُها ... وبخلُك بُخلُ الباهِلِيِّ سعِيدِ ) ( سَعيدُ بنُ سَلْم أبخلُ النّاس كُلِّهم ... وما قَومُه من بُخْلِه بِبَعيد ) ( يَزيدُ له فَضْلٌ ولكنَّ مَزْيَداً ... تَدارَك فينا بخلُه بِيَزِيد ) ( خُزيمةٌ لا عَيْبٌ له غيرَ أنه ... لمطبخه قُفِلٌ وباب حَدِيدِ ) أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال حدثنا الأصمعي قال قال لي سعيد بن سلم قدمت علي امرأة من باهلة من اليمامة فمدحتني بأبيات ما تم سروري بها حتى نغصنيها مسلم بن الوليد بهجاء بلغني أنه هجاني به فقلت ما الأبيات التي مدحت بها فأنشدني ( قُتَيْبَةُ قَيْسٍ ساد قَيْساً وسَلْمها ... فلما تَولَّى ساد قَيْساً سعيدُها ) ( وسَيِّدُ قَيْس سَيّدُ النّاسِ كلّهم ... وإن مات من رَغْمِ وذُلِّ حَسودُها ) ( هُمُ رفعوا كَفَّيْك بالمَجْد والعُلا ... ومَنْ يرفَعُ الأبناءَ إلا جُدودُها ) ( إذا مدّ للعليا سَعِيدٌ يَمينَه ... ثنت كَفُّه عنها أَكْفّاً تُريدُها ) قال الأصمعي فقلت له فبأي شيء نغصها عليك مسلم فضحك وقال كلفتني شططاً ثم أنشد ( وأَحببتُ من حُبِّها الباخِلينَ ... حتى ومِقْتُ ابنَ سَلم سعيدا ) ( إذا سِيلَ عُرفاً كسا وَجهَه ... ثِياباً من النَّقْع صُفْراً وسُودَا ) ( يَغار على المَالِ فِعْل الجَواد ... وتأْبى خلائِقُه أن يَجُودَا ) أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني النوشجاني الخليل بن أسد قال حدثني علي بن عمرو قال وقف بعض الكتاب على مسلم بن الوليد وهو ينشد شعراً في محفل فأطال ثم انصرف وقال لرجل كان معه ما أدري أي شيء أعجب الخليفة والخاصة من شعر هذا فوالله ما سمعت منه طائلاً فقال مسلم ردوا علي الرجل فرد إليه فأقبل عليه ثم قال ( أَمّأ الهِجاءُ فدَقَّ عِرضُك دونه ... والمدْحُ عنك كما علِمْتَ جليلُ ) ( فاذْهبْ فأنتَ طَليقُ عِرْضِك إنه ... عِرضٌ عَززْت به وأنت ذليلُ ) دعبل يأخذ عن مسلم ويستقي من بحره أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني إبراهيم بن محمد الوراق قال حدثني الحسين بن أبي السري قال كان مسلم بن الوليد أستاذ دعبل وعنه أخذ ومن بحره استقى وحدثني دعبل أنه كان لا يزال يقول الشعر فيعرضه على مسلم فيقول له إياك أن يكون أول ما يظهر لك ساقطاً فتعرف به ثم لو قلت كل شيء جيداً كان الأول أشهر عنك وكنت أبداً لا تزال تعير به حتى قلت ( أينَ الشَّبابُ وأيّةَ سَلَكا ... ) فلما سمع هذه قال لي أظهر الآن شعرك كيف شئت قال الحسين وحدثني أبو تمام الطائي قال ما زال دعبل متعصباً لمسلم مائلاً إليه معترفاً بأستاذيته حتى ورد عليه جرجان فجفاه مسلم وهجره دعبل فكتب إليه ( أبا مَخْلَدٍ كُنَّا عَقِيدَيْ مَوَدّة ... هَوانَا وقَلْبانا جَميعاً مَعاً مَعَا ) ( أحوطُك بالغَيْب الذي أنتَ حائِطي ... وأَجزَعُ إشفاقاً بأَنْ تَتَوَجَّعا ) ( فصَيَّرتَني بعد انْتِكاثِك مُتْهِماً ... لنفسي عليها أرهَبُ الخَلْق أَجْمَعَا ) ( غَشَشْتَ الهوى حتى تداعَتْ أُصولُه ... بنا وابتَذَلْتَ الوَصلَ حتى تَقطَّعا ) ( وأنزلتَ من بين الجَوانحِ والحَشا ... ذَخِيرَةَ وُدِّ طال ما قد تمنَّعَا ) ( فلا تَلْحَيَنِّي ليس فيك مَطْمَع ... تَخرَّقْتَ حتى لم أجِد لك مَرْقَعَا ) ( فَهبْك يَمِيني استأكَلَتْ فَقَطَعَتُها ... وجَشَّمتُ قلبي صَبرَه فَتَشَجَّعَا ) قال ثم تهاجرا بعد ذلك فما التقيا حتى ماتا أخبرني عمي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال أخبرني أحمد بن أبي أمية قال لقي أخي محمد بن أمية مسلم بن الوليد وهو يتثنى ورواته مع بعض أصحابه فسلم عليه ثم قال له قد حضرني شيء فقال هاته قال على أنه مزاح ولا تغضب قال هاته ولو كان شتما فأنشدته ( من رَأى فيما خَلاَرَجُلا ... تِيهُه أَربَى على جِدَتِهْ ) ( يتَمَشَّى راجِلاً وله ... شاكرِيّ في قُلَنْسِيتهِ ) فسكت عنه مسلم ولم يجبه وضحك ابن أبي أمية وافترقا قال وكان لمحمد برذون يركبه فنفق فلقيه مسلم وهو راجل فقال ما فعل برذونك قال نفق قال فنجازيك إذا على ما أسلفتناه ثم أنشده ( قل لابن مَيٍّ لا تُكُن جازِعاً ... لن يَرْجع البِرْذَوْنُ باللَّيْتِ ) ( طامنَ أحشاءك فِقدانُه ... وكُنْتَ فيه عالِيَ الصَّوتِ ) ( وكُنتَ لا تَنْزِل عن ظَهْره ... ولو من الحُشِّ إلى البَيْتِ ) ( ما مات من سُقْم ولكِنَّه ... ماتَ من الشَّوقِ إلى المَوْتِ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثني ابن مهرويه قال حدثني أحمد بن سعيد الحريري أن أبا تمام حلف ألا يصلي حتى يحفظ شعر مسلم وأبي نواس فمكث شهرين كذلك حتى حفظ شعرهما قال ودخلت عليه فرأيت شعرهما بين يديه فقلت له ما هذا فقال اللات والعُزَّى وأنا أعبدهما من دون الله أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني سمعان بن عبد الصمد قال حدثني دعبل بن علي قال كان أبو نواس يسألني أن أجمع بينه وبين مسلم بن الوليد وكان مسلم يسألني أن أجمع بينه وبين أبي نواس وكان أبو نواس إذا حضر تخلف مسلم وإذا حضر مسلم تخلف أبو نواس إلى أن اجتمعا فأنشده أبو نواس ( أجارَةَ بَيْتَيْنا أبُوكِ غَيُورُ ... وَمَيْسُور ما يُرْجَى لَدَيْكِ عَسيرُ ) وأنشده مسلم ( للهِ من هاشِمٍ في أرْضِه جَبَلٌ ... وأنتَ وابنُكَ رُكْنَاً ذَلِك الْجَبَلِ ) فقلت لأبي نواس كيف رأيت مسلماً فقال هو أشعر الناس بعدي وسألت مسلماً وقلت كيف رأيت أبا نواس فقال هو أشعر الناس وأنا بعده أخبرني الحسن قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن عبد الخالق الأنصاري من ولد النعمان بن بشير قال حدثني مسلم بن الوليد قال وجه إلي ذو الرياستين فحملتُ إليه فقال أنشدني قولك ( بالغَمْرِ من زَينبَ أَطْلاَلُ ... مَرَّتْ بها بعدك أحوالُ ) فأنشدته إياها حتى انتهيت إلى قولي ( وقائلٍ ليست له هِمَّةٌ ... كلاَّ ولكن لَيس لي مالُ ) ( وهِمَّةُ المُقْتِرِ أُمْنِيَّةٌ ... هَمٌّ مع الدَّهر وأشْغال ) ( لا جِدَةٌ أُنْهِضُ عَزْمي بها ... والناسُ سُؤَّالٌ وبُخَّالُ ) ( فاقعُد مع الدَّهر إلى دَوْلَةٍ ... ترفَعُ فيها حَالَك الحَالُ ) قال فلما أنشدته هذا البيت قال هذه والله الدولة التي ترفع حالك وأمر لي بمال عظيم وقلدني أوقال قبلني جوز جرجان الرشيد يهدّده بسبب الهجاء حدثني جحظة قال حدثني ميمون ين هارون قال كان مسلم بن الوليد قد انحرف عن معن بن زائدة بعد مدحه إياه لشيء أوحشه منه فسأله يزيد بن مزيد أن يهبه له فوعده ولم يفعل فتركه يزيد خوفاً منه فهجاه هجاءً كثيراً حتى حلف له الرشيد إن عاود هجاءه قطع لسانه فمن ذلك قوله فيه ( يا مَعْنُ إنك لم تزل في خَزْيَةٍ ... حتى لفَفتَ أباكَ في الأكفان ) ( فاشْكُر بَلاءَ المَوتِ عِنْدَك إنّه ... أودى بلُؤْم الحَيّ من شَيْبَانِ ) قال وهجا أيضاً يزيد بن مزيد بعد مدحه إياه فقال ( أيزِيدُ يا مَغْرورُ ألأمَ مَنْ مَشَى ... تَرْجُو الفَلاحَ وأنتَ نُطْفَة مَزْيَدِ ) ( إن كنُتَ تُنكِر منْطِقي فاصرُخ به ... يَوْمَ العَرُوبة عند بابِ المَسْجِدِ ) ( في مَنْ يَزِيدُ فإن أصبتَ بِمَزْيدٍ ... فَلْساً فَهَاكَ على مُخاطرةٍ يَدِي ) هكذا روى جحظة في هذا الخبر والشعران جميعاً في يزيد بن مزيد فالأول منهما أوله ( أيَزِيدُ إنّك لم تَزَل في خَزْيَةٍ ... ) وهكذا هو في شعر مسلم ولم يلق مسلم معن بن زائدة ولا له فيه مدْح ولا هجاء أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا محمد بن عبد الله بن جشم قال كان يزيد بن مزيد قد سأل مسلم بن الوليد عما يكفيه ويكفي عياله فأخبره فجعله جراية له ثم قال ليس هذا مما تحاسب به بدلاً من جائزة أو ثواب مديح فكان يبعث به إليه في كل سنة فلما مات يزيد رثاه مسلم فقال ( أحقّاً أنّه أودَى يَزِيدُ ... تَبيّنْ أيُّها النَّاعِي المُشِيدُ ) ( أتَدْرِي من نَعَيْتَ وكيف دَارَت ... به شَفَتاك دار بها الصَّعِيدُ ) ( أحامِي المَجْدِ والإِسْلامِ أودَى ... فما لِلأَرْض وَيْحك لا تَمِيدُ ) ( تأمَّلْ هل تَرَى الإِسْلامَ مالت ... دعائِمُه وهل شابَ الولِيدُ ) ( وهل شِيمَت سُيوفُ بَني نِزار ... وهل وُضِعَت عن الْخَيْل اللُّبودُ ) ( وهل تَسْقِي البِلادَ عُشَارُ مُزْنٍ ... بدِرَّتِها وهل يَخْضَرّ عُودُ ) ( أما هُدّت لمَصْرعِه نِزارٌ ... بلى وتقوَّض المَجْدُ المَشِيدُ ) ( وحلَّ ضَرِيحَه إذ حل فيه ... طرِيفُ المَجْد والْحَسَبُ التَّلِيدُ ) ( أما والله ما تنفَكُّ عَيْنِي ... عليك بدَمْعِها أبداً تَجودُ ) ( وإن تَجْمُدْ دُموعُ لَئِيم قومٍ ... فليس لدَمْع ذي حَسَبٍ جُمودُ ) ( أبعْد يَزيدَ تَخْتَزِنُ البَواكِي ... دُموعاً أو تُصَانُ لها خُدُودُ ) ( لَتبْكِكَ قُبّةُ الإِسلام لَمَّا ... وَهَتْ أطنابُها ووَهَى العَمُودُ ) ( ويبكِكَ شاعِرٌ لم يُبقِ دَهْرٌ ... له نَشَبَاً وقد كَسَد القَصِيدُ ) ( فإِن يَهْلِك يَزِيدُ فكُلُّ حَيٍّ ... فَرِيس للمَنِيَّةِ أو طَرِيدُ ) هكذا في الخبر والقصيدة للتيمي يمدح الفضل بن سهل ثم يرثيه أخبرني محمد بن يحي الصولي قال حدثنا الهشامي قال حدثني عبد الله بن عمرو قال حدثني موسى بن عبد الله التميمي قال دخل مسلم بن الوليد على الفضل بن سهل فأنشده قوله فيه ( لو نَطَق الناسُ أو أنْبَوْا بعلمهمُ ... ونَبَّهتْ عن مَعالِي دَهْرِكَ الكُتبُ ) ( لم يَبلُغوا منك أدْنى ما تَمُتُّ به ... إذا تفاخرت الأملاكُ وانْتَسَبُوا ) فأمر له عن كل بيت من هذه القصيدة بألف درهم ثم قتل الفضل فقال يرثيه ( ذَهَلْتُ فلم أنقَع غَلِيلاً بعَبْرةٍ ... وأكبرتُ أن ألقى بيَوْمك ناعِيَا ) ( فلمَّا بَدَا لي أنّه لاعِجُ الأسَى ... وأنْ لَيْسَ إلا الدَّمعُ للحُزْنِ شافِيَا ) ( أقمتُ لك الأنواحَ تَرتَدُّ بينها ... مآتِمُ تندبنَ النَّدَى والمَعَالِيا ) ( وما كان مَنْعَى الفَضْل مَنْعَاةَ وَاحِدٍ ... ولكنّ مَنْعَى الفَضْل كان مَناعِيا ) ( أَللبَأْسِ أم للِجُود أم لمُقَاوِمٍ ... من المُلكِ يَزْحَمْن الجبالَ الرَّوَاسِيَا ) ( عَفَتْ بَعدَك الأيَّام لا بل تَبدَّلت ... وكُنّ كأعْيَادٍ فعُدْن مَباكِيَا ) ( فلم أرَ إلاَّ قَبْل يَوْمِك ضاحِكاً ... ولم أرَ إلا بَعْد يَوْمِك باكِيَا ) أخبرني الحسين بن القاسم الكوكبي قال حدثنا محمد بن عجلان قال حدثنا يعقوب بن السكيت قال أخبرني محمد بن المهنأ قال كان العباس بن الأحنف مع إخوان له على شراب فذكروا مسلم بن =============================== ج36. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني الوليد فقال بعضهم صَريعُ الغواني فقال العباس ذاك ينبغي أن يسمى صريع الغيلان لا صريع الغواني وبلغ ذلك مسلما فقال يهجوه ( بَنُو حَنِيفَةَ لا يَرْضَى الدّعيُّ بهم ... فاتُركْ حَنيفَةَ واطلُب غيرَها نَسَبَا ) ( فاذهبْ فأنت طَلِيقُ الحِلْم مُرْتَهَنٌ ... بسَوْرة الجَهْلِ ما لم أَمْلِك الغَضَبَا ) ( اذْهَبْ إلى عَرَبِ تَرْضَى بنِسْبَتهم ... إني أَرَى لَك خَلْقاً يُشبِهُ العَرَبا ) ( مُنِّيتَ مِنّي وقد جَدّ الجِرَاءُ بنا ... بغَايةٍ مَنَعَتْك الفَوْتَ والطَّلَبَا ) أخبرني محمد بن يزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن جده قال قلت لمسلم بن الوليد ويحك أما استحييت من الناس حين تهجو خزيمة بن خازم ولا استحييت منا ونحن إخوانك وقد علمت أنا نتولاه وهو من تعرف فضلاً وجوداً فضحك وقال لي يا أبا إسحاق لغيرك الجهل أما تعلم أن الهجاء آخذ بضبع الشاعر وأجدي عليه من المديح المضرع وما ظلمت مع ذلك منهم أحداً وما مضى فلا سبيل إلى رده ولكن قد وهبت لك عرض خزيمة بعد هذا قال ثم أنشدني قوله في سعيد بن سلم ( دُيونُك لا يُقْضَى الزّمانَ غَرِيمُها ... وبُخْلُك بُخلُ البَاهِلِيِّ سَعِيدِ ) ( سَعِيدُ بنُ سَلْم أبَخلُ الناس كُلِّهم ... وما قومُه من بُخله بِبَعيدِ ) فقلت له وسَعيدُ بنُ سَلْم صَديقي أيضاً فهبه لي فقال إن أَقبْلتَ على ما يَعنيك وإلا رَجعْت فيما وهبت لك من خزيمة فأمسكت عنه راضياً بالكفاف يمدح محمد بن يزيد بن مزيد ثم الفضل بن يحيى أخبرني جبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن محمد بن موسى بن عمر بن حمزة بن بزيع قال حدثني عبد الله بن الحسن اللهبي قال كان مسلم بن الوليد مداحاً ليزيد بن مزيد وكان يؤثره ويقدمه ويجزل صلته فلما مات وفد على ابنه محمد فمدحه وعزاه عن أبيه وأقام ببابه أياماً فلم ير منه ما يحب فانصرف عنه وقال فيه ( لَبِستُ عَزاءً عن لِقاءِ محمدٍ ... وأعرضتُ عنه مُنْصِفاً وَوَدُوَدا ) ( وقلتُ لِنَفْس قادَها الشّوقُ نحوَه ... فَعوَّضها منه اللِّقاءُ صُدُودَا ) ( هَبِيبهِ امرأً قد كان أصفاكِ وُدَّه ... وماتَ وإلا فاحسُبيه يَزِيدَاً ) ( لعَمْري لقد وَلَّى فلم ألْقَ بَعدَه ... وفاءً لذي عَهْدٍ يُعَدُّ حَمِيدَا ) أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود قال دخل مسلم بن الوليد يوماً على الفضل بن يحيى وقد كان أتاه خبر مسيره فجلس للشعراء فمدحوه وأثابهم ونظر في حوائج الناس فقضاها وتفرق الناس عنه وجلس للشرب ومسلم غير حاضر لذلك وإنما بلغه حين انقضى المجلس فجاءه فأدخل إليه فاستأذن في الإنشاد فأذن له فأنشده وقوله فيه ( أتَتْكَ المَطَايا تَهْتَدِي بمَطِيَّة ... عليها فَتىً كالنَّصْل مُؤنِسُه النَّصْلُ ) يقول فيها ( وَرَدتُ رِواقَ الفَضْل آملُ فَضلَه ... فحَطَّ الثَّناءَ الجَزْلَ نائِلُه الجَزْلُ ) ( فتىً تَرْتَعِي الآمالُ مُزنَةَ جُودِه ... إذا كان مَرْعَاهَا الأَمانِيُّ والمَطْلُ ) ( تساقطُ يُمناه النَّدى وشِمالُه الرَّدَى ... وعُيون القَوْل مَنطِقُه الفَصْلُ ) ( أَلحّ على الأيام يَفرِي خُطوبَها ... على مَنْهجٍ أَلْفى أباه به قبْلُ ) ( أَنافَ به العلياءَ يَحْيِى وَخَالِدٌ ... فلَيس له مِثْلٌ ولا لَهُما مِثْلُ ) ( فُروعٌ أصابت مَغْرِساً مُتَمَكِّناً ... وأَصْلاً فطابت حيث وجّهها الأَصلُ ) ( بكفِّ أبي العَبّاس يُستَمطَر الغِنَى ... وتُستَنْزَل النُّعمى ويُسْتَرعَف النَّصلُ ) قال فطرب الفضل طربا شديداً وأمر بأن تعد الأبيات فعدت فكانت ثمانين بيتا فأمر له بثمانين ألف درهم وقال لولا أنها أكثر ما وصل به الشعراء لزدتك ولكنه شأوٌ لا يمكنني أن أتجاوزه يعني أن الرشيد رسمه لمروان ابن أبي حفصة وأمره بالجلوس معه والمقام عنده لمنادمته فأقام عنده وشرب معه وكانت على رأس الفضل وصيفة تسقيه كأنها لؤلؤة فلمح الفضل مسلماً ينظر إليها فقال قد وحياتي يا أبا الوليد أعجبتك فقل فيها أبياتاً حتى أهبها لك فقال ( إن كُنتِ تَسْقِين غيرَ الرَّاح فاسقِينِي ... كأْساً ألذّ بها من فِيكِ تَشْفِيني ) ( عَيْناكِ راحِي ورَيْحاني حَدِيثُك لي ... ولَونُ خَدَّيْك لَونُ الوَرْد يَكْفِيني ) ( إذا نَهانيَ عن شُرْب الطِّلاَ حَرَجٌ ... فخَمْرُ عَيْنَيْكِ يُغنِينِي ويَجْزِينِي ) ( لولاَ علاماتُ شيبٍ لو أَتَت وَعَظت ... لقد صَحوتُ ولكِن سوف تَأْتِيني ) ( أُرضِي الشَّبابَ فإن أهلِك فعن قَدَر ... وإن بَقيتُ فإن الشَّيبَ يُشقِيني ) فقال له خذها بورك لك فيها وأمر بتوجيهها مع بعض خدمها إليه يتنسك بعد موت زوجته أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أحمد بن إبراهيم قال كانت لمسلم بن الوليد زوجة من أهله كانت تكفيه أمره وتسره فيما تليه له منه فماتت فجزع عليها جزعاً شديداً وتنسك مدة طويلة وعزم على ملازمة ذلك فأقسم عليه بعض إخوانه ذات يوم أن يزوره ففعل فأَكلوا وقدموا الشاب فامتنع منه فسلم وأباه وأنشأ يقول ( بُكاءٌ وكَأسٌ كيف يَتَّفِقانِ ... سَبيلاهُما في القَلْب مُختَلِفانِ ) ( دَعانِي وإفراطَ البُكاءِ فإنَّني ... أَرَى اليومَ فيه غَيْرَ ما تَرَيانِ ) ( غَدَتْ والثَّرى أولَى بها من وَلِيّها ... إلى منزلٍ ناءٍ لعَيْنكَ دَانِ ) ( فلا حُزْن حتى تَذِرِفَ العَيْنُ ماءها ... وتعترِفَ الأَحشاءُ للخَفَقَان ) ( وكَيفَ بِدَفْع اليأسِ للوَجْدِ بعدَها ... وسَهْمَاهُما في القلب يَعْتَلِجان ) أخبرني حبيب بن نصر قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني علي بن الصباح قال حدثني مالك بن إبراهيم قال كان مسلم بن الوليد يهاجي الحكم بن قنبر المازني فغلب عليه ابن قنبر مدة وأخرسه ثم أثاب مسلم بعد أن انخزل وأفحم فهتك ابن قنبر حتى كف عن مناقضته فكان يهرب منه فإذا لقيه مسلم قبض عليه وهجاه وأنشده ما قاله فيه فيمسك عن إجابته ثم جاءه ابن قنبر إلى منزله واعتذر إليه مما سلف وتحمل عليه بأهله وسأله الإمساك فوعده بذلك فقال فيه ( حَلُم ابنُ قَنْبَرَ حين أَقْصَر جهلُه ... هل كان يَحلُم شاعِرٌ عن شاعِرِ ) ( ما أنتَ بالحَكَم الذي سُمِّيتَه ... غالتْك حِلْمَك هَفْوةٌ من قاهرِ ) ( لو لا اعْتِذارُك لارْتَمى بك زاخِرٌ ... مَرِحُ العُبابَ يَفوتُ طرف النَّاظِرِ ) ( لا تُرتِعَنْ لَحمِي لِسانَك بعدَها ... إنّي أخاف عليك شَفْرَةَ جَازِرِ ) ( واستَغْنِم العَفوَ الذي أُوتِيتَه ... لا تأمنَنَّ عُقوبةً من قادِرِ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن ا لقاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عبد الله أبو بكر العبدي قال رأيت مسلم بن الوليد وابن قنبر في مسجد الرصافة في يوم جمعة وكل واحد منهما بإزاء صاحبه وكانا يتهاجيان فبدأ مسلم فقال ( أنا النَّار في أحجارها مُستكنَّةٌ ... فإن كنتَ ممن يقدحُ النّارَ فاقدحِ ) فأجابه ابن قنبر فقال ( قد كنتَ تَهوِي وما قوسى بمُوتَرة ... فكيف ظنُّك بي والقوسُ في الوَترِ ) قال فوثب إليه مسلم وتواخزا وتواثبا وحجز الناس بينهما فتفرقا أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني علي بن عبيد الكوفي قال حدثني علي بن عمروس الأنصاري قال جاء رجل من الأنصار ثم من الخزرج إلى مسلم بن الوليد فقال له ويلك ما لنا ولك قد فضحتنا وأخزيتنا تعرضت لابن قنبر فهاجيته حتى إذا أمكنته من أعراضنا انخزلت عنه وأرعيته لحومنا فلا أنت سكت ووسعك ما وسع غيرك ولا أنت لما انتصرت انتصفت فقال له مسلم فما أصنع فأنا أصبر عليه فإن كف وإلا تحملت عليه بإخوانه فإن كف وإلا وكلته إلى بغيه ولنا شيخ يصوم الدهر ويقوم الليل فإن أقام على ما هو عليه سألته أن يسهر له ليلة يدعو الله عليه فيها فإنها تهلكه فقال له الأنصاري سخنت عينيك أو بهذا تنتصف ممن هجاك ثم قال له ( قد لاذ من خوفِ ابنِ قَنبر مُسلمٌ ... بدُعاء والِده مع الأسحارِ ) ( ورأيتُ شرَّ وعيده أن يشتكي ... ما قد عراه إلى أخٍ أو جارِ ) ( ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ قد هتكْتَ حريمنَا ... وفضَحت أُسرتَنا بني النجارِ ) ( عمَّمتَ خَزْرَجَنا ومَعشَر أوْسِنا ... خِزياً جَنيتَ به على الأنصارِ ) ( فعليكَ من مولىً وناصرِ أُسرةٍ ... وعشيرةٍ غضَبُ الإِله البارِي ) قال فكاد مسلم أن يموت غماً وبكاء وقال له أنت شر علي من ابن قنبر ثم أثاب رحمي فهتك ابن قنبر ومزقه حتى تركه وتحمل عليه بابنه وأهله حتى أعفاه من المهاجاة ونسخت هذا الخبر من كتاب جدي يحي بن محمد بن ثوابة بخطه قال حدثني الحسن بن سعيد قال حدثني منصور بن جمهور قال لما هجا ابن قنبر مسلم بن الوليد أمسك عنه مسلم بعد أن أشلى عليه لسانه قال فجاءه عم له فقال له يا هذا الرجل إنك عند الناس فوق ابن قنبر في عمود الشعر وقد بعث عليك لسانه ثم أمسكت عنه فإما أن قارعته أو سالمته فقال له مسلم إن لنا شيخاً وله مسجد يتهجد فيه وله بين ذلك دعوات يدعو بهن ونحن نسأله أن يجعله من بعض دعواته فإنا نكفاه فأطرق الرجل ساعة ثم قال ( غلب ابنُ قَنبر واللئيمُ مُغلَّبٌ ... لما اتَّقيتَ هِجاءه بدُعاءِ ) ( ما زال يقْذِف بالهِجاء ولذعِه ... حتى اتّقوه بدَعوة الآباء ) قال فقال له مسلم والله ما كان ابن قنبر يبلغ مني هذا كله فأمسك لسانك عني وتعرف خبره بعد هذا قال فأمسك لسانك عني وتعرف خبره بعد هذا قال فبعث والله عليه من لسان مسلم ما أسكته هكذا جاء في الأخبار وقد حدثني بخبر مناقضته ابن قنبر جماعة ذكروا قصائدهما جميعا فوجدت في الشعر الفضل لابن قنبر عليه لأن له عدة قصائد لا نقائض لها يذكر فيها تعريده عن الجواب وقصائد يذكر فيها أن مسلماً فخر على قريش وعلى النبي بأشياء تبيح دمه فكف مسلم عن مناقضته خوفاً منها وجحد أشياء كان قالها فيه فممن أخبرني بذلك هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن الوليد مولى الأنصار وكان عالماً بشعر مسلم بن الوليد وأخباره قال سبب المهاجاة بينه وبين ابن قنبر كان سبب المهاجاة بين مسلم بن الوليد والحكم بن قنبر أن الطرماح بن حكيم قد كان هجا بني تميم بقصيدته التي يقول فيها ( لا عَزّ نصرُ امرئٍ أضحَى له فرسُ ... على تميم يريد النصرَ من أَحدِ ) ( إذا دعا بشعارِ الأزْدِ نَفَّرهم ... كما يُنفِّر صوتُ الليث بالنَّقَدِ ) ( لو حانَ وِردُ تميم ثم قيل لهم ... حَوضُ الرسولِ عليه الأزدُ لم تَرِدِ ) ( أو أنزل الله وحْياً أن يعذّبَها ... إن لم تَعُد لقتال الأَزد لم تَعُدِ ) وهي قصيدة طويلة وكان الفرزدق أجاب الطرماح عنها ثم إن ابن قنبر المازني قال بعد خبر طويل يرد على الطرماح ( يا عاوِياً هاج لَيْثاً بالعُواء له ... شَثْنَ البراثن وَرْدَ اللون ذا لِبَدِ ) ( أيّ الموارد هابت جَمَّ غَمْرتِه ... بنو تميم على حال فلم تَرِدِ ) ( ألم تَرِدْ يوم قَنْدَابِيل مُعلمَة ... بالخَيْل تَضْبِر نحو الأَزْد كالأُسُدِ ) ( بفتيةٍ لم تنازعْهَا فتطبَعها ... بلؤمها طَيِّئٌ ثدياً ولم تلدِ ) ( خاضت إلى الأزد بحراً ذا غوارب من ... سُمْرٍ طوالٍ وبحراً من قَناً قِصَدِ ) ( فأوردَتْها مَناياها بِمُرْهَفَةٍ ... مُلسِ المضارب لم تُفْلَلْ ولم تَكَدِ ) وهي قصيدة طويلة وقد كان الطرماح قال أيضاً ( تميمٌ بطُرْقِ اللؤمِ أهدى منَ القَطَا ... ولو سلَكتْ طُرْقَ المكارمِ ضَلَّتِ ) ( أرى الليلَ يجلوه النهارُ ولا أرى ... عظامَ المخازي عن تميم تَجَلَّتِ ) وقد كان الفرزدق أيضاً أجابه عنها فقال ابن قنبر ينقضها ( لَعمرُك ما ضلَّتْ تَميمٌ ولا جَرَتْ ... على إثر أَشْياخ عن المَجْد ضَلَّتِ ) ( ولا جَبُنت بل أقدَمت يوم كسَّرت ... لها الأزدُ أغمادَ السُّيوفِ وسَلَّتِ ) ( بغائط قنْدابِيل والموْتُ خائضٌ ... عليها بآجالٍ لها قد أظلَّت ) ( فما بَرِحت تُسقَى كُؤوسَ حِمامِها ... إذا نَهِلتْ كرُّوا عليها فَعلَّتِ ) ( إلى أن أبادَتْهم تَمِيمٌ وأكذبت ... أمانِيَّ للشَّيطان عنها اضمحلّتِ ) ( وحانَ فِراقٌ منهمُ كُلَّ خَدْلة ... مُفارِقةٍ بَعلاً به قد تَمَلَّتِ ) وهي أيضاً طويلة قال فبلغ مسلم بن الوليد هجاء ابن قنبر للأزد وطيء ورده على الطرماح بعد موته فغضب من ذلك وقال ما المعنى في مناقضة رجل ميت وإثارة الشر بذكر القبائل لا سيما وقد أجابه الفرزدق عن قوله فأبى ابن قنبر إلا تماديا في مناقضته فقال مسلم قصيدته التي أولها ( آياتُ أطلالٍ برامةَ دُرَّسِ ... هِجْن الصَّبابةَ إذ ذكرْتُ مُعرَّسِي ) ( أوحَتْ إلى دِرَرِ الدُّموع فأسْبَلت ... واستَفْهَمْتها غيرَ أنْ لَمْ تَنبسِ ) يقول فيها يصف الخمر ( صفراءَ من حَلب الكروم كسوتُها ... بيضاء من حَلب الغُيُوم البُجَّسِ ) ( طارت ولاوَذَها الحَبَابُ فحَاكَها ... فكأن حِلْيَتها جَنِيُّ النَّرجِسِ ) ويقول فيها يصف السيوف ( وتُفارِقُ الأغمادَ تبدوُ تارةً ... حُمْراً وتَخفى تارة في الأرُؤُسِ ) ( حَربٌ يكون وَقودُها أبناءَها ... لَقِحَتْ على عُقْرٍ ولمَّا تُنْفَسِ ) ( من هاربٍ رَكِب النَّجاء ومُقعَصٍ ... جَثَمت منيتهُ على المُتنفَّسِ ) ( غصَبْته أطرافُ الأسِنَّة نفسَه ... فَثوى فَريسةَوُلَّغٍ أو نُهَّسِ ) ( إن كنتِ نازلةَ اليفاع فَنَكِّبِي ... دار الرِّباب وخَزْرِجي أو أوِّسِي ) ( وتجنَّبي الجَعْراءَ إِنَّ سُيوفَهم حُدُثٌ وإن قناتَهم لم تَضْرَسِ ) ( هل طَيِّءُ الأجبال شاكرةُ امرئٍ ... ذادَ القوافي عن حِماها مِردسِ ) ( أحمِي أبا نفر عِظامَ حُفَيْرة ... دَرَسَتْ وباقي غَرْسِها لم يَدرُس ) ( كافأتُ نِعْمتها بضِعْفِ بلائِها ... ثم انفردْتُ بمنْصِب لم يَدْنَس ) ( وإذا افتخرتُ عددْتُ سَعيَ مآثر ... قَصَرت على الإِغضاء طَرْفَ الأشْوسِ ) ( رَفَعت بَنُو النّجَار حِلْفي فيهمُ ... ثم انفردتُ فأفسَحُوا عن مَجلِسي ) ( فاعقِلْ لسانَك عن شتائِم قومِنا ... لا يعلقنّك خادرٌ من مأنَسِ ) ( أخلفْت فَخْرَك من أبيك وجِئْتَني ... بأبٍ جَدِيدٍ بعد طُول تَلمُّسِ ) ( أخذَتْ عليه المحكَماتُ طريقَها ... فَغَدا يُهاجي أعظُماً في مَرْمَسِ ) قال فلم يُجبه ابن قنبر عن هذه بشيء ثم التقيا فتعاتبا واعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه فقال مسلم يهجوه ( حَلُمَ ابنُ قَنْبر حين قَصَّر شِعرُه ... هل كان يَحلُمُ شاعرٌ عن شاعِرِ ) مسلم يهجو قريشا ويفخر بالأنصار وقد مضت هذه الأبيات متقدما قال ومكث ابن قنبر حينا لا يجيبه عن هذا ولا عن غيره بشيء طلباً للكفاف ثم هجا مسلم قريشاً وفخر بالأنصار فقال ( قل لِمَن تاه إذ بِنا عَزَّ جهْلاً ... ليس بالتِّيه يفخَر الأحرارُ ) ( فتناهَوْا وأقصِرُوا فلقد جارَت ... عن القَصْد فيكمُ الأنصارُ ) ( أيُّكم حاطَ ذا جِوارٍ بعزٍّ ... قبل أنْ تَحتوِيه مِنَّا الدّارُ ) ( أو رَجا أن يفوتَ قَوماً بِوتْرٍ ... لم تَزلْ تَمتطِيهمُ الأوتارُ ) ( لم يَكُن ذاك فيكُمُ فدَعوا الفخْر ... بما لا يَسوغُ فيه افتِخارُ ) ( ونِزاراً ففاخِرُوا تَفضلُوهم ... ودَعُوا مَنْ له عبيداً نِزارُ ) ( فَبِنا عَزّ منكُم الذُّلُّ والدّهْرُ ... عليكم بريبةٍ كرَّارُ ) ( حاذِرُوا دولةَ الزَّمان عليكمْ ... إنّه بين أهله أطْوارُ ) ( فتُرَدُّوا ونحن للحالة الأُولى ... وللأَوْحد الأذلّ الصَّغارُ ) ( فاخرتْنا لمّا بَسَطنا لها الفخرَ ... قريشٌ وفخرُها مُستَعارُ ) ( ذكرتْ عِزَّها وما كان فيها ... قَبْل أن يَسْتَجيرَنامُستَجارُ ) ( إنَّما كان عِزُّها في جبال ... تَرتَقِيها كما تَرقّى الوِبارُ ) ( أيُّها الفاخِرُون بالعِزّ والعِزُّ ... لقَومٍ سِواهُمُ والفخارُ ) ( أَخبِرونا مَنِ الأعزُّ أألَمْنصورُ ... حتى اعتلَى أم الأنصارُ ) ( فَلَنَا العِزُّ قبل عِزّ قُريشٍ ... وقُريشٌ تِلك الدُّهور تِجارُ ) قال فانبرى له ابن قنبر يجيبه فقال ( ألا امثُلْ أميرَ المؤمنين بمُسلمِ ... وأَفلِق به الأحشاءَ من كل مُجرمِ ) ( ولا ترجِعَنْ عن قَتْله باستِتابةٍ ... فما هو عن شَتْم النَّبي بمُحرِمِ ) ( ولا عن مُساواةٍ له ولقوْمه ... قُريشٍ بأصداءٍ لِعادٍ وجُرْهُمِ ) ( ويفخَر بالأنصار جَهْلاً على الذي ... بنُصرته فازوا بحظٍّ ومَغْنَمِ ) ( وسُمُّوا به الأنصارَ لا عزَّ قائلٌ ... أرادَ قُريشاً بالمَقَالِ المُذمَّمِ ) ( ومنهم رَسول الله أزكى مَنِ انتمَى ... إلى نَسب زاكٍ ومجْد مُقدَّمِ ) ( وما كانَت الأنصار قبل اعْتصامِها ... بنَصْر قُريش في المحلِّ المُعظِّمِ ) ( ولا بالأُلى يعلون أقدارَ قومِهم ... صُداء وخَولانٍ ولَخمٍ وسلْهَمِ ) ( ولكنَّهم بالله عاذُوا ونَصرِهم ... قريشاً ومن يَسْتعصِم الله يُعصَم ) ( فعزُّوا وقد كانوا وفُطيون فيهم ... من الذلّ في باب من العِزّ مُبْهمِ ) ( يسومهم الفِطْيَوْن ما لا يُسامُه ... كريمٌ ومن لا يُنكر الظُّلم يُظلَمِ ) ( وإنّ قُريشاً بالمآثر فُضِّلَتْ ... على الخلق طُرّاً من فَصِيح وأعجَمِ ) ( فما بالُ هذا العِلْجِ ضلَّ ضلالُه ... يَمُدّ إليهم كفَّ أجذَم أعْسَمِ ) ( يُسامي قُريشاً مُسلمٌ وهمُ هُم ... بِمولىً يَمانِيٍّ وبيتٍ مُهَدَّمِ ) ( إذا قام فيه غيرهم لم يكُن له ... مقامٌ به من لُؤم مَبْنىً ومَدْعَمِ ) ( جَعاسيسُ أشباهُ القُرود لو أنّهم ... يُباعون ما ابتِيعوا جميعاً بِدرْهمِ ) ( وما مُسلمٌ من هؤلاء ولا أُلى ... ولكنَّه من نسْل عِلْجٍ مُلَكَّمِ ) ( تولَّى زماناً غيرهم ثُمَّتَ ادَّعى ... إليهم فلم يَكرُم ولم يَتَكرَّمِ ) ( فإن يَكُ منهم فالنَّضير ولِفُّهُم ... مواليه لا مَنْ يَدَّعي بالتَّزعُّمِ ) ( وإن تدعُه الأنصارُ مولىً أَسمهم ... بقافيةٍ تَسْتكرِه الجِلْدَ بالدَّمِ ) ( عِقاباً لهم في إفكهم وادّعائهم ... لأقلفَ منقوش الذراع مُوَشَّمِ ) ( فلا تَدَّعوه وانتفوا منه تسْلموا ... بِنَفْيِكُمُوه من مَقامٍ ومأْثمِ ) ( وإلا فغُضُّوا الطَّرْفَ وانتظروا الرَّدى ... إذا اختلفت فيكم صوارِدُ أسهُمِي ) ( ولم تَجدوا منها مِجَنّاً يُجِنُّكم ... إذا طلعت من كُلّ فجٍّ ومَعْلَمِ ) وأنتُم بنو أذناب من أنتُمُ له ... ولستم بأبناء السَّنام المقدّمِ ) ( ولا ببني الرأسِ الرفيعِ مَحلُّه ... فيسمو بكم مَولىً مُسَامٍ وينْتمي ) فكيفَ رضيتم أن يُسامَى نبيّكم ... بيتكُم الرَّثِّ القصيرِ المهدَّمِ ) ( سأحطِم من سَامى النبيَّ تطاوُلاً ... عليه وأَكوِي مُنتماه بِمِيسَمِ ) ( أَيُعدلُ بيتٌ يثربيٌّ بكعبةٍ ... ثوتها قُريشٌ في المكان المُحرَّمِ ) ( قُريش خِيارُ الله واللهُ خصَّهم ... بذلك فاقْعَسْ أَيُّها العِلْجُ وارْغَمِ ) ( ومَنْ يَدّعي منه الولاءَ مُؤخَّرٌ ... إذا قِيل للجَارِي إلى المجد أقدِمِ ) مسلم يهجو تميماً وابن قنبر يهجوه قال وكان مسلم قال هذه القصيدة في قريش وكتمها فوقعت إلى ابن قنبر وأجابه عنها واستعلى عليه وهتكه وأغرى به السلطان فلم يكن عند مسلم في هذا جواب أكثر من الانتفاء منها ونسبتها إلى قنبر والادعاء عليه أنه ألصقها به ونسبها إليه ليعرضه للسلطان وخافه فقال ينتفي من هذه القصيدة ويهجو تميماً ( دعوتَ أميرَ المُؤمنين ولم تَكُن ... هُناك ولكن مَنْ يَخَفْ يَتَجشَّمِ ) ( وإِنَّكَ إذ تَدْعُوا الخليفَةَ ناصِراً ... لكالمُتَرقِّي في السماء بسُلَّمِ ) ( كذاكَ الصَّدَى تَدْعوه من حيث لا تَرى ... وإن تَتَوَهَّمْه تَمُتْ في التَّوهُّمِ ) ( هجوتَ قُريْشاً عامداً ونحْلَتَنِي ... رُويدَك يَظهرْ ما تَقول فيُعْلَمِ ) ( إذا كان مِثْلي في قَبيل فإنَّه ... على ابنَيْ لُؤيٍّ قُصْرَةً غير مُتْهِمِ ) ( سيكْشِفُك التَّعدِيلُ عمَّا قَرفْتني ... به فتأخّرْ عارِفاً أو تَقَدَّمِ ) ( فإنَّ قُريْشاً لا تُغَيِّر وُدَّها ... ولا يُسْتمالُ عهدُها بالتَّزعُّم ) ( مضى سَلفٌ منهم وصلَّى بِعَقْبِهِم ... لنا سلف في الأوَّل المُتقدِّمِ ) ( جَرَوْا فَجريْنا سابِقينَ بسَبْقهم ... كما اتَّبَعَتْ كفٌّ نواشرَ مِعْصَمِ ) ( وإنَّ الذي يَسْعى ليقطَع بيننا ... كمُلتمِس اليربُوعِ في جُحر أرقَمِ ) ( أَضلّك قَدْعُ الآبِدات طرِيقَها ... فأصبحتَ من عَميائِها في تَهَيُّمِ ) ( وخانَتك عند الجري لمّا اتَّبَعْتَها ... تميمٌ فحاولتَ العُلا بالتَّقَحُّمِ ) ( فأصبحت ترميني بسَهمي وتتَّقي ... يدِي بيدِي أُصلِيتَ نارَك فاضْرَمِ ) قال ثم هجاه ابن قنبر بقصيدة أولها ( قُل لعبدِ النَّضير مُسلمٍ الوغْدِ ... الدَّنيِّ اللئيم شيْخ النِّصابِ ) ( أخسَ يا كلبُ إذ نبحتَ فإنّي ... لستُ ممن يجيبُ نبْحَ الكِلابِ ) ( أفأرضَى ومنْصبِي مَنْصبُ العِزّ ... وبيتي في ذِرْوة الأحسابِ ) ( أن أحطّ الرَّفيعَ من سَمْك بيْتي ... بمُهاجاة أوشَبِ الأوشَابِ ) ( مَنْ إذا سِيل مَن أبُوه بَدا منه ... حياءٌ يَحمِيه رجْع الجوابِ ) ( وإذا قيل حين يُقبِلُ من أنْتَ ... ومَنْ تعتزيه في الأنْسابِ ) ( قلتَ هاجِي ابنِ قَنْبرٍ فتسربلتَ ... بذكرِي فخراً لَدَى النُّسَّابِ ) وهي قصيدة فلم يُجبه مسلم عنها بشيء فقال فيه ابن قنبر أيضاً ( لستُ أنفيك إنْ سِوايَ نَفَاكا ... عن أبيك الذي له مُنتماكَا ) ( ولماذا أنفِيك يا بنَ وليدٍ ... من أبٍ إن ذكرتَه أَخزَاكَا ) ( ولو أنِّي طلبتُ ألأمَ منه ... لم أَجِده إن لم تكن أنتَ ذاكا ) ( لو سِواه أباك كان جَعَلنا ... إن الناسُ طاوعونا أباكا ) ( حاك دهراً بِغَيْر حِذقٍ لبُرْد ... وتحوكُ الأشعار أنتَ كذاكا ) وهي طويلة فلم يجبه مسلم عنها بشيء فقال ابن قنبر أيضاً يهجوه ( فَخر العبدُ عبدُ قِنّ اليهودِ ... بضعيفٍ من فخره مَرْدودِ ) ( فاخر الغُرَّ من قريش بإخْوان ... خنازير من يثربٍ والقُرودِ ) ( يتولَّى بني النَّضير ويدعُو ... بهمُ الفخْرَ من مكان بَعيدِ ) ( وبَنِي الأوسِ والخزارج أهْل الذّلّ ... في سالف الزّمان التَّليدِ ) ( إذ رَضُوا بافتضاض فِطْيَوْن منهم ... كلّ بِكْرٍ ريَّا الروَّادفِ رُودِ ) ( وبنو عمِّها شُهود لمَا يَفْعل ... فِطْيَوْن قُبِّحوا من شُهودِ ) ( خَلْفَ باب الفِطْيَون والبَعلْ منهم ... لا بذي غَيرةِ ولا بنجِيدِ ) ( فإذا ما قَضى اليهُوديّ منها ... نَحْبه قُنِّعوا بخِزْيِ جديدِ ) قال فلما أفحش في هذه القصيدة وفي عدة قصائد قالها ومسلم لا يجيبه مشى إليه قوم من مشيخة الأنصار واستعانوا بمشيخة من قراء تميم وذوي العلم والفضل منهم فمشوا معهم إليه فقالوا له ألا تستحي من أن تهجو من لا يجيبك أنت بدأت الرجل فأجابك ثم عدت فكف وتجاوزت ذلك إلى ذكر أعراض الأنصار التي كان رسول الله يحميها ويذب عنها ويصونها لغير حال أحلت لك ذلك منهم فما زالوا يغطونه ويقولون له كل قول حتى أمسك عن المناقضة لمسلم فانقطعت صوت ( ثلاثةٌ تُشرق الدُّنيا ببَهْجتهم ... شمسُ الضحى وأَبُو إسحاق والقمرُ ) ( يحكِي أفاعيلَه في كلّ نائبةٍ ... الغيثُ والليثُ والصَّمصامةُ الذَّكَرُ ) الشعر لمحمد بن وهيب والغناء لعلويه ثقيل أول بالوسطى وفيه لإبراهيم بن المهدي ثقيل أول آخر عن الهشامي أخبار محمد بن وهيب محمد بن وهيب الحميري صليبة شاعر من أهل بغداد من شعراء الدولة العباسية وأصله من البصرة وله أشعار كثيرة يذكرها فيها ويتشوقها ويصف إيطانه إياها ومنشأَه بها وكان يستمنح الناس بشعره ويتكسب بالمديح ثم توسل إلى الحسن ابن سهل بالحسن بن رجاء بن أبي الضحاك ومدحه فأوصله إليه وسمع شعره فأعجب به واقتطعه إليه وأوصله إلى المأمون حتى مدحه وشفع له فأسنى جائزته ثم لم يزل منقطعاً إليه حتى مات وكان يتشيع وله مراث في أهل البيت وهو متوسط من شعراء طبقته وفي شعره أشياء نادرة فاضلة وأشياء متكلفة المعتصم يسمعه ويجيزه أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال زعم أبو محلم وأخبرني عمي عن علي بن الحسين بن عبد الأعلى عن أبي محلم قال اجتمع الشعراء على باب المعتصم فبعث إليهم محمد بن عبد الملك الزيات أن أمير المؤمنين يقول لكم من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول النمري في الرشيد ( خَليفَةَ الله إن الجُودَ أودِيَةٌ ... أحلَّك اللَّهُ منها حيث تجتمعُ ) ( مَنْ لم يكن بأمين الله مُعتصِماً ... فليس بالصلوات الخمس ينتفعُ ) ( إن أخلف القطرُ لم تُخلِف مخايله ... أو ضاق أمرٌ ذكرناه فيتَّسِعُ ) فليدخل وإلا فلينصرف فقام محمد بن وهيب فقال فينا من يقول مثله قال وأي شيء قلت فقال ( ثلاثةٌ تُشرِق الدنيا ببهجتهم ... شمسُ الضُّحى وأبو إسحاقَ والقمرُ ) ( تحكي أفاعيلَه في كل نائبةٍ ... الغيثُ والليثُ والصَّمصامةُ الذّكرُ ) فأمر بإدخاله وأحسن جائزته أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن مروان أبو موسى قال حدثني محمد بن وهيب الشاعر قال لما تولى الحسن بن رجاء بن أبي الضحاك الجبل قلت فيه شعراً وأنشدته أصحابنا دعبل بن علي وأبا سعد المخزومي وأبا تمام الطائي فاستحسنوا الشعر وقالوا هذا لعمري من الأشعار التي تلقى بها الملوك فخرجت إلى الجبل فلما صرت إلى همذان أخبره الحاجب بمكاني فأذن لي فأنشدته الشعر فاستحسن منه قولي ( أجارتَنا إنّ التّعفُّفَ بالياسِ ... وصَبْراً على استِدْرار دُنيا بإبْساسِ ) ( حَرِيَّان ألاّ يقذِفا بمذلةٍ ... كريماً وألاّ يُحوِجاه إلى الناسِ ) ( أجارتنا إنَّ القِداحَ كواذِبٌ ... وأكثرُ أسباب النَّجاح مع الياسِ ) فأمر حاجبه بإضافتي فأقمت بحضرته كلما دخلت إليه لم أنصرف إلا بحملان أو خلعة أو جائزة حتى انصرم الصيف فقال لي يا محمد إن الشتاء عندنا علج فأعد يوماً للوداع فقلت خدمة الأمير أحب إلي فلما كاد الشتاء أن يشتد قال لي هذا أوان الوداع فأنشدني الثلاثة الأبيات فقد فهمت الشعر كله فلما أنشدته ( أجارتنَا إن القِداح كواذِبٌ ... وأكثرُ أسباب النَّجاح مع الياسِ ) قال صدقت ثم قال عدوا أبيات القصيدة فأعطوه لكل بيت ألف درهم فعدت فكانت اثنين وسبعين بيتاً فأمر لي باثنين وسبعين ألف درهم وكان فيما أنشدته في مقامي واستحسنه قولي صوت ( دِماءُ المُحبِّين لا تُعقَلُ ... أما في الهوى حَكَمٌ يعدِلُ ) ( تعبَّدني حَوَرُ الغانيات ... ودانَ الشبابُ له الأخطل ) ( ونظرةِ عين تعلَّلتُها ... غِراراً كما ينظر الأَحولُ ) ( مُقَسَّمةٍ بين وجه الحبيبِ ... وطرف الرقيبِ متى يغفَلُ ) في هذه الأبيات هزج طنبوري سمعته من جحظة فذكر أنه يراه للمسدود ولم يحقق صانعه قال الأصبهاني وهذه الأبيات له في المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي قال محمد بن وهيب وأهدي إلى الحسن بن رجاء غلام فأعجب به فكتبت إليه ( ليهنك الزائرُ الجديدُ ... جرى به الطائرُ السعيدُ ) ( جاء مشوقٌ إلى مشوقٍ ... فذا وَدُودٌ وذا وَدودُ ) ( يَومُ نَعيمٍ ويومُ لهوٍ ... خُصِصْتَ فيه بما تريدُ ) ( إلفٌ مشوقٌ أتاه إلفٌ ... فمستفادٌ ومُستفيدُ ) حدثني أحمد بن عبد الله بن عمار بهذا الحديث عن يعقوب بن إسرائيل قرقارة عن محمد بن محمد بن مروان بن موسى عن محمد بن وهيب فذكر مثل الذي قبله وزاد فيه فلم يزل يستعيدني ( أجارتنا إن القِداح كواذبٌ ... وأكثر أسباب النّجاح مع الياسِ ) وأنا أعيده عليه فانصرفت من عنده بأكثر مما كنت أؤمل أبو دلف يعجب به ويعظمه حدثني علي بن صالح بن الهيثم الأنباري الكاتب قال حدثني أبو هفان قال حدثني خالي قال كنت عند أبي دلف القاسم بن عيسى فدخل عليه محمد بن وهيب الشاعر فأعظمه جداً فلما انصرف قال له أخوه معقل يا أخي قد فعلت بهذا ما لم يستحقه ما هو في بيت من الشرف ولا في كمال من الأدب ولا بموضع من السلطان فقال بلى يا أخي إنه لحقيق بذلك أو لا يستحقه وهو القائل صوت ( يَدُلُّ على أنني عاشقٌ ... من الدمع مُسْتَشْهَدٌ ناطِقُ ) ( ولي مالكٌ أنا عبدٌ له ... مُقِرٌّ بأني له وامقُ ) ( إذا ما سموتُ إلى وَصلِه ... تعرّض لي دونه عائقُ ) ( وحاربني فيه ريبُ الزَّمان ... كأنَّ الزَّمان له عاشِقُ ) في هذه الأبيات رمل طنبوري أظنه لجحظة حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك قال لما قدم المطلب بن عبد الله بن مالك من الحج لقيه محمد بن وهيب مستقبلاً مع من تلقاه ودخل إليه مهنئاً بالسلامة بعد استقراره وعاد إليه في الثالثة فأنشده قصيدة طويلة مدحه بها يقول فيها ( وما زلت أسترعِي لك الله غائِباً ... وأُظهِرُ إشفاقاً عليك وأَكتُم ) ( وأعلم أنَّ الجودَ ما غِبتَ غائبٌ ... وأنَّ النَّدى في حيث كُنتَ مُخَيِّم ) ( إلى أن زجرتُ الطيرَ سعداً سوانحاً ... وحُمَّ لقاءٌ بالسُّعود ومَقْدَمُ ) ( وظلَّ يُناجيني بمدْحِك خاطرٌ ... وليلِيَ ممدودٌ الرّواقين أدهمُ ) ( وقال طواه الحجُّ فاخشعْ لفقده ... ولا عيشَ حتى يستهِلَّ المحرَّم ) ( سيفخَر ما ضمّ الحطيمُ وزمزمٌ ... بمُطَّلبٍ لو أنه يتكلّمُ ) ( وما خُلِقَتْ إلا من الجود كَفُّه ... على أنها والبأس خِدْنانِ توأَمُ ) ( أعدْتَ إلى أكناف مكة بهْجةً ... خُزاعيَّةً كانت تُجِلّ وتُعظمُ ) ( ليالي سُمَّارِ الحَجون إلى الصّفا ... خُزاعة إذ خلَّت لها البيتَ جُرهُمُ ) ( ولو نطقت بَطحاؤُها وحَجونُها ... وخِيفُ مِنىً والمأزِمان وزمزمُ ) ( إذا لدَعت أجزاءُ جسمك كلها ... تَنافسُ في أقسامه لو تُحَكَّمُ ) ( ولو رُدَّ مخلوقٌ إلى بدءِ خلقه ... إذاً كنت جسماً بينهن تُقَسَّمُ ) ( سَما بك منها كل خيْفٍ فأبطحٍ ... نَما بك منه الجوهرُ المتقدِّمُ ) ( وحنَّ إليك الركنُ حتى كأنَّه ... وقد جئتَه خِلٌّ عليك مُسَلِّمُ ) قال فوصله صلة سنية وأهدى له هدية حسنة من طرف ما قدم به وحمله والله أعلم يمدح الحسن بن سهل فيطربه أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني الحسن بن الحسن بن رجاء عن أبيه وأهله قالوا كان محمد بن وهيب الحميري لما قدم المأمون من خراسان مضاعاً مطرحاً إنما يتصدى للعامة وأوساط الكتاب والقوّاد بالمديح ويسترفدهم فيحظى باليسير فلما هدأت الأمور واستقرت واستوسقت جلس أبو محمد الحسن بن سهل يوماً منفرداً بأهله وخاصته وذوي مودته ومن يقرب من أنسه فتوسل إليه محمد بن وهيب بأبي حتى أوصله مع الشعراء فلما انتهى إليه القول استأذن في الإنشاد فأذن له فأنشده قصيدته التي أولها ( ودائعُ أسرارٍ طَوتْها السرائرُ ... وباحت بمكتوماتِهنّ النّواظرُ ) ( مَلكْتُ بها طيّ الضمير وتحته ... شَبَا لوعةٍ عضب الغِرارين باترُ ) ( فأعجم عنها ناطقٌ وهو مُعرِبٌ ... وأعرَبت العُجمُ الجفونُ العواطِرُ ) ( ألم تغذُني السّرّاءُ في رَيِّقِ الهوى ... غريراً بما تَجْنِي عليّ الدَّوائِرُ ) ( تُسللني الأيّامُ في عُنفوانِه ... ويكَلؤُني طرْفٌ من الدهر ناظِرُ ) حتى انتهى إلى قوله ( إلى الحَسن الباني العُلا يَممَّتْ بنا ... عَوالِي المُنى حيثُ الحَيا المتظاهرُ ) ( إلى الأملِ المبسُوطِ والأجلِ الذي ... بأعدائِه تكبُو الجدودُ العواثرُ ) ( ومن أنبعت عينَ المكارمِ كفُّه ... يقوم مقام القَطْر والروضُ داثرُ ) ( تعصَّب تاجَ الملكِ في عُنفوانِه ... وأطّت به عصْرَ الشَّباب المنابرُ ) ( تُعظِّمُه الأوهامُ قبل عِيانه ... ويصدُر عنه الطَّرف والطَّرف حاسرُ ) ( به تُجتَدَى النُّعمَى وتُستدرَك المُنى ... وتُستكمل الحُسنى وتُرعَى الأواصرُ ) ( أصات بنا داعِي نوالِك مؤذِناً ... بجودك إلا أنه لا يُحاورُ ) ( قسمْتَ صُروفَ الدهر بأساً ونائلاً ... فَمالُك موتورٌ وسيفُك واترُ ) ( ولمّا رأى اللهُ الخلافَة قد وَهَتْ ... دعائمُها واللهُ بالأمر خابرُ ) ( بَنَى بك أركاناً عليك مُحيطةً ... فأنت لها دون الحوادِثِ سائرُ ) ( وأرعنَ فيه للسوابغ جُنَّةٌ ... وسقفَ سماءٍ أنشأتْه الحوافِرُ ) يعني أن على الدروع من الغبار ما قد غشيها فصار كالجنة لها ( لها فَلكٌ فيه الأسنَّةُ أنجمٌ ... ونقعُ المنايا مُستطيِرٌ وثائرُ ) ( أجزْتَ قضاءَ الموتِ في مُهَج العِدا ... ضُحىً فاستباحتْها المنايا الغوادِرُ ) ( لكَ اللّحظاتُ الكالِئاتُ قواصداً ... بنُعمَىوبالبَأساءِ وَهْي شَوَازِرُ ) ( ولم لم تكن إلا بنَفسِك فاخراً ... لما انتسبتْ إلاَّ إليك المفاخرُ ) قال فطرب أبو محمد حتى نزل عن سريره إلى الأرض وقال أحسنت والله وأجملت ولو لم تقل قط ولا تقول في باقي دهرك غير هذا لما احتجت إلى القول وأمر له بخمسة آلاف دينار فأحضرت واقتطعه إلى نفسه فلم يزل في جنبته أيام ولايته وبعد ذلك إلى أن مات ما تصدى لغيره يهجو علي بن هشام حدثني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال كان محمد بن وهيب الحميري الشاعر قد مدح علي بن هشام وتردد إليه وإلى بابه دفعات فحجبه ولقيه يوماً فعرض له في طريقه وسلم عليه فلم يرفع إليه طرفه وكان فيه تيه شديد فكتب إليه رقعة يعاتبه فيها فلما وصلت إليه خرّقها وقال أي شيء يريد هذا الثقيل السيء الأدب فقيل له ذلك فانصرف مغضباً وقال والله ما أردت ماله وإنما أردت التوسل بجاهه وسيغني الله جل وعز عنه أما والله ليذمن مغبة فعله وقال يهجوه ( أَزْرت بِجُودِ عليٍّ خِيفة العَدَم ... فصَدَّ مُنهزِماً عن شَأْوِ ذِي الهِمَمِ ) ( لو كَانَ مِنْ فارسٍ في بَيْت مَكرُمةٍ ... أو كان من وَلَد الأملاك في العَجَمِ ) ( أو كان أولَه أَهلُ البِطاح أو الرَّكبُ ... المُلَبُّونَ إهلالاً إلى الحَرَمِ ) ( أيامَ تُتَّخذ الأصنامُ آلهةً ... فلا تَرَى عاكفاً إلا على صَنَمِ ) ( لشجَّعَتْه على فعل المُلوك لهم ... طَبائِعٌ لم تَرُعْها خِيفَةُ العَدَمِ ) ( لم تندَ كَفَّاك من بذْلِ النَّوال كما ... لم يندَ سَيْفُك مُذْ قُلِّدتَه بدَمِ ) ( كُنْتَ امرأً رفعَتْه فِتْنَةٌ فَعلا ... أيامَها غادِراً بالعَهْد والذّمَمِ ) ( حتى إذا انكشَفَت عَنَّا عِمايَتُها ... ورُتّبَ النّاسُ بالأحساب والقِدَم ) ( مات التَّخلّقُ وارتّدّتك مُرتَجعَا ... طَبيعَة نَذْلَة الأخلاقِ وَالشِّيَمِ ) ( كَذاكَ مَنْ كان لاَ رأْساً ولا ذَنَباً ... كَزّ اليَدَيْن حَدِيثَ العَهْدَ بالنِّعمِ ) ( هَيهاتَ ليسَ بحمَّالِ الدِّيات ولا ... مُعطِي الجَزيل ولا المَرهُوب ذِي النِّقَمِ ) قال فحدثني بعض بني هاشم أن هذه الأبيات لما بلغت علي بن هشام ندم على ما كان منه وجزع لها وقال لعن الله اللجاج فإنه شر خلق تخلقه الناس ثم أقبل على أخيه الخليل بن هشام فقال الله يعلم أني لا أدخل على الخليفة وعلي السيف إلا وأنا مستحٍ منه أذكر قول ابن وهيب في ( لم تَندَ كَفّاك من بَذْلِ النّوال كما ... لم يَنْدَ سَيْفُكَ مذ قُلِّدتَه بِدَمِ ) حدثني محمد بن يحي الصولي قال حدثني ميمون بن هارون قال من سمع ابن الأعرابي يقول أهجى بيت قاله المحدثون قول محمد بن وهيب ( لم تَندَ كَفّاك من بَذْل النوال كما ... لم يندَ سيفُكَ مذ قُلِّدتَه بِدَمِ ) أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني محمد بن مرزوق البصري قال حدثني محمد بن وهيب قال جلست بالبصرة إلى عطار فإذا أعرابيه سوداء قد جاءت فاشترت من العطار خلوقاً فقلت له تجدها اشترته لابنتها وما ابنتها إلا خنفساء فالتفتت إلى متضاحكة ثم قالت لا والله لكن مهاة جيداء إن قامت فقناة وإن قعدت فحصاة وإن مشت فقطاة أسفلها كثيب وأعلاها قضيب لا كفتياتكم اللواتي تسمنونهن بالفتوت ثم انصرفت وهي تقول ( إن الفَتُوتَ للفَتاةِ مَضْرطََه ... يَكرُبها في البَطْن حتى تَثلطَه ) فلا أعلمني ذكرتها إلا أضحكني ذكرها حدثني عيسى بن الحسين الوراق قال حدثنا أبو هفان قال كان محمد بن وهيب يتردد إلى مجلس يزيد بن هارون فلزمه عدة مجالس يملي فيها كلها فضائل أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم لا يذكر شيئاً من فضائل علي عليه السلام فقال فيه ابن وهيب ( آتِي يزيدَ بنَ هَارونٍ أدالِجُه ... في كل يَوْمٍ وَمَالِي وابن هارونِ ) ( فلَيتَ لي بِيَزيدٍ حين أَشهَدُه ... راحاً وقَصْفاً ونَدْماناً يُسَلِّيني ) ( أَغدُو إلى عُصْبة صَمَّتْ مسامِعُهم ... عن الهُدَى بين زِنْدِيق ومأْفُونِ ) ( لا يذكُرون عَلِيّاً في مَشاهِدِهم ... ولا بَنِيه بَني البيضِ المَيامِين ) ( اللهُ يعْلَم أَني لا أُحِبُّهمُ ... كما هُمُ بِيَقِينٍ لا يُحِبُّوني ) ( لو يَسْتَطيعون عن ذكريْ أبا حَسَن ... وفَضْله ... قَطَّعُوني بالسَّكَاكينِ ) ( ولستُ أترُك تَفْضِيلي له أَبداً ... حَتى المَمَاتِ عَلَى رَغْم المَلاَعين ) مذهبه من شعره أخبرني محمد بن خلف بن المزربان قال حدثني إسحاق بن محمد الكوفي قال حدثني محمد بن القاسم بن يوسف وأخبرني به الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن القاسم قال حدثني إسحاق عن محمد بن القاسم بن يوسف قال كان محمد بن وهيب يأتي أبي فقال له أبي يوماً إنك تأتينا وقد عرفت مذاهبنا فنحبُ أن تعرفنا مذهبك فنوافقك أو نخالفك فقال له في غد أبين لك أمري ومذهبي فلما كان من غدٍ كتب إليه ( أَيُّها السَّائلُ قد بيّنتُ ... إن كنتَ ذَكيَّا ) ( أَحمدُ اللهَ كَثِيراً ... بأياديه عَلَيّا ) ( شَاهِداً أن لا إله ... غيره ما دمتُ حَيّا ) ( وَعَلَى أحمدَ بِالصِّدقِ ... رَسولاً وَنَبِيّا ) ( وَمنحْتُ الوُدَّ قُرْباهُ ... وَوَاليتُ الوَصِيّا ) ( وَأتانِي خَبرٌ مُطَّرحٌ ... لم يَكُ شَيَّا ) ( أَنّ عَلَى غير اجْتِماع ... عَقَدُوا الأمر بَديَّا ) ( فوقَفتُ القَوْم تَيْماً ... وَعَدِيّاً وَأُمَيَّا ) ( غَيْر شَتَّامٍ وَلَكِني ... تولَّيتُ عَلِيّا ) حدثني جَحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال بلغ محمد بن وهيب أن دعبل بن علي قال أنا ابن قولي ( لا تَعْجَبي يا سَلْمُ من رَجُلٍ ... ضَحِك المَشِيبُ برأْسِه فَبكَى ) وإن أبا تمام قال أنا ابن قولي ( نَقِّل فؤادَك حَيْث شِئْتَ من الَهَوى ... ما الحب إلا للحَبِيب الأوّلِ ) فقال محمد بن وهيب وأنا ابن قولي ( ما لِمَن تَمَّت محاسِنُه ... أن يُعادِي طَرْفَ مَنْ رَمَقَا ) لك أن تُبدي لنا حَسَناً ... ولنا أَن نُعمِل الحَدَقَا ) قال أبو الفرج الأصبهاني وهذا من جيد شعره ونادره وأول هذه الأبيات قوله ( نَم فقد وكَّلتَ بي الأَرَقا ... لاهياً تُغرِي بمَنْ عَشِقا ) ( إنما أبقيتَ من جَسَدي ... شَبَحاً غَيرَ الذي خُلِقاً ) ( وَفَتىً نادَاك من كَثَبٍ ... أُسْعِرَت أَحشاؤُه حُرَقَا ) ( غَرِقَت في الدَّمع مُقلتُه ... فدعا إنسانُها الغَرقَا ) ( إنّما عاقَبتَ ناظِرَه ... أن أعاد اللَّحظَ مُسْتَرِقا ) ( ما لِمَن تَمّت محاسنُه ... أن يُعادِي طَرْف من رَمَقَا ) ( لك أن تُبدِي لنا حُسناً ... ولنا أن نُعمِل الحَدَقا ) ( قدَحت كَفّاك زَنْدَ هَوىً ... في سَوادِ القَلْب فاحْتَرَقَا ) حدثني عمي قال حدثني أبو عبد الله الهشامي عن أبيه قال دخل محمد بن وهيب على أحمد بن هشام يوماً وقد مدحه فرأى بين يديه غلماناً روقة مردا وخدماً بيضاً فرها في نهاية الحسن والكمال والنظافة فدهش لما رأى وبقي متبلداً لا ينطق حرفاً فضحك أحمد منه وقال له ما لك ويحك تكلم بما تريد فقال ( قد كانت الأَصنامُ وَهي قدِيمَةٌ ... كُسِرَت وجَدَّعَهُنَّ إبراهيمُ ) ( ولَديْك أصنامٌ سَلِمْنَ من الأذى ... وصَفَت لَهُنّ غَضَارةٌ ونَعِيمٌ ) ( وبِنا إلى صَنَمٍ نَلُوذِ بِرُكْنِه ... فَقرٌ وأنت إذا هُزِزْتَ كريمُ ) فقال له اختر من شئت فاختار واحداً منهم فأعطاه إياه فقال يمدحه ( فَضَلتْ مَكارِمُه على الأقوامِ ... وعَلا فَحازَ مَكارِمَ الأيَّامِ ) ( وعلَتْه أُبَّهَةُ الجَلال كأنَّه ... قَمَرٌ بدا لك من خِلال غَمامِ ) ( إنَّ الأميرَ على البَرِيَّة كُلِّها ... بعد الخَليفة أحمدُ بنُ هشامِ ) وأخبرني جعفر بن قدامة في خبره الذي ذكرته آنفاً عنه عن الحسين بن الحسن بن رجاء عن أبيه قال لما قدم المأمون لقيه أبو محمد الحسن بن سهل فدخلا جميعاً فعارضهما ابن وهيب وقال ( اليومَ جُدِّدَت النَّعماءُ والمِنَنُ ... فالحمد لله حَلَّ العُقدَةَ الزَّمنُ ) ( اليومَ أظهَرتِ الدُّنيا محاسِنَها ... للِنَّاس لما الْتَقَى المأمونُ والحَسَنُ ) قال فلما جلسنا سأله المأمون عنه فقال هذا رجل من حمير شاعر مطبوع اتصل بي متوسلاً إلى أمير المِؤمنين وطالباً الوصول مع نظرائه فأمر المأمون بإيصاله مع الشعراء فلما وقف بين يديه وأذن له في الإنشاد أنشده قوله ( طَلَلان طل عليهما الأمَدُ ... دَثَرا فلا عَلَمٌ ولا نَضَدُ ) ( لَبِسَا البِلَى فكأنَّما وَجَدَا ... بعد الأحبّة مثلَ ما أَجِدُ ) ( حُييِّتُما طَلَلين حالهُما ... بعد الأحبَّة غَيرُ ما عَهِدوا ) ( إِمَّا طَوَاك سُلُوُّ غانِيَةٍ ... فهَواك لا مَلَلٌ ولا فَنَدُ ) ( إن كنتِ صادِقةَ الهَوَى فرِدي ... في الحُبِّ مَنْهَليَ الذي أَرِدُ ) ( أَدَمِي هَرقْتِ وأنتِ آمنة ... أم ليس لي عَقْلٌ ولا قَودُ ) ( إن كُنتِ فُتِّ وخانني سَبَب ... فلربّما يُخْطىءُ مُجتهِدُ ) حتى انتهى إلى قوله في مدح المأمون ( يا خَيْرَ مُنتَسْبٍ لِمَكْرُمةٍ ... في المجد حيث تَبحْبَح العَدَدُ ) ( في كل أُنمُلةٍ لراحَتِه ... نَوءٌ يَسُحُّ وعارِض حَشِدُ ) ( وإذا القَنَا رَعَفَت أسِنَّتُه ... عَلَقَاً وصُمُّ كُعوبها قِصَدُ ) فكأنَّ ضوءَ جَبِينه قَمَرٌ ... وكأنَّه في صَولةٍ أَسَدُ ) ( وكأنَّه رُوحٌ تُدَبِّرنا ... حَرَكاتُه وكأنَّنا جَسَدُ ) فاستحسنها المأمون وقال لأبي محمد احتكم له فقال أمير المؤمنين أولى بالحكم ولكن إن أذن لي في المسألة سألت له فأما الحكم فلا فقال سل فقال يلحقه بجوائز مروان بن أبي حفصة فقال ذلك والله أردت وأمر بأن تعد أبيات قصيدته ويعطى لكل بيت ألف درهم فعدت فكانت خمسين فأعطي خمسين ألف درهم من مدائحه للمأمون والمطلب بن عبد الله قال الأصبهاني وله في المأمون والحسن بن سهل خاصة مدائح شريفة نادرة من عيونها قوله في المأمون في قصيدة أولها ( العُذرُ إن أَنصفتَ مُتَّضِحُ ... وشَهِيدُ حُبِّك أَدمعٌ سُفُحُ ) ( فضَحَت ضَمِيرَك عن وَدائِعِه ... إنّ الجُفونَ نَواطِقٌ فُصُح ) ( وإذا تكلمَّت العُيون على ... إعجامِها فالسٍّر مُفتضِحُ ) ( رُبما أَبيتُ مُعانِقي قَمَرٌ ... للحُسْن فيه مخايل تَضِحُ ) ( نَشَر الجمالُ على مَحاسِنه ... بِدَعَاً وأَذهَبَ هَمَّه الفَرحُ ) ( يَخْتال في حُلَلِ الشّباب به ... مَرَحٌ ودَاؤُك أَنه مَرِحُ ) ( ما زال يُلثِمُني مراشِفَه ... ويَعُلُّني الإِبريقُ والقَدَحُ ) ( حتى استرَّد الَّليلُ خِلْعَتَه ... ونَشَا خِلالَ سَوادِه وَضَحُ ) ( وَبَدا الصَّباحُ كأن غُرَّتَه ... وَجهُ الخَلِيفةِ حين يُمتَدَحُ ) يقول فيها ( نَشَرت بك الدُّنيا محاسِنَها ... وتَزَيَّنت بصفاتِكَ المِدَحُ ) ( وكأَنَّ ما قد غابَ عنك له ... بإزاء طرفك عارِضاً شبحُ ) ( وإذا سَلِمتَ فكلُّ حادِثَةٍ ... جلَلٌ فلا بُؤسٌ ولا تَرَحُ ) أخبرني هاشمُ بن محمد الخزاعيّ قال حدثني أهلُنا أنّ محمد بن وهيب قصد المطلب بن عبد الله بن مالك الخزاعي عم أبي وقد ولي الموصل وكان له صديقاً حفياً وكان كثير الرفد له والثواب على مدائحه فأنشده قوله فيه صوت ( دِماءُ المُحبيِّين لا تُعقَل ... أَما في الهَوَى حاكِمٌ يَعدِلُ ) ( تَعبَّدني حوَرُ الغَانِيات ... ودَانَ الشَّبابُ له الأَخطلُ ) ( ونَظرةِ عين تَلافَيْتُها ... غِراراً كما يَنظُر الأَحولُ ) ( مُقسَّمةِ بين وَجِه الحَبِيب ... وطَرْفِ الرَّقيب متى يَغَفُل ) ( أَذمُّ على غرباتِ النَّوى ... إليك السُّلُوَّ ولا أَذهَلُ ) ( وقالوا عَزاؤُك بعد الفِراق ... إذا حُمَّ مكروهُه أَجملُ ) ( أَقِيدي دَماً سفَكَتْه العُيونُ ... بإيماضِ كحلاء لا تُكحَلُ ) ( فكُلُّ سِهامِك لي مُقصِدٌ ... وكُلُّ مواقِعِها مَقْتَلُ ) ( سلامٌ على المنزل المُسْتَحِيل ... وإن ضَنَّ بالمَنْطِق المنزِلُ ) ( وعَضْب الضَّريبة يَلْقى الخُطوب ... بجِدّ عن الدّهر لا يَنْكِلُ ) ( تَغلْغَل شَرْقاً إلى مَغرِبٍ ... فلمّا تبدّت له الموصِلُ ) ( ثَوَى حيث لا يُستمال الأريب ... ولا يُوْلف الَّقِين الحُوّلُ ) ( لَدى مَلِكٍ قابلْته السُّعودُ ... وجانَبَه الأنجُم الأُفَّلُ ) ( لأيَّامه سَطَواتُ الزَّمان ... وإنعامُه حينَ لا مَوْئِلُ ) ( سما مَالِكٌ بك للبَاهِرات ... وأوْحَدَكَ المَرْبأُ الأَطولُ ) ( وليس بَعيداً بأن تَحْتَذِي ... مذاهِبَ آسادِها الأَشبُلُ ) قال فوصله وأحسن جائزته وأقام عنده مدة ثم استأذنه في الانصراف فلم يأذن له وزاد في ضيافته وجراياته وجدد له صلة فأقام عنده برهة أخرى ثم دخل عليه فأنشده ( أَلاَ هل إلى ظِلّ العَقِيق وأهلِه ... إلى قَصْر أوس فَالحزِير مَعادُ ) ( وهل لي بأكنافِ المُصلّى فسفْحِه ... إلى السُّور مَغْدىً ناعمٌ ومُرادُ ) ( فلم تُنسِني نهرَ الأُبُلَّةِ نِيَّةٌ ... ولا عَرَصاتِ المَرْبِدَيْن بِعادُ ) ( هنالك لا تبْني الكواعِبُ خيمةً ... ولا تَتَهادى كَلْثَمٌ وسُعادُ ) ( أَجِدّي لا أَلْقَى النوَى مُطْمَئِنَّةً ... ولا يَزْدَهِيني مَضجَعٌ وجِهادُ ) فقال له أبيت إلا الوطن والنّزاعَ إليه ثم أمر له بعشرة آلاف درهم وأوقَر له زورقاً من طرف الموصل وأذن له حدثني محمد بن يحي الصولي قال حدثني أبو عبد الله الماقطاني عن علي بن الحسين بن عبد الأعلى عن سعيد بن وهيب قال كان المأمون كثيراً ما يتمثل إذا كربه الأمر ( ألا رُبَّما ضَاقَ الفَضَاءُ بأهلِه ... وأَمكَن من بين الأسِنَّة مَخرَجُ ) قصيدته في ابن عباد قال الأصبهاني وهذا الشعر لمحمد بن وهيب يقوله في ابن عباد وزير المأمون وكان له صديقاً فلما ولي الوزارة اطرحه لانقطاعه إلى الحسن بن سهل فقال فيه قصيدة أولها ( تكلَّمَ بالوحي البَنانُ المُخَضَّبُ ... ولله شكوى مُعجِمٍ كيف يُعرِبُ ) ( أإيماءُ أطراف البنانِ وَوَجهُها ... أبانا له كيف الضَّمِيرُ المُغَيَّبُ ) ( وقد كان حُسنُ الظَّنِّ أنجبَ مَرَّة ... فأَحْمَد عُقْبى أمرِه المتَعَقِّبُ ) ( فلما تَدبَّرت الظُّنون مُراقِباً ... تَقَلُّبَ حالَيْها إذا هي تَكذِبُ ) ( بدأتَ بإحسانٍ فلما شَكرتُه ... تَنكَرتَ لي حتى كأنِّيَ مُذنبُ ) ( وَكلُّ فتىً يلقى الخطوبَ بعزمه ... له مذهبٌ عَمَّن له عنه مذهبٌ ) ( وهل يصرع الحُبُّ الكرِيمَ وقلبُه ... عَلِيمٌ بما يأْتي وما يتجَنَّبُ ) ( تأَنَّيْتُ حتى أوضح العِلمُ أنَّني ... مع الدهر يوما مُصعِدٌ ومَصُوِّبُ ) ( وألحقتُ أعجازَ الأمور صُدورَها ... وَقَوَّمها غَمزُ القِداح المُقَلِّبُ ) ( وأيقنتُ أن البأْسَ للعِرض صائنٌ ... وأن سوف أغضِي للقذى حين أرغبُ ) ( أغادرتَني بين الظُّنون مُمَيّزاً ... شواكِلَ أمر بينهن مجرِّبُ ) ( يُقرِّبني مَنْ كُنت أُصفِيك دونه ... بُودّي وتنأَى بي فلا أتقَرَّبُ ) ( فللَّهِ حظِّي منك كيف أضاعَه ... سُلوُّك عنِّي وَالأمورُ تَقَلبُ ) ( أبعدَك أستَسْقِي بوارِقَ مزنَةٍ ... وإن جاد هَطِّالٌ من المُزن هَيْدَبٌ ) ( إذا ما رأيتُ البرقَ أغضَيْت دونَه ... وَقلت إذا ما لاح ذَا البرقُ خُلَّبُ ) ( وإن سنحت لي فُرصَةٌ لم أُسامِها ... وَأَعرضتَ عنها خوف ما أترقَّبُ ) ( تأَدَّبتُ عن حُسْن الرّجاء فلن أُرَى ... أعودُ له إن الزّمان مؤدِّبُ ) وقال له أيضاً ( هل الهَمُّ إِلا كُربةٌ تتفَرَّج ... لها مُعقِب تُحدَى إليه وَتُزْعَجُ ) ( وَما الدَّهر إلا عائدٌ مِثْلُ سالِفٍ ... وما العَيْش إلا جُدّهُ ثم تَنْهَجُ ) ( وَكيف أشِيمُ البَرقَ وَالبرْقُ خُلَّبٌ ... وَيُطْمِعُني رَيْعانُه المُتَبَلِّجُ ) ( وَكيفَ أُدِيِم الصبرَ لا بي ضَراعةٌ ... ولا الرِّزقُ مَحْظورٌ وَلا أنا مُحرَجُ ) ( ألا رُبَّما كان التّصَبُّرُ ذِلَّةً ... وَأدْنَى إلى الحال التي هي أَسْمَجُ ) ( وَهَل يَحمِل الهَمَّ الفَتَى وَهْو ضامنٌ ... سُرى الليل رَحّالُ العَشيّات مُدلِجُ ) ( وَلا صبرَ ما أعدى على الدَّهر مطلبٌ ... وَأَمكن إدلاجٌ وَاَصحر منهجُ ) ( ألا رُبّما ضاق الفضاءُ بأهلِه ... وَأَمكن من بيْن الأسِنّة مَخْرجُ ) ( وَقد يُركَبُ الخَطبُ الذي هو قاتِلٌ ... إذا لم يَكُن إلا عليْه مُعرَّجُ ) مدحه الأفشين حدثني بعض أصحابنا عن أحمد بن أبي كامل قال كان محمد بن وهيب تياهاً شديد الذهاب بنفسه فلما قدم الأفشين وقد قتل بابك مدحه بقصيدته التي أولها ( طُلولٌ ومَغانِيها ... تُناجِيها وَتَبْكِيها ) يقول فيها ( بَعثْتَ الخَيلَ وَالخَيرُ ... عَقِيدٌ في نَوَاصِيها ) وهي من جيد شعره فأنشدناها ثم قال ما لها عيب سوى أنها لا أخت لها قال وأمر المعتصم للشعراء الذين مدحوا الأفشين بثلاثمائة ألف درهم جرت تفرقتها على يد ابن أبي داود فأعطى منها محمد بن وهيب ثلاثين ألفاً وأعطى أبا تمام عشرة آلاف درهم قال ابن أبي كامل فقلت لعلي بن يحي المنجم ألا تعجب من هذا الحظ يعطى أبو تمام عشرة آلاف وابن وهيب ثلاثين الفا وبينهما كما بين السماء والأرض فقال لذلك علة لا تعرفها كان ابن وهيب مؤدب الفتح بن خاقان فلذلك وصل إلى هذه الحال أخبرني محمد بن يحي الصولي قال حدثني ابو زكوان قال حدثني من دخل إلى محمد بن وهيب يعوده وهو عليل قال فسألته عن خبره فتشكى ما به ثم قال ( نُفوسُ المَنَايا بالنُّفوس تَشعَّبُ ... وكُلٌّ له من مَذِهَب المَوت مَذْهَبُ ) ( نُزاعُ لذِكر الموت ساعةَ ذِكْرِه ... وتَعتَرض الدُّنيا فنلْهُو ونلعَبُ ) ( وآجالُنا في كلّ يَوْم وليلةٍ ... إلينا على غِرَّاتِنا تتقَرّبُ ) ( أأيقَنَ أَنَّ الشيبَ يَنْعَى حياته ... مُدِرٌّلأَخْلافِ الخَطِيئةِ مُذنِبُ ) ( يَقِينٌ كأنَّ الشَّكّ أغلبُ أمرِه ... عليه وعرفانٌ إلى الجهل يُنْسَبُ ) ( وقد ذَمَّت الدُّنيا إليّ نَعيمَها ... وخَاطَبَني إعجامُها وهو مُعْرِبُ ) ( ولكنَّني منها خُلِقتُ لغَيْرها ... وما كنتُ منه فهو عندي مُحبَّبُ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مُهْرُويه قال حدثني أحمد بن أبي كامل قال كنا في مجلس ومعنا أبو يوسف الكندي وأحمد بن أبي فنن فتذاكرنا شعر محمد بن وهيب فطعن عليه ابن أبي فنن وقال هو متكلف حسود وإذا أنشد شعراً لنفسه قرظه ووصفه في نصف يوم وشكا أنه مظلوم منحوس الحظ وأنه لا تقصر به عن مراتب القدماء حال فإذا أنشد شعر غيره حسده وإن كان على نبيذ عربد عليه وإن كان صاحياً عاداه واعتقد فيه كل مكروه فقلت له كلاكما لي صديق وما أمتنع من وصفكما جميعاً بالتقدم وحسن الشعر فأخبرني عما أسألك عنه إخبار منصف أو يُعَدُّ متكلفاً من يقول ( أَبَى لِيَ إِغضاءَ الجُفونِ على القَذَى ... يَقِينيَ أن لا عُسْرَ إِلاَّ مُفرَّجُ ) ( أَلا رُبَّما ضاق الفَضاءُ بأهلِه ... وأمكَن مِن بَيْن الأسِنَّةِ مَخرَجُ ) أو يعد متكلفاً من يقول ( رَأَتْ وَضَحاً من مَفْرِق الرأسِ راعها ... شَرِيحين مُبْيَضٌّ به وبَهيمُ ) فأمسك ابن أبي فنن واندفع الكندي فقال كان ابن وهيب ثنوياً فقلت له من أين علمت ذاك أكلمك على مذهب الثنوية قط قال لا ولكني استدللت من شعره على مذهبه فقلت حيث يقول ماذا فقال حيث يقول ( طَلَلاَنِ طال عليهما الأمَدُ ... ) وحيث يقول ( تفتَرُّ عن سِمْطَيْنِ من ذَهب ... ) إلى غير ذلك مما يستعمله في شعره من ذكر الإثنين فشغلني والله الضحك عن جوابه وقلت له يا أبا يوسف مثلك لا ينبغي أن يتكلم فيما لم ينفذ فيه علمه أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه قال سأل محمد بن وهيب محمد بن عبد الملك الزيات حاجة فأبطأ فيها فوقف عليه ثم قال له ( طُبِعَ الكَريمُ على وَفائِهْ ... وعَلَى التَّفضُّل في إخائِهْ ) ( تُغنِي عِنَايَتُه الصدِي ... قَ عن التَّعرُّض لاقْتِضائِهْ ) ( حَسْبُ الكَريِم حَياؤه ... فكِلِ الكَريمَ إلى حَيائِهْ ) فقال له حسبك فقد بلغت إلى ما أحببت والحاجة تسبقك إلى منزلك ووفى له بذلك صوت ( ودِدْتُ على ما كان من سَرَف الهَوَى ... وغَيّ الأماني أَنّ ما شِئْتُ يُفَعلُ ) ( فترجِعَ أَيَّام تَقَضَّت ولَذَّةٌ ... تولَّت وهل يُثْنَى مِن الدّهَر أوَّل ) الشعر لمزاحم العقيلي والغناء لمقاسمة بن ناصح خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي قال الهشامي وفيه لأحمد بن يحيى المكي رمل أخبار مزاحم ونسبه هو مزاحم بن عمرو بن الحارث بن مصرف بن الأعلم بن خويلد بن عوف ابن عامر بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن وقيل مزاحم بن عمرو بن مرة بن الحارث بن مصرف بن الأعلم وهذا القول عندي أقرب إلى الصواب بدوي شاعر فصيح إسلامي صاحب قصيد ورجز كان في زمن جرير والفرزدق وكان جرير يصفه ويقرظه ويقدمه أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني الفضل بن محمد اليزيدي عن إسحاق الموصلي قال قال لي عمارة بن عقيل كان جرير يقول ما من بيتين كنت أحب أن أكون سبقت إليهما غير بيتين من قول مزاحم العقيلي ( وَدِدْتُ على ما كان من سَرَف الهَوَى ... وغَيّ الأماني أنّ ماشئتُ يُفعَلُ ) ( فترجِع أَيَّامٌ مضَيْنَ وَلَذَّةٌ ... تَوَلَّت وهل يُثْنَى من العَيْش اَوّلُ ) قال المفضل قال إسحاق سرف الهوى خطؤه ومثله قول جرير ( أعطوْا هُنَيْدَة تحدُوها ثَمَانِيَة ... ما في عطائِهِمُ مَنٌّ ولا سَرَفٌ ) أراد أنهم يحفظون مواضع الصنائع لا أنه وصفهم بالاقتصاد والتوسط في الجود قال إسحاق وواعدني زياد الأعرابي موضعاً من المسجد فطلبته فيه فلم أجده فقلت له بعد ذلك طلبتك لموعدك فلم أجدك فقال أين طلبتني فقلت في موضع كذا وكذا فقال هناك والله سرفتك أي أخطأتك أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال أنشدني حماد عن أبيه لمزاحم العقيلي قال وكان يستجيدها ويستحسنها ( لِصَفْرَاءَ في قَلْبي من الْحُبِّ شُعبَة ... حِمىً لم تُبِحْه الغانياتُ صَمِيمُ ) ( بِها حلَّ بَيتُ الحُبِّ ثم ابتَنَى بها ... فبانَت بُيوتُ الحَيِّ وهو مُقِيمُ ) ( بَكَت دارُهم من نَأْيهم فتهلَّلَت ... دموعي فأيَّ الجَازِعين ألُومُ ) ( أُمُسْتَعْبِراً يبكِي من الحُزْن والجَوَى ... أم آخرُ يَبْكي شَجوه فَيَهيمُ ) ( تَضمَّنه من حُبِّ صَفْراء بعد ما ... سلا هَيَضات الحب فهو كَليمُ ) ( ومن يَتَهَيَّض حبُّهن فُؤادَه ... يَمُت أو يَعِش ما عاش وهو سَقِيمُ ) ( كحَرَّان صادٍ ذِيدَ عن بَرْد مَشْربِ ... وعن بَلَلاتِ الرِّيق فَهُوْ يَحُومُ ) أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا أبو سعيد السكري قال أخبرنا محمد بن حبيب عن ابن أبي الدنيا العقيلي قال ابن حبيب وهو صاحب الكسائي وأصحابنا قال كان مزاحم العقيلي خطب ابنة عم له دنيةً فمنعه أهلها لإملاقه وقلة ماله وانتظروا بها رجلاً موسراً في قومها كأن يذكرها ولم يحقق وهو يومئذ غائب فبلغ ذلك مزاحماً من فعلهم فقال لعمه يا عم أتقطع رحمي وتختار علي غيري لفضل أباعر تجوزها وطفيف من الحظ تحظى به وقد علمت أني أقرب إليك من خاطبها الذي تريده وأفصح منه لساناً وأجود كفاً وأمنع جانباً وأغنى عن العشيرة فقال له لا عليك فإنها إليك صائرة وإنما أعلل أمها بهذا ثم يكون أمرها لك فوثق به وأقاموا مدة ثم ارتحلوا ومزاحم غائب وعاد الرجل الخاطب لها فذاكروه أمرها فرغب فيها فأنكحوه إياها فبلغ ذلك مزاحماً فأنشأ يقول ( نَزَلتُ بمُفْضَى سيلِ حَرْسَيْن والضُّحى ... يَسِيلُ بأطراف المخارم آلهُا ) ( بمسقِيَّة الأجفان أنفَذ دَمعَها ... مُقاربةُ الأٌلاَّف ثُمَّ زِيالُها ) ( فلما نَهاها اليأسُ أن تُونِس الحِمَى ... حِمَى البئِرِ جَلَّى عَبْرَة العَيْنِ جالُها ) ( أياليلَ إن تَشْحَط بك الدارُ غُربَةً ... سوانا ويُعْيِي النَّفسَ فيك احتِيَالُها ) ( فكَمْ ثم كَمْ من عَبْرة قد رَدَتها ... سَريعٍ على جَيْب القَميصِ انهِلالُها ) ( خليليَّ هل من حِيلَة تَعْلَمَانها ... يُقرَّب من ليلى إلينا احتِيالُها ) ( فإنَّ بأَعْلى الأخشَبَيْن أراكةً ... عَدَتنيَ عنها الحَرْب دانٍ ظِلالُها ) ( وفي فَرْعها لو تُستَطاع جَنَابُها ... جنىً يجتَنِبيه المُجْتَنِي لو يَنَالُها ) ( هنِيئاً لليْلَى مُهْجَةٌ ظَفِرت بها ... وتَزْوِيجُ لَيْلى حين حان ارتِحالُها ) ( فقد حَبَسُوها مَحْبِس البُدْن وابتَغَى ... بها الرِبحَ أقوامٌ تَسَاخَف مَالُها ) ( فإنّ مع الرَّكْبِ الذين تحمَّلُوا ... غمامة صَيْف زعزعَتْها شمالُها ) حُبس طويلاً ثم هرب من السجن وقال محمد بن حبيب في خبره قال ابن الأعرابي وقع بين مزاحم العقيلي وبين رجل من بني جعدة لحاء في ماء فتشاتما وتضاربا بعصيهما فشجه مزاحم شجة أمته فاستعدت بنو جعدة على مزاحم فحبس حبساً طويلاً ثم هرب من السجن فمكث في قومه مدة وعزل ذلك الوالي وولي غيره فسأله ابن عمّ لمزاحم يقال له مغلس أن يكتب أماناً لمزاحم فكتبه له وجاء مغلس والأمان معه فنفر مزاحم منه وظنها حيلة من السلطان فهرب وقال في ذلك ( أَتانِي بِقرطاس الأمير مُغَلِّسٌ ... فأفزعَ قِرطاسُ الأمير فُؤادِيَا ) ( فَقلتُ له لا مَرحباً بك مرسلاً ... إليّ ولا لي من أميرك داعِيَا ) أليسَت جِبالُ القَهْر قُعساً مكانها ... وعَرْوى وأجبالَ الوَحَاف كما هِيا ) ( أخاف ذُنُوبي أن تُعَدّ بِبابِه ... وما قد أزَلَّ الكاشِحونَ أمامِيَا ) ( ولا أسْترِيم عُقْبَةَ الأمر بعدما ... تورَّط في بهماء كَعْبي وساقيا ) أخبرني محمد بن مزْيد وأحمد بن جعفر جحظة قالا حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان مزاحم العقيلي يهوى امرأة من قومه يقال لها مية فتزوجت رجلاً كان أقرب إليها من مزاحم فمر عليها بعد أن دخل بها زوجها فوقف عليها ثم قال ( أيَا شَفَتيْ مَيٍّ أما من شَريعةٍ ... من الموت إلا أنتما تُورِدَانِيَا ) ( ويا شَفَتيْ ميٍّ أمالِي إليكما ... سبيلٌ وهذا الموت قد حَلَّ دانيا ) ( ويا شَفَتَيْ مَيٍّ أما تَبذُلان لي ... بشيء وإن أعطَيت أهلي وماليا ) فقالت أعزز علي يا بن عم بأن تسأل ما لا سبيل إليه وهذا أمر قد حيل دونه فاله عنه فانصرف أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال حدثني عمارة بن عقيل قال قال لي أبي قال عبد الملك بن مروان لجرير يا أبا حَرْزة هل تحب أن يكون لك بشيء من شعرك شيء من شعر غيرك قال لا ما أحب ذلك إلا أن غلاماً ينزل الرّوضات من بلاد بني عقيل يقال له مزاحم العقيلي يقول حسناً من الشعر لا يقدر أحد أن يقول مثله كنت أحب أن يكون لي بعض شعره مقايضة ببعض شعري أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال كان مزاحم العقيلي يهوى امرأةً من قومه يقال لها ليلى فغاب غيبة عن بلاده ثم عاد وقد زوجت فقال في ذلك ( أتانِي بظَهْر الغَيْب أن قد تَزَوَّجَت ... فظلَّت بيَ الأرضُ الفضاءُ تدُورُ ) ( وزايَلَني لُبِّي وقد كان حاضِراً ... وكاد جَنانِي عند ذاك يَطِيرُ ) ( فَقلت وقد أيقنْتُ أن ليس بَيْنَنا ... تَلاقٍ وعَيْني بالدموع تمورُ ) ( أيا سُرعةَ الأخبارِ حين تَزَوَّجتْ ... فهل يأتِيَنِّي بالطَّلاق بَشِيرُ ) ( ولستُ بمُحْصٍ حُبَّ ليلى لسائلٍ ... من النَّاس إلا أن أقول كَثِيرُ ) صوت لها في سَوادِ القَلْبِ تِسعةُ أَسْهُمٍ ... وللناس طُرّاً مِن هَوَاي عَشِيرُ ) قال ابن الكلبي ومن الناس من يزعم أن ليلى هذه التي يهواها مزاحم العقيلي هي التي كان يهواها المجنون وأنهما اجتمعا هو ومزاحم في حبها قال الأصبهاني وقد أخبرني بشرح هذا الخبر الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن علي بن الصباح عن ابن الكلبي قال كان مزاحم بن مرة العقيلي يهوى امرأة من قشير يقال لها ليلى بنت موازر ويتحدث إليها مدة حتى شاع أمرهما وتحدثت جواري الحي به فنهاه أهلها عنها وكانوا متجاورين وشكوه إلى الأشياخ من قومه فنهوه واشتدوا عليه فكان يتفلت إليها في أوقات الغفلات فيتحدثان ويتشاكيان ثم انتجعت بنو قشير في ربيع لهم ناحية غير تلك قد نضرها غيث وأخصبها فبعد عليه خبرها واشتاقها فكان يسأل عنها كل وارد ويرسل إليها بالسلام مع كل صادر حتى ورد عليه يوماً راكب من قومها فسأله عنها فأخبره أنها خطبت فزوجت فوجم طويلاً ثم أجهش باكياً وقال ( أتاني بظَهْر الغَيْب أن قد تَزَوَّجت ... فظلَّت بي الأرضُ الفَضاء تَدورُ ) وذكر الأبيات الماضية وقد أنشدني هذه القصيدة لمزاحم ابن أبي الأزهر عن حماد عن أبيه فأتى بهذه الأبيات وزاد فيها ( وتُنشَر نفسي بعد مَوْتي بِذِكْرها ... مراراً فموتٌ مرَّة ونُشورٌ ) ( عَجَجْت لربي عَجَّة ما مَلَكتُها ... وربّي بذِي الَّشوْق الحزينِ بَصِيرُ ) ( ليرحم ما أَلقَى ويعلمَ أنّنِي ... له بالذي يُسدِي إليَّ شَكورٌ ) ( لئن كان يُهدي بردُ أنيابها العُلاَ ... لأحْوجَ مِنِّي إنِّنِي لَفَقيرُ ) مكانته عند الشعراء حدثني عمي قال حدثني أبو أيوب المديني قال قال أبو عدنان أخبرنا تميم بن رافع قال حدثت أن الفرزدق دخل على عبد الملك بن مروان أو بعض بنيه فقال له يا فرزدق أتعرف أحداُ أشعر منك قال لا إلا غلاماً من بني عقيل يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات فيجيد ثم جاءه جرير فسأله عن مثل ما سأل عنه الفرزدق فأجابه بجوابه فلم يلبث أن جاءه ذو الرمة فقال له أنت أشعر الناس قال لا ولكن غلام من بني عقيل يقال له مزاحم يسكن الروضات يقول وحشياً من الشعر لا يقدر على مثله فقال فأنشدني بعض ما تحفظ من ذلك فأنشده قوله ( خلِيلَيَّ عُوجَا بِي على الدار نَسْألِ ... مَتَى عهدُها بالظاَّعِن المُتَرحِّلِ ) ( فعُجتُ وعاجوا فوق بَيْداء موَّرت ... بها الريح جولان الترابِ المُنَخَّلِ ) حتى أتى على آخرها ثم قال ما أعرف أحداُ يقول قولاً يواصل هذا صوت ( أُكذِّب طَرْفي عنكِ فِي كُلِّ ما أرى ... أُسمِع أُذْنِي منك ما ليس تَسْمَعُ ) ( فلا كَبِدي تَبلَى ولا لكِ رَحمةٌ ... ولا عنك إقصارٌ ولا فيك مَطْمَعُ ) ( لقِيتُ أموراً فيك لم ألقَ مِثْلَها ... وأعظمُ منها فيك ما أَتوقعُ ) ( فلا تسأَليني في هواكِ زِيادةً ... فأيسرُه يُجزِي وأدناه يُقنِعُ ) والشعر لبكر بن النطاح والغناء لحسين بن محرز ثقيل أول بالوسطى عن الهشامي أخبار بكر بن النطاح ونسبه بكر بن النطاح الحنفي يكنى أبا وائل هكذا أخبرنا وكيع عن عبد الله بن شبيب وذكر غيره أنه عجلي من بني سعد بن عجل واحتج من ذكر أنه عجلي بقوله ( فإن يَكُ جَدَّ القومِ فِهْرُ بن مالِك ... فجَدِّيَ عِجْلٌ قَرْم بَكْرِ بن وَاِئلِ ) وأنكر ذلك من زعم أنه حنفي وقال بل قال ( فَجدِّي لُجَيْمٌ قَرْمُ بَكْر بنِ وائلِ ... ) وعجل بن لجيم وحنيفة بن لجيم أخوان وكان بكر بن النطاح صعلوكاً يصيب الطريق ثم أقصر عن ذلك فجعله أبو دلف من الجند وجعل له رزقاً سلطانياً وكان شجاعاً بطلاً فارساً شاعراً حسن الشعر والتصرف فيه كثير الوصف لنفسه بالشجاعة والإقدام قصته مع أبي دلف والرشيد فأخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبي قال قال بكر بن النطاح الحنفي قصيدته التي يقول فيها ( هنيئاً لإخواني ببَغذاد عِيدهُم ... وعِيدِي بُحلوانٍ قِراعُ الكَتائِبِ ) وأنشدها أبا دلف فقال له إنك لتكثر الوصف لنفسك بالشجاعة وما رأيت لذلك عندك أثراً قط ولا فيك فقال له أيها الأمير وأي غناء يكون عند الرجل الحاسر الأعْزل فقال أعطوه فرساً وسيفاً وترساً ودرعاً ورمحاً فأعطوه ذلك أجمع فأخذه وركب الفرس وخرج على وجهه فلقيه مال لأبي دلف يحمل من بعض ضياعه فأخذه وخرج جماعة من غلمانه فمانعوه عنه فجرحهم جميعاً وقطعهم وانهزموا وسار بالمال فلم ينزل إلا على عشرين فرسخاً فلما اتصل خبره بأبي دلف قال نحن جنينا على أنفسنا وقد كنا أغنياء عن إهاجة أبي وائل ثم كتب إليه بالأمان وسوغه المال وكتب إليه صر إلينا فلا ذنب لك لأنا نحن كنا سبب فعلك بتحريكنا إياك وترحيضنا فرجع ولم يزل معه يمتدحه حتى مات أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن موسى قال حدثني الحسن ابن إسماعيل عن ابن الحفصي قال قال يزيد بن مزيد وجه إلي الرشيد في وقت يرتاب فيه البرىء فلما مثلت بين يديه قال يا يزيد من الذي يقول ( ومن يَفْتَقِر مِنَّا يَعِيْش بحُسامِه ... ومَن يَفْتَقِر مِن سائر النّاسِ يَسْألِ ) فقلت له والذي شرفك وأكرمك بالخلافة ما أعرفه قال فمن الذي يقول ( وإن يَكُ جَدُّ القَوْم فِهْرَ بن مَالِك ... فجدِّي لُجَيْمٌ قَرْمٌ بَكْر بن وائِلِ ) قلت لا والذي أكرمك وشرفك يا أمير المؤمنين ما أعرفه قال والذي كرمني وشرفني إنك لتعرفه أتظن يا يزيد أني إذا أوطأتك بساطي وشرفتك بصنيعتي أني أحتملك على هذا أو تظن أني لا أراعي أمورك وأتقصاها وتحسب أنه يخفى علىّ شيء منها والله إن عيوني لعليك في خلواتك ومشاهدك هذا جلف من أجلاف ربيعة عدا طوره وألحق قريشاً بربيعة فأتني به فانصرفت وسألت عن قائل الشعر فقيل لي هو بكر بن النطاح وكان أحد أصحابي فدعوته وأعلمته ما كان من الرشيد فأمرت له بألفي درهم وأسقطت اسمه من الديوان وأمرته ألا يظهر ما دام الرشيد حياً فما ظهر حتى مات الرشيد فلما مات ظهر فألحقت اسمه وزدت في عطائه أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني محمد بن حمزة العلوي قال حدثني أبو غسان دماذ قال حضرت بكر بن النطاح الحنفي في منزل بعض الحنفيين وكانت للحنفي جارية يقال لها رامشنة فقال فيها بكر بن النطاح ( حيَّتكْ بالرَاَّمِشْن رامِشْنَةٌ ... أحسنُ من رامِشْنَة الآسِ ) ( جارِيةٌ لم يُقْتَسَم بُضْعُها ... ولم تَبِتْ في بَيْت نَخَّاسِ ) ( أفسدت إنساناً عَلَى أهلِه ... يا مُفْسْدَ النّاسِ على النّاسِ ) وقال فيها ( أُكذِّب طَرْفي عنكِ والطَّرْف صادِقٌ ... وأْسمِعُ أُذْنِي منكِ ما لَيْس تَسْمَعُ ) ( ولم أسكُن الأرضَ التي تَسْكُنِينها ... لكي لا يقولوا صابرٌ ليس يَجْزَعُ ) ( فلا كَبِدي تَبْلَى ولا لَكِ رَحْمَة ... ولا عَنْكِ إقصارٌ ولا فيكِ مطْمَعُ ) ( لَقِيتُ أُموراً فيكِ لم ألقَ مِثلَها ... وأعظَمُ منها منكِ ما أتوقَّعُ ) ( فلا تَسْألِيني في هَوَاكِ زيادة ... فأيْسَرُه يُجْزِي وأَدناه يُقْنِعُ ) المأمون يعطي رأيه بشعره وسلوكه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه عن علي ابن الصباح وأظنه مرسلاً وأن بينه وبينه ابن أبي سعد أو غيره لأنه لم يسمع من علي بن الصباح قال حدثني أبو الحسين الرواية قال لي المأمون أنشدني أشجع بيت وأعفه وأكرمه من شعر المحدثين فأنشدته ( ومن يَفْتَقِر منّا يَعِشْ بحُسَامه ... ومن يَفْتَقِرْ من سائِرِ النَّاسِ يسْالِ ) ( وإنّا لنَلهُو بالسُّيوف كما لَهَت ... عَروسٌ بعِقدٍ أوسخِابِ قَرَنْفُلِ ) فقال ويحك من يقول هذا فقلت بكر بن النطاح فقال أحسن والله ولكنه قد كذب في وقوله فما باله يسأل أبا دلف ويمتدحه وينتجعه هلا أكل خبزه بسيفه كما قال أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثني أبو الحسن الكسكري قال بلغني أن أبا دلف لحق أكراداً قطعوا الطريق في عمله وقد أردف منهم فارس رفيقاً له خلفه فطعنهما جميعاً فأنفذهما فتحدث الناس بأنه نظم بطعنة واحدة فارسين على فرس فلما قدم من وجهه دخل إليه بكر بن النطاح فأنشده صوت ( قالوا ويَنْظِم فارسَيْن بطَعْنَةٍ ... يوم الِّلقاء ولا يَراهُ جَليلاً ) ( لا تَعْجَبوا فَلَو أنّ طُولَ قَناتِه ... ميلٌ إذاً نَظَم الفوارسَ ميلاً ) قال فأمر له أبو دلف بعشرة آلاف درهم فقال بكر فيه ( له راحةٌ لو أن مِعْشار جُودهِا ... على البَرّكان البَرُّ أندى من البَحْرِ ) ( ولو أنّ خَلْقَ الله في جِسْم فارِس ... وبارزَه كان الخليَّ من العُمْر ) ( أبا دُلَف بُورِكْتَ في كل بَلْدةٍ ... كما بُورِكَتْ في شهْرها لَيلةُ القَدْرِ ) أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار وعيسى بن الحسين قالا حدثنا يعقوب بن إسرائيل قال حدثني أبو زائدة قال كان بكر بن النطاح الحنفي يتعشق غلاماً نصرانياً ويجن به وفيه يقول ( يا مَنْ إذا دَرَس الإنْجِيلَ كان له ... قَلْبُ التَّقِيِّ عن القُرآن مُنْصَرَفا ) ( إنِّي رأَيتُك في نومي تُعانِقُنِي ... كما تُعانِق لامُ الكاتِب الألِفا ) أخبرني محمد بن القاسم الأنباري قال حدثني الحسن بن عبد الرحمن الربعي قال كان بكر بن النطاح يأتي أبا دلف في كل سنة فيقول له إلى جنب أرضي أرض تباع وليس يحضرني ثمنها فيأمر له بخمسة آلاف درهم ويعطيه ألفاً لنفقته فجاءه في بعض السنين فقال له مثل ذلك فقال له أبو دلف ما تفنى هذه الأرضون التي إلى جانب ضيعتك فغضب وانصرف عنه وقال ( يا نفسُ لا تجزَعي من التّلَفِ ... فإن في الله أعظمَ الخَلَفِ ) ( إن تَقْنَعي باليَسِيرِ تَغْتَبِطي ... ويُغْنِكِ الله عن أبي دُلَفِ ) قال وكان بَكْر بنُ النَطاح يأتي قرةَّ بنَ مُحرِز الحنفيّ بكْرمان فيعطيه عشرة آلاف درهم ويُجري عليه في كل شهر يقيم عنده ألف درهم فاجتاز به قرة يوماً وهو ملازم في السوق وغرماؤه يطالبونه بدين فقال له ويحك أما يكفيك ما أعطيك حتى تستدين وتلازم في السوق فغضب عليه وانصرف عنه وأنشأ يقول ( ألا يا قُرّ لاتَكُ سَامرِيّاً ... فتَتْرك َمَنْ يَزُورك في جِهادِ ) ( أتعْجب أنْ رأيتَ عليَّ دَيْناً ... وقد أودَى الطّرِيفُ مع التِّلادِ ) ( ملأتُ يَدِي منَ الدُّنيا مِراراً ... فما طَمِعَ العَوَاذِلُ في اقْتِصادي ) ( ولا وَجَبت عليَّ زَكاةُ مالٍ ... وهل تَجِبُ الزّكاةُ على جَوَادِ ) أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كنت يوماً عند علي بن هشام وعنده جماعة فيهم عمارة بن عقيل فحدثته أن بكر بن النطاح دخل إلى أبي دلف وأنا عنده فقال لي أبو دلف يا أبا محمد أنشدني مديحاً فاخراً تستطرفه فبدر إليه بكر وقال أنا أنشدك أيها الأمير بيتين قلتهما فيك طريقي هذا إليك وأحكمك فقال هات فإن شهد لك أبو محمد رضينا فأنشده ( إذا كانَ الشِّتاءُ فأنت شَمْسٌ ... وإن حَضَر المَصِيف فأنتَ ظِلُّ ) ( وما تَدْرِي إذا أَعْطَيْتَ مالاً ... أتُكثِرُ في سَماحِك أم تُقِلُّ ) فقلت له أحسن والله ما شاء ووجبت مكافأته فقال أما إذ رضيت فأعطوه عشرة آلاف درهم فحملت إليه وانصرفت إلى منزلي فإذا أنا بعشرين ألفاً قد سبقت إلي وجه بها أبو دلف قال فقال عمارة لعلي بن هشام فقد قلت أنا في قريب من هذه القصة ( ولا غيبَ فيهم غيرَ أَنَّ أَكفَّهم ... لأموالهم مِثْلَ السِّنين الحَواطم ) ( وأنهمُ لا يُورِثُون بَذيهمُ ... وإن وَرِثوا خَيْراً كُنوزَ الدَّراهِم ) ابن النطاح يرثي معقل بن عيسى أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة قال كان معقل بن عيسى صديقاً لبكر بن النطاح وكان بكر فاتكاً صعلوكاً فكان لا يزال قد أحدث حادثة في عمل أبي دلف أو جنى جناية فيهم به فيقوم دونه معقل حتى يتخلصه فمات معقل فقال بكر بن النطاح يرثيه بقوله ( وحدَّث عنه بعضُ من قال إنَّه ... رَأتْ عَينُه فيما تَرَى عَينُ حالِم ) ( كأنَّ الذي يَبْكي على قَبْر مَعْقِل ... ولم يَره يَبكي على قَبْر حاتِم ) ( ولا قَبرِ كَعْب إذ يَجودُ بنَفْسِه ... ولا قَبْر حِلْفِ الجُود قَيْسِ بنِ عاصِمْ ) ( فأيقَنتُ أنَّ الله فضَّل مَعْقِلاً ... على كل مَذْكُور بفَضْلِ المَكارِم ) أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني العمري قال كان بكر بن النطاح الحنفي أبو وائل بخيلاً فدخل عليه عباد بن الممزق يوماً فقدم إليه خبزاً يابساً قليلاً بلا أدم ورفعه من بين يديه قبل أن يشبع فقال عباد يهجوه ( مَنْ يَشْتَرِي مِني أبا وائِلٍ ... بكرَ بنَ نَطَّاح بفَلْسَيْن ) ( كأنما الآكِلُ من خُبزِهِ ... يأكلُه من شَحمَهِ العَيْنِ ) قال وكان عباد هذا هجاء ملعوناً وهو القائل ( أنَا المُمزّقِ أعراضَ اللًّئام كما ... كان المُمزِّق أعراضَ الِّلئام أبي ) أخبرني عمي قال حدثنا أبو هفان قال كان بكر بن النطاح قصد مالك بن طوق فمدحه فلم يرض ثوابه فخرج من عنده وقال يهجوه ( فليتَ جَدَا مَالكٍ كُلَّه ... وما يُرتجى منه من مَطْلبِ ) ( أُصِبْتُ بأَضْعاف أضعافِه ... ولم أنتَجِعْه ولم أرغَبِ ) ( أسأْتُ أخْتِياريَ منك الثَّوابَ ... لي الذّنبُ جَهْلاً ولم تُذنِبِ ) وكتَبها في رقعة وبعث إليه فلما قرأها وَجّه جماعة من أَصحابه في طلبه وقال لهم الويل لكم إن فاتكم بكر بن النطاح ولا بد أن تنكفئوا على أثره ولو صار إلى الجبل فلحقوه فردوه إليه فلما دخل داره ونظر إليه قام فتلقاه وقال يا أخي عجلت علينا وما كنا نقتصر بك على ما سلف وإنما بعثنا إليك بنفعه وعولنا بك على ما يتلوها واعتذر كل واحد منهما إلى صاحبه ثم أعطاه حتى أرضاه فقال بكر بن النطاح يمدحه ( أقولُ لمُرتادٍ ندى غيرِ مالِكٍ ... كفى بَذْلَ هذا الخلقِ بعضُ عِداتِه ) ( فَتىً جاد بالأموال في كُلّ جانبٍ ... وأنْهَبَها في عَوْده وبَداتِه ) ( فلو خَذَلتْ أموالُه بذْلَ كَفِّه ... لقاسَم مَنْ يَرجُوه شَطْرَ حَيَاتِه ) ( ولو لم يجد في العُمْر قِسمة مالِه ... وجاز له الإعطاء من حَسناتِه ) ( لجادَ بها من غَيْر كُفْر برَبّه ... وشاركَهم في صَوْمه وصَلاتِه ) فوصله صلة ثانية لهذه الأبيات وانصرف عنه راضياً هكذا ذكر أبو هفان في خبره وأحسبه غلطاً لأن أكثر مدائح بكر بن النطاح في مالك بن علي الخزاعي وكان يتولى طريق خراسان وصار إليه بكر بن النطاح بعد وفاة أبي دلف ومدحه فأحسن تقبله وجعله في جنده وأسنى له الرزق فكان معه إلى أن قتله الشراة بحلوان فرشاه بكر بعدة قصائد هي من غرر شعره وعيونه ابن النطاح يرثي مالك الخزاعي فحدثني عمي قال حدثني أحمد بن أبي طاهر عن أبي وائلة السدوسي قال عاثت الشراة بالجبل عيثاً شديداً وقتلوا الرجال والنساء والصبيان فخرج إليهم مالك بن علي الخزاعي وقد وردوا حلوان فقاتلهم قتالاً شديداً فهزمهم عنها وما زال يتبعهم حتى بلغ بهم قرية يقال لها حدان فقاتلوه عندها قتالاً شديداً وثبت الفريقان إلى الليل حتى حجز بينهم وأصابت مالكاً ضربة على رأسه أثبتته وعلم أنه ميت فأمر برده إلى حلوان فما بلغها حتى مات فدفن على باب حلوان وبنيت لقبره قبة على قارعة الطريق وكان معه بكر بن النطاح يومئذ فأبلى بلاء حسناً وقال بكر يرثيه ( يا عينُ جُودِي بالدّموع السّجامْ ... على الأمير اليمنيّ الُهُمامْ ) ( على فَتَى الدّنيا وصِنديدِها ... وفارس الدّين وسَيفِ الإمامْ ) ( لا تَدْخَرِي الدمعَ على هالك ... أيْتَم إذ أودى جَمِيعُ الأنامْ ) ( طاب ثَرَى حُلوان إذ ضُمِّنت ... عِظامَه سَقْياً لها من عِظامْ ) ( أغلقَتِ الخَيراتُ أبوابَها ... وامتَنَعت بعدَك يا بنَ الكِرامْ ) ( أغلقَتِ الخَيراتُ أبوبَها ... وامتَنَعت بعدَك يا بنَ الكِرامْ ) ( وأصبحَتْ خَيلك بعد الوَجَا ... والغَزو تَشكُو منك طُولَ الجَمامْ ) ( ارحَلْ بنا نَقرُبْ إلى مالكٍ ... كيما نُحيِّي قَبرَه بالسّلامْ ) ( كان لأهل الأرض في كَفِّه ... غِنىً عن البحر وصَوْبِ الغَمامْ ) ( وكان في الصُّبح كشمس الضُّحى ... وكان في الليل كبَدْرِ الظّلامْ ) ( وسائِلٍ يعجَب من موتِه ... وقد رآه وهو صَعْبُ المَرامْ ) ( قُلتُ له عَهدِي به مُعلِماً ... يضربهم عند ارتفاع القَتامْ ) ( والحربُ مَنْ طاولها لم يَكَدَ ... يُفلِت من وَقْعِ صقيلٍ حُسامْ ) ( لم ينظُر الدَّهرُ لنا إذ عدا ... على رَبيعِ النّاسِ في كل عامْ ) ( لن يَسْتَقِيلوا أبداً فقدَه ... ما هَيَّج الشّجوَ دُعاءُ الحَمامْ ) قال وقال أيضاً يرثيه ( أيُّ امرىءٍ خَضَب الخوارجُ ثوبَه ... بدمٍ عَشِيَّة راح من حُلْوانِ ) ( يا حُفْرةً ضمَّتْ محاسِنَ مالِكٍ ... ما فيكِ من كَرَمٍ ومن إحسانِ ) ( لَهْفي على البَطَل المُعرِّض خَدَّه ... وجبينَه لأسنة الفُرسانِ ) ( خَرَق الكتِيبة مُعلماً مُتَكَنِّباً ... والمرُهفاتُ عليه كالنّيرانِ ) ( ذهبت بَشاشَةُ كلّ شيءٍ بعده ... فالأرضُ مُوحِشة فلا عُمرانِ ) ( هدَم الشُّراةُ غَداة مَصْرع مالكٍ ... شرف العُلا ومكارمَ البُنيانِ ) ( قَتَلوا فتى العرب الذي كانت به ... تَقْوى على اللَّزبات في الأزمانِ ) ( حرموا مَعَدّاً ما لديه وأوقَعُوا ... عصبِيَّةً في قَلب كُلّ يَماني ) ( تَركُوه في رَهَج العَجاج كأنه ... أسَدٌ يَصول بساعِدٍ وبَنانِ ) ( هَوتِ الجُدودُ عن السُّعود لفقدِه ... وتمسَّكتْ بالنَّحْس والدَّبَرَانِ ) ( لا يَبْعَدَنّ أخُو خُزاعةَ إذ ثَوَى ... مستَشْهِداً في طاعة الرَّحمنِ ) ( عَزَّ الغُواةُ به وذَلَّت أُمةٌ ... مَحْبُوَّةٌ بحقائق الإيمانِ ) ( وبكاه مُصحَفةُ وصدْرُ قَناتِه ... والمُسلمِون ودَوْلَةُ السُّلطانِ ) ( وغدت تُعقَّر خَيلُه وتُقُسِّمت ... أدراعُه وسَوابِغُ الأبدانِ ) ( أَفتُحمَد الدُّنيا وقد ذَهَبَتْ بمَنْ ... كان المُجِيرَ لنا من الحَدَثَانِ ) تشوّقه بغداد وهو بالجبل أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال أنشدني أبو غسان دماذ لبكر بن النطاح يتشوق بغداد وهو بالجبل يومئذ ( نَسِيمُ المُدامِ وبَرْد السَّحرْ ... هما هيَّجا الشّوقَ حتى ظَهَرْ ) ( تقول اجتَنِب دارَنا بالنّهار ... وزُرْنا إذا غاب ضوءُ القَمَرْ ) ( فإنّ لنا حَرَساً إن رأوْكَ ... نَدِمْتَ وأُعطُوا عليك الظَّفَرْ ) ( وكم صَنَعَ الله بغدادَ من بلدةٍ ... وساكنَ بَغْداد صَوْبَ المَطَرْ ) ( ونُبِّئْتُ أنّ جَوارِي القُصُورِ ... صَيَّرن ذِكْرِي حديثَ السَّمَرْ ) ( ألا رُبَّ سائلةٍ بالعراق ... عنِّي وأخرى تُطِيل الذِّكَرْ ) ( تقول عَهِدْنا أبا وائِلٍ ... كظَبْي الفَلاة المَلِيح الحَوَرْ ) ( لياليَ كنتُ أَزور القِيانَ ... كأنَّ ثِيابِي بَهارُ الشّجَرْ ) حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني ميمون بن هارون قال كان بكر بن النطاح يهوى جارية من جواري القيان وتهواه وكانت لبعض الهاشميين يقال لها درة وهو يذكرها في شعره كثيراً وكان يجتمع معها في منزل رجل من الجند من أصحاب أبي دلف يقال له الفرز فسعى به إلى مولاها وأعلمه أنه قد أفسدها وواطأها على أن تهرب معه إلى الجبل فمنعه من لقائها وحَجَبه عنها إلى أن خرج الكرج مع أبي دلف فقال بكر بن النطاح في ذلك ( أهلُ دَارٍ بين الرُصافة والجِسْرِ ... أطالوا غَيْظي بطُول الصُّدودِ ) ( عذَّبوني بُبعدهم وابْتَلَوا قَلْبي ... بحُزْنين طارِفٍ وتَليدِ ) ( ما تَهُبّ الشَّمال إلا تَنَفَّت ... وقال الفُؤَادُ للعَيْن جُودي ) ( قلَّ عنهم صَبْري ولم يرحمُوني ... فتحَّيرت كالطّريد الشّريدِ ) ( وكلتْني الأيامُ فيكِ إلى نفسِي ... فأعَيْيتُ وانتهى مَجْهودِي ) وقال فيها أيضاً وفيه غناء من الرمل الطنبوري ( العَينُ تُبدِي الحُبَّ والبُغضا ... وتُظهِر الإبرامَ والنَّقْضا ) ( دُرَّةُ ما أنصْفتِني في الهوى ... ولا رَحِمْتِ الجَسَدَ المُنْضَى ) ( مرَّت بنا في قُرطُق أَخْضَرِ ... يعشَق منها بَعضُها بَعْضا ) ( غَضْبَى ولا والله يا أهلَها ... لا أشرَبُ البارِدَ أو تَرْضَى ) ( كيف أطاعَتْكم بهَجْرِي وقد ... جَعلتُ خَدّيَّ لها أرْضا ) وقال فيها أيضاً وفيه رمل طنبوري ( صدّتْ فأمسى لِقاؤُها حُلما ... واستبدل الطرفُ بالدُّموع دَمَا ) ( وسلَّطت حُبَّها على كَبِدي ... فأبدَلْتني بصِحةٍ سَقَما ) ( وصِرْتُ فرداً أبكِي لفُرقتها ... وأقرُع السِّنَّ بعدها نَدَما ) ( شَقّ عليها قولُ الوُشاة لها ... أصبحتِ في أمرِ ذا الفَتَى عَلَما ) ( ولولا شَقائي وما بُليتُ به ... من هَجْرها ما استَثَرْت ما اكتُتِما ) ( كم حاجةٍ في الكتاب بُحتُ بها ... أَبكيتُ منها القِرطاسَ والقَلَما ) وقال فيها أيضاً وفيه رمل لأبي الحسن أحمد بن جعفر جحظة ( بَعُدتِ عني فتغيَّرتِ لي ... وليس عندي لكِ تَغْيِيرُ ) ( فَجدِّدي ما رَثَّ من وَصْلنا ... وكلّ ذَنْبٍ لك مَغْفورُ ) ( أُطَيِّب النّفسَ بكتمان ما ... سارت به من غدْوِك العِيرُ ) ( وَعدُك يا سَيِّدتي غرّني ... منك وَمَن يَعْشَقُ مَغْرورُ ) ( يَحزُنُني عِلِمي بنَفْسي إذا ... قال خَلِيلي أَنتَ مَهْجورُ ) ( ياليت مَن زَيّنَ هذا لها ... جارت لنا فيه المَقَادِير ) ( ساقِي النَّدامىَ سَقِّها صاحِبي ... فإنني وَيْحك مَعْذور ) ( أَأَشرَبُ الخَمر على هَجْرِها ... إني إذاً بالهَجْر مسرور ) وفيها يقول وقد خرج مع أبي دلف إلىأصبهان ( يا ظبيةَ الِّسيب التي أحببتُها ... ومَنحتُها لُطفِي ولِينَ جَناحِي ) ( عَينايَ باكِيتانِ بعدَكِ للذّي ... أوْدَعْتِ قلبي مِن نُدوبِ جِراحِ ) ( سَقْياً لأحمدَ من أخٍ ولِقاسِمٍ ... فَقَدا غُدوِّي لاهِياً ورَوَاحِي ) ( وتَردُّدِي من بَيت فرْزٍ آمِناً ... من قُربِ كُلِّ مُخالِفٍ ومُلاحِي ) ( أيامَ تَغبِطُني المُلوكُ ولا أرى ... أحداً له كتدلُّلي ومَراحِي ) ( تَصِفُ القِيانُ إذا خلونَ مجانَتِي ... ويَصِفْنَ للشَّربِ الكرام سماحِي ) ومما يغنى فيه من شعر بكر بن النطاح في هذه الجارية قوله صوت ( هل يُبتَلى أحدٌ بِمِثْلِ بليَّتي ... أم ليس لي في العَالَمين ضَرِيبُ ) ( قالت عَنانُ وأبصرتْنِي شاحباً ... يا بَكْرُ مالكَ قد عَلاك شُحوبُ ) ( فأجبتُها يا أختُ لم يلقَ الذي ... لاقيتُ إلا المُبْتَلَى أيُّوبُ ) ( قد كنتُ أسمع بالهوى فأظُنُّه ... شيئاً يلَذُّ لأهله ويَطِيبُ ) ( حتى ابتُلِيت بحُلْوه وبمُرِّه ... فالحلو منه للقلُوب مُذيبُ ) ( والمُرّ يَعجِز مَنْطِقي عن وَصْفِه ... للمُرّ وصفٌ يا عَنان عَجِيبُ ) ( فأنا الشّقِيّ بحُلْوِه وبمُرّه ... وأنا المُعَنَّى الهائِمُ المَكروبُ ) ( يا دُرَّ حالَفَكِ الجَمالُ فَمالَه ... في وَجْه إنسانٍ سواكِ نَصِيبُ ) ( كلُّ الوجوه تَشَابَهت وبَهَرْتِها ... حُسناً فَوَجهُك في الوُجوه غرِيبُ ) ( والشمس يغرُب في الحِجاب ضِياؤُها ... عنّا ويُشْرق وَجهُك المَحْجوبُ ) ومما يغنّى فيه من شعره فيها أيضاً ( غَضِب الحبِيبُ عليَّ في حُبِّي له ... نَفْسي الفِداءُ لمُذْنِبِ غَضْبانِ ) ( مالِي بما ذكر الرّسولُ يدانِ بل ... إن تَمّ رأيُكَ ذَا خَلْعت عِناني ) ( يا مَنْ يَتُوقُ إلى حَبِيب مُذنِبٍ ... طاوعْته فَجزاك بالعِصْيانِ ) ( هلاّ انتحرتَ فكنتَ أولَ هَالكٍ ... إن لم يَكُن لك بالصُّدود يَدانِ ) ( كنّا وكُنْتُم كالبَنان وَكَفَّها ... فالكفُّ مفردَةٌ بغَيْر بَنانِ ) ( خُلِق السُّرورُ لمَعْشر خُلِقوا له ... وخُلِقْتُ للعَبَرات والأحزانِ ) صوت ( ليتَ شِعْرِي أَأَوَّلُ الهَرْج هذا ... أم زَمانٌ من فِتْنَةٍ غير هَرْجِ ) ( إن يَعِش مُصعَبٌ فنحن بخَيْر ... قد أتانا من عَيْشِنا ما نُرَجِّي ) ( ملِكٌ يُطْعِم الطَّعام ويَسْقِي ... لبنَ البُخْت في عِساس الْخَلَنْجِ ) ( جَلَب الخَيْل من تِهامَةَ حتّى ... بلَغت خيلُه قصور زَرَنْج ) ( حيث لم تأتِ قبله خيلُ ذِي الأعتاف ... يُوجِفن بين قُفٍّ ومَرْجِ ) عروضه من الخفيف الشعر لعبيد الله بن قيس الرقيات والغناء ليونس الكاتب ماخوري بالبنصر وفيه لمالك ثاني ثقيل بالخنصر في مجرى البنصر عن إسحاق مقتل مصعب بن الزبير وهذا الشعر يقوله عبيد الله بن قيس لمصعب بن الزبير لما حشد للخروج عن الكوفة لمحاربة عبد الملك بن مروان وكان السبب في ذلك فيما أجاز لنا الحرمي بن أبي العلاء روايته عنه عن الزبير بن بكار عن المدائني قال لما كانت سنة اثنتين وسبعين استشار عبد الملك بن مروان عبد الرحمن ابن الحكم في المسير إلى العراق ومناجزة مصعب فقال يا أمير المؤمنين قد واليت بين عامين تغزو فيهما وقد خسرت خيلك ورجالك وعامك هذا عام حارد فأرح نفسك ورجلك ثم ترى رأيك فقال إني أبادر ثلاثة أشياء وهي أن الشام أرض بها المال قليل فأخاف أن ينفد ما عندي وأشراف أهل العراق قد كاتبوني يدعونني إلى أنفسهم وثلاثة من أصحاب رسول الله كبروا ونفدت أعمارهم وأنا أبادر بهم الموت أحب أن يحضروا معي ثم دعا يحي بن الحكم وكان يقول من أراد أمرا فليشاور يحي بن الحكم فإذا أشار عليه بأمر فليعمل بخلافه فقال ما ترى في المسير إلى العراق قال أرى أن ترضى بالشام وتقيم بها وتدع مصعبا بالعراق فلعن الله العراق فضحك عبد الملك ودعا عبد الله بن خالد بن أسيد فشاوره فقال يا أمير المؤمنين قد غزوت مرة فنصرك الله ثم غزوت ثانية فزادك الله بها عزاً فأقم عامك هذا فقال لمحمد بن مروان ما ترى قال أرجو أن ينصرك الله أقمت أم غزوت فشمر فإن الله ناصرك فأمر الناس فاستعدوا للمسير فلما أجمع عليه قالت عاتكة بنت يزيد بن معاوية زوجته يا أمير المؤمنين وجه الجنود وأقم فليس الرأي أن يباشر الخليفة الحرب بنفسه فقال لو وجهت أهل الشام كلهم فعلم مصعب أني لست معهم لهلك الجيش كله ثم تمثل ( ومُسْتَخبِرٍ عنّا يُرِيد بنا الرَّدَى ... ومُستَخبراتٍ والعُيونُ سواكِبُ ) ثم قدم محمد بن مروان ومعه عبد الله بن خالد بن أسيد وبشر بن مروان ونادى مناديه إن أمير المؤمنين قد استعمل عليكم سيد الناس محمد بن مروان وبلغ مصعب بن الزبير مسير عبد الملك فأراد الخروج فأبى عليه أهل البصرة وقالوا عدونا مطل علينا يعنون الخوارج فأرسل إليهم بالمهلب وهو بالموصل وكان عامله عليها فولاه قتال الخوارج وخرج مصعب فقال بعض الشعراء ( أكُلَّ عام لك باجُمَيْرا ... تَغْزُو بنا ولا تُفِيد خَيْراً ) مصعب وعبد الملك قال وكان مصعب كثيرا ما يخرج إلى باجميرا يريد الشام ثم يرجع فأقبل عبد الملك حتى نزل الأخنونيّه ونزل مصعب بمسكن إلى جنب أوانا وخندق خندقا ثم تحول ونزل دير الجاثليق وهو بمسكن وبين العسكرين ثلاثة فراسخ ويقال فرسخان فقدم عبد الملك محمدا وبشرا أخويه وكل واحد منهما على جيش والأمير محمد وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر ثم كتب عبد الملك إلى أشراف أهل الكوفة والبصرة يدعوهم إلى نفسه ويمنيهم فأجابوه وشرطوا عليه شروطا وسألوه ولايات وسأله ولاية أصبهان أربعون رجلا منهم فقال عبد الملك لمن حضره ويحكم ما أصبهان هذه تعجبا ممن يطلبها وكتب إلى إبراهيم بن الأشتر لك ولاية ما سقى الفرات إن تبعتني فجاء إبراهيم بالكتاب إلى مصعب فقال هذا كتاب عبد الملك ولم يخصصني بهذا دون غيري من نظرائي ثم قال فأطعني فيهم قال أصنع ماذا قال تدعوهم فتضرب أعناقهم قال أقتلهم على ظن ظننته قال فأوقرهم حديداً وابعث بهم إلى أرض المدائن حتى تنقضي الحرب قال إذا تفسد قلوب عشائرهم ويقول الناس عبث مصعب بأصحابه قال فإن لم تفعل فلا تمدني بهم فإنهم كالمومسة تريد كل يوم خليلاً وهم يريدون كل يوم أميراً أرسل عبد الملك إلى مصعب رجلاً يدعوه إلى أن يجعل الأمر شورى في الخلافة فأبى مصعب فقدم عبد الملك أخاه محمدا ثم قال اللهم انصر محمدا ثلاثاً ثم قال اللهم أنصر أصلحنا وخيرنا لهذه الأمة قال وقدم مصعب إبراهيم بن الأشتر فالتقت المقدمتان وبين عسكر مصعب وعسكر ابن الأشتر فرسخ ودنا عبد الملك حتى قرب من عسكر محمد فتناوشوا فقتل رجل على مقدمة محمد يقال له فراس وقتل صاحب لواء بشر وكان يقال له أسيد فأرسل محمد إلى عبد الملك أن بشراً قد ضيع لواءه فصرف عبد الملك الأمر كله إلى محمد وكف الناس وتواقفوا وجعل أصحاب ابن الأشتر يهمون بالحرب ومحمد بن مروان يكف أصحابه فأرسل عبد الملك إلى محمد ناجزهم فأبى فأوفد إليه رسولاً آخر وشتمه فأمر محمد رجلاً فقال له قف خلفي في ناس من أصحابك فلا تدعن أحداً يأتيني من قبل عبد الملك وكان قد دبر تدبيراً سديداً في تأخير المناجزة إلى وقت رآه فكره أن يفسد عبد الملك تدبيره عليه فوجه إليه عبد الملك عبد الله بن خالد بن أسيد فلما رأوه أرسلوا إلى محمد بن مروان هذا عبد الله بن خالد بن أسيد فقال ردوه بأشد مما رددتم من جاء قبله فلما قرب المساء أمر محمد بن مروان أصحابه بالحرب وقال حركوهم قليلاً فتهايج الناس ووجه مصعب عتاب بن ورقاء الرياحي يعجز إبراهيم فقال له قد قلت لا تمدني بأحد من أهل العراق فلم يقبل واقتتلوا وأرسل إبراهيم بن الأشتر إلى أصحابه بحضرة الرسول ليرى خلاف أهل العراق عليه في رأيه ألا تنصرفوا عن الحرب حتى ينصرف أهل الشام عنكم فقالوا ولم لا ننصرف فانصرفوا وانهزم الناس حتى أتوا مصعبا وصبر إبراهيم بن الأشتر فقاتل حتى قتل فلما أصبحوا أمر محمد بن مروان رجلاً فقال انطلق إلى عسكر مصعب فانظر كيف تراهم بعد قتل ابن الأشتر قال لا أعرف موضع عسكرهم فقال له إبراهيم ابن عدي الكناني انطلق فإذا رأيت النخل فاجعله منك موضع سيفك فمضى الرجل حتى أتى عسكر مصعب ثم رجع إلى محمد فقال رأيتهم منكسرين وأصبح مصعب فدنا منه ودنا محمد بن مروان حتى التقوا فترك قوم من أصحاب مصعب مصعباً وأتوا محمد بن مروان فدنا إلى مصعب ثم ناداه فداك أبي وأمي إن القوم خاذلوك ولك الأمان فأبى قبول ذلك فدعا محمد بن مروان ابنه عيسى ابن مصعب فقال له أبوه انظر ما يريد محمد فدنا منه فقال له إني لكم ناصح إن القوم خاذلوكم ولك ولأبيك الأمان وناشده فرجع إلى أبيه فأخبره فقال إني أظن القوم سيفون فإن أحببت أن تأتيهم فأتهم فقال والله لا تتحدث نساء قريش أني خذلتك ورغبت بنفسي عنك قال فتقدم حتى أحتسبك فتقدم وتقدم ناس معه فقتل وقتلوا وترك أهل العراق مصعباً حتى بقي في سبعة مقتل مصعب وجاء رجل من أهل الشام ليحتز رأس عيسى فشد عليه مصعب فقتله ثم شد على الناس فانفرجوا ثم رجع فقعد على مرفقة ديباج ثم جعل يقوم عنها ويحمل على أهل الشأم فيفرجون عنه ثم يرجع فيقعد على المرفقة حتى فعل ذلك مراراً وأتاه عبيد الله بن زياد بن ظبيان فدعاه إلى المبارزة فقال له أعزب يا كلب وشد عليه مصعب فضربه على البيضة فهشمها وجرحه فرجع عبيد الله فعصب رأسه وجاء ابن أبي فروة كاتب مصعب فقال له جعلت فداك قد تركك القوم وعندي خيل مضمرة فاركبها وانج بنفسك فدفع في صدره وقال ليس أخوك بالعبد ورجع ابن ظبيان إلى مصعب فحمل عليه وزرق زائدة بن قدامة مصعباً ونادى يا لثارات المختار فصرعه وقال عبيد الله لغلام له احتز رأسه فنزل فاحتز رأسه فحمله إلى عبد الملك فقال إنه لما وضعه بين يديه سجد قال ابن ظبيان فهممت والله أن أقتله فأكون أفتك العرب قتلت ملكين من قريش في يوم واحد ثم وجدت نفسي تنازعني إلى الحياة فأمسكت قال وقال يزيد بن الرّقاع العاملي أخو عدي بن الرقاع وكان شاعرً أهل الشام ( نحن قتلْنا ابنَ الحوارِيِّ مُصعَباً ... أخَا أسد والمَذْحِجِيَّ اليمانيا ) يعني ابن الأشتر قال ( ومرَّت عُقاب الموت منا بمُسلمٍ ... فأهْوَت له ظُفراً فأصبَح ثاوِيا ) قال الزبير ويروى هذا الشعر للبعيث اليشكري ومسلم الذي عناه هو مسلم بن عمرو الباهلي مقتل مسلم بن عمرو الباهلي حدثنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا سليمان بن أبي شيخ قال حدثنا محمد بن الحكم عن عوانة قال كان مسلم بن عمرو الباهلي على ميسرة إبراهيم بن الأشتر فطعن وسقط فارثت فلما قتل مصعب أرسل إلى خالد بن يزيد بن معاوية أن يطلب له الأمان من عبد الملك فأرسل إليه ما تصنع بالأمان وأنت بالموت قال ليسلم لي مالي ويأمن ولدي قال فحمل على سرير فأدخل على عبد الملك بن مروان فقال عبد الملك لأهل الشام هذا أكفر الناس لمعروف ويحك أكفرت معروف يزيد بن معاوية عندك فقال له خالد تؤمنه يا أمير المؤمنين فأمنه ثم حمل فلم يبرح الصحن حتى مات فقال الشاعر ( نحنُ قَتَلْنا ابنَ الحَوارِيّ مُصعَبا ... أخا أسَدٍ والمذحِجيّ اليمانيا ) حدثنا محمد بن العباس قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال قال رجل لعبيد الله بن زياد بن ظبيان بماذا تحتج عند الله عز و جل من قتلك لمصعب قال إن تركت أحتج رجوت أن أكون أخطب من صعصعة بن صوحان مصعب وسكينة بنت الحسين وقال مصعب الزبيري في خبره قال الماجشون فلما كان يوم قتل مصعب دخل إلى سكينة بنت الحسين عليهما السلام فنزع عنه ثيابه ولبس غلالة وتوشح بثوب وأخذ سيفه فعلمت سكينة أنه لا يريد أن يرجع فصاحت من خلفه واحزناه عليك يا مصعب فالتفت إليها وقد كانت تخفي ما في قلبها منه فقال أوكل هذا لي في قلبك فقالت أي والله وما كنت أخفي أكثر فقال لو كنت أعلم أن هذا كله لي عندك لكانت لي ولك حال ثم خرج ولم يرجع قال مصعب وحدثني مصعب بن عثمان أن مصعب بن الزبير لما قدمت عليه سكينة أعطى أخاها علي بن الحسين عليهم السلام وهو كان حملها إليه أربعين ألف دينار قال مصعب وحدثني معاوية بن بكر الباهلي قال قالت سكينة دخلت على مصعب وأنا أحسن من النار الموقدة قال وكانت قد ولدت منه بنتاً فقال لها سميها زبراء فقالت بل أسميها باسم بعض أمهاتي فسمتها الرباب قال فحدثني محمد بن سلام عن شعيب بن صخر عن أمه سعدة بنت عبد الله بن سالم قالت لقيت سكينة بنت الحسين بين مكة ومنى فقالت قفي يا بنت عبد الله ثم كشفت عن ابنتها فإذا هي قد أثقلتها باللؤلؤ فقالت والله ما ألبستها إياه إلا لتفضحه قال فلما قتل مصعب ولي أمر ماله عروة بن الزبير فزوج ابنه عثمان بن عروة ابنة أخيه من سكينة وهي صغيرة فماتت قبل أن تبلغ فورث عثمان بن عروة منها عشرة آلاف دينار قال ولما دخلت سكينة الكوفة بعد قتل مصعب خطبها عبد الملك فقالت والله لا يتزوجني بعده قاتله أبداً وتزوجت عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام ودخلت بينها وبينه رملة بنت الزبير أخت مصعب حتى تزوجها خوفاً من أن تصير إلى عبد الملك فولدت منه ابناً فسمته عثمان وهو الذي يلقب بقرين وربيحه ابني عبد الله بن عثمان فتزوج ربيخة العباس بن الوليد بن عبد الملك ابن قيس الرقيات يرثي مصعبا ً ثم مات عبد الله بن عثمان عنها فتزوجها زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان فقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعباً صوت ( إن الرَّزِيَّة يوم مَسْكِنَ ... والمُصِيبَةَ والفَجِيعَهْ ) ( يابن الحوارِيّ الذي ... لم يَعده يومُ الوقيَعهْ ) ( غَدَرتْ به مُضَرُ العِراق ... وأمكَنَتْ منه رَبيعَهْ ) ( تَاللَّه لو كانت له ... بالدَّيْر يومَ الدير شِيعَهْ ) ( لوجَدْتُموه حين يدُلج ... لا يُعرِّس بالمَضِيعَهْ ) غناه يونس الكاتب من كتابه ولحنه خفيف رمل بالوسطى وفيه لموسى شهوات خفيف رمل بالبنصر عن حبش وقيل بل هو هذا اللحن وغلط من نسبه إلى موسى وقال عدي بن الرقاع العاملي يذكر مقتله ( لَعَمْرِي لقد أصحَرَتْ خيلُنا ... بأكنافِ دِجْلَةَ للمُصْعَبِ ) ( يَهُزّون كُلَّ طويل القناة ... معتدلَ النَّصلِ والثَّعلبِ ) ( فِداؤُك أُمّي وأبناؤُها ... وإن شئتَ زِدتُ عليهم أَبي ) ( وما قلتُها رَهبَةً إنما ... يَحُلّ العِقابُ على المذنب ) ( إذا شِئتُ دافعْتُ مُسْتَقْتِلاً ... أُزاحِمُ كالْجَمَل الأجربِ ) ( فمن يَكُ منّا يَبِتْ آمِناً ... ومن يَكُ من غَيرِنا يَهرُبِ ) غناه معبد من رواية إسحاق ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى وقال ابن قيس يرثي مصعبا ( لقد أورَثَ المِصْرَيْنِ خِزْياً وذِلَّةً ... قتيلٌ بدَيْر الجاثَلِيقِِ مُقِيمُ ) ( فما قاتَلتْ في اللهِ بكرُبنُ وائلٍ ... ولا صَبرتْ عند اللِّقاء تميمُ ) ( ولكنه رامَ القِيامَ ولم يَكُن ... لها مُضَرِيُّ يوم ذاك كَرِيمُ ) مصعب يسأل عن قتل الحسين قال الزبير وكان مصعب لما قدم الكوفة يسأل عن الحسين بن علي عليهما السلام وعن قتله فجعل عروة بن المغيرة يحدثه عن ذلك فقال متمثلاًبقول سليمان بن قتة ( فإن الأُلى بالطَّفِّ من آل هاشمِ ... تأسَّوْا فسَنُّوا للِكرام التَّأَسِّيا ) قال عروة فعلمت أن مصعبا لا يفر أبداً قال الزبير وقال أبو الحكم بن خلاد بن قرة السدوسي حدثني أبي قال لما كان يوم السبخة حين عسكر الحجاج بإزاء شبيب الشاري قال له الناس لو تنحيت أيها الأمير عن هذه السبخة فقال لهم ما تنحوني والله إليه أنتن وهل ترك مصعب لكريم مفرا ثم تمثل قول الكلحبة ( إذا المَرْءُ لم يَغْشَ المكارِهَ أوشَكت ... حِبال الهُوَيْنَى بالفتى أن تَقَطَّعَا ) قال الزبير وحدثني المدائني عن عوانة والشرقي بن القطامي عن أبي جناب قال لما أتى عبد الله بن الزبير قتل مصعب أضرب عن ذكره أياماً حتى تحدثت به إماء مكة في الطريق ثم صعد المنبر فجلس عليه ملياً لا يتكلم فنظرت إليه والكآبة على وجهه وجبينه يرشح عرقاً فقلت لآخر إلى جنبي ما له لا يتكلم أتراه يهاب المنطق فوالله إنه لخطيب فما تراه يهاب قال أراه يريد أن يذكر قتل مصعب سيد العرب فهو يفظعُ لذكره وغير ملوم فقال الحمد لله الذي له الخلق والأمر ومالك الدنيا والآخرة يعز من يشاء ويذل من يشاء ألا إنه يذل والله من كان الحق معه وإن كان مفرداً ضعيفا ولم يعز من كان الباطل معه وإن كان في العدة والعدد والكثرة ثم قال إنه قد أتانا خبر من العراق بلد الغدر والشقاق فساءنا وسرنا أتانا أن مصعباً قتل رحمة الله عليه ومغفرته فأما الذي أحزننا من ذلك فإن لفراق الحميم لذعة يجدها حميمه عند المصيبة ثم يرعوي من بعد ذو الرأي والدين إلى جميل الصبر وأما الذي سرنا منه فإنا قد علمنا أن قتله شهادة له وأن الله عز و جل جاعل لنا وله ذلك خيرة إن شاء الله تعالى أن أهل العراق أسلموه وباعوه بأقل ثمن كانوا يأخذونه منه وأخسره أسلموه إسلام النعم المخطم فقتل ولئن قتل أبوه وعمه وأخوه وكانوا الخيار الصالحين إنا والله ما نموت حتف أنوفنا ما نموت إلا قتلا قعصا بين قصد الرماح وتحت ظلال السيوف وليس كما يموت بنو مروان والله ما قتل رجل منهم في جاهلية ولا إسلام قط وإنما الدنيا عارية من الملك القهار الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه فإن تقبل الدنيا عليَّ لا آخذها أخذ الأشر البطر وإن تدبر عني لا أبك عليها بكاء الخرف المهتر ثم نزل وقال رجل من بني أسد بن عبد العزى يرثي مصعباً ( لعمرُك إنّ الموتَ منا لمُولَعٌ ... بكُلّ فتىً رَحْبِ الذّراع أَرِيبِ ) ( فإن يَكُ أمسَى مُصعبٌ نال حَتفَه ... لقد كان صُلْبَ العُودِ غيرَ هَيُوب ) ( جمِيلَ المُحَيَّا يُوهِن القِرنَ غربُه ... وإن عضَّه دَهْرٌ فغير رَهُوب ) ( أتاه حِمامُ المَوْت وَسْط جُنودِه ... فطاروا شِلالاً واسْتَقَى بذَنُوب ) ( ولو صَبروا نالوا حُباً وكرامةً ... ولكنَّهم وَلَّوْا بغير قُلوبِ ) عبد الملك لجلسائه مصعب أشجع الناس قال وقال عبد الملك يوماً لجلسائه من أشجع الناس فأكثروا في هذا المعنى فقال أشجع الناس مصعب بن الزبير جمع بين عائشة بنت طلحة وسكينة بنت الحسين وأمه الحميد بنت عبد الله بن عاصم وولي العراقين ثم زحف إلى الحرب فبذلت له الأمان والحباء والولاية والعفو عما خلص في يده فأبى قبول ذلك واطرح كل ما كان مشغوفاً به من ماله وأهله وراء ظهره وأقبل بسيفه قَرماً يقاتل وما بقي معه إلا سبعة نفر حتى قتل كريماً أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا عمر بن شبة قال لما ولي مصعب بن الزبير العراق أقر عبد العزيز بن عبد الله بن عامر على سجستان وأمده بخيل فقال ابن قيس الرقيات ( ليتَ شِعْري أأوَّلُ الهَرْج هذا ... أم زَمانٌ من فتْنةٍ غير هَرْجِ ) ( إن يَعِش مُصعَبٌ فنحن بخيرٍ ... قد أتانا من عيْشنا ما نُرَجّي ) ( أُعطِيَ النّصرَ والمهابةَ في الأعداءِ ... حتى أتَوْه من كل فجِّ ) ( حيث لم تأتِ قبله خيلُ ذي الأكتاف ... يُوجِفْن بين قُفٍّ ومَرْجِ ) ( ملكٌ يُطعِم الطّعامَ ويَسْقي ... لَبَنَ البُخْتِ في عِساسِ الخَلَنْجِ ) قال الزبير حدثني عمي مصعب أن عبيد الله بن قيس كان عند عبد الملك فأقبل غلمان له معهم عساس خلنج فيها لبن البخت فقال عبد الملك يا بن قيس أين هذا من عساس مصعب التي تقول فيها ( ملكٌ يطعم الطعام ويسقي ... لبنَ البُخت في عِساس الخَلنج ) فقال لا أين يا أمير المؤمنين لو طرحت عساسك هذه في عس من عساس مصعب لوسعها وتغلغلت في جوفه فضحك عبد الملك ثم قال قاتلك الله يا بن قيس فإنك تأبى إلا كرماً ووفاء يونس الكاتب والوليد بن يزيد حدثني عمي قال حدثني أحمد بن الطيب قال قال لي أحمد بن إبراهيم ابن إسماعيل بن داود خرج يونس الكاتب من المدينة يريد الشام بتجارة فبلغ الوليد بن يزيد مكانه فأتته رسله وهو في الخان وذلك في خلافة هشام والوليد يومئذٍ أمير فقالوا له أجب الأمير قال فذهبت معهم فأدخلوني عليه ولا أدري من هو إلا أنه حسن الوجه نبيل فسلمت عليه فأمرني بالجلوس فجلست ودعا بالشراب والجواري فكنا يومنا وليلتنا في أمر عجيب وغنيته فأعجبه لغنائي وكان مما أعجبه ( لَيْتَ شِعْرِي أَأَوَّل الهَرْج هذا ... أم زَمانٌ من فِتْنةٍ غير هَرْج ) فلم يزل يستعيده إلى الصبح ثم اصطبح عليه ثلاثة أيام فقلت أيها الأمير أنا رجل تاجر قدمت هذا البلد في تجارة لي وقد ضاعت فقال تخرج غداً غُدوة وقد ربحت أكثر من تجارتك وتمم شربه فلما أردت الانصراف لحقني غلام من غلمانه بثلاثة آلاف دينار فأخذتها ومضيت فلما أفضت الخلافة إليه أتيته فلم أزل مقيماً عنده حتى قتل قال أحمد بن الطيب وذكر مصعب الزبيري أن يونس قال كنت أشرب مع أصحاب لي فأردت أن أبول فقمت وجلست أبول على كثيب رمل فخطر ببالي قول ابن قيس ( ليت شعري أَأَوَّل الهَرْج هذا ... ) فغنيت فيه لحنا استحسنه وجاء عجباً من العجب فألقيته على جاريتي عاتكة ورددته حتى أخذته وشاع لي في الناس فكان أول صوت شاع لي وارتفع به قدري وقرنت بالفحول من المغنين وعاشرت الخلفاء من أجله وأكسبني مالاً جليلاً صوت ( ألا نادِ جِيرانَنا يَقصِدُوا ... فنَقْضي اللُّبانَةَ أو نَعْهدُ ) ( كأَنَّ على كَبدِي جَمْرةً ... حِذاراً من البَيْن ما تَبْردُ ) الشعر لكثير والغناء لأشعب المعروف بالطمع ثاني ثقيل بالوسطى وفي البيت الثاني لابن جامع لحن من الثقيل الأول بالبنصر عن حبش ذكر أشعب وأخباره هو أشعب بن جبير واسمه شعيب وكنيته أبو العلاء كان يقال لأمه أم الخلندج وقيل بل أم جميل وهي مولاة أسماء بنت أبي بكر واسمها حميدة وكان أبوه خرج مع المختار بن أبي عبيد وأسره مصعب فضرب عنقه صبراً وقال تخرج علي وأنت مولاي ونشأ أشعب بالمدينة في دور آل أبي طالب وتولت تربيته وكفلته عائشة بنت عثمان عفان وحكي عنه أنه حكى عن أمه أنها كانت تغري بين أزواج النبي زنت فحلقت وطيف بها وكانت تنادي على نفسها من رآني فلا يزنين فقالت لها امرأة كانت تطلع عليها يا فاعلة نهانا الله عز و جل عنه فعصيناه أو نطيعك وأنت مجلودة محلوقة راكبة على جمل وذكر رضوان بن أحمد الصيدلاني فيما أجاز لي روايته عنه عن يوسف بن الداية عن إبراهيم بن المهدي أن عبيدة بن أشعب أخبره وقد سأله عن أولهم وأصلهم أن أباه وجده كانا موليي عثمان وأن أمه كانت مولاة لأبي سفيان بن حرب وأن ميمونة أم المؤمنين أخذتها معها لما تزوجها النبي تدخل إلى أزواج النبي ثم إنها فارقت ذلك وصارت تنقل أحاديث بعضهن إلى بعض وتغري بينهن فدعا النبي فماتت وذكروا أنه كان مع عثمان رضي الله عنه في الدار فلما حصر جرد مماليكه السيوف ليقاتلوا فقال لهم عثمان من أغمد سيفه فهو حر قال أشعب فلما وقعت والله في أذني كنت أول من أغمد سيفه فأعتقت أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني إسحاق الموصلي قال حدثني الفضل بن الربيع قال كان أشعب عند أبي سنة أربع وخمسين ومائة ثم خرج إلى المدينة فلم يلبث أن جاء نعيه وهو أشعب بن جبير وكان أبوه مولى لآل الزبير فخرج مع المختار فقتله مصعب صبراً مع من قتل أخبرني الجوهري قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا أحمد بن إسماعيل اليزيدي قال حدثني التوزي عن الأصمعي قال قال أشعب نشأت أنا وأبو الزناد في حجر عائشة بنت عثمان فلم يزل يعلو وأسفل حتى بلغنا هذه المنزلة أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبيد الله بن الحسن والي المأمون على المدينة قال حدثني محمد بن عثمان بن عفان قال قلت لأشعب لي إليك حاجة فحلف بالطلاق لابنه وردان لا سألته حاجة إلا قضاها فقلت له أخبرني عن سنك فأنشد ذلك عليه حتى ظننت أنه سيطلق فقلت له على رسلك وحلفت له إني لا أذكر سنه ما دام حياً فقال لي أما إذ فعلت فقد هونت علي أنا والله حيث حصر جدك عثمان بن عفان أسعى في الدار ألتقط السهام قال الزبير وأدركه أبي أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن عبد الله اليعقوبي عن الهيثم بن عدي قال قال أشعب كنت ألتقط السهام من دار عثمان يوم حوصر وكنت في شيبتي ألحق الحمر الوحشية عدوا بغت أمه فطيف بها أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا عبد الرحمن بن الجهم أبو مسلم وأحمد بن إسماعيل قالا أخبرنا المدائني قال كان أشعب الطامع واسمه شعيب مولى لآل الزبير من قبل أبيه وكانت أمه مولاة لعائشة بنت عثمان بن عفان وكانت بغت فضربت وحلقت وطيف بها وهي تنادي من رآني فلا يزنين فأشرفت عليها امرأة فقالت يا فاعلة نهانا الله عز و جل عن الزنا فعصيناه ولسنا ندعه لقولك وأنت محلوقة مضروبة يطاف بك أخبرني أحمد قال حدثنا أحمد بن مهرويه قال كتب إلي ابن أبي خيثمة يخبرني أن مصعب بن عبد الله أخبره قال اسم أشعب شعيب ويكنى أبا العلاء ولكن الناس قالوا أشعب فبقيت عليه وهو شعيب بن جبير مولى آل الزبير وهم يزعمون اليوم أنهم من العرب فزعم أشعب أن أمه كانت تغري بين أزواج النبي وامرأة أشعب بنت وردان ووردان الذي بنى قبر النبيحين بنى عمر بن عبد العزيز المسجد أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال وكتب إلي ابن أبي خيثمة يخبرني أن مصعب بن عبد الله أخبره قال كان أشعب من القراء للقرآن وكان قد نسك وغزا وكان حسن الصوت بالقرآن وربما صلى بهم القيام أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني أحمد بن يحي قال أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال كان أشعب مع ملاحته ونوادره يغني أصواتاً فيجيدها وفيه يقول عبد الله بن مصعب الزبيري صوت ( إذا تمزَّزْتُ صُراحِيِّةً ... كمثل ريح المسك أو أَطْيَبُ ) ( ثم تغنَّى لي بأهْزاجِه ... زَيدٌ أخو الأنصارِ أو أشْعبُ ) ( حسِبتُ أنّي ملك جالِسٌ ... حَفَّت به الأملاكُ والمَوْكِبُ ) ( وما أُبالي وإلهِ الوَرَى ... أشرَّق العالَمُ أم غَرَّبُوا ) غنى في هذه الأبيات زيد الأنصاري خفيف رمل بالبنصر وقد روى أشعب الحديث عن جماعة من الصحابة أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد أن الربيع بن ثعلب حدثهم قال حدثني أبو البختري حدثني أشعب عن عبد الله بن جعفر قال قال رسول الله دعيت إلى ذراع لأجبت ولو أهدي إلي كراع لقبلت أشعب وسالم بن عبد الله قال ابن أبي سعد وروي عن محمد بن عباد بن موسى عن عتاب بن إبراهيم عن أشعب الطامع قال عتاب وإنما حملت هذا الحديث عنه لأنه عليه قال دخلت إلى سالم بن عبد الله بستاناً له فأشرف علي وقال يا أشعب ويلك لا تسأل فإني سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول ليأتين أقوام يوم القيامة ما في وجوههم مزعة لحم قد أخلقوها بالمسألة ويروى عن يزيد بن موهب الرملي عن عثمان بن محمد عن أشعب عن عبد الله بن جعفر أن النبي في يمينه أخبرني أحمد قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني الأصمعي عن أشعب قال استنشدني ابن لسالم بن عبد الله بن عمر غناء الركبان بحضرة أبيه سالم فأنشدته ورأس أبيه سالم في بت فلم ينكر ذلك أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أبو مسلم عن عبد الرحمن بن الحكم عن المدائني قال دفعت عائشة بنت عثمان أشعب في البزازين فقالت له بعد حول أتوجهت لشيء قال نعم تعلمت نصف العمل وبقي نصفه قالت وما تعلمت قال تعلمت النشر وبقي الطي قال المدائني وقال أشعب تعلقت بأستار الكعبة فقلت اللهم أذهب عني الحرص والطلب إلى الناس فمررت بالقرشيين وغيرهم فلم يعطني أحد شيئاً فجئت إلى أمي فقالت مالك قد جئت خائباً فأخبرتها فقالت لا والله لا تدخل حتى ترجع فتستقيل ربك فرجعت فقلت يا رب أقلني ثم رجعت فلم أمر بمجلس لقريش وغيرهم إلا أعطوني ووهب لي غلام فجئت إلى أمي بحمار موقر من كل شيء فقالت ما هذا الغلام فخفت أن أخبرها بالقصة فتموت فرحاً فقلت وهبوا لي قالت أي شيء قلت غين قالت أي شيء غين قلت لام قالت وأي شيء لام قلت ألف قالت وأي شيء ألف قلت ميم قالت وأي شيء ميم قلت غلام فغشي عليها ولو لم أقطع الحروف لماتت الفاسقة فرحاً أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني العباس بن ميمون قال سمعت الأصمعي يقول سمعت أشعب يقول سمعت الناس يموجون في أمر عثمان قال الأصمعي ثم أدرك المهدي أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني يحي بن الحسن بن عبد الخالق بن سعيد الربيعي قال حدثني هند بن حمدان الأرقمي المخزومي قال أخبرني أبي قال كان أشعب أزرق أحول أكشف أقرع قال وسمعت الأرقمي يقول كان أشعب يقول كنت أسقي الماء في فتنة عثمان بن عفان والله أعلم أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثنا عيسى بن موسى قال حدثنا الأصمعي قال أصاب أشعب ديناراً بالمدينة فاشترى به قطيفة ثم خرج إلى قباء يعرفها ثم أقبل علي فيما أحسب شك أبو يحي فقال أتراها تعرف قال أحمد وحدثناه أبو محمد بن سعد قال حدثني أحمد بن معاوية بن بكر قال حدثني الواقدي قال كنت مع أشعب نريد المصلى فوجد ديناراً فقال لي يا بن واقد قلت ما تشاء قال وجدت دينار فما أصنع به قال قلت عرفه قال أم العلاء إذا طالق قال قلت فما تصنع به إذا قال أشتري به قطيفة أعرفها قال وحدثني محمد بن القاسم قال وحدثنيه محمد بن عثمان الكريزي عن الأصمعي أن أشعب وجد ديناراً فتحرج من أخذه دون أن يعرفه فاشترى به قطيفة ثم قام على باب المسجد الجامع فقال من يتعرف الوبدة أخبرني أحمد الجوهري قال حدثني محمد بن القاسم قال سألت العنزي فقال الوبد من كل شيء الخلق وبد الثوب وومد إذا أخلق أخبرنا أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثنا عيسى بن موسى قال حدثنا الأصمعي قال رأيت أشعب يغني وكأن صوته صوت بلبل أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا محمد بن القاسم بن عبد الله في رفقة فيها ألف محمل وكان ثم قاص عليهم فجئت فأخذت في أغنية من الرقيق فتركوه وأقبلوا إلي فجاء يشكوني إلى سالم فقال إن هذا صرف وجوه الناس عني قال وأتيت سالماً وأحسبه قال والقاسم فسألتهما بوجه الله العظيم فأعطياني وكانا يبغضانني أو أحدهما يبغضني في الله قال قلنا لا تجعل هذا في الحديث قال بلى حدثنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال وحدثناه قعنب بن محرز الباهلي قال أخبرنا الأصمعي عن أشعب قال قدم علينا قاص كوفي يقص في رفقته وفيها ألف بعير فخرجنا وأحرمنا من الشجرة بالتلبية فأقبل الناس إلي وتركوه قال ابن أم حميد فجاء إلي عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان فقال إن مولاك هذا قد ضيق علي معيشتي أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم عبد الرحمن بن الجهم عن المدائني قال تغدى أشعب مع زياد بن عبد الله الحارثي فجاؤوا بمضيرة فقال أشعب لخباز ضعها بين يدي فوضعها بين يديه فقال زياد من يصلي بأهل السجن قال ليس لهم إمام قال أدخلوا أشعب يصلي بهم قال أشعب أو غير ذلك أصلح الله الأمير قال وما هو قال أحلف ألا آكل مضيرة أبداً أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني قعنب بن المحرز قال حدثنا الأصمعي قال ولى المنصور زياد بن عبد الله الحارثي مكة والمدينة قال أشعب فلقيته بالجحفة فسلمت عليه قال فحضر الغداء وأهدي إليه جدي فطبخه مضيرة وحشيت القبة قال فأكلت أكلا أتملح به وأنا أعرف صاحبي ثم أتي بالقبة فشققتها فصاح الطباخ إنا لله شق القبة قال فانقطعت فلما فرغت قال يا أشعب هذا رمضان قد حضر ولا بد أن تصلي بأهل السجن قلت والله ما أحفظ من كتاب الله إلا ما أقيم به صلاتي قال لا بد منه قال قلت أو لا آكل جديا مضيرة قال وما أصنع به وهو في بطنك قال قلت الطريق بعيد أريد أن أرجع إلى المدينة قال يا غلام هات ريشة ذنب ديك قال أشعب والجحفة أطول بلاد الله ريشة ذنب ديك قال فأدخلت في حلقي فتقيأت ما أكلت ثم قال لي ما رأيك قال قلت لا أقيم ببلدة يصاح فيها شق القبة قال لك وظيفة على السلطان وأكره أن أكسرها عليك فقل ولا تشطط قال قلت نصف درهم كراء حمار يبلغني المدينة قال أنصفت وأعطانيه من طرائف أشعب أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرني أبو مسلم عن المدائني قال أتي أشعب بفالوذجة عند بعض الولاة فأكل منها فقيل له كيف تراها يا أشعب قال امرأته طالق إن لم تكن عملت قبل أن يوحي الله عز و جل إلى النحل أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثنا عبد الله بن شعيب الزبيري عن عمه قال أبو بكر وحدثني ابن أبي سعد قال حدثني عبد الله بن شعيب وهو أتم من هذا وأكثر كلاماً قال جاء أشعب إلى أبي بكر بن يحي من آل الزبير فشكا إليه فأمر له بصاع من تمر وكانت حال أشعب رثة فقال له أبو بكر بن يحي ويحك يا أشعب أنت في سنك وشهرتك تجيء في هذه الحال فتضع نفسك فتعطى مثل هذا اذهب فادخل الحمام فاخضب لحيتك قال أشعب ففعلت ثم جئته فألبسني ثياب صوف له وقال اذهب الآن فاطلب قال فذهبت إلى هشام بن الوليد صاحب البغلة من آل أبي ربيعة وكان رجلاً شريفاً موسراً فشكا إليه فأمر له بعشرين ديناراً فقبضها أشعب وخرج إلى المسجد وطفق كلما جلس في حلقة يقول أبو بكر بن يحي جزاه الله عني خيراً أعرف الناس بمسألة فعل بي وفعل فيقص قصته فبلغ ذلك أبا بكر فقال يا عدو نفسه فضحتني في الناس أفكان هذا جزائي أخبرنا أحمد قال قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرني محمد بن الحسين بن عبد الحميد قال حدثني شيخ أنه نظر إلى أشعب بموضع يقال له الفرع يبكي وقد خضب بالحناء فقالوا يا شيخ ما يبكيك قال لغربة هذا الجناح وكان على دار واحدة ليس بالفرع غيره أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أخبرني محمد ابن الحسين قال حدثني ابي قال نظرت إلى أشعب يسلم على رسول الله قال وهو يدعو ويتضرع قال فأدمت نظري إليه فكلما أدمت النظر إليه كلح وبث أصابعه في يده بحذائي حتى هربت فسألت عنه فقالوا هذا أشعب أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثني إسحاق بن إبراهيم بن عجلان الفهري قال إن أشعب مرّ برش قد رش من الليل في بعض نواحي المدينة فقال كأن هذا الرش كساء برنكانيُّ فلما توسطه قال أظنني والله قد صدقت وجلس يلمس الأرض أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني محمد بن الحسين قال حدثنا بعض المدنيين قال كان لأشعب خرق في بابه فينام ويخرج يده من الخرق ويطمع أن يجيء إنسان فيطرح في يديه شيئاً من الطمع أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثنا الزبير قال حدثني عبد الرحمن بن عبد الله الزهري قال صلى أشعب يوما إلى جانب مروان بن أبان بن عثمان وكان مروان عظيم الخلق والعجيزة فأفلتت منه ريح عند نهوضه لها صوت فانصرف أشعب من الصلاة فوهم الناس أنه هو الذي خرجت منه الريح فلما انصرف مروان إلى منزله جاءه أشعب فقال له الدية فقال دية ماذا فقال دية الضرطة التي تحملتها عنك والله وإلا شهرتك فلم يدعه حتى أخذ منه شيئاً صالحاً أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني إبراهيم بن الجنيد قال حدثني سوار بن عبد الله قال حدثني مهدي بن سليمان المنقري مولى لهم عن أشعب قال دخلت على القاسم بن محمد وكان يبغضني في الله وأحبه فيه فقال ما أدخلك علي اخرج عني فقلت أسألك بالله لما جددت عذقاً قال يا غلام جد له عذقاً فإنه سأل بمسألة لا يفلح من ردها أبداً أخبرنا أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثنا الرياشي قال حدثني أبو سلمة أيوب بن عمر عن المحرزي وهو أيوب بن عباية أبو سليمان قال كان لأشعب علي في كل سنة دينار قال فأتاني يوماً ببطحان فقال عجل لي ذلك الدنيار ثم قال لقد رأيتني أخرج من بيتي فلا أرجع شهراً مما آخذ من هذا وهذا وهذا أخبرنا أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني علي بن محمد النوفلي قال سمعت أبي يحكي عن بعض المدنيين قال كبر أشعب فمله الناس وبرد عندهم ونشأ ابنه فتغنى وبكى وأندر فاشتهى الناس ذلك فأخصب وأجدب أبوه فدعاه يوماً وجلس هو وعجوزه وجاء ابنه وامرأته فقال له بلغني أنك تغنيت وأندرت وحظيت وأن الناس قد مالوا إليك فهلم حتى أخايرك قال نعم فتغنى أشعب فإذا هو قد انقطع وأرعد وتغنى ابنه فإذا هو حسن الصوت مطرب وانكسر أشعب ثم أندر فكان الأمر كذلك ثم خطبا فكان الأمر كذلك فاحترق أشعب فقام فألقى ثيابه ثم قال نعم فمن أين لك مثل خلقي من لك بمثل حديثي قال وانكسر الفتى فنعرت العجوز ومن معها عليه أخبرني أحمد قال حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني علي بن الحسين بن هارون قال حدثني محمد بن عباد بن موسى قال حدثني محمد بن عبد الله بن جعفر بن سليمان وكان جارنا هنا قال حدثني محمد بن حرب الهلالي وكان على شرطة محمد بن سليمان قال دخلت على جعفر بن سليمان وعنده أشعب يحدثه قال كانت بنت حسين بن عليّ عند عائشة بنت عثمان تربيها حتى صارت امرأة وحج الخليفة فلم يبق في المدينة خلق من قريش إلا وافى الخليفة إلا من لا يصلح لشيء فماتت بنت حسين بن علي فأرسلت عائشة إلى محمد بن عمرو بن حزم وهو والي المدينة وكان عفيفاً حديداً عظيم اللحية له جارية موكلة بلحيته إذا ائتزر لا يأتزر عليها وكان إذا جلس للناس جمعها ثم أدخلها تحت فخذه فأرسلت عائشة يا أخي قد ترى ما دخل علي من المصيبة بابنتي وغيبة أهلي وأهلها وأنت الوالي فأما ما يكفي النساء من النساء فأنا أكفيكه بيدي وعيني وأما ما يكفي الرجال من الرجال فاكفنيه مر بالأسواق أن ترفع وأمر بتجويد عمل نعشها ولا يحملها إلا الفقهاء الألباء من قريش بالوقار والسكينة وقم على قبرها ولا يدخله إلا قرابتها من ذوي الحجا والفضل فأتى ابن حزم رسولها حين تغدى ودخل ليقيل فدخل عليه فأبلغه رسالتها فقال ابن حزم لرسولها أقرئ ابنة المظلوم السلام وأخبرها أني قد سمعت الواعية وأردت الركوب إليها فأمسكت عن الركوب حتى أبرد ثم أصلي ثم أنفذ كل ما أمرت به وأمر حاجبه وصاحب شرطته برفع الأسواق ودعا الحرس وقال خذوا السياط حتى تحولوا بين الناس وبين النعش إلا ذوي قرابتها بالسكينة والوقار ثم نام وانتبه وأسرج له واجتمع كل من كان بالمدينة وأتى باب عائشة حين أخرج النعش فلما رأى الناس النعش التقفوه فلم يملك ابن حزم ولا الحرس منه شيئاً وجعل ابن حزم يركض خلف النعش ويصيح بالناس من السفلة والغوغاء اربعوا أي ارفقوا فلم يسمعوا حتى بلغ بالنعش القبر فصلى عليها ثم وقف على القبر فنادى من هاهنا من قريش فلم يحضره إلا مروان بن أبان بن عثمان وكان رجلاً عظيم البطن بادناً لا يستطيع أن ينثني من بطنه سخيف العقل فطلع وعليه سبعة قمص كأنها درج بعضها أقصر من بعض ورداء عدني يثمن ألفي درهم فسلّم وقال له ابن حزم أنت لعمري قريبها ولكن القبر ضيق لا يسعك فقال أصلح الله الأمير إنما تضيق الأخلاق قال ابن حزم إنا لله ما ظننت أن هذا هكذا كما أرى فأمر أربعة فأخذوا بضبعه حتى أدخلوه في القبر ثم أتى خراء الزنج وهو عثمان بن عمرو ابن عثمان فقال السلام عليك أيها الأمير ورحمة الله ثم قال واسيدتاه وابنت أختاه فقال ابن حزم تالله لقد كان يبلغني عن هذا أنه مخنث فلم أكن أرى أنه بلغ هذا كله دلوه فإنه عورة هو والله أحق بالدفن منها فلما أدخلا قال مروان لخراء الزنج تنح إليك شيئاً فقال له خراء الزنج الحمد لله رب العالمين جاء الكلب الإنسي يطرد الكلب الوحشي فقال لهما ابن حزم اسكتا قبحكما الله وعليكما لعنته أيكما الإنسي من الوحشي والله لئن لم تسكتا لآمرن بكما تدفنان ثم جاء خال للجارية من الخاطبيين وهو ناقة من مرض لو أخذ بعوضة لم يضبطها فقال أنا خالها وأمي سودة وأمها حفصة ثم رمى بنفسه في القبر فأصاب ترقوة خراء الزنج فصاح أوه أصلح الله الأمير دق والله عرقوبي فقال ابن حزم دق الله عرقوبك وترقوتك اسكت ويلك ثم أقبل على أصحابه فقال ويحكم إني خبرت أن الجارية بادن ومروان لا يقدر أن ينثني من بطنه وخراء الزنج مخنث لا يعقل سنة ولا دفناً وهذا الحاطبي لو أخذ عصفوراً لم يضبطه لضعفه فمن يدفن هذه الجارية والله ما أمرتني بهذا بنت المظلوم فقال له جلساؤه لا والله ما بالمدينة خلق من قريش ولو كان في هؤلاء خير لما بقوا فقال من هاهنا من مواليهم فإذا أبو هانئ الأعمى وهو ظئر لها فقال ابن حزم من أنت رحمك الله قال أنا أبو هانئ ظئر عبد الله بن عمرو بن عثمان وأنا أدفن أحياءهم وأمواتهم فقال أنا في طلبك ادخل رحمك الله فادفن هؤلاء الأحياء حتى يدلى عليك الموتى ثم أقبل على أصحابه فقال إنا لله وهذا أيضاً أعمى لا يبصر فنادوا من هاهنا من مواليهم فإذا برجل يزيدي يقال له أبو موسى قد جاء فقال له ابن حزم من أنت أيضاً قال أنا أبو موسى صالمين وأنا ابن السميط سميطين والسعيد سعيدين والحمد لله رب العالمين فقال ابن حزم والله العظيم لتكونن لهم خامساً رحمك الله يا بنت رسول الله فما اجتمع على جيفة خنزير ولا كلب ما اجتمع على جثتك فإنا لله وإنا إليه راجعون وأظنه سقط رجل آخر أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني اليعقوبي محمد ابن عبد الله قال حدثني أبو بكر الزلال الزبيري قال حدثني من رأى أشعب وقد علق رأس كلبه وهو يضربه ويقول له تنبح الهدية وتبصبص للضيف أشعب يرضع جدياً لبن زوجته أخبرنا أحمد قال حدثني عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد الزبيري أبو الطاهر قال حدثني يحي بن محمد بن أبي قتيلة قال غذا أشعب جديا بلبن زوجته وغيرها حتى بلغ الغاية قال ومن مبالغته في ذلك أن قال لزوجته أي ابنة وردان إني أحب أن ترضعيه بلبنك قال ففعلت قال ثم جاء به إلى إسماعيل بن جعفر بن محمد فقال بالله إنه لابني قد رضع بلبن زوجتي وقد حبوتك به ولم أر أحداً يستأهله سواك قال فنظر إسماعيل إلى فتنة من الفتن فأمر به فذبح وسمط فأقبل عليه أشعب فقال المكافأة فقال ما عندي والله اليوم شيء ونحن من تعرف وذلك غير فائت لك فلما يئس منه قام من عنده فدخل على أبيه جعفر بن محمد ثم اندفع يشهق حتى التقت أضلاعه ثم قال أخلني قال ما معنا أحد يسمع ولا عين عليك قال وثب ابنك إسماعيل على ابني فذبحه وأنا أنظر إليه قال فارتاع جعفر وصاح ويلك وفيم وتريد ماذا قال أما ما أريد فوالله ما لي في إسماعيل حيلة ولا يسمع هذا سامع أبداً بعدك فجزاه خيراً وأدخله منزله وأخرج إليه مائتي دينار وقال له خذ هذه ولك عندنا ما تحب قال وخرج إلى إسماعيل لا يبصر ما يطأ عليه فإذا به مترسل في مجلسه فلما رأى وجه أبيه نكره وقام إليه فقال يا إسماعيل أو فعلتها بأشعب قتلت ولده قال فاستضحك وقال جاءني بجدي من صفته كذا وخبره الخبر فأخبره أبوه ما كان منه وصار إليه قال فكان جعفر يقول لأشعب رعبتني رعبك الله فيقول روعة ابنك والله إياي في الجدي أكبر من روعتك أنت في المائتي الدينار أخبرنا أحمد قال حدثنا عبد الله بن عمرو بن أبي سعد قال حدثني محمد بن إسحاق المسيبي قال حدثني عمير بن عبد الله بن أبي بكر بن سليمان ابن أبي خيثمة قال وعمير لقب واسمه عبد الرحمن عن أشعب قال أتيت خالد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان ليلة أسأله فقال لي أنت على طريقة لا أعطي على مثلها قلت بلى جعلت فداءك فقال قم فإن قدر شيء فسيكون قال فقمت فإني لفي بعض سكك المدينة إذ لقيني رجل فقال يا أشعب إن كان الله قد ساق إليك رزقاً فما أنت صانع قلت أشكرالله وأشكر من فعله قال كم عيالك فأخبرته قال قد أمرت أن أجري عليك وعلى عيالك ما كنت حياً قال من أمرك قال لا أخبرك ما كانت هذه فوق هذه يريد السماء وأشار إليها قال قلت إن هذا معروف يشكر قال الذي أمرني لم يرد شكرك وهو يتمنى ألا يصل مثلك قال فمكثت آخذ ذلك إلى أن توفي خالد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان قال فشهدته قريش وحفل له الناس قال فشهدته فلقيني ذلك الرجل فقال يا أشعب انتف رأسك ولحيتك هذا والله صاحبك الذي كان يجري عليك ما كنت أعطيك وكان والله يتمنى مباعدة مثلك قال فحمله والله الكرم إذ سألته أن فعل بك ما فعل قال عمير قال أشعب فعملت بنفسي والله حينئذٍ ما حل وحرم أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا الزبير ابن بكار قال كان أشعب يوماً في المسجد يدعو وقد قبض وجهه فصيره كالصبرة المجموعة فرآه عامر بن عبد الله بن الزبير فحصبه وناداه يا أشعب إذا تناجي ربك فناجه بوجه طلق قال فأرخى لحيه حتى وقع على زوره قال فأعرض عنه عامر وقال ولا كل هذا أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثني الزبير قال حدثني مصعب قال جز أشعب لحيته فبعث إليه نافع بن ثابت بن عبد الله بن الزبير ألم أقل لك إن البطال أملح ما يكون إذا طالت لحيته فلا تجزر لحيتك طرائف من طمع أشعب وبخله أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال حدثنا أبو الحسن أحمد ابن يحي قال أخبرنا أبو الحسن المدائني قال وقف أشعب على امرأة تعمل طبق خوص فقال لتكبريه فقالت لم أتريد أن تشتريه قال لا ولكن عسى أن يشتريه إنسان فيهدي إلي فيه فيكون كبيرا خير من أن يكون صغيراً أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا أحمد بن يحي قال أخبرنا المدائني قال صديقة أشعب لأشعب هب لي خاتمك أذكرك به قال اذكريني أني منعتك إياه فهو أحب إلي أخبرني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال قال أشعب مرة للصبيان هذا عمرو بن عثمان يقسم مالا فمضوا فلما أبطأوا عنه اتبعهم يحسب أن الأمر قد صار حقا كما قال أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا أحمد بن يحي قال أخبرنا المدائني قال دعا زياد بن عبد الله أشعب فتغدّى معه فضرب بيده إلى جدي بين يديه وكان زياد أحد البخلاء بالطعام فغاظه ذلك فقال لخدمه أخبروني عن أهل السجن ألهم إمام يصلي بهم وكان أشعب من القراء لكتاب الله تعالى قالوا لا قال فأدخلوا أشعب فصيروه إماماً لهم قال أشعب أو غير ذلك قالو وما هو قال أحلف لك أصلحك الله ألا أذوق جديا أبداً فخلاه أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال رأيت أشعب بالمدينة يقلب مالا كثيرا فقلت له ويحك ما هذا الحرص ولعلك أن تكون أيسر ممن تطلب منه قال إني قد مهرت في هذه المسألة فأنا أكره أن أدعها فتنفلت مني أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال قيل لأشعب ما بلغ من طمعك قال ما رأيت اثنين يتساران قط إلا كنت أراهما يأمران لي بشيء أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال قال أشعب لأمه رأيتك في النوم مطلية بعسل وأنا مطلي بعذرة فقالت يا فاسق هذا عملك الخبيث كساكه الله عز و جل قال إن في الرؤيا شيئاً آخر قالت ما هو قال رأيتني ألطعك وأنت تلطعيني قالت لعنك الله يا فاسق أخبرنا أحمد قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال كان أشعب يتحدث إلى امرأة بالمدينة حتى عرف ذلك فقالت لها جاراتها يوما لو سألته شيئاً فإنه موسر فلما جاء قالت إن جاراتي ليقلن لي ما يصلك بشيء فخرج نافراً من منزلها فلم يقربها شهرين ثم إنه جاء ذات يوم فجلس على الباب فأخرجت إليه قدحاً ملآن ماء فقالت اشرب هذا من الفزع فقال اشربيه أنت من الطمع أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم وأحمد بن يحي واللفظ لأحمد قال أخبرنا المدائني عن جهم بن خلف قال حدثني رجل قال قلت لأشعب لو تحدثت عندي العشية فقال أكره أن يجيء ثقيل قال قلت ليس غيرك وغيري قال فإذا صليت الظهر فأنا عندك فصلى وجاء فلما وضعت الجارية الطعام إذا بصديق لي يدق الباب فقال ألا ترى قد صرت إلى ما أكره قال قلت إن عندي فيع عشر خصال قال فما هي قال أولها أنه لا يأكل ولا يشرب قال التسع الخصال لك أدخله قال أبو مسلم إن كرهت واحدة منها لم أدخله أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال دخل أشعب يوماً على الحسين بن علي وعنده أعرابي قبيح المنظر مختلف الخلقة فسبح أشعب حين رآه وقال للحسين عليه السلام بأبي أنت وأمي أتأذن لي أن أسلح عليه فقال الأعرابي ما شئت ومع الأعرابي قوس وكنانة ففوق له سهما وقال والله لئن فعلت لتكونن آخر سلحة سلحتها قال أشعب للحسين جعلت فداءك قد أخذني القولنج أخبرنا أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال ذكر أشعب بالمدينة رجلاً قبيح الإسم فقيل له يا أبا العلاء أتعرف فلاناً قال ليس هذا من الأسماء التي عرضت على آدم وجدت في بعض الكتب عن أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال توضأ أشعب فغسل رجله اليسرى وترك اليمنى فقيل له لم تركت غسل اليمنى قال لأن النبي قال أمتي غر محجلون من آثار الوضوء وأنا أحب أن أكون أغر محجلاً مطلق اليمنى وأخبرت بهذا الإسناد قال سمع أشعب حبى المدينّية تقول اللهم لا تمتني حتى تغفر لي ذنونبي فقال لها يا فاسقة أنت لم تسألي الله المغفرة إنما سألته عمر الأبد يريد أنه لا يغفر لها أبداً أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا المدائني عن فليح بن سليمان قال ساوم أشعب رجلاً بقوس عربية فقال الرجل لا أنقصها عن دينار قال أشعب أعتق ما أملك لو أنها إذا رمي بها طائر في جو السماء ووقع مشوياً بين رغيفين مأخذتها بدينار أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا مسلم قال أخبرنا المدائني قال أهدى رجل من بني عامر بن لؤي إلى إسماعيل الأعرج بن جعفر بن محمد فالوذجة وأشعب حاضر قال كل يا أشعب فلما أكل منها قال كيف تجدها يا أشعب قال أنا برىء من الله ورسوله إن لم تكن عملت قبل أن يوحي الله عز و جل إلى النحل أي ليس فيها من الحلاوة شيء أخبرنا أحمد قال حدثنا محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرنا المدائني قال سأل سالم بن عبد الله أشعب عن طعمه قال قلت لصبياني مرة هذا سالم قد فتح باب صدقة عمر فانطلقوا يعطكم تمراً فمضوا فلما أبطأوا ظننت أن الأمر كما قلت فاتبعتهم أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثني محمد بن القاسم قال أخبرنا أبو مسلم قال أخبرني المدائني قال بينا أشعب يوماً يتغدى إذ دخلت جارة له ومع أشعب امرأته تأكل فدعاها ليتغدّى فجاءت الجارة فأخذت العرقوب بما عليه قال وأهل المدينة يسمونه عرقوب رب البيت قال فقام أشعب فخرج ثم عاد فدفق الباب فقالت له أمرأته يا سخين العين مالك قال أدخل قالت أتستأذن أنت وأنت رب البيت قال لو كنت رب البيت ما كانت العرقوب بين يدي هذه أخبرني بعض أصحابنا قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير قال حدثني مصعب قال قال لي ابن كليب حدثت مرة أشعب بملحة فبكى فقلت ما يبكيك قال أنا بمنزلة شجرة الموز إذا نشأت ابنتها قطعت وقد نشأت أنت في موالي وأنا الآن أموت فإنما أبكي على نفسي أخبرني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا ابن مهرويه قال حدثنا الزبير بن بكار قال كان أشعب الطمع يغني وله أصوات قد حكيت عنه وكان ابنه عبيدة يغنيها فمن أصواته هذه ( أروني مَن يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمرُ جلّ عن الخِطابِ ) ( إلى مَن تَفزعون إذا حَثوتُم ... بأيديكم عليّ من الترابِ ) أشعب وسكينة بنت الحسين أخبرني الحسن بن علي الحفاف قال حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا شعيب بن عبيدة بن أشعب عن أبيه عن جده قال كانت سكينة بنت الحسين بن علي عليهم السلام عند زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان قال وقد كانت أحلفته ألا يمنعها سفراً ولا مدخلاً ولا مخرجاً فقالت اخرج بنا إلى حمران من ناحية عسفان فخرج بها فأقامت ثم قالت له اذهب بنا نعتمر فدخل بها مكة فأتاني آت فقال تقول لك ديباجة الحرم وهي امرأة من ولد عتاب بن أسيد لك عشرون ديناراً إن جئتني بزيد ابن عمرو الليلة في الأبطح قال أشعب وأنا أعرف سكينة وأعلم ما هي ثم غلب علي طباع السوء والشره فقلت لزيد فيما بيني وبينه إن ديباجة الحرم أرسلت إلي بكيت وكيت فقال عدها الليلة بالأبطح فأرسلت إليها فواعدتها الأبطح وإذا الديباجة قد افترشت بساطاً في الأبطح وطرحت النمارق ووضعت حشايا وعليها أنماط فجلست عليها فلما طلع زيد قامت إليه فتلقته وسلمت عليه ثم رجعت إلى مجلسها فلم ننشب أن سمعنا شحيج بغلة سكينة فلما استبانها زيد قام فأخذ بركابها واختبأت ناحية فقامت الديباجة إلى سكينة فتلقتها وقبلت بين عينيها وأجلستها على الفراش وجلست هي على بعض النمارق فقالت سكينة أشعب والله صاحب هذا الأمر ولست لأبي إن لم يأت يصيح صياح الهرة لن يقوم لي بشيء أبداً فطلعت على أربع أصيح صياح الهرة ثم دعت جارية معها مجمر كبير فحفنت منه وأكثرت وصبت في حجر الديباجة وحفنت لمن معها فصبته في حجورهن وركبت وركب زيد وأنا معهم فلما صارت إلى منزلها قالت لي يا أشعب أفعلتها قلت جعلت فداءك إنما جعلت لي عشرين دينارا وقد عرفت طمعي وشرهي والله لو جعلت لي العشرين ديناراً على قتل أبوي لقتلتهما قال فأمرت بالرحيل إلى الطائف فأقامت بالطائف وحوطت من ورائها بحيطان ومنعت زيداً أن يدخل عليها قال ثم قالت لي يوماً قد أثمنا في زيد وفعلنا ما لا يحل لنا ثم أمرت بالرحيل إلى المدينة وأذنت لزيد فجاءها قال الزبير وحدثني عبد الله بن محمد بن أبي سلمة قال جاء أشعب إلى مجلس أصحابنا فجلس فيه فمرت جارية لأحدهم بحزمة عراجين من صدقة عمر فقال له أشعب فديتك أنا محتاج إلى حطب فمر لي بهذه الحزمة قال لا ولكن أعطيك نصفها على أن تحدثني بحديث ديباجة الحرم فكشف أشعب ثوبه عن استه واستوفز وجعل يخنس ويقول إن لهذا زماناً وجلعت خصيتاه تخطان الأرض ثم اقل أعطاني والله فلان في حديث ديباجة الحرم عشرين ديناراً وأعطاني فلان كذا وأعطاني فلان كذا حتى عد أموالاً وأنت الآن تطلبها مني بنصف حزمة عراجين ثم قام فانصرف وفي ديباجة الحرم يقول عمر بن أبي ربيعة صوت ( ذَهبتَ ولم تُلم بديباجة الحرمْ ... وقد كنتَ منها في عَناءٍ وفي سَقمْ ) ( جُنِنْتَ بها لمّا سمعتَ بذكرها ... وقد كنتَ مجنوناً بجاراتها القُدُمْ ) ( إذا أنتَ لم تعشق ولم تدرِ ما الهوى ... فكن حجراً بالحزْن من حَرَّةٍ أصمّْ ) غناه مالك بن أبي السمح من رواية يونس عن حبيش قال الزبير وحدثني شعيب بن عبيدة عن أبيه قال دخل رجل من قريش على سكينة بنت الحسين عليهما السلام قال فإذا أنا بأشعب متفحج جالس تحت السرير فلما رآني جعل يقرقر مثل الدجاجة فجعلت أنظر إليه وأعجب فقالت مالك تنظر إلى هذا قلت إنه لعجب قالت إنه لخبيث قد أفسد علينا أمورنا بغباوته فحضنته بيض دجاج ثم أقسمت أنه لا يقوم عنه حتى ينفق وهذا الخبر عندنا غير مشروح ولكن هذا ما سمعناه ونسخته على الشرح من أخبار إبراهيم بن المهدي التي رواها عنه يوسف ابن إبراهيم وقد ذكر في أخبار سكينة وروى عن أحمد بن الحسن البزار وجدت بخط ابن الوشاء عن أبي الوشاء عن الكديمي عن أبي عاصم قال قيل لأشعب الطامع أرأيت أحداً قط أطمع منك قال نعم كلباً يتبعني أربعة أميال على مضغ العلك أخبرني الحرمي بن أبي العلاء وعمي عبد العزيز بن أحمد وحبيب بن نصر المهلبي قالوا حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني مصعب عن عثمان بن المنذر عن عبيد الله بن أبي بشر بن عثمان بن المغيرة قال سمعت جلبة شديدة مقبلة من البلاط وأسرعت فإذا جماعة مقبلة وإذا امرأة قد فرعتهم طولاً وإذا أشعب بين أيديهم بكفه دف وهو يغني به ويرقص ويحرف استه ويحركها ويقول ( ألا حيِّ التي خرجت ... قُبيلَ الصّبح فاختمرتْ ) ( يقال بعينها رَمَدٌ ... ولا واللهِ ما رمِدتْ ) فإذا تجاوز في الرقص الجماعة رجع إليهم يخالطهم ويستقبل المرأة فيغني في وجهها وهي تبسم وتقول حسبك الآن فسألت عنها فقالوا هذه جارية صريم المغنية استلحقها صريم عند موته واعترف بأنهها بنته فحاكمت ورثته إلى السلطان فقامت لها البينة فألحقها به وأعطاها الميراث منه وكانت أحسن خلق الله غناء كان يضرب بها المثل في الحجاز فيقال أحسن من غناء الصريمية أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الدمشقي قال حدثنا الزبير بن بكار قال وحدثني أبي قال اجتازت جنازة الصريمية بأشعب وهو جالس في وقوم من قريش فبكى عليها ثم قال ذهب اليوم الغناء كله وعلى أنها الزانية كانت لا رحمها الله شر خلق الله فقيل يا أشعب ليس بين بكائك عليها ولعنك إياها فصل في كلامك قال نعم كنا نجيئها الفاجرة بكبش فيطبخ لنا في دارها ثم لا تعشينا يشهد الله إلا بسلق أشعب والغاضري أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن زهير قال قال حدثنا مصعب بلغ أشعب أن الغاضري قد أخذ في مثل مذهبه ونوادره وأن جماعة قد استطابوه فرقبه حتى علم أنه في مجلس من مجالس قريش يحادثهم ويضحكهم فصار إليه ثم قال له قد بلغني أنك قد نحوت نحوي وشغلت عني من كان يألفني فإن كنت مثلي فافعل كما أفعل ثم غضن وجهه وعرضه وشنجه حتى صار عرضه أكثر من طوله وصار في هيئة لم يعرفه أحد بها ثم أرسل وجهه وقال له افعل هكذا وطول وجهه حتى كاد ذقنه يجوز صدره وصار كأنه وجه الناظر في سيفه ثم نزع ثيابه وتحادب فصار في ظهره حدبة كسنام البعير وصار طوله مقدار شبر أو أكثر ثم نزع سراويله وجعل يمد جلد خصييه حتى حك بهما الأرض ثم خلاهما من يده ومشى وجعل يخنس وهما يخطان الأرض ثم قام فتطاول وتمدد وتمطى حتى صار أطول ما يكون من الرجال فضحك والله القوم حتى أغمي عليهم وقطع الغاضري فما تكلم بنادرة ولا زاد على أن يقول يا أبا العلاء لا أعاود ما تكره إنما أنا تلميذك وخريجك ثم أنصرف أشعب وتركه أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم عن إبراهيم بن المهدي عن عبيدة بن أشعب عن أبيه أنه كان مولده في سنة تسع من الهجرة وأن أباه كان من مماليك عثمان وأن أمه كانت تنقل كلام أزواح النبي بعضهن إلى بعض فتلقي بينهن الشر فتأذى رسول الله فدعا الله عز و جل عليها فأماتها وعمر ابنها أشعب حتى هلك في أيام المهدي وكان في أشعب خلال منها أنه كان أطيب أهل زمانه عشرة وأكثرهم نادرة ومنها أنه كان أحسن الناس أداء لغناء سمعه ومنها أنه أقوم أهل دهره بحجج المعتزلة وكان أمرأً منهم قال إبراهيم بن المهدي فحدثني عبيدة بن أشعب عن أبيه قال بلغني أن عبد الله بن عمر كان في مال له يتصدق بثمرته فركبت ناضحاً ووافيته في ماله فقلت يا بن أمير المؤمنين ويا بن الفاروق أوقر لي بعيري هذا تمراً فقال لي أمن المهاجرين أنت قلت اللهم لا قال فمن الأنصار أنت فقلت اللهم لا قال أفمن التابعين بإحسان فقلت أرجو فقال إلى أن يحقق رجاؤك قال أفمن أبناء السبيل أنت قلت لا قال فعلام أوقر لك بعيرك تمراً قلت لأني سائل وقد قال رسول الله ( إن أتاك سائل على فرس فلا ترده ) فقال لو شئنا أن نقول لك إنه قال لو أتاك على فرس ولم يقل أتاك على ناضح بعير لقلنا ولكني أمسك عن ذلك لاستغنائي عنه لأني قلت لأبي عمر بن الخطاب إذا أتاني سائل على فرس يسألني أعطيته فقال إني سألت رسول الله عما سألتني عنه فقال لي نعم إذا لم تصب راجلاً ونحن أيها الرجل نصيب رجالة فعلام أعطيك وأنت على بعير فقلت له بحق أبيك الفاروق وبحق الله عز و جل وبحق رسول الله صلى الله علية وآله وسلم لما أوقرته لي تمراً فقال لي عبد الله أنا موقره لك تمراً ووحق الله ووحق رسوله لئن عاودت استحلافي لا أبررت لك قسمك ولو أنك اقتصرت على استحلافي بحق أبي علي في تمرة أعطيكها لما أنفذت قسمك لأني سمعت أبي يقول إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لا تشد الرحال إلى مسجد لرجاء الثواب إلا إلى المسجد الحرام ومسجدي بيثرب ولا يبر امرؤ قسم مستحلفه إلا أن يستحلفه بحق الله وحق رسوله ثم قال للسودان في تلك الحال أوقروا له بعيره تمراً قال ولما أخذ السودان في حشو الغرائر قلت إن السودان أهل طرب وإن أطربتهم أجادوا حشو غرائري فقلت يا بن الفاروق أتأذن لي في الغناء فأغنيك فقال لي أنت وذلك فاندفعت في النصب فقال لي هذا الغناء الذي لم نزل نعرفه ثم غنيته صوتاً آخر لطويس المغني وهو ( خليلَيَّ ما أُخفِي من الحب ناطِقٌ ... ودمْعي بما قلتُ الغَداةَ شهيدُ ) فقال لي عبد الله يا هناه لقد حدث في هذا المعنى ما لم نكن نعرفه قال ثم غنيته لابن سريج ( يا عينُ جودي بالدموع السِّفاحْ ... وابْكي على قَتْلَى قُريشِ البِطاحْ ) فقال يا أشْعبَ ويحك هذا يَحْيِقُ الفؤاد أراد يحرق الفؤاد لأنه كان ألثغ لا يبين بالراء ولا باللام قال أشعب وكان بعد ذلك لا يراني إلا استعادني هذا الصوت أخبرني الحرمي بن أبي العلاء حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال لقي أشعب صديق لأبيه فقال له ويحك يا أشعب كان أبوك ألحى وأنت أثط فإلى من خرجت قال إلى أمي أخبرني الحسن بن علي قال أخبرنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب بن عبد الله عن مصعب بن عثمان قال لقي أشعب سالم بن عبد لله بن عمر فقال يا أشعب هل لك في هريس قد أعد لنا قال نعم بأبي أنت وأمي قال فصر إلي فمضى إلى منزله فقالت له امرأته قد وجه إليك عبد الله بن عمرو بن عثمان يدعوك قال ويحك إن لسالم بن عبد الله هريسة قد دعاني إليها وعبد الله بن عمرو في يدي متى شئت وسالم إنما دعوته للناس فلتة وليس لي بد من المضي إليه قالت إذاً يغضب عبد الله قال آكل عنده ثم أصير إلى عبد الله فجاء إلى سالم وجعل يأكل أكل متعالل فقال له كل يا أشعب وابعث ما فضل عنك إلى منزلك قال ذاك أردت بأبي أنت وأمي فقال يا غلام احمل هذا إلى منزله فحمله ومضى معه فجاء به امرأته فقالت له ثكلتك أمك قد حلف عبد الله أن لا يكلمك شهراً قال دعيني وإياه هاتي شيئاً من زعفران فأعطته ودخل الحمام يمسح على وجهه ويديه وجلس في الحمام حتى صفره ثم خرج متكئاً على عصا يرعد حتى أتى دار عبد الله بن عمرو فلما رآه حاجبه قال ويحك بلغت بك العلة ما أرى ودخل وأعلم صاحبه فأذن له فلما دخل عليه إذا سالم بن عبد الله عنده فجعل يزيد في الرعدة ويقارب الخطو فجلس وما يقدر أن يستقل فقال عبد الله ظلمناك يا أشعب في غضبنا عليك فقال له سالم مالك ويلك ألم تكن عندي آنفاً وأكلت هريسة فقال له وأي أكل ترى بي قال ويلك ألم أقل لك كيت وكيت وتقل لي كيت وكيت قال له شبه لك قال لا حول ولا قوة إلا بالله والله إني لأظن الشيطان يتشبه بك ويلك أجاد أنت قال علي وعلي إن كنت خرجت منذ شهر فقال له عبد الله أعزب ويحك أتبهته لا أم لك قال ما قلت إلا حقاً قال بحياتي اصدقني وأنت آمن من غضبي قال لا وحياتك لقد صدق ثم حدثه بالقصة فضحك حتى استلقى على قفاه ابنه عبد الله يذكر بعض طرائفه أخبرني رضوان بن أحمد بن يوسف بن إبراهيم عن إبراهيم بن المهدي أن الرشيد لما ولاه دمشق بعث إليه عبد الله بن أشعب وكان يقدم عليه من الحجاز إذا أراد أن يطرب قال إبراهيم وكان يحدثني من حديث أبيه بالطرائف عادلته يوماً وأنا خارج من دمشق في قبة على بغل لألهو بحديثه فأصابنا في الطريق برد شديد فدعوت بدواج سمور لألبسه فأتيت به فلما لبسته أقبلت على ابن اشعب فقلت حدثني بشيء من طمع ابيك فقال لي مالك ولأبي ها أنا إذ دعوت بالدواج فما شككت والله في أنك إنما جئت به لي فضحكت من قوله ودعوت بغيره فلبسته وأعطيته إياه ثم قلت له ألأبيك ولد غيرك فقال كثير فقلت عشرة قال أكثر قلت فخمسون قال أكثر كثير قلت مائة قال دع المئين وخذ الألوف فقلت ويلك أي شيء تقوله أشعب أبوك ليس بينك وبينه أب فكيف يكون له ألوف من الولد فضحك ثم قال لي في هذا خبر ظريف فقلت له حدثني به فقال كان أبي منقطعاً إلى سكينة بنت الحسين وكانت متزوجة بزيد بن عمرو بن عثمان بن عفان وكانت محبة له فكان لا يستقر معها تقول له أريد الحج فيخرج معها فإذا أفضوا إلى مكة تقول أريد الرجوع إلى المدينة فإذا عاد إلى المدينة قالت أريد العمرة فهو معها في سفر لا ينقضي قال عبد الله فحدثني أبي قال كانت قد حلفته بما لا كفارة له ألا يتزوج عليها ولا يتسرى ولا يلم بنسائه وجواريه إلا بإذنها وحج الخليفة في سنة من السنين فقال لها قد حج الخليفة ولا بد لي من لقائه قالت فاحلف بأنك لا تدخل الطائف ولا تلم بجواريك على وجه ولا سبب فحلف لها بما رضيت به من الأيمان على ذلك ثم قالت له احلف بالطلاق فقال لا أفعل ولكن ابعثي معي بثقتك فدعتني وأعطتني ثلاثين ديناراً وقالت لي اخرج معه وحلفتني بطلاق بنت وردان زوجتي ألا اطلق له الخروج إلى الطائف بوجه ولا سبب فحلفت لها بما أثلج صدرها فأذنت له فخرج وخرجت معه فلما حاذينا الطائف قال لي يا أشعب أنت تعرفني وتعرف صنائعي عندك وهذه ثلاثمائة دينار خذها بارك الله لك فيها وأذن لي ألم بجواري فلما سمعتها ذهب عقلي ثم قلت يا سيدي هي سكينة فالله الله في فقال أو تعلم سكينة الغيب فلم يزل بي حتى أخذتها وأذنت له فمضى وبات عند جواريه فلما أصبحنا رأيت أبيات قوم من العرب قريبة منا فلبست حلة وشيءٍ كانت لزيد قيمتها ألف دينار وركبت فرسه وجئت إلى النساء فسلمت فرددن ونسبنني فانتسبت نسب زيد فحادثني وأنسن بي وأقبل رجال الحي وكلما جاء رجل سأل عن نسبي فخبر به هابني وسلم علي وعظمني وانصرف إلى أن أقبل شيخ كبير منكر مبطون فلما خبر بي وبنسبي شال حاجبيه عن عينه ثم نظر إلي وقال وأبي ما هذه خلقة قرشي ولا شمائله وما هو إلا عبد لهم ناد وعلمت أنه يريد شراً فركبت الفرس ثم مضيت ولحقني فرماني بسهم فما أخطأ قربوس السرج وما شككت أنه يلحقني بآخر يقتلني فسلحت يعلم الله في ثيابي فلوثها ونفذ إلى الحلة فصيرها شهرة وأتيت رحل زيد بن عمرو فجلست أغسل الحلة وأجففها وأقبل زيد بن عمرو فرأى ما لحق الحلة والسرج فقال لي ما القصة ويلك فقلت يا سيدي الصدق أنجى وحدثته الحديث فاغتاظ ثم قال لي ألم يكفك أن تلبس حلتي وتصنع بها ما صنعت وتركب فرسي وتجلس إلى النساء حتى انتسبت بنسبي وفضحتني وجعلتني عند العرب ولاجا جماشا وجرى عليك ذل نسب إلي أنا نفي من أبي ومنسوب إلى أبيك إن لم أسؤك وأبلغ في ذلك ثم لقي الخليفة وعاد ودخلنا إلى سكينة فسألته عن خبره كله فخبرها حتى انتهى إلى ذكر جواريه فقالت إيه وما كان من خبرك قي طريقك هل مضيت إلى جواريك بالطائف فقال لها لا أدري سلي ثقتك فدعتني فسألتني وبدأت فحلفت لها بكل يمين محرجة أنه ما مرّ بالطائف ولا دخلها ولا فارقني فقال لها اليمين التي حلف بها لازمة لي إن لم أكن دخلت الطائف وبت عند جواري وغسلتهن جميعا وأخذ مني ثلاثمائة دينار وفعل كذا وكذا وحدثها الحديث كله وأراها الحلة والسرج فقالت لي أفعلتها يا أشعب أنا نفية من أبي إن أنفقتها إلا فيما يسوءك ثم أمرت بكبس منزلي وإحضارها الدنانير فأحضرت فاشترت بها خشبا وبيضاً وسرجينا وعملت من الخشب بيتاً فحبستني فيه وحلفت ألا أخرج منه ولا أفارقه حتى أحضن البيض كله إلى أن ينقب فمكثت أربعين يوماً أحضن لها البيض حتى نقب وخرج منه فراريج كثيرة فربتهن وتناسلن فكن بالمدينة يسمين بنات أشعب ونسل أشعب فهؤلاء إلى الآن بالمدينة نسل يزيد على الألوف كلهن أهلي وأقاربي قال إبراهيم فضحكت والله من قوله ضحكاً ما أذكر أني ضحكت مثله قط ووصلته ولم يزل عندي زماناً حتى خرج إلى المدينة وبلغني أنه مات هناك أخبرني أحمد قال حدثنا مصعب بن عبد الله بن عثمان قال قال رجل لأشعب إن سالم بن عبد الله قد مضى إلى بستان فلان ومعه طعام كثير فبادر حتى لحقه فأغلق الغلام الباب دونه فتسور عليه فصاح به سالم بناتي ويلك بناتي فناداه أشعب ( لقد علمت مالنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد ) فأمر بالطعام فأخرج إليه منه ما كفاه أشعب يقوقئ مثل الدجاجة أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن سعيد قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال بعثت سكينة إلى أبي الزناد فجاءها تستفتيه في شيء فاطلع أشعب عليه من بيت وجعل يقوقئ مثل ما تقوقئ الدجاجة قال فسبح أبو الزناد وقال ما هذا فضحكت وقالت إن هذا الخبيث أفسد علينا بعض أمرنا فحلفت أن يحضن بيضاً في هذا البيت ولا يفارقه حتى ينقب فجعل أبو الزناد يعجب من فعلها وقد أخبرني محمد بن جعفر النحوي بخبر سكينة الطويل على غير هذه الرواية وهو قريب منها وقد ذكرته في أخبار سكينة بنت الحسين مفردا عن أخبار أشعب هذه في أخبارها مع زيد بن عمرو بن عثمان بن عفان أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي خيثمة قال حدثنا مصعب قال حدثني بعض المدنيين قال كان لأشعب خرق في بابه فكان ينام ثم يخرج يده من الخرق يطمع في أن يجيء إنسان يطرح في يده شيئاً من شدة الطمع فبعث إليه بعض من كان يعبث به من مجان آل الزبير بعبد له فسلح في يده فلم يعد بعدها إلى أن يخرج يده وأخبرني به الجوهري عن ابن مهرويه عن محمد بن الحسن عن مصعب عن بعض المدنيين فذكر نحوه ولم يذكر ما فعل به الماجن أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد الزبيري أبو طاهر قال حدثنا يحي بن محمد بن أبي قتيلة قال حدثني إسماعيل بن جعفر بن محمد الأعرج أن أشعب حدثه قال جاءني فتية من قريش فقالوا إنا نحب أن تسمع سالم بن عبد الله بن عمر صوتا من الغناء وتعلمنا ما يقول لك وجعلوا لي على ذلك جعلا فتنني فدخلت على سالم فقلت يا أبا عمر إن لي مجالسة وحرمة ومودة وسناً وأنا مولع بالترنم قال وما الترنم قلت الغناء قال في أي وقت قلت في الخلوة ومع الإخوان في المنزه فأحب ان أسمعك فإن كرهته أمسكت عنه وغنيتُه فقال ما أرى بأساً فخرجت فأعلمتهم قالوا وأي شيء غنيته قلت غنيته ( قَرِّبا مَربَطَ النّعَامَةِ مِنّي ... لَقَحتْ حربُ وائلٍ عن حِيالي ) فقالوا هذا بارد ولا حركة فيه ولسنا نرضى فلما رأيت دفعهم إياي وخفت ذهاب ما جعلوه لي رجعت فقلت يا أبا عمر آخر فقال مالي ولك فلم أملكه كلامه حتى غنيت فقال ما رأى بأساً فخرجت إليهم فأعلمتهم فقالوا وأي شيء غنيته فقلت غنيته قوله ( لم يُطيقوا أن يَنْزِلوا ونَزلنا ... وأخو الحرب مَنْ أطاق النِّزالا ) فقالوا ليس هذا بشيء فرجعت إليه فقال مه قلت وآخر فلم أملكه أمره حتى غنيت ( غَيَّضْن من عَبَراتِهنّ وقَلنَ لي ... ماذا لَقِيتَ من الهوى ولَقِينا ) فقال نهلا نهلا فقلت لا والله إلا بذاك السداك وفيه تمر عجوة من صدقة عمر فقال هو لك فخرجت به عليهم وأنا أخطر فقالوا مه فقلت غنيت الشيخ ( غَيَّضْن من عَبراتِهنّ وقُلْنَ لي ... . . . . ) فطرب وفرض لي فأعطاني هذا وكذبتهم والله ما أعطانيه إلا استكفافاً حتى صمت قال ابن أبي سعد السداك الزبيل الكبير وفرض لي أي نقطني يعني ما يهبه الناس للمغنين ويسمونه النقط أشعب المغني حدثني الجوهري قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني قعنب بن المحرز عن الأصمعي قال حدثني جعفر بن سليمان قال قدم أشعب أيام أبي جعفر فأطاف به فتيان بني هاشم وسألوه أن يغنيهم فغنى فإذا ألحانه مطربة وحلقه على حاله فقال له جعفر بن المنصور لمن هذا الشعر والغناء ( لِمَن طَلَلٌ بذاتِ الجَيْش ... أمسى دارساً خَلَقا ) فقال له أخذت الغناء عن معبد وهو للدلال ولقد كنت آخذ اللحن عن معبد فإذا سئل عنه قال عليكم بأشعب فإنه أحسن تأدية له مني أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن عبد الله بن مصعب قال قدم جرير المدينة فاجتمع إليه الناس يستنشدونه ويسألونه عن شعره فينشدهم ويأخذون عنه وينصرفون ولزمه أشعب من بينهم فلم يفارقه فقال له جرير أراك أطولهم جلوساً وأكثرهم سؤالاً وإني لأظنك ألأمهم حسباً فقال له يا أبا حزرة أنا والله أنفعهم قال وكيف ذلك قال أنا آخذ شعرك فأحسنه وأجوده قال كيف تحسنه وتجوده قال فاندفع فغناه في شعره والغناء لابن سريج صوت يا أختَ ناجِيَة السلامُ عليكم ... قبلَ الرحيلِ وقبل لَوْمِ العُذَّل ) ( لو كنتُ أعلمُ أن آخر عَهْدكم ... يوم الرّحيل فعلْتُ ما لم أفْعلِ ) قال فطرب جرير حتى بكى وجعل يزحف إليه حتى لصقت ركبته بركبته وقال أشهد أنك تحسنه وتجوده فأعطاه من شعره ما أراد ووصله بدنانير وكسوة حدثني أحمد بن عبد العزيز قال حدثنا محمد بن القاسم قال حدثني أبي قال الهيثم بن عدي لقيت أشعب فقلت له كيف ترى أهل زمانك هذا قال يسألونك عن أحاديث الملوك ويعطون إعطاء العبيد حدثني أحمد قال حدثني محمد بن القاسم حدثنا أحمد بن يحي قال أخبرنا مصعب قال حجت أم عمر بنت مروان فاستحجبت أشعب وقالت له أنت أعرف الناس بأهل المدينة فأذن لهم على مراتبهم وجلست لهم مليا ثم قامت فدخلت القائلة فجاء طويس فقال لأشعب استأذن لي على أم عمر فقال ما زالت جالسة وقد دخلت فقال له يا أشعب ملكت يومين فلم تفت بعرتين ولم تقطع شعرتين فدق أشعب الباب ودخل إليها فقال لها أنشدك الله يا بنة مروان هذا طويس بالباب فلا تتعرضي للسانه ولا تعرضيني فأذنت له فلما دخل إليها قال لها والله لئن كان بابك غلقاً لقد كان باب أبيك فلقاً ثم أخرج دفه ونقر به وغنى ( ما تمنعني يَقظى فقد تُؤْتَيْنَه ... في النَّوم غير مُصَرَّد محسوبِ ) ( كان المُنَى بلقائها فَلِقيتُها ... فلهوتُ من لهو امرئٍ مكذوبِ ) قالت أيهما أحب إليك العاجل أم الآجل فقال عاجل وآجل فأمرت له بكسوة أخبرني الجوهري قال حدثني ابن مهرويه عن أبي مسلم عن المدائني قال حدث رجل من أهل المدينة أشعب بحديث أعجبه فقال له في حديثك هذا شيء قال وما هو تقلبيه على الرأس أشعب والوليد بن يزيد أخبرني الجوهري قال حدثني ابن مهرويه قال أخبرنا أبو مسلم قال حدثنا المدائني قال بعث الوليد بن يزيد إلى أشعب بعدما طلق امرأته سعدة فقال له يا أشعب لك عندي عشرة آلاف درهم على أن تبلغ رسالتي سعدة فقال له أحضر المال حتى انظر إليه فأحضر الوليد بدرة فوضعها أشعب على عنقه ثم قال هات رسالتك يا أمير المؤمنين قال قل لها يقول لك ( أَسُعْدَةُ هل إليكِ لنا سبيلٌ ... وهل حتى القيامَة من تلاقِي ) ( بلى ولعلَّ دهراً أن يُوَاتِي ... بموتٍ من حليلكِ أو طلاقِ ) ( فأُصبِحَ شامتاً وتقرَّ عيني ... ويُجمَع شملُنا بعد افتراق ) قال فأتى أشعب الباب فأخبرت بمكانه فأمرت ففرشت لها فرش وجلست فأذنت له فدخل فأنشدها ما أمره فقالت لخدمها خذوا الفاسق فقال يا سيدتي إنها بعشرة آلاف درهم قالت والله لأقتلنك أو تبلغه كما بلغتني قال وما تهبين لي قالت بساطي الذي تحتي قال قومي عنه فقامت فطواه ثم قال هاتي رسالتك جعلت فداءك قالت قل له ( أتبكي على لُبْنَى وأنتَ تركتَها ... فقد ذهبتْ لُبْنَى فما أنت صانعُ ) فأقبل أشعب فدخل على الوليد فأنشده البيت فقال أوه قتلتني والله ما تراني صانعاً بك يا بن الزانية اختر إما أن أدليك منكساً في بئر أو أرمي بك من فوق القصر منكسا أو أضرب رأسك بعمودي هذا ضربة فقال ما كنت فاعلا بي شيئاً من ذلك قال ولم قال لأنك لم تكن لتعذب رأساً فيه عينان قد نظرتا إلى سعدة فقال صدقت يا بن الزانية اخرج عني وقد أخبرني بهذا الخبر محمد بن مزيد عن حماد عن أبيه عن الهيثم ابن عدي أن سعدة لما أنشدها أشعب قوله ( أسُعدَة هل إليك لنا سَبيلٌ ... وهل حَتَّى القيامة من تلاقي ) قالت لا والله لا يكون ذلك ابدا فلما أنشدها ( بلى ولعلَّ دهرا أن يُواتِي ... بموْتٍ من حلِيلِك أو طلاقِ ) قالت كلا إن شاء الله بل يفعل الله ذلك به فلما أنشدها ( فأُصبِحَ شامِتاً وتَقَرَّ عَيْني ... ويُجمَعَ شُملُنا بعد افْتراقِ ) قالت بل تكون الشماتة به وذكر باقي الخبر مثل حديث الجوهري عن ابن مهرويه أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن سعد الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي قال كتب الوليد بن يزيد في إشخاص أشعب من الحجاز إليه وحمله على البريد فحمل إليه فلما دخل أمر بأن يلبس تبانا ويجعل فيه ذنب قرد ويشد في رجليه أجراس وفي عنقه جلاجل ففعل به ذلك فدخل وهو عجب من العجب فلما رآه ضحك منه وكشف عن أيره قال أشعب فنظرت إليه كأنه ناي مدهون فقال لي اسجد للأصم ويلك يعني أيره فسجدت ثم رفعت رأسي وسجدت أخرى فقال ما هذا قلت الأولى للأصم والثانية لخصيتيك فضحك وأمر بنزع ما كان ألبسنيه ووصلني ولم أزل من ندمائه حتى قتل أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال قال رجل لأشعب إنه أهدي إلى زياد بن عبد الحارثي قبة أدم قيمتها عشرة آلاف درهم فقال امرأته الطلاق لو أنها قبة الإسلام ما ساوت ألف درهم فقيل له إن معها جبة وشيٍ حشوها قز قيمتها عشرون ألف دينارٍ فقال أمه زانية لو أن حشوها زغب أجنحة الملائكة ما ساوت عشرين ديناراً أخبرني عمي قال حدثني أبو أيوب المدائني قال حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري عن أبيه قال حدثني أشعب قال ولي المدينة رجل من ولد عامر بن لؤي وكان أبخل الناس وأنكدهم وأغراه الله بي يطلبني في ليله ونهاره فإن هربت منه هجم على منزلي بالشرط وإن كنت في موضع بعث إلى من أكون معه أو عنده يطلبني منه فيطالبني بأن أحدثه وأضحكه ثم لا أسكت ولا ينام ولا يطعمني ولا يعطيني فلقيت منه جهداً عظيماً وبلاء شديداً وحضر الحج فقال لي يا أشعب كن معي فقلت بأبي أنت وأمي أنا عليل وليست لي نية في الحج فقال عليه وعليه وقال إن الكعبة بيت النار لئن لم تخرج معي لأودعنك حيث أقدم فخرجت معه مكرهاً فلما نزلنا المنزل أظهر أنه صائم ونام حتى تشاغلت ثم أكل ما في سفرته وأمر غلامه أن يطعمني رغيفين بملح فجئت وعندي أنه صائم ولم أزل أنتظر المغرب أتوقع إفطاره فلما صليت المغرب قلت لغلامه ما ينتظر بالأكل قال قد أكل منذ زمان قلت أو لم يكن صائماً قال لا قلت أفأطوي أنا قال قد أعد لك ما تأكله فكل وأخرج إلي الرغيفين والملح فأكلتها وبت ميتاً جوعاً وأصبحت فسرنا حتى نزلنا المنزل فقال لغلامه ابتع لنا لحماً بدرهم فابتاعه فقال كبب لي قطعاً ففعل فأكله ونصب القدر فلما أغبَّرت قال اغرف لي منها قطعاً ففعل فأكلها ثم قال لي اطرح فيها دقة وأطعمني منها ففعل ثم قال ألق توابلها وأطعمني منها ففعل وأنا جالس أنظر إليه لا يدعوني فلما استوفى اللحم كله قال يا غلام أطعم أشعب ورمى إلي برغيفين فجئت إلى القدر وإذا ليس فيها إلا مرق وعظام فأكلت الرغيفين وأخرج له جرابا فيه فاكهة يابسة فأخذ منها حفنة فأكلها وبقي في كفه كف لوز بقشره ولم يكن له فيه حيلة فرمى به إلي وقال كل هذا يا أشعب فذهبت أكسر واحدة منها فإذا بضرسي قد انكسرت منه قطعة فسقطت بين يدي وتباعدت أطلب حجراً أكسره به فوجدته فضربت به لوزة فطفرت يعلم الله مقدار رمية حجر وعدوت في طلبها فبينما أنا في ذلك إذ أقبل بنو مصعب يعني ابن ثابت وإخوته يلبون بتلك الحلوق الجهورية فصحت بهم الغوث الغوث العياذ بالله وبكم يا آل الزبير الحقوني وأدركوني فركضوا إلي فلما رأوني قالوا أشعب مالك ويلك قلت خذوني معكم تخلصوني من الموت فحملوني معهم فجعلت أرفرف بيدي كما يفعل الفرخ إذا طلب الزق من أبويه فقالوا مالك ويلك قلت ليس هذا وقت الحديث زقوني مما معكم فقد مت ضراً وجوعاً منذ ثلاث قال فأطعموني حتى تراجعت نفسي وحملوني معهم في محمل ثم قالوا أخبرنا بقصتك فحدثتهم وأريتهم ضرسي المكسورة فجعلوا يضحكون ويصفقون وقالوا ويلك من أين وقعت على هذا هذا من أبخل خلق الله وأدنئهم نفساً فحلفت بالطلاق أني لا أدخل المدينة ما دام له بها سلطان فلم أدخلها حتى عزل أخبرني رضوان بن أحمد الصيدلاني قال حدثنا يوسف بن إبراهيم قال حدثنا إبراهيم بن المهدي قال حدثني عبيدة بن أشعب قال كان الغاضري منذر أهل المدينة ومضحكهم قبل أبي فأسقطه أبي واطرح وكان الغاضري حسن الوجه ماد القامة عبلا فخما وكان أبي قصيرا دميماً قليل اللحم إلا أنه كان يتضرم ويتوقد ذكاء وحدة وخفة روح وكان الغاضري يحسده إلا أنهما متساويان وكان الغاضري لقيطاً منبوذاً لا يعرف له أب فمر يوماً ومعه فتية من قريش بأبي في المسجد وقد تأذى بثيابه فنزعها وتجرد وجلس عرياناً فقال لهم الغاضري أنشدتكم الله هل رأيتم أعجب من هذه الخلقة يريد خلقة أبي فقال له أبي إن خلقتي لعجيبة وأعجب منها أنه زفني فصرت نضوا وزفك فصرت بختيا قال وأهل المدينة يسمون المهلوس من الفراخ النضو والمسرول البختي فغضب الغاضري عند ذلك وشتمه فسقط واستبرد وترك النوادر بعد ذلك وغلب أبي على أهل المدينة واستطابوه وكان هذا سببه أشعب وزياد بن عبد الله الحارثي أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال كان زياد بن عبد الله الحارثي أبخل خلق الله فأولم وليمة لطهر بعض أولاده وكان الناس يحضرون ويقدم الطعام فلا يأكلون منه إلا تعللاً وتشعثاً لعلمهم به فقدم فيما قدم جدي فلم يعرض له أحد وجعل يردده على المائدة ثلاثة أيام والناس يجتنبونه إلى أن انقضت الوليمة فأصغى أشعب إلى بعض من كان هناك فقال امرأته الطلاق إن لم يكن هذا الجدي بعد أن ذبح وشوي أطول عمراً وأمد حياة منه قبل أن يذبح فضحك الرجل وسمعها زياد فتغافل أخبرني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن عبد الله بن مالك بن إسحاق قال حدثني إبراهيم بن المهدي عن عبيدة بن أشعب قال غضبت سكينة على أبي في شيء خالفها فيه فحلفت لتحلقَن لحيته ودعت بالحجام فقالت له احلق لحيته فقال له الحجام انفخ شدقيك حتى أتمكن منك فقال له يا بن البظراء أمرتك أن تحلق لحيتي أو تعلمني الزمر خبرني عن امرأتك إذا أردت أن تحلق حرها تنفخ أشداقه فغضب الحجام وحلف ألا يحلق لحيته وانصرف وبلغ سكينة الخبر وما جرى بينهما فضحكت وعفت عنه أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني أبو العيناء عن الأصمعي قال أهدى كاتب لزياد بن عبد الله الحارثي إليه طعاماً فأتي به وقد تغدى فغضب وقال ما أصنع به وقد أكلت ادعوا أهل الصفة يأكلونه فبعث إليهم وسأل كاتبه فيم دعا أهل الصفة فعرف فقال الكاتب عرفوه أن في السلال أخبصةً وحلواء ودجاجا وفراخا فأخبر بذلك فأمر بكشفها فلما رآها أمر برفعها فرفعت وجاء أهل الصفة فأعلم فقال اضربوهم عشرين عشرين درة واحبسوهم فإنهم يفسون في مسجد رسول الله المصلين فكلم فيهم فقال حلفوهم ألا يعاودوا وأطلقوهم أشعب وأبان بن عثمان والأعرابي أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثنا ابن زبالة قال حدثنا ابن زنبج راوية ابن هرمة عن أبيه قال كان أبان بن عثمان من أهزل الناس وأعبثهم وبلغ من عبثه أنه كان يجيء بالليل إلى منزل رجل في أعلى المدينة له لقب يغضب منه فيقول له أنا فلان بن فلان ثم يهتف بلقبه فيشتمه أقبح شتم وأبان يضحك فبينما نحن ذات يوم عنده وعنده أشعب إذ أقبل أعرابي ومعه جمل له والأعرابي أشقر أزرق أزعر غضوب يتلظى كأنه أفعى ويتبين الشر في وجهه ما يدنو منه أحدٌ إلا شتمه ونهره فقال أشعب لأبان هذا والله من البادية ادعوه فدعي وقيل له إن الأمير أبان بن عثمان يدعوك فأتاه فسلم عليه فسأله ابان عن نسبه فانتسب له فقال حياك الله يا خالي حبيب ازداد حباً فجلس فقال له إني في طلب جمل مثل جملك هذا منذ زمان فلم أجده كما أشتهي بهذه الصفة وهذه القامة واللون والصدر والورك والأخفاف فالحمد لله الذي جعل ظفري به من عند من أحبه أتبيعه فقال نعم أيها الأمير فقال فإني قد بذلت لك به مائة دينار وكان الجمل يساوي عشرة دنانير فطمع الأعرابي وسر وانتفخ وبان السرور والطمع في وجهه فأقبل أبان على أشعب ثم قال له ويلك يا أشعب إن خالي هذا من أهلك وأقاربك يعني في الطمع فأوسع له مما عندك فقال له نعم بأبي أنت وزيادة فقال له أبان يا خالي إنما زدتك في الثمن على بصيرة وإنما الجمل يساوي ستين ديناراً ولكن بذلت لك مائة لقلة النقد عندنا وإني أعطيك بها عروضاً تساوي مائة فزاد طمع الأعرابي وقال قد قبلت ذلك أيها الأمير فأسر إلى أشعب فأخرج شيئاً مغطى فقال له أخرج ما جئت به فأخرج جرد عمامة خز خلق تساوي أربعة دراهم فقال له قومها يا أشعب فقال له عمامة الأمير تعرف به ويشهد فيها الأعياد والجمع ويلقى فيها الخلفاء خمسون ديناراً فقال ضعها بين يديه وقال لابن زبنج أثبت قيمتها فكتب ذلك ووضعت العمامة بين يدي الأعرابي فكاد يدخل بعضه في بعض غيظاً ولم يقدر على الكلام ثم قال هات قلنسوتي فأخرج قلنسوة طويلة خلقة قد علاها الوسخ والدهن وتخرقت تساوي نصف درهم فقال قوم فقال قلنسوة الأمير تعلو هامته ويصلي فيها الصلوات الخمس ويجلس للحكم ثلاثون دينارا قال أثبت فأثبت ذلك ووضعت القلنسوة بين يدي الأعرابي فتربد وجهه وجحظت عيناه وهم بالوثوب ثم تماسك وهو متقلقل ثم قال لأشعب هات ما عندك فأخرج خفين خلقين قد نقبا وتقشرا وتفتقا فقال له قوم فقال خفا الأمير يطأ بهما الروضة ويعلو بهما منبر النبي دينارا فقال ضعهما بين يديه فوضعهما ثم قال للأعرابي اضمم إليك متاعك وقال لبعض الأعوان اذهب فخذ الجمل وقال لآخر امض مع الأعرابي فاقبض منه ما بقي لنا عليه من ثمن المتاع وهو عشرون دينارا فوثب الأعرابي فأخذ القماش فضرب به وجوه القوم لا يألو في شدة الرمي به ثم قال له أتدري أصلحك الله من أي شيء أموت قال لا قال لم أدرك أباك عثمان فأشترك والله في دمه إذ ولد مثلك ثم نهض مثل المجنون حتى أخذ برأس بعيره وضحك أبان حتى سقط وضحك كل من كان معه وكان الأعرابي بعد ذلك إذا لقي أشعب يقول له هلم إلي يا بن الخبيثة حتى أكافئك على تقويمك المتاع يوم قوم فيهرب أشعب منه أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثنا أحمد بن الحارث عن المدائني قال حدثني شيخ من أهل المدينة قال كانت بالمدينة عجوز شديدة العين لا تنظر إلى شيء تستحسنه إلا عانته فدخلت على أشعب وهو في الموت وهو يقول لبنته يا بنية إذا مت فلا تندبيني والناس يسمعونك فتقولين واأبتاه أندبك للصوم والصلوات واأبتاه أندبك للفقه والقراءة فيكذبك الناس ويلعنوني والتفت أشعب فرأى المرأة فغطى وجهه بكمه وقال لها يا فلانة بالله إن كنت استحسنت شيئاً مما أنا فيه فصلِ على النبي تهلكيني فغضبت المرأة وقالت سخنت عينك في أي شيء أنت مما يستحسن أنت في آخر رمق قال قد علمت ولكن قلت لئلا تكوني قد استحسنت خفة الموت علي وسهولة النزع فيشتد ما أنا فيه وخرجت من عنده وهي تشتمه وضحك كل من كان حوله من كلامه ثم مات نماذج من طرائفه أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثنا أبو أيوب المديني عن مصعب قال لاعب أشعب رجلاً بالنرد فأشرف على أن يقمره إلا بضرب دويكين ووقع الفصان في يد ملاعبه فأصابه زمع وجزع فضرب يكين وضرط مع الضربة فقال له أشعب امرأته طالق إن لم أحسب لك الضرطة بنقطة حتى يصير لك اليكان دو ويك وتقمر وسلم له القمر بسبب الضرطة أخبرني الحسن قال حدثنا أحمد قال حدثني أبو أيوب عن حماد عن ابن إسحاق عن أبيه قال قال رجل لأشعب كان أبوك ألحى وأنت أثط فإلى من خرجت قال إلى أمي فمر الرجل وهو يعجب من جوابه وكان رجلاً صالحاً أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثني الرياشي قال سمعت أبا عاصم النبيل يقول رأيت أشعب وسأله رجل ما بلغ من طمعك قال ما زفت عروس بالمدينة إلى زوجها قط إلا فتحت بابي رجاء أن تهدى إلي أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا الزبير بن بكار عن عمه قال تظلمت امرأة أشعب منه إلى أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم وقالت لا يدعني أهدأ من كثرة الجماع فقال له أشعب أتراني أعلف ولا أركب لتكف ضرسها لأكف أيري قال وشكا خال لأشعب إليه امرأته وأنها تحزنه في ماله فقال له فديتك لا تأْمنَنَ قحبة ولو أنها أمك فانصرف عنه وهو يشتمه أخبرني عمي قال حدثني عبد الله بن أبي سعد قال حدثني قعنب بن المحرز عن الأصمعي عن جعفر بن سليمان قال قدم علينا أشعب أيام أبي جعفر فأطاف به فتيان بني هاشم وسألوه أن يغني فغناهم فإذا ألحانه مطربة وحلقه على حاله فسألوه لمن هذا اللحن ( لمَنْ طَللٌ بذاتِ الجَيْشِ وأمسَى دارِساً خَلَقا ) فقال للدلال وأخذته عن معبد ولقد كنت آخذ عنه الصوت فإذا سئل عنه قال عليكم بأشعب فإنه أحسن أداء له مني أشعب والحسن بن الحسن بن علي أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال ذكر الزبير بن بكار عن شعيب بن عبيدة بن أشعب عن أبيه قال كان الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام يعبث بأبي أشد عبث وربما أراه في عبثه أنه قد ثمل وأنه يعربد عليه ثم يخرج إليه بسيف مسلول ويريه أنه يريد قتله فيجري بينهما في ذلك كل مُستمع فهجره أبي مدة طويلة ثم لقيه يوما فقال له يا أشعب هجرتني وقطعتني ونسيت عهدي فقال له بأبي أنت وأمي لو كنت تعربد بغير السيف ما هجرتك ولكن ليس مع السيف لعب فقال له فأنا أعفيك من هذا فلا تراه مني أبداً وهذه عشرة دنانير ولك حماري الذي تحتي أحملك عليه وصر إلي ولك الشرط ألا ترى في داري سيفاً قال لا والله أو تخرج كل سيف في دارك قبل أن نأكل ذلك لك قال قال فجاءه أبي ووفى له بما قال من الهبة وإخراج السيوف وخلف عنده سيفاً في الدار فلما توسط الأمر قام إلى البيت فأخرج السيف مشهوراً ثم قال يا أشعب إنما أخرجت هذا السيف لخير أريده بك قال بأبي أنت وأمي فأي خير يكون مع السيف ألست تذكر الشرط بيننا قال له فاسمع ما أقول لك لست أضربك به ولا يلحقك منه شيء تكرهه وإنما أريد أن أضجعك وأجلس على صدرك ثم آخذ جلدة حلقك بإصبعي من غير أن أقبض على عصب ولا ودج ولا مقتل فأحزها بالسيف ثم أقوم عن صدرك وأعطيك عشرين ديناراً فقال نشدتك الله يا بن رسول الله ألا تفعل بي هذا وجعل يصرخ ويبكي ويستغيث والحسن لا يزيده على الحلف له أنه لا يقتله ولا يتجاوز به أن يحز جلده فقط ويتوعده مع ذلك بأنه إن لم يفعله طائعاً فعله كارهاً حتى إذا طال الخطب بينهما واكتفى الحسن من المزح معه أراه أنه يتغافل عنه وقال له أنت لا تفعل هذا طائعاً ولكن أجيءْ بحبل فأكتفك به ومضى كأنه يجيء بحبل فهرب أشعب وتسور حائطاً بينه وبين عبد الله بن حسن أخيه فسقط إلى داره فانفكت رجله وأغمي عليه فخرج عبد الله فزعاً فسأله عن قصته فأخبره فضحك منه وأمر له بعشرين دينارا وأقام في منزله يعالجه ويعوله إلى أن صلحت حاله قال وما رآه الحسن بن الحسن بعدها أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي قال دعا حسن بن حسن بن علي عليهم السلام أشعب فأقام عنده فقال لأشعب يوماً أنا اشتهي كبد هذه الشاة لشاة عنده عزيزة عليه فارهه فقال له أشعب بأبي أنت وأمي أعطنيها وأنا أذبح لك أسمن شاة بالمدينة فقال أخبرك أني اشتهي كبد هذه وتقول لي أسمن شاة بالمدينة اذبح يا غلام فذبحها وشوى له من كبدها وأطايبها فأكل ثم قال لأشعب من الغد يا أشعب أنا أشتهي من كبد نجيبي هذا لنجيب كان عنده ثمنه ألوف دراهم فقال له أشعب يا سيدي في ثمن هذا والله غناي فأعطينه وأنا والله أطعمك من كبد كل جزور بالمدينة فقال أخبرك أني أشتهي من كبد هذا وتطعمني من غيره يا غلام انحر فنحر النجيب وشوى كبده فأكلا فلما كان اليوم الثالث قال له يا أشعب أنا والله أشتهي أن آكل من كبدك فقال له سبحان الله أتأكل من أكباد الناس قال قد أخبرتك فوثب أشعب فرمى بنفسه من درجة عالية فانكسرت رجله فقيل له ويلك أظننت أنه يذبحك فقال والله لو أن كبدي وجميع أكباد العالمين جميعاً اشتهاها لأكلها وإنما فعل حسن بالشاة والنجيب ما فعل توطئة للعبث بأشعب تمت أخباره صوت ( ألَمّتْ خُناسُ وإلمامُها ... أحادِيثُ نَفْس وأحلامُها ) ( يَمانِيةُ من بني مالِكٍ ... تَطَاوَل في المَجْد أعمامُها ) الشعر لعويف القوافي الفزاري والغناء للهذلي رمل بالوسطى عن عمرو وذكر حماد بن إسحاق عن أبيه أن فيه لحناً لجميلة ولم يذكر طريقته وفيه لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل مطلق في مجرى الوسطى أخبار عويف ونسبه هو عويف بن معاوية بن عقبة بن حصن وقيل ابن عقبة بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة ابن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار وعويف القوافي شاعر مقل من شعراء الدولة الأموية من ساكني الكوفة وبيته أحد البيوت المقدمة الفاخرة في العرب قال أبو عبيدة حدثني أبو عمرو بن العلاء أن العرب كانت تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف من القبائل بعد بيت هاشم بن عبد مناف في قريش ثلاثة بيوت ومنهم من يقول أربعة أولها بيت آل حذيفة بن بدر الفزاري بيت قيس وبيت آل زرارة بن عدس الدارميين بيت تميم وبيت آل ذي الجدين بن عبد الله بن همام بيت شيبان وبيت بني الديان من بني الحارث بن كعب بيت اليمن وأما كندة فلا يعدون من أهل البيوتات إنما كانوا ملوكاً وقال ابن الكلبي قال كسرى للنعمان هل في العرب قبيلة تشرف على قبيلة قال نعم قال بأبي شيء قال من كانت له ثلاثة آباء متوالية رؤساء ثم اتصل ذلك بكمال الرابع والبيت من قبيلته فيه قال فاطلب لي ذلك فطلبه فلم يصبه إلا في آل حذيفة بن بدر بيت قيس بن عيلان وآل حاجب بن زرارة بيت تميم وآل ذي الجدين ببيت شيبان وآل الأشعث بن قيس بيت كندة قال فجمع هؤلاء الرهط ومن تبعهم من عشائرهم فاقعد لهم الحكام العدول فأقبل من كل قوم منهم شاعرهم وقال لهم ليتكلم كل رجل منكم بمآثر قومه وفعالهم وليقل شاعرهم فيصدق فقام حذيفة بن بدر وكان أسن القوم وأجرأهم مقدما فقال لقد علمت معد أن منا الشرف الأقدم والعز الأعظم ومأثرة الصنيع الأكرم فقال من حوله ولم ذاك يا أخا فزارة فقال ألسنا الدعائم التي لا ترام والعز الذي لا يضام قيل له صدقت ثم قام شاعرهم فقال ( فَزارةُ بيتُ العِز والعِزُّ فيهمُ ... فَزارةُ قَيْسٍ حَسْبُ قَيْسٍ نِضالُها ) ( لها العِزَّةُ القَعْسَاءُ والحَسَبُ الذي ... بَناه لِقَيْس في القديم رِجالُها ) ( فَمَنْ ذا إذا مُدَّ الأكفُّ إلى العُلا ... يَمُدُّ بأُخْرى مِثْلَها فينالُها ) ( فهَيْهاتَ قد أعْيا القُرونَ التي مَضَت ... مآثرُ قَيْس مَجدُها وفَعَالُها ) ( وهل أحدٌ إن مَدَّ يوماً بكَفِّه ... إلى الشمس في مَجْرَى النُّجوم ينالُها ) ( وإن يَصْلُحوا يَصْلُحْ لذاك جَمِيعُنا ... وإن يَفْسُدوا يفْسُدْ على النّاس حالُها ) ثم قام الأشعث بن قيس وإنما أذن له أن يقوم قبل ربيعة وتميم لقرابته بالنعمان فقال لقد علمت العرب أنا نقاتل عديدها الأكثر وقديم زحفها الأكبر وأنا غياث اللزبات فقالوا لم يا أخا كندة قال لأنا ورثنا ملك كندة فاستظللنا بأفيائه وتقلدنا منكبه الأعظم وتوسطنا بحبوحه الأكرم ثم قام شاعرهم فقال ( إذا قِسْتَ أبياتَ الرِّجالِ بِبَيْتِنا ... وجدتَ له فَضْلاً على من يُفاخِرُ ) ( فَمنْ قال كَلاَّ أو أتانا بخُطَّةٍ ... يُنافِرُنا يوماً فنحن نُخاطِرُ ) ( تَعالوا فعُدُّوا يعلم النَّاس أيُّنَا ... له الفَضلُ فيما أورثَتْه الأكابِرُ ) ثم قام بسطام بن قيس فقال لقد علمت ربيعة أنا بناة بيتها الذي لا يزول ومغرس عزها الذي لا ينقل قالوا ولم يا أخا شيبان قال لأنا أدركهم للثأر وأقتلهم للملك الجبار وأقولهم للحق وألدهم للخصم ثم قام شاعرهم فقال ( لعَمْري لَبِسْطامٌ أحقُّ بفضلها ... وأولَى بِبَيْت العزِّ عِزِّ القبائِل ) ( فسائِلْ أبيتَ اللّعْن عن عِزّ قَومِنا ... إذا جَدَّ يوم الفَخْر كُلُّ مناضِل ) ( ألسْنَا أعزَّ الناسِ قوماً وأُسرةً ... وأضْرَبَهم للكَبْشِ بين القبائِل ) ( فَيُخْبرَك الأقوامُ عنها فإنها ... وقائعُ لَيسَت نُهزةً للقَبائِل ) ( وقائعُ عِزَّ كلّها رَبَعِيَّةٌ ... تَذِلُّ لهم فيها رِقابُ المَحافِل ) ( إذا ذُكِرت لم يُنْكِر النَّاس فضلَها ... وعاذَ بها من شَرِّها كُلُّ قائِل ) ( وإنّا مُلوكُ النَّاسِ في كل بَلْدةِ ... إذا نَزَلت بالنّاس إحْدى الزَّلازِلِ ) ثم قام حاجب بن زرارة فقال لقد علمت معد أنا فرع دعامتها وقادة زحفها فقالوا له بم ذاك يا أخا بني تميم قال لأنا أكثر الناس إذا نسبنا عدداً وأنجبهم ولداً وأنَّا أعطاهم للجزيل وأحملهم للثقيل ثم قام شاعرهم فقال ( لقد عَمِلتْ أَبناءُ خِنْدِفَ أَنَّنا ... لنا العِزُّ قِدْماً في الخُطوبِ الأوائِلِ ) ( وأَنّا هِجانٌ أَهْل مجد وثَرْوَةٍ ... وعِزٍّ قديمٍ ليس بالمُتضائِلِ ) ( فكَمْ فيهمُ من سَيّدٍ وابْنِ سَيّدٍ ... أغرَّ نجيبٍ ذي فَعال ونائِلِ ) ( فسائلْ أبيتَ اللَّعن عنّا فإنّنا ... دعائمُ هذا النّاس عند الجَلائِلِ ) ثم قام قيس بن عاصم فقال لقد علم هؤلاء أنا أرفعهم في المكرمات دعائم وأثبتهم في النائبات مقاوم قالوا ولم ذاك يا أخا بني سعد قال لأنا أمنعهم للجار وأدركهم للثأر وأنا لا ننكل إذ حملنا ولا نرام إذا حللنا ثم قام شاعرهم فقال ( لقد عَلِمت قَيْسٌ وخِنْدِفُ كُلّها ... وجُلُّ تمِيم والجُموع التي تَرَى ) ( بأَنّا عِمادٌ في الأمور وأنَّنَا ... لنا الشّرفُ الضَّخْم المُركَّب في النَّدى ) ( وأنَّا لُيوثُ النّاس في كل مأزِقٍ ... إذا اجتُرَّ بالبيضِ الجماجِمُ والطُّلَى ) ( وأَنَّا إذا داعٍ دَعَانا لنَجْدةٍ ... أجْبنا سِراعاً في العُلا ثَمَّ مَنْ دَعَا ) ( فَمَنْ ذا لِيوْم الفَخْر يَعْدِل عاصِماً ... وقَيْساً إذا مُدَّ الأكُفُّ إلى العُلاَ ) ( فَهَيْهاتَ قد أعْيَا الجمِيعَ فَعالُهم ... وفاتُوا بَيْوم الفَخْر مَسْعاةَ مَنْ سَعَى ) فلما سمع كسرى ذلك منهم قال ليس منهم إلا سيد يصلح لموضعه فأثنى حباءهم سبب تسميته عويف القوافي وإنما قيل لعويف عويف القوافي لبيت قاله نسخت خبره في ذلك من كتاب محمد بن الحسن بن دريد ولم أسمعه منه قال أخبرنا السكن بن سعيد عن محمد بن عباد عن ابن الكلبي قال أقبل عويف القوافي وهو عويف بن معاوية بن عقبة لن حصْن بن حذيفة الفزاري وإنما قيل له عويف القوافي كما حدثني عمار بن أبان بن سعيد بن عيينة ببيت قاله ( سأكذِبُ مَن قد كان يَزَعُم أنّني ... إذا قُلْتُ قولاً لا أُجِيدُ القَوافِيَا ) قال فوقف على جرير بن عبد الله البجلي وهو في مجلسه فقال ( أصُبّ على بجيلة من شقاها ... هِجائِي حين أدركني المَشيِبُ ) فقال له جرير ألا أشتري منك أعراض بجيلة قال بلى قال بكم قال بألف درهم وبرذون فأمر له بما طلب فقال ( لولا جَرِيرٌ هلَكْتْ بَجِيلَهْ ... نِعْم الفَتَى وبِئْسَتِ القَبِيلَهْ ) فقال جرير ما أراهم نجوا منك بعد نسخت من كتاب أبي سعيد السكري في كتاب من قال بيتاً فلقب به قال أخبرني محمد بن حبيب قال وإنما قيل لعويف عويف القوافي لقوله وقد كان بعض الشعراء عيره بأنه لا يجيد الشعر فقال أبياتاً منها ( سأكذِب مَنْ قد كان يَزعُم أنَّني ... إذا قُلْتُ شعْراً لا أُجِيدُ القَوَافِيا ) فسمي عويف القوافي عويف وعبد الملك بن مروان أخبرنا محمد بن خلف وكيع قال حدثني أحمد بن إسحاق عن أبيه قال حدثني عزيز بن طلحة بن عبد الله بن عثمان بن الأرقم المخزومي قال حدثني غير واحد من مشيخة قريش قالوا لم يكن رجل من ولاة أولاد عبد الملك بن مروان كان أنفس على قومه ولا أحسد لهم من الوليد بن عبد الملك فأذن يوماً للناس فدخلوا عليه وأذن للشعراء فكان أول من بدر بين يديه عويف القوافي الفزاري فاستأذنه في الإنشاد فقال ما بقيت لي بعد ما قلت لأخي بني زهرة قال وما قلت له مع ما قلت لأمير المؤمنين قال ألست الذي تقول ( يا طَلْحَ أنت أخو النَّدَى وحَلِيفُه ... إنَّ النَّدَى من بعد طَلْحَة ماتَا ) ( إنَّ الفَعال إليك أطلَق رَحْلَه ... فبِحَيْث بِتَّ من المَنازِل بَاتَا ) أو لست الذي تقول ( إذا ما جاءَ يومُك يا بنَ عَوْف ... فلا مَطَرتْ على الأرض السَّماءُ ) ( ولا سار البَشيرُ بغُنْم جَيْشٍ ... ولا حَمَلَت على الطُّهْرِ النِّساءُ ) ( تَساقَى الناسُ بعدكَ يا بْنَ عَوْفٍ ... ذَريعَ الموْتِ ليس له شِفاءُ ) ألم تقم علينا الساعة يوم قامت عليه لا والله لا أسمع منك شيئاً ولا أنفعك بنافعة أبداً أخرجوه عني فلما أخرج قال له القرشيون والشاميون وما الذي أعطاك طلحة حين استخرج هذا منك قال أما والله لقد أعطاني غيره أكثر من عطيته ولكن لا والله ما أعطاني أحد قط أحلى في قلبي ولا أبقى شكراً ولا أجدر ألاَّ أنساها ما عرفت الصلات من عطيتَّهِ قالوا وما أعطاك قال قدمت المدينة ومعي بضيعة لي لا تبلغ عشرة دنانير أريد أن أبتاع قعوداً من قعدان الصدقة فإذا برجل في صحن السوق على طنفسة قد طرحت له وإذا الناس حوله وإذا بين يديه إبل معلوفة له فظننت أنه عامل السوق فسلمت عليه فأثبتني وجهلته فقلت أي رحمك الله هل أنت معيني ببصرك على قعود من هذه القعدان تبتاعه لي فقال نعم أو معك ثمنه فقلت نعم فأهوى بيده إلي فأعطيته بضيعتي فرفع طنفسته وألقاها تحتها ومكث طويلاً ثم قمت إليه فقلت أي رحمك الله انظر في حاجتي فقال ما منعني منك إلا النسيان أمعك حبل قلت نعم قال هكذا أفرجوا فأفرجوا عنه حتى استقبل الإبل التي بين يديه فقال اقرن هذه وهذه وهذه فما برحت حتى أمر لي بثلاثين بكرة أدنى بكرة منها ولا دنية فيها خير من بضاعتي ثم رفع طنفسته فقال وشأنك ببضاعتك فاستعن بها على من ترجع إليه فقلت أي رحمك الله أتدري ما تقول فما بقي عنده إلا من نهرني وشتمني ثم بعث معي نفراً فأطردوها حتى أطلعوها من رأس الثنية فوالله لا أنساه ما دمت حياً أبداً وهذا الصوت المذكور تمثل به إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي يوم مقتله حدثني ابن عبيد الله بن عمار قال حدثني ميسرة بن سيار أبو محمد قال حدثني إبراهيم بن علي الرافقي عن المفضل الضَّبَّيّ وحدثنا يحي ابن علي بن يحي المنجم وأحمد بن عبد العزيز الجوهري قالا حدثنا عمر بن شبة قال حدثني عبد الملك بن سليمان عن علي بن الحسن عن المفضل الضَّبَّيّ ورواية ابن عمار أتم من هذه الرواية ونسخت هذا الخبر أيضاً من بعض الكتب عن أبي حاتم السجستاني عن أبي عثمان اليقطري عن أبيه عن المفضل وهو أتم الروايات وأكثر اللفظ له قال قال المفضل خرجت مع إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن فلما صار بالمربد وقف على رأس سليمان بن علي فأخرج إليه صبيان من ولده فضمهم إليه وقال هؤلاء والله منا ونحن منهم إلا أن آباءهم فعلوا بنا وصنعوا وذكر كلاماً يعتد عليهم فيه بالإساءة ثم توجه لوجهه وتمثل ( مَهْلاً بَني عَمِّنا ظَلاَمتنا ... إنّ بنا سَوْرَةً من القَلَقِ ) ( لمِثْلِكم نَحمِل السيوفَ ولا ... تُغَمز أحسابُنا من الدَّقَقِ ) ( إِنِّي لأَنمِي إذا انتَميْت إلى ... عزٍّ عزيزٍ ومَعْشَرِ صُدُقِ ) ( بيضٍ سِباطٍ كأنّ أعينَهم ... تكحَل يوم الهِياجِ بالعُلُقِ ) فقلت ما أفحل هذه الأبيات فلمن هي قال لضرار بن الخطاب الفهري قالها يوم الخندق وتمثل بها علي بن أبي طالب عليه السلام يوم صفين والحسين بن علي يوم قتل وزيد بن علي عليهم السلام ولحق القوم ثم مضى إلى باخمرى فلما قرب منها أتاه نعي أخيه محمد فتمثل ( نُبِّئْتُ أنَّ بني رَبيعة أجمعوا ... أمراً خلالُهُم لتقْتُلَ خالِدَا ) ( إِن يَقْتُلوني لا تُصِب أرماحُهم ... ثأرِي ويَسْعَى القَومُ سَعْياً جاهِدا ) ( أرمِي الطريقَ وإِن صُدِدتُ بِضِيقه ... وأُنازِلُ البطَل الكَمِيَّ الجاحِدَا ) فقلت لمن هذه الأبيات فقال للأحوص بن جعفر بن كلاب تمثل بها يوم شعب جبلة وهو اليوم الذي لقيت فيه قيس تميماً قال وأقبلت عساكر أبي جعفر فقتل من أصحابه وقتل من القوم وكاد أن يكون الظفر له قال ابن عمار في حديثه قال المفضل فقال لي حركني بشيء فأنشدته هذه الأبيات ( ألا أيُّها النّاهِي فَزارَةَ بعد ما ... أجدَّتْ بسَيْرٍ إِنما أنتَ حالِمُ ) ( أَبى كُلُّ حُرِّ أن يَبِيتَ بوِتْره ... ويُمنعَ منه النومُ إذا أنت نائمُ ) ( أقولُ لفِتيان العَشِيِّ تَروّحوا ... على الجُردِ في أفواهِهِنّ الشّكائمُ ) ( قِفُوا وَقْفَةً مَنْ يَحْيَ لا يَخْز بعدها ... ومن يُخْتَرم لا تَتَّبِعه اللّوَائِمُ ) ( وهل أَنتَ إِن باعَدْتَ نفسَكَ منهمُ ... لتَسْلم فيما بعد ذلك سالِمُ ) فقال لي أعد فتنبهت وندمت فقلت أو غير ذلك فقال لا أعدها فأعدتها فتمطى في ركابيه حتى خلته قد قطعهما ثم خمل فكان آخر العهد به هذه رواية ابن عمار وفي الرواية الأخرى فحمل فطعن رجلاً وطعنه آخر فقلت أتباشر الحرب بنفسك والعسكر منوط بك فقال إليك يا أخا بني ضبة كأن عويفاً أخا بني فزارة نظر في يومنا هذا حيث يقول ( ألمَّت خُناسُ وإِلمامُها ... أَحاديثُ نفسٍ وأحلامُها ) ( يَمانّيةٌ من بني مالكٍ ... تَطاولَ في المجد أعمامُها ) ( وإنّ لنا أصلَ جُرْثُومةٍ ... تَرُدُّ الحوادثَ أيّامُها ) ( تردُّ الكَتِيبَةَ مَغْلولَةً ... بها أفْنُها وبها آمُها ) قال وجاءه السهم العائر فشغله عني عويف وعمر بن عبد العزيز أخبرني محمد بن عمران الصيرفي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن معاوية الأسدي قال حدثني أصحابنا الأسديون عن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري قال حضرت مع عمر بن عبد العزيز جنازة فلما انصرف انصرفت معه وعليه عمامة قد سدلها من خلفه فما علمت به حتى اعترضه رجل على بعير فصاح به ( أجِبْني أبا حَفْص لقيتَ محمداً ... على حَوْضِه مًسْتَبْشِراً ورآكا ) فقال له عمر لبيك وقف ووقف الناس معه ثم قال له فمه فقال ( فأَنتَ امرؤٌ كِلْتا يديك مُفِيدَةٌ ... شِمالُك خيرٌ من يمين سِواكا ) قال ثم مه فقال ( بلغتَ مَدَى المُجرِين قبلَك إذْ جَروَْا ... ولم يَبلُغ المُجْرمون بَعدُ مَداكَا ) ( فجَدَّاك لا جدَّينِ أكرمُ منهما ... هُناك تَناهَى المَجدُ ثم هُناكَا ) فقال له عمر ألا أراك شاعراً مالك عندي من حق قال لا ولكني سائل وابن سبيل وذو سهمة فالتفت عمر إلى قهرمانه فقال أعطه فضل نفقتي قال وإذا هو عويف القوافي الفزاري أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال لما كان يوم ابن جرح واقتتلت بنو مرة وبنو حن بن عذرة قال عويف القوافي لبني مرة يهجوهم ويوبخهم بتركهم نصرهم ( كُنَّا لكم يا مُرّ أُمّاً حَفِيَّةً ... وكنتُم لنا يا مرّ بَوّاً مُجَلَّدَا ) ( وكنتم لنا سَيْفاً وكُنَّا وِعاءه ... إذا نحن خِفْنا أن يِكِلَّ فيُغْمَدَا ) فأجابه عقيل بن عُلَّفة بقصيدته التي أولها ( أماوِيَّ إنّ الركبَ مُرتحِلٌ غدَا ... وحَقّ ثَوِيٍّ نازِلٍ أن يُزَوَّدَا ) يقول فيها يخاطب عويفاً ( إذا قُلتُ قد سامحت سَهْماً ومازِناً ... أَبَى النَّسَبُ الدّاني وكُفرُهُم اليَدَا ) ( وقد أسلَمُوا أَسنَاههم لقَبِيلةٍ ... قُضاعِيَّةٍ يدعون حُنّاً وأَصْيدَا ) ( فما كنتَ أَمّاً بل جعلتُك لي أَخاً ... وقد كنتَ في النَّاس الطَّرِيدَ المُشَرَّدَا ) ( عُويَف اسْتِها قد رُمتَ وَيْلك مَجدَنا ... قديماً فلم تَعْدُ الحِمارَ المُقَيَّدا ) ( ولو أَنَّني يومَ ابنِ جُرْحٍ لَقِيتُهم ... لجرَّدْتُ في الأعداء عضْباً مُهَنَّدَا ) وأبيات عويف هذه يقولها يوم مرج راهط وهي الحرب التي كانت بين قيس وكلب يوم مرج راهط أخبرني بالسبب فيه أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال أخبرني سليمان بن أيوب بن أعين أبو أيوب المديني قال حدثنا المدائني قال كان بدء حرب قيس وكلب في فتنة ابن الزبير ما كان من وقعة مرج راهط وكان قصة المرج أن مروان بن الحكم بن أبي العاص قدم بعد هلاك يزيد بن معاوية والناس يموجون وكان سعيد بن بحدل الكلبي على قنسرين فوثب عليه زفر بن الحارث فأخرجه منها وبايع لابن الزبير فلما قعد زفر على المنبر قال الحمد لله الذي أقعدني مقعد الغادر الفاجر وحصر فضحك الناس من قوله وكان النعمان بن بشير على حمص فبايع لابن الزبير وكان حسان بن بحدل على فلسطين والأردن فاستعمل على فلسطين روح بن زنباع الجذامي ونزل هو الأردن فوثب نابل بن قيس الجذامي على رَوْح بن زنباع فأخرجه من فلسطين وبايع لابن الزبير وكان الضحاك بن قيس الفهري عاملاً ليزيد بن معاوية على دمشق حتى هلك فجعل بقدم رجلاً ويؤخر أخرى إذا جاءته اليمانية وشيعة بني أمية أخبرهم أنه أموي وإذا جاءته القيسية أخبرهم أنه يدعو إلى ابن الزبير فلما قدم مروان قال له الضحاك هل لك أن تقدم على ابن الزبير ببيعة أهل الشام قال نعم وخرج من عنده فلقيه عمرو بن سعيد بن العاص ومالك بن هبيرة وحصين بن نمير الكنديان وعبيد الله بن زياد فسألوه عما أخبره به الضحاك فأخبرهم فقالوا له أنت شيخ بني أمية وأنت عم الخليفة هلم نبايعك فلما فشا ذلك أرسل الضحاك إلى بني أمية يعتذر إليهم ويذكر حسن بلائهم عنده وأنه لم يرد شيئاً يكرهونه فاجتمع مروان بن الحكم وعمرو بن سعيد بن العاص وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية وقال لهم اكتبوا إلى حسان بن بحدل فليسر من الأردن حتى ينزل الجابية ونسير من ها هنا حتى نلقاه فيستخلف رجلاً ترضونه فكتبوا إلى حسان فأقبل في أهل الأردن وسار الضحاك بن قيس وبنو أمية في أهل دمشق فلما استقلت الرايات من جهة دمشق قالت القيسية للضحاك دعوتنا لبيعة ابن الزبير وهو رجل هذه الأمة فلما تابعناك خرجت تابعاً لهذا الأعرابي من كلب تبايع لابن أخته تابعاً له قال فتقولون ماذا قالوا نقول أن تنصرف وتظهر بيعة ابن الزبير ونظهرها معك فأجابهم إلى ذلك وسار حتى نزل مرج راهط وأقبل حسان حتى لقي مروان بن الحكم فسار حتى دخل دمشق فأتته اليمانية تشكر بلاء بني أمية فساروا مع مروان حتى نزلوا المرج على الضحاك وهم نحو سبعة آلْفاً والضحاك في نحو من ثلاثين ألافً فلقوا الضحاك فقتل الضحاك وقتل معه أشراف من قيس فأقبل زفر هارباً من وجهه ذاك حتى دخل قِرقيسياً وأقام عمير بن الحباب شيئاً على طاعة بني مروان ثم أقبل حتى دخل فرقيسياً على زفر فأقام معه وذلك بعد يوم خازر حين قتل عبيد الله بن زياد وأقبل زفر يبكي قتلى المرج ويقول ( لعَمْرِي لقد أبقَت وَقيعةُ راهِطٍ ... لمِروان صَدْعا بيننا مُتنائيَا ) ( أتذهَبُ كَلْبٌ لم تَنَلْها رِماحُنا ... ويُترك قَتْلَى راهطٍ هِيَ ماهيَا ) ( فقد يَنْبُت المَرْعى على دِمَن الثَّرى ... وتبقى حَزازَاتُ النُّفوس كما هِيَا ) ( أبعدَ ابنِ صَفَرٍ وابنِ عَمرو تتابعا ... ومَصْرَعِ هَمَّام أُمَنَّي الأمانيا ) فقال ابن المخلاة الكلبي يجيبه ( لعَمْري لقد أبقَت وَقيَعةُ راهطٍ ... على زُفَرٍ داءً من الدَّاءِ باقِيَا ) ( تُبَكِّي على قَتْلى سُلَيمٍ وعامرٍ ... وذُبيانَ مغروراً وتُبْكي البَواكيَا ) وقال ابن المخلاة في يوم المرج ( ويومٍ ترى الرّاياتِ فيه كأنَّها ... حوائمُ طَيْرٍ مُسْتَدِيرٌ وواقعُ ) ( مضَى أَربعٌ بعد اللِّقاءِ وأَربعٌ ... وبالمرج باقٍ من دم القَوم نافِعُ ) ( طعَنَّا زِياداً في اسْنته وهو مُدْبِرٌ ... وثَورٌ أَصابَتْه السُّيوفُ القواطعُ ) ( ونَجَّى حُبَيْشاً ملهبٌ ذُو عُلالةٍ ... وقد جُذَّ من يُمنَى يدَيْه الأصابعُ ) وقد شَهِد الصَّفَّين عمرُو بنُ مُحرِزٍ ... فضاق عليه المَرجُ والمرجُ واسعُ ) وقال رجل من بني عذرة ( سائل بَني مَرْوان أهلَ العَجِّ ... رَهْطَ النَّبيِّ ووُلاة الحَجِّ ) ( عنَّا وعن قَيْسٍ غَداةَ المَرْجِ ... إذ يُثْقِفُون ثَقفَاً بِنَجِّ ) ( تَسْدِيسَ أَطْرَافِ القَنَا المُعْوَجِّ ... إذ أخلَف الضَّحَّاكَ ما يُرَجِّي ) ( مُذ تَركوا من بَعْد طول هَرْج ... لَحمَ ابنَ قيسٍ للضِّباع العُرْجِ ) وقال جواس بن القعطل الكلابي في يوم المرج ( هُمُ قَتلُوا براهطَ جدَّ قَيْسٍ ... سُلَيْماً والقبائلَ من كلابِ ) ( وهم قَتَلُوا بَني بَدْر وعَبْساً ... وأُلصِق حُرُّ وَجْهك بالتُّرابِ ) ( تَذكّرت الدُّخول فلن تُقَضَّى ... ذحولُك أََو تُساقَ إلى الحِسابِ ) ( إذا سارت قبائلُ من جَنابٍ ... وعوفٍ أَشْحنوا شُمَّ الهضابِ ) ( وقد حاربْتَنا فوجَدْتَ حَرْباً ... تُغِصُّك حين تشرَب بالشَّرابِ ) فأقبل عمير يخطر فخرج من قرقيسيا يتطرف بوادي كلب فيغير عليها وعلى من أصاب من قضاعة وأهل اليمن ويخص كلباً ومعشر تغلب قبل أن تقع الحرب بين قيس وتغلب فجعل أهل البادية ينتصفون من أهل القرار كلهم فلما رأت كلب ما لقي أصحابهم وأنهم لا يمتنعون من خيل الحاضرة اجتمعوا إلى حميد بن حريث بن بحدل فسار بهم حتى نزلوا تدمر وبه بنو نمير وقد كان بين النميريين خاصة وبين الكلبيين الذين بتدمر عقد مع ابن بحدل بن بعاج الكلبي فأرسلت بنو نمير رسلاً إلى حميد يناشدونه الحرمة فوثب عليهم ابن بعاج الكلبي فذبحهم وأرسلوا إليهم إنا قد قطعنا الذي بيننا وبينكم فالحقوا بما يسعكم من الأرض فالتقوا فقتل ابن بعاج وظفر بالنميريين فقتلوا قتلا ذريعاً وأسروا فقال راعي الإبل في قتل ابن بعاج ولم يذكر غيره من الكلبيين ( تَجِيءُ ابنَ بَعَّاج نُسورٌ كأنَّها ... مجالسُ تَبغي بيْعةً عند تاجرِ ) ( تُطِيف بكَلْبِيٍّ عليه جَدِيَّةُ ... طويل القَرَا يقذِفْنَه في الحَناجِرِ ) ( يقولُ له مَن كان يَعْلم علمه ... كذاكَ انْتقام اللهِ من كُل فاجِرِ ) وقد كان زفر بن الحارث لما أغار عمير بن الحباب على الكلبيين قال يعيرهم بقوله ( يا كلبُ قد كَلِب الزَّمان عليكُمُ ... وأصابكم منّي عَذابٌ مُرسلُ ) ( إن السَّماوةَ لا سماوةَ فاْلحقي ... بمنابِت الزَّيتُون وابَنيْ بَحْدَلِ ) وبأَرْض عَكٍّ والسَّواحلِ إِنَّها ... أرضٌ تُذَوَّب باللَّقاحِ وتُهزَلُ ) حميد بن بحدل يغير على بوادي قيس فجمع لهم حميد بن الحريث بن بحدل ثم خرج يريد الغارة على بوادي قيس فانتهى إلى ماء لبني تغلب فإذا النساء والصبيان يبكون فقالت لهم النساء وهن يحسبنهم قيساً ويحكم ما ردكم إلينا فقد فعلتم بنا بالأمس ما فعلتم فقالت لهم كلب ومالكم قالوا أغار علينا بالأمس عمير بن الحباب فقتل رجالنا واستاق أموالنا ولم يشكُكْن أن الخيل خيل قيس وأن عميراً عاد إليهن فقال بعض كلب لحميد ما تريد من نسوة قد أغير عليهن وحربن وصبية يتامى وتدع عميراً فاتبعوه فبينا هم يسيرون إذ أ خذوا رجلاً ربيئة للقوم فسألوه فقال لهم هذا الجيش هاهنا والأموال وقد خرج عمير في فوارس يريد الغارة على أهل بيت من بني زهير بن جناب أخبر عنهم مخبر فأقام حميد حتى جن عليه الليل ثم بيت القوم بياتاً وقال حميد لأصحابه شعاركم نحن عباد الله حقاً فأصابوا عامة ذلك العسكر ونجا فيمن نجا رجل عريان قذف ثوبه وجلس على فرس عري فلما انتهى إلى عمير قال عمير قد كنت أسمع بالنذير العريان فلم أره فهو هذا ويلك مالك قال لا أدري غير أنه لقينا قوم فقتلوا من قتلوا وأخذوا العسكر فقال أفتعرفهم قال لا فقصد عمير القوم وقال لأصحابه إن كانت الأعاريب فسيسارعون إلينا إذا رأونا وإن كانت خيول أهل الشام فستقف وأقبل عمير فقال حميد لأصحابه لا يتحركن منكم أحدٌ وانصبوا القنا فحمل عمير حملة لم تحركهم ثم حمل فلم يتحركوا فنادى مراراً ويحكم من أنتم فلم يتكلموا فنادى عمير أصحابه ويلكم خيل بني بحدل والأمانة انصرف على حاميته فحمل عليه فوارس من كلب يطلبونه ولحقه مولى لكلب يقال له شقرون فاطعنا فجرح عمير وهرب حتى دخل قرقيسيا إلى زفر ورجع حميد إلى من ظفر به من الأسرى والقتلى فقطع سبالهم وأنفهم فجلعها في خيط ثم ذهب بها إلى الشام وقال قائل بل بعث بها إلى عمير وقال كيف ترى أوقعي أم وقعك فقال في ذلك سنان بن جابر الجهني ( لقد طار في الآفاق أَنَّ ابنَ بَحْدلٍ ... حُمَيْداً شَفَى كَلْباً فقرَّت عُيُونُها ) ( وعرَّف قَيْساً بالهوان ولم تكن ... لتَنْزِع إلاَّ عند أمرٍ يُهِينُها ) ( فقلتُ له قَيسُ بنُ عَيْلان إِنَّه ... سرِيعٌ إذا ما عضَّت الحربُ لِينُها ) ( سما بالعِتاق الجُردْ من مَرْج راهطٍ ... وتَدْمُرَ يَنْوي بَذْلَها لا يَصونُها ) ( فكان لها عَرضُ السَّماوةِ ليلَةً ... سَواءٌ عليها سَهْلُها وحُزونُها ) ( فمَنْ يَحْتَمِلْ في شأن كَلْبٍ ضَغِينةً ... علينا إذا ما حانَ في الحَرْب حِينُها ) ( فإنَّا وكَلْباً كاليدين متى تَضَعْ ... شِمالك في شيْ تُعِنْها يَمْينُها ) ( لقد تُركتْ قَتْلَى حُمَيدِ بن بَحْدل ... كثيراً ضواحِيها قليلاً دَفينُها ) ( وقَيْسِيَّةٍ قد طَلَّقْتها رِماحُنَا ... تلفَّتُ كالصَّيْداءِ أَودَى جَنينُها ) وقال سنان أيضاً في هذا الأُمر بعد ما أوقع ببني فزارة ( يا أُختَ قَيْسَ سَلي عنّا علانِيَةً ... كي تُخبري من بَيان العلْم تِبْيانَا ) ( إنَّا ذَوُو حَسَبٍ مالٍ وَمكْرُمَةٍ ... يومَ الفَخارِ وخَيرُ النَّاسِ فُرْسانا ) ( منّا ابنُ مُرَّة عَمْرٌو قد سَمِعْتِ به ... غَيْثُ الأرامل لا يُردَينَ ما كانا ) ( والبَحْدَليُّ الذي أردت فوارسُه ... قيساً غَداةَ اللّوى من رمل عَدْنانا ) ( فغادرت حَلْبَساً منها بمُعْتَرَكٍ ... والجعدَ مُنعَفراً لم يُكْسَ أَكفانَا ) ( كائِن تَرَكْنا غداةَ العاهِ من جَزَرٍ ... للطير منهم ومن ثَكْلى وثكْلانَا ) ( ومن غوانٍ تُبكِّي لا حَمِيمَ لها ... بالعاهِ تدعو بني عَمٍّ وإخوانا ) فلما انتهى الخبر إلى عبد الملك بن مروان وعبد الله ومصعب يومئذ حيان وعند عبد الملك حسان بن مالك بن بحدل وعبد الله بن مسعدة بن حكم الفزاري وجيء بالطعام فقال عبد الملك لابن مسعدة ادن فقال ابن مسعدة لا والله لقد أوقع حميد بسليم وعامر وقعة لا ينفعني بعدها طعام حتى يكون لها غير فقال له حسان أجزعت أن كان بيني وبينكم في الحاضرة على الطاعة والمعصية فأصبنا منكم يوم المرج وأغار أهل قرقيسا بالحاضرة على البادية بغير ذنب فلما رأى حميد ذلك طلب بثأر قومه فأصاب بعض ما أصابهم فجزعت من ذلك وبلغ حميداً قول ابن مسعدة فقال والله لأشغلنه بمن هو أقرب إليه من سليم وعامر فخرج حميد في نحو من مائتي فارس ومعه رجلان من كلب دليلان حتى انتهى إلى بني فزارة أهل العمود لخمس عشرة مضت من شهر رمضان فقال بعثني عبد الملك بن مروان مصدقاً فابعثوا إلى كل من يطيق أن يلقانا ففعلوا فقتلهم أو من استطاع منهم وأخذ أموالهم فبلغ قتلاهم نحوا من مائة ونيف فقال عويف القوافي ( مَنَا الله أن ألقى حُمَيْد بنَ بَحْدل ... بمنزلة فيها إلى النّصف مُعْلَماً ) ( لكيما نُعاطيه وَنَبلوَ بيننا ... سُريْجِيّةً يُعجِمن في الهام مُعجماً ) ( ألا ليت أنِّي صادفَتْنِي مَنِيَّتي ... ولم أرَ قَتْلَى العامِ يا أُمَّ أسْلَما ) ( ولم أرَ قَتلَى لم تَدَع لي بعدَها ... يَدَيْن فما أرجو من العيش أَجذَما ) ( وأُقْسِم ما لَيثٌ بخَفّان خادِرٌ ... بأشجع من جعْدٍ جَناناً ومُقَدَما ) يعني الجعد بن عمران بن عيينة وقتل يومئذٍ أسماء بن خارجة يشكو حميداً إلى عبد الملك فلما رجع عبد الملك من الكوفة وقتل مصعب لحقه أسماء بن خارجة بالنخيلة فكلمه فيما أتى حميد به إلى أهل العمود من فزارة وقال حدثنا أنه مصدقك وعاملك فأجبناك وبك عُذنا فعليك وفي ذمتك ما على الحر في ذمته فأقدنا من قضاعي سكير فأبى عبد الملك وقال أنظر في ذلك وأستشير وحميد يجحد وليست لهم بينة فوداهم ألف ألف ومائتي ألف وقال إني حاسبها في أعطيات قضاعة فقال في ذلك عمرو بن مخلاة الكلبي صوت ( خُذوها يا بَني ذُبْيان عَقْلاً ... على الأجياد ِواعتقِدوا الخِداما ) ( دَراهِمَ من بني مَرْوانَ بيضاً ... يُنَجِّمها لكم عاماً فعاما ) ( وأيقَنَ أنَّه يومٌ طويل ... على قَيْسٍ يُذِيقُهُم السِّماما ) ( ومُخْتَبٍّ أمام القوم يَسْعَى ... كسِرحانِ التَّنُوفَةِ حين ساما ) ( رأى شَخْصاً على بلد بَعيد ... فكبَّر حين أبصَره وقاما ) ( وأقبلَ يسألُ البُشْرى إلينا ... فقال رأيتُ إنساً أو نعاما ) ( وقال لخَيْله سيرى حُمَيد ... فإنّ لكُلّ ذي أجَل حماما ) ( فما لاقيتُ من سجح وبدر ... ومُرَّة فاتركي حَطباً حُطاما ) ( بكل مُقلَّص عَبْلٍ شَواه ... يَدُقُّ بِوقْع نابَيْه اللِّجامَا ) ( وكل طِمِرَّةٍ مَرَطى سَبوحٍ ... إذا ما شَدَّ فارِسُها الحِزاما ) ( وقائِلةٍ على دَهَشٍ وحُزْنٍ ... وقد بلَّت مدامِعُها اللِّثامَا ) ( كأنَّ بَني فَزارةَ لم يكونوا ... ولم يَرْعَوْا بأَرْضهم الثُّمامَا ) ( ولم أرَ حاضراً منهم بِشاءٍ ... ولا مَنْ يملِك النَّعَم الرُّكامَا ) قال فلما أخذوا الدية انطلقت فزارة فاشترت خيلا وسلاحا ثم استتبعت سائر قبائل قيس ثم أغارت على ماء يدعى بنات قين يجمع بطوناً من بطون كلب كثيرة وأكثر من عليه بنو عبد ود وبنو عليم بن جناب وعلى قيس يومئذٍ سعيد ابن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر وحلحلة بن قيس بن الأشيم بن يسار أحد بني العشراء فلما أغاروا نادوا بني عليم إنا لا نطلبكم بشيء وإنما نطلب بني عبد ود بما صنع الدليلان اللذان حملا حميداً وهما المأمور ورجل آخر اسمه أبو أيوب فقتل من العبديين تسعة عشر رجلاً ثم مالوا على العليميين فقتلوا منهم خمسين رجلاً وساقوا أموالاً فبلغ الخبر عبد الملك فأمهل حتى إذا ولي الحجاج العراق كتب إليه يبعث إليه سعيد بن عيينة وحلحلة بن قيس ومعهما نفر من الحرس فلما قدم بهما عليه قذفهما في السجن وقال لكلب والله لئن قتلتم رجلاً لأهريقن دماءكم فقدم عليه من بني عبد ود عياض ومعاوية ابنا ورد ونعمان بن سويد وكان سويد أبوه ابن مالك يومئذٍ أشرف من قتل يوم بنات قين وكان شيخ بني عبد ود فقال له النعمان دماءنا يا أمير المؤمنين فقال له عبد الملك إنما قتل منكم الصبي الصغير والشيخ الفاني فقال النعمان قتل منا والله من لو كان أخاً لأبيك لاختير عليك في الخلافة فغضب عبد الملك غضباً شديداً فقال له معاوية وعياض يا أمير المؤمنين شيخ كبير موتور فأعرض عنه عبد الملك وعرض الدية وجعل خالد بن يزيد بن معاوية ومن ولدته كلب يقولون القتل ومن كانت أمه قيسية من بني أمية يقولون لا بل الدية كما فعل بالقوم حتى ارتفع الكلام بينهم بالمقصورة فأخرجهم عبد الملك ودفع حلحلة إلى بعض بني عبد ود ودفع سعيد بن عيينة إلى بعض بني عليم وأقبل عليهما عبد الملك فقال ألم تأتياني تستعدياني فأعديتكما وأعطيتكما الدية ثم انطلقتما فأخفرتما ذمتي وصنعتما ما صنعتما فكلمه سعيد بكلام يستعطفه به ويرققه فضرب حلحلة صدره وقال أترى خضوعك لابن الزرقاء نافعك عنده فغضب عبد الملك وقال اصبر حلحلة فقال له أصبر من عود بجنبيه جلب فقتلا وشق ذلك على قيس وأعظمه أهل البادية منهم والحاضرة فقال في ذلك علي بن الغدير الغنوي ( لِحَلْحَلَة القَتِيلِ ولاْبنِ بدْر ... وأهل دِمَشْقَ أنْجِبِة تَبِينُ ) ( فبَعْد اليَوْم أيّامٌ طِوالٌ ... وبعد خمودِ فتنْتِكم فُتونُ ) ( وكلُّ صَنِيعةٍ رصدٌ ليومٍ ... تحُلّ به لصاحِبها الزّبون ) ( خليفة أُمّةٍ قُسٍرت عليه ... تخمَّط واستخفَّ بَمًنْ يدينُ ) ( فقد أتيا حُمَيْد ابن المنايَا ... وكُلُّ فتىً سَتَشْعَبه المَنُونُ ) وقال رجل من بني عبد ودّ ( نحن قتَلْنا سَيِّدَهْم بشَيْخِنا ... سُوَيدٍ فما كانا وفاءً به دَمَا ) وقال حلحلة وهو في السجن ( لعَمْري لئن شَيْخا فَزارَة أُسلِما ... لقد خَزِيت قَيْسٌ وما ظَفِرت كَلْبُ ) وقال أرطاة بن سهية يحرض قيساً ( أيُقتَلُ شَيْخُنا ويُرَى حُمَيْدٌ ... رَخيّ البالِ مُنتَشِياً خُمورَاً ) ( فإن دُمنا بذَاك وطال عُمْر ... بنا وبكُم و لم نَسْمع نَكيراً ) ( فناكَتْ أُمَّها قيسٌ جِهاراً ... وعضَّت بعدَها مُضَرُ الأيُورَا ) وقالت عميرة بنت حسان الكلبية تفخر بفعل حميد في قيس ( سَمَت كلبٌ إلى قْيسٍ بجَمْعٍ ... يَهُدّ مناكِبَ الأكَم الصِّعابِ ) ( بذِي لَجَبٍ يدُقُّ الأرضَ حتى ... تُضايق من دعا بِهَلا وهَابِ ) ( نَفَين إلى الجزيرة فلَّ قيْسٍ ... إلى بَقٍّ بها وإلى ذُبابِ ) ( وألفَينا هَجينَ بنِي سُلَيْم ... يُفدِّي المُهرَ من حُبّ الإيابِ ) ( فلولا عَدْوة المُهْر المُفدّى ... لأُبْتَ وأبتَ وأنتَ مُنْخَرقُ الإهابِ ) ( ونَجّاه حَثيثُ الرَّكْض منا ... أُصَيْلاناً ولَونُ الوجْه كابِي ) ( وآض كأنه يُطلَى بوَرْسٍ ... ودُقَّ هُوِىَّ كاسِرةٍ عُقابِ ) ( حَمِدت اللَّهَ إذ لَقِّي سُلَيْماً ... على دُهْمان صَقْرِ بَني جَنابِ ) ( تركن الرُّوقَ من فَتَيات قَيْس ... أيامَى قد يَئِسن من الخِضابِ ) ( فهُنَّ إذا ذَكَرن حُمَيْد كَلْب ... نَعقْن برَنَّةٍ بعد انْتِحابِ ) ( متى تَذْكُر فتى كَلْب حُمَيْداً ... تَرَ القَيْسيَّ يشرَقُ بالشَّرابِ ) عويف يمدح عيينة بن اسماء أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال أخبرني عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال أنشدني رجل من بني فزارة لعويف القوافي وهو عويف بن معاوية بن عقبة ابن حصن بن حذيفة الفزاري وكانت أخته عند عيينة بن أسماء بن خارجة فطلقها فكان عويف مراغماً لعيينة وقال الحرة لا تطلق بغير ما بأس فلما حبس الحجاج عيينة وقيده قال عويف ( مَنَع الرُّقادَ فما يُحسُّ رُقادُ ... خَبرٌ أتاك ونامت العُوَّادُ ) ( خَبرٌ أَتاني عن عُيَيْنة مُوجِعٌ ... ولِمِثْله تَتَصَدَّع الأكبادُ ) ( بلغ النفوسَ بلاؤُها فكأننا ... مَوتى وفينَا الرُّوحُ والأجسادُ ) ( ساءَ الأقاربَ يوم ذاك فأصْبَحُوا ... بهجينَ قد سُرّوا به الحُسّادُ ) ( يرجون عَثْرة جَدِّنا ولو أنهم ... لا يدفعون بنا المكاراهَ بادُوا ) ( لمّا أتاني عن عُيَيْنَة أنَّه ... عانٍ تَظاهرُ فوقه الأٌقيادُ ) ( نَخَلت له نَفْسي النَّصيحَة إنه ... عند الشَّدائِد تَذْهَب الأحقْادُ ) ( وذَكرتُ أَيُّ فتىً يَسُدُّ مكانَه ... بالرِّفدِ حين تَقاصرُ الأرفادُ ) ( أم مَنْ يُهِينُ لنا كَرائمَ مالِه ... ولنا إذا عُدْنا إليه مُعادُ ) ( لو كان من حَضَنٍ تضَاءَل رُكنُه ... أو من نَضَادَ بكت عليه نَضَادُ ) أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال قال العتبي سأل عويف القوافي في حمالة فمر به عبد الرحمن بن محمد بن مروان وهو حديث السن فقال له لا تسأل أحداً وصر إلي أكفك فأتاه فاحتملها جمعاء له فقال عويف يمدحه ( غلامٌ رماه اللّهُ بالخير يافِعاً ... له سِيمِياءٌ لا تَشُقُّ على البَصَرْ ) ( كأنّ الثُّريا عُلِّقت في جَبِينِه ... وفي حَدِّه الشِّعْرَى وفي جِيده القَمَرْ ) ( ولمَّا رَأََى المجدَ استُعِيرت ثيابُه ... تَرَدَّى رِداءً واسِعَ الذيل واتّزرْ ) ( إذا قيلَت العَوراءُ أغْضَى كأنّه ... ذلِيلٌ بلا ذُلِّ ولو شاء لا نْتَصَرْ ) ( رَآني فآساني ولو صَدَّ لم ألُم ... على حينَ لا بادٍ يُرجَّى ولا حَضَرْ ) قال أبو زيد هذه الأبيات لابن عنقاء الفزاري يقولها في ابن أخ له كان قوم من العرب أغاروا على نعم ابن عنقاء فاستاقوها حتى لم يبق له منها شيء فأتى ابن أخيه فقال له يا بن أخي إنه نزل بعمك ما ترى فهل من حلوبة قال نعم يا عم يروح المال وأبلغ مرادك فلما راح ماله قاسمه إياه وأعطاه شطره فقال ابن عنقاء ( رآني على ما بِي عميلة فاشتكى ... إلى ماله حالي أسرَّ كما جَهَرْ ) وذكر بعد هذا البيت باقى الأبيات قال أبو زيد وإنما تمثلها عويف عويف يمدح عمر بن عبد العزيز ويرثي سليمان بن عبد الملك أخبرني محمد بن خلف وكيع والحسن بن علي قالا حدثنا الغلابي قالا حدثنا محمد بن عبيد الله عن عطاء بن مصعب عن عاصم بن الحدثان قال لما مات سليمان بن عبد الملك وولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وفد حذف إليه عويف القوافي وقال شعراً رثى به سليمان ومدح عمر فيه فلما دخل إليه أنشده ( لاح سحابٌ فرأينا برقَهُ ... ثم تدانَى فَسَمِعْنا صَعْقَهُ ) ( وراحت الرِّيحُ تُزَجِّي بُلْقَهُ ... ودُهْمَه ثم تُزَجي وُرْقَهُ ) ( ذاك سَقَى قَبْراً فَروَّى وَدْقَهُ ... قبرَ امرىءٍ عَظَّم ربّي حَقَّهُ ) ( قبرَ سليمانَ الذي من عَقّهُ ... وجَحَد الخير الذي قد بَقَّهُ ) ( في المسلمين جِلّة ودِقّهُ ... فارق في الجُحود مِنه صِدْقَهُ ) ( قد ابتلى الَّلهُ بخيرٍ خلقَهُ ... ألْقى إلى خير قريش وَسْقَهُ ) ( يا عُمرَ الخَيْرِ المُلَقَّى وَفْقَهُ ... سُمِّيت بالفاروق فافرُقْ فَرْقَهُ ) ( وأرزُق عِيالَ المُسلِمِين رِزْقَهُ ... واقْصِد إلى الجُودِ ولا تَوقَّهُ ) ( بحَرُكَ عَذبُ الماء ما اعقّه ... ربُّك فالمَحْروم مَنْ لم يُسْقَهُ ) فقال له عمر لسنا من الشعر في شيء ومالك في بيت المال حق فألح عويف يسأله فقال يا مزاحم انظر فيما بقي من أرزاقنا فشاطره إياه ولنصبر على الضيق إلى وقت العطاء فقال له عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الملك بل توفر يا أمير المؤمنين وعلي رضا الرجل فقال ما أولاك بذلك فأخذ بيده وانصرف به إلى منزله وأعطاه حتى رضي صوت ( صَفراءُ يَطْوِيها الضَّجِيعُ لصُلْبِهَا ... طيِّ الحِماَلةِ لَيِّنٌ مَثْناها ) ( نِعْم الضَّجِيعُ إذا النُّجوم تَغَوَّرت ... بالغَوْر أُولاها على أُخْراها ) ( عَذْبٌ مُقَبِّلُها وَثِيرٌ رِدْفُها ... عَبْلٌ شَواها طَيِّبُ مَجْناها ) ( يا دارَ صَهْباء التي لا أَنْتَهِي ... عن حُبِّها أبداً ولا أُنْساها ) الشعر لعبد الله بن جحش الصعاليك والغناء فيه لعلي بن هشام ثقيل أول بالوسطى من كتاب أحمد بن المكي أخبار عبد الله بن جحش أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى أبو غسان عن غسان بن عبد الحميد قال كان بالمدينة امرأة يقال لها صهباء من أحسن الناس وجهاً وكانت من هذيل فتزوجها ابن عم لها فمكث حيناً معها لا يقدر عليها من شدة ارتتاقها فأبغضته وطالبته بالطلاق فطلقها ثم أصاب الناس مطر شديد في الخريف فسال العقيق سيلاً عظيماً وخرج أهل المدينة وخرجت صهباء معهم فصادفت عبد الله بن جحش وأصحابه في نزهة فرآها وافترقا ثم مضت إلى أقصى الوادي فاستنقعت في الماء وقد تفرق الناس وخفوا فاجتاز بها ابن جحش فرآها فتهالك عليها وهام بها وكان بالمدينة امرأة تدل على النساء يقال لها قطنة كانت تداخل القرشيات وغيرهن فلقيها ابن جحش فقال لها اخطبي علي صهباء فقالت قد خطبها عيسى بن طلحة بن عبيد الله وأجابوه ولا أراهم يختارونك عليه فشتمها ابن جحش وقال لها كل مملوك له فهو حر لئن لم تحتالي فيها حتى أتزوجها لأضربنك ضربة بالسيف وكان مقداماً جسوراً ففرقت منه فدخلت على صهباء وأهلها فتحدثت معهم ثم ذكرت ابن عمها فقالت لعمة صهباء ما باله فارقها فأخبرتها خبرها وقالت لم يقدر عليها وعجز عنها فقالت لها وأسمعت صهباء إن هذا ليعتري كثيراً من الرجال فلا ينبغي أن تتقدموا في أمرها إلا على من تختبرونه وأما والله لو كان ابن جحش لصهباء لثقبها ثقب اللؤلؤ ولو رتقت بحجر ثم خرجت من عندهم فأرسلت إليها صهباء مري ابن جحش فليخطبني فلقيته قطنة فأخبرته الخبر فمضى فخطبها فأنعمت له وأبى أهلها إلا عيسى بن طلحة وأبت هي إلا ابن جحش فتزوجته ودخل بها وافتضها وأحب كل واحد منهما صاحبه فقال فيها ( نِعْم الضّجِيعُ إذا النُجومَ تَغوَّرت ... بالغَوْر أُولاها على أُخراها ) ( عَذْبٌ مُقبَّلُها وثيرٌ رِدْفُها ... عَبْلٌ شَواها طَيِّب مَجْناها ) ( صفراءُ يَطوِيها الضجِيعُ لِجَنِبِها ... طَيَّ الحِمالة لَيِّن مَتْنَاها ) ( لو يَسْتَطِيع ضجِيعُها لأجنّها ... في الجَوْف حبّ نسميها ونشاها ) ( يا دارَ صَهباء التي لا أنتَهِي ... عن ذكرها أبداً ولا أنْساها ) عبد الملك بن مروان يعجب بشعره أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني عبد الرحيم بن أحمد بن زيد بن الفرج قال حدثني محمد بن عبد الله قال كان عبد الملك بن مروان معجباً بشعر عبد الله بن جحش فكتب إليه يأمره بالقدوم عليه فورد كتابه وقد توفي فقال إخوانه لابنه لو شخصت إلى أمير المؤمنين عن إذنه لأبيك لعله كان ينفعك ففعل فبينا هو في طريقه إذ ضاع منه كتاب الإذن فهم بالرجوع ثم مضى لوجهه فلما قدم على عبد الملك سأله عن أبيه فأخبره بوفاته ثم سأله عن كتابه فأخبره بضياعه فقال له أنشدني قول أبيك صوت ( هل يُبلِغَنْها السلامَ أربعةٌ ... مِنّي وإن يفْعلوا فقد نَفَعُوا ) ( على مِصَكّيْن من جِمالهُم ... وعَنْتَرِيسَين فيهما سَطَع ) ( حَرَّب جِيرانُنَا جِمالَهُمُ ... صُبحاً فأضْحَوا بها قد انْتَجَعُوا ) ( ما كنتُ أدْرِي بوَشْكَ بَيْنِهمُ ... حتى رأيتُ الحُداةَ قد طَلَعُوا ) ( قد كاد قَلْبي والعين تُبْصرهم ... لما تَوَلَّى بالقوم يَنصْدعُ ) ( ساروا وخُلِّفتُ بعدهم دَنِفاً ... أَليسَ بالله بِئْسَ ما صَنَعوا ) قال لا والله يا أمير المؤمنين ما أرويه قال لا عليك فأنشدني قول أبيك صوت ( أَجدّ اليومَ جيرتُك الغِيارا ... رَواحاً أم أرادوه ابتِكارا ) ( بعينِك كان ذاك وإن يَبِينوا ... يَزِدْك البَينُ صَدْعاً مُسْتَطارا ) ( بَلَى أبقَت من الجِيران عندي ... أُنَاساً ما أُوافِقُهم كُثِارا ) ( وماذا كَثْرةُ الجِيران تُغنِي ... إذا ما بان مَنْ أهوَى فَسارا ) قال لا والله ما أرويه يا أمير المؤمنين قال ولا عليك فأنشدني قول أبيك ( دارٌ لصَهْباء التي لا يَنْثَني ... عن ذكرها قلبي ولا أنساَها ) ( صَفراءُ يطوِيها الضّجِيعُ لصُلْبها ... طَيّ الحمالة ليِّن مَتْناها ) ( لو يَستطيعُ ضَجِيعُها لأجنّها ... في القلب شَهْوةَ ريحها ونَشَاها ) قال لا والله يا أمير المؤمنين ما أرويه وإن صهباء هذه لأمي قال ولا عليك قد يبغض الرجل أن يشبب بأمه ولكن إذا نسب بها غير أبيه فأف لك ورحم الله أباك فقد ضيعت أدبه وعققته إذ لم ترو شعره اخرج فلا شيء لك عندنا صوت ( أماطَتْ كِساءَ الخَزّ عن حُرِّ وَجْهها ... وأدَنَت على الخَدَّين بُرْداً مُهَلْهَلاَ ) ( من اللاّءِ لم يَحجُجْنَ يَبْغِين حِسْبةً ... ولكن يُقَتِّلن البريءَ المُغفّلا ) ( رأتْنِي خَضِيبَ الرّأس شمّرتُ مِئْزري ... وقد عَهِدتْني أسودَ الرّأسِ مُسبَلا ) ( خَطُوّاً إلى اللّذاتِ أجرَرْتُ مِئْزَرِي ... كإجرارِك الحَبْلَ الجواد المُحَجَّلا ) ( صَريعَ الهَوَى لا يبرَحُ الحبُّ قائِدِي ... بشَرّ فلم أعدِل عن الشَّرِّ مَعْدلا ) ( لَدَى الجَمْرة القُصْوى فرِيعَت وهَلَّلت ... ومَنْ رِيعَ في حَجٍّ من الناس هَلَّلاَ ) الشعر للعرجي والغناء لعبد الله بن العباس الربيعي ثقيل أول في الأول والثاني والخامس والسادس من هذه الأبيات وهو من جيد الغناء وفاخر الصنعة ويقال إنه أول شعر صنعه ولعزار المكي في الثالث وما بعده ثاني ثقيل عن يحي المكي وغيره وفيه خفيف ثقيل ينسب إلى معبد وإلى ابن سريج وإلى الغريض وفيه لإبراهيم لحن من كتابه غير مجنس وأنا ذاكر هاهنا أخباراً لهذا الشعر من أخبار العرجي إذ كان أكثر أخباره قد مضى سوى هذه بعض أخبار للعرجي أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا إسماعيل بن مجمع عن المدائني عن عبد الله بن سليم قال قال عبيد الله بن عمر العمري خرجت حاجاً فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام رفثت فيه فأدنيت ناقتي منها ثم قلت لها يا أمة الله ألست حاجة أما تخافين الله فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا ثم قالت تأمل يا عمي فإني ممن عنى العرجي بقوله ( من اللاءِ لم يَحْجُجْن يَبْغين حِسْبةً ... ولكن لَيَقْتُلْنَ البريءَ المُغَفَّلا ) قال فقلت لها فإني أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار قال وبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال أما والله لو كان من بعض بغضاء أهل العراق لقال لها اعزبي قبحك الله ولكنه ظرف عباد الحجاز وقد رويت هذه الحكاية عن أبي حازم بن دينار أخبرني به وكيع قال حدثنا أحمد بن زهير قال حدثنا مصعب الزبيري قال حدثني عبد الرحمن بن أبي الحسن وقد روى عنه ابن أبي ذئب قال بينا أبو حازم يرمي الجمار إذ هو بامرأة متشعبذة يعني حاسرة فقال لها أيتها المرأة استتري فقالت إني والله من اللواتي قال فيهن الشاعر قوله ( من اللاءِ لم يَحْجُجْنَ يَبْغِينَ حِسْبَةً ... ولكن ليَقْتُلْن البَريءَ المُغَفَّلا ) ( وترمي بعَيْنَيْها القُلوبَ ولا تَرَى ... لها رَميةً لم تُصمِ منهن مَقْتَلا ) فقال أبو حازم لأصحابه ادعوا الله لهذه الصورة الحسنة ألا يعذبها بالنار وأبو حازم هذا هو أبو حازم بن دينار من وجوه التابعين قد روى عن سهل بن سعد وأبي هريرة وروى عنه مالك وابن أبي ذئب ونُظراؤهما حدثني عمي قال حدثني الكراني قال حدثني العمري عن العتبي عن الحكم بن صخر قال انصرفت من منى فسمعت زفناً من بعض المحامل ثم ترنمت جارية فتغنت ( من اللاءِ لم يَحْجُجْن يَبغِين حِسْبةً ... ولكن لَيَقْتُلنَ البرِيءَ المُغَفَّلا ) فقلت لها أهذا مكان هذا يرحمك الله فقالت نعم وإياك أن تكونه أخبار عبد الله بن العباس الربيعي عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع والربيع على ما يدعيه أهله ابن يونس بن أبي فروة وقيل إنه ليس ابنه وآل أبي فروة يدفعون ذلك ويزعمون أنه لقيط وجد منبوذاً فكفله يونس بن أبي فروة ورباه فلما خدم المنصور ادعى إليه وأخباره مذكورة مع أخبار ابنه الفضل في شعر يغنى به من شعر الفضل وهو ( كنتُ صَبّاً وقَلْبيَ اليوم سالي ... ) ويكنى عبد الله بن العباس أبا العباس شعره مطبوع وهو مغن جيد الصنعة وكان شاعراً مطبوعاً ومغنياً محسناً جيد الصنعة نادرها حسن الرواية حلو الشعر ظريفه ليس من الشعر الجيد الجزل ولا من المرذُول ولكنه شعر مطبوع ظريف مليح المذهب من أشعار المترفين وأولاد النعم حدثني أبو القاسم الشيربابكي وكان نديماً لجدي يحي بن محمد عن يحي بن حازم قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال دخل محمد بن عبد الملك الزيات عن الواثق وأنا بين يديه أغنيه وقد استعادني صوتاً فاستحسنه فقال له محمد بن عبد الملك هذا والله يا أمير المؤمنين أولى الناس بإقبالك عليه واستحسانك له واصطناعك إياه فقال أجل هذا مولاي وابن مولاي وابن موالي لا يعرفون غير ذلك فقال له ليس كل مولى يا أمير المؤمنين بولي لمواليه ولا كل مولى متجمل بولائه يجمع ما جمع عبد الله من ظرف وأدب وصحة عقل وجودة شعر فقال الحسن له صدقت يا محمد فلما كان من الغد جئت محمد بن عبد الملك شاكراً لمحضره فقلت له في أضعاف كلامي وأفرط الوزير أعزه الله في وصفي وتقريظي بكل شيء حتى وصفني بجودة الشعر وليس ذلك عندي وإنما أعبث بالبيتين والثلاثة ولو كان عندي أيضاً شيء بعد ذلك لصغر عن أن يصفه الوزير ومحله في هذا الباب المحل الرفيع المشهور فقال والله يا أخي لو عرفت مقدار شعرك وقولك ( يا شادِناً رام إذ مَرّ ... في السَّعانين قَتْلِي ) ( يقول لي كَيْفَ أَصْبَحْت ... كيف يُصبِحُ مِثْلي ) لما قلت هذا القول والله لو لم يكن لك شعر في عمرك كله إلا قولك كيف يصبح مثلي لكنت شاعراً مجيداً حدثني جحظة قال حدثني أحمد بن الطيب قال حدثني حماد بن إسحاق قال سمعت عبد الله بن العباس الربيعي يقول أنا أول من غنى بالكَنكلة في الإسلام ووضعت هذا الصوت عليها ( أتاني يُؤامِرُني في الصَّبُوح ... ليلاً فقلتُ له غادِها ) سبب تعلمه الغناء حدثني جعفر بن قدامة قال حدثناعلي بن يحي المنجم قال حدثني عبد الله بن العباس الربيع يقال كان سبب دخولي في الغناء وتعلمي إياه أني كنت أهوى جارية لعمتي رقية بنت الفضل بن الربيع فكنت لا أقدر على ملازمتها والجلوس معها خوفا من أن يظهر ما لها عندي فيكون ذلك سبب منعي منها فأظهرت لعمتي أنني أشتهي أن أتعلم الغناء ويكون ذلك في ستر عن جدي وكان جدي وعمتي في حال من الرقة علي والمحبة لي لا نهاية وراءها لأن أبي توفي في حياة جدي الفضل فقالت يا بني وما دعاك إلى ذلك فقلت شهوة غلبت على قلبي إن منعت منها مت غما وكان لي في الغناء طبع قوي فقالت لي أنت أعلم وما تختاره والله ما أحب منعك من شيء وإني لكارهة أن تحذق ذلك وتشهر به فتسقط ويفتضح أبوك وجدك فقلت لا تخافي ذلك فإنما آخذ منه مقدار ما ألهو به ولا زمت الجارية لمحبتي إياها بعلة الغناء فكنت آخذ عنها وعن صواحباتها حتى تقدمت الجماعة حذقاً وأقررن لي بذلك وبلغت ما كنت أريد من أمر الجارية وصرت ألازم مجلس جدي فكان يسر بذلك ويظنه تقربا مني إليه وإنما كان وكدي فيه أخذ الغناء فلم يكن يمر لإسحاق ولا لابن جامع ولا للزبير بن دحمان ولا لغيرهم صوت إلا أخذته فكنت سريع الأخذ وإنما كنت أسمعه مرتين أو ثلاثاً وقد صح لي وأحسست من نفسي قوة في الصناعة فصنعت أول صوت صنعته في شعر العرجي ( أَماطَتْ كْساءَ الخَزِّ عن حُرٍّ وَجْهِها ... وأَدنت على الخَديّن بُرْداً مُهَلْهَلا ) ثم صنعت في ( أَقْفَر من بَعْد خُلَّةٍ سَرِفُ ... فالمُنحَنى فالعَقِيقُ فالجُرُفُ ) وعرضتهما على الجارية التي كنت أهواها وسألتها عما عندها فيهما فقالت لا يجوز أن يكون في الصنعة شيء فوق هذا وكان جواري الحارث بن بسخنر وجواري ابنه محمد يدخلن إلى دارنا فيطرحن على جواري عمتي وجواري جدي ويأخذن أيضاً مني ما ليس عندهن من غناء دارنا فسمعنني ألقي هذين الصوتين على الجارية فأخذنهما مني وسألن الجارية عنهما فأخبرتهن أنهما من صنعتي فسألنها أن تصححهما لهن ففعلت فأخذنهما عنها ثم اشتهر حتى غني الرشيد بهما يوماً فاستظرفهما وسأل إسحاق هل تعرفهما فقال لا وإنهما لمن حسن الصنعة وجيدها ومتقنها ثم سأل الجارية عنهما فتوقفت خوفاً من عمتي وحذراً أن يبلغ جدي أنها ذكرتني فانتهرها الرشيد فأخبرته بالقصة فوجه من وقته فدعا بجدي فلما أحضره قال له يا فضل يكون لك ابن يغني ثم يبلغ في الغناء المبلغ الذي يمكنه معه أن يصنع صوتين يستحسنهما إسحاق وسائر المغنين ويتداولهما جواري القيان ولا تعلمني بذلك كأنك رفعت قدره عن خدمتي في هذا الشأن فقال له جدي وحق ولائك يا أمير المؤمنين ونعمتك وإلا فأنا نفي منهما برىء من بيعتك وعلي العهد والميثاق والعتق والطلاق إن كنت علمت بشيء من هذا قط إلا منك الساعة فمن هذا من ولدي قال عبد الله ابن العباس هو فأحضرنيه الساعة فجاء جدي وهو يكاد أن ينشق غيظاً فدعاني فلما خرجت إليه شتمني وقال يا كلب بلغ من أمرك ومقدارك أن تجسر على أن تتعلم الغناء بغير إذني ثم زاد ذلك حتى صنعت ولم تقنع بهذا حتى ألقيت صنعتك على الجواري في داري ثم تجاوزتهن إلى جواري الحارث بن بسخنر فاشتهرت وبلغ أمرك أمير المؤمنين فتنكر لي ولا مني وفضحت آباءك في قبورهم وسقطت الأبد إلا من المغنين وطبقة الخنياكرين فبكيت غماً بما جرى وعلمت أنه قد صدق فرحمني وضمني إليه وقال قد صارت الآن مصيبتي في أبيك مصيبتين إحداهما به وقد مضى وفات والأخرى بك وهي موصولة بحياتي ومصيبة باقية العار علي وعلى أهلي بعدي وبكى وقال عز علي يا بني أن أراك أبداً ما بقيت على غير ما أحب وليست لي في هذا الأمر حيلة لأنه أمر قد خرج عن يدي ثم قال جئني بعود حتى أسمعك وأنظر كيف أنت فإن كنت تصلح للخدمة في هذه الفضيحة وإلا جئته بك منفرداً وعرفته خبرك واستعفيته لك فأتيته بعود وغنيته غناء قديماً فقال لا بل غن صوتيك اللذين صنعتهما فغنيته إياهما فاستحسنهما وبكى ثم قال بطلت والله يا بني وخاب أملي فيك فواحزني عليك وعلى أبيك فقلت له يا سيدي ليتني مت من قبل أنكرته أو خرست ومالي حيلة ولكني وحياتك يا سيدي وإلا فعلي عهد الله وميثاقه والعتق والطلاق وكل يمين يحلف بها حالف لازمة لي لا غنيت أبداً إلا لخليفة أو ولي عهد فقال قد أحسنت فيما نبهت عليه من هذا الرشيد يطرب له ويجيزه ثم ركب وأمرني فأحضرت فوقفت بين يدي الرشيد وأنا أرعد فاستدناني حتى صرت أقرب الجماعة إليه ومازحني وأقبل علي وسكّن مني وأمر جدي بالانصراف وأمر الجماعة فحدثوني وسقيت أقداحاً وغنى المغنون جميعاً فأومأ إلي إسحاق الموصلي بعينه أن أبدأ فغن إذا بلغت النوبة إليك قبل أن تؤمر بذلك ليكون ذلك أصلح وأجود بك فلما جاءت النوبة إلي أخذت عوداً ممن كان إلى جنبي وقمت قائماً واستأذنت في الغناء فضحك الرشيد وقال غن جالساً فجلست وغنيت لحني الأول فطرب واستعاده ثلاث مرات وشرب عليه ثلاثة أنصاف ثم غنيت الثاني فكانت هذه حاله وسكر فدعا بمسرور فقال له احمل الساعة مع عبد الله عشرة آلاف دينار وثلاثين ثوباً من فاخر ثيابي وعيبة مملوءة طيباً فحمل ذلك أجمع معي قال عبد الله ولم أزل كلما أراد ولي عهد أن يعلم من الخليفة بعد الخليفة الوالي أهو أم غيره دعاني فأمرني بأن أغني فأعرفه بيميني فيستأذن الخليفة في ذلك فإن أذن لي في الغناء عنده عرف أنه ولي عهد وإلا عرف أنه غيره حتى كان آخرهم الواثق فدعاني في أيام المعتصم وسأله أن يأذن لي في الغناء فأذن لي ثم دعاني من الغد فقال ما غناؤك إلا سبباً لظهور سري وسر الخلفاء قبلي ولقد هممت أن آمر بضرب رقبتك لا يبلغني أنك امتنعت من الغناء عند أحد فوالله لئن بلغني لأقتلنك فأعتق من كنت تملكه يوم حلفت وطلق من كان يوجد عندك من الحرائر واستبدل بهن وعلي العوض من ذلك وأرحنا من يمينك هذه المشؤومة فقمت وأنا لا أعقل خوفاً منه فأعتقت جميع من كان بقي عندي من مماليكي الذين حلفت يومئذٍ وهم في ملكي وتصدقت بجملة واستفتيت في يميني أبا يوسف القاضي حتى خرجت منها وغنيت بعد ذلك إخواني جميعاً حتى اشتهر أمري وبلغ المعتصم خبري فتخلصت منه ثم غضب علي الواثق لشيء أنكره وولي الخلافة وهو ساخط علي فكتبت إليه ( أذْكُرْ أميرَ المؤمنين وسائلي ... أيّامَ أرهَبُ سَطْوةَ السَّيْفِ ) ( أدعُو إلهي أن أراكَ خليفَةً ... بين المقام ومسجد الخَيْفِ ) فدعاني ورضي عني حدثني سليمان بن أبي شيخ قال دخلت على العباس بن الفضل بن الربيع ذات يوم وهو مختلط مغتاظ وابنه عبد الله عنده فقلت له مالك أمتع الله بك قال لا يفلح والله ابني عبد الله أبداً فظننته قد جنى جناية وجعلت أعتذر إليه فقال ذنبه أعظم من ذلك وأشنع فقلت وما ذنبه قال جاءني بعض غلمان فحدثني أنه رآه بقطربل يشرب نبيذ الداذي بغير غناء فهل هذا فعل من يفلح فقلت له وأنا أضحك سهلت علي القصة قال لا تقل ذاك فإن هذا من ضعة النفس وسقوط الهمة فكنت إذا رأيت عبد الله بعد ذلك في جملة المغنين وشاهدت تبذله في هذه الحال وانخفاضه عن مراتب أهله تذكرت قول أبيه فيه قال وسمعته يوما يغني بصنعته في شعر أبي العتاهية صوت ( أنا عبدٌ لها مُقِرٌّ وما يَمْلِك ... غيرُها من النَّاس رِقا ) ( ناصحٌ مُشفِقٌ وإن كنتُ ما أُرزق ... منها والحمدُ للهِ عِتْقا ) ( ليتَني مُتُّ فاسترحْتُ فإنّي ... أبداً ما حَيِيتُ منها مُلقَّى ) لحن عبد الله بن العباس في هذا الشعر رمل أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحي وأحمد بن حمدون عن أبيه وأخبرني جحظة عن أبي عبد الله الهاشمي أن إسحاق الموصلي دخل يوماً إلى الفضل بن الربيع وابن ابنه عبد الله بن العباس في حجره قد أخرج إليه وله نحو السنتين وأبوه العباس واقف بين يديه فقال إسحاق للوقت ( مَدّ لك اللهُ الحياةَ مَدّاً ... حتى يكونَ ابنُكَ هذا جَدّاً ) ( مؤَزَّراً بمَجْده مُردّى ... ثم يُغدّى مثلَ ما تُفدىَّ ) ( أشْبَه منك سُنَّةً وخَدّاً ... وشِيَماً محمودةً ومَجْدَا ) ( كأنَّه أنتَ إذا تَبَدّى ... ) قال فاستحسن الفضل الأبيات وصنع فيها إسحاق لحنه المشهور وقال جحظة في خبره عن الهاشمي وهو رمل ظريف من حسن الأرمال ومختارها فأمر له الفضل بثلاثين ألف درهم أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني عبد الله بن عمر قال حدثني محمد ابن عبد الله بن مالك قال حدثني بعض ندماء الفضل بن الربيع قال كنا عند الفضل بن الربيع في يوم دجن والسماء ترش وهو أحسن يوم وأطيبه وكان العباس يومئذٍ قد أصبح مهموماً فجهدنا أن ينشط فلم تكن لنا في ذلك حيلة فبينا نحن كذلك إذ دخل عليه بعض الشعراء إما الرقاشي وإما غيره من طبقته فسلم وأخذ بعضادتي الباب ثم قال ( ألا انْعِم صَباحاً يا أبا الفَضْلِ واربَع ... على مربع القُطربُّليّ المُشَعْشع ) ( وعلّل نَداماك العِطاشَ بقَهْوةٍ ... لها مصرعٌ في القَوْمِ غيرُ مروَّعِ ) ( فإِنك لاقٍ كُلَّما شِئتَ لَيْلَةً ... ويوماً يُغِصّان الجفونَ بأَدْمُعِ ) قال فبكى العباس وقال صدقت والله إن الإنسان ليلقى ذلك متى يشاء ثم دعا بالطعام فأكل ث دعا بالشراب فشرب ونشط ومر لنا يوم حسن طيب حدثني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال جاءني عبد الله بن العباس في خلافة المنتصر وقد سألني عرض رقعة عليه فأعلم أني نائم وقد كنت شربت بالليل شرباً كثيراً فصليت الغداة ونمت فلما انتبهت إذا رقعة عند رأسي وفيها مكتوب ( أنا بالبابِ واقفٌ مُنْذ أصبَحْتُ ... على السّرج مُمْسِكٌ بِعنانِي ) ( وبعين البوَّابِ كُلُّ الذي بي ... ويَراني كأَنّه لا يَراني ) فأمرت بإدخاله فدخل فعرفته خبري واعتذرت إليه وعرضت رقعته على المنتصر وكلمته حتى قضى حاجته عبد الله وإسحاق أخبرني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدثنا حماد بن إسحاق قال دعا عبد الله بن العباس الربيعي يوماً أبي وسأله أن يبكر إليه ففعل فلما دخل بادر إليه عبد الله بن العباس ملتقياً وفي يده العود وغناه ( قُم نَصْطَبِح يَفدِيك كُلُّ مُبَخَّلٍ ... عاب الصبَّوحَ لحُبّه لِلمالِ ) ( من قَهْوةٍ صفراءَ صِرْفٍ مُزّةٍ ... قد عُتِّقَت في الدَّنِّ مُذْ أحوالِ ) قال وقدم الطعام فأكلنا واصطبحنا واقترح أبي هذا الصوت عليه بقية يومه قال وأتيته في داره بالمطيرة عائداً فوجدته في عافية فجلسنا نتحدث فأنشدته لذي الرمة ( إِذا ما امرؤٌ حاولْنَ أن يَقْتَتِلْنَه ... بلا إحْنَةٍ بين النّفوس ولا ذَحْلِ ) ( تبسَّمْنَ عن نَوْر الأقاحِيّ في الثَّرى ... وفَتَّرن عن أبصار مَكْحُولةٍ نُجْلِ ) ( وكَشَّفْن عن أجياد غزِلان رَمْلَةٍ ... هِجانٍ فكان القَتْلَ أو شُبْهَة القَتْلِ ) ( وإنّا لنَرضَى حين نشْكو بخَلْوةٍ ... إليهن حاجاتِ النُّفُوس بلا بَذْلِ ) ( وما الفَقرُ أَزرَى عندهنّ بوصْلِنا ... ولكن جَرَت أخلاقَهنّ على البُخْلِ ) قال فأنشدني هو ( أنّى اهْتدَتْ لمُناخِنا جُمْلُ ... ومن الكرى لعُيونِنا كُحْلُ ) ( طرَقتْ أخَا سَفَرٍ وناجِيةً ... خرقاء عرَّفني بها الرّحلُ ) ( في مَهْمَهٍ هَجَع الدّليلُ به ... وتَعَّلَلتْ بصَرِيفها البزْلُ ) ( فكأنَّ أحدثَ مَنْ ألَمَّ به ... دَرَجت على آثارِه النَّملُ ) قال إسحاق فقال لي عبد الله بن العباس كل ما يملك في سبيل الله إن فارقتك ولم نصطبح على هذين الشعرين وأنشدك وتنشدني ففعلنا ذلك وما غنينا ولا غنينا أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال لقيت عبد الله بن العباس يوماً في الطريق فقلت له ما كان خبرك أمس فقال اصطبحت فقلت على ماذا ومع من فقال مع خادم صالح بن عجيف وأنت به عارف وبخبري معه ومحبتي له عالم فاصطبحنا على زنا بنت الخس لما حملت من زنا وقد سئلت ممن حملت فقالت ( أشمُّ كغُصْن البان جَعدٌ مرجّلٌ ... شُغِفْتُ به ولو كان شَيْئاً مُدانِيا ) ( ثَكِلتُ أبي إن كُنتُ ذُقْتُ كَرِيقِه ... سُلافاً ولا عَذْباً من الماء صافِيَا ) ( وأُقسِم لو خُيِّرتُ بين فِراقه ... وبينَ أبي لاخْتَرْتُ أن لا أبا لِيَا ) ( فإن لم أُوسِّد ساعِدي بَعْد هَجْعةٍ ... غُلاماً هلالِيّاً فشُلَّت بَنانِيَا ) فقلت له أقمت على لواط وشربت على زنا والله ماسبقك إلى هذا أحد أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال أخبرني ميمون بن هارون قال كان محمد بن راشد الخناق عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع على القاطول في أيام المعتصم وكان لمحمد بن راشد غلام يقال له فائز يغني غناء حسناً فأظلتهم سحابة وهم يشربون فقال عبد الله بن العباس ( محمدُ قد جادتْ علينا بمائِها ... سحابةُ مُزنٍ بَرقُها يتهلَّلُ ) ( ونحن من القاطُولِ في مُتَربَّعٍ ... ومنزلُنا فيه المَنابِتُ مُبقِلُ ) ( فمُر فائِزاً يشدُو إذا ما سَقَيْتَني ... أعن ظُعُن الحيّ الأُلَى كُنتَ تَسألُ ) ( ولا تَسْقِنْي إلا حلالاً فإنِّنِي ... أَعافُ من الأشياءِ مالا يُحَلَّلُ ) قال فأمر محمد بن راشد غلامه فائزاً فغناه بهذا الصوت وشرب عليه حتى سكر قال وكان أبو أحمد بن الرشيد قد عشق فائزا فاشتراه من محمد بن راشد بثلاثمائة ألف درهم فبلغ ذلك المأمون فأمر بأن يضرب محمد بن راشد ألف سوطٍ ثم سئل فيه فكف عنه وارتجع منه نصف المال وطالبه بأكثر فوجده قد أنفقه وقضى دينه ثم حجر على أبي أحمد بن الرشيد فلم يزل محجوراً عليه طوال أيام المأمون وكان أمر ماله مردوداً إلى مخلد بن أبان يشرب الخمر حتى في رمضان أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال أخبرني ابن الجرجاني قال اتفق يوم النيروز في شهر رمضان فشرب عبد الله بن العباس بن الفضل في تلك الليلة إلى أن بدأ الفجر أن يطلع وقال في ذلك وغنى فيه قوله ( استعِيِني صفراءَ صافيةً ... ليلةَ النَّيْروزِ والأحدِ ) ( حرَّم الصَّوْمُ اصطباحَكُما ... فتزوَّد شُرْبَها لغَدِ ) أخبرني عمي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني إبراهيم بن المُدبر قال قال لي محمد بن الفضل الجرجاني أنشدت عبد الله بن العباس الربيعي للمعلى الطائي ( باكِرْ صَبوحَك صَبْحةَ النَّيْروزِ ... واشرَبْ بكَأسٍ مُتْرَعٍ وبِكوزِ ) ( ضَحِك الربيعُ إليك عن نُوَّارِه ... آسٍ ونِسْرِينٍ ومَرْماحُوزِ ) فاستعادنيهما فأعدتهما عليه وسألني أن أمليهما وصنع فيهما لحنا غنى به الواثق في يوم نيروز فلم يستعد غيره يومئذٍ وأمر له بثلاثين ألف درهم أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني علي بن يحي قال أنشدني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع لجميل وأنشدنيه وهو يبكي ودموعه تنحدر على لحيته صوت ( فمالكِ لما خَبَّرَ الناسُ أنَّنِي ... غَدَرتُ بظَهر الغيب لم تَسَلِيْني ) ( فأحلِف بَتّاً أو أجيء بِشاهدٍ ... من الناس عَدْلٍ إنَّهم ظَلَمُونِي ) قال وله فيه صنعة من خفيف الثقيل وخفيف الرمل أخبرني عمي قال حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثنا نافذ مولانا قال كان عبد الله بن العباس صديقا لأبيك وكان يعاشره كثيرا وكان عبد الله ابن العباس مضطبحا دهره لا يفوته ذلك إلا في يوم جمعة أو صوم شهر رمضان وكان يكثر المدح للصبوح ويقول الشعر فيه ويغني فيما يقوله قال عبيد الله فأنشدني نافذ مولانا وغيره من أصحابنا في ذلك منهم حماد بن إسحاق صوت ( ومُسْتَطيلٍ على الصَّهْبَاءِ باكرها ... في فِتْيةٍ باصطباحِ الرَّاح حُذّاقِ ) ( فكُلُّ شيءٍ رآه خاله قَدَحاً ... وكُلُّ شَخْص رآه خَالَه الساقِي ) قال ولحنه فيه خفيف رمل ثقيل قال حماد وكان أبي يستجيد هذا الصوت من صنعته ويستحسن شعره ويعجب من قوله ( فكُلُّ شَيْءِ رآه خَاله قدحَاً ... وكُلّ شَخْصٍ رآه خَالَه السّاقِي ) ويعجب من قوله ( ومُستَطيل على الصَّهْبَاءِ باكَرَها ... ) ويقول وأي شيء تحته من المعاني الظريفة قال وسمعه أبي يغنيه فقال له كأنك والله يا عبد الله خطيب يخطب على المنبر قال عبد الله بن محمد فأنشدني حماد له في الصبوح ( لا تعذِلَنْ في صَبُوحِي ... فالعَيش شُرْبُ الصَّبُوحِ ) ( ما عابَ مصْطَبِحاً قَطّ ... غيْرُ وَغْدٍ شَحِيحِ ) قال عمي قال عبيد الله دخل يوماً عبد الله بن العباس الربيعي على أبي مسلماً فلما استقر به المجلس وتحادثا ساعة قال له أنشدني شيئاً من شعرك فقال إنما أعبث ولست ممن يقدم عليك بإنشاد شعره فقال أتقول هذا وأنت القائل ( يا شادِناً رامَ إذْ مرَّ في السعَّانين قَتِلْي ... ) ( تَقول لي كَيْف أصبَحْت كْيفَ يُصْبح مِثْلِي ... ) أنت والله أعزك الله أغزل الناس وأرقهم شعراً ولو لم تقل غير هذا البيت الواحد لكفاك ولكنت شاعراً أخبرني عمي والحسين بن القاسم الكوكبي قالا حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال حدثني أحمد بن الحسين الهشامي أبو عبد الله قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال كنت جالساً على دجلة في ليلة من الليالي وأخذت دواة وقرطاساً وكتبت شعراً حضرني وقلته في ذلك الوقت صوت ( أخلَغَك الدهرُ ما تَنظرُه ... فاصبِر فذا جلُّ أَمْرِ ذا القَدَرِ ) ( لَعّلنا أن نُديل من زَمَن ... فرَّقنا والزَّمانُ ذُو غِيرَ ) قال ثم أرتج علي فلم أدر ما أقول حتى يئست من أن يجيئني شيء فالتفت فرأيت القمر وكانت ليلة تتمته فقلت ( فانظر إلى البَدرْ فهو يُشبِهُه ... إن كان قد ضَنَّ عنك بالنَّظَر ) ثم صنعت فيه لحناً من الثقيل الثاني قال أبو عبد الله الهشامي وهو والله صوت حسن أخبرني جحظة عن ابن حمدون وأخبرني به الكوكبي عن علي بن محمد ابن نصر عن خالد بن حمدون قال كنا عند الواثق في يوم دجن فلاح برق واستطار فقال لو في هذا شيء فبدرهم عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع فقال هذين البيتين ( أعنِّي على لا مِعِ بارِقٍ ... خفِيَّ كلمْحِك بالحاجبِ ) ( كأنّ تألُّقه في السَّماء ... يَدا كاتِبٍ أو يَدا حاسِبِ ) وصنع فيه لحناَ شرب فيه الواثق بغية يومه واستحسن شعره ومعناه وصنعته ووصل عبد الله بصلة سنية حدثني عمي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني محمد بن محمد بن مروان قال حدثني الحسين بن الضحاك قال كنت عند عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع وهو مصطبح وخادم له قائم يسقيه فقال لي يا أبا علي قد استحسنت سقي هذا الخادم فإن حضرك شيء في قصتنا هذه فقل فقلت ( أحَيتْ صَبوحِي فُكاهةُ اللاَّهِي ... وطاب يومي بقُرْب أشبِاهي ) ( فاستَثِر اللهوَ من مَكامِنه ... من قبل يومٍ مُنغّصٍ ناهِي ) ( بابنة كَرْمٍ من كَفِّ مُنْتَطِقٍ ... مُؤْتَزرٍ بالمجُونٍ تَيّاهِ ) ( يَسقِيك من طَرْفِه ومن يَدِه ... سَقْيَ لطِيفٍ مُجرّبٍ داهي ) ( وطاساً وكاساً كأنَّ شاربَها ... حَيرانُ بين الذَّكُورِ والسَّاهي ) فاستحسنه عبد الله وغنى فيه لحناً مليحاً وشربنا عليه بقية يومنا أخبرني عمي قال حدثنا أبو عبد الله أحمد بن المرزبان بن الفيرزان قال حدثني شيبة بن هشام قال كان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قد علق جارية نصرانية قد رآها في بعض أعياد النصارى فكان لا يفارق البيع في أعيادهم شغفاً بها فخرج في عيد ما سرجيس فظفر بها في بستان إلى جانب البيعة وقد كان قبل ذلك يراسلها ويعرفها حبه لها فلا تقدر على مواصلته ولا على لقائه إلا على الطريق فلما ظفر بها التوت عليه وأبت بعض الإباء ثم ظهرت له وجلست معه وأكلوا وشربوا وأقام معها ومع نسوة كن معها أسبوعاً ثم انصرفت في يوم خميس فقال عبد الله بن العباس في ذلك وغنى فيه ( رُبَّ صَهْباء من شَرابِ المَجُوسِ ... قهوةٍ بابِليَّةٍ خَنْدَرِيسِ ) ( قد تَجَلَّيتُها بنايٍ وعُودٍ ... قبل ضربِ الشَّمَّاس بالنّاقوسِ ) ( وغَزال مُكَحَّلٍ ذِي دلالٍ ... ساحرِ الطرْفِ سامِريَّ عَرُوسِ ) ( قد خَلَوْنا بطِيبِه نَجْتَلِيه ... يوم سَبْتٍ إلى صَباحِ الخمِيسِ ) ( بين وَردٍ وبين آسٍ جَنِيٍّ ... وسط بُسْتان دَيْر ما سَرْجِيسِ ) ( يَتَثَنَّى بحُسنِ جِيدِ غزَالٍ ... وصَلِيبِ مُفَضَّضٍ آبَنُوسِي ) ( كم لثمتُ الصلِيّبَ في الجِيد منها ... كِهلالٍ مَكَلَّلٍ بشُمُوسِ ) أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان عن شيبة بن هشام قال كان عبد الله بن العباس يوماً جالساً ينتظر هذه النصرانية التي كان يهواها وقد وعدته بالزيارة فهو جالس ينتظرها ويتفقدها إذ سقط غراب على برادة داره فنعب مرة واحدة ثم طار فتطير عبد الله من ذلك ولم يزل ينتظرها يومه فلم يرها فأرسل رسوله عشاء يسأل عنها فعرف أنها قد انحدرت مع أبيها إلى بغداد فتنغص عليه يومه وتفرق من كان عنده ومكث مدة لا يعرف لها خبراً فبينا هو جالس ذات يوم مع أصحابه إذ سقط هدهد على برادته فصاح ثلاثة أصوات وطار فقال عبد الله بن العباس وأي شيء أبقى الغراب للهدهد علينا وهل ترك لنا أحداً يؤذينا بفراقه وتطير من ذلك فما فرغ من كلامه حتى دخل رسولها يعلمه أنها قد قدمت منذ ثلاثة أيام وأنها قد جاءته زائرة على إثر رسُولِها فقال في ذلك من وقته ( سقاكَ اللهُ يا هُدهدُ ... وَسْيمِيَّا من القَطْرِ ) ( كما بَشَّرتَ بالوَصْلِ ... وما أنْذَرْت بالَهَجْرِ ) ( فكم ذا لكَ من بُشْرَى ... أَتْتني منك في سِتْرِ ) ( كما جاءت سُليمانَ ... فأوفت منه بالنّذْرِ ) ( ولا زال غُرابُ البيْن ... في قُفاعَة الأسْرِ ) ( كما صَرّح بالبَيْنِ ... وما كُنتُ به أَدْرِي ) ولحنه في هذا الشعر هزج عبد الله والمتوكل والمنتصر حدثني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال قال إسحاق بن إبراهيم ابن مصعب قال لي عبد الله بن العباس الربيعي لما صنعت لحني في شعري ( ألا أصبَحاني يوم السّعانينِ ... من قَهْوةٍ عُتِّقَت بِكر كِينِ ) ( عند أُناسٍ قَلبي بهم كلِفٌ ... وإن تولّوْا دِيناً سِوَى دِينِي ) ( قد زَيّن المُلكَ جَعفرٌ وحكى ... جُودَ أبيه وبأسَ هارونِ ) ( وأَمَّن الخائِفَ البرِيءَ كما ... أَخافَ أهلَ الإلحاد في الدِّينِ ) دعاني المتوكل فلما جلست في مجلس المنادمة غنيت هذا الصوت فقال لي يا عبد الله أين غناؤك في هذا الشعر في أيامي هذه من غنائك في ( أماطَت كِساءَ الخَزٍّ عَنْ حُرٍّ وَجْهِها ... وأدْنَتْ على الخَدَّيْن بْرْداً مُهَلْهلا ) ومن غنائك في ( أقفَر من بعد خُلَّةٍ سَرِفُ ... فالمُنْحَنَى فالعَقِيقُ فالجُرُف ) ومن سائر صنعتك المتقدمة التي استفرغت محاسنك فيها فقلت له يا أمير المؤمنين إني كنت أتغني في هذه الأصوات ولي شباب وطرب وعشق ولو رد علي لغنيت مثل ذلك الغناء فأمر لي بجائزة واستحسن قولي حدثني عمي قال حدثنا أحمد بن المرزبان قال حدثني أبي قال ذكر المنتصر يوماً عبد الله بن العباس وهو في قراح النرجس مصطبح فأَحضره وقال له يا عبد الله اصنع لحناً في شعري الفلاني وغنني به وكان عبد الله حلف لا يغني في شِعره فأطرق ملياً ثم غنى في شعر قاله للوقت وهو ( يا طِيبَ يَومْي في قراح النَّرجِس ... في مَجلِس ما مِثْلُهُ مِنْ مَجْلِسِ ) ( تُسقَى مُشعْشَعةً كأنَّ شُعاعَها ... نارٌ تُشَبُّ لِبائِسٍ مُسْتقْبِسِ ) قال فجهد أبي بالمنتصر يوماً واحتال عليه بكل حيلة أن يصله بشيء فلم يفعل حدثني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني أبي فقال غضبت قبيحة على المتوكل وهاجرته فجلس ودخل الجلساء والمغنون وكان فيهم عبد الله بن العباس الربيعي وكان قد عرف الخبر فقال هذا الشعر وغنى فيه ( لستَ مِنِّي ولستُ منك فدَعْنِي ... وامْضِ عنّي مُصاحَباً بسَلامِ ) ( لم تَجِد عِلَّةً تَجَنَّى بها الذَّنْبَ ... فصارتْ تعتلُّ بالأحْلامِ ) ( فإذا ما شَكَوْتُ ما بِيَ قالت ... قد رأينَا خِلافَ ذَا في المَنامِ ) قال فطرب المتوكل وأمر له بعشرين ألف درهم وقال له إن في حياتك يا عبد الله لأنساً وجمالاً وبقاء للمروءة والظرف أخبرني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني أبي قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال كنت في بعض العساكر فأصابتنا السماء حتى تأذينا فضربت لي قبة تركية وطرح لي فيها سريران فخطر بقلبي قول السليك صوت ( قَرِّب النَّحّام واعجلْ يا غُلامْ ... واطْرَحِ السَّرْجَ عليه واللِّجامْ ) ( أبلغ الفِتْيانَ أنّي خائِضٌ ... غمْرَةَ الضّرْب فَمْن شاء أَقامْ ) فغنيت فيه لحني المعروف وغدونا فدخلت مدينة فإذا أنا برجل يغني به ووالله ما سبقني إليه أحد ولا سمعه مني أحد فما أدري من الرجل ولا من أين كان له وما أرى إلا أن الجنَّ أوقعته في لسانه محمد بن الجهم يحتمل خراجه سنة كاملة حدثني عمي قال حدثني أحمد بن المرزبان قال حدثني أبي قال حدثني عبد الله بن العباس الربيعي قال كنت عند محمد بن الجهم البرمكي بالأهواز وكانت ضيعتي في يده فغنيته في يوم مهرجان وقد دعانا للشرب صوت ً ( المِهرَجانُ ويومُ الاثْنَيْنِ ... يومُ سُرورٍ قد حُفَّ بالزّيْنِ ) ( ينقل من وغْرة المَصِيف إلى ... بَرْدِ شِتاءٍ ما بَيْن فَصْلَيْنِ ) ( محمدُ يا بْنَ الجَهْم ومَن بَنى ... للمَجْد بَيْتاً من خير بَيْتَيْنِ ) ( عِشْ ألفَ نَيْروز ومَهْرِجْ فَرِحاً ... في طِيبِ عَيْش وقُرَّة العَيْنِ ) قال فسر بذلك واحتمل خراجي في تلك السنة وكان مبلغه ثلاثين ألف درهم أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني ابن أبي سعد قال حدثني أبو توبة القطراني عن محمد بن حسين قال كنا عند أبي عيسى بن الرشيد في زمن الربيع ومعنا مخارق وعلويه وعبد الله بن العباس الربيعي ومحمد بن الحارث بن بسخنر ونحن مصطبحون في طارمة مضروبة على بستانه وقد تفتح فيه ورد وياسمين وشقائق والسماء

التالي بمشيئة الله ج37وج38وج39.

كتاب الصحاح للجوهري من ج5 الي ج8.

ج5. كتاب : الصحاح في اللغة المؤلف : الجوهري رَمَعَ أنفُه من الغضب يَرْمَعُ رَمَعاناً، أي تحرك. والتَرَمُّعُ: التحركُ. والرَمَّاعَةُ بالتشدي...