ج43.وج44وج45. ثم الاخر
كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني
( في سبيل الله أودى فَرَسي ... ثم عُلّلتُ بأبيات هَزَجْ ) ( كنتُ أرجو من ربيع فرجاً ... فإذا ما عندَه لي من فَرَجْ ) الربيع يجيزه دراهم عوضا عن جارية وعده بها قال ثم خرج الربيع إلى مكة وقد كان وعد النصيب جارية فلم يعطه وأمر ابنه أن يدفع إليه ألفي درهم ففعل فقال النصيب ( ألا أَبلغا عَنِّي الربيعَ رِسالةً ... ربيعَ بني عبد المَدانِ الأكارِم ) ( أَعزَّتْ عليكَ البيضُ لما أَرغتُها ... فرُغتَ إلى إعداد بِيض الدراهم ) ( الم تر أني غيرُ مستطرَفِ الغِنى ... حديث وأنِّي من ذُؤابة هاشِم ) ( وأنك لم تهبطْ من الأرض تَلعةً ... ولا نجوةً إلا بعهدي وخاتَمِي ) قال ثم قدم الربيع فأهدى إلى دفافة بن عبد العزيز العبسي طبق تمر فقال فيه دفافة ( بعثتَ بتَمرٍ في طُبيقٍ كأَنَّما ... بعثت بياقوتٍ توقَّدَ كالجَمْرِ ) ( فلو أن ما تُهدِي سنيًّا قَبِلتُه ... ولَكنما أهديتَ مثَلك في القَدر ) ( كأَنَّ الذي أهديتَ من بُعد شُقَّةٍ ... إلينا من المُلقَى على ضفَّة الجِسْر ) فأجابه الربيع فقال ( سل الناسَ إما كنتَ لا بدَّ طالباً ... إليهم بأَلا يحملوك على القَدْرِ ) ( فإنك إن تُحْمَلْ على القَدْر لا تنَل ... يَدَ الدهر مِن بَرٍّ فَتيلاً ولا بَحرِ ) ( لقد كنتَ منّي في غَدير وروضة ... وفي عَسل جَمٍّ وما شئتَ من خمرِ ) ( وما كنتُ منَّاناً ولكنْ كَفرتْني ... وأظهرتَ لي ذمًّا فأظهرتُ من عذري ) ( لعَمْري لقد أُعطِيتَ ما لستَ أهلَه ... ولا أهلَ ما يُلْقَى على ضِفَّة الجِسْرِ ) فبلغت أبياتهما نصيبا فشمت بالربيع وقال فيه هذه القصيدة ( رضيتُكما حِرصاً وَمنعاً ولم يكن ... يَهيجُكما إلا الحقيرُ من الأمر ) ( متى يجتمعْ يوما حريصٌ ومانع ... فليس إلى حمدٍ سبيلٌ ولا أجرِ ) ( أحارِ بن كعبٍ إن عبساً تغَلغلَتْ ... إلى السير من نَجران في طلب التَّمْرِ ) ( فكيف ترى عبساً وعبسٌ حريصةٌ ... إذا طمِعَتْ في التَّمر من ذلك العُبْر ) ( لقد كُنتما في التَّمر لله أنتُما ... شبيهيْن بالمُلقى على ضِفِّة الجِسرِ ) أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد النحوي قال حدثت من غير وجه أن النصيب دخل على الفضل بن يحيى بن خالد مسلما فوجد عنده جماعة من الشعراء قد امتدحوه فهم ينشدونه ويأمر لهم بالجوائز ولم يكن امتدحه ولا أعد له شيئا فلما فرغوا وكان يروي قولا في نفسه استأذن في الإنشاد ثم أنشد قصيدته التي أولها قوله يشبب بمية ثم يمدح الفضل بن يحيى ( طرقتْك ميَّةُ والمزار شَطِيب ... وتُثيبكَ الهجرانَ وهْي قريبُ ) ( لله ميةُ خُلَّةً لو أنها ... تجزي الوِداد بوُدِّها وتُثيبُ ) ( وكأَن ميَّةَ حين أتلع جيدُها ... رشأ أغنُّ من الظباء ربيبُ ) ( نصفان ما تحت المؤَزَّر عاتكٌ ... دِعْصٌ أغرٌ وفوقَ ذاك قضيبُ ) ( ما للمنازل لا تكاد تجيبُ ... أنى يُجيبكَ جَندلٌ وجَبُوبُ ) ( جادتْك من سَبَل الثريا دِيمةٌ ... ريَّا ومن نَوء السِّماك ذَنوبُ ) ( فلقد عهدتُ بك الحِلالَ بِغبطة ... والدهر غضٌّ والجَنابُ خصيبُ ) ( إذ للشباب عليَّ من وَرق الصِّبا ... ظِلٌّ وَإذ غُصْن الشبابِ رطِيبُ ) ( طرِبَ الفؤادُ ولاتَ حين تطرُّبٍ ... إن الموكِّل بالصّبا لَطروبُ ) ( وتقول ميَّةُ ما لِمثلكَ والصِّبا ... واللون أسودُ حالكٌ غِرْبيبُ ) ( شَاب الغرابُ وما أَراكَ تَشيبُ ... وطلابُكَ البيضَ الحسانَ عجيبُ ) ( أعلاقَةٌ أسبابهُنّ وإنَّمَا ... أفنانُ رأْسكَ فُلفُل وزَبيبُ ) ( لا تهزَئي مني فَرُبَّتَ عائبٍ ... مالا يعيبُ الناسَ وهو معيبُ ) ( ولقد يصاحِبُني الكرامُ وطالَما ... يسمو إليَّ السيّدُ المحجُوبُ ) ( وأجُرُّ من حُلَل الملوكِ طَرائفاً ... منها عليَّ عصائبٌ وسَبيبُ ) ( وأُسالبُ الحسناء فضلَ إزارها ... فأصورُها وإزارُها مسلوبُ ) ( وأقول منقوح البدِيّ كأنّه ... بردٌ تَنافسه التِّجارُ قَشيبُ ) يقول فيها في مدح الفضل ( والبرمكيُّ إذا تقارب سنُّه ... أو باعدَته السنُّ فهو نجيبُ ) ( خرِقُ العطاء إذا استهلَّ عطاؤُه ... لا مُتِبعٌ منَّا ولا مَحسوبُ ) ( يا آل برمكَ ما رأينا مثلَكمْ ... ما منكمُ إلا أغرُّ وَهوبُ ) ( وإذا بدا الفضلُ بنُ يحيى هِبْتُهُ ... لِجلاله إنَّ الجليلَ مَهيبُ ) ( قاد الجيادَ إلى العِدَا وكأَنها ... رَجْلُ الجراد تَسوقهنّ جَنُوبُ ) ( قُبَّاً تُبارِي في الأعنَّة شُزَّباً ... تَدَعُ الحُزونَ كأنهنَّ سُهوبُ ) ( من كل مضطرِب العِنان كأنه ... ذِئب يبادرُه الفريسةَ ذيبُ ) ( تهوِي بكلِّ مغاورٍ عاداتُه ... صِدقُ اللقاء فما لَه تكذيبُ ) ( حتى صَبَحن الطالبيَّ بعارضٍ ... فيه المنايا تَغْتَدِي وتَؤُوبُ ) ( خاف ابنُ عبد الله ما خوَّفتَه ... فجفاكَ ثم أتاك وهو مُنيبُ ) ( ولقد رآك الموتَ إلا أَنَّه ... بالظنّ يُخْطئ مرة ويُصيبُ ) ( فرمى إليكَ بنفسه فَنجا بهَا ... أجلٌ إليه ينتهي مكتوبُ ) ( فكسوتَه ثوبَ الأمان وإنَّه ... لا حبلُه واهٍ ولا مقضوبُ ) ( شِمنا إليك مَخيلةً لا خُلَّباً ... في الشَّيم إِذ بعضُ البروق خَلوبُ ) ( إنَّا على ثِقةٍ وظنٍّ صادقٍ ... مِمَّا نؤمّله فليسَ نَخيبُ ) قال فاستحسنها الفضل وأمر له بثلاثين ألف درهم فقبضها ووثب قائما وهو يقول ( إني سأمتدحُ الفضلَ الذي حُنِيَت ... منّا عليه قُلوبُ البِرِّ والضِّلَعُ ) ( جاد الربيعُ الذي كنا نؤمِّلُه ... فكلنا بربيع الفضْلِ مرتَبعُ ) ( كانت تطولُ بنا في الأرض نجعتُنا ... فاليوم عند أبي العباس نَنْتَجعُ ) ( إن ضاق مذهبُنا أو حلّ ساحتَنا ... ضَنكٌ وأزْم فعند الفضلِ متِّسَع ) ( ما سلَّم اللُه نفسَ الفضل من تلَفٍ ... فما أُبالي أقام الناسُ أم رَجعُوا ) ( إن يمنعوا ما حوتْ منا أكفَّهُم ... فلن يضرَّ أبا الحجناء ما مَنَعُوا ) ( أو حَلَّؤونا وذادوا عن حياضِهُم ... يومَ الشروع ففي غُدْرانِكَ الشِّرَعُ ) ( يا ممسكاً بِعُرَا الدنيا إذا خُشِيَت ... منها الزلازلُ والأمرُ الذي يقعُ ) ( قد ضرَّسَتْك الليالي وهي خالية ... وأحْكَمَتْك النهى والأزلَمُ الجَذَعُ ) ( فغادرا منك حَزناً عن مُعاسرةٍ ... سهلَ الجنابِ يسيراً حين يتَّبَعُ ) ( لم يفتلِتْك نقيراً عن مُخادعة ... دَهْيُ الرجال وللسؤّالِ تَنخدعُ ) ( فأنت مصطلِحٌ بالملك تَحمله ... كما أبوك بثِقل المُلك مُضطلِعُ ) يمدح زبيدة زوج الرشيد في الحج قال ابن أبي سعد لما حجت أم جعفر زبيدة لقيها النصيب فترجل عن فرسه وأنشأ يقول ( سيستبشر البيتُ الحرامُ وزمزَمٌ ... بأمِّ وليِّ العهدِ زينِ المواسمِ ) ( ويعلم مَنْ وافى المحصَّب أنها ... ستحمل ثِقل الغُرم عن كل غارمِ ) ( بنو هاشم زينُ البرية كلِّها ... وأمُّ ولي العهد زينٌ لهاشم ) ( سلِيلةُ أملاكٍ تفرَّعت الذّرُى ... كرامٍ لابناءِ الملوك الأكارِم ) ( فوالله ما نَدري أفضلُ حديثِها ... عليهم به تَسمو ام المُتقادمِ ) ( يظنّ الذي أعطتْه منها رغيبةً ... يقصّ عليه الناسُ أحلامَ نائمِ ) فأمرت له بعشرة آلاف درهم وفرس فأعطيه بلا سرج فتلقاها لما رحلت وقال ( لقد سادتْ زُبيدةُ كلَّ حيٍّ ... وميْتٍ ما خلا الملكَ الهُماما ) ( تُقًى وسماحةٌ وخلوصُ مَجد ... إذا الأنسابُ أَخلصتِ الكراما ) ( إِذا نزلتْ منازلَها قريشٌ ... نزلتِ الأنفَ منها والسَّناما ) ( بلغْتِ من المفاخر كلَّ فخرٍ ... وجاوزْتِ الكلامَ فلا كلاما ) ( وأعطيتِ اللُّهى لكنَّ طِرْفي ... يريد السَّرجَ منكم واللِّجاما ) فأمرت له بسرج ولجام ابنته الحجناء تمدح المهدي وابنته العباسة قال ابن أبي سعد خرج المهدي يتنزه بعيسى باذ وقدم النصيب ومعه ابنته حجناء فدخل على المهدي وهي معه فأنشدته قولها فيه ( رُبَّ عيش ولذةٍ ونعيم ... وبهاءٍ بمشرِق المَيْدانِ ) ( بسط اللُه فيه أبهى بِساط ... من بَهار وزاهر الحَوْاذانِ ) ( ثم من ناضرٍ من العُشُب الأخْضَرِ ... يزهو شقائقَ النُّعمانِ ) ( مدَّه الله بالتَّحاسين حتى ... قَصَرت دون طوله العَينانِ ) ( خُفّفَتْ حافتاه حيثُ تَناهى ... بخيامٍ في العَين كالظِّلْمَانِ ) ( زيَّنوا وسطَها بطارمةٍ مِثْلِ ... الثريَّا يَحُفُّها النَّسرانِ ) ( ثم حَشْوُ الخيام بيضٌ كأمْثالِ ... المَها في صَرائم الكُثْبانِ ) ( يتجاوبْنَ في غِناء شَجِيٍّ ... أَسْعِدَاني يا نخلَتيْ حُلوانِ ) ( فبقصر السلام من سَلَّمَ ... اللّهُ وأبقى خليفَة الرحمن ) ( ولديه الغِزلانُ بل هنَّ أبهى ... عنده من شَوادِنِ الغِزْلانِ ) ( يا لَه منظراً ويومَ سرورٍ ... شهدتْ لذَّتيه كلُّ حَصَانِ ) فأمر لها المهدي بعشرة آلاف درهم وله بمثلها قال ثم دخلت الحجناء على العباسة بنت المهدي فأنشدتها تقول ( أتيناكِ يا عباسةَ الخير والحيا ... وقد عَجَفَتْ أُدْمُ المهارى وكَلَّتِ ) ( وما تركتْ منا السُّنونَ بقيةً ... سوى رِمَّةٍ منا من الجَهد رَمَّتِ ) ( فقال لنا من ينصحُ الرأيَ نفسَه ... وقد ولت الأموالُ عنا فقلَّتِ ) ( عليكِ ابنةَ المهديّ عُوذي ببابها ... فإن محلَّ الخير في حيث حلَّت ) فأمرت لها بثلاثة آلاف درهم وكسوة وطيب فقالت ( أغنيتنِي يابْنَة المهديِّ أيَّ غِنىً ... بأَعجرين كثيرٌ فيهما الوَرَقُ ) أي اغنيتني على عقب ما أغناني أخوك بأعجرين بكيسين ( من ضرب تسع وتسعينٍ مُحَكَكَةٍ ... مثلِ المصابيح في الظَّلماء تأتَلِقُ ) ( أما الحسودُ فقد أمسى تغيُّظه ... غمَّا وكادَ برَجْع الرِّيق يَخْتَنِقُ ) ( وذو الصداقة مسرورٌ بنا فَرِحٌ ... بادي البِشارة ضاحٍ وجهُه شَرِقُ ) وقال ابن أبي سعد مدحه صديقه إسحاق بن الصباح كان إسحاق بن الصباح الأشعثي صديقا للنصيب وقدم قدمة من الحجاز فدخل على إسحاق وهو يهب لجماعة وردوا عليه برا وتمرا فيحملونه على إبلهم ويمضون فوهب لنصيب جارية حسناء يقال لها مسرورة فأردفها خلفه ومضى وهو يقول ( إذا احتقبوا بُرّاً فأَنتِ حَقِيبتي ... من البشَريَّاتِ الثقال الحَقائبِ ) ( ظفرتُ بها من أشعثيٍّ مهذَّبٍ ... أغرَّ طويلِ الباع جمَّ المواهبِ ) ( فدًى لكَ يا أسحاق كلُّ مبخَّل ... ضجورٍ إذا غضَّت شِدادُ النوائبِ ) ( إذا ما بخيلُ القوم غيَّب مالَه ... فمالُك عِدٌّ حاضرٌ غيرُ غائب ) ( إذا اكتسب القومُ الثّراء فإِنَّما ... ترى الحمدَ غُنماً من كريمِ المكاسِب ) وقال فيه أيضاً ( فتًى من بني الصّبّاح يهتزُّ للنَّدى ... كما اهتزَّ مسنونُ الغِرار عتيقُ ) ( فتى لا يذُمّ الضيفُ والجارُ رِفدَه ... ولا ي جتويه صاحبٌ ورَفيق ) ( أَغرُّ لابناء السبيل مَوارِدٌ ... إلى بيته تَهديهمُ وطريقُ ) ( وإن عُدَّ أنسابُ الملوك وجدتَه ... إلى نَسب يعلوهُمُ ويَفوقُ ) ( فما في بني الصَّبَّاح إن بَعُد المَدَى ... على الناس إلا سابقٌ وعَريقُ ) ( وإني لِمَنْ شاحَنْتُمُ لمشاحِنٌ ... وإني لِمَنْ صادقُتم لصَديقُ ) زار خزيمة بن خازم ومدحه قال وكان النصيب إذا قدم على المهدي استهداه القواد منه وسألوه أن يأمره بزيارتهم فكان فيمن استزاره خزيمة بن خازم فوصله وحمله وقال فيه ( وجدتُك يا خُزَيمةُ أَريحِيَّا ... بما تحوي وذا حَسَبٍ صَمِيمِ ) ( تميمٌ كانَ خيرَ بني معدٍّ ... وأنت اليومَ خيرُ بني تميمِ ) ( سوى رهط النبيِّ وهم أديمٌ ... وأنت قُدِدْتَ من ذاك الأَديمِ ) وقال فيه أيضا ( يا أفضلَ الناسِ عُوداً عند مَعْجَمهِ ... إذا تَفاضلَ يوماً مَعْجَمُ العُودِ ) ( أني لواحدُ شعرٍ قد عُرفتُ به ... وذا خزيمة أضحى واحدَ الجودِ ) ( إن يعطكَ اليوم معروفاً يعِدك غداً ... فأنت في نائل منه وموعودِ ) ( وقد رأينَا تميماً غير مُكْرهَةٍ ... ألقَتْ إليك جميعاً بالمقاليدِ ) ( فأَنت أكرمُها نفساً وأفضَلُها ... إنّ الصناديدَ أبناءُ الصناديدِ ) وقال وكان في غزاة سمالو مع المهدي فوقف به فرسه ومر به جعد مولى عبد الله بن هشام بن عمرو وبين يديه فرس يجنب فقال له قد ترى قيام فرسي تحتي فاردد إلى جنيبك حتى يتروح فرسي ساعة فسكت ولم يجبه فقال فيه ( أنادي بأَعلى الصوتِ جَعْداً وقد يَرَى ... مكاني ولكن لا يُجيبُ ويَسْمَعُ ) ( ولم يرني أهلاً لحُسْنِ إِجابة ... ولا سُوئِها إني إلى الله أرجِعُ ) ( فلو أنَّني جازيتُ جَعْداً بفِعلِه ... لقد لاح لي فيه من الشعر مَوضعُ ) ( ولكنِّني جافيتُ عنهُ لِغيره ... بحُسْن الذي يأْتي إليَّ ويَصْنَعُ ) ( رأيتك لم تحفظ قرابَةَ بينِنا ... وما زالتِ القُربى لدى الناسِ تَنْفعُ ) قال وسأل عبيد الله بن يحيى بن سليمان مركبا فأعطاه إياه وجعل معه شريكا له فيه فقال ( لقد مدحتُ عبيداً إذ طَمِعتُ بِه ... وقد تملَّقْتُه لو ينفعُ الملَقُ ) ( فعاد يسأَل ما أصبحتُ سائلَه ... فكلُّنا سائل في الحِرْص مُتَّفِقُ ) ( أحينَ سار مديحي فيكمُ طُرُقاً ... وحيث غنَّتْ به الركبانُ والرُّفَقُ ) ( قطعتَ حبلَ رجاءٍ كنتُ آملُه ... فيما لديكَ فأَضحى وهو مُنْحَذِقُ ) ( قد كان أورَقَ عودي من أبيك فقد ... لَحيْتَ عُودي فجفَّ العُودُ والوَرَقُ ) ( من نازع الكلبَ عَرْقا يرتجي شِبَعاً ... كمصطلٍ بحريقٍ وهو يَحتَرِقُ ) أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال كتب إلي أبو محمد إسحاق بن أبي إبراهيم يقول أنشدت الفضل بن يحيى قول أبي الحجناء نصيب ( عند الملوكِ مَضرَّةٌ ومنافعُ ... وأرى البرامِكَ لا تضرُّ وتَنْفَعُ ) ( إن العُروق إذا استسرَّ بها الثَّرى ... أشِرَ البناتُ بِها وطابَ المَزْرَعُ ) ( فإذا نَكِرتَ من امرئ أعراقَه ... وقديمَه فانظر إلى ما يَصْنَعُ ) قال فأعجبه الشعر فقال يا أبا محمد كأني والله لم أسمع هذا القول إلا الساعة وما له عندي عيب إلا أني لم أكافئه عليه قال قلت وكيف ذلك أصلحك الله وقد وهبت له ثلاثين ألف درهم فقال لا والله ما ثلاثون ألف دينار بمكافئة له فكيف ثلاثون ألف درهم أخبرني أحمد بن عبد الله بن عمار قال أخبرني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال كان أبي يستملح قول نصيب وقد رأى كثرة الشعراء على باب الفضل بن يحيى فلما دخل الناس إليه قال له ( ما لقينا من جودِ فضلِ بن يحيى ... ترك الناس كلهم شُعراء ) ويقول ما في الدنيا أحسن من هذا المعنى وعلى أنه قد أخذ منهم مالا جليلا ولكن قلما سمعت بطبقته مثله صوت ( طاف الخيالُ ولات حينَ تطَرُّبِ ... أن زار طيف موهِناً من زَينبِ ) ( طرقَتْ فنفَّرتِ الكَرى عن نائمٍ ... كانت وسادَتُه ذِراعَ الأرحبي ) ( فبكى الشبابَ وعهدُه وزمانَه ... بعد المشيبِ وما بُكَاءُ الأَشيبِ ) - عروضه من الكامل - الشعر لأبي شراعة القيسي والغناء لدعامة البصري خفيف رمل بالبنصر من كتاب الهشامي أخبار أبي شراعة ونسبه هو فيما كتب به إلينا أبنه أبو الفياض سوار بن أبي شراعة من أخباره ونسبه أحمد بن محمد بن شراعة بن ثعلبة بن محمد بن عمير بن أبي نعيم بن خالد بن عبدة بن مالك بن مرة بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل شاعر بصري من شعراء الدولة العباسية جيد الشعر جزله ليس برقيق الطبع ولا سهل اللفظ وهو كالبدوي الشعر في مذهبه وكان فصيحا يتعاطى الرسائل والخطب مع شعره وكانت به لوثة وهوج وأمه من بني تميم من بني العنبر وابنه أبو الفياض سوار بن أبي شراعة أحد الشعراء الرواة قدم علينا بمدينة السلام بعد سنة ثلثمائة فكتب عنه أصحابنا قطعا من الأخبار واللغة وفاتني فلم ألقه وكتب إلي وإلى أبي رحمه الله بإجازة أخباره على يدي بعض إخواننا فكانت أخبار أبيه من ذلك كان سمحا يجود بكل ما عنده فمنها ما حكاه عنه أنه كان جوادا لا يليق شيئا ولا يسأل ما يقدر عليه إلا سمح به وأنه وقف عليه سائل يوما فرمى إليه بنعله وانصرف حافيا فعثر فدميت إصبعه فقال في ذلك ( ألا لا أُبالي في العُلا ما أصابني ... وإن نَقِبت نَعلاي أو حَفِيتْ رِجْلي ) ( فلم تَرَ عَيْنِي قَطُّ أحسنَ منظَراً ... من النكب يدمَى في المواساةِ والبذل ) ( ولستُ أُبالي مَنْ تأَوَّبَ منزلي ... إذا بقيْت عندي السروايلُ أو نَعْلي ) أخوه يتهمه بالجنون فينشد شعرا قال وبلغه أن أخاه يقول إن أخي مجنون قد أفقرنا ونفسه فقال ( أَأُنبَزُ مَجنوناً إذا جُدتُ بالذي ... ملكتُ وإن دافعت عنه فعاقِلُ ) ( فداموا على الزُّورِ الذي قُرِفوا به ... ودمتُ على الإِعطاء ما جاءَ سائلُ ) ( أبيتُ وتأبى لي رجالٌ أشحَّةٌ ... على المجد تنمِيهم تميمٌ ووائلٌ ) قال وقال أيضا في ذلك ( أَئِنْ كنتُ في الفتيان آلوت سيداً ... كثيرَ شحوب اللون مختلِفَ العَصْبِ ) ( فما لكَ من مولاك إلا حفاظُهُ ... وما المرءُ إلا باللسان وبالقلبِ ) ( هما الأصغران الذائدانِ عن الفتَى ... مكارِهَه والصاحبان على الخَطْبِ ) ( فإلاّ أُطِقْ سعيَ الكرام فإنني ... أفكُّ عن العانِي وأَصْبِرُ في الحَرْبِ ) أخبرني عمي قال أخبرني ميمون بن هارون قال حدثني إبراهيم بن المدبر قال كان عندي أبو شراعة بالبصرة وأنا أتولاها وكان عندي عمير المغني المدني وكان عمير بن مرة غطفانيا وكان يغني صوتا يجيده واختاره عليه وهو ( أَتحسِبُ ذاتَ الخالِ راجيةً رَباًّ ... وقد صدعتْ قلباً يُجَنُّ بها حُباًّ ) فاقترحه أبو شراعة على عمير فقال أعطني دراهم حتى أقبل اقتراحك فقال له أبو شراعة أخذ المغني من الشاعر يدل على ضعف الشاعر ولكني أعرضك لأبي إسحاق فغناه إياه ثلاث مرات وقد شرب عليه ثلاثة أرطال وقال ( عدوتُ إلى المُريِّ عدوةَ فاتِكٍ ... مِعنّ خليع للعواذل والعُذْرِ ) ( فقال لشيء ما أرى قلتُ حاجةٌ ... مُغَلغلة بين المخنَّق والنَّحرِ ) ( فلما لواني يَسْتثيب زَجرتُه ... وقلت اغتَرِفْ إنَّا كلانا على بَحْرِ ) ( أليس أبو إسحاقَ فيه غِنىً لَنا ... فَيُجْدِي على قَيسٍ وأُجدِي على بكر ) ( فغنَّى بذات الخالِ حتى استخفَّني ... وكاد أَديمُ الأرض من تحتنا يَجرِي ) يمدح صديقه ابن المدبر وقد وهبه مالا حدثني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد المبرد قال كان أبو شراعة صديقا لإبن المدبر أيام تقلده البصرة وكان لا يفارقه في سائر أحواله ولا يمنعه حاجة يسأله إياها ولا يشفع لأحد إلا شفعه فلما عزل إبراهيم بن المدبر شيّعه الناس وشيَّعه أبو شراعة فجعل يرد الناس حتى لم يبق غيره فقال له يا أبا شراعة غاية كل مودع الفراق فانصرف راشدا مكلوءا من غير قلى والله ولا ملل وأمر له بعشرة آلاف درهم فعانقه أبو شراعة وبكى فأطال ثم أنشأ يقول ( يا أبا إسحاقَ سِرْ في دَعةٍ ... وامضِ مصحوباً فما منك خَلَفْ ) ( ليتَ شعري أَيُّ أرض اجدبتْ ... فأُغيثَتْ بك من جَهد العَجَفْ ) ( نزل الرُّحْم من الله بهِمْ ... وحُرِمناك لِذنبٍ قد سَلَفْ ) ( إِنما أنت ربيعٌ باكرٌ ... حيثُما صرَّفه الله انصرَفْ ) قال أبو الفياض سوار بن أبي شراعة دخل أبي علي إبراهيم بن المدبر وعنده منجم فما رآه إبراهيم بن المدبر في رؤية الهلال لشهر رمضان فحكم المنجم بأنه يرى وحلف إبراهيم بعتق غلمانه أنه لا يرى فرئي في تلك الليلة فأعتق غلمانه فلما أصبح دخل الناس يهنئونه بالشهر فأنشده أبو شراعة يقول ( أيها المكثر التَّجنيِّ على المال ... إذا ما خلا من السُّؤّالِ ) ( أَفتنا في الذين أَعتقْتَ بالأمْس ... مواليكَ أَم موالي الهِلالِ ) ( لم يكن وَكْدُك الهلالَ ولكنْ ... تتأَلَّى لِصالِح الأعمال ) ( إنما لذَّتاك في المال شَتَّى ... صونُك العِرْضَ وابتذَالُ المالِ ) ( ما نُبالي إذا بقيتَ سَليماً ... مَن تولَّتْ به صروفُ اللَّيالي ) قال أبوالفياض وكان أبو شراعة صديق السدري فدعا يوما إخوانه وأغفل أبا شراعة فمر به الرياشي فقال يا أبا شراعة ألست عند السدري معنا فقال لم يدعنا ومر به جماعة من إخوانه فسألوه عن مثل ذلك ومر به عيسى بن أبي حرب الصفار وكان ممن دعي فجلس وحلف ألا يبرح حتى يأتيه السدري فيعتذر إليه ويدعوه فقال أبو شراعة ( أَيْر حمارٍ في حِرِ أمِّ شِعري ... وخُصيتاه في حِر أمِّ قَدْرِي ) ( إن أنا لم أشْفَعْهما بِوَفرِ ... لو كنتُ ذا وفرٍ دعاني السِّدْري ) ( أو كان من همّ هشامٍ أمري ... أو راح إبراهيمُ يُطري ذِكري ) ( وابن الرياشي الضعيفُ الأمر ... يخاف إِن أردَفَ ألاَّ يَجري ) ( وانتَ يا عِيسى سقاكََ المُسْري ... نعمَ صديقُ عُسرةٍ ويُسرِ ) قال أبو الفياض سقطت دارنا بالبصرة فعوتب أبي علي بنائها وقيل له استعن بإخوانك إن عجزت عنه فقال ( تلوم ابنةُ البكريِّ حين أؤوبها ... هَزيلاً وبعض الآئبين سَمينُ ) ( وقالتْ لحاكَ الله تستحسنُ العَرا ... عن الدار إنَّ النائباتِ فُنُونُ ) ( وحولك إخوانٌ كرامٌ لهمْ غِنًى ... فقلت لإخواني الكرامُ عُيونُ ) ( ذَريني أَمُتْ قبل احتلالِ محلَّةٍ ... لها في وُجوه السائلين غُضونُ ) ( سأفدَي بمالي ماءَ وجهيَ إِنني ... بما فيه من ماءِ الحياء ضَنِينُ ) قال سوار بن أبي شراعة كان إخوان أبي يجتمعون عند الحسين بن أيوب بن جعفر بن سليمان في ليالي شهر رمضان فيهم الرياشي والجماز فقال أبي في ذلك ( لو كنتُ من شعية الجمَّاز أقعدني ... مقاعداً قُربهُنَّ الريفُ والشَّرفُ ) ( لكنَّني كنتُ للعباس متَّبعاً ... وليس في مَركب العباس مرتَدَفُ ) ( قد بقيتْ من ليالي الشهر واحدةٌ ... فعاوِدوا مالحَ البقّال وانصرفُوا ) طلق ليلة تزوج نديمة بيان قال وتزوج نديم لأبي شراعة يقال له بيان امرأة فاتفق عرسه في ليلة طلق فيها أبو شراعة امرأته فعوتب في ذلك وقيل بات بيان عروسا وبت عزبا فقال في ذلك ( رأتْ عُرسَ بَيَّانٍ فهبَّتْ تلومني ... رويدَكِ لوماً فالمطَلَّق أَحوطُ ) ( رويدكِ حتى يرجعَ البرُّ أَهله ... ويرحمُ ربُّ العِرْس من حيث يُغبَط ) ( إذا قال للطحَّان عند حسابه ... أَعِدْ نظراً إِني أَظنك تغلطُ ) ( فما راعه إلا دعاءُ وليدةٍ ... هلُمَّ إلى السّواق إن كنت تَنْشَطُ ) ( هنالك يدعو أُمَّه فيسبّها ... ويلتبش الأجرَ العَقوق فيحبَطُ ) ( فياذا العُلا إني لفضلك شاكرٌ ... أَبيتُ وحيداً كلما شئت أَضرَطُ ) شمن ببيان لأنه عجز عن امرأته قال ثم بلغه عن بيان هذا أنه عجز عن امرأته ولم يصل إليها ولقي منها شرا فقال في ذلك ( رمى الدهرُ في صَحبي وفرَّق جُلاَّسي ... وباعدهم عني بظَعنٍ وإعراس ) ( فكلُّهمُ يبغي غِلافاً لأيره ... وأقعدَني عن ذاك فَقري وإفلاسي ) ( فشكراً لربِّي خان بيَّان أيرُه ... وأّسعى بأيري في الظلام على الناس ) ( يمسحه بالكف حتى يقيمه ... وهل ينفع الكفَّان من ثقل الرأس ) وقال أبو الفياض سوار نظر إلي أبي يوما وقد سألت عمي حاجة فردني فبكى ثم قال ( حُبِّي لإِغناء سوَّارٍ يُجَشِّمني ... خَوضَ الدُّجى واعتساف المَهمَهِ البِيدِ ) ( كي لا تهونَ على الأعمام حاجَتُه ... ولا يعلَّل عنها بالمواعيدِ ) ( ولا يوليهمُ إن جاء يسأَلُها ... أكتافَ مَعرضة في العِيس مردودِ ) ( إذا بكى قال منهمْ ذُو الحِفاظ له ... لقد بُليت بخلْقٍ غيرِ محمودِ ) قال وتمارى أبو شراعة ورجل من أهل بغداد في النبيذ فجعل البغدادي يذم نبيذ التمر والدبس فقال أبو شراعة ( إذا انتخبتَ حبَّه ودِبسَهُ ... ثم أجدْت ضَربه ومَرْسَهُ ) ( ثم أطلْتَ في الإِناء حَبسهُ ... شربتَ منه البابليَّ نفسَهُ ) قال وأعوز أبا شراعه يومئذ النبيذ فطلب من نديمين كانا له فاعتل أحدهما بحلاوة نبيذه والآخر بحموضته فاشترى من نباذ يقال له أبو مظلومة دستيجة بدرهمين وكتب إليهما ( سيُغني عن حلاوة دِبْسِ يحيى ... ويُغني عن حُموض أبي أميَّهْ ) ( أبو مَظلومةَ الشيخُ المولِّي ... إذا اتَّزنتْ يداه دِرْهَميَّهْ ) أخبرني علي بن سليمان قال حدثنا محمد بن يزيد قال كان أبو شراعة قبيح الوجه جدا فنظر يوما في المرآة فأطال ثم قال الحمد لله الذي لا يحمد على الشر غيره فضل النبيذ على امرأته فطلقها قال سوار بن أبي شراعة حلف أبي ألا يشرب نبيذا بطلاق امرأة كانت عنده فهجره حولين ثم حنث فشرب وطلق امرأته وأنشأ يقول ( فمن كان لم يسمعْ عجيباً فإنني ... عجيبُ الحديث يا أُميمَ وصادقُه ) ( وقد كان لي أُنسانِ يا أُمَّ مالكٍ ... وكلُّ إذا فتَّشتَني أَنا عاشقُه ) ( عزيزةُ والكأسُ التي من يُحلّها ... تُخادعه عن عقله فتصادقُه ) ( تحارَبَتَا عندي فعطَّلتُ دَنَّهَا ... وأَكوابَهَا والدهر جَمٌّ بوَائقه ) ( وحرَّمتُها حولَينِ ثم أَزلَّني ... حديثُ النَّدامى والنشيدُ أُوافقُه ) ( فلمَّا شربتُ الكأس بانتْ بأختها ... فبان الغزال المستحبّ خلائقُه ) ( فما أطيب الكأس التي أعتضت منكمُ ... ولكنَّها ليست برِيمٍ أُعانقه ) قال أبو الفياض قال أبي قصدت الحسن بن رجاء بالأهواز فصادفت ببابه دعبل بن علي الخزاعي وجماعة من الشعراء وقد اعتل عليهم بدين لزمه ومصادرة فكتب إليه ( المالُ والعقلُ شيءٌ يُستعانُ به ... على المَقام بأَبواب السلاطينِ ) ( وأنت تعلَمُ أَني مِنهما عَطِلٌ ... إذا تأّملْتَني يابنَ الدَّهاقين ) ( هل تعلم اليومَ بالأهواز من رَجلٍ ... سواك يصلُح للدُّنيا وللدِّينِ ) قال فوعدنا وعدا قربه ثم تدافع فكتب إليه ( آذنَتْ جُبَّتي بأَمرٍ قبيح ... من فِراقٍ للطيلسَان الفسيح ) ( فكأَني بمن يزيد على الجُبَّةِ ... في ظلِّ دار سهلِ بن نوحِ ) ( أَنت رُوح الأَهواز يابنَ رجاء ... أَيّ شيء يعيشُ إلاًّ برُوح ) فأذن لي وللجماعة وقضى حوائجنا قال أبو الفياض وحدثني أبي قال حججتُ فأتيت دار سعيد بن سلم فنحرت فيها ناقة وقلت ( وردت دارَ سعيد وهي خاليةٌ ... وكان أَبيضَ مِطعاماً ذُرى الإِبلِ ) ( فارتحتُ فيها أَصيلاً عند ذُكرته ... وصُحْبتي بِمِنًى لاهُونَ في شُغُلِ ) ( فابتعت من إبل الجمَّال دهشرَةً ... موسومةً لم تكنْ بالحِقةِ العُطُلِ ) ( نحرتُها عن سعيد ثم قلت لهم ... زوروا الحَطِيمَ فإني غير مرتَحِلِ ) قال وبلغت الأبيات وفعلي ولده فأحسنوا المكافأة وأجزلوا الصلة قال فقال له صديق له وأنت أيضا قد استجدت لهم النحيرة فضحك ثم قال أغرك وصفي لها أشهد الله أني ما بلغت بها دار سعيد إلا بين عمودين وقال أبو الفياض عير أبا أمامة لأنه عالة على أمه كان أبو أمامة محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد بن سلم وأمه سعدى بنت عمرو بن سعيد بن سلم صديقا لأبي شراعة وكانت أمه سعدى تعوله فكان أبو شراعة لا يزال يعبث به وبلغه أن أبا أمامة يقول إنما معاش أبي شراعة من السلطان ورفده ولولا ذاك لكان فقيرا فقال فيه ( عَيَّرتَني نائلَ السلطان أطلبُه ... يا ضلَّ رأيُك بين الخُرْق والنّزَقِ ) ( لولا امتنانٌ من السلطان تَجهلُه ... أصبحتُ بالسَّود في مُقعوْعِسٍ خَلَقِ ) السود موضع تنزله باهلة بالبادية ( رثَّ الرِّدا بين أهدام مرقَّعَةٍ ... يبيتُ فيها بليلِ الجائعِ الفَرِق ) ( لا شيء أثبتُ بالإِنسانِ معرفَةً ... من التي حزمت جَنبيه بالخِرَقِ ) ( فأين دارُك منها وهي مؤمنة ... بالله معروفةُ الإِسلام والشَّفَقِ ) ( وأين رزقُك إلا من يَدَيْ مَرَةٍ ... ما بِتَّ من مالها إلا على سَرَقِ ) ( تبيت والهرَّ ممدوداً عيونكما ... إلى تطعُّمها مخضرّة الحَدَقِ ) ( ما بين رزقيكما إن قاس ذُو فِطَنٍ ... فرقٌ سوى أنه يأتيكَ في طَبَقِ ) ( شارِكْهُ في صيدِه للفأر تأكلُه ... كما تُشاركُه في الوجْه والخُلُقِ ) قال أبو الفياض وزاره أبو أمامة يوما فوجد عنده طفشيلا فأكله كله فقال أبو شراعة يمازحه ( عين جودي لبرمةِ الطَّفْشيل ... واستهِلّي فالصبرُ غيرُ جميلِ ) ( فجعتْني بها يد لم تَدَعْ للذّرّ ... في صَحن قِدرها من مَقيلِ ) ( كان واللهِ لحمُها من فَصِيل ... راتعٍ يرتعي كَريمَ البُقولِ ) ( فخلطنا بلحمه عَدَسَ الشَّام ... إلى حِمَّصٍ لنا مَبلُولِ ) ( فأتتْنا كأنها روضةٌ بالحَزْنِ ... تدعو الجيرانَ للتَّطْفيلِ ) ( ثم أكفأتُ فوقَها جفنةَ الحيّ ... وعلّقتُ صَحفتي في زَبيلِ ) ( فَمَنى اللُه لي بفظٍّ غليظٍ ... ما أراه يُقِرُّ بالتَّنزيلِ ) ( فانتحى دائباً يُدَبّلُ منها ... قلتُ إن الثريد للتَّدبيلِ ) ( فتغنِّي صوتاً ليوضِحَ عِندي ... حيِّ أُمَّ العلاء قبلَ الرّحيلِ ) كتب أبوه إلى سعيد بن موسى يستهديه نبيذا أخبري علي بن سليمان الأخفش قال حدثني سوار بن أبي شراعة قال كتب أبي إلى سعيد بن موسى بن سعيد بن مسلم بن قتيبة يستهديه نبيذا فكتب إليه سعيد إذا سألتني جعلني الله فداءك حاجة فاشطط واحتكم فيها حكم الصبي على أهله فإن ذلك يسرني وأسارع إلى إجابتك فيه وأمر له بما التمس من النبيذ فمزجه صاحب شرابه وبعث به إليه فكتب إليه أبو شراعة أستنسيء الله أجلك وأستعيذه من الآفات لك وأستعينه على شكر ما وهب من النعمة فيك إنه لذلك ولي وبه مليّ أتاني غلامك المليح قده السعيد بملكك جده بكتاب قرأته غير مستكره اللفظ ولا مزور عن القصد ينطق بحكمتك ويبين عن فضلك فوالله ما أوضح لي خفيا ولا زادني بك علما وإذا أنت تسأل فيه أن تهب وتحب أن تحمد ولا غرو أن تفعل ذلك ومن كثب أخذته لا عن كلالة وغير كلالة ورثته موسى أبوك وسعيد جدك وعمرو عمك ولك دار الصلة ودار الضيافة وصاحب البغلة الشهباء وحصين بن الحمام وعروة بن الورد ففي أي غلوات المجد يطمع قرينك أن يستولي على المدى والأمد دونك وكتابك إلي أن أتحكم عليك تحكم الصبي على أهله فلشد ما جررت إلي معروفك ودللت على الأنس بك وحاشى للمحكوم له والمحكوم عليه في ذلك الحسب العتيق والمنظر الأنيق الذي يسر القلب ويلائم الروح ويطرد الهم ( تدِبّ خلال شؤون الفَتَى ... دبيبَ دَبى النَّملة المنتعشْ ) ( إذا فُتِحت فَغَمَتْ ريحُها ... وإن سيلِ خَمّارها قال خُشْ ) خش كلمة فارسية تفسيرها طيب فإن كنت رعيت لها عهدا وحفظت لها عندك يدا فانظر ربّ الحانوت فامطله دينه واقطع السبب بينك وبينه فقد أساء صحبتها وأفسد بالماء حسها وسلط عليها عدوها واعلم بأن أباك المتمثل بقوله ( يرى درجاتِ المجدِ لا يستطيعُها ... فيقعد وسْطَ القوم لا يتكلمُ ) وقد بسطت قدرتك لسانك وأكثرت لك الحمد فدونك نهزة البديهة منه ( وبادرْ بمعروف إذا كنت قادراً ... زوال افتقار أو غنًى عنك يُعقب ) وقد بعثت إليك بقرابة مع الرسول وأنشأت في أثرها أقول ( إليك أبن موسى الجودِ أعملتُ ناقتي ... مجلَّلةً يضفو عليها جِلالُها ) ( كتومُ الوَحي لا تشتكي ألمَ السُّرى ... سواء عليها موتُها واعتلالُها ) ( إذا شَرِبَتْ أَبصرتَ ما جوفُ بَطنها ... وإن ظَمِئَت لم يبد منها هُزالُها ) ( وإن حَملتْ حِملاً تكلّفتُ حِملها ... وإن حُطَّ عنها لم أقل كيف حالُها ) ( بعثنا بها تسمو العيونُ وراءها ... إليك وما يُخشى عليها كَلالُها ) ( وغنّى مُغنِّيناً بصوتٍ فشاقني ... متى راجعٌ من أُم عمرو خيالُها ) ( أحِبُّ لكم قيسَ بن عيلان كلَّها ... ويعجبني فُرسانها ورجالُها ) ( ومالِيَ لا أهوَى بقاء قَبيلة ... أبوكَ لها بدرٌ وأنت هلالُها ) قال فبعث إليه برسوله الذي حمل إليه النبيذ واستملحه في شعره وبصاحب شرابه وكل ما كان في خزانته من الشراب وبثلثمائة دينار مساجلة حول جارية يقال لها مليحة أخبرني الأخفش عن المبرد وسوار بن أبي شراعة جميعا أن أبا الفياض سوار بن أبي شراعة كان يهوى قينة بالبصرة يقال لها مليحة فدعيت ذات يوم إلى مجلس لم يكن حاضره وحضر أبو علي البصير ذلك المجلس فجمشها بعض من حضر فلم تلتفت إليه وعرف أبو علي ذلك فكتب إلى أبي الفياض ( لك عندي بِشارة فاستمعها ... وأجبنِي عنها أَبا الفيَّاض ) ( كنتُ في مجلسٍ مَليحةُ فيه ... وهي سُقْمُ الصِّحاح برءُ المِراض ) ( وقديماً عهدتَني لستَ في حقِّكَ ... والذبِّ عنك ذا إغماضِ ) ( فتغفَّلتها تغفُّلَ خَصْمٍ ... وتأملتُها تأمُّل قاض ) ( ورَمتْها العيونُ من كلِّ أُفْق ... وتشاكَوْا بالوَحْي والإِيماض ) ( من كهولٍ وسادةٍ سُمَحاء ... باللُّها باخلينَ بالأعراض ) ( وصفاتُ القيانِ أولها الغدر ... عليهِ في وَصلهنَّ التَّراضي ) ( فتشوّفتُ ذاكَ منها وأعددتُ ... نكيري وسَوْرتي وامتِعاضي ) ( فحمتْ جانبَ المُزاحِ وعمَّتهم ... جميعاً بالصَّد والإِعراض ) ( وكفاني وفاؤها لكَ حتَّى ... آذنَ الليلُ جمعَهم بارفِضاض ) فأجابه أبو الفياض ( ليتَ شعري ماذا دعاك إلى أن ... هجتَ شوقي وزدتَ في إِمراضي ) ( ذكرتْني بُشراك داءً قديماً ... من سَقام عليَّ لا شك قاضي ) ( إن تكنْ أحسنتْ مليحةُ في وصْلي ... وعاصَت رِياضة الرُّوَّاض ) ( وأَقامتْ على الوفاء ولم تَرْعَ ... لوحيٍ منهم ولا إيماض ) ( فعلى صحَّةِ الوفاءِ تعاقدْنا ... وصونِ النُّفوس والأعراض ) ( وعلينا من العفافِ ثِيابٌ ... هنَّ أبهى من حالياتِ الرياض ) ( ليس حظِّي منها سوى النظر الخَتْل ... وإني به لجذلانُ راض ) ( لحظاتٌ يقعنَ في ساحة القلب ... وُقوع السهامِ في الأَغراض ) ( وابتسامٌ كالبرق أو هو أخفَى ... بين سِتْري تحرُّزٍ وانقباض ) ( لا أخافُ انتقاضَها آخرَ الدهر ... بِغَدرِ ولا تخافُ انتقاضي ) ( فأَبِنْ لي ألستَ تحَمد ذا ... الودَّ وقاكَ الردى أبو الفياض ) قال أبو الفياض اتصل بأبي شراعة أن أبا ناظرة السدوسي يغتابه وكان مع آل أبي سفيان بن ثور فقال يهجوهم ( لعن الإِله بني سدوسٍ كلَّهمْ ... ورمَى بمنجوفٍ وَريّة قاف ) ( قد سَبَّنِي عُضر وطهم فسببتُهم ... ذنبُ الدَّنِيء يُناط بالأشراف ) قال أبو الفياض وكان بين بعض بني عمنا وبين أبي شراعة وحشة ثم صالحوه ودعوه إلى طعامهم فأبى وقال أمثلي يخرج من صوم إلى طعم ومن شتيمة إلى وليمة ومالي ولكم مثل إلا قول المتلمس ( فإن تُقبلوا بالودّ نُقبلْ بمِثلِه ... وإلا فإنا نحن آبَى وأشمَسُ ) وقال فيهم ( بني سَوَّارَ إن رثَّتْ ثيابي ... وكَلَّ عن العشيرة فضلُ مُالي ) ( فمطَّرَحٌ ومتروك كلامي ... وتجفُوني الأقاربُ والموالي ) ( ألم أكُ من سَراة بني نُعَيم ... أَحلُّ البيتَ ذا العَمَد الطِّوال ) ( وحولي كلُّ أصيدَ تَغْلَبيِّ ... أبيُّ الضيْم مشتركُ النوال ) ( إذا حضر الغَداءُ فغيرُ مغنٍ ... ويُغني حين تَشتجرُ العوالي ) ( وأبقوْني فلستْ بمستكين ... لصاحب ثَروة أُخرى الليالي ) ( ولا بممسِّح المُثرين كيْما ... أمسِّحُ من طعامهمُ سِبَالي ) ( أنا ابنُ العنبرية أزَّرتني ... إزار المكرمات إِزار خالي ) ( فإن يكن الغِنَى مجداً فإني ... سأدعُو الله بالرزق الحَلالِ ) صوت ( إذا أَبصرتْكَ العينُ من بُعد غاية ... وأوْقعتُ شكّاً فيك أثبَتك القلبُ ) ( ولو أن رَكْباً يمَّموك لقادَهم ... نسيمُك حتى يستدلَّ بكَ الركبُ ) الشعر لعبد الله بن محمد بن البواب والغناء لأحمد بن صدقة الطنبوري رمل مطلق في مجرى البنصر رواية الهشامي أخبار ابن البواب هو عبد الله بن محمد بن عتاب بن إسحاق من أهل بخارى وجه بجدة وجماعة معه رهينة إلى الحجاج بن يوسف فنزلوا عنده بواسط فأقطعهم سكة بها فاختطوها ونزلوها طول أيام بني أمية ثم انقطعوا من الدولة العباسية إلى الربيع فخدموه وكان عبد الله بن محمد هذا يخلف الفضل بن الربيع على حجبة الخلفاء وكان أبوه محمد بن عتاب يخلف الربيع في أيام أبي جعفر وكان معه فرآه أبو جعفر مع أبيه فسأله عنه فأخبره فكساه قباء خز وكساه تحته قباء كتان مرقوع القب وقال له هذا يخفى تحت ذاك ذكر لي أحمد بن القاسم بن يوسف عن محمد بن عبد الله بن محمد البواب عن أبيه وكان عبد الله صالح الشعر قليله وراوية لأخبار الخلفاء عالماً بأمورهم روى عنه أبو زيد عمر بن شبة ونظراؤه وقد مضت في هذا الكتاب وتأتي أخبار من روايته أعطاه الأمين فمدحه قال أحمد بن القاسم اليوسفي حدثني محمد بن عبد الله البواب قال حدثني أبي قال حجبت موسى وهارون خليفة للفضل بن الربيع وخدم محمدا الأمين فأغناه وأعطاه ومدحه ونال من المأمون وعرض به فأخبرني إسماعيل بن يوسف قال حدثني عبد الله بن أحمد الباهلي قال حدثني الحسين بن الضحاك قال لما أتي المأمون بشعر ابن البواب الذي يقول فيه صوت ( أَيبخَل فردُ الحسن فردُ صفاته ... عليَّ وقد أفردته بهَوًى فردِ ) ( رأى الله عبدَ الله خيرَ عباده ... فملَّكه والله أعلم بالعَبْدِ ) ( ألا إنما المأمونُ للناس عِصمةٌ ... مُمَيَّزةٌ بين الضَّلالة والرُّشدِ ) لعلويه في هذه الأبيات رمل بالوسطى قال فقال المأمون أليس هو القائل ( أعينيَّ جودا وابكيا لي محمَّدا ... ولا تدْخَرا دَمعاً عليه وأَسْعِدا ) ( فلا فرِحَ المأَمون بالمُلْك بعدَه ... ولا زالَ في الدُّنيا طريداً مشرَّدا ) هيهات وواحدة بواحدة ولم يصله بشيء هكذا روي عن الحسين بن الضحاك وقد روي أن هذين الشعرين جميعا للحسين وأن قول المأمون هذا بعينه فيه نسب إلى إسحاق شعراً ذميماً رديئاً ) وقال أحمد بن القاسم حدثني جزء بن قطن وأخبرني بهذا الخبر الحسين بن يحيى عن حماد بن إسحاق قالا جميعا وقع بين إسحاق وبين ابن البواب شر فقال ابن البواب شعرا ذميما رديئا ونسبه إلى إسحاق وأشاعه ليعيره به وهو ( إنما أنتِ يا عنانُ سراج ... زيتُه الظَّرف والفَتيلةُ عقلُ ) ( قاده للشقاء مني فُؤادي ... رِجْل حُبٍّ لكم وللحبِّ رِجلُ ) ( هَضَم اليوم حبُّكم كلَّ حُبٍّ ... في فؤادي فصار حُبُّك فُجْلُ ) ( أنت ريحانةٌ وراحٌ ولكن ... كلُّ أنثى سواكِ خَلٌّ وبَقلُ ) وقال حماد في خبره وبلغ ذلك أبي فقال له ( الشعر قد أعيا عليك فخلّه ... وخذ العَصا واقعدْ عَلى الأبواب ) فجاء ابن البواب إلى إبراهيم جدي فشكا أبي إليه فقال له مالك وله يا بني فقال له أبي تعرض لي فأجبته وإن كف لم أرجع إلى مساءته فتتاركا خبره مع جارية يهواها اسمها عبادة قال أحمد بن القاسم أخبرني محمد بن الحسن بن الفضل قال أخبرني إبراهيم بن أحمد بن عبد الرحيم قال كان بالكرخ نخاس يكنى أبا عمير وكان له جوار قيان لهن ظرف وأدب وكان عبد الله بن محمد البواب يألف جارية منهن يقال لها عبادة ويكثر غشيان منزل أبي عمير من أجلها فضاق ضيقة شديدة فانقطع عن ذلك وكره أن يقصر عما كان يستعمله من برهم فتعلم بضيقته ثم نازعته نفسه إلى لقائها وزيارتها وصعب عليه الصبر عنها فأتاه فأصاب في منزله جماعة ممن كان يألف جواريه فرحب به أبو عمير والجارية والقوم جميعا واستبطأوا زيارته وعاتبوه على تأخره عنهم فجعل يجمجم في عدره ولا يصرح فأقام عندهم فلما أخذ فيه النبيذ أنشأ يقول ( لو تشكَّى أبو عُمير قليلاً ... لأتيناه من طَريق العِيادَهْ ) ( فقضيْنَا من العيادة حقَّاً ... ونظرنا في مُقْلَتَيْ عبَّادَهْ ) فقال له أبو عمير مالي ولك يا أخي أنظر في مقلتي عبادة متى شئت غير ممنوع ودعني أنا في عافية لا تتمن لي المرض لتمودني وقال أحمد بن القاسم كان عبد الله بن إسماعيل بن علي بن ريطة يألف ابن البواب ويعاشره فشرب عنده يوما حتى سكر ونام فلما أفاق في السحر أراد الإنصراف فحلف عليه واحتبسه وكان عبد الله يهوى جارية له من جواري عمرو بن بانة فبعث إلى عمرو بن بانة فدعاه وسأله إحضار الجارية فأحضرها وانتبه عبد الله بن إسماعيل من نومه وهو يتململ خمارا فلما رآها نشط وجلس فشرب وتمموا يومهم فقال عبد الله بن محمد بن البواب في ذلك ( وكريمِ المجدِ محضٍ أبوه ... فهو الصفو اللَّبابُ النُّضارُ ) ( هاشميُّ لقُروم إذا ما ... أظلمتْ أوجهُ قومٍ أناروا ) ( رمت القهوةُ بالنوم وهْناً ... عينَه فالجَفنُ فيه انكسارُ ) ( فهو من طَرفٍ يُفدِّيك طَوْراً ... ويُعاطيكَ اللواتي أَداروا ) ( ساعةً ثم انثنى حين دبًّتْ ... ومشتْ فيه السُّلاف العُقَارُ ) ( وأبتْ عَيني اغتماضاً فلمَّا ... حان من أُخرى النجومِ انحدَارُ ) ( قلت عبدَ الله حاذرتَ أمراً ... ليس يُغني خائفيه الحِذَارُ ) ( فاستوى كالهُنْدَِاونيِّ لمَّا ... أن رأى أنْ ليس يُغني الفِرارُ ) ( قلت خذْها مثلَ مصباحِ ليل ... طُيِّرتْ في حافَتيه الشِّرارُ ) ( أقبلتْ قَطْرا نِطافا ولما ... يُتعب العاصرَ منها اعتصارُ ) ( هي كالياقوت حمراءُ شِيبتْ ... وعَلا الحُمرةَ منها اصفرارُ ) ( كالدنانيرِ جرى في ذُراها ... فِضةٌ فالحسنُ منها قُصار ) ( تُنطِقُ الخُرس وبالصمتِ تَرمي ... مَعشراً نُطْقاً إذا ما أَحاروا ) قال أحمد وحدثني يعقوب بن العباس الهاشمي أبو إسماعيل النقيب قال لما طال سخط المأمون على ابن البواب قال قصيدة يمدحه بها ودس من غناه في بعضها لما وجد منه نشاطا فسأل من قائلها فأخبر به فرضي عنه ورده إلى رسمه من الخدمة وأنشدني أبو إسماعيل القصيدة وهي قوله قصيدته في مدح المأمون ( هل للمحبِّ مُعينُ ... إذ شطَّ عنه القرينُ ) ( فليس يَبكي لشَجو ... الحزينِ إلا الحزينُ ) ( يا ظاعناً غاب عنَّا ... غَداةَ بانَ القطينُ ) ( أبكى العيونَ وكانتْ ... به تَقَرُّ العيونُ ) ( يا أيها المأمون ... المبارَك الميمونُ ) ( لقد صفتْ بك دُنيا ... للمسلمين ودينُ ) ( عليكَ نُور جلالٍ ... ونُور مُلك مبينُ ) ( القول منكَ فِعَالٌ ... والظنُّ منك يقينُ ) ( مامِن يديك شِمال ... كلتَا يديك يَمينُ ) ( كأنما أنتَ في الجُود ... والتُّقى هارونُ ) ( مَنْ نالَ من كل فضلٍ ... ما ناله المأمونُ ) ( تألَّف الناسَ منه ... فضلٌ وجودٌ ولينُ ) ( كالبدر يبدو عليه ... سكينَةٌ وسكُونُ ) ( فالرزقُ من راحتيه ... مقسَّمٌ مَضْمونُ ) ( وكل خَصلةِ فضل ... كانتْ فَمنه تكونُ ) والأبيات التي فيها الغناء المذكور آنفا أربعة أبيات أنشدنيها الأخفش وهي قوله ( أَفِقْ أيها القلب المعذَّبُ كم تَصبو ... فلا النأيُ عن سلماك يُسلِي ولا القرْبُ ) ( أقولُ غداة استخبَرت مِمَّ علتي ... من الحبِّ كربُ ليس يشبهُه كَربُ ) ( إِذا أبصرتك العين من بعد غايةٍ ... فأدخلتُ شكا فيك أثبتَك القلبُ ) ( ولو أن رَكباً يمموك لقادَهم ... نَسيمُك حتى يَستدلَّ بكَ الركبُ ) فقال الأخفش مثل هذا البيت الأخير قول الشاعر ( واستَودَعَتْ نشرَها الديارُ فما ... تَزدادُ طيباً إلا على القِدَم ) أخبرني الحسن بن يحيى عن حماد بن إسحاق قال رأيت محمد بن عبد الله البواب وقد جاء إلى أبي مسلما فاحتبسه ورأيته وهو شيخ كبير وكان ضخما طويلا عظيم الساقين كأنهما دنان وكان يشد في ساقيه خرزا أسود لئلا تصيبهما العين مدح أبا دلف بعد أن أملق فوهبه مالا وقال محمد بن القاسم أملق عبد الله بن محمد البواب حين جفاه الخليفة وعلت سنه عن الخدمة فرحل إلى أبي دلف القاسم بن عيسى ومدحه بقصيدة مهوب له ثلاثين ألف درهم وعاد بها إلى بغداد فما نفدت حتى مات وهي قوله ( طرقتْك صائدةُ القلوبِ رَبابُ ... ونأَتْ فليس لها إليك مآبُ ) ( وتصرَّمتْ منها العهودُ وغُلِّقتْ ... من دون نيلِ طِلابِها الأبوابُ ) ( فَلأَصِدفنَّ عن الهوى وطِلابِه ... فالحبُّ فيه بَلِيَّةٌ وعذَابُ ) ( وأخصُّ بالمدح المهذَّب سيِّداً ... نفحاتُه للمُجْتدين رغابُ ) ( وإلى أبي دلف رحلْتُ مطِّيتي ... قد شفَّها الإِرقالُ والإِتعابُ ) ( تعلو بنا قُلَلَ الجبال ودونَها ... مما هوتْ أهويَّة وشِعابُ ) ( فإِذا حللتَ لدي الأمير بأرضه ... نلتَ المُنى وتقضَّت الآراب ) ( مَلِكُ تأثَّل عن أبيه وجدِّه ... مَجْداً يُقصِّر دونه الطُّلابُ ) ( وإذا وزِنتَ قديم ذي حسبٍ به ... خضعتْ لفضلِ قديمه الأحسابُ ) ( قومٌ علَوْا أملاَك كلِّ قبيلة ... فالناس كلّهُم لهم أذْنابُ ) ( ضرَبَتْ عليه المكرماتُ قِبابَها ... فعلا العمودُ وطالَتِ الأَطنابُ ) ( عَقِم النساءُ بمثله وتعطَّلتْ ... من أنْ تُضَمَّن مثلَه الأصلابُ ) صوت ( صغيرُ هواكَ عذَّبني ... فكيف به إذا احْتُنِكَا ) ( وأنت جمعت من قلبي ... هَوًى قد كان مشترَكا ) ( وحبسُ هواك يقتُلُني ... وقتلي لا يَحلُّ لكا ) ( أما تَرْثي لمكْتَئِبٍ ... إذا ضحك الخليُّ بَكى ) الشعر لمحمد بن عبد الملك الزيات والغناء لأبي حشيشة رمل بالوسطى عن الهشامي أخبار محمد بن عبد الملك الزيات ونسبه هو محمد بن عبد الملك الزيات بن أبان بن أبي حمزة الزيات وأصله من جَبُّل ويكنى أبا جعفر وكان أبوه تاجرا من تجار الكرخ المياسير فكان يحثه على التجارة وملازمتها فيأبى إلا الكتابة وطلبها وقصد المعالي حتى بلغ منها أن وزر ثلاث دفعات وهو أول من تولى ذلك وتم له أخبرني الأخفش علي بن سليمان قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك قال كان جدي موسراً من تجار الكرخ وكان يريد من أبي أن يتعلق بالتجارة ويتشاغل بها فيمتنع من ذلك ويلزم الأدب وطلبه ويخالط الكتاب ويلازم الدواوين فقال له ذات يوم والله ما أرى ما أنت ملازمه ينفعك وليضرنك لأنك تَدَعُ عاجل المنفعة وما أنت فيه مكفيّ ولك ولأبيك فيه مال وجاه وتطلب الآجل الذي لا تدري كيف تكون فيه فقال والله لتعلمن أينا ينتفع بما هو فيه أأنا أم أنت ثم شخص إلى الحسن بن سهل بفم الصلح فامتدحه بقصيدته التي أولها ( كأنها حينَ تناءَى خطوها ... أخْنَسُ مَوْشيُّ الشَّوَى يرعى القُبَلْ ) فأعطاه عشرة آلاف درهم فعاد بها إلى أبيه فقال له أبوه لا ألومك بعدها على ما أنت فيه أخبرني جحظة والصولي قالا حدثنا ميمون بن هارون قال لما مدح محمد بن عبد الملك الحسن بن سهل ووصله بعشرة آلاف درهم مثل بين يديه وقال له ( لم أمتدحْك رجاء المالِ أطلُبه ... لكنْ لتُلبِسَني التَّحجيلَ والغُررَا ) ( وليس ذلك إلا أَنَّني رجلٌ ... لا أَطلب الوِرْدَ حتى أعرِفَ الصَّدَرَا ) وكان محمد بن عبد الملك شاعرا مجيدا لا يقاس به أحد من الكتاب وإن كان إبراهيم بن العباس مثله في ذلك فإن إبراهيم مقل وصاحب قصار ومقطعات وكان محمد شاعرا يطيل فيجيد ويأتي بالقصار فيجيد وكان بليغا حسن اللفظ إذا تكلم وإذا كتب خبر عن عدله وإنصافه الناس فحدثني عمي رحمه الله قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال جلس أبي يوما للمظالم فلما انقضى المجلس رأى رجلا جالسا فقال له ألك حاجة قال نعم تدنيني إليك فإني مظلوم فأدناه فقال أني مظلوم وقد أعوزني الإنصاف قال ومن ظلمك قال أنت ولست أصل إليك فأذكر حاجتي قال ومن يحجبك عني وقد ترى مجلسي مبذولا قال يحجبني عنك هيبتي لك وطول لسانك وفصاحتك واطراد حجتك قال ففيم ظلمتك قال ضيعتي الفلانية أخذها وكيلك غصبا بغير ثمن فإذا وجب عليها خراج أديته بإسمي لئلا يثبت لك اسم بملكها فيبطل ملكي فوكيلك يأخذ غلتها وأنا أؤدي خراجها وهذا مما لم يسمع في الظلم مثله فقال محمد هذا قول تحتاج عليه إلى بينة وشهود وأشياء فقال له الرجل أيؤمنني الوزير من غضبه حتى أجيب قال قد أمنتك قال البينة هم الشهود وإذا شهدوا فليس يحتاج معهم إلى شيء فما معنى قولك بينة وشهود وأشياء أيش هذه الأشياء إلا العي والحصر والتغطرس فضحك وقال صدقت والبلاء موكل بالمنطق وإني لأرى فيك مصطنعا ثم وقع له برد ضيعته وبأن يطلق له كُرٌّ حنطة وكر شعير ومائة دينار يستعين بها على عمارة ضيعته وصيره من أصحابه واصطنعه أخبرني الصولي قال حدثني أحمد بن محمد الطالقاني قال حدثني عبيد الله بن محمد بن عبد الملك قال هدد إبراهيم بن المهدي بقصيدة يخاطب فيها المأمون لما وثب إبراهيم بن المهدي على الخلافة اقترض من مياسير التجار مالا فأخذ من جدي عبد الملك عشرة آلاف درهم وقال له أنا أردها إذا جاءني مال ولم يتم أمره فاستخفى ثم ظهر ورضي عنه المأمون فطالبه الناس بأموالهم فقال إنما أخذتها للمسلمين وأردت قضاءها من فيئهم والأمر الآن إلى غيري فعمل أبي محمد بن عبد الملك قصيدة يخاطب فيها المأمون ومضى بها إلى إبراهيم بن المهدي فأقرأه أياها وقال والله لئن لم تعطني المال الذي اقترضته من أبي لأوصلن هذه القصيدة إلى المأمون فخاف أن يقرأها المأمون فيتدبر ما قاله فيوقع به فقال له خذ مني بعض المال ونجم علي بعضه ففعل أبي ذلك بعد أن حلفه إبراهيم بأوكد الأيمان ألا يظهر القصيدة في حياة المأمون فوفى له أبي بذلك ووفى إبراهيم بأداء المال كله والقصيدة قوله ( أَلم ترَ أَن الشيءَ للشيء علَّةٌ ... تكونُ له كالنار تُقدَح بالزَّندِ ) ( كذلك جرّبْتُ الأمورَ وإنما ... يدُلُّك ما قد كان قبلُ على البَعْد ) ( وظنِّي بإبراهيم أَنّ مكانَه ) ... سيُبعث يوماً مثلَ أَيامه النُّكْدِ ) ( رأيت حُسَيْناً حين صار محمد ... بغير أمان في يديه ولا عَقدِ ) ( فلو كان أمضى السيفَ فيه بضربةٍ ... فصيَّره بالقاع مُنْعفِر الخَدِّ ) ( إذا لم تكنْ للجند فيه بقيةٌ ... فقد كان ما خُّبِّرتُ من خبرِ الجُندِ ) ( هُمُ قَتلوه بعد أن قَتلوا له ... ثلاثين أَلفاً من كهول ومن مُرْدِ ) ( وما نصروه عن يَدٍ سلفَتْ له ... ولا قتلوه يوم ذلكَ عن حِقدِ ) ( ولكنه الغدرُ الصُّراح وخِفة ُ ... الحُلوم وبعدُ الرأيِ عن سَنَنِ القَصدِ ) ( فذلك يوم كان للناس عبرةً ... سيبقى بقاءَ الوَحْي في الحَجر الصَّلد ) ( وما يوم إبراهيم إن طال عمرهُ ... بأبعد في المكروه من يومه عَنْدي ) ( تذكَّر أميرَ المؤمنين مقامَه ... وأيمانه في الهزلِ منه وفي الجَدّ ) ( أما والذي أمسيتَ عبداً خليفةً ... له شرُّ أيمان الخليفَة والعبدِ ) ( إذا هزّ أعوادَ المنابر باستِه ... تغنّى بليلَى أو بميَّةَ أو هِنْدِ ) ( فوالله ما من تَوبةٍ نزعتْ به ... إليك ولا مَيلٍ إليك ولا وُدِّ ) ( ولكنَّ إخلاصَ الضمير مقرِّبٌ ... إلى الله زُلْفى لا تَخيبُ ولا تُكدِي ) ( أتاكَ بها طوعاً إليكَ بأنفه ... على رغمه واستأثَر اللُه بالحَمْدِ ) ( فلا تترُكن للناسِ موضعَ شًبهة ... فإنك مَجْزِيّ بحسْب الذي تُسدِي ) ( فقد غَلِطوا للناس في نَصْب مثلِه ... ومن ليسَ للمنصور بابنٍ ولا المهدي ) ( فكيف بمن قد بايع الناسَ والتقتْ ... ببيعته الركبانُ غَوْراً إلى نَجدِ ) ( ومن سكَّ تسليمُ الخلافة سَمْعَهُ ... ينادَى به بين السَّماطينِ من بُعْدِ ) ( وأي امرئٍ سمَّى بها قطُّ نفسَه ... ففارقها حتى يُغيَّبَ في اللَّحدِ ) ( وتزعُم هذي النابتيّة أنَّه ... إمامٌ لها فيما تُسِرُّ وما تُبدِي ) ( يقولون سُنِّيٌّ وأيّةُ سُنَّة ... تقومُ بجَوْن اللون صَعْل القفا جَعْدِ ) ( وقد جعلوا رُخْصَ الطعام بعَهده ... زعيماً له باليُمنِ والكوكَب السَّعدِ ) ( إذا ما رأوا يوماً غلاءً رأيتَهم ... يَحِنّون تَحناناً إلى ذلك العَهدِ ) ( وإقباله في العيد يوجَف حولَه ... وجيف الجياد واصطفاق القنا الجُرْدِ ) ( ورجّالةٍ يمشون بالبيضِ قبله ... وقد تَبعوه بالقضيبِ وبالبُردِ ) ( فإن قلتَ قد رام الخلافةَ غيرُهُ ... فلم يؤتَ فيما كان حاول من جَدِّ ) ( فَلمْ أجزه إذ خيَّبَ اللهُ سعيّه ... على خطإٍ إذ كان منه ولا عمَدِ ) ( ولم أرضَ بعد العفو حتَّى رفعته ... ولَلْعَمُّ أولى بالتَّعَهُّد والرِّفْدِ ) ( فليس سواءً خارجيٌّ رَمى به ... إليكَ سفاهُ الرأي والرأيُ قد يُرْدي ) ( تعاوتْ له من كل أَوْبٍ عِصابةٌ ... متى يُورِدُوا لا يُصدروه عن الوِرْدِ ) ( ومَن هو في بيتِ الخلافة تَلْتقى ... به وبك الآباء في ذِروة المجدِ ) ( فمولاكَ مولاه وجندُك جندُه ... وهل يجمع القينُ الحُسّامين في غمْدِ ) ( وقد رابني من أهل بيتك أَنَّني ... رأيتُ لهم وجداً به أيَّما وَجدِ ) ( يقولون لا تبعد من ابن مُلِمَّةٍ ... صبورٍ عليها النفسَ ذِي مِرَّة جَلْدِ ) ( فّدانا وهانتْ نفسُه دونَ مُلكنا ... عليه لذي الحال التي قلَّ من يفدي ) ( على حين أعطى الناس صَفْقَ أكفِّهم ... عليُّ بنُ موسى بالولاية والعَهدِ ) ( فما كان فينا من أَبَى الضَّيْم غيرُه ... كريمٌ كفى ما في القبول وفي الرَّدِّ ) ( وجرَّد إبراهيمُ للموتِ نفسَه ... وأبدى سلاحاً فوق ذي مَيعةٍ نَهْدِ ) ( وأبلى ومَن يبلغْ من الأمر جُهدَه ... فليس بمذمومٍ وإن كان لم يُجْدِ ) ( فهذي أمورٌ قد يخافُ ذَوُو النُّهى ... مَغَبَّتَها واللهُ يهديكَ للرشْدِ ) رأيه في يحيى بن خاقان أخبرني الصولي قال حدثني عبد الله بن الحسين القطربلي عن جعفر بن محمد بن خلف قال قال لي المعلى بن أيوب كيف كان محل يحيى بن خاقان عند محمد بن عبد الملك ومقداره فقلت له سمعت محمدا يذكره فقال هو مهزول الألفاظ عليل المعاني سخيف العقل ضعيف العقدة واهي العزم مأفون الرأي قال عبد الله ولما تولى محمد بن عبد الملك الوزارة اشترط ألا يلبس القباء وأن يلبس الدراعة ويتقلد عليها سيفا بحمائل فأجيب إلى ذلك أخبرني الصولي قال حدثني أبو ذكوان قال حدثني طماس قال ميمون بن هارون كان محمد بن عبد الملك يقول الرحمة خور في الطبيعة وضعف في المنة ما رحمت شيئا قط فكانوا يطعنون عليه في دينه بهذا القول فلما وضع في الثقل والحديد قال ارحموني فقالوا له وهل رحمت شيئا قط فترحم هذه شهادتك على نفسك وحكمك عليها أخبرني الصولي قال حدثني أبو ذكوان قال حدثني طماس قال جاء أبو دنقش الحاجب إلى محمد بن عبد الملك برسالة من المعتصم ليحضر فدخل ليلبس ثيابه ورأى ابن دنقش الحاجب غلمانا لهم روقة فقال وهو يظن أنه لا يسمع ( وعلى اللواط فلا تلومَنْ كاتِباً ... إن اللّواط سَجِيَّة الكُتّابِ ) فقال محمد له ( وكما اللواطُ سجيةُ الكُتَّابِ ... فكذا الحُلاقُ سَجِيَّة الحُجَّابِ ) فاستحيا ابن دنقش واعتذر إليه فقال له إنما يقع العذر لو لم يقع الإقتصاص فأما وقد كافأتك فلا رثاؤه أمَّ أبنه عمر أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال أنشدني الحسن بن وهب لمحمد بن عبد الملك أبياتا يرثي بها سكرانة أم ابنه عمر وجعل الحسن يتعجب من جودتها ويقول ( يقول ليَ الخِلاَّنُ لو زرتَ قبرها ... فقلتُ وهل غيرُ الفؤاد لها قبرُ ) ( على حينَ لم أحدُثْ فأجهلَ قدرُها ... ولم أبلغ السنَّ التي معها الصبرُ ) أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثني عبد الرحمن بن سعيد الأزرقي قال استبطأ عبد الله بن طاهر محمد بن عبد الملك في بعض أموره واتهمه بعدوله عن شيء أراده إلى سواه فكتب إليه محمد بن عبد الملك يعتذر من ذلك وكتب في آخر كتابه يقول ( أتزعُم أنني أهوَى خليلاً ... سواكَ على التداني والبِعادِ ) ( جحدتُ إذاً مُوالاتي عليَّا ... وقلت بأنني مولى زيادِ ) قرأت في بعض الكتب كان عبد الله بن الحسن الأصبهاني يخلف عمرو بن مسعدة على ديوان الرسائل فكتب إلى خالد بن يزيد بن مزيد إن المعتصم جعل أمير المؤمنين ينفخ منك في غير فحم ويخاطب أمرأ غير ذي فهم فقال محمد بن عبد الملك هذا كلام ساقط سخيف جعل أمير المؤمنين ينفخ بالزق كأنه حداد وأبطل الكتاب ثم كتب محمد بن عبد الملك إلى عبد الله بن طاهر وأنت تجري أمرك على الأربح فالأربح والأرجح فالأرجح لا تسعى بنقصان ولا تميل برجحان فقال عبد الله الأصبهاني الحمد لله قد أظهر من سخافة اللفظ ما دل على رجوعه إلى صناعته من التجارة بذكره ربح السلع ورجحان الميزان ونقصان الكيل والخسران من رأس المال فضحك المعتصم وقال ما أسرع ما انتصف الأصبهاني من محمد وحقدها عليه ابن الزيات حتى نكبه أخبرني الأخفش عن المبرد قال نظر رجل كان يعادى يونس النحوي إليه وهو يهادى بين اثنين من الكبر فقال له يا أبا عبد الرحمن أبلغت ما أرى فعلم يونس أنه قال له ذلك شامتا فقال هذا الذي كنت أرجو فلا بلغته فأخذه محمد بن عبد الملك الزيات فجعله في شعر فقال ( وعائبٍ عابني بِشيْبٍ ... لم يعْدُ لمَّا ألمَّ وقتَهْ ) ( فقلتُ إِذ عابني بشيْبي ... يا عائبَ الشيبِ لا بلغْتَهْ ) سرق منديله فأنشد شعرا وذكر أبو مروان الخزاعي أن أبا دهمان المغني سرق من محمد بن عبد الملك منديلا دبقيا فجعله تحت عمامته وبلغ محمدا فقال فيه ( ونديمٍ سارقٍ خاتلَني ... وهو عندي غيرُ مذموم الخُلُقْ ) ( ضاعفَ الكَوْرَ على هامته ... وطوى منديلَنا طيَّ الخِرَقْ ) ( يا أبا دُهمانَ لو جاملْتَنَا ... لكفيناكَ مَؤُوناتِ السَّرَقْ ) أخبرنا أبو مسلم محمد بن بحر الأصبهاني قال كنت عند أبي الحسين بن أبي البغل لما انصرف عن بغداد بعد إشخاصه إليها للوزارة وبطلان ما نذره من ذلك ورجوعه فجعل يحدثنا بخبره ثم قال لله در محمد بن عبد الملك الزيات حيث يقول ( ما أعجبَ الشيءَ ترجوه فتُحْرَمُه ... قد كنتُ أحسبُ أني قد ملأتُ يدي ) ( مالي إذا غبتُ لم أُذكَرْ بصالحةٍ ... وإن مَرِضتُ فطال السُّقمُ لم أُعَدِ ) تبادل المدح مع عبد الله بن العباس أخبرني الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال حدثني عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع قال وصفني محمد بن عبد الملك للمعتصم وقال ما له نظير في ملاحة الشعر والغناء والعلم بأمور الملوك فلقيته فشكرته وقلت جعلت فداءك أتصف شعري وأنت أشعر الناس ألست القائل ( ألم تعجب لمكتئِبٍ حزينٍ ... خَدين صَبابة وحليفِ صَبرِ ) ( يقولُ إذا سألتَ به بخَيْرٍ ... وكيف يكون مهجورٌ بخَيْرِ ) قال وأين هذا من قولك ( بقولُ لي كيفَ أصبحتَ ... كيفَ يُصبح مِثلي ) ماء ولا كصداء ومرعى ولا كالسَّعدان أخبرني الصولي قال حدثني عون بن محمد قال لقي الكنجي محمد بن عبد الملك فسلم عليه فلم يجبه فقال الكنجي ( هذا وأنت ابنُ زياتٍ تُصغِّرنا ... فكيف لو كنتَ يا هذا ابن عطَّار ) فبلغ ذلك محمدا فقال كيف ينتصف من ساقط أحمق وضعه رفعه وعقابه ثوابه أخبرني الصولي قال أخبرني عبد الله بن محمد الأزدي قال حدثني يعقوب بن التمار قال قال محمد بن عبد الملك لبعض أصحابه ما أخرك عنا قال موت أخي قال بأي علة قال عضت أصبعه فأرة فضربته الحمرة فقال محمد ما يرد القيامة شهيد أخس سببا ولا أنذل قاتلا ولا أضيع ميتة ولا أظرف قتله من أخيك أحمد بن أبي داود يحرض الشعراء على هجائه أخبرني عمي عن ابي العيناء قال كان محمد بن عبد الملك يعادي أحمد بن أبي داود ويهجوه فكان أحمد يجمع الشعراء ويحرضهم على هجائه ويصلهم ثم قال فيه أحمد بيتين كانا أجود ما هجي به وهما ( أحسن من خَمسين بيتاً سُدىً ... جمعُك إيَّاهُنَّ في بيت ) ( ما أحوجَ الناسَ إلى مَطْرة ... تُذهبُ عنهم وَضَرَ الزيت ) وكان ابن أبي داود يقول ليس أحد من العرب إلا وهو يقدر على قول الشعر طبعا ركب فيهم قل قوله أو كثر قصيدة أبي تمام في مدحه أخبرنا الصولي قال حدثنا محمد بن موسى عن الحسن بن وهب قال أنشد أبو تمام محمد بن عبد الملك قصيدته التي يقول فيها ( لهان علينا أن نقولَ وتفعلا ... ) فأثابه عليها ووقع عليه ( رأيتك سهل البيع سمحاً وإنما ... يُغالَى إذا ما ضنَّ بالشيء بائعُهْ ) ( فأما الذي هانتْ بضائعُ بيعِه ... فيُوشك أن تَبقى عليه بضائعُهْ ) ( هو الماءُ إن أحمَمْتَه طاب وِردُه ... ويُفسدُ منه أن تباحَ شرائعُهْ ) فأجابه أبو تمام وقال ( أبا جعفر إن كنْتُ أصبحتُ شاعراً ... أُسامِحُ في بيعي له من أبايعُهْ ) ( فقد كنتَ قبلي شاعراً تاجراً به ... تُساهل من عادتْ عليك منافعُهْ ) ( فصرتَ وزيراً والوزارة مَكْرَعٌ ... يغَصّ به بعدَ اللذاذة كارعُه ) ( وكمْ من وزير قد رأينا مُسلَّطاً ... فعاد وقد سُدَّتْ عليه مطالعُه ) ( ولله قوسٌ لاَ تطيش سهامُها ... ولله سيفٌ لا تُفَلُّ مقاطعُه ) حدثني الصولي قال حدثني محمد بن يحيى بن عباد قال حدثني أبي قال حج محمد بن عبد الملك في آخر أيام المأمون فلما قدم كتب إليه راشد الكاتب قوله ( لا تنسَ عهدي ولا مودَّتِيَهْ ... واشتَقْ إلى طَلعتي ورُؤيتيهْ ) ( إن غبتَ عنا فلم تغب كثرة ... الذكر فلا تَغْفُلَن هديتَيهْ ) ( التَّمر والنقل والمساويك والقسب ... وخير النعال حسن شِيَهْ ) ( فإن تجاوزتَ ما أقول إلى العَصْبِ ... فذاك المأمولُ منك لِيَهْ ) رده على راشد الكاتب فأجابه محمد بن عبد الملك ( إنك مِنّي بحيثُ يطَّردُ الناظرُ ... من تحت ماء دَمْعَتِيهْ ) ( ولا ومَن زادني توَدُّدُه ... على صِحابي بفضل غَيْبَتيَهْ ) ( ما أحسن التركَ والخلافَ لما ... تريدُ مني وما تقولُ لِيُهْ ) ( يا بأبي أنتَ ما نسيتُك في ... يوم دُعائي ولا هَدِيَّتِيَهْ ) ( ناجيتُ بالذكر والدُّعاء لك اللِّهُ ... لدى البيت رافعاً يَدِيَه ) ( حتى إذا ما ظننتُ بالملكِ القادر ... أن قد أجاب دَعْوَتِيَه ) ( قمتُ إلى موضع النعالِ وقدْ ... أقمت عشرينَ صاحباً مَعِيَهْ ) ( وقلتُ لي صاحبٌ أريد له ... نَعْلا ولو مِن جلود راحَتِيَهْ ) ( فانقطع القولُ عند واحدةٍ ... قال الذي اختار يا بِشَارَتِيَهْ ) ( فقلتُ عندي لك البشارةُ والشُّكرُ ... وقَلاَّ في جَنب حاجَتِيَه ) ( ثم تخيّرتُ بعد ذاك من الْعَصْب ... اليَماني بفضل خِبْرَتِيَهْ ) ( موشيَّةً لم أزلْ بِبائعها ... أُرغِبُ حتى زها عليَّ بِيَهْ ) ( يرفعُ في سومِه وأُرغِبُه ... حتى التقَى زهدُه ورَغْبَتِيَه ) ( وقد أتاكَ الذي أمرتَ به ... فاعذِرْ بكثر الإِنعام قِلَّتِيَهْ ) أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال رثى برذونه بعد أن أخذه المعتصم منه كان لمحمد بن عبد الملك برذون أشهب لم ير مثله فراهة وحسنا فسعى به محمد بن خالد حيلويه إلى المعتصم ووصف له فراهته فبعث المعتصم إليه فأخذه منه فقال محمد بن عبد الملك يرثيه ( كيف العَزاء وقد مضى لسبيلهِ ... عنا فودَّعنا الأصمُّ الأشهبُ ) ( دبَّ الوشاةُ فأبعدوك ورُبَّما ... بَعُدَ الفتى وهو الأحبُّ الأقربْ ) ( لله يومَ نأيتَ عنِّي ظاعناً ... وسُلبتُ قربَك أيَّ عِلْق أُسلَبُ ) ( نفسٌ مفرَّقةٌ أقام فريقُها ... ومضى لِطِيَّته فريقٌ يُجنَبُ ) ( فالآن إذ كُملت أداتُك كلُّها ... ودعا العيونَ إليك لونٌ معجبُ ) ( واختيرَ من سرّ الحدائد خيرُها ... لك خالصاً ومن الحُلِيِّ الأغرَبُ ) ( وغدَوتَ طَنّان اللجام كأنما ... في كل عُضو منك صَنْجٌ يُضرَبُ ) ( وكأنّ سرجَك إذ علاك غمامةٌ ... وكأنما تحتَ الغمامةِ كَوكَبُ ) ( ورأى عليَّ بك الصديقُ جلالةً ... وغدا العدوُّ وصدرهُ يتلهّبُ ) ( أنساكَ لا زالت إذاً منسيَّةً ... نفسِي ولا زالت يَميني تُنكبُ ) ( أضمرتُ منك اليأسَ حين رأيتُني ... وقُوَى حبالي من قُواك تقضَّبُ ) ( ورجعتُ حين رجعتُ منكَ بحسرة ... لله ما فعل الأصمُّ الأشيبُ ) أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان رضوان الله عليه قال حدثني محمد بن ناصح رحمة الله عليه قال لحقت غلات أهل البَتّ آفة في أيام محمد بن عبد الملك من جراد وعطش فتظلم إليه جماعة منهم فوجه ببعض أصحابه ناظرا في أمرهم وكان في بصره ضعف فكتب إليه محمد بن علي البتي ( أتيتَ أمراً يا أبا جعفرٍ ... لم يأته بَرٌّ ولا فاجرُ ) ( أغثتَ أهل البتِّ إِذ أُهلِكوا ... بناظرٍ ليس له ناظرُ ) فبلغه فضحك ورد الناظر ووقع لهم بما سألوا بغير نظر مساجلة بينه وبين علي بن جبلة أخبرني الصولي رضي الله عنه قال حدثني محمد بن يحيى بن أبي عباد عن أبيه رضي الله عنهما قال قال علي بن جبلة يهجو محمد بن عبد الملك الزيات وكان قد قصد أبا دلف القاسم بن عيسى في بعض أمره ( يا بائعَ الزيتِ عرِّج غيرَ مرموقِ ... لتُشغلَنَّ عن الأرطال والسوق ) ( من رام شتمكَ لم ينزِع إلى كَذبٍ ... في منتماك وأبداه بتَحقيق ) ( أبوك عبدٌ وللأمِّ التي فلقت ... عن أُمِّ رأْسك هَنٌّ غيرُ محلوقِ ) ( إن أنتَ عدَّدت أصلاً لا تُسَبُّ به ... يوماً فأمُّك مِني ذَاتُ تَطليقِ ) ( ولن تطيقَ بحولٍ أن تُزيل شَجاً ... أَثبتُّه منك في مستنزَلِ الرِّيقِ ) ( الله أَنشاك من نَوْكٍ ومن كَذِب ... لا تعطفنَّ إِلى لؤمٍ لمخلوقِ ) ( ماذا يقول امرؤ غشَّاك مِدحتَه ... إلا ابنُ زانية أو فرخُ زِنديقِ ) فأجابه محمد ( اشمخْ بأنفك ياذا السَّيَّء الأدبِ ... ما شئتَ واضرب قذال الأرض بالذنَبِ ) ( وارفع بصوتك تدعو مَن بذي عَدَنٍ ... ومَن بِقالِي قَلا بالويل والْحَرَبِ ) ( ما أنتَ إلا امرؤٌ أعطى بلاغَتَه ... فَضْلَ العِذار ولم يربعْ عَلَى أدب ) ( فاجمَحْ لعلّك يوماً أن تعضَّ على ... لُجُمٍ دِلاصِيَّةٍ تَثنيكَ من كَثبِ ) ( إِنِّي اعتذرت فما أحسنتَ تسمعُ مِن ... عُذري ومن قبلُ ما أحسنتَ في الطَّلَبِ ) ( صَبْراً أَبا دُلَفٍ في كل قافية ... كالقِدْر وَقْفاً على الجارات بالعُقَبِ ) ( يا ربّ إن كان ما أنشأتَ من عرَبٍ ... شَرْوى أَبي دُلَفٍ فاسخَطْ على العربِ ) ( إنّ التعصُّبَ أبدى منك داهيَةً ... كانَتْ تُحَجَّبُ دونَ الوهم بالْحُجُبِ ) فأجابه علي بن جبلة ( نبَّهتَ عن سِنَةٍ عينيكَ فاصطبرِ ... واسحبْ بذيلك هل تَقْفُو عَلَى أثرِ ) ( إن يَرحَضِ اللُه عني عارَ مُطَّلَبي ... إليك رِفداً ألا فانجِد به وغُرِ ) ( إِني ودعواكَ أن تأتي بمكرُمةٍ ... كمُنبضِ القوْسِ عن سَهمٍ بلا وتَرِ ) ( فاردد جفُونَك حَسْرَى عن أبي دُلَفٍ ... ولا ملامَةَ أَن تعْشَى عن القَمرِ ) ( لا يسخطنَّ امرؤ إِن ذل من حَسبٍ ... فالله أنزلَه في محكَم السُّورِ ) ( لم آتِ سَوْءاً ولم أسخَط عَلَى أَحدٍ ... إلاّ عَلَى طَلَبي في مُجْتدىً عَسرِ ) ( أَقصِرْ أَبا جعفرٍ عن سَطْوَةٍ جمحَت ... إن لم تُقصِّر بها مالتْ إلى القِصَرِ ) فأجابه محمد بن عبد الملك ( يا أيُّها العائبي ولم يرَ لي ... عيباً أما تنتهي فتزدجِرُ ) ( هل لكَ وترٌ لديَّ تطلبُه ... فأنت صَلدٌ ما فيك معتَصَرُ ) ( فالحمدُ والمجدُ والثناءلنا ... وللحسودِ التُرابُ والحَجَرُ ) وهي طويلة يقول فيها ( تعيشُ فينا ولا تلائِمُنا ... كما تعيشُ الحَميرُ والبقَرُ ) ( تُغلي علينا الأشعار منكَ وما ... عندكَ نَفْعٌ يُرجّى ولا ضَرَرُ ) أخبرني عمي رحمه الله قال حدثني عمر بن نصر الكاتب قال حدثني عمي علي بن الحسن بن عبد الأعلى قال محمد اجتاز بديع غلام عمير المأموني بمحمد بن عبد الملك الزيات وكان أحسن خلق الله وجها وكان محمد يحبه ويجن به جنونا فقال ( راح علينا راكباً طِرفَهُ ... أَغْيَدُ مثلُ الرشأِ الآنسِ ) ( قد لبِس القُرطُقَ واستمسَكت ... كفّاه من ذي بُرَقٍ يابِسِ ) ( وقُلِّد السيفَ على غُنْجِه ... كأنهُ في وقعة الدّاحِسِ ) ( أَقول لمَّا أَن بدا مُقْبِلاً ... يا ليتني فارسُ ذا الفارسِ ) أخبرني الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال دامت الأمطار بسر من رأى فتأخر الحسن بن وهب عن محمد بن عبد الملك الزيات وهو يومئذ وزير والحسن يكتب له فاستبطأه محمد بن عبد الملك فكتب إليه الحسن يقول ( أَوجبَ العذرَ في تراخي اللقاء ... ما توالَى من هذه الأنواءِ ) ( لست أدري ماذا أَقولُ وأَشكو ... من سماءٍ تعوقُني عن سماءٍ ) ( غير أَني أَدعو على تلكَ بالثُّكْلِ ... وأَدعو لهذِه بالبقاء ) ( فسلام الإِله أُهدِيه غضًّا ... لك منِي يا سيِّد الوُزَراءِ ) مساجلة بينه وبين الحسن بن وهب أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى قال أعتل الحسن بن وهب فتأخر عن محمد بن عبد الملك أياما كثيرة فلم يأته رسوله ولا تعرف خبره فكتب إليه الحسن قوله ( أَيُّهذا الوزيرُ أّيَّدك اللهُ ... وأَبقاك ليَ بقاءً طويلا ) ( أجميلاً تراه يا أكرمَ الناس ... لكيما أَراه أيضاً جميلا ) ( إنني قد أقمتُ عَشراً عليلا ... ما ترى مرسِلاً إليَّ رسولا ) ( إن يكن موجب التعمّد في الصِّحّة ... مَنّاً عليَّ منكَ طويلا ) ( فهو أولى يا سيدَ الناس بِرّاً ... وافتقاداً لمَن يكون عليلا ) ( فلماذا تركتَني عُرضة الظّنّ ... من الحاسدينَ جِيلاً فجِيلا ) ( أَلِذَنْبٍ فما علمتُ سوى الشكر ... قريناً لنيَّتي ودَخِيلا ) ( أم ملالٍ فما علمتك للصاحبِ ... مثلي على الزمانِ مَلولا ) ( قد أتى اللهُ بالشفاء فما ... أعْرفُ مما أنكرتَ إلا قليلا ) ( وأكلتُ الدُّرّاج وهو غِذَاءٌ ... أَفَلَتْ علَّتي عليهِ أُفولا ) ( بعد ما كنتُ قد حملتُ من العلَّةِ ... عِبْئاً على الطِّباع ثَقِيلا ) ( ولعلِّي قَدِمتُ قبلَك آتيكَ ... غَداً إن وجدتُ فيه سَبيلا ) فأجابه محمد بن عبد الملك ( دفع اللهُ عنكَ نائبةَ الدَّهر ... وحاشاكَ أن تكونَ عَليلا ) ( أُشهِدُ اللهَ ما علمتُ وماذاكَ ... من العُذرِ جائزاً مقبولا ) ( ولعَمري أن لَو علمتُ فلازمتُك ... حولاً لكان عِندِي قَليلا ) ( إنني أَرتَجي وإن لم يكنْ ما ... كان مما نَقَمتُ إلا جليلا ) ( أَن أَكونَ الذي إذا أَضمر الإِخلاصَ ... لم يلتمِسْ عليه كَفيلا ) ( ثم لا يبذُلُ المودَّة حتى ... يجعلَ الجهدَ دُونها مَبذولا ) ( فإذا قال كانَ ما قال إذْ كانَ ... بعيداً من طَبعه أن يَقولا ) ( فاجعلَنْ لي إلى التعلُّق بالعُذْرِ ... سَبيلاً إن لم أَجدْ لي سَبيلا ) ( فقديماً ما جادَ بالصفح والعفْوِ ... وما سامحَ الخَليلُ الخَليلاَ ) قال وكتب محمد بن عبد الملك إلى الحسن بن وهب وقد تأخر عنه ( قالوا جفاكَ فلا عهدٌ ولا خبَرٌ ... ماذا تراه دَهاه قلت أَيْلولُ ) ( شهر تُجَذُّ حبالُ الوصل فيه فما ... عَقْدٌ من الوصل إلا وهْو محلول ) قال وكان محمد قد ندبه لأن يخرج في أمر مهم فأجابه الحسن فقال ( إِني بحولِ امرِيءٍ أَعليتَ رُتبتَه ... فحظُّه منكَ تعظيم وتبجيلُ ) ( وأَنت عُدّته في نَيل هِمّته ... وأَنت في كلِّ ما يهواه مأمولُ ) ( ما غالني عنك أَيلولٌ بلذَّتِه ... وطيبه ولنعمَ الشهرُ أَيلولُ ) ( الليلُ لا قِصَرٌ فيه ولا طولٌ ... والجو صافٍ وظهر الكأس مَرحولُ ) ( والعود مستنطِقٌ عن كلِّ معجِبةٍ ... يُضْحي بها كلُّ قلب وهو مَتْبولُ ) ( لكن توقُّعُ وشْك البين عن بلدٍ ... تحلُّه فوِكاءُ العين محلولُ ) ( مالي إذا شمَّرتْ بي عنك مبتَكِراً ... دُهمْ البِغال أَو الهوجُ المراسيلُ ) ( إلا رعاياتُك اللاتي يعودُ بها ... حدُّ الحوادثِ عنِّي وهو مفلولُ ) قال وكان الحسن بن وهب يساير محمدا على مسناة فعدل عن المسناة لئلا يضيق لمحمد الطريق فظن محمد أنه أشفق على نفسه من المسناه فعدل عنها ولم يساعده على طريقه وظن بنفسه أن يصيبها ما يصيبه فقال له محمد ( قد رأيناكَ إذ تركتَ المُسنّاةَ ... وحاذَيْتَنِي يَسارَ الطريقِ ) ( ولعمري ما ذاكَ منكَ وقد جدَّ ... بك الجِدُّ من فِعال الشَّفيقِ ) فقال له الحسن ( إن يكنْ خوفي الحُتُوفَ أَراني ... أَن تراني مشبَّهاً بالعَقُوقِ ) ( فلقد جارتِ الظنونُ على المُشفقِ ... والظَّنُّ مولعٌ بالشفيقِ ) ( غرَّر السيدُ الأجلُّ وقد سار ... على الحَرْفِ من يَمين الطريقِ ) ( فأَخذتُ الشِّمال بُقيا عَلَى السيد ... إذ هالني سُلوكُ المَضيقِ ) ( إنّ عندي مودَّةً لك حازتْ ... ما حوى عاشقٌ من المَعشوقِ ) ( طودُ عزّ خصصتُ منه ببِرٍّ ... صار قَدْرِي به مع العَيُّوقِ ) ( وبنفسي وإِخوتي وأَبي البرّ ... وعَمّي وأُسرتي وصَديقي ) ( من إِذا ما رُوِّعْتُ أَمَّن رَوْعي ... وإِذا ما شَرِقْتُ سوَّغَ رِيقي ) أخبرني علي بن سليمان الأخفش والصولي قالا حدثنا المبرد قال استسقى الحسن بن وهب من محمد بن عبد الملك نبيذا ببلد الروم وهو مع المعتصم فسقاه وكتب إليه ( لم تلقَ مِثلي صاحباً ... أندى يداً وأعمَّ جودَا ) ( يسقى النديمَ بقَفرةٍ ... لم يَسقِِ فيها الماءُ عُودَا ) ( صفراء صافيةً كأنّ ... بكأسها دُرًّا نَضيدَا ) ( وأجودُ حين أجودُ لا ... حَصِراً بذاكَ ولا بليدَا ) ( وإذا استقلّ بشكرها ... أوجبتُ بالشُّكْر المزيدَا ) ( خُذها إليكَ كأّنَّما ... كُسِيتْ زُجاجَتُها عُقودَا ) ( واجعل عليكَ بأَن تقومَ ... بشكرها أبداً عهودًا ) شعر للحسن بن وهب في يوم لهوا به أخبرني الصولي قال حدثني أحمد بن محمد الأنصاري قال حدثني هارون بن محمد بن عبد الملك قال دعا محمد بن عبد الملك قبل وزارته الحسن بن وهب في آخر أيام المأمون فجاءه ودخلا حماما له وأقاما على لهوهما ثم طلب الحسن بن وهب لعمل احتيج فيه إليه فمضى وبطل يومهم فكتب الحسن إليه ( سقياً لنَضِرِ الوجهِ بَسَّامِهِ ... مُهذِّبِ الأخلاق قَمقامِهِ ) ( تكسبه شُكراً على أنها ... مُطبقةُ السِّنّ للوّامِهِ ) ( زُرْناه في يوم علا قدرُه ... من سائِر الأيام في عامِهِ ) ( أسعده الله وأحظى به ... وجاده الغَيثُ بإِرهامِهِ ) ( فكان مسروراً بنا باذلاً ... لرحْلهِ الرحبِ وحمَّامِهِ ) ( نَخدمه وهو لنا خَادم ... بفضلهِ من دونِ خُدَّامِه ) ( ثم سقانا قَهوةً لم يدَعْ ... أطيبَ منها بقُرى شامهِ ) ( صهباء دَلَّتْ على دَنِّها ... وحدَّثَتْ عن ضعف إِسلامِه ) فأجابه محمد بن عبد الملك رحمه الله تعالى ( وزائرٍ لذَّ لنا يومُهُ ... لو ساعد الدهرُ بإِتمامِه ) ( ماذا لقينا من دواوينه ... وخطّه فيها بأَقلامِه ) ( أسرّ ما كنّا فمن مازحٍ ... أو شارب قد عَبَّ في جامهِ ) ( فارقنا فالنَّفس مطروفة ... بواكف الدَّمع وسجَّامهِ ) ( وعاد بالمدح لنا منعِماً ... به إلى سالف إِنعامهِ ) ( ليت وأنَّى لي بها مُنْيةً ... لو كنت فيه بعضَ قُوَّامِهِ ) ( يَشْكر ما نال على أنه ... لا يُشكرُ الحرُّ لحمَّامِهِ ) ( أمسحه فيه وأدنو له ... من خلفه طوراً وقدَّمِهِ ) ( جعلت نفس جُنَّة للصِّبا ... وبِعت إِسلامي بإِسلامِهِ ) ( فصار ما يشرب حلاَّ له ... وصرت مأخوذاً ) قوله لما قيد بالحديد أخبرني الحسن بن القاسم الكاتب قال سمعت القاسم بن يحدث عن أبيه قال قال أحمد الأحول لما قبض على محمد بن عبد الملك الزيات تلطفت في الوصول إليه فأريته في حديد ثقيل فقلت له أعزز علي ما أرى فقال ( سَلْ ديارَ الحي ما غيَّرَهَا ... ومحاها ومحا منظرها ) ( وهي اللاتي إذا ما انقلبت ... صَيَّرت مَعروفَها مُنكرَها ) ( إِنما الدنيا كظِلٍّ زائلٍ ... نحمد الله كذا قدَّرها ) في هذه الأبيات رمل طنبوري لا أدري لمن هو ومما يغنى فيه من شعر محمد بن عبد الملك الزيات صوت ( ظالمي ما علمتُهْ ... مُعتدٍ لا عدمتُهْ ) ( مُطْمِعي بالوصال ... ممتنعٌ حين رُمتُهْ ) ( مُرْصِدٌ بالخلاف ... والمَنْعِ من حيثُ سمتُه ) ( هاجرٌ إن وصلتُهُ ... صابر إن صَرَمتُهْ ) ( كم وكم قد طويتُ ما ... بي وكم قد كَتمتُهْ ) ( رُبَّ همٍّ طويت فيك ... وغيظٍ كظمتهْ ) ( وحياةٍ سئمتها ... والهوا ما سئمتهْ ) ( رُمتُ شيْئاً هَوِيتُه ... ليس لي ما حُرِمتهْ ) ( قال إذ صرَّح البكاءُ ... بما قد سترتُه ) ( لو بكى طول دهرِه ... بدمٍ ما رَحِمْته ) الغناء لأبي العبيس بن حمدون خفيف ثقيل بالبنصر صوت ( إذا أحببتُ لم أسْلُ ... وإِن واصلتُ لم أقطَعْ ) ( وإِن عاتبني الناسُ ... تصاممْتُ فلم أسْمَعْ ) ( وقد جربّت ما ضرّ ... وقد جربّت ما ينفعْ ) ( فما مثل الهوى أنهَكُ ... للجسم ولا أضرَعْ ) ( ولا كالهجر في القربِ ... إلى الموت ولا أسْرعْ ) ( وإن أوجعني العَذْل ... فنِيرانُ الهوى أوجعْ ) ( وهذا عَدَمُ العقلِ ... فما أسْطِيع أن أصنَعْ ) ( ولا والله ما عندي ... لما قد حلَّ بي مَدْفعْ ) ( ولا فيّ لهجرانك ... لولا ظلمكمْ موضعْ ) الغناء لعريب لحنان خفيف ثقيل بالبنصر وهزج بالوسطى امتداحه الحسن بن سهل أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال حدثني الحسن بن رجاء قال قدم محمد بن عبد الملك على الحسن بن سهل إلى فم الصلح وامتدحه بقصيدته التي أولها ( كأنها حين تناءَى خَطْوُهُ ... أخْنس مَوْشِيُّ الشَّوى يرعى القُلَلْ ) وقال فيها ( إلى الأمير الحسن استنجدْتها ... أيّ مرادٍ ومَنَاخٍ ومَحلّ ) ( سيف أمير المؤمنين المنتضَى ... وحصن ذي الرياستين المُقْتَبِلْ ) ( آباؤُك الغرّ الألى جدُّهمُ ... كِسرى أنو شروان والناس هَمَلْ ) ( من كلِّ ذي تاجٍ إذا قال مضى ... كلُّ الذي قال وإن همّ فَعل ) ( فأيْنَ لا أيْنَ وأنَّى مِثلُكمْ ... أنتم الأملاك والناس خَوَلْ ) فأمر له بعشرة آلاف درهم قال ومرض الواثق فدخل إليه الحسن بن سهل عائدا ومحمد بن عبد الملك يومئذ وزيره والحسن بن سهل متعطل فجعل الحسن بن سهل يتكلم في العلة وعلاجها وما يصلح للواثق من الدواء والعلاج والغذاء أحسن كلام قال فحسده محمد بن عبد الملك وقال له من أين لك هذا العلم يا أبا محمد قال إني كنت أستصحب من أهل كل صنعة رؤساء أهلها وأتعلم منهم ثم لا أرضى إلا ببلوغ الغاية فقال له محمد وكان حسودا ومتى كان ذلك قال في زمان قلت فيَّ ( فأين لا أين وأنَّى مثلكم ... أنتم الأملاك والناس خوَل ) فخجل محمد بن عبد الملك وأطرق وعدل عن الجواب أخبرني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثني حماد بن إسحاق قال حدثني ميمون بن هارون بن خلف قال كنت أسير بالقرب من محمد بن عبد الملك الزيات وهو يريد يومئذ منزله حتى مر بدار إبراهيم بن رباح فرأى فيها قبة مشيدة فقال ( أما القبابُ فقد أراها شُيِّدَتْ ... وعسى أُمورٌ بعد ذاك تكون ) ( عبدٌ عرَتْ منه خلائقُ جهلهِ ... إذ راح وهو من الثَّراء سمينُ ) فما كان إلا أيام حتى أوقع به ابن أبي دواد يتحامل عليه ويكيد له أخبرني عمي قال حدثني الحسن بن علي بن عبد الأعلى عن أبيه قال كان الواثق قد أصلح بين محمد بن عبد الملك الزيات وبين أحمد بن أبي دواد فكف محمد عن ذكره وجعل ابن أبي دواد يخلو بالواثق ويغريه به حتى قبض عليه وكان فيما بلغه عنه أنه قد عزم على الفتك به والتدبير عليه فقبض الواثق عليه ثم أطلقه بعد مدة ثم وزر للمتوكل وكان محمد بن عبد الملك أشار بابن الواثق وأشار ابن أبي دواد بالمتوكل وقام وقعد في أمره حتى ولي وعممه بيده وألبسه البردة وقبل بين عينيه وكان المتوكل قبل ذلك يدخل على محمد بن عبد الملك في حياة الواثق يشكو إليه جفاءه له فيتجهمه محمد ويغلظ له الرد إلى أن قال يوما بحضرته ألا تعجبون إلى هذا العاصي يعادي أمير المؤمنين ثم يسألني أن أصلح له قلبه اذهب ويلك فأصلح نفسك له حتى يصلح لك قلبه فكان موقع ذلك يحسن عند الواثق فدخل إليه يوما وقد كان قال للواثق إن جعفرا يدخل إلي وله شعر قفا وطرة مثل النساء فقد فضحك فأمره بأن يحلقهما ويضرب بشعرهما وجهه فلما دخل إليه المتوكل فعل ذلك به وتجهمه بالقبيح فلما ولي الخلافة خشي إن نكبه عاجلا أن يستتر أسبابه فتفوته بغيته فيه فاستوزره وخلع عليه وجعل ابن أبي دواد يغريه به ويجد عنده لذلك موقعا واستماعا حتى قبض عليه وقتله فلم يجد له من أملاكه كلها من عين وورق وأثاث وضيعة إلا ما كانت قيمته مائة ألف دينار فندم على ذلك ولم يجد منه عوضا وكان أمره مما يعتد على أحمد بن أبي دواد ويقول أطمعتني في باطل وحملتني على أمر لم أجد منه عوضا أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال زعم محمد بن عيسى الفساطيطي أن محمد بن عبد الملك اجتاز بدندن الكاتب وعليه خلع الوزارة للمتوكل لما وزر له فقال دندن ( راح الشقيّ بخلعة النُّكْرِ ... مثل الهدِيِّ لليلة النَّحْرِ ) ( لاتمَّ شهر بعد خِلْعَته ... حتى تراه طافيَ الجَمْرِ ) ( ويُرى يُطاين من إساءته ... يَهْوِي لَهُ بِقَواصم الظهْرِ ) فكان الامر كما قال خبر قتله قال علي بن الحسين بن عبد الأعلى فلما قبض عليه المتوكل استعمل له تنور حديد وجعل فيه مسامير لا يقدر معها أن يتحرك إلا دخلت في جسده ثم أحماه له وجعله فيه فكان يصيح ارحموني فيقال له اسكت أنت كنت تقول ما رحمت أحدا قط والرحمة ضعف في الطبيعة وخور في المنة فاصبر على حكمك وخرج عليه عبادة فقال أردت أن تشويني فشووك أخبرني طاهر بن عبد الله بن طاهر الهاشمي قال قال العباس بن طومار أمر المتوكل عبادة أن يدخل إلى محمد بن عبد الملك الزيات وقد أحمى تنور حديد وجعله فيه فيكايده فدخل إليه فوقف بإزائه ثم قال اسمع يا محمد كان في جيراننا حفار يحفر القبور فمرضت مخنثة من جيراني وكانت صاحبة لي فبادر فحفر لها قبرا من الطمع في الدراهم فبرأت هي ومرض هو بعد أيام فدخلت إليه صاحبتي وهو بالنزع فقالت وي يا فلان حفرت لي قبرا وأنا في عافية أو ما علمت أنه من حفر بئر سوء وقع فيها وحياتك يا محمد لقد دفناه في ذلك القبر والعقبى لك قال فوالله ما برح من إزاء محمد بن عبد الملك يؤذيه ويكايده إلى أن مات قال الصولي رثاه الحسن بن وهب وقال الحسن بن وهب يرثي محمد بن عبد الملك وكان في حياته ينتفي منها ويجحدها ثم شاعت بعد ذلك ووجدت بخطه ( يكاد القلب من جزعٍ يطيرُ ... إذا ما قيل قد قُتِل الوزيرُ ) ( أميرَ المؤمنين هَدَمْتَ ركناً ... عليه رَحاكمُ كانت تدورُ ) ( سيُبلى الملك من جزعٍ عليه ... ويخرب حين تَضْطرب الأمورُ ) ( فمهلاً يا بني العباس مهلاً ... فقد كُوِيَتْ بفعلكُم الصدورُ ) ( إلى كم تَنْكُبُون الناس ظلماً ... لكم في كل ملحمة عقيرٌ ) ( جزيتم ناصراً لكُم المنايا ... وليس كذلِكُمْ يُجْزَى النَّصيرُ ) ( فكنتم سائقاً أرسا إليكم ... وذلك من فعالكُم شهيرٌ ) ( وكأَنَّ صلاحه لو شئتموه ... قريباً لا يحاوله البصيرُ ) ( كأَنَّ الله صيَّركم ملوكاً ... لئلاَّ تعدلوا ولأنْ تجوروا ) أخبار أبي حشيشة أبو حشيشة لقب غلب عليه وهو محمد بن أمية بن أبي أمية يكنى أبا جعفر وكان أهله جميعا متصلين بإبراهيم بن المهدي وكان هو من بينهم معنيا بالطنبور يغني أحسن غناء وخدم جماعة من الخلفاء أولهم المأمون ومن بعده إلى المعتمد وله يقول أبو صالح بن يزداد وكتب بها في استتاره ( جُعِلْتُ فِداك يا بنَ أبي أُميّهْ ... أرى الأَيامَ قد حكمتْ عليّهْ ) ( وملّنِيَ الصديقُ وخانَ عهدي ... فما أَقْرا لَكمْ كتُباً إليّهْ ) ( فإِن كان الضميرُ كما بدالي ... فهذا والإِلهِ هو البَلِيّهْ ) وكان أكثر انقطاعه إلى أبي أحمد بن الرشيد أيام حياته وكان أبوه وجده وأخواله كتابا وقرأت على أحمد بن جعفر جحظة ما ذكره عن أبي حشيشة في كتابه الذي ألفه في أخبار مراتب الطنبوريين والطنبوريات وكان من ذلك أنه قال شاهدت أبا حشيشة مدة وكان يتغنى في أشعار خالد الكاتب وبني أمية وكانت معه فقر من الأحاديث يضعها مواضعها وكانت له صنعة تقدم فيها كل طنبوري لا أحاشي من قولي ذلك فمنها ( كأنَّ همومَ الناس في الأرض كُلِّها ... عليَّ وقلبي بينهم قلبُ واحدِ ) ( ولي شاهدَا عدلٍ سُهادٌ وعَبرةٌ ... وكم مُدَّعٍ للحُبّ من غيرِ شاهدِ ) وهو خفيف رمل مطلق قال جحظة ورأيته في القدمة التي قدمها مع ابن المدبر بين يدي المعتمد وقد غناه من شعر علي بن محمد بن نصر صوت ( حُرمتُ بذلَ نوالك ... واسوأتا من فِعالك ) ( لما مَلَلْتَ وصالي ... آيسْتِني من وِصالك ) فوهب له مائتي دينار واللحن رمل مطلق عريب تفضله على الشيخين أخبرني حجظة فيما قرأته عليه قال حدثني ابن نوبخت يعني علي بن العباس قال رأيته وقد حضرت عريب عند ابن المدبر وهو يغني فقالت له عريب أحسنت يا أبا جعفر ولو عاش الشيخان ما قلت لهما هذا تعني علويه ومخارقا حدثني أبو حشيشة قال هجم علي خادم أسود فقال لي البس ثيابك فعلمت أن هذا لا يكون إلا عن أمر خليفة أو أمير فلم أراجعه حتى لبست ثيابي فمضيت معه فعبر بي الجسر وأدخلني إلى دار لا أعرفها ثم اجتاز بي في رواق فيه حجر تفوح منهن رائحة الطعام والشراب فأدخلت منهن إلى حجرة مفروشة وجاءني بمائدة كأنها جزعة يمانية قد نشرت في عراصها الحبرة فأكلت وسقاني رطلين وجاءني بصندوق ففتحه فإذا فيه طنابير فقال لي اختر فاخترت واحدا وأخذ بيدي فأدخلني إلى دار فيها سماعة وفيها رجلان على أحدهما قباء غليظ وعلى الآخر ثياب ملحم وخز فقال لي صاحب الخز اجلس فجلست فقال أكلت وشربت فقلت نعم قال عندنا قلت نعم قال تغني ما نقول لك فقلت له قل فقال تغني بصنعتك ( يا كثيرَ الإِقبالِ والإنصرافِ ... ومَلولاً ولو أشأ قلت خَافِ ) وهو رمل مطلق فغنيته إياه وجعل يطلب مني صوتا بعد صوت من صنعتي فأغنيه ويستعيده ويشرب هو والرجل وأسقى بالأنصاف المختوتة إلى أن صلوا العشاء الآخرة وهم لا يشربون إلا على الصوت الأول لا يريدون غيره ثم أومأ إلي الخادم قم فقمت فقال لي صاحب القباء منهما أتعرفني قلت لا والله قال أنا إسحاق بن إبراهيم الطاهري وهذا محمد بن راشد الخناق والله لئن بلغني أنك تقول إنك رأيتني لأضربنك مائتي سوط انصرف فخرجت ودفع إلى الخادم ثلاثمائة دينار فجهدت أن يقبل منها شيئا على سبيل البر فما فعل حدثني جحظة قال حدثني أبو حشيشة قال وجه إليَّ إسحاق بن إبراهيم الطاهري فصرت إليه وهو في داره التي على طرف الخندق فدعا بجونة فأكل وأكلت من ناحية ودعا بستارة وقال تغن بصنعتك ( عاد الهوَى بالكأسِ بردا ... فأَطِعْ إِمارة من تبدَّى ) وهو خفيف رمل مطلق فغنيته مرارا ثم ضرب الستارة وقال قولوه فقالته جارية فأحسنت غاية الإحسان فضحك ثم قال كيف تراه فقلت قد والله بغضوه إلي فازداد في الضحك وأنا أرمق جبة خز خضراء كانت عليه فقال كم ترمق هذه الجبة يا غلام كانت عشرة أثواب خز فقطعت منها هذه الجبة فهات التسعة فجيء بها فدفعها إلي فكنت أبيع رذالها بستين دينار حدثني جحظة قال حدثني أبو حشيشة أن بني الجنيد الإسكافيين كانوا أول من اصطنعه وأنهم كانوا يسمونه الظريف وأن أول منزل ابتاعه من أموالهم إلى أن شاع خبره وتفاقم أمره قال وكانوا آكل الناس رأيت رجلا منهم وقد أكل هو وابن عم له اثنين وعشرين رأسا كبارا وشربا فسكرا وناما ثم انتبها في وقت الظهر فدعوا بالطعام فعادا إلى الأكل ما أُنكر منهما شيئا أمر له المأمون بخمسين ألف درهم ونسخت من كتاب ألفه أبو حشيشة وجمع فيه أخباره مع من عاشره وخدم من الخلفاء وهو كتاب مشهور قال أول من سمعني من الخلفاء المأمون وهو بدمشق وصفني له مخارق فأمر بأشخاصي إليه وأمر لي بخمسين ألف درهم أتجهز بها فلما وصلت إليه أدناني وأعجب بي وقال للمعتصم هذا ابن من خدمك وخدم آباءك وأجدادك يا أبا إسحاق جد هذا أمية كاتب جدك المهدي على كتابه السر وبيت المال والخاتم وحج المهدي أربع حجج كان جد هذا زميله فيها واشتهى المأمون من غنائي صوت ( كان يُنْهَى فَنَهَى حينَ انتهى ... وانجلتْ عنه غياباتُ الصِّبا ) ( خلع اللهوَ وأضحى مُسْبِلا ... للنُّهى فَضلَ قميصٍ ورِدا ) ( كيف يرجو البيضُ مَنْ أوَّلُه ... في عيون البيض شَيْبٌ وجلا ) ( كان كحلاً لمآقيها فقدْ ... صار بالشيب لعينيها قَذَى ) الشعر لدعبل والغناء لمحمد بن حسين بن محرز رمل بالوسطى قال أبو حشيشة وكان مخارق قد نهاني أن أغني ما فيه ذكر الشيب من هذا الشعر وأن اقتصر على البيتين الأولين لأن المأمون كان يشتد عليه ذكر الشيب ويكرهه جدا من المغنين وأمر ألا يغنيه أحد بشعر قيل في الشيب أو فيه ذكر له فسكرت يوما فمررت في الشعر كله فقال يا مخارق ألا تحسن أدب هذا الفتى فنقفني مخارق نقفة صلبة فما عدت بعدها لذكر شيء فيه الشيب الصوت الذي كان المعتصم يشتهيه وذكر أبو حشيشة في كتابه هذا مما كان يشتهيه عليه المأمون وغيره من الخلفاء أصواتا كثيرة ولا فائدة في ذكرها ها هنا لأنها طويلة فذكرت مما كان يختاره عليه كل خليفة صوتا قال أبو حشيشة كان المعتصم يشتهي علي صوت ( أسرفت في سوء الصنيع ... وفتكتَ بي فتكَ الخليعِ ) ( وولِعتَ بي مُتمرداً ... والعذر في طرف الوَلُوعِ ) ( صيّرتُ حبَّك شافعاً ... فأُتِيتُ من قِبَل الشَّفيعِ ) الشعر لأصرم بن حميد والغناء لأبي حشيشة قال وكان الواثق يختار من غنائي ( يا تاركي متلَدِّد العُوَّاد ... جَذلانَ العُداةِ ) ( انظُر إليّ بعين راضٍ ... نظرةً قبل المماتِ ) ( خلَّيتَني بين الوعيد ... وبين أَلسِنَةِ الوُشَاةِ ) ( ماذا يُرَجِّى بالحياةِ ... مُنَغَّصٌ روحَ الحياةِ ) الشعر لمحمد بن سعيد الأسدي والغناء لأبي حشيشة خفيف رمل قال وكان المتوكل يحبني ويستخفني وكانت أغانيه التي يشتهيها علي كثيرة منها صوت ( أَطعت الهوى وخلعتَ العِذارا ... وباكرتَ بعد القَراح العُقارا ) ( ونازعكَ الكأسَ من هاشم ... كريمٌ يحبُّ عليها الوقَارا ) ( فتى فرّق الحمدُ أموالَه ... يَجُرّ القميصَ ويُرخِي الإِزارا ) ( رأى اللهُ جعفرَ خيرَ الأنام ... فملَّكه ووقَاهُ الحِذَارا ) الشعر والغناء لأبي حشيشة قال وكان الفتح بن خاقان يشتهي علي صوت ( قالوا عشقتَ فقلتُ أحسنَ من مَشى ... والعشقُ ليس على الكريمِ بعارِ ) ( يامن شكوتُ إليه طول صبابتي ... فَأَجابني بتجَهُّمِ الإِنكارِ ) قال وكان المستعين يشتهي علي صوت ( وما أنسَ لا أنسَ منها الخشوعَ ... وفيضَ الدموع وغَمزَ اليدِ ) ( وخَدّي مُضافاً إلى خَدِّها ... قياماً إلى الصُّبح لم نرقُدِ ) الشعر لمحمد بن أبي أمية والغناء لأبي حشيشة قال وأخبرني محمد بن علي بن عصمة وكان إليه الزهد في الدنيا كلها قال حضرت المعتز وقد ورد عليه جواب كتابه إلى محمد بن عبد الله بن طاهر وكان كتب إليه يطلبني منه فكتب إليه محمد إني عليل لا فضل في للخدمة قال أبو عصمة فقال لي المعتز يا أبا محمد صديقك أبو حشيشة يؤثر علينا آل طاهر فقلت له يا سيدي أنا أعلم الناس بخبره هو والله عليل ما فيه موضع لخدمة أمير المؤمين قال ثم ذكرني المعتمد وحرضه علي ابن حمدون فكتب إلي أبي أيوب سليمان بن عبد الله بن طاهر وهو يومئذ أمير بغداد في إشخاصي فشخصني إليه من ساعتي فأكرمني وأدنى في مجلسي وأمر لي بجائزة واشتهى علي ( قلبي يُحبُّكِ يا مُنى ... قلبي ويُبغضُ من يحِبُّكْ ) ( لأكونَ فرداً في هواكِ ... فليتَ شِعري كيفَ قَلبُك ) الشعر لأحمد بن يوسف الكاتب والصنعة لأبي حشيشة رمل خبره مع إبراهيم بن المهدي قال أبو حشيشة سمع إبراهيم بن المهدي أصواتا من غناء محمد بن الحارث بن بسخنر وعمرو بن بانة فاستحسنها وأخذها جواريه وقال الطنبور كله باطل فإن كان فيه شيء حق فهذا واشتهى أن يسمعني فهبته هيبة شديدة وقلت إن رضيني لم يزد ذلك في قدري وإن لم يرضني بقيت وصمة آخر الدهر وكان يطلبني من محمد بن الحارث بن بسخنر خاصة ومن إسحاق بن عمرو بن بزيع فكنت أفر منهما حتى صرت بسر من رأى وأنا في تلك الأيام منقطع إلى أبي أحمد بن الرشيد ونحن في مضارب لم نكن سكنا المنازل بعد فوافى إلى أبي أحمد بن الرشيد رسول إبراهيم بن المهدي فأبلغه السلام وقال يقول لك عمك قد أعيتني الحيل في هذا الخبيث وأنا أحب أن أسمعه وهو يهرب مني فأحب أن تبعث به إلي ويكون زيرب معه تؤنسه فقال لي أبو أحمد لا بد أن تمضي إلى عمي فجهدت كل الجهد أن يعفيني فأبى فلما رأيت أنه لا بد لي منه لبست ثيابي ومضيت إليه وهو نازل في دسكرة فرحب بي وقرب وبسطني كل البسط ومعي زيرب ودعا بالنبيذ وأمر خدما له كبارا فجلسوا معي وشربوا وسقوني وعرض لي بكل حيلة أن أغني فهبته هيبة شديدة وحصرت وشرب ودعا بثلاث جوار فخرجن وجلسن وقال لهن قلن صوت ( كيفَ احتيالي وأنتَ لا تصلُ ... عَيل اصطباري وقلَّتِ الحيلُ ) ( إِن كان جِسمي هواكَ يُنحِله ... فإِن قلبي عليك يتَّكِلْ ) الشعر لخالد الكاتب والغناء لأبي حشيشة رمل وكان يسميه الرهباني عمله على لحن من ألحان النصارى سمعه من رهبان في الليل يرددونه فغناه عليه فقالته إحداهن فذهب عقلي وسمعت شيئا لم أسمع مثله قط فقال يا خليلي أهذا لك فقلت نعم أصلح الله الأمير وأخذتني رعدة ثم قال لهن إيه قلن صوت ( رَبِّ مالي وللهوى ... ما لهذا الهوَى دَوَا ) ( حاز طَرْفِي الذي هوى ... الحُسْنُ قَلبي وَما حوى ) الشعر لخالد والغناء لأبي حشيشة رمل فغنته فسمعت ما هو أعجب من الأول فقال يا خليلي هذا لك قلت نعم يا سيدي قال هكذا أخذناهما من محمد بن الحارث ثم شرب رطلا آخر فقلت يا نفس دعاكِ الرجل يسمعك أو يسمعك وقويت عزمي وتغنيته بشعر خالد الكاتب وهو هذا صوت ( لئنْ لجَّ قلبُك في ذكره ... ولجَّ حبيبُكَ في هَجرِهْ ) ( لقد أورث العينَ طولَ البُكا ... وعزّ الفؤادُ على صَبرِه ) ( فإن أذهبَ القلبَ وجدٌ بهِ ... فجسمُكَ لا شكَّ في إثْرِه ) ( وأيُّ مُحبٍّ تجافى الهَوَى ... بطُولِ التفكُّرِ لم يُبْرِه ) فجعل يردد البيت الأول والبيت الأخير وقال لي لا تخرجن يا خليلي من هذا إلى غيره فلم أزل أردده عليه حتى شرب ثلاثا واسترحت ساعة وشربت وطابت نفسي ثم استعادني فغنيته فأعجب به خلاف الأول فنظر إلي وضحك ولم يقل شيئا وشرب رطلا رابعا وجاءت المغرب فقال لي يا خليلي ما أشك في أنك قد أوحشت ابني منك فامض في حفظ الله تعالى فخرجت أطير فرحا بانصرافي سالما فلما وافيت أبا أحمد وبصر بي من بعيد قال حنطة أو شعير فقلت بل سمسم وشهد انج على رغم أنف من رغم فقال ويحك أتراني لا أعرف فضلك ولكن أحببت أن أستعين برأيه على رأيي فيك وقصصت عليه القصة فسره ذلك ولم يرض حتى دس إليه محمد بن راشد الخناق فسأله عني فقال ما ظننت أن يكون في صناعته مثله قال أبو حشيشة وسمع إسحاق بن إبراهيم الموصلي غنائي فاستحسنه فسئل عني فقال غناء الطنبور كله ضعيف وما سمعت فيه قط أقوى ولا أصح من هذا موته حدثني جحظة قال كان سبب موت أبي حشيشة بسر من رأى أن قلما غلام الفضل بن كاووس صار إليه في يوم بارد فدعاه إلى الصبوح فقال له أنا لا آكل إلا طعاما حارا وليس عندك إلا فضيلة من مجلية قال تساعدني وتأكل معي فأكل منها فجمدت دم قلبه فمات فحمله إبراهيم بن المدبر إلى بناته وما كسبه بسر من رأى معه فاقتسمنه بينهن صوت ( سَقياً لقاطولَ لا أرى بلَداً ... أوْطَنَهُ الموطِنون يُشْبهها ) ( أمناً وخفضاً ولا كَبهْجَتِها ... أَرغدُ أَرضٍ عيشاً وأَرفهُها ) البيت الأول من البيتين لعنان جارية الناطفي والثاني يقال إنه لعمرو الوراق ويقال أنه لأبي نواس ويقال بل هو لها والغناء لعريب خفيف رمل وكان الشعر سقيا لبغداد فغيرته عريب وجعلت مكانه سقيا لقاطول أخبار عنان كانت عنان مولدة من مولدات اليمامة وبها نشأت وتأدبت واشتراها الناطفي ورباها وكانت صفراء جميلة الوجه شكلة مليحة الأدب والشعر سريعة البديهة وكان فحول الشعراء يساجلونها ويقارضونها فتنتصف منهم مساجلة بينها وبين أبي نواس أخبرني محمد بن جعفر الصيدلاني صهر المبرد النحوي وعلي بن صالح بن الهيثم قال حدثنا أبو هفان عن الجماز قال دخل أبو نواس يوما على عنان جارية الناطفي فتحدثا ساعة ثم قال لها قد قلت شعرا فقالت هات فقال ( إن لي أَيْراً خبيثاً ... لونُه يَحكي الكُميتا ) ( لو رأى في الجوِّ صَدْعاً ... لنزَا حتّى يموتَا ) ( أو رآه فوق سقفٍ ... لتحوَّل عنكَبُوتا ) ( أو رآه جوفَ بحرٍ ... خِلتَه في البحرِ حُوتا ) قال فما لبثت أن قالت ( زوّجوا هذا بأَلْفٍ ... وأظُنَّ الألف قُوتا ) ( إنني أَخشى عليهِ ... إِن تَمادى أَن يمُوتا ) ( بادروا ما حلَّ بالمسكين ... خوفاً أن يَفُوتا ) ( قبل أن يَنْتكس الداءُ ... فلا يَأتِي ويُوتى ) قال ودخل إليها يوما فقال ( ماذا ترينَ لِصَبٍّ ... يريدُ منكَ قُطَيرَهْ ) فأجابته ( إيايَ تَعنِي بهذا ... عليك فاجْلدْ عُمَيرَهْ ) فقال لها ( أُريدُ هذا وأَخشَى ... على يدي منكِ غَيْرَهْ ) قال فخجلت وقالت تعست وتعس من يغار عليك أخبرنا أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو أحمد بن معاوية قال سمعت أبا حنش يقول قال لي الناطفي لو جئت إلى عنان فطارحتها فعزمت على الغدو فبت ليلتين أحوك بيتين ثم غدوت عليها فقلت ( أَحَبَّ المِلاحَ البيضَ قلبي ورُبّما ... أَحَبَّ المِلاحَ الصُّفْر من وَلَد الحَبَشْ ) ( بكيتُ على صفراء منهنّ مرّةً ... بكاءً أصاب العينَ مِنِّيَ بالعَمَشْ ) فقالت ( بكيتُ عليها أنَّ قلبي يحبُّها ... وأن فُؤادي كالجَناحينِ ذُو رَعَشْ ) ( تَغَنَّيتَنا بالشِّعْرِ لما أَتِيْتَنا ... فدونَك خذْه محكماً يا أبا حنَشْ ) أخبرني أحمد قال حدثني عمر بن شبة قال حدثني أحمد بن معاوية قال سمعت مروان بن أبي حفصة يقول لقيني الناطفي فدعاني إلى عنان فانطلقت معه فدخل إليها قبلي فقال لها قد جئتك بأشعر الناس مروان بن أبي حفصة فوجدها عليلة فقالت له إني عن مروان لفي شغل فأهوى إليها بسوط فضربها به وقال لي ادخل فدخلت وهي تبكي فرأيت الدموع تنحدر من عينيها فقلت ( بكتْ عنانٌ فجرى دمْعُها ... كالدُّرِّ إذ يسبقُ من خَيطِهْ ) فقالت وهي تبكي ( فليت من يَضربُها ظالماً ... تَيْبَس يُمناهُ على سَوطِهْ ) فقلت أعتق مروان ما يملك إن كان في الجن والإنس أشعر منها أخبرني الجوهري قال حدثنا أبو زيد عن أحمد بن معاوية قال قال لي رجل تصفحت كتبا فوجدت فيها بيتا جهدت جهدي أن أجد من يجيزه فلم أجد فقال لي صديق عليك بعنان جارية الناطفي فجئتها فأنشدتها صوت ( وما زالَ يشكُو الحبّ حتى رأَيتُهُ ... تنفّسَ في أَحشائه وتكلَّما ) فما لبثت أن قالت ( ويَبكي فأبكي رحمةً لبُكائه ... إِذا ما بكى دمْعاً بكيتُ له دَما ) في هذين البيتين لحن من الرمل أظنه لجحظة أو لبعض طبقته مولاها يطلب منها أن تعايي أحد الشعراء قرأت في بعض الكتب دخل بعض الشعراء على عنان جارية الناطفي فقال لها مولاها عاييه فقالت ( سَقياً لبغداد لا أرى بلداً ... يسكنه الساكنون يُشبهها ) فقال ( كأنها فِضَّةٌ مُمَوّهةٌ ... أخْلَصَ تمويهَها مُمَوِّهُهُا ) فقالت ( أمنٌ وخفض ولا كبَهجَتِها ... أرغدُ أرضٍ عيشاً وأرفَهُهَا ) فانقطع أخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني ابن أبي سعيد قال حدثني مسعود بن عيسى قال أخبرني موسى بن عبد الله التميمي قال دخل أبو نواس على الناطفي وعنان جالسة تبكي وخدها على رزة من مصراع الباب وقد كان الناطفي ضربها فأومأ إلى أبي نواس أن يحركها بشيء فقال أبو نواس ( عنان لو جُدْتِ لي فإنيَ من ... عمريَ في آمَنَ الرسول بما ) فردت عليه عنان ( فإن تمادى ولا تماديْتَ في ... قطعك حَبلي أكُنْ كمن خَتَما ) فرد عليها أبو نواس فقال ( علقتُ من لو أتى على أنفُسِ ... الماضِينَ والغابرينَ ما نَدِما ) فردت عليه ( لو نظرتْ عينُها إلى حَجَرٍ ... ولّد فيه فُتُورهما سَقَما ) اصرارها على إعادة خاتمها من أبي نواس أخبرني أبن عمار قال حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني محمد بن أبي مروان الكاتب قال أخذ أبو نواس من عنان جارية الناطفي خاتما فصه أحمد فأخذه أحمد بن خالد حيلويه من أبي نواس فطلبته منه عنان فبعث إليها مكانه خاتماً فصة أخضر فاتهمته في ذلك فكتب أبو نواس إلى أحمد بن خالد فقال ( فدتْكَ نفسي يا أبا جعفرِ ... جاريةٌ كالقمر الأزهرِ ) ( تعلقتْني وتعلَّقْتُها ... طِفلينِ في المهد إلى المكْبرِ ) ( كنتُ وكانت نتهادَى الهوى ... بخاتمينا غيرَ مستنكرِ ) ( حنَّت إلى الخاتم مني وقد ... سلَبتْني إياه مذ أشهُرِ ) ( فأرسلتْ فيه فغالطْتُها ... بخاتَمٍ في قّدّه أخضرِ ) ( قالت لقد كان لنا خاتَمٌ ... أحمرُ أهداه إِلينا سرِي ) ( لكنه عُلَّق غَيري فقدْ ... أَهدى له الخاتمَ لا أَمتَرِي ) ( كفرتُ بالله وآياتِه ... إن أنا لم أَهجرْه فليصبرِ ) ( أَو فَأتِ بالمخرجِ من تُهمَتي ... إياه في خاتَمِنا الأحمر ) ( فاردُدْه تَرْدد وصلَها إنَّها ... قُرّةُ عَيني يا أَبا جَعْفَرِ ) ( فإنني متَّهَمٌ عندها ... وأَنت قد تعلَم أَني برِي ) قال فرد إليه الخاتم وبعث إليه معه بألفي درهم أخبرني ابن عمار وعلي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد عن المازني عن الأصمعي وقال ابن عمار في خبره عن بعض أصحابه أظنه المازني عن الأصمعي قال ما رأيت أثر النبيذ في وجه الرشيد قط إلا مرة واحدة فإني دخلت إليه أنا وأبو حفص الشطرنجي فرأيت التخثر في وجهه فقال لنا استبقا إلى بيت بل إلى أبيات فمن أصاب ما في نفسي فله عشرة آلاف درهم قال فأشفقت ومنعتني هيبته قال فقال أبو حفص ( كلَّما دراتِ الزُجَاجةُ زادته ... اشتياقاً وحُرقةً فبكاكِ ) فقال أحسنت فلك عشرة آلاف درهم قال فزالت الهيبة عني فقلت ( لم ينلْكِ الرجاءُ أن تحضُريني ... وتجافتْ أمنيَّتي عن سواكِ ) فقال لله درك لك عشرون ألف درهم قال فأطرق مليا ثم رفع رأسه إلي فقال أنا والله أشعر منكما ثم قال ( فتمنَّيتُ أن يَغشِّيَني اللهُ ... نُعاساً لعَلَّ عَيْني تَراكِ ) الأصمعي يصرف الرشيد عنها بعد أن طلبت زبيدة منه ذلك أخبرني ابن عمار والأخفش قالا حدثنا محمد بن يزيد عن المازني قال قال الأصمعي بعثت إلي أم جعفر أن أمير المؤمنين قد لهج بذكر هذه الجارية عنان فإن صرفته عنها فلك حكمك قال فكنت أريغ لأن أجد للقول فيها موضعا فلا أجده ولا أقدم عليه هيبة له إذ دخلت يوما فرأيت في وجهه أثر الغضب فانخزلت فقال مالك يا أصمعي قلت رأيت في وجه أمير المؤمنين أثر غضب فلعن الله من أغضبه فقال هذا الناطفي والله لولا أني لم أجر في حكم قط متعمدا لجعلت على كل جبل منه قطعة وما لي في جاريته أرب غير الشعر فذكرت رسالة أم جعفر فقلت له أجل والله ما فيها غير الشعر أفيسر أمير المؤمنين أن يجامع الفرزدق فضحك حتى استلقى واتصل قولي بأم جعفر فأجزلت لي الجائزة أخبرني عمي والحسن بن علي قالا حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني محمد بن هارون عن يعقوب بن إبراهيم أن الرشيد طلب من الناطفي جاريته فأبى أن يبيعها بأقل من مائة ألف دينار فقال أعطيك مائة ألف دينار على أن تأخذ بالدينار سبعة دراهم فامتنع عليه وأمر أن تحمل إليه فذكروا أنها دخلت مجلسه فجلست في هيئتها تنتظره فدخل عليها فقال لها ويلك إن هذا قد اعتاص علي في أمرك قالت وما يمنعك أن توفيه وترضيه فقال ليس يقنع بما أعطيه وأمرها بالإنصراف فبلغني أن الناطفي تصدق بثلاثين ألف درهم حين رجعت إليه فلم تزل في قلب الرشيد حتى مات مولاها فلما مات بعث مسرورا الخادم فأخرجها إلى باب الكرخ فأقامها على سرير وعليها رداء رشيدي قد جللها فنودي عليها من يزيد بعد أن شاور الفقهاء فيها وقال هذه كبد رطبة وعلى الرجل دين فأشاروا ببيعها قال فبلغني أنها كانت تقول وهي في المصطبة أهان الله من أهانني وأذل من أذلني فلكزها مسرور بيده وبلغ بها مسرور مائتي ألف درهم فجاء رجل فقال علي زيادة خمسة وعشرين ألف درهم فلكزه مسرور وقال أتزيد على أمير المؤمنين ثم بلغ بها مائتين وخمسين ألفا وأخذها له قال ولم يكن فيها شيء يعاب وطلبوا لها عيبا لئلا تصيبها العين فأوقعوا بخنصر رجلها شيئا وأولدها ابنين قال أظنهما ماتا صغيرين ثم خرج بها إلى خراسان فمات هناك وماتت عنان بعده قال وأنشدنا لأبي نواس في قصيدة يمدح بها يزيد بن مزيد ويذكر عنان في تشبيبها ( عِنان يا من تُشبه العِينَا ... أنتِ على الحُبِّ تلومينا ) ( حُسنك حُسْنٌ لا أَرى مثلَه ... قد ترك الناس مَجانينَا ) مطارحة شعرية بينها وبين العباس بن الأحنف أخبرني عمي قال حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن القاسم العجلي قال حدثني أبو القاسم النخعي قال كان العباس بن الأحنف يهوى عنان جارية الناطفي فجاءني يوما فقال امض بنا إلى عنان جارية الناطفي فصرنا إليها فرأيتها كالمهاجرة له فجلسنا قليلا ثم ابتدأ العباس فقال ( قال عباس وقَد أُجْهِد ... من وجدٍ شديدِ ) ( ليس لي صبرٌ على الهَجْر ... ولا لذْعِ الصُّدُودِ ) ( لا ولا يصبر للهجْرِ ... فؤادٌ من حَديدِ ) فقالت عنان ( من تراهُ كان أغنَى ... منكَ عن هذا الصدودِ ) ( بعد وصلٍ لكَ منّي ... فيه إرغامُ الحَسودِ ) ( فاتّخذ للهَجْر إن شئتَ ... فؤاداً من حديدِ ) ( ما رأيناكَ على ما ... كنت تَجني بجَليد ) فقال العباس ( لو تجودينَ لصَبًّ ... راح ذَا وجدٍ شديدِ ) ( وأخي جهلٍ بما قدْ ... كان يَجْني بالصدودِ ) ( ليس مَن أحدثَ هَجْراً ... لصديقٍ بسَديدِ ) ( ليسَ منه الموتُ إن لمْ ... تَصليه بِبَعيدِ ) قال فقلت للعباس ويحك ما هذا الأمر قال أنا جنيت على نفسي بتتايهي عليها فلم أبرح حتى ترضيتها له أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا الحارث بن يحيى بن حمد بن أبي مية قال حدثني يحيى بن محمد أن الرشيد كان يساوم بعنان جارية النطاف فبلغ ذلك أم جعفر فشق عليها فدست إلى أبي نواس أن يحتال في أمرها فقال يهجوها ( إِن عِنانَ للنَّطَّافِ جاريةٌ ... أصبح حِرْها للنَّيْك مَيدانا ) ( ما يشتريها إلا ابنُ زانية ... أو قَلْطَبَانٌ يكون مَن كانا ) فبلغ ذلك الرشيد فكان يقول لعن الله أبا نواس وقبحه فلقد أفسد علي لذتي في عنان بما قال فيها ومنعني من شرائها صوت ( مالي وللخمرِ وقد أَرعشَتْ ... مِنِّي يّميني هاتِ باليُسرى ) ( حتى تَراني مائلاً مُسنَدا ... لا أستطيعُ الكأسَ بالأخرى ) الشعر للحسن بن وهب والغناء لعبد الله بن العباس الربيعي خفيف ثقيل بالوسطى وفيه أيضا له خفيف رمل بالبنصر أخبار الحسن بن وهب هو الحسن بن وهب بن سعيد كاتب شاعر مترسل فصيح أديب وأخوه سليمان بن وهب فحل من الكتاب ويكنى أبا علي وهو عريق في الكتابة ولأولاده نجابة مشهورة تستغني عن وصف ذلك وكانوا يقولون إنهم من بني الحارث بن كعب وأصلهم نصارى وفي بني الحارث نصارى كثير البحتري يجتاز بمنزله ويرثيه وفي الحسن بن وهب يقول البحتري ( يا أخَا الحارثِ بنِ كعب بن عمرو ... أشُهوراً تَصومُ أم أياَّما ) وكان البحتري مداحا لهم وله في الحسن وقد اجتاز بمنزله بعد وفاته ( أناةً أيُّها الفَلكُ المُدارُ ... أنهبٌ ما تطرَّق أم جُبارُ ) ( نزلنا منزلَ الحسنِ بن وهبٍ ... وقد دَرَستْ مغانِيه القِفار ) يقول فيها يصف صبوحا كانوا قد اصطبحوه ( أقمنا أكْلُنا أكلُ استلابٍ ... هُناكَ وشرْبنا شُربٌ يُدارُ ) ( تنازعْنا المدامةَ وهي صِرْفٌ ... وأعجلْنا الطبائخَ وهْي نارُ ) ( ولم يكُ ذاكَ سُخْفاً غيرَ أنِّي ... رأيت الشَّرْب سُخْفُهمُ الوَقارُ ) أخبرني الصولي وذكر ذلك عن جماعة من الكتاب أن الحسن بن وهب كان أشد تمسكا بالنسب إلى بني الحارث بن كعب من أخيه سليمان وكان سليمان ينكر ذلك ويعاتب عليه أخاه الحسن وابنه أحمد بن سليمان وأصلهم من قرية من سواد واسط في جسر سابور يقال لها سارقيقا كانوا يتسابقون لحفظ شعره أخبرني عمي قال حدثني عمر بن نصر الكاتب وكان من مشايخ الكتاب بسر من رأى قال كنا نتهادى ونحن في الديوان أشعار الحسن بن وهب ونتباهى بحفظها قال وأنشدني له وكتب بها إلى أخيه سليمان بن وهب من مدينة السلام وهو محبوس في أيام الواثق ( خطبٌ أبا أيوبَ جلَّ محلُّه ... فإذا جزعتَ من الخطوب فمن لَها ) ( إن الذي عَقَد الذي انعقَدتْ به ... عُقَدُ المكاره فيكَ يُحْسِن حلَّها ) ( فاصبرْ لعلَّ الصبرَ يفتِق ما ترى ... وعسى بها أن يَنْجَلي ولعلَّها ) قال وكتب إليه أيضا وهو في الحبس بسر من رأى ( خليلَيَّ من عبدِ المَدان تروحَّا ... ونُصَّا صدورَ العيس حَسْرى وطلَّحا ) ( فإنَّ سليمان بن وهب ببلدةٍ ... أصابَ صميمَ القلب منّي فأقْرَحا ) ( أُسائلُ عنه الحارسينَ لحَبْسه ... إذا ما أتوني كيف أَمسَى وأصبحا ) ( فلا يُهنئ الأعداءَ أسْرُ ابن حُرّةٍ ... يَرَاه العِدا أندى يميناً وأَسمحا ) ( وأنهضَ للأَمر الجليلِ بعَزْمَةٍ ... وأَقرعَ للباب الأصمِّ وأفتحا ) أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال وجه الحسن بن وهب إلى أبي تمام وهو بالموصل خلعا فيها خز وشيٌ فامتدحه بقصيدة أولها ( أبو عَليّ وسْمِيُّ منتجعهْ ... فاحْلُلْ بأعلى واديه أو جَرَعِهْ ) ثم وصف الخلعة فقال ( وقد أتاني الرسولُ بالملبس الفَخْم ... لصَيف امريءٍ ومُرتَبعْه ) ( لو أنها جُلِّلتْ أُوَيْساً لقد ... أسرعتِ الكِبرياء في ورَعِهْ ) ( رائقُ خَزٍّ أُجيدَ سابِرُه ... سَكْبٌ تدين الصِّبا لمدَّرعِهْ ) ( وسرُّ وشْيٍ كأنَّ شِعريَ أحْياناً ... نسيبُ العيونِ من بِدَعِهْ ) ( تركتْني ساهر الجفونِ على ... أزْلمِ دهرٍ بحُسنها جذَعِهْ ) يعني الدهر والدهرُ يقال له الأزلم الجذع والأزلم الطويل الجذع الجديد يقول هو قديم سالف ويومه جديد قال لقيط الإيادي ( يا قوم بيضتُكم لا تفضحنّ بها ... إني أخاف عليها الأزلَم الجذَعا ) قوله بعد أن حبسه محمد بن عبد الملك أخبري الصولي قال حدثنا محمد بن يزيد المبرد قال لما حبس محمد بن عبد الملك الزيات سليمان بن وهب وطالبه بالأموال وقت نكبته قال الحسن بن وهب ( خليليّ من عبد المدان تروَّحا ... ونُصّا صدورَ العِيسِ حَسْرى وطُلَّحا ) ( فإِنَّ سليمان بن وهبٍ بمنزِلٍ ... أصاب صميم القلب منّي فافرحا ) ( أُسائل عنه الحارسِين لحبسه ... اذا ما أتوني كيفَ أمسَى وأًصبَحا ) ( فلا يُهنىء الأعداءَ حبسُ ابنِ حرّة ... يراه العِدا أندى يميناً وأسمحا ) ( وقُولا لهمْ صَبراً قليلاً وأَصبِحوا ... فما أقرب الليلَ البهيمَ من الضُّحا ) قال وقيل له وسليمان محبوس كيف أصبحت قال أصبحت والله قليل النشاط كال القريحة صدىء الذهن ميت الخاطر من سوء فعل الزمان وتوارد الأحزان وتغير الإخوان قال وآلى ألا يذوق طعاما طيبا ولا يشرب ماء باردا ما دام أخوه محبوسا فوفى بذلك أخبرني الصولي قال أخبرني أبو الأسود قال كان للحسن بن وهب جار هاشمي يلقب بالطير فحج سنة من السنين ورجع آخر الناس فقال فيه الحسن ( أينقصُ أم يزيدُ من الرقاعهْ ... أخو حُمْقٍ له الدُّنيا مُشاعهْ ) ( يحجّ على الجِمالِ ولو تجلَّى ... لمكة جاءها في بعْضِ ساعهْ ) أخبرني الصولي قال حدثنا الطالقاني قال حدثنا أحمد بن سليمان بن وهب قال رآني عمي الحسن وأنا أبكي لفراق بعض أُلاّفي فقال ( ابكِ فما أَنْفَع ما في البكا ... لأنَّه للوجْد تَسهيلُ ) ( وهو إذا أَنتَ تأمَّلتَه ... حزن على الخَدّينِ مَحْلولُ ) يتمثل ببيت لحسان بن ثابت أخبرني الصولي قال حدثنا علي بن الصباح قال بلغ الحسن بن رجاء أن الحسن بن وهب عابه بحب الغلمان وكان الحسن بن وهب أشد حبا لهم منه فقال مثلي ومثله كما قال حسان بن ثابت ( وإني لأغني الناسَ عن فضل صاحبٍ ... يرى الناس ضُلاّلاً وليس بمهْتَدِ ) أخبرنا محمد قال حدثنا الحزنبل قال كتب رجل إلى الحسن بن وهب يستميحه فوقع في رقعته ( الجودُ طَبعي ولكن ليس لي مالُ ... فكيف يحتالُ مَنْ بالرَّهْن يحتالُ ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثني محمد بن موسى بن حماد قال كان شديد الشغف بجارية اسمها بنات كنت أكتب في حداثتي بين يدي الحسن بن وهب وكان شديد الشغف ببنات جارية محمد بن حماد كاتب راشد فكنا يوما عنده وهي تغني وبين أيدينا كانون فحم فتأذت به فأمرت أن يباعد فقال الحسن ( بأبي كرهتِ النارَ حتى أُبعِدتْ ... فعلمتُ ما معناكِ في إبعادِها ) ( هي ضرةٌ لك بالتماع ضِيائِها ... وبحسن صُورتها لدى إيقَادِها ) ( وأرى صنيعَكِ في القلوبِ صَنيعَها ... في شَوكها وسَيَالِها وقَتادِها ) ( شَرِكتْكِ في كلِّ الجهاتِ بحسْنِها ... وضِيائها وصلاحها وفَسادِها ) أخبرني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال كنا عند الحسن بن وهب فقال لو ساعدنا الدهر لجاءتنا بنات فما تكلم بشيء حتى دخلت فقال إني وإياك لكما قال علي بن أمية ( وفاجأتني والقلب نحوَكِ شاخِص ... وذكرُكِ ما بين اللسانِ إلى القَلب ) ( فيا فرحةً جاءت على إِثْر تَرْحةٍ ... ويا غفلتَا عنها وقد نزلَتْ قُربي ) قرأت في بعض الكتب دخلت يوما بنات على الحسن بن وهب وهو مخمور فسلمت عليه وقبلت يده فأراد تقبيل يدها فمنعته فرعش فقال ( أقولُ وقد حاولت تقبيلَ كَفِّها ... وبي رِعدةٌ أهتزُّ منها وأسكُنُ ) ( فديتُك إني أشجعُ الناس كلِّهِم ... لدى الحربِ إلا أنَّني عنكِ أجبُنُ ) شرب على وجه بنات وكتب إلى مولاها أخبرني الصولي قال حدثني محمد بن موسى قال جاءت بنات تسأل الحسن بن وهب من علة نالته فحين رآها دعا برطل فشربه على وجهها وقال قد عوفيت فأقيمي اليوم عندي فأبت وقالت عند مولاي دعوة فأمر بإحضار مائتي دينار فأحضرت فقال هذه مائة لمولاك فابعثي بها إليه ومائة لك فقالت أما هو فأبعث بمائة إليه وأما أنا فوالله لا أخذت المائة الأخرى ولأتصدقن بمثلها لعافيتك ولكن أكتب إليه رقعة تقوم بعذري فأخذ الدواة وكتب إلى مولاها ( ضرَّةَ الشمس والقمرْ ... متِّعيني من النَّظر ) ( مَتِّعيني بجلْسةٍ ... منك يا أحسن البَشَرْ ) ( أشتريها إن بعتنيها ... بسمْعِي وبالبَصر ) ( أذهبَ السقمَ سُقمُ طرفِكِ ... ذي الغُنْج والحَوَرْ ) ( فأديمي السرورَ لا ... تَمْزِجي الصفوَ بالكَدَرْ ) ( ليس يُبقي عليَّ حُبُّكِ ... هذَا ولا يذرْ ) ( وأنا منه فأنعَمي ... بمُقامٍ على خَطْر ) ( وتَغَنَّيْ فداك كلُّ ... مُغنٍّ لكي أُسَرّ ) ( ربع سَلمى بذي بقر ... عرضة الريح والمَطرْ ) لومه على حبه بنات حدثني أبو إسحاق بن الضحاك عن أحمد بن سليمان والحكايتان متفقتان متقاربتان أخبرني الصولي قال حدثني الحسين بن يحيى قال حدثني أحمد بن سليمان بن وهب قال قال لي أبي قد عزمت على معاتبة عمك في حبه لبنات فقد شهر بها وافتضج فكن معي وأعني عليه وكان هواي مع عمي فمضيت معه فقال لي أبي وقد أطال عتابه يا أخي جعلت فداك الهوى ألذ وأمتع والرأي أصوب وأنفع فقال عمي متمثلا ( إذا أمرتْك العاذلاتُ بهَجرِها ... أبتْ كبدٌ عما يقلنَ صَديعُ ) ( وكيف أطيع العاذلاتِ وحبُّها ... يُؤرّقُني والعاذلاتُ هُجوعٌ ) فالتفت إلي أبي ينظر ما عندي فتمثلت ( وإني ليلحاني على فرط حُبِّها ... رجالٌ أطاعتْهم قلوب صَحائح ) فنهض أبي مغضبا وضمني عمي إليه وقبلني وانصرفت إلى بنات فحدثتها بما جرى وعمي يسمع فأخذت العود فغنت ( يلومُك في مودّتها أُناسٌ ... لوَ أنَّهُمُ برأيكَ لم يلوموا ) فيه ثقيل أول قال أحمد بن سليمان وعذلته عجوز لنا يقال لنا منى فقال لها قومي فانظري إليها واسمعي غناءها ثم لوميني فقامت معه فرأتها وسمعت غناءها فقالت له لست أعاود لومك فيها بعد هذا فأنشأ يقول ( ويومٍ سها عنه الزمانُ فأصبحتْ ... نواظرُه قد حار عنها بَصيرُها ) ( خلوتُ بمن أهوَى به فَتكاملتْ ... سُعودٌ أدارَ النحسَ عنَّا مُديرُها ) ( أما تعذريني يا منى في صَبَابتي ... بمن وجْهُها كالشمس يلمَع نُورُها ) قال أحمد بن سليمان كان لعمي كاتب يعرف بإبراهيم نصراني يأنس به فسأل بنات مسألتها عمي أن يجعل رزقه ألف درهم في الشهر فلما شرب أقداحاً وطرب وثبت قائمة وقالت يا سيدي لي حاجة فوثب عمي فقام لقيامها فقالت تجعل رزق إبراهيم ألف درهم في الشهر فقال سمعا وطاعة فجلست فأنشأ يقول ( قامت فقمتُ ولم أكن لو لم تقم ... لأُِجلّ خلقاً غيرَها فأقوما ) ( شفعت لإِبراهيمَ في أرزاقه ... فوددتُ أني كنتُ إِبراهيما ) ( فأجبتُها إنِّي مطيعٌ أمْرَها ... وأراه فرضاً واجباً محتُوما ) ( ما كان أطيبَ يومَنا وأسَرَّه ... لو لم يكن بِفراقها مَخْتوما ) قال ثم إن عمي صار إلى أبي فأخبره الخبر فأمر أن يجعل لإبراهيم من ماله ألف درهم أخرى لشفاعتها تأخرت بنات عن عيادته فكتب إليها أخبرني الصولي قال حدثني إسماعيل بن الخطيب قال اعتل الحسن بن وهب فلم تعلم بنات بذلك وتأخرت عن عيادته فكتب إليها ( عليلٌ أنتِ أعْلَلْتِهْ ... فلَو أنّك علّلِتهْ ) ( بوعْدٍ أن تِزورِيه ... إذا ما مُمكنٌ نلتِهْ ) ( قريباً لنفيت الدَّاءَ ... عنه حينَ واعدتِهْ ) ( وما ضرّكِ لو جاء ... رسولٌ منك أرسلتهْ ) ( فيحكي لَكِ ما قال ... كما يحكي الذي قُلتِهْ ) ( أما والله لو أن ... الذي يُحمَل حُمِّلِتهْ ) ( لما احتاج إِلى التعليم ... فيما قد تجاهَلْتِهْ ) أخبرني الصولي قال أحمد بن إسماعيل قال حدثني أحمد بن عبيد الله بن جميل قال أهدى الحسن بن وهب إلى بنات في علة اعتلتها هدايا حسنة وأهدى معها قفص شفانين وكتب إليها ( شفاءُ أَنينٍ بالشفانين أمّلتْ ... لكم نفسُ من أَهدي الشفانين عامدا ) ( كُلُوها يَكِلُّ الداءُ عنكم فإنني ... أَزوركمُ للشوق لازرتُ عائداً ) بنات تعتذر عن موافاته فيستحثها من جديد أخبرني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال كتب الحسن بن وهب إلى بنات يوم جمعة يستدعيها فكتبت إليه أن عند مولاها أصدقاء له وقد منعها من المسير إليه فكتب إليها ثانيا يقول ( يومنا يوم جُمعة بأَبِي أَنتِ ... وعندَ الوضيع لا كانَ قوْمُ ) ( سَفَلٌ مثله يسومونَه الْخَسْفَ ... ويَرضاه وهو للوعْدِ سَوْمُ ) ( فامنعيهمْ منكِ البشاشةَ حتى ... يتغَشَّاهمُ من البَرْد نَومُ ) ( وليكنْ منك طول يومكِ لِلّه ... صلاةٌ إلى المساء وصومُ ) ( وارفعي عنهم الغِناء وإن نالك ... عذلٌ من الوضيع ولَوْمُ ) ( واذكري مُغرماً بحبّك أمسى ... هَمُّه أن يُدِيلَه منكِ يوم ) أخبرني عمي قال حدثني ميمون بن هارون قال كان الحسن بن وهب يشرب عند محمد بن عبد الله بن طاهر فعرضت سحابة فبرقت ورعدت وقطرت فقال الحسن ( هطلتنا السماءُ هَطْلاً دِراكا ... عارض المرزمانِ فيها السِّماكا ) ( قلت للبرق إذ تألّق فيها ... يا زِنادَ السماء من أَوراكا ) ( أحَبيباً نأيْتَه فَبكاكا ... فهو العارضُ الّذي اسْتبكاكا ) ( أَم تشبهتَ بالأمير أبي العَبّاسِ ... في جُوده فلسْتَ كذاكا ) بينه وبين ابن الزيات أخبرني عمي قال حدثنا أبو العيناء قال طلب محمد بن عبد الملك الزيات الحسن بن وهب وكان قد اصطبح مع بنات فكتب إليه يا سيدي أنا في مجلس بهي وطعام هني وشراب شهي وغناء رضي أفأتحول عنه إلى كد الشقي ووثبت بنات لتقوم فردها وكتب ( ما بانَ عنكَ الذي بِنتَ ... عنه لا عاشَ بَعْدَكْ ) ( إن لم يكن عنده الصبرُ ... والسُّلوُّ فعندَكْ ) ( وما وجدتَه إلا ... عبدَ الرجاء وعبدَكْ ) فاستلبها الرسول ومضى بها إلى محمد فوقع فيها ( أبا عليٍّ أراك الإِله ... في الأمرِ رُشدَكْ ) ( إن لم تكن عنديَ اليومَ ... كنتُ بالشوق عندَكْ ) ( فاهدم مَحلَّك عندِي ... واجهَدْ لذلك جَهدَك ) ( فلستُ أزدادُ إلا ... رعايةً لك وُدَّكْ ) ( وانعَمْ بمن قُلتَ فِيها ... عبدَ الرجاءِ وعبدَكْ ) ( أُزيلَ نحسُك فيها ... وأَطلَعَ الله سَعدكْ ) ورد الرقعة إلى الحسن فلما قرأها خجل وحلف ألا يشرب النبيذ شهرا ولا يفارق مجلس الوزير ولدت بنات من مولاها فأبغضها الحسن أخبرني عمي عن إبراهيم بن المدبر قال ولدت بنات من مولاها ولدا وسمته بإبراهيم فأبغضها الحسن بن وهب وكتب إليها ( نُتِج المُهرةَ الهجانُ هجيناً ... ثم سَمّى الهجينَ إبراهيما ) ( بخليلِ الرحمنِ سَمَّيتَ عَبدا ... أم قريعَ الفِتيان ذاك الكريما ) وبعث بالبيتين إليها وكان آخر عهده بها أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن موسى قال كان الحسن بن وهب يعشق غلاما روميا لأبي تمام وكان أبو تمام يعشق غلاما خزريا للحسن فرأى أبو تمام يوما الحسن يعبث بغلامه فقال له والله لئن أعنقت إلى الروم لنركضن إلى الخزر فقال له الحسن لو شئت لحكمتنا واحتكمت فقال له أبو تمام ما أشبهك إلا بداود ولا أشبه نفسي إلا بخصميه فقال له لو كان هذا منظوما حفظته فأما المنثور فهو عارض لا حقيقة له فقال أبو تمام ( أَبا عليٍّ لصرْف الدهر والغِيَرِ ... وللحوادث والأيامِ والعِبَرِ ) ( أعندك الشمسُ لم يحظ المغيب بها ... وأنت مضطربُ الأحشاء للقمر ) ( أَذكرتَني أمر داود وكنت فتى ... مُصرَّف القلب في الأهواء والذِّكَر ) ( إن أنت لم تترك السيرَ الحثيث إلى ... جآذر الرّوم أَعْنقْنا إلى الخزَر ) ( إِن الغزال له منّي محلُّ هوًى ... يحلّ مني محلَّ السمع والبصر ) ( ورُبَّ أمنَع منه جانباً وحِمًى ... أمسى ولكنَّه مني على خَطَرِ ) ( جرَّدتُ منه جنودَ العزم فانكشفتْ ... منه غابَتُها عن تِكّة هَدَر ) ( سبحانَ من سبّحتْه كلُّ جارحةٍ ... ما فيك من طَمحانِ الأيْر والنظرِ ) ( أنت المقيم فما تعدو رواحلُه ... وأيرُه أبداً منه على سَفَرِ ) قال الصولي فحدثني أحمد بن إسحاق قال حدثني محمد بن إسحاق قال قلت لأبي تمام غلامك أطوع للحسن بن وهب من غلام الحسن لك قال أجل والله لأن غلامي يجد عنده ما لا يجده غلامه عندي وأنا أعطي غلامه قيلا وقالا وهو يعطي غلامي ثيابا ومالا ابن الزيات يتجسس عليه أخبرني الصولي قال حدثني أبو الحسن الأنصاري قال حدثني أبي وحدثني الفضل الكاتب المعروف بفتجاخ أن الحسن بن وهب كان يكتب لمحمد بن عبد الملك الزيات وهو وزير الواثق وكان ابن الزيات قد وقف على ما بين الحسن بن وهب وبين أبي تمام في غلاميهما فتقدم إلى بعض ولده وكانوا يجلسون عند الحسن بن وهب بأن يعلموه بخبرهما وما يكون بينهما قال وعزم غلام أبي تمام على الحجامة فكتب إلى الحسن يعلمه بذلك ويسأله التوجيه إليه بنبيذ مطبوخ فوجه إليه بمائة دن ومائة دينار وبخلعة حسنة وبخور كثير وكتب إليه ( ليتَ شعري يا أملحَ الناسِ عندي ... هل تداويتَ بالحِجامة بَعدي ) ( دفعَ الله عنك لي كُلَّ سَوء ... باكرٍ رائحٍ وإن خنتَ عهدي ) ( قد كتمتُ الهوى بمبلغِ جُهدي ... فبدا منه غيرُ ما كنتُ أبدي ) ( وخلعتَ العِذارَ فليعلم الناس ... بأني إياك أُصفي بوُدِّي ) ( وليقولوا بما أَحبُّوا إذا كنتَ ... وَصولاً ولم ترُعني بصدِّ ) ( مَنْ عذيري من مُقلتيكَ ومن إشراق ... وجهٍ من دون حُمرة خَدِّ ) قال ووضع الرقعة تحت مصلاه وبلغ محمد بن عبد الملك خبر الرقعة فوجه إلى الحسن فشغله بشيء من أمره وأمر من أخذ الرقعة من تحت مصلاه وجاءه بها فقرأها وكتب في ظهرها ( ليت شِعري عن ليت شِعركَ هذا ... أبِهزلٍ تقوله أم بِجدِّ ) ( فلئن كنتَ في المقال مُحِقًّا ... يابنَ وهبٍ لقد تَغَيَّرتَ بعدي ) ( وتشبَّهْتَ بي وكنتُ أرى أني ... أنا العاشِقُ المتيَّم وحْدي ) ( أتركُ القصدَ في الأمور ولولا ... غمراتُ الهَوى لأبصرت رُشدي ) ( وأحب الأخ المشارك في الحب ... وإن لم يكن به مثلُ وجدي ) ( كنديميْ أبي عليّ وحاشا ... لنديمي مثل شِقوة وَجْدي ) صوت ( إنّ مولايَ عبد غيري ولولا ... شُؤم جَدي لكان مولايَ عَبْدي ) ( سيِّدي سيدي ومولايَ من ... أوْرَثَني ذِلَّةً وأضرَعَ خَدِّي ) في هذين البيتين الأخيرين لحن من الرمل أظنه لجحظة أو غيره من طبقته قال ثم وضع الرقعة في مكانها فلما قرأها الحسن قال إنا لله افتضحنا عند الوزير وحدث أبا تمام بما كان ووجه إليه بالرقعة فلقيا محمد بن عبد الملك وقالا له إنما جعلنا هذين سببا للمكاتبة بالأشعار لا للريبة فتضاحك وقال ومن يظن بكما غير هذا فكان قوله أشد عليهما من الخبر قرأت في بعض الكتب كان الحسن بن وهب يعاشر أبا تمام عشرة متصلة فندب الحسن بن وهب للنظر في أمر بعض النواحي فتشاغل عن عشرة أبي تمام فكتب إليه أبو تمام ( قالوا جفاكَ فلا عهدٌ ولا خَبرٌ ... ماذا تراه دهاه قلتُ أَيلولُ ) ( شهرٌ كأنّ حِبالَ الهَجر منهُ فلا ... عَقْدٌ من الوصل إلاَّ وهْو مَحلولُ ) فأجابه الحسن ( ما عاقَني عنكَ أَيلولٌ بلذَّته ... وطِيبهِ ولنعمَ الشهرُ أيلولُ ) ( لكن توقّعَ وَشْك البينِ عن بَلدٍ ... تحتلُّه ووِكاء العينِ مَحلولُ ) هجوه ابن أبي دواد والهيثم الغنوي وقرأت فيه كان بين الحسن بن وهب وبين الهيثم الغنوي وأحمد بن أبي دواد تباعد فقال يهجوهما ( سألت أبي وكان أبي خبيراً ... بسُكّان الجزيرة والسّواد ) ( فقلت له أهيثمُ من غَنِيٍّ ... فقال كأحمدَ بن أبي دُواد ) ( فإن يك هيثمٌ من جَذْم قَيس ... فأحمدُ غير شَكّ من إياد ) أخبرني عمي قال حدثني عمر بن نصر الكاتب قال كتب الحسن بن وهب إلى محمد بن معروف الواسطي يسأله أن يصير إليه فكتب إليه محمد ( وقيتُكَ كلَّ مكروهٍ بنفسي ... وبالأدنينَ من أهلي وجِنسي ) ( أتأذن في التأخُّرِ عنك يومي ... على أن ليس غيرُكَ لي بأُنسِ ) فأجابه الحسن بن وهب فقال ( أقِم لا زلت تُصبحُ في سرورٍ ... وفي نِعَمٍ مواصلة وتُمسي ) ( فما لي راحةٌ في حبس مَن لا ... أراهُ يكونُ مَحبوساً بحَبسي ) وكان الحسن يومئذ معتقلا في مطالبة يطالب بها كتب إلى الحسن بن إبراهيم في أمر بنات وجدت في بعض الكتب بغير إسناد كان الحسن بن وهب يعشق بنات جارية محمد بن حماد الكاتب وكان له معها أخبار كثيرة وكان لا يصبر عنها فقدم الحسن بن إبراهيم بن رباح من البصرة وأتصل بها خبرها ووصفها له الحسن بن وهب وصار به إليها فأتم ليلته معها ومرت بينهما أعاجيب ثم خالفه الحسن بن إبراهيم بن رباح وخاتله في أمرها فكتب إليه الحسن بن وهب ( لا جميل ولا حَسَنْ ... خُنتَ عهدي ولم أخُنْ ) ( كملت إذ فعلتَ ... هذا أعاجيب الزّمنْ ) ( فإلى اللهِ أشتَكِي ... ما بقلبي من الحَزنْ ) ( رُبَّ شكوى من الصديقِ ... إلى غير ذي شَجَنْ ) ( بأبي أنتَ يا حسنْ ... يا أخا الطوْل والمِنَنْ ) ( أيُّ رأيٍ أراك خَتْليَ ... في الشادِنِ الأغَنّْ ) ( يتخطّى إليه دُونيَ ... في حالِكِ الدُّجُنْ ) ( فترى منه سُنَّةً ... تَتعالى عن السُّنَنْ ) ( مَع كشفي لك الحديثَ ... الذي عَنكَ لم يُصَنْ ) ( واعتمادِي زعمتُ مِنكَ ... على أ حصَنِ الجُنَنْ ) ( وعلى خيرِ صاحبٍ ... وعلى خير ما سكَنْ ) ( خَجلِي منْ إساءةٍ ... فَضحَتْ حُسنَ كلِّ ظَنّ ) ( ثم مِمّن جرّتْ إلى ... مَن وفيمَن وعند مَنْ ) ( إن تكنْ تِلك هفوة ... فهي كالشيء لم يكُنْ ) ( أو تكن بِعتَ خُلّتِي ... بموافٍ من الثَّمنْ ) ( دُرّة البحرِ من عدَنْ ... ذُخْر سيفِ بن ذِي يَزَنْ ) ( لم يكن قطُّ مثلُها ... في معدٍّ ولا عَدَنْ ) كتب إلى بنات فتغافل عن جوابه وأقام على مواصلتها وسماعها وحظر عليها فلم يكن الحسن بن وهب يلقاها فغلظ ذلك عليه وكتب إليها بهذه الأبيات ( أنكرتِ معرفتي جُعلتُ لك الفدا ... إنكارَ سيّدةٍ تُلاعِبُ سَيِّدا ) ( أنا ذو منعْتِ جفونَه أن ترقُدا ... وتركتِه ليلَ التمام مُسهَّدا ) ( وبريتِ لحمَ عِظامه فتجرَّدا ... وأزَرْتِ مضجَعه النساءَ العُوَّدا ) ( انا ذو فإن لم تعرِفيني بعدَ ذا ... فأنا ابنُ وهبٍ ذو السماحة والنَّدى ) ( أشكُو إلى الله الفؤاد المُقْصَدَا ... وجوًى ثَوى تحتَ الحَشَا مُتلدِّدا ) ( وغريرة ما كنتُ من إشفاقها ... يوماً وإِن بَعُد التلاقي مُسْعِدَا ) ( يا ظبيةً في روضةٍ مَوْليَّةٍ ... جَادَ الربيعُ تُرابَها فتلبَّدا ) ( هل تجزينَّ الوُدَّ منِّي مثلَه ... أو تَصدُقين من المواعِدِ موعدَا ) ( إني وإنْ جَعلَ القريضُ يجولُ بي ... حتَّى يغُورَ بما أقولُ ويُنجِدا ) ( لعَلَى يقينٍ أنّ قلبَكِ مُوجَعٌ ... عندي المثالُ أنا الحمى ولَكِ الفِدا ) ( وكما علمتِ إذا لبستِ المُجْسَدا ... وثَنَيْت خَلف الأذْنِ حاشيةَ الرِّدا ) ( وحَبَوتِ جيدكِ من حُلُيِّكِ عَسْجداً ... ونظمتِ ياقوتاً به وزَبرْجَدا ) ( وشكوتِ وجدكِ في الغِناء شِكايةً ... يُنسِي حُنيْناً والغَريضَ ومَعْبَدا ) ( سِيَما إِذا غَنّيتني بتعمُّدٍ ... بأبي وأمِّي ذاك منكِ تَعمُّدا ) ( أثْوى فأقصرَ ليلةً ليزوّدا ... ومضى وأخلفَ من قُتيْلةَ موْعِدا ) ابن رباح يكتب إليه فوقعت الأبيات في يد ابن رباح فقرأها وعلم أنه قد بلغ منه فكتب إليه ( فِدًى لكَ آبائي وحقَّ بأن تُفدّى ... فِدًى لك قَصداً من ملامكَ لي قَصْدا ) ( ولا تَلْحَنِي في عَثرة إن عَثرتُها ... فلا والذي أمسيتُ أُدعى له عَبدَا ) ( وعهدُك يا نفسي يَقيك من الرّدى ... فأعظمْ به عندي وأكرِمْ به عَهْدا ) ( يمينَ امريءٍ بَرٍّ صَدوقٍ مُبرَّأٍ ... من الإِثمِ ما حاولتُ هَزْلاً ولا جِدًّا ) ( سِوى ما به أزدادُ عندكَ زُلفةً ... ويُكسبني منك المودَّة والحَمْدا ) ( أرى الغيّ إن أومأت للغيّ طاعةً ... لأمركَ فضلاً عن سِوى الغيّ لي رُشدا ) ( وأسعَى لما تسعى وأتبعُ ما ترى ... وفي كلِّ ما يُرضيك أَستغرِق الجُهدا ) ( إذا أنا لم أَمْنَحك صفوَ مودّتي ... فمن ذا الذي أُصفِي له غيرَك الوُدَّا ) ( ومن ذا الذي أرعَى وأشكُرُ والذي ... يُؤمِّل خيراً بعدُ منّي أو رِفدا ) ( وأنت ثِمالي والمعوّل والذي ... أشدّ به أَزري فيعصِمُني شَدَّا ) ( وآثرُ خلقِ الله عندي ومن له ... أيادٍ ووُدٌّ لستُ أحصيهما عدَّا ) ( فلا تحسبنِّي مائلاً عن خَليقتي ... لك الدهرَ حتى أسكنَ القبرَ واللَّحْدا ) ( معاذ إلهي ان أُرى لك خاذِلاً ... ولكنَّ عذري واضح أنّ بي وَجْدا ) ( بأحسنِ من أبصرتُ شخصاً وصُورةً ... وأملحِ خلقِ الله كلِّهمُ قَدّا ) ( بمالكةٍ امري وإن كنتُ مالكاً ... لهَا ففؤادي ليس من حُبّها يَهْدا ) ( إِذا سألتْني أن أُقيم عَشيَّةً ... لأونِسَها لا أستطيعُ لها رَدَّا ) ( تُراشِفُني صفوَ المودّة تارةً ... وأجني إذا ما شئتُ من خدّها وَردا ) ( قبعتُ بها لمَّا وثِقتُ بحبّها ... فلا زينباً أبْغي سواها ولا هِنْدا ) ( ولو بُذِلَتْ لي جنّةُ الخُلد منزِلاً ... وقلتَ اجتنبْها لاجتنبتُ لها الخُلْدا ) فلما قرأها الحسن بن وهب علم أنه قد ندم فكتب إليه ( حسنٌ يشكو إلى حسنِ ... فقْدَ طَعم النوم والوَسَنِ ) ( وهَوًى أمستْ مَطالِبُه ... قُرِنَتْ باليأس في قَرَنِ ) ( وحبيبٌ في محلَّته ... معه في الدار لمْ يَبِنِ ) ( فإذا ما رَام زَورته ... فهو كالغادين في الظُّعُنِ ) ( عجباً للشمس لم تَرَها ... مُقلَتي حَولاً ولم ترنِي ) ( أتراها بعدَنا صَرَمتْ ... حبَّنا هذا من اليَمنِ ) ( فقديماً كان مطلعُها ... بيدي سَيف بن ذي يزَنِ ) فكتب إليه ابن رباح ( حسنٌ يَفدي بمُهجته ... حسناً من حادث الزّمنِ ) ( ويَقِيه ما تضمَّنه ... من دَخيل الهمِّ والحزَنِ ) ( هاكَ عيني فابكِ واقيةً ... عينك العَبْرَى على الشَّجَنِ ) ( وفؤادي فامْلَهُ حَزَناً ... من صُروف الهمّ والفتنِ ) ( إن تكن شمسُ الضُّحى حُجِبت ... عن سليل المجد من يَمنِ ) ( فهْي حَيرى عن مَطالعها ... في سوى قوام ابن ذِي يَزَنِ ) ثم اعتذر إليه ورجع إلى معاشرته وكان لا يحضر دار محمد بن حماد ولا يسمع غناء بنات جاريته إلا مع الحسن بن وهب لا يستأثر بها عليه وقال محمد بن داود الجراح حدثني بعض أصحابنا أن الحسن بن وهب أتى أبا إسحاق إبراهيم بن العباس مستعديا على أبي محمد الحسن بن مخلد في أمر بنات جارية محمد بن حماد وكان الحسن بن وهب يتعشقها فأفسدها عليه الحسن بن مخلد ولم يذكر محمد بن داود من خبرهما غير هذا وإنما ذكرت هذه القصة على قلة الفائدة فيها ليتضح خبره مع بنات إذ كان ما مضى ذكره من خبرها لم يقع إلي بروايته أبو تمام يستسقيه نبيذا أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني عبد الرحمن بن أحمد قال وجدت بخط محمد بن يزيد كتب أبو تمام إلى الحسن بن وهب يستسقيه نبيذا ( جعلتُ فِداك عبد الله عندي ... بعقْبِ الهَجر منه والبعاد ) ( لهُ لُمَةٌ من الكتّاب بيضٌ ... قَضوا حقَّ الزيارة والوِداد ) ( وأحسِبُ يومَهم إن لم تجدهم ... مُصادِفُ دَعوةٍ منهم جَمادِ ) ( فكم يومٍ من الصهباء سارٍ ... وآخَرَ منكَ بالمعروف غادِ ) ( فهذا يستهلُّ على غَليلي ... وهذا يَستهلُّ على تِلادي ) ( فيسقِي ذا مَذانبَ كُلِّ عِرْق ... ويَنزع ذا قرارةَ كُلِّ واد ) ( دعوتُهُم عليكَ وكنتَ مِمَّنْ ... نُعيِّنُه على العُقَدِ الجيادِ ) قال فوجه إليه بمائة دينار ومائة دن نبيذا قال محمد بن داود بن الجراح زار الحسن بن وهب وأبو تمام أبا نهشل بن حميد فبدأ أبو تمام فقال ( أَغصَّك اللهُ أبا نَهشلِ ... ) ثم قال للحسن أجز فقال ( بخدِّ ريم شادِنٍ أكحلِ ... ) ثم قال أجزيا أبا نهشل فقال ( نَطمعُ في الوصلِ فإن رمتَه ... صار معَ العيّوق في منزِل ) أخبرني جعفر بن محمد بن قدامة بن زياد الكاتب قال كتب الحسن بن وهب إلى أبي تمام وقد قدم من سفر جعلت فداءك ووقاءك وأسعدني الله بما أوفى علي من مقدمك وبلغ الوطر كل الوطر بإنضمام اليد عليك وإحاطة الملك بك وأهلا وسهلا فقرّب الله دارا قربتك وأحيا ركابا أدتك وسقى بلادا يلتقي ليلها ونهارها عليك وجعلك الله في أحصن معاقله وأيقظ محارسه وأبعدها على الحوادث مراما برحمته رد تهمة السرقة عن أبي تمام أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى قال قال رجل للحسن بن وهب إن أبا تمام سرق من رجل يقال له مكنف من ولد زهير بن أبي سلمى وهو رجل من أهل الجزيرة قصيدته التي يقول فيها ( كأنّ بني القعقاع يومَ وفاته ... نُجومُ سماء خرَّ من بينها البدْرُ ) ( تُوفِّيت الآمالُ بعدَ محمدٍ ... وأصبحَ في شُغْلٍ عن السَّفَر السفْرُ ) فقال الحسن هذا دعبل حكاه وأشاعه في الناس وقد كذب وشعر مكنف عندي ثم أخرجه وأخرج هذه القصيدة بعينها فقرأها الرجل فلم يجد فيها شيئا مما قاله أبو تمام في قصيدته ثم دخل دعبل على الحسن بن وهب فقال له يا أبا علي بلغني أنك قلت في أبي تمام كيت وكيت فهبه سرق هذه القصيدة كلها وقبلنا قولك فيه أسرق شعره كله وأتحسن أنت أن تقول كما قال ( شهدتُ لقد أقوتْ مغانيكُم بَعدي ... ومَحّتْ كما مُحَّتْ وشائعُ من بُردِ ) ( وأنْجَدتُم من بَعد إتهام دَارِكمْ ... فيا دمعُ أنجِدْني على ساكِنِي نجْدِ ) فانخزل دعبل واستحيا فقال له الحسن الندم توبة وهذا الرجل قد توفي ولعلك كنت تعاديه في الدنيا حسدا على حظه منها وقد مات الآن فحسبك من ذكره فقال له أصدقك يا أبا علي ما كان بيني وبينه شيء قط إلا أني سألته أن ينزل لي عن شي استحسنته من شعره فبخل علي به وأما الآن فأمسك عن ذكره فجعل الحسن يضحك من قوله واعترافه بما اعترف به أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي قال كتب إبراهيم بن محمد بن أبي محمد اليزيدي إلى محمد بن حماد الكاتب يهجوه ويعيره بعشق الحسن بن إبراهيم بن رباح والحسن بن وهب جاريته وتغايرهما عليها ( لي خليطَان مُحكمان يُجيدان ... لِمَا يعمَلانِه حاذقانِ ) ( واحد يعملُ القِسيَّ فيأتيكَ ... بها في استقامةِ المِيزانِ ) ( وفتًى يعمَل السكاكينَ في القَرْن ... مقرٌّ بحذقه الثَّقَلانِ ) ( وهما يطلبان قَرْناً على رأسكَ ... فانظر في بعضِ ما يسأَلانِ ) ( قلت هلْ يُؤلم الفتى قطعُ ما ... فيه تريدان أيها الفَتيان ) ( فأجابا بلُطفِ قولٍ وفَهْمٍ ... قم فإنّا إِذاً لنَوْكى مَدان ) ( فاقطع الآن ما برأسكَ مِنها ... إن فيما ترى لمحضُ بيانِ ) ( ذاك خيرٌ من أن يُسمّى اسمَ سوء ... فيقالُ انظُروا إلى القَرْنانِ ) صوت ( قد كان عتبُك مرَّةً مكتوما ... فاليوم أصبحَ ظاهراً معلوما ) ( نال الأعادي سُؤْلَهم لاهُنِّئوا ... لمَّا رأونا ظاعناً ومُقيما ) ( والله لو أبصرتَني لأدَيْتَ لي ... والدمع يَجري كالجُمانِ سُجُوما ) ( هبنِي أسأتُ فعادةٌ لك أن تُرى ... مُتجاوِزاً مُتطاوِلاً مَظْلوما ) الشعر لأحمد بن يوسف الكاتب والغناء لعبيد بن الحسن الناطفي اللطفي ثاني ثقيل بالوسط وفيه خفيف رمل يقال إنه لرذاذ وفيه ثقيل أول مجهول أخبار أحمد بن يوسف هو أحمد بن يوسف بن صبيح الكاتب وأصله من الكوفة وكان مذهبه الرسائل والإنشاء وله رسائل معروفة وكان يتولى ديوان الرسائل للمأمون ويكنى أبا جعفر وكان موسى بن عبد الملك غلامه وخريجه فذكر محمد بن داود بن الجراح أن أحمد بن سعيد حدثه عن موسى بن عبد الملك قال وهب لي أحمد بن يوسف ألفي ألف درهم تفاريق عن ظهر يد وأخوه القاسم بن يوسف أبو محمد شاعر مليح الشعر وكان ينتمي إلى بني عجل ولم يكن أخوه أحمد يدعي ذلك وكان القاسم قد جعل وكده في مدح البهائم ومراثيها فاستغرق أكثر شعره في ذلك منها قوله يرثي شاة ( عينُ بكِّي لعنزنا السودَاء ... كالعروس الأدماء يوم الجِلاء ) وقوله في الشاهمرك ( أقفرت منك أبا سَعْدٍ ... عِراص وديارُ ) وقوله في السنور ( ألا قل لمُجَّةَ أو ماردة ... تبكِّي على الهِرَّة الصائدة ) وقوله في القمري ( هل لامرىء من أمانِ ... من طارق الحَدَثانِ ) تبنى جارية اسمها مؤنسة أخبرني محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني رجل من ولد عبد الملك بن صالح أن الهشامي قال كان أحمد بن يوسف قد تبنى جارية للمأمون اسمها مؤنسة فأراد المأمون أن يسافر ويحملها فكتب إليه أحمد بن يوسف بهذا الشعر على لسانها وأمر بعض المغنين فغناه به فلما سمعه وقرأ الكتاب أمر بإخراجها إليه وهو ( قد كان عَتْبُك مرة مكتوما ... ) وقال محمد بن داود حدثني أحمد بن أبي خيثمة الأطروش قال عتب أحمد بن يوسف على جارية له فقال ( وعاملٍ بالفُجور يأمرُ بالبِرّ ... كهادٍ يخُوض في الظُّلَمِ ) ( أو كطبيبٍ قد شفَّه سَقَمٌ ... وهْو يُداوِي من ذلكَ السَّقَمِ ) ( يا واعظَ الناسِ غير متَّعظ ... نفسَك طهِّر أوْلا فلا تلُمِ ) ووجدت في بعض الكتب بلا إسناد عتب المأمون على مؤنسة فخرج إلى الشماسية متنزها وخلفها عند أحمد بن يوسف الكاتب فرجت أن يذكرها إذا صار في متنزهه فيرسل في حملها فلم يفعل وتمادى في عتبه فسألت أحمد بن يوسف أن يقول على لسانها شعرا ترفعه فقال ( يا سيداً فقده أغرى بيَ الحَزَنا ... لا ذقتُ بعدكَ لا نوماً ولا وسَنَا ) ( لا زلتُ بعدك مَطوياًّ على حُرَقٍ ... أشنا المُقامَ وأشنا الأهلَ والوطَنا ) ( ولا التذذتُ بكأس في مُنادمةٍ ... مذ قيل لي إن عبد الله قد ظَعَنا ) ( ولا أَرى حَسناً تبدوا محاسنُه ... إلاّ تذكرتُ شوقاً وجهَك الحَسَنا ) وبعثت به إلى إسحاق الموصلي فغناه به وقيل بل بعثت به إلى سندس فغنته به فاستحسن ذلك وقال لمن هذا الشعر فقال أحمد بن يوسف لمؤنسة يا سيدي تترضاك وتشكو البعد منك فركب من ساعته حتى ترضاها ورضي عنها تحلى قينة فكتب إلى مولاها ووجدت في هذا الكتاب قال كنا مع أحمد بن يوسف الكاتب في مجلس وعندنا قينة فتحلاها أحمد بن يوسف فكتب إلى صاحب المنزل ( أنا رهنٌ للمنايا ... بين إبرامٍ ونَقْضِ ) ( من هَوى ظبي غريرٍ ... مونق المنظرِ غَضِّ ) ( ليتها جادتْ بتقبيلٍ ... لخدَّيها وعَضِّ ) ( إن عجزتم عن شِراها ... لي بفَرْضٍ أَو بقَرْضِ ) ( فتمنَّوا لي جميعاً ... أنها قَبرٌ لبعْضِي ) أخبرني عمي قال حدثنا الحسن بن عليل قال ذكر مسعود بن أبي بشر أن أحمد بن يوسف دخل يوما على الفضل بن سهل أو أخيه في يوم دجن فأطال مخاطبته وكان أحمد بن يوسف آنسا به ففتح دواته وكتب إليه صوت ( أَرى غَيْماً تؤلِّفهُ جَنُوبٌ ... وأحسِبُه سيأتينا بهَطْل ) ( فوجْهُ الرأي أن تدعو برَطلٍ ... فتشربه وتدعُو لي برَطلِ ) ودفعها إليه فقرأهما وضحك وقال إن كان هذا عين الرأي قبلناه ولم نرده ثم دعا بالطعام والشراب فأتموا يومهم الغناء في هذين البيتين للقاسم بن زرزور ثاني ثقيل بالوسطى ومما يغنى فيه من شعره صوت ( صدَّ عني محمدُ بنُ سعيدِ ... أحسنَ العالمين ثانِيَ جِيدِ ) ( ليس من جفوةٍ يصدُّ ولكِنْ ... يتجنّى لحُسنْه في الصُّدودِ ) الغناء فيه لزرزور خفيف رمل ذكر ذلك إبراهيم بن القاسم بن زرزور عن أبيه ومحمد بن سعيد هذا كان من أولاد الكتاب بسر من رأى وكان أحمد يتعشقه ومن شعره الذي يغنى فيه صوت ( كم ليلةٍ فيكَ لا صباحَ لها ... أحببتُها قابضاً على كبِدي ) ( قد غَصَّت العينُ بالدموع وقدْ ... وضعتُ خدِّي علىبَنانِ يَدي ) ( كأنّ قلبي إذا ذكرْنُكم ... فريسةٌ بين ساعِدَيْ أسد ) الغناء لشارية من رواية طباع وفيه خفيف رمل ذكر حبش أنه لأحمد النصيبي وهو خطأ يشبه أن يكون لأحمد بن صدقة أو بعض طبقته صوت ( الراحُ والنّدْمان أحسنُ منظراً ... في كل ملتفِّ الحدائق رائِق ) ( فإذا جمعتَ صفاءه وصفاءها ... فارْجُمْ بكل مُلمة من حَالِقِ ) الشعر للعطوي والغناء لبنان ثقيل أول بالوسطى وفيه لذكاء وجه الرزة خفيف ثقيل أخبار العطوي هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي عطية مولى بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ويكنى أبا عبد الرحمن بصري المولد والمنشأ وكان شاعرا كاتبا من شعراء الدولة العباسية واتصل بأحمد بن أبي دواد وتقرب إليه بمذهبه وتقدمه فيه بقوة جداله عليه فلما توفي أحمد نقصت حاله وله فيه مدائح يسيرة ومراث كثيرة منها ما أنشدنيه الأخفش عن كوثرة أخي العطوي ( حَنَّطْتَه يا نصرُ بالكافورِ ... وزففتَه للمنزلِ المهجورِ ) ( هلاّ ببعض خِصاله حَنّطَته ... فيضوعُ أفقُ منازلٍ وقُبورِ ) ( تالله لو من نشرِ أخلاقٍ له ... يُعزَى إلى التقديسِ والتطهيرِ ) ( حنّطتَ من سَكَن الثّرى وعلا الرُّبا ... لِتُزوِّدُوه عُدّةً لنُشورِ ) ( فاذهبْ كما ذهبَ الوفاءُ فإنه ... ذهبتْ به ريحاً صباً ودَبُورِ ) ( واذهبْ كما ذهب الشبابُ فإِنه ... قد كان خير مُصاحِب وعَشير ) ( والله ما أبَّنتُه لأزيدَه ... شَرفاً ولكن نفثهُ المَصدورِ ) وأنشدني الأخفش للعطوي أيضا يرثي أحمد بن أبي دواد قال ( وليس صريرُ النمش ما تسمعونَه ... ولكنه أصلابُ قومٍ تقَصَّفُ ) ( وليسَ نسيمُ المسك ريّا حَنُوطِه ... ولكنّه ذاكَ الثناءُ المُخَلَّفُ ) فاق جميع نظرائه وذكر محمد بن داود في كتاب الشعراء فقال كان له فن من الشعر لم يسبق إليه ذهب فيه إلى مذهب أصحاب الكلام ففاق جميع نظرائه وخف شعره على كل لسان وروي واستعمله الكتاب واحتذوا معانيه وجعلوه إماما قال ابن داود وحدثني المبرد قال كان العطوي وهو عندنا بالبصرة لا ينطق بالشعر ثم ورد علينا شعره لما صار إلى سر من رأى وكنا نتهاداه وكان مقترا عليه رزقه دفرا وسخا منهوما بالنبيذ وله فيه في وصف الصبوح وذكر الندامى والمجالس أحسن قول وليس له قول يسقط فمن ذلك قوله ( فِيئي إلى أهدى السُّبلْ ... قولاً وعلماً وعَمَلْ ) ( قاتلها اللُه لقدْ ... سامتكُما إحدى العُضَل ) ( تقول هلا رِحلَة ... تنقُلُنا خيرَ نُقَل ) ( أخشى على جائلةِ الآمالِ ... جوّالَ الأجَلْ ) يأخذ قولا لعمر بن الخطاب ويحوله إلى شعر أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن يزيد قال سمع العطوي رجلا يحدث أن رجلا قال لعمر بن الخطاب إن فلانا قد جمع مالا فقال عمر بن الخطاب فهل جمع له أياما فأخذ العطوي هذا المعنى فقال ( أرفِهْ بعيش فتىً يغدو على ثِقَةٍ ... إنّ الذي قسم الأرزاقَ يرزُقهُ ) ( فالعِرْضُ منه مَصونٌ لا يُدنِّسه ... والوجه منه جَديد ليس يخلُقه ) ( جمعتَ مالاً ففكّرْ هل جمعتَ له ... يا جامعَ المال أَياماً تُفَرِّقه ) ( المال عندكَ مخزونٌ لوارثه ... ما المالُ مالُك إلا حين تُنفِقه ) ومن قوله في الندمان والنبيذ مما يغني فيه ما أنشدنيه الأخفش وغيره من شيوخنا صوت ( فكم قالوا تمنَّ فقلتُ كاسٌ ... يطوفُ بها قضيبٌ في كثيبِ ) ( وَنُدْمانٌ تُساقطُني حديثاً ... كلحظ الحِبِّ أو غضِّ الرقيبِ ) الغناء في هذين البيتين لذكاء وجه الرزة خفيف رمل يكتب لعلوي يستقيه نبيذا أخبرني عمي قال حدثني كوثرة أخو العطوي قال كان أخي أبو عبد الرحمن يشرب مع أصدقاء له من الكتاب ومعهم قينة يقال لها مصباح من أحسن الناس وجها وأطيبهم غناء فما زالوا في قصف وعزف إلى أن انقطع نبيذهم فبقوا حيارى وكانوا قريباً من منزل أبي العباس أحمد بن الحسين بن موسى بن جعفر بن محمد العلوي وكان صديقا لأبي عبد الرحمن فكتب إليه ( يابنَ مَن طاب في المواليد مذ ... آدم جَرًّا إلى الحُسين أبيه ) ( أنا بالقرب منكَ عندَ كريم ... قد ألحّتْ عليه شُهبُ سِنيه ) ( عندَه قينةٌ إذا ما تغنّتْ ... عاد مِنّا الفقيهُ غيرَ فَقيه ) ( تزدَهيني وأينَ مثليَ في الفهم ... تُغنِّيه ثم لا تَزْدهيه ) ( مجلسٌ كالرياض حُسناً ولكنْ ... ليس قطبُ السرور واللهو فيه ) ( فأقمه بما به يمتري دن عجوز خمارة ممتريه ... ) ( وبأشياخِك الكرامِ إلى السُّؤْدَد ... موسى بن جعفرٍ وأبيه ) ( إن تَحشَّمْتَني وإِن كان إلاَ ... مثلَ ما يأنس الفَتى بأخيه ) قال فلما وصلت الرقعة إلى أبي العباس أرسل إليهم براوية شراب فلم يزالوا يشربون مجتمعين حتى نفدت في أخفض عيش حدثني أبو يعقوب إسحاق بن الضحاك بن الخصيب الكاتب قال جاءني يوما أبو عبد الرحمن العطوي بعد وفاة عمي أحمد بن الخصيب بسنتين وكان صديقه وصنيعته فجلس عندي يحادثني حديثه ويبكي ساعة طويلة ثم تغيمت السماء وهطلت فسألته أن يقيم عندي فحلف ألا يفعل إلا بعد أن أحضره من وقتي ما راج من الطعام ولا أتكلف له شيئا ففعلت وجئته بما حضر فقال لي ما فعلت عقد قلت باقية وهي في يومنا هذا مقيمة عندي والساعة تسمع غناءها فقال لي عجل إذن فإن النهار قصير ثم أنشأ يقول ( أدرِ الكأسَ قد تعالى النّهارُ ... ما يُميتُ الهمومَ إلا العُقارُ ) ( صاحِ هذا الشتاء فاغدُ عليها ... إنّ أيامه لِذاذٌ قِصار ) ( أيّ شيء ألذ من يوم دَجْنٍ ... فيه كأس على النّدامى تُدَارُ ) ( وقيانٌ كأنهنَّ ظِباءٌ ... فإذا قُلْنَ قالتِ الأوتارُ ) وصف مجلس في يوم رذاذ حدثني عمي قال حدثني كوثرة قال كان لأبي عبد الرحمن صديق من الأدباء وكان يتعشق جارية من جواري القيان يقال لها عثعث وكان لا يقدر عليها إلا على لقاء عسير واجتماع يسير فأرسل إليها يوما فأحضرها وأصلح جميع ما يحتاج إليه واتفق أن كان ذلك في يوم رذاذ به من الطيب والحسن ما الله به عليم فكتب إلى صديقه يعرفه الخبر ويسأله المصير إليه ووصف له القصة بشعر فقال ( يوم مطيرٌ وعيش نضيرُ ... وكأسٌ تدورُ وقِدرٌ تفورُ ) ( وعثْعثُ تأتي إِذا جئتَنا ... فتسمع منها غِناء يَصُورُ ) ( وعندي وعندك ما تشتَهيه ... شعرٌ يمرُّ وعِلمٌ يدورُ ) ( وإذا كان هذا كما قد وصفتُ ... فإِن التفرقٌّ خطبٌ كبيرٌ ) ( فقم نصطبِحْ قبل فوتِ الزَّمانِ ... فإنّ زمانَ التلهِّي قصيرُ ) قال فسار إليه صاحبه فمر لهما أحسن يوم وأطيبه وهذا الشعر أخذه العطوي من كلام إسحاق أخبرني به وسواسة بن الموصلي عن حماد عن أبيه قال كان يألفني بعض الأعراب وكان طيبا فجاءني يوما فقلت له لم أرك أمس فقال دعاني صديق لي فقلت صف لي ما كنتم فيه فقال لي كنا في مجلس نظامه سرور بين قدور تفور وكأس تدور وغناء يصور وحديث لا يجور وندامى كأنهم البدور قال إسحاق وقلت لأعرابي كان يألفني أين كنت بالأمس قال كنت عند بعض ملوك سر من رأى فأدخلني إلى قبة كإيوان كسرى وأطعمني في قصاع تترى وغنتني جارية سكرى تلعب بالمضراب كأنه مدرى فيا ليتني لقيتها مرة أخرى قال إسحاق وقلت لبعض الأعراب طلبتك أمس فلم أجدك فأين كنت قال كنت عند صديق لي فأطعمني بنات التنانير وأطعمني أمهات الأبازير وحلواء الطناجير وسقاني زعاف القوارير وأسمعني غناء الشادن الغرير على العيدان والطنابير قد ملكت بأوقار الدراهم والدنانير صديق يهدي إليه جواري ونبيذا قرأت في بعض الكتب بغير إسناد أن العطوي كان يوما جالسا في منزله وطرقه صديق له ممن كان يغني بسر من رأى فقال له قد أهديت إليك جواري اليوم ونبيذا يكفيك وحسبك بالكفاية وأقام عنده فدخل عليه غلام أمرد أحسن من القمر فاحتبسوه وكتب العطوي إلى صديق له من أهل الأدب ( يومنا طيّب به حسن القَصْف ... وحثُّ الأرطال والكاساتِ ) ( ما ترى البرقَ كيف يلمعُ فيه ... ورشاشاً يبُلُّ في الساعات ) ( ولديْنا ظبيٌ غريرٌ ظَريفٌ ... قد غَنِينا به عَنِ القَيْنَاتِ ) ( إن تخلّفتَ بعد ما تصلُ الرّقعةُ ... عَنّا فأنتَ في الأموات ) فأجابه الرجل فقال ( أنا في إثر رُقعتي فاعلمَنْ ذَاكَ ... على أنَّني من البُيّات ) ( فافهم الشّرطَ بينَنا لا تقل لي ... قد تثاقَلْت فانصرفْ بحياتي ) ( لا لسَوء لكن لأمتعَ نَفسي ... بحديثِ الظبيِ الغريرِ المواتِي ) صوت ( أيا بيتَ ليلَى إنَّ ليلى مريضةٌ ... بِراذان لا خالٌ لديْها ولا ابنُ عمّ ) ( ويا بيتَ ليلى لو شَهِدتك أعولَتْ ... عليكَ رجالٌ من فَصيح ومن عَجَمْ ) ( ويا بيت ليلَى لا يَبِسْتَ ولا تزَل ... بلادُك سُقياها من الواكِفِ الدِّيَم ) الشعر لمرّة بن عبد الله النهدي والغناء لأحمد النصيبي ثقيل أول بالوسطى يقال إنه لحنين أخبار مرة ونسبه هو مرة بن عبد الله بن هليل بن يسار أحد بني هلال بن عصم بن نصر بن مازن بن خزيمة بن نهد وليلى هذه من رهطه يقال لها ليلى بنت زهير بن يزيد بن خالد بن عمرو بن سلمة هجا رجلا من بني نهشل لأنه خطب ليلى عشيقته نسخت خبرها من كتاب ابن أبي السري قال حدثني ابن الكلبي عن أبيه قال كانت امرأة من بني نهد يقال لها ليلى بنت زهير بن يزيد وكان لها ابن عم يقال له مرة بن عبد الله بن هليل يهواها واشتد شغفه بها فخطبها وأبوا أن يزوجوه وكان لا يخطبها غيره إلا هجاه فخطبها رجل من بني نهشل يقال له إران فقال مرة يهجوه ( وما كنتُ أخشَى أن تصيرَ بمَرَّةٍ ... من الدّهر ليلى زوجةً لإِران ) ( لمن ليس ذا لُبٍّ ولا ذا حفيظةٍ ... لعِرس ولا ذا منطِق وبَيانِ ) ( لقد بُلِيتْ ليلى بشرِّ بليَّةٍ ... وقد أُنزلتْ ليلى بدار هَوانِ ) قال فتزوجها المنجاب بن عبد الله بن مسروق بن سلمة بن سعد من بني زوي بن مالك بن نهد فخرج إلى البعث براذان وهي إذا ذاك مسلحة لأهل الكوفة فخرج بها معه فماتت براذان ودفنت هناك فقدم رجلان من بجيلة من مكتبهما براذان من بني نهد وكانت بجيلة جيران بني نهد بالكوفة فمرا على مجلسهم فسألوهما عمن براذان من بني نهد فأخبراهم بسلامتهم ونعيا إليهم ليلى ومرة في القوم فأنشأ يقول ( أيا ناعِيَيْ ليلَى أما كان واحدٌ ... من الناس ينعاها إليّ سواكما ) ( ويا ناعييْ ليلى ألم نك جيرَة ... عليكم لها حقٌّ فأَلاّ نَهاكما ) ( ويا ناعييْ ليلى لقد هجتُما لنا ... تجاوبَ نَوْحٍ في الديار كلاكُما ) ( ويا ناعيي ليلى لجلَّتْ مُصيبةٌ ... بنا فقدُ ليلى لا أُمِرَّت قواكما ) ( ولا عشتما إلا حليفَيْ بَليِّةٍ ... ولا مِتُّ حتى يُشترى كَفنَاكما ) ( فأشْمَتَ والأيام فيها بوائِقٌ ... بموتِكما إني أُحِبُّ رَدَاكما ) وقال فيها أيضا ( كأنك لم تُفجَع بشَيْءٍ تعدُّه ... ولم تصطبرْ للنائبات من الدهرِ ) ( ولم تر بؤساً بعد طول غضارةٍ ... ولم ترمِكَ الأيامُ من حيثُ لا تدري ) ( سقى جانبْي راذَان والساحةَ التي ... بها دَفَنوا ليلى مُلِثٌّ من القَطر ) ( ولا زال خِصْبٌ حيث حلَّتْ عظامها ... براذَانَ يُسقَى الغيث منَ هَطِلٍ غَمْر ) ( وإن لم تكلمنا عظام وهامَةٌ ... هناك وأصداء بَقينَ مع الصخر ) وقال فيها ( يا قبر ليلى لا يَبِسْتَ ولا تَزَلْ ... بلادُكِ تَسقيها من الواكفِ الدِّيمْ ) ( ويا قبر لَيلى غُيِّبَتْ عنك أُمها ... وخالَتُها والناصحون ذَوو الذّمم ) ( ويا قبر ليلى كم جمالٍ تُكِنُّه ... وكم ضُمّ فيكَ من عَفافٍ ومن كرم ) وساق باقي الأبيات التي فيها الغناء وحكى الهيثم بن عدي عن شيخ من بني نهد أن مرة كان تزوجها وكان مكتبه براذان وأخرجها معه ثم ضرب عليه البعث إلى خراسان فخلفها عند شيخ من أهل منزله هناك وأفرد لها الشيخ دارا كانت فيها ومضى لبعثه ثم قدم بعد حول فلقي فتى من أهل راذان قبل وصوله إلى دارها فسأله عنها فقال أترى القبر الذي بفناء الدار قال نعم قال هو والله قبرها فجاء فأكب عليه يبكي ويندبها وترك مكتبه ولزم قبرها يغدو ويروح إليه حتى لحق بها صوت ( بأبي أنتَ يابن مَن ... لا أُسمِّي لبعضِ ما ) ( يا شبيهَ الهلالِ مثلُك ... في الأُفق أنجُما ) ( راقبِ اللَه في ... أسيرك إِن كنت مُسْلِما ) الشعر لعلي بن أمية والغناء لعمر الميداني رمل مطلق أخبار علي بن أمية علي بن أمية بن أبي أمية وكان أبوه يكتب للمهدي على ديوان بيت المال وديواني الرسائل والخاتم وكان منقطعا إلى إبراهيم بن المهدي وإلى الفضل بن الربيع وقد تقدم خبر أخيه محمد في مواضع من هذا الكتاب يخاطب الأطلال فحدثني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني محمد بن علي بن أمية قال لما قدم علي بن أمية وقال صوت ( يا ريحُ ما تصنعينَ بالدِّمَنِ ... كم لك من محوِ منظَرٍ حَسَنِ ) ( محوتِ آثارنا وأحدثتِ ... آثاراً بربْع الحبيب لم تكنِ ) ( إن تك يا ربعُ قد بَليتَ من ... الرَّيحِ فإني بالٍ من الحَزَنِ ) ( قد كان يا ربعُ فيك لي سَكنٌ ... فصرت إذ بانَ بعدَه سَكَنِي ) ( شبّهتُ ما أبلتِ الرياحُ مِن ... آثار حبيبي الثَّأَى بلا بَدَنِ ) ( يا ريحُ لا تطمِسي الرموسَ ولا ... تمحِي رسومَ الديار والدمّنِ ) ( حاشاك يا ريح أن تكونَ على ... العاشق عوناً لحادث الزَّمنِ ) أبو موسى الأعمى يندم على شعر قاله كثر الناس فيه وغناه عمرو الغزال فقال أبو موسى الأعمى ( يا ربّ خُذني وخذ عَلِيَّا وخُذْ ... يا ريح ما تصنعين بالدِّمَنِ ) ( عَجِّل إلى النار بالثلاثة والرابع ... عمرِو الغَزَال في قَرَنِ ) ثم ندم وقال هؤلاء أهل بيت وهم إخوتي ولا أحب أن أنشب بيني وبينهم عداوة وشرا فأتى أمية فقال إني قد أذنبت فيما بيني وبينكم ذنبا وقد جئتك مستجيرا بك من فتيانك فدعا بعلي بن أمية فقال يا هذا عمك أبو موسى قد أتاك معتذرا من الشعر الذي قاله قال وما هو فأنشده فقال قد ضجرنا نحن والله منه كما ضجرت أنت وأكثر وأنت آمن من أن يكون منا جواب وأتى محمد بن أمية فقال له مثل ذلك ومضى أبو موسى فأخذ علي بن أمية رقعة فكتب فيها ( كم شاعرٍ عند نفسه فَطِن ... ليس لدينا بالشاعر الفَطِنِ ) ( قد أَخْرَجَتْ نفسَه بغُصّتها ... يا ريحُ ما تصنَعين بالدِّمنِ ) ودفع الرقعة إلى غلام له وقال ادفعها إلى غلام أبي موسى وقل له يقول لك مولاك اذكرني بهذا إذا انصرفت إلى المنزل فلما انصرف إلى المنزل أتاه غلامه بالرقعة فقال ما هذه فقال التي بعثت بها إلي فقال والله ما بعثت إليك رقعة وأظن الفاسق قد فعلها ثم دعا ابنه فقرأها عليه فلما سمع ما فيها قال يا غلام لا تنزع عن البغلة فرجع إلى علي بن أمية فقال نشدتك الله أن تزيد على ما كان فقال له أنت آمن لحن عمرو الغزال في أبيات علي بن أمية رمل بالوسطى وقال يوسف بن إبراهيم حدثني إبراهيم بن المهدي قال حدثني محمد بن أيوب المكي أنه كان في خدمة عبيد الله بن جعفر بن المنصور وكان مستخفا لعمرو الغزال محبا له وكان عمرو يستحق ذلك بكل شيء إلا ما يدعيه ويتحقق به من صناعة الغناء وكان ظريفا أديبا نظيف الوجه واللباس معه كل ما يحتاج إليه من آلة الفتوة وكان صالح الغناء ما وقف بحيث يستحق ولم يدع ما يستحقه وأنه كان عند نفسه نظير ابن جامع وإبراهيم وطبقتهما لا يرى لهم عليه فضلا ولا يشك في أن صنعتهم مثل صنعته وكان عبيد الله قليل الفهم بالصناعة فكان يظن أنه قد ظفر منه بكنز من الكنوز فكان أحظى الناس عنده من استحسن غناء عمرو الغزال وصنعته ولم يكن في ندمائه من يفهم هذا ثم استزار عبيد الله بن جعفر أخاه عيسى وكان أفهم منه فقلت له استعن برأي أخيك في عمرو الغزال إنه أفهم منك وكانت أم جعفر كثيرا ما تسأل الرشيد تحويل أخيها عبيد الله وتقديمه والتنويه به فكان عيسى أخوه يعرف الرشيد أنه ضعيف عاجز لا يستحق ذلك فلما زاره عيسى أسمعه غناء عمرو فسمع منه سخنة عين فأظهر من السرور والطرب أمرا عظيما ليزيد بذلك عبيد الله بصيرة فيه ويجعله عيسى سببا قويا يشهد عند الرشيد بضعف عقله وعلمت ما أراد وعرفت أن عمرا الغزال أول داخل على الرشيد فلما كان وقت العصر من اليوم الثاني لم نشعر إلا برسول الرشيد قد جاء يطلب عمرا الغزال فوجه إليه وأقبل يلومني ويقول ما أظنك إلا قد فرقت بيني وبين عمرو وكنت غنيا عن الجمع بينه وبين عيسى واتفق أن غنى عمرو الرشيد في هذا الشعر صنعته ( يا ريح ما تصنعين بالدِّمنِ ... كم لك من محوِ منظرٍ حسنِ ) وكان صوتا خفيفا مليحا فأطربه ووصله بألف دينار وصار في عداد مغني الرشيد إلا أنه كان يلازم عبيد الله إذا لم يكن له نوبة فأقبلت أتعجب من ذلك واتصلت خدمته إياه ثلاث سنين ثم انصرفا يوما من الشماسية مع عبيد الله بن جعفر فلقيه الخضر بن جبريل وكان في الناس في العسكر فعاتبه عبيد الله على تركه وانقطاعه عنه فقال والله ما أفعل ذلك جهلا بحقك ولا إخلالا بواجبك ولكنا في طريقين متباينين لا يمكن معهما الإجتماع قال وما هما ويحك قال أنت على نهاية السرف في محبة عمرو الغزال وأنا على نهاية السرف في بغضه وأنت تتوهم أنه لا يطيب لك عيش إلا به وأنا أتوهم أني إن عاشرته ساعة مت وتقطعت نفسي غيظا وكمدا وما يستقيم مع هذا بيننا عشرة أبدا فقال له عبيد الله إذا كان هذا هكذا فأنا أعفيك منه إذا زرتني فصر إلي آمنا ولم يجلس عبيد الله حتى قال لحاجبه لا تدخل اليوم أحدا ولا تستأذن علي لجلوسه ودخلنا فلما وضعت المائدة لم يأكل ثلاث لقم حتى دخل الحاجب فوقف بين يديه وأقبل عمرو الغزال خلفه فرآه من أقصى الصحن فقال له عبيد الله ثكلتك أمك ألم أقل لك لا تدخل علي أحدا من خلق الله فقال له الحاجب امرأته طالق ثلاثا إن كان عنده أن عمرا عندك في هذا المجرى ولو جاء جبريل وميكائيل وكل من خلق الله لم يدخلوا عليك إلا بإذن سوى عمرو فإنك أمرتني أن آذن له خاصة وأن يدخل متى شاء وعلى كل حال قال ولم يفرغ الحاجب من كلامه حتى دخل عمرو فجلس على المائدة وتغير وجه الخضر وبانت الكراهة فيه فما أكل أكلا فيه خبز وتبين عبيد الله ذلك ورفعت المائدة وقدم النبيذ فجعل الخضر يشرب شرابا كثيرا لم أكن أعهده يشرب مثله فظننت أنه يريد بذلك أن يستتر من عمرو الغزال وعمرو يتغنى فلا يقتصر وكلما تغنى قال له عبيد الله لمن هذا الصوت يا حبيبي فيقول لي وعندنا يومئذ جوار مطربات محسنات وهو يقطع غناءهن بغنائه وتبينت في وجه الخضر العربدة إلى أن قال عمرو بعقب صوت هذا لي فوثب الخضر وكشف استه وخري في وسط المجلس على بساط خز لم أر لأحد مثله ثم قال إن كان هذا الغناء لك فهذا الخراء لي فغضب عبيد الله وقال له يا خضر أكنت تستطيع أن تفعل أكثر من هذا قال أي والله أيها الأمير ثم وضع رجليه على سلحه ثم أخرجهما فمشى على البساط مقبلا ومدبرا حتى خرج وقد لوثه وهو يقول هذا كله لي وتفرقنا عن المجلس على أقبح حال وأسوئها وشاع الخبر حتى بلغ الرشيد فضحك حتى غلب عليه ودعا الخضر وجعله من ندمائه منذ يومئذ وقال هذا أطيب خلق الله وانكشف عنده عوار عمرو الغزال واسترحنا منه وأمر أن يحجب عنه فسقط يومئذ وقد كان الجواري والغلمان أخذوه ولهجوا به وكان الرشيد يكايد به إبراهيم الموصلي وابن جامع قبل ذلك فسقط غناؤه أيضا منذ يومئذ فما ذكر منه حرف بعد ذلك اليوم إلا صنعته في ( يا ريحُ ما تصنعين بالدَّمنِ ... ) ولولا إعجاب الرشيد به لسقط أيضا وصف مجلس لهو حدثني الحسن بن علي عن محمد بن القاسم عن أبي هفان قال كنا في مجلس وعندنا قينة تغنينا وصاحب البيت يهواها فجعلت تكايده وتومىء إلى غيره بالمزح والتجميش وتغيظه بجهدها وهو يكاد يموت قلقا وهما وتنغص عليه يومه ولجت في أمرها ثم سقط المضراب عن يدها فأكبت على الأرض لتأخذه فضرطت ضرطة سمعها جميع من حضر وخجلت فلم تدر ما تقول فأقبلت على عشيقها فقال أيش تشتهي أن أغني لك فقال غني ( يا ريحُ ما تصنعين بالدّمَنِ ... ) فخجلت وضحك القوم وصاحب الدار حتى أفرطوا فبكت وقامت من المجلس وقالت أنتم والله قوم سفل ولعنة الله على من يعاشركم وغضبت وخرجت وكان علم الله سبب القطيعة بينهما وسلو ذلك الرجل عنها أخبرني ابن عمار وعمي والحسن بن علي قالوا حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثنا الحسين بن الضحاك قال كنت في مجلس قد دعينا إليه ومعنا علي بن أمية فعلقت نفسه بقينة دعيت لنا يومئذ فأقبل عليها فقال لها أتغنين قوله ( خبريني مَن الرسولُ إليكِ ... واجعليه مَن لا ينمُّ عليكِ ) ( وأشيري إليَّ من هو باللحظ ... ليَخفَى على الذين لَديكِ ) فقالت نعم وغنته لوقتها وزادت فيه هذا البيت فقال ( وأقلِّي المُزاحَ في المجلس اليومَ ... فإن المُزاح بين يديكِ ) ففطن لما أرادت وسر بذلك ثم أقبلت على خادم واقف فقالت له يا مسرور اسقني فسقاها وفطن ابن أمية أنها أرادت أن تعلمه أن مسرورا هو الرسول فخاطبه فوجده كما يريد وما زال ذلك الخادم يتردد في الرسائل بينهما أخبار عمر الميداني هو رجل من أهل بغداد كان ينزل الميدان فعرف به وكان لا يفارق محمدا وعليا ابني أمية وأبا حشيشة ينادمهم ويغني في أشعارهم وكان منزله قريبا منهم وهو أحد المحسنين المتقدمين في الصنعة والأداء حدثني جحظة قال سمعت ابن دقاق في منزل أبي العبيس بن حمدون يقول سمعت أبا حشيشة والمسدود ومن قبلهما من الطنبوريين فما سمعت منهم أصح غناء ولا أكثر تصرفا من عمر الميداني إسحاق بن إبراهيم يطلب منه أن يغني بصوته حدثني جحظة قال حدثني علي بن أمية قال دخلت يوما على عمر الميداني وكان له بقال على باب داره ينادمه ولا يفارقه ويقارضه إذا أعسر ويتصرف في حوائجه فإذا حصلت له دراهم دفعها إليه يقبض منها ما رأى لا يسأله عن شيء فوجدت عنده يومئذ هذا البقال فقال لنا عمر معي أربعة دراهم تعطوني منها لعلف حماري درهما والثلاثة لكم فكلوا بها ما أحببتم وعندي نبيذ وأنا أغنيكم والبقال يحضرنا من الأبقال اليابسة ما في حانوته فوجهنا بالبقال فاشترى لنا بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم فاكهة وريحانا وجاءنا من حانوته بحوائج السكباج ونقل فبينا نحن نتوقع الفراغ من القدر إذا بفرانق يدق الباب فأدخله عمر فقال له أجب الأمير إسحاق بن إبراهيم فحلف علينا عمر بالطلاق ألا نبرح ومضى هو وأكلنا السكباج وشربنا وانصرف عشاء وبكر إلي رسوله في السحر أن صر إلي فصرت إليه فقلت أعطني خبرك من النعل إلى النعل قال دخلت فوضعت بين يدي مائدة كأنها جزعة يمانية قد فرشت في عراصها الحبر فأكلت وسقيت رطلين ودفع إلي طنبور فدخلت إلى إسحاق فوجدته في الصدر جالسا وخلفه ستارة عن يمينه مخارق وعن يساره علويه فقال لي أنت عمر الميداني فقلت نعم فقال أأكلت فقلت نعم قال ها هنا أو في منزلك فقلت بل ها هنا قال أحسنت فغن بصوتك الذي صنعته في ( يا شبيه الهلال كُلِّل في الأفْق أنجُما ... ) وهو رمل مطلق فغنيته فضرب الستارة وقال قولوه أنتم فقالوه فقال لمخارق وعلويه كيف تسمعان فقالا هذا والله ذا وذا ذاك فرددته مرارا وشرب عليه وقال لي أنا اليوم على خلوة ولك علي دعوات فانصرف اليوم بسلام فخرجت ودفع إلي الغلام خمسة آلاف درهم فهي هذه والله لا استأثرت عليكم منها بدرهم فلم نزل عنده نقصف حتى نفدت صوت ( أمينَ الخالق البارِي ... وراعي كلِّ مخلوقِ ) ( أدِرْ راحَك في المعشوق ... من راحة معشوقِ ) الشعر لأبي أيوب سليمان بن وهب والغناء للقاسم بن زرزور ثقيل أول بالبنصر من جامع غنائه المأخوذ عن أبيه أبي القاسم عبيد الله بن القاسم أخبار سليمان بن وهب وجمل من أحاديث تصلح لهذا الكتاب قد تقدم نسبه في أخبار الحسن بن وهب أخيه وانتماؤه في بني الحارث بن كعب وأن أصلهم من قرية يقال لها سار قرمقا من طسوج خسر وسابور من سواد واسط وكان سليمان بن وهب ينكر الإنتساب إلى الحارث بن كعب على أخيه الحسن وعلى أبنه أبي الفضل أحمد بن سليمان بن وهب لشدة تعلقهما به أخبرني بذلك محمد بن يحيى وغيره من شيوخنا ومن مشيخة الكتاب أخبرني الصولي قال حدثني الحسن بن يحيى وعون بن محمد الكندي أن جعفر بن محمد كان وزير المهتدي في أول أمره فبلغه عنه تشيع فكرهه وقال هذا رافضي لا حاجة لي فيه واستوزر جعفر بن محمد بن عمار فلم يزل على وزارته حتى مضت سنة من خلافة المهتدي ثم قدم موسى بن بغا من الجبل وكاتبه سليمان بن وهب وابنه عبيد الله فاستوزر المهتدي سليمان بن وهب ولقب الوزير حقا لأن من كان قبله كان غير مستحق للوزارة ولا مستقل بها أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني الحسن بن يحيى بن الجماز قال لما استوزر سليمان بن وهب جلس للناس فدخل عليه شاعر يقال له هارون بن محمد البالسي فذكر مظلمة له ببلده ثم أنشده ( زِيدَ في قدرك العليِّ علوٌّ ... يابن وهبٍ من كاتبٍ ووزير ) ( أسفَر الشرق منك والغرب عن ضوء ... من العدل فاق ضوءَ البدورِ ) ( أنشر الناسَ غيثُكمْ بعدما كانوا ... رُفاتاً من قبلِ يومِ النّشورِ ) ( شرَّد الجورَ عدلُكم فسرحْنا ... بينكم بين رَوْضة وسرورِ ) ( أَنت عَيْن الإِمام والقِرْم موسى ... بك تفترّ عابسات الأمور ) فوقع في ظلماته بما أراد ووصله بمائتي دينار يزيد المهلبي يمدحه فيقضي له حوائجه أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أحمد بن الخصيب قال لعهدي بيزيد بن محمد المهلبي عند سليمان بن وهب بعد ما استوزره المهتدي وقد أجلسه إلى جانبه وهو ينشده قوله ( وهبتم لنا يا آلَ وهب مودّة ... فأبقت لنا جاهاً ومجداً يؤثَّلُ ) ( فَمن كان للآثام والذلِّ أَرضُه ... فأرضُكُم للأجْر والعِزِّ منزِلُ ) ( رأى الناسَ فوقَ المجد مقدارَ مجدِكم ... فقد سألوكم فوقَ ما كانَ يُسْأَلُ ) ( يقصِّر عن مسعاكمُ كلُّ آخرٍ ... وما فاتكم ممّن تقدَّمَ أولُ ) ( بلغتُ الذي قد كنتُ أمّلتُه لكم ... وإن كنتُ لم أبلغ بكم ما أُؤمِّل ) فقطع عليه سليمان الإنشاد وقال له يا أبا خالد فأنت والله عندي كما قال عمارة بن عقيل لإبنه ( أُقهقهُ مسروراً إذا أُبتَ سالماً ... وأبكي من الإِشْفاق حين تغيبُ ) فقال له يزيد فيسمع مني الوزير آخر الشعر لا أوله وتمم فقال ( ومالِيَ حق واجبٌ غيرَ أنّني ... بجودكُم في حاجتي أتوسَّلُ ) ( وأنّكُم أفضلتُم وبَررْتمُ ... وقد يستَتِمُّ النّعمةَ المتفَضِّلُ ) ( وأوليتُم فِعلاً جميلاً مقدَّماً ... فعودوا فإن العَوْدَ بالحرّ أجملُ ) ( وكم مُحلفٍ قد نال ما رام منكمُ ... ويمنعنا من مثلِ ذاكَ التجمُّلُ ) ( وعوّدتمونا قبلَ أن نسألَ الغِنى ... ولا بذلَ للمعروف والوجهُ يُبذَلُ ) فقال له سليمان لا تبرح والله إلا بقضاء حوائجك كائنة ما كانت ولو لم أستفد من كتبة أمير المؤمنين إلا شكرك لرأيت جنابي بذلك ممرعا وغرسي مثمرا ثم وقع له في رقاع كثيرة كانت بين يديه أخبرني محمد قال حدثنا الحزنبل قال لما ولى المهتدي سليمان بن وهب وزارته قام إليه رجل من ذوي حرفته فقال أنا أعز الله الوزير خادمك المؤمل دولتك السعيد بأيامك المطوي القلب على ودك المنشور اللسان بمدحك المرتهن بشكر نعمتك وقد قال الشاعر ( وفَّيْتُ كلَّ أديب ودَّني ثَمناً ... إلا المؤمِّلَ دَولاتي وأيَّامي ) ( فإنني ضامنٌ ألاَّ أكافئه ... إلا بتسويغه فَضْلي وإنعامي ) وإني لكما قال القيسي ما زلت أمتطي النهار إليك وأستدل بفضلك عليك حتى إذا جنني الليل فقبض البصر ومحا الأثر أقام بدني وسافر أملي والإجتهاد عذر وإذا بلغتك فهو مرادي فقط فقال له سليمان لا عليك فإني عارف بوسيلتك محتاج إلى كفايتك ولست أؤخر عن أمري النظر في أمرك وتوليتك ما يحسن أثره عليك وذكر يحيى بن علي بن يحيى عن أبيه قال ما رأيت أظرف من سليمان بن وهب ولا أحسن أدبا خرجنا نتلقاه عند قدومه من الجبل مع موسى بن بغا فقال لي هات الآن يا أبا الحسن حدثني بعجائبكم بعدي وما أظنك تحدثني بأعجب من خبر ضرطة أبي وهب بحضرة القاضي وما سير من خبرها وما قيل فيها حتى قيل ( ومن العجائب أنها بشهادة ... الْقاضي فليس يُزيلُها الإِنكارُ ) وجعل يضحك اعترافه بفضل ابن ثوابة قال علي بن الحسين الأصبهاني حضرت أبا عبد الله الباقطاني وهو يتقلد ديوان المشرق وقد تقلد ابن أبي السلاسل ماسبذان ومهرجان قذف وجاءه يأخذ كتبه فجعل يوصيه كما يوصي أصحاب الدواوين العمال فقال ابن أبي السلاسل كأنك استكثرت لي هذا العمل أنت أيضا قد كنت تكتب لأبي العباس بن ثوابة ثم صرت صاحب ديوان فقال له الباقطاني يا جاهل يا مجنون لولا أنه قبيح علي مكافأة مثلك لراجعت الوزير أيده الله في أمرك حتى أزيل يدك ومن لي أن أجد مثل ابن ثوابة في هذا الوقت فأكتب له ولا أريد الرياسة ثم أقبل علينا يحدثنا فقال دخلت مع أبي العباس بن ثوابة إلى المهتدي وكان سليمان بن وهب وزيره وكان يدخل إليه الوزير وأصحاب الدواوين والعمال والكتاب فيعملون بحضرته فيوقع إليهم في الأعمال فأمر سليمان أن يكتب عنه عشرة كتب مختلفة إلى جماعة من العمال فأخذ سليمان بيد أبي العباس بن ثوابة ثم قال له أنت اليوم أحد ذهنا مني فهلم نتعاون فدخلا بيتا ودخلت معهما وأخذ سليمان خمسة أنصاف وأبو العباس خمسة أنصاف أخر فكتبا الكتب التي أمر بها سليمان ما احتاج أحدهما إلى نسخه وقد أكمل كل واحد منهما ما كتب به صاحبه فاستحسنه وقرظه ثم وضع سليمان الكتب بين يدي المهتدي فقال له وقد قرأها أحسنت يا سليمان ونعم الرجل أنت لولا المعجل والمؤجل وكان سليمان إذا ولي عاملا أخذ منه مالا معجلا وأجل له مالا إلى أن يتسلم عمله فقال له يا أمير المؤمنين هذا قول لا يخلو من أن يكون حقا أو باطلا فإن كان باطلا فليس مثلك من يقوله وإن كان حقا وقد علمت أن الأصول محفوظة فما يضر من يساهمني من عمالي على بعض ما يصل إليهم من بر من غير تحيف للرعية ولا نقص للأموال فقال إذا كان هكذا فلا بأس ثم قال له اكتب إلى فلان العامل يقبض ضيعة فلان المصروف المعتقل في يده بباقي ما عليه من المصادرة فقال له أبو العباس بن ثوابة كلنا يا أمير المؤمنين خدمك وأولياؤك وكلنا حاطب في حبلك وساع فيما أرضاك وأيد ملكك أفنمضي ما تأمر به على ما خيلت أم نقول بالحق قال بل قل الحق يا أحمد فقال يا أمير المؤمنين الملك يقين والمصادرة شك أفترى أن أزيل اليقين بالشك قال لا قال فقد شهدت للرجل بالملك وصادرته عن شك فيما بينك وبينه وهل خانك أم لا فتجعل المصادرة صلحا فإذا قبضت ضيعته بهذا فقد أزلت اليقين بالشك فقال له صدقت ولكن كيف الوصول إلى المال فقال له أنت لا بد لك من عمال على أعمالك وكلهم يرتزق ويرتفق فيحوز رفقه ورزقه إلى منزله فاجعله أحد عمالك ليصرف هذين الوجهين إلى ما عليه ويسعفه معاملوه فيتخلص بنفسه وضيعته ويعود إليك مالك فأمر سليمان بن وهب بأن يفعل ذلك فلما خرجا من حضرة المهتدي قال له سليمان عهدي بهذا الرجل عدوك وكل واحد منكما يسعى على صاحبه فكيف زال ذلك حتى نبت عنه في هذا الوقت نيابة أحييته بها وتخلصت نفسه ونعمته فقال إنما كنت أعاديه وأسعى عليه وهو يقدر على الإنتصاف مني فأما وهو فقير إلي فلا فهذا مما يحظره الدين والصناعة والمروءة فقال له سليمان جزاك الله خيرا أما والله لأشكرن هذه النية لك ولأعتقدنك من أجلها أخا وصديقا ولأجعلن هذا الرجل لك عبدا ما بقي ثم قال الباقطاني أفمن كان هذا وزنه وفعله يعاب من كان يكتب له أخبرني محمد بن يحيى الباقطاني قال حدثنا الحسين بن يحيى الباقطاني قال كنت آلف سليمان بن وهب كثيرا وأخدمه وأحادثه وكان يخصني ويأنس بي فأنشدني لنفسه يذكر نكبته في أيام الواثق صوت ( نوائبُ الدهر أدَّبتْني ... وإِنما يُوعظُ الأريبُ ) ( قد ذقتُ حُلواً وذقتُ مُراًّ ... كذاك عيشُ الفتى ضُروبُ ) ( ما مَرّ بؤسٌ ولا نَعيمٌ ... إِلا وَلِي فيهما نصيبُ ) فيه رمل محدث لا أعرف صانعه وذكر يحيى بن علي بن يحيى أن جفوة نالت أباه من سليمان بن وهب فكتب إليه ( جفاني أبو أيوب نَفسِي فداؤه ... فعاتبتُه كيما يَريعَ ويُعتِبَا ) ( فوالله لولا الضنُّ مني بوُدّه ... لكان سُهيلٌ من عِتابِيه أقربَا ) فكتب إليه سليمان ( ذكرتَ جفَائي وهْو من غير شِيمتي ... وإنّي لدانٍ من بعيد تَقرَّبا ) ( فكيف بخلٍّ لي أُضِنّ بوُدّه ... وأُصفيه وُدًّا ظاهراً ومُغَيَّبا ) ( عليّ بن يحيى لا عدمتُ إخاءه ... فما زال في كلّ الخصال مهذَّبا ) ( ولكنّ أَشْغالاً غَدت وتواتَرتْ ... فلما رأَيت الشغلَ عاق وأتعبَا ) ( وَكنتُ إلى عذر الأخلاّء إنّهم ... كِرامٌ وإِن كان التواصلُ أَوجبَا ) ( فإن يطّلبْ منّي عتابُك أوبةً ... ببرٍّ تجدْني بالأمانة مُعتِبا ) أخبرني محمد بن العباس اليزيدي عن عمه قال كان سليمان بن وهب وهو حدث يتعشق إبراهيم بن سوار بن شداد بن ميمون وكان من أحسن الناس وجها وأملحهم أدبا وظرفا وكان إبراهيم هذا يتعشق جاريةً مُغنّية يقال لها رُخاص فاجتمعوا يوماً فسكر إبراهيم ونام فرأت رخاص سليمان يقبله فلما انتبه لامته وقالت كيف أصفو لك وقد رأيت سليمان يقبلك فهجره إبراهيم فكتب إليه سليمان ( قل للذي ليس لي مِن ... جوَى هواه خَلاصُ ) ( أَئِنْ لثمتُك سرَّاً ... وأبصرتْني رُخاصُ ) ( وقال لي ذاكَ قوم ... على اغتيابي حِراصُ ) ( هجَرتَني وأَتَتنْي ... شَتيمةٌ وانتقاصُ ) ( وَسرَّ ذَاك أُناساً ... لهم علينا اختِرَاصُ ) ( فهاكَ فاقتصَّ منّي ... إنّ الجُروحَ قِصاصُ ) وأهدي سليمان إلى رخاص هدايا كثيرة فكانوا بعد ذلك يتناوبون يوما عند سليمان ويوما عند إبراهيم ويوما عند رخاص مساجلة بينه وبين أحد أصحابه أخبرني الصولي عن أحمد بن الخصيب قال حضرت سليمان بن وهب وقد جاءته رقعة من بعض من وعده أن يصرّفه من أصحابه وفيها ( هَبني رضيتُ منكَ بالقليل ... أكانَ في التأويل والتنزيلِ ) ( أو خبرٍ جاء عن الرّسول ... أو حُجةٍ في فِطَر العقولِ ) ( مستحسَنٌ من رجل جليلِ ... عالٍ له حظُّ من الجميلِ ) ( ينقصُ ما أشاع بالتطويل ... والقول دونَ الفعل بالتحصيل ) ( ليس كذا وصف الفتى النّبيل ... ) قال فكتب له بولاية ناحية وأنفذ إليه مائتي دينار وكتب في رقعة ( ليس إلى الباطل من سبيلِ ... إلا لمن يَعدِل عن تعديلِ ) ( وقد وَفيْنَا لكَ بالتحصيل ... فاطْو الذي كان عن الخليلِ ) ( فضلاً عن الخليط والنزيل ... وَعُدْ من القول إلى الجميلِ ) ( وعفَّ في الكثير والقليلِ ... تَحظَ من الرتبة بالجزيلِ ) أخبرني محمد بن يحيى عن عبد الله بن الحسين بن سعد عن بعض أهله أنه كتب إلى سليمان بن وهب وهو يتولى شيئا من أعمال الضياع ( أطال اللهُ إسعادَك ... في الآجل والعاجلْ ) ( أما ترعى لمن أَمّل ... فضلاً حُرمة الآملْ ) ( وعندي عاجل من رُشوةٍ ... يتبعها آجلْ ) ( وأنت العالم الشاهدُ ... أني كاتب عاملْ ) ( فولِّ الكافلَ الباذلَ ... دون العاجز الباخلْ ) ( فما أُفشِي لك السرَّ ... فِعال الأخرقِ الجاهلْ ) قال فضحك وأجلسه وكتب في رقعته ( أَبِن لي ما الذي تخطبُ ... شرحاً أيها الباذِلْ ) ( وما تُعطي إذا وُلِّيتَ ... تعجيلاً وما الآجِلْ ) ( أفي الإِسلافِ تَنقيض ... أم الوزنُ له كاملْ ) ( وفي الموقوفِ تضمينٌ ... أم الوعدُ به حاصِلْ ) ( وهل ميقاته الغَلَّةُ ... في العام أو القابْل ) ( أَبِنْ لي ذاك وارددْ رُقْعتي ... يا كاتباً عاملْ ) فلما قرأها الرجل قطع ما بينه وبينه ورد الرقعة عليه وولاه سليمان ما التمس أخبرني محمد بن يحيى عن موسى البربري قال أهدى سليمان بن وهب إلى سليمان بن عبد الله بن طاهر سلال رطب من ضيعته وكتب إليه يقول ( أذِن الأميرُ بفضله ... وبجوده وبنَيْلهِ ) ( لوليِّه في بِرِّه ... بجَناه سُكَّرَ نَخلِهِ ) ( فبعثْتُ منه بسَلّةٍ ... تحكِي حلاوةَ عَدلِه ) أخبرني محمد الباقطاني قال كتب سليمان بن وهب بقلم صلب فاعتمد عليه اعتمادا شديدا فصر القلم في يده فقا ل ( إذا ما حَددْنا وانتضيْنا قواطعاً ... أصمّ الذكيَّ السمع منها صريرُها ) ( تظلّ المنايا والعطايا شوارعاً ... تدورُ بما شِئنا وتمضي أمُورُها ) ( تَساقَطُ في القرطاس منها بدائعٌ ... كمثل اللآلي نَظمُها ونَثيرُها ) ( تَقُودُ أبِيّاتِ البيان بفطنةٍ ... تَكَشَّفَ عن وجه البلاغة نورُها ) ( إذا ما خطوبُ الدهر أرخت ستورها ... تجلت بنا عما تُسِرّ ستورُها ) رثاؤه أخاه الحسن قال وأنشدني له يرثي أخاه الحسن ( مضى مذ مضى عِزُّ المعالي وأصبحت ... لآلي الحجا والقول ليس لها نظمُ ) ( وأضحى نجيُّ الفِكر بعدَ فراقه ... إذا همَّ بالإِفصاح مَنْطقِه كَظْمُ ) وذكر ابن المسيب أن جماعة تذاكروا لما قبض الموفق على سليمان بن وهب وابنه عبد الله أنه إنما استكتبهما ليقف منهما على ذخائر موسى بن بغا وودائعه فلما استقصى ذلك نكبهما لكثرة مالهما فقال ابن الرومي وكان حاضرا ( ألم ترَ أن المالَ يُتلِف ربَّه ... إذا جمَّ آتِيه وسُدَّ طريقُه ) ( ومَن جاور الماء الغزير مَجمُّه ... وسُدّ مفيضُ الماء فهو غَريقُه ) ومات سليمان بن وهب في محبسه وهو مطالب فرثاه جماعة من الشعراء فممن جود في مرثيته البحتري حيث يقول ( هذا سليمان بنُ وهبٍ بعدما ... طالتْ مساعيه النجومَ سمُوكَا ) ( وتنصَّف الدنيا يُدبِّر أمرَها ... سبعين حولاً قد تَمَمْن دكيكا ) ( أغْرت به الأقدارُ بَغْتَ مُلِمَّةٌ ... ما كان رسُّ حديثِها مأفوكا ) ( أبلغ عُبَيدَ الله بارعَ مَذْحِجٍ ... شرفاً ومُعطى فَضْلَها تَمليكا ) ( ومتى وجدتَ الناس إلا تاركاً ... لحميمه في التُّرب أو مَتروكا ) ( بلغَ الإِرادة إذ فداك بنفسه ... وتودُّ لو تفديه لا يفديكا ) ( إن الرزيَّةَ في الفقيد فَإن هَفَا ... جَزعٌ بلُبِّك فالرزيَّةُ فِيكا ) ( لو يَنجلي لكَ ذخرُها من نَكبةٍ ... جَلَلٍ لأضحككَ الذي يَبكيكا ) صوت ( لقد برّزَ الفضلُ بن يحيى ولم يزلْ ... يُسامي من الغاياتِ ما كان أَرفعَا ) ( يراه أميرُ المؤمنين لملكه ... كفيلاً لِما أعطى من العهد مَقْنعَا ) ( قضى بالتي شدّتْ لهارونَ مُلكه ... وأحيت ليحيى نفسَه فتمتّعا ) ( فأمست بنو العباس بعد اختلافها ... وآل عليّ مثل زَنْديْ يدٍ معا ) ( لئن كان من أسدى القريض أجاده ... لقد صاغ إبراهيم فيه فأوقعا ) الشعر لأبان بن عبد الحميد اللاحقي يقوله في الفضل بن يحيى لما قدم يحيى بن عبد الله بن الحسين على أمان الرشيد وعهده والغناء لإبراهيم الموصلي ثاني ثقيل بالبنصر عن أحمد بن المكي وكان الرشيد أمره أن يغني في هذا الشعر وإياه عني أبان بقوله ( لقد صاغ إبراهيمُ فيه فأَوقعا ... ) أخبار أبان بن عبد الحميد ونسبه أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير مولى بني رقاش قال أبو عبيدة بنو رقاش ثلاثة نفر ينسبون إلى أمهم واسمها رقاش وهم مالك وزيد مناة وعامر بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل أخبرني عمي قال حدثنا الحسين بن عليل العنزي قال حدثني أحمد بن مهران مولى البرامكة قال شكا مروان بن أبي حفصة إلى بعض إخوانه تغير الرشيد عليه وإمساك يده عنه فقال له ويحك أتشكو الرشيد بعد ما أعطاك قال أو تعجب من ذلك هذا أبان اللاحقي قد أخذ من البرامكة بقصيدة قالها واحدة مثل ما أخذته من الرشيد في دهري كله سوى ما أخذه منهم ومن أشباههم بعدها وكان أبان نقل للبرامكة كتاب كليلة ودمنة فجعله شعرا ليسهل حفظه عليهم وهو معروف أوله ( هذا كتابُ أدبٍ ومحنهْ ... وهو الذي يُدعَى كليلة ودمنهْ ) ( فيه احتيالاتٌ وفية رُشدُ ... وهو كتابٌ وضعتْه الهِندُ ) فأعطاه يحيى بن خالد عشرة آلاف دينار وأعطاه الفضل خمسة آلاف دينار ولم يعطه جعفر شيئا وقال ألا يكفيك أن أحفظه فأكون راويتك وعمل أيضا القصيدة التي ذكر فيها مبدأ الخلق وأمر الدنيا وشيئا من المنطق وسماها ذات الحلل ومن الناس من ينسبها إلى أبي العتاهية والصحيح أنها لأبان أبو نواس يهجوه وأبان يجيبه أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد قال حدثنا أبو هفان قال حدثني الجماز قال كان يحيى بن خالد البرمكي قد جعل امتحان الشعراء وترتيبهم في الجوائز إلى أبان بن عبد الحميد فلم يرض أبو نواس المرتبة التي جعله فيها أبان فقال يهجوه بذلك ( جالستُ يوماً أَبانا ... لا درَّ درُّ أبانِ ) ( حتى إذا ما صلاةُ ... الأولى دَنتْ لأوان ) ( فقام ثَمّ بها ذو ... فَصاحة وبَيانِ ) ( فكلَّما قال قُلنا ... إلى انقضاء الأذَان ) ( فقال كيف شَهِدتم ... بذا بِغير عِيَان ) ( لا أشهدُ الدّهرَ حتى ... تعاينَ العينانِ ) ( فقلت سبحانَ رَبِّي ... فقال سبحانَ ماني ) فقال أبان يجيبه ( إن يكن هذا النُّواسيّ ... بلا ذنبٍ هَجانا ) ( فلقد نِكناهُ حيناً ... وصفعنَاهُ زمانا ) ( هانئ الجَرْبَى أبوه ... زادَه الله هَوانا ) ( سائل العباسَ واسمعْ ... فيه من أمِّك شانا ) ( عجنوا من جُلنَّارٍ ... ليَكيدُوك عِجَانا ) جلنار أم أبي نواس وتزوجها العباس بعد أبيه كان وصديقه المعذل يتعابثان بالهجاء أخبرنا محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا أبو قلابة عبد الملك بن محمد قال كان أبان اللاحقي صديقا للمعذل بن غيلان وكانا مع صداقتهما يتعابثان بالهجاء فيهجوه المعذل بالكفر وينسبه إلى الشؤم ويهجوه أبان وينسبه إلى الفساء الذي تهجى به عبد القيس وبالقصر وكان المعذل قصيرا فسعى في الإصلاح بينهما أبو عيينة المهلبي فقال له أخوه عبد الله وهو أسن منه يا أخي إن في هذين شرا كثيرا ولا بد من أن يخرجاه فدعهما ليكون شرهما بينهما وإلا فرقاه على الناس فقال أبان يهجو المعذل ( أحاجيكُمُ ما قوس لحم سِهامُها ... من الريح لم توصَلْ بِقدٍّ ولا عَقَب ) ( وليست بشِريانٍ وليست بشَوْحَطٍ ... وليستْ بنبْعٍ لا وليستْ من الغَرَب ) ( ألا تلك قوسُ الدّحدْحِيّ معذَّلٍ ... بها صار عبديّاً وتمَّ له النسَب ) ( تصكُّ خياشيمَ الأنوفِ تعمُّداً ... وإن كان راميها يريد بها العُقَب ) ( فإن تفتخر يوماً تميمٌ بحاجبٍ ... وبالقوس مضموناً لكسرى بها العرب ) ( فحَيُّ ابن عمروٍ فاخرون بقَوْسه ... وأسهمه حتى يغلّب مَن غلبْ ) قال أبو قلابة فقال المعذل في جواب ذلك ( رأيتُ أباناً يوم فِطْرٍ مصلِّياً ... فقُسِّمَ فكري واستفزني الطرَبْ ) ( وكيف يصلّي مظلمُ القلب دِينُه ... على دين ماني إِنّ ذاك من العجبْ ) هجوه لإبن النضير أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا عون بن محمد الكندي قال كان لأبي النضير حوار يغنين ويخرجن إلى جلة أهل البصرة وكان أبان بن عبد الحميد يهجوه بذلك فمن ذلك قوله ( غضِب الأحمقُ إذ مازحتُه ... كيف لو كنا ذكرنا المَمْرغَة ) ( أو ذكرنَا أنهُ لا عبَها ... لعبة الجِدّ بِمزح الدغدغهْ ) ( سوَّد الله بخمسٍ وجهَه ... دُغنٍ أمثالِ طين الردَغَة ) ( خُنفُساوان وبنتا جُعِلٍ ... والتي تفترُّ عنها وزغه ) ( يكسر الشِّعرَ وإن عاتبتَه ... في مجالٍ قال هذا في اللغة ) وأنشدني عمي قال أنشدني الكراني قال أنشدني أبو إسماعيل اللاحقي لجده أبان في هجاء أبي النضير وأخبرني الصولي أنه وجدها بخط الكراني ( إذا قامت بواكيكَ ... وقد هَتِّكْنَ أستاركْ ) ( أيُثنينَ على قبرك ... أم يلعنَّ أحجارَك ) ( وما تترك في الدنيا ... إذا زرتَ غداً نارَك ) ( ترى في سَقَرَ المثْوى ... وإبليس غداً جارَك ) ( لمَنْ تَترك زِقَّيْك ... ودِنَّيْك وأوتارك ) ( وخمساً من بنات الليل ... قد أُلبِسْنَ أطمارَكْ ) ( تعالى اللُه ما أقبحَ ... إذ وَلَّيتَ أدبارَكْ ) وقال فيه أيضا ( قيانُ أبي النضير مثلَّجاتٌ ... غناءً مثل شعر أبي النضير ) ( فلا هَمَدَانَ حين نصيف نبغِي ... ولا الماهَيْنِ أيام الحَرور ) ( ولا نبغي بقرمِيسينَ رَوحا ... ولا نُبلى البغالَ من المسير ) ( فإن رمت الغناء لديه فاصبر ... إذا ما جئته للزَّمهرير ) هجوه المعذل أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا أبو خليفة وأبو ذكوان والحسن بن علي النهدي قالوا كان المعذل بن غيلان المهري يجالس عيسى بن جعفر بن المنصور وهو يلي حينئذ إمارة البصرة من قبل الرشيد فوهب للمعذل بن غيلان له بيضة عنبر وزنها أربعة أرطال فقال أبان بن عبد الحميد ( أَصلحك الله وقد أَصلحا ... إنّيَ لا آلوك أن أنصَحا ) ( علام تُعطي منوَيْ عَنبرٍ ... وأحسِبُ الخازن قد أرجحا ) ( من ليس من قِرد ولا كَلبة ... أَبهى ولا أَحْلى ولا أَملحا ) ( رسول يأجوج أتى عنهم ... يخبر أن الروم قد أقبحا ) ( ما بين رجليه إلى رأسه ... شِبْرٌ فلا شبَّ ولا أفلحا ) أخبرني الصولي قال حدثنا أبو العيناء قال حدثني الحرمازي قال خرج أبان بن عبد الحميد من البصرة طالبا للإتصال بالبرامكة وكان الفضل بن يحيى غائبا فقصده فأقام ببابه مدة مديدة لا يصل إليه فتوسل إلى من وصّل له شعرا إليه وقيل إنه توسل إلى بعض بني هاشم ممن شخص مع الفضل وقاله له ( يا غزير الندى ويا جوهرَ الجوهر ... من آل هاشمٍ بالبطاح ) ( إنّ ظَنِّي وليس يُخلِفُ ظَنِّي ... بك في حاجَتي سبيلُ النجاح ) ( إن مِن دونها لمصُمَتُ بابٍ ... أنت من دون قفْله مِفتاحي ) ( تاقت النفسُ يا خليلَ السَّماح ... نحو بحرِ الندى مُجارِي الرياح ) ( ثم فكّرتُ كيف لي واستخرتُ الله ... عند الإِمساء والإِصباح ) ( وامتدحتُ الأميرَ أصلحَه الله ... بشعرٍ مشهَّر الأوضاحِ ) فقال هات مديحك فأعطاه شعرا في الفضل في هذا الوزن وقافيته ( أنا مَن بُغيةُ الأميرِ وكنزٌ ... من كُنوزِ الأمير ذُو أرباح ) ( كاتبٌ حاسبٌ خطيبٌ أديبٌ ... ناصحٌ زائدٌ على النُّصَّاح ) ( شاعرٌ مُفلِقٌ أخفُّ من الرّيشة ... مِمّا يكون تَحت الجَنَاحِ ) وهي طويلة جدا يقول فيها ( إن دعاني الأميرُ عاين مِنِّي ... شَمَّرِيا كالبُلبُل الصَّيَّاح ) قال فدعا به ووصله ثم خص بالفضل وقدم معه فقرب من قلب يحيى بن خالد وصار صاحب الجماعة وزمام أمرهم تقرب إلى الرشيد بهجاء آل أبي طالب أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثني علي بن محمد النوفلي أن أبان بن عبد الحميد عاتب البرامكة على تركهم إيصاله إلى الرشيد وإيصال مديحه إليه فقالوا له وما تريد من ذلك فقال أريد أن أحظى منه بمثل ما يحظى به مروان بن أبي حفصة فقالوا له إن لمروان مذهبا في هجاء آل أبي طالب وذمهم به يحظى وعليه يعطى فاسلكه حتى نفعل قال لا أستحل ذلك قالوا فما تصنع لا يجيء طلب الدنيا إلا بما لا يحل فقال أبان ( نشَدتُ بحقّ الله مَن كان مسلما ... أَعُمُّ بما قد قلتُه العُجمَ والعرَبْ ) ( أعَمُّ رسولِ الله أقربُ زلفةً ... لديه أم ابنُ العمّ في رتبة النسبْ ) ( وأيُّهما أولى به وبعهده ... ومَن ذا له حقُّ التُّراث بما وجَبْ ) ( فإن كان عبّاسٌ أحقّ بتلكمُ ... وكان عليٌّ بعد ذاكَ على سَببْ ) ( فأبناء عباسٍ هُمُ يرثونه ... كما العمُّ لإبن العمِّ في الإِرث قد حَجَبْ ) وهي طويلة قد تركت ذكرها لما فيه فقال له الفضل ما يرد على أمير المؤمنين اليوم شيء أعجب إليه من أبياتك فركب فأنشدها الرشيد فأمر لأبان بعشرين ألف درهم ثم أتصلت بعد ذلك خدمته الرشيد وخص به أخبرنا أبو العباس بن عمار عن أبي العيناء عن أبي العباس بن رستم قال دخلت مع أبان بن عبد الحميد على عنان جارية الناطفي وهي في خيش فقال لها أبان ( العيشُ في الصيف خَيشُ ... ) فقالت مسرعة ( إذ لا قتالٌ وجيشُ ... ) فأنشدتها أنا لجرير قوله ( ظللتُ أُواري صاحبيَّ صَبَابتي ... وهل عَلِقتني من هواك علوق ) فقالت مسرعة ( إِذا عقل الخوفُ اللسانَ تكلمتْ ... بأسراره عينٌ عليه نَطوقٌ ) أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن سعيد قال حدثنا عيسى بن إسماعيل عن عبد الله بن محمد بن عثمان بن لاحق قال أولم محمد بن خالد فدعا أبان بن عبد الحميد والعتبي وعبيد الله بن عمرو وسهل بن عبد الحميد والحكم بن قنبر فاحتبس عنهم الغداء فجاء محمد بن خالد فوقف على الباب فقال ألكم أعزكم الله حاجة يمازحهم بذلك فقال أبان ( حاجَتُنا فاعْجل علينَا بها ... من الحَشَاوى كلَّ طُردِين ) فقال ابن قنبر بعد ذلك ( ومن خبيصٍ قد حكَت عاشقاً ... صُفرته زِينَ بتلوين ) فقال عبيد الله بن عمرو ( وأتبِعوا ذاك بأبِّيَّةٍ ... فإنكم آيينُ آبينِ ) فقال سهل ( دعنا من الشعر وأوصافِه ... واعجَلْ علينَا بالأخاوينِ ) فأحضر الغداء وخلع عليهم ووصلهم تشبيبه بغلام تركي أخبرني الصولي قال حدثنا محمد بن زياد قال حدثني أبان بن سعيد الحميدي بن أبان بن عبد الحميد قال اشترى جار لجدي أبان غلاما تركيا بألف دينار وكان أبان يهواه ويخفي ذلك عن مولاه فقال فيه ( ليتني والجاهلُ المغرورُ ... مَن غُرَّ بلَيْتِ ) ( نلتُ مِمّن لا أسَمِّي ... وهو جاري بَيْتَ بَيْتِ ) ( قُبلةً تُنعِش ميْتاً ... إنّني حَيٌّ كَمَيْتِ ) ( نتساقى الريقَ بعد الشرب ... من راحٍ كُمَيتِ ) ( لا أُسَمِّيه ولكنْ ... هو في كَيْتَ وكَيْتِ ) وكان اسمه يتك وقال أبو الفيَّاض سوَّار بن أبي شُراعة كان في جوار أبان بن عبد الحميد رجل من ثقيف يقال له محمد بن خالد وكان عدوا لأبان فتزوج بعمارة بنت عبد الوهاب الثقفي وهي أخت عبد المجيد الذي كان ابن مناذر يهواه ورثاه وهي مولاة جنان التي يشبب بها أبو نواس ويقول فيها ( خرجتْ تشهدُ الزفافَ جِنانٌ ... فاستمالت بحُسنها النَّظَّارهْ ) ( قال أهلُ العَروس لما رأوْها ... ما دهانا بها سِوى عمَّارهْ ) قال وكانت موسرة فقال أبان بن عبد الحميد يهجوه ويحذرها منه ( لمّا رأَيت البَزَّ والشارهْ ... والفرشَ قد ضاقتْ به الحارهْ ) ( واللوزَ والسكّرَ يُرمَى به ... من فوق ذي الدار وذي الدارهْ ) ( وأحضروا المُلهِين لم يتركوا ... طبلاً ولا صاحبَ زَمّارهْ ) ( قلت لماذا قيل أعجوبةٌ ... محمد زُوِّج عَمَّارهْ ) ( لا عمَّرَ اللُه بها بيتَه ... ولا رأته مُدرِكاً ثارَهْ ) ( ماذا رأتْ فيه وماذا رجَتْ ... وهي من النِّسوان مُخْتارهْ ) ( أسودَ كالسّفُّود يُنسَى لدى التَّنُّور ... بل محراكُ قّيَّارهْ ) ( يُجرِي على أولاده خمسةً ... أرغفةً كالريش طيَّارهْ ) ( وأهله في الأرض من خَوفه ... إن أفرطوا في الأكل سيَّارهْ ) ( ويحكِ فِرِّي وأعصي ذاكَ بي ... فهذه أختُك فرَّارهْ ) ( إذا غَفا بالليل فاستيقظي ... ثم اطْفِري إنك طفَّارهْ ) ( فصعّدت نائلةً سُلَّماً ... تخافُ أَن تصعدَه الفاره ) ( سُرورُ غَرَّتْها فلا أفلحتْ ... فإنها اللّخناء غَرَّارهْ ) ( لو نلتَ ما أبعدْتَ من ريقها ... إن لها نَفثةَ سحَّارهْ ) قال فلما بلغت قصيدته هذه عمارة هربت فحرم الثقفي من جهتها مالا عظيما قال والثلاثة الأبيات التي أولها ( فصعّدت نائلةً سلما ... ) زادها في القصيدة بعد أن هربت ابن مناذر يهجوه أخبرني الأخفش عن المبرد عن أبي وائلة قال كان أبان اللاحقي يولع بابن مناذر ويقول له إنما أنت شاعر في المراثي فإذا مت فلا ترثني فكثر ذلك من أبان عليه حتى أغضبه فقال فيه ابن مناذر ( غُنجُ أبانٍ ولينُ منطقه ... يخبر الناس أنه حَلَقي ) ( داء به تُعَرفونَ كلُّكُم ... يا آل عبدِ الحميد في الأفُقِ ) ( حتّى إذا ما المساء جلّلهُ ... كان أطِبَّاؤُه على الطُّرٌقِ ) ( ففرِّجوا عنه بعضَ كربته ... بمسبطِرٍّ مطَّوق العُنٌق ) قال وهجاه بمثل هذه القصيدة ولم يجبه أبان خوفا منه وسعي بينهما فأمسك عنه أخبرني الصولي عن محمد بن سعيد عن عيسى بن إسماعيل قال جلس أبان بن عبد الحميد ليلة في قوم فثلب أبا عبيدة فقال يقدح في الأنساب ولا نسب له فبلغ ذلك أبا عبيدة فقال في مجلسه لقد أغفل السلطان كل شيء حتى أغفل أخذ الجزية من أبان اللاحقي وهو وأهله يهود وهذه منازلهم فيها أسفار التوراة وليس فيها مصحف وأوضح الدلالة على يهوديتهم أن أكثرهم يدعي حفظ التوراة ولا يحفظ من القرآن ما يصلي به فبلغ ذلك أبانا فقال ( لا تَنِمَّنَّ عنْ صديقٍ حديثاً ... واستعِذْ من تسرُّر النمَّامِ ) ( واخفضِ الصّوتَ إن نطقتَ بليلٍ ... والتفِتْ بالنهار قبلَ الكَلامِ ) أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا عيسى بن إسماعيل تينة قال كنا في مجلس أبي زيد الأنصاري فذكروا أبان بن عبد الحميد فقالوا كان كافرا فغضب أبو زيد وقال كان جاري فما فقدت قرآنه في ليلة قط يتنبأ لجاره بالموت المحتم أخبرنا هاشم بن محمد الخزاعي عن دماذ قال كان لأبان جار وكان يعاديه فاعتل علة طويلة وأرجف أبان بموته ثم صح من علته وخرج فجلس على بابه فكانت علته من السل وكان يكنى أبا الأطول فقال له أبان ( أَبا الأطولِ طوّلْتَ ... وما يُنجيك تطويلُ ) ( بك السُّلُّ ولا والِله ... ما يبرأُ مسلولُ ) ( فلا يغررْكَ من ... طِبِّك أَقوالٌ أَباطيلُ ) ( أَرى فيكَ علاماتٍ ... وللأسباب تأويلُ ) ( هُزالاً قد بَرى جسمَك ... والمسلولُ مهزولُ ) ( وذِبَّاناً حوالَيْكَ ... فموقوذٌ ومقتولُ ) ( وحُمَّى منكَ في الظّهر ... فأنت الدهرَ مَمْلولُ ) ( وأعْلاماً سِوى ذاك ... تُواريها السّراويلُ ) ( ولو بالفيلِ ممّا ... بك عُشرٌ ما نجا الفيلُ ) ( فما هذا على فيكَ ... قُلاعٌ أم دَماميلُ ) ( وما زال مُناجيك ... يُولَّي وهْو مَبْلُولُ ) ( لئن كان من الجَوْف ... لقد سالَ بِك النيلُ ) ( وذا داء يُزجَّيك ... فلا قالٌ ولا قِيلُ ) فلما أنشده هذا الشعر أرعد واضطرب ودخل منزله فما خرج منه بعد ذلك حتى مات صوت ( ما تزال الدّيارُ في بُرقةِ النَّجد ... لسُعدى بقرْقرى تُبكِيني ) ( قد تحيّلتُ كي أرى وجهَ سُعدى ... فإذا كل حيلة تعييني ) ( قلتُ لما وقفتُ في سُدَّة الباب ... لسُعدى مَقالةَ المِسكين ) ( افعلِي بي ياربَّةَ الخِدرِ خَيراً ... ومن الماءِ شَربةً فاسقيني ) ( قالتِ الماءُ في الرَّكِيِّ كثيرٌ ... قلتُ ماءُ الركِّي لا يُرويني ) ( طرحتْ دونيَ الستورَ وقالتْ ... كلَّ يوم بعلّةٍ تأتِيني ) الشعر لتويت اليمامي والغناء لأبي زكار الأعمى رمل بالوسطى ابتداؤه نشيد من رواية الهشامي أخبار تويت ونسبه تويت لقب واسمه عبد الملك بن عبد العزيز السلولي من أهل اليمامة لم يقع لي غير هذا وجدته بخط أبي العباس بن ثوابة عن عبد الله بن شبيب من أخبار رواها عنه وتويت أحد الشعراء اليماميين من طبقة يحيى بن طالب وبني أبي حفصة وذويهم ولم يفد إلى خليفة ولا وجدت له مديحا في الأكابر والرؤساء فأخمل ذلك ذكره وكان شاعرا فصيحا نشأ باليمامة وتوفي بها خبره مع سعدى وصديقاتها قال عبد الله بن شبيب كان تويت يهوى أمرأة من أهل اليمامة يقال لها سعدى بنت أزهر وكان يقول فيها الشعر فبلغها شعره من وراء وراء ولم تره فمر بها يوما وهي مع أتراب لها فقلن هذا صاحبك وكان دميما فقامت إليه وقمن معها فضربنه وخرقن ثيابه فاستعدى عليهن فلم يعده الوالي فأنشأ يقول ( إنّ الغواني جرَحْنَ في جسدي ... من بعدِ ما قد فَرَغْنَ من كَبِدي ) ( وقد شقَقْن الرَّداء ثُمَّتَ لم ... يُعدِ عليهِن صاحِبُ البلدِ ) ( لم يُعدِني الأحولُ المشومُ وقد ... أبصرَ ما قد صَنَعن في جَسدي ) قال فلما جرى هذا بينه وبينها عقد له في قلبها رقة وكانت تتعرض له إذا مر بها واجتاز يوما بفنائها فلم تتوار عنه وأرته أنها لم تره فلما وقف مليا سترت وجهها بخمارها فقال تويت ( ألا أيها الثارُ الذي ليسَ نائماً ... على تِرةٍ إن مُتَّ من حُبِّها غَدا ) ( خُذُوا بدمي سُعدى فسعدى مَنِيتُها ... غداةَ النَّقا صادتْ فُؤاداً مُقصَّدا ) ( بآيةٍ ما ردَّت غداةَ لقِيتُها ... على طَرفِ عَيْنَيها الرداءَ المورَّدا ) قال ابن شبيب ولقيها راحلة نحو مكة حاجة فأخذ بخطام بعيرها وقال ( قل للتي بكرتْ تريد رَحيلا ... للحجّ إذ وجدتْ إليهِ سبيلا ) ( ما تصنعين بحَجَّةٍ أو عُمْرةٍ ... لا تُقْبَلانِ وقد قَتلتِ قَتيلا ) ( أَحيِي قتيلَكِ ثم حُجّي وانسكي ... فيكون حجُّكِ طاهراً مَقبولا ) فقالت له أرسل الخطام خيبك الله وقبحك فأرسله وسارت هجا زوج سعدى يحيى بن أبي حفصة قال عبد الله بن شبيب ثم تزوجها أبو الجنوب يحيى بن أبي حفصة فحجبها وانقطع ما كان بينها وبين تويت فطفق يهجو يحيى فقال ( عَناءٌ سِيقَ للقلب الطروبِ ... فقد حُجِبتْ معذِّبةُ القُلوبِ ) ( أقول وقد عرفتُ لها محَلاًّ ... ففاضت عبرةُ العينِ السَّكوبِ ) ( ألا يا دارَ سُعدَى كَلِّمِينا ... وما في دار سُعدَى من مُجيبِ ) ( ولما ضمَّها وحوَى عليها ... تركتُ لها بعاقبةٍ نَصيبي ) ( وقلت زِحامُ مثلكِ مثلَ يَحيى ... لعمركِ ليس بالرأي المُصيب ) ( فما لك مثلُ لمَّتهِ تُدرَّى ... ومالك مثلُ بُخل أبي الجنوب ) ( إذا فقد الرغيفَ بكى عليه ... وأتبع ذاك تَشقيقَ الجُيوب ) ( يعذّب أهلَه في القَرْصِ حتى ... يظلوا منهُ في يومٍ عصيب ) وقال أيضا ( ألا في سبيل اللهِ نفسٌ تقسَّمتْ ... شَعاعاً وقلبٌ للحسانِ صديقُ ) ( أفاقت قلوبٌ كُنّ عُذِّبْن بالهوَى ... زماناً وقلبي ما أَراهُ يُفِيقُ ) ( سَرَقْتِ فؤادي ثم لا ترجعينَه ... وبعضُ الغواني للقولب سَروقُ ) ( عَروفُ الهوى بالوعد حتى إذا جرتْ ... ببَيْنِك غِربانٌ لهن نَعينقُ ) ( ورُدَّت جِمالُ الحي وانشقَّتِ العَصا ... وآذنَ بالبين المُشِتِّ صَدوقُ ) ( ندمتِ على ألا تكوني جَزْيتنِي ... زَعمتِ وكلُّ الغانيات مَذُوق ) ( لعلك أن ننأى جميعاً بغُلّة ... تذوقِين من حَرِّ الهوَى وأذوقُ ) ( عصيتُ بكِ الناهين حتى لوَ أنَّني ... أموتُ لما ارعَى عليّ شَفيقُ ) من مختار قوله في سعدى ومن مختار قول تويت في سعدى هذه ما أخذته من رواية عبد الله بن شبيب من قصيدة أولها ( سنرضِي في سُعيدى عاذِليْنَا ... بعاقبة وإن كُرمتْ علَيْنا ) يقول فيها ( لقيتُ سُعَيدَ تمشِي في جَوارٍ ... بجرعاءِ النَّقا فلقيتُ حَيْنَا ) ( سلبنَ القلبَ ثم مضينَ عنَّي ... وقد ناديتُهنَّ فما لَوَيْنا ) ( فقلتُ وقد بَقِيتُ بغير قَلب ... بقلبي يا سُعَيدى أين أيْنا ) ( فما تجزينَ يا سُعدى مُحِبَّا ... يهيم بكم ولا تَقضينَ دَيْنا ) ( فقالوا إذ شكوتَ المطلَ منها ... لعمركَ من سمعتَ له قَضَيْنا ) ( ومَن هذا الذي إن جاء يشكُو ... إلينا الحبَّ من سَقَمٍ شفَيْنا ) ( فهنَّ فواعلٌ بي غيرَ شكٍّ ... كما قبلي فَعلْنَ بصاحِبَيْنَا ) ( بعروةَ والذي بسهامِ هِندٍ ... أُصِيب فما أقدْنَ ولا وَدَيْنَا ) ومن مختار قوله فيها ( سلِ الأطلالَ إن نفع السُّؤَالُ ... وإن لم يربَع الركبُ العِجال ) ( عن الخَوْدِ التي قتلتكَ ظلماً ... وليس بها إذا بَطَشت قِتالُ ) ( أصابك مُقلتانِ لها وجيدٌ ... وأشنبُ باردٌ عذبٌ زُلالُ ) ( أعارَكِ ما تبَلْتِ به فُؤادي ... من العينَين والجيدِ الغَزالُ ) ( ايا ثاراتِ مَن قتلتْه سُعدَى ... دَمِي لا تطلبُوه لها حَلالُ ) ( أرِقُّ لها وأُشفِق بعد قَتلي ... على سُعدى وإن قلَّ النَّوالُ ) ( وما جادتْ لنا يوماً ببذلٍ ... يمينٌ من سُعادَ ولا شِمالٌ ) ومن قوله فيها أيضا ( يا بنت أزهرَ إنّ ثأري طالبٌ ... بدمي غداً والثأرُ أجهدُ طالبِ ) ( فإذا سمعتِ براكبٍ مُتعصِّبٍ ... ينعي قتيلَك فافْزَعِي للراكبِ ) ( فلأَنتِ من بين الأنام رميتِني ... عن قَوس مَتْلَفَةٍ بسهمٍ صائبِ ) ( لا تأمني شُمَّ الأنوفِ وتَرْتهِم ... وتركتِ صاحِبَهم كأمسِ الذاهبِ ) ( من كان أصبحَ غالباً لهوى التي ... يهوَى فإن هواكِ أصبحَ غالِبي ) ( قالت وأسبلتِ الدموع لتِربها ... لما اغتررتُ وأومأتْ بالحاجبِ ) ( قولي له بالله يُطلِقُ رحلَه ... حتى يُزَوَّدَ أو يَروحَ بصاحبِ ) وقال فيها أيضا ( أرَّق العينَ من الشوق السَّهَرْ ... وصبا القلبُ إلى أمِّ عُمَرْ ) ( واعتَرتْني فكرةٌ من حُبِّها ... ويح هذا القلب من طُول الفِكَرْ ) ( قَدَرٌ سِيقَ فمن يَملكه ... أين مَن يملكُ أسبابَ القَدَرْ ) ( كلُّ شيء نالني من حُبّها ... إن نَجتْ نفسي من الموتِ هَدَرْ ) وقال أيضا ( لا لَلرِّجال لِقَلبكِ المتطرِّفِ ... والعينُ إن تَرَ برْقَ نجْدٍ تَذْرِفِ ) ( ولحاجةٍ يومَ العبير تعرَّضَتْ ... كبرتْ فرُدّ رسولُها لم يُسعفِ ) ( يا بنت أزهر ما أراكِ مُثِيبَتِي ... خيراً على وُدِّي لكم وتلطُّفِي ) ( إني وإن خُبِّرتِ أنّ حياتَنا ... في طرف عينك هكذا لم تطرِف ) ( ويظلُّ قَلبِي من مخافة بِيْنِكمْ ... مثلَ الجناح معلَّقا في نَفْنَفِ ) ( وليَظلّ في هَجر الأحبَّة طالِباً ... لرضاكِ مما جار إن لم تُسعفِ ) ( كأخي الصَلاة يَغُرُّه من مائِها ... قِطعُ السرابِ جَرَى بقاعٍ صَفْصَفِ ) ( أَهراقَ نُطفتَه فلما جاءها ... وجدَ الْمَنِيَّةَ عندَها لم تُخلِفِ ) صوت ( أمِنتَ بإِذن الله من كلِّ حادثٍ ... بقربِكَ من خير الورى يابنَ حارث ) ( إمامٌ حوى إرثَ النبي محمدٍ ... فأكرِمْ به من إبنِ عّمٍّ وَوارث ) الشعر والغناء لمحمد بن الحارث بن بسخنر خفيف رمل بالبنصر مطلق من جامع أغانيه وعن الهشامي أخبار محمد بن الحارث مولى المنصور وأصله من الري من أولاد المرازبه وكان الحارث بن بسخنر أبوه رفيع القدر عند السلطان ومن وجوه قواده وولاه الهادي ويقال الرشيد الحرب والخراج بكور الأهواز كلها فأخبرني حبيب المهلبي قال حدثني النوفلي عن محمد بن الحارث بن بسخنر قال كنت بالدير وكان رجل من أهلها يعرض علي الحوائج ويخدمني فيكرمني ويذكر قديمنا ويترحم على أبي فقال لي رجل من أهل تلك الناحية أتعرف سبب شكر هذا لأبيك قلت لا قال فإن أباه حدثني وكان يعرف بابن بانة بأن أباك الحارث بن بسخنّر اجتاز بهم يريد الأهواز فتلقاه بدجلة العوراء وأهدى له صقورا وبواشق صائدة فقال له الحق بي بالأهواز فقال له يوما إني نظرت في أمور الأعمال بالأهواز فلم أجد شيئا منها يرتفق منه بما قدرت أن أبرك به وقد ساومني التجار بالأهواز بالأرز وقد جعلته لك بالسعر الذي بذلوه وسيأتونني فأعلمهم بذلك فقلت نعم فجاؤوا وخلصوه منه بأربعين ألف دينار فصرت إلى الحارث فأعلمته فقال لي أرضيت بذلك فقلت نعم قال فانصرف ولما قفل الحارث من الأهواز مر بالمدائن فلقيه الحسين بن محرز المدائني المغني فغناه ( قد علِم اللُه علا عرشُه ... أَنَّى إلى الحارث مُشتاقُ ) فقال له دعني من شوقك إلي وسلني حاجة فإني مبادر فقال له علي دين مائة ألف درهم فقال هي علي وأمر له بها وأصعد سار على منهاج إبراهيم بن المهدي وكان محمد بن الحارث من أصحاب إبراهيم بن المهدي والمتعصبين له على إسحاق وعن إبراهيم بن المهدي أخذ الغناء ومن بحره استقى وعلى منهاجه جرى أخبرني عيسى بن الحسين الوراق عن محمد بن هارون الهاشمي عن هبة الله بن إبراهيم بن المهدي قال كان المأمون قد ألزم أبي رجلا ينقل إليه كل ما يسمعه من لفظ جدا وهزلا شعرا وغناء ثم لم يثق به فألزمه مكانه محمد بن الحارث بن بسخنر فقال له أيها الأمير قل ما شئت واصنع ما أحببت فوالله لا بلغت عنك أبدا إلا ما تحب وطالت صحبته له حتى أمنه وأنس به وكان محمد يغني بالمعزفة فنقله أبي إلى العود وواظب عليه حتى حذقه ثم قال له محمد بن الحارث يوما أنا عبدك وخريجك وصنيعتك فاخصصني بأن أروي عنك صنعتك ففعل وألقى عليه غناءه أجمع فأخذه عنه فما ذهب عليه شيء منه ولا شذ وقال العتابي حدثني محمد بن أحمد بن المكي قال حدثني أبي قال كان محمد بن الحارث قليل الصنعة وسمعته يغني الواثق في صنعته في شعر له مدحه به وهو ( أَمِنتَ بإِذنِ الله من كلِّ حادثٍ ... بقربك من خير الورى يابنَ حارثِ ) فأمر له بألفي دينار وذكر علي بن محمد الهشامي عن حمدون بن إسماعيل قال كان محمد بن الحارث قد صنع هزجا في هذا الشعر صوت ( أصبحتُ عبداً مُستَرقاً ... أبكِي الأُلى سكنُوا دِمَشْقا ) ( أعطيتُهم قلبي فَمَنْ ... يَبْقى بلا قلبٍ فأَبقَى ) وطرحه على المسدود فغناه فاسحتسنه محمد بن الحارث منه لطيب مسموع المسدود ثم قال يا مسدود أتحب أن أهبه لك قال نعم قال قد فعلت فكان يغنيه ويدعيه وهو لمحمد بن الحارث من ألحانه العشرة وقال العتابي حدثني شروين المغني المدادي أن صنعة محمد بن الحارث بلغت عشرة أصوات وأنه أخذها كلها عنه وأن منها في طريقه الرمل قال هو أحسن ما صنعه صوت ( أَيا من دَعاني فلَبّيتُه ... ببذْل الهوى وهو لا يَبذُلُ ) ( يُدِلُّ عليَّ بِحُبِّي له ... فمن ذاك يفعَلُ ما يفعَلُ ) لحن محمد بن الحارث في هذا الصوت رمل مطلق وفيه ليزيد حوراء ثقيل أول وفيه لسليم لحن وجدته في جميع أغانيه غير مجنس أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو توبة صالح بن محمد عن عمرو بن بانة قال كنت عند محمد بن الحارث بن بسخنر في منزله ونحن مصطبحون في يوم غيم فبينا نحن كذلك إذ جاءتنا رقعة عبد الله بن العباس الربيعي وقد اجتاز بنا مصعدا إلى سر من رأى وهو في سفينة ففضها محمد وقرأها وإذا فيها ( محمدُ قد جادتْ علينا بوَدْقِها ... سَحائبُ مُزنٍ برقُها يتهلَّلُ ) ( ونحنُ من القاطول في شبه مَرْبع ... له مسرحٌ سَهلُ المحلَّة مُبْقِلُ ) ( فَمُرْ فائزاً تَفديك نفسي يُغَنِّنِي ... أَعَنْ ظُعُنِ الحيّ الالَى كنتَ تسألُ ) ( ولا تسقِني إلا حلالاً فإنّني ... أعافُ من الأشياء مالا يُحَلَّلُ ) فقام محمد بن الحارث مستعجلا حافيا حتى نزل إليه فتلقاه وحلف عليه حتى خرج معه وسار به إلى منزله فاصطبحا يومئذ وغناه فائز غلامه هذا الصوت وكان صوته عليه وغناه محمد بن الحارث وجواريه وكل من حضر يومئذ وغنانا عبد الله بن العباس الربيعي أيضا أصواتا وصنع يومئذ هذا الهزج فقال ( يا طيبَ يَوْمِي بالمَطيرة مُعمِلاً ... للكأس عندَ محمدِ بنِ الحارث ) ( في فِتيةٍ لا يسمعونَ لعاذلٍ ... قولاً ولا لمسوِّفٍ أو رائِثِ ) حدثني وسواسه قال حدثني حماد بن إسحاق قال كان أبي يستحسن غناء جواري الحارث بن بسخنر ويعتمد على تعليمهن لجواريه وكان إذا اضطرب على واحدة منهن أو على غيرهن صوت أو وقع فيه اختلاف اعتمد على الرجوع فيه إليهن ولقد غنى مخارق يوما بين يديه صوتا فتزايد فيه الزوائد التي كان يستعملها حتى اضطرب فضحك أبي وقال يا أبا المهنأ قد ساء بعدي أدبك في غنائك فالزم عجائز الحارث بن بسخنر يقومن أوَدَك صوت ( بنانُ يدٍ تُشير إلى بَنانِ ... تَجاوبتَا وما يتكلمّانِ ) ( جرى الإِيماءُ بينَهما رَسولاً ... فأحكم وحْيَهُ المتناجيانِ ) ( فلو أبصرتَه لغضضْتَ طَرْفاً ... عن المُتناجِيَيْن بلا لسانِ ) الشعر لماني الموسوس والغناء لعمر الميداني هزج وفيه لعريب لحن من الهزج أيضا أخبار ماني الموسوس هو رجل من أهل مصر يكنى أبا الحسن وأسمه محمد بن القاسم شاعر لين الشعر رقيقه لم يقل شيئا إلا في الغزل وماني لقب غلب عليه وكان قدم مدينة السلام ولقيه جماعة من شيوخنا منهم أبو العباس محمد بن عمار وأبو الحسن الأسدي وغيرهما فحدثني أبو العباس بن عمار قال أنشد للعريان البصري كان ماني يألفني وكان مليح الإنشاد حلوه رقيق الشعر غزله فكان ينشدني الشيء ثم يخالط فيقطعه وكان يوما جالسا إلى جنبي فأنشدني للعريان البصري ( ما أنصفْتك العُيونُ لم تَكِفِ ... وقد رأيتَ الحبيبَ لم يَقفِ ) ( فابكِ دياراً حَلَّ الحبيبُ بها ... فَبَاعَ منْها الجفَاءَ باللَّطَفِ ) ( ثم استعارتْ مسامعاً كَسد اللومُ ... عليها من عاشِقٍ كَلِفِ ) ( كأنها إذْ تقنَّعَتْ بِبِلًى ... شَمطاءُ ما تستقلُّ من خَرَفِ ) ( يا عينُ إِمّا أَريْتنِي سَكَناً ... غضبانَ يَزوِي بوجهِ مُنْصرِفِ ) ( فمثِّلِيه للقلبِ مُبتسماً ... في شَخص راضٍ عليَّ مُنعطِفِ ) ( إِن تَصفيه للقلب مُنقَبضاً ... فأنتِ أَشقَى منه به فَصِفِي ) ( يُقال بالصّبرِ قتلُ ذي كلَفٍ ... كيف وصبري يموت من كَلَفي ) ( إِذا دعا الشوقُ عَبرةً لِهوًى ... فأيّ جَفْنٍ يقول لا تَكِفِي ) ( ومُسترادٍ لِلَّهْوِ تنفسح ... الْمُقْلَةُ في حافتيه مؤتَلفِ ) ( قَصَرْتُ أَيامَه على نَفَرٍ ... لا مُنُنٍ بالنَّدى ولا أَسُفِ ) ( بحيث إِن شئتَ أن ترى قمراً ... يسعى عليهم بالكأسِ ذا نُطَفِ ) معارضته للعريان قال فسألته أن يمليها علي ففعل ثم قال اكتب فعارضه أبو الحسن المصري يعني ماني نفسه فقال ( أقفرَ مَغْنى الديار بالنَّجَفِ ... وحُلْت عما عهدتُ من لَطَفِ ) ( طويتُ عنها الرضا مذمّمةً ... لمّا انطوى غضُّ عيشِها الأُنُفِ ) ( حَللتُ عن سَكرة الصَّبابة من ... خوفِ إلهي بمعزِلٍ قُذُفِ ) ( سَئِمتُ وِرْدَ الصِّبا فقد يَئستْ ... مني بناتُ الخدور والخَزَفِ ) ( سلوتُ عن نُهَّدٍ نُسِبْن إلى ... حسنِ قَوامٍ واللحظ في وَطَفِ ) ( يمددنَ حَبل الصِّبا لمن أَلِفَتْ ... رجلاه قِدِّ المُحول والدَّنَفِ ) ( ومُدنَفٍ عادَ في النحول من الوَجد ... إلى مثلِ رقَّة الألِفِ ) ( يشاركُ الطيرَ في النّحيب ولا ... يَشركَنه في النُّحول والْقَضَفِ ) ( ومُسمِعاتٍ نَهكْنَ أعظُمَهُ ... فهو من الضيم غيرُ منتَصِفِ ) ( مفتخراتٍ بالجَوْر عُجْباً كما ... يفخر أهلُ السّفاه بالجَنَفِ ) ( وقهوةٍ من نِتاج قُطْرَبُّلٍ ... تخطَف عقلَ الفتى بلا عُنُفِ ) ( ترجِعُ شَرخَ الشباب للخَرِفِ ... الفَاني وتُدنى الفتى من الشغف ) قال فبينا هو ينشد إذ نظر إلى إمام المسجد الذي كنا بإزائه قد صعد المئذنة ليؤذن فأمسك عن الإنشاد ونظر إليه وكان شيخا ضعيف الجسم والصوت فأذن أذانا ضعيفاً بصوت مرتعش فصعد إليه ماني مسرعا حتى صار معه في رأس الصومعة ثم أخذ بلحيته فصفعه في صلعته صفعة ظننت أنه قد قلع رأسه وجاء لها صوت منكر شديد ثم قال له إذا صعدت المنارة لتؤذن فعطعط ولا تمطمط ثم نزل ومضى يعدو على وجهه ولقيت عنتا من عتب الشيخ وشكواه إياي إلى أبي ومشايخ الجيران يقول لهم هذا ابن عمار يجيء بالمجانين فيكتب هذيانهم ويسلطهم على المشايخ فيصفعونهم في الصوامع إذا أذنوا حتى صرت إلى منزله فاعتذرت وحلفت أني إنما أكتب شيئا من شعره وما عرفت ما عمله ولا أحيط به علما منوسة الجارية تغني وهو يضيف ونسخت من كتاب لإبن البراء حدثني أبي قال عزم محمد بن عبد الله بن طاهر على الصبوح وعنده الحسن بن محمد بن طالوت فقال له محمد كنا نحتاج أن يكون معنا ثالث نأنس به ونلذ في مجاورته فمن ترى أن يكون فقال ابن طالوت لقد خطر ببالي رجل ليس علينا في منادمته ثقل قد خلا من إبرام المجالسين وبرئ من ثقل المؤانسين خفيف الوطأة إذا أدنيته سريع الوثبة إذا أمرته قال من هو قال ماني الموسوس قال ما أسأت الإختيار ثم تقدم إلى صاحب الشرطة بطلبه وإحضاره فما كان بأسرع من أن قبض عليه صاحب الشرطة بربع الكرخ فوافى به باب محمد بن عبد الله فأدخل ونظف وأخذ من شعره وألبس ثيابا نظافا وأدخل على محمد بن عبد الله فلما مثل بين يديه سلم فرد عليه وقال له أما حان لك أن تزورنا مع شوقنا إليك فقال له ماني أعز الله الأمير الشوق شديد والود عتيد والحجاب صعب والبواب فظ ولو تسهل لنا الإذن لسهلت علينا الزيارة فقال له محمد لقد لطفت في الإستئذان وأمره بالجلوس فجلس وقد كان أطعم قبل أن يدخل فأتى محمد بن عبد الله بجارية لأحدى بنات المهدي يقال لها منوسة وكان يحب السماع منها وكانت تكثر أن تكون عنده فكان أول ما غنته ( ولستُ بناسٍ إذ غدوا فتحمَّلوا ... دُموعي على الخدَّينِ من شدّة الوجْدِ ) ( وقولي وقد زالتْ بعيني حُمولُهمْ ... بواكرُ تُحدَى لا يكنْ آخرَ العهدِ ) فقال ماني أيأذن لي الأمير قال في ماذا قال في أستحسان ما أسمع قال نعم قال أحسنت والله فإن رأيت أن تزيدي مع هذا الشعر هذين البيتين ( وقمتُ أدراي الدمعَ والقلبُ حائرٌ ... بمقلةِ موقوفٍ على الضَّرِّ والجَهْدِ ) ( ولم يُعِدني هذا الأميرُ بعدْله ... على ظالمٍ قد لجَّ في الهَجر والصَّدِّ ) فقال له محمد ومن أي شيء استعديت يا ماني فاستحيا وقال لا من ظلم أيها الأمير ولكن الطرب حرك شوقا كان كامنا فظهر ثم غنت ( حَجبوها عن الرياح لأَني ... قلت يا ريحُ بلِّغيها السّلامَا ) ( لو رضُوا بالحجاب هان ولكنْ ... منعوها يوم الرياحِ الكَلامَا ) قال فطرب محمد ودعا برطل فشربه فقال ماني ما كان على قائل هذين البيتين لو أضاف إليهما هذين البيتين ( فتنفَّست ثم قلتُ لطَيفي ... ويكَ إن زُرتَ طيفَها إِلماما ) ( حَيِّها بالسلام سرًّا وإلاّ ... منعوها لشِقْوَتي أن تَناما ) فقال محمد أحسنت يا ماني ثم غنت ( يا خليليَّ ساعةً لا تَرِيما ... وعَلى ذي صبابةٍ فأَقيما ) ( ما مررْنا بقصرِ زينَبَ إلا ... فضح الدمعُ سِرَّكَ المكتُوما ) قال ماني لولا رهبة الأمير لأضفت إلى هذين البيتين بيتين لا يردان على سمع سامع ذي لب فيصدران إلا عن استحسان لهما فقال محمد الرغبة في حسن ما تأتي به حائلة عن كل رهبة فهات ما عندك فقال ( ظَبيةٌ كالهلال لو تلحظ الصخْرَ ... بطَرفٍ لغادَرتْه هَشيما ) ( وإذا ما تبسّمتْ خِلتَ ما يبدوُ ... من الثَّغر لؤلؤاً مَنظوما ) فقال محمد إن أحسن الشعر ما دام الإنسان يشرب ما كان مكسوا لحنا حسنا تغني به منوسة وأشباهها فإن كسيت شعرك من الألحان مثل ما غنت قبله طاب فقال ذلك إليها فقال له ابن طالوت يا أبا الحسين كيف هي عندك في حسنها وجمالها وغنائها وأدبها قال هي غاية ينتهي إليها الوصف ثم يقف قال قل في ذلك شعرا فقال ( وكيفَ صبرُ النفس عن غادةٍ ... تَظلمُها إن قلتَ طاووسَهْ ) ( وجُرتَ إن شبّهتَها بانةً ... في جنَّةِ الفردوس مَغروسَهْ ) ( وغيرُ عدْلٍ إن عَدَلْنا بها ... لؤلؤةً في البحْر مَنْفُوسهْ ) ( جلَّتْ عن الوصفِ فما فِكرةٌ ... تلحَقُها بالنعتِ مَحسوسَهْ ) فقال له ابن طالوت وجب شكرك يا ماني فساعدك دهرك وعطف عليك إلفك ونلت سرورك وفارقت محذورك والله يديم لنا ولك بقاء من ببقائه اجتمع شملنا وطاب يومنا فقال ماني ( مُدْمِنُ التخفيف مَوصولُ ... ومُطِيل اللَّبثُ مَمْلولُ ) فأنا أستودعكم الله ثم قام فانصرف فأمر له محمد بن عبد الله بصلة ثم كان كثيرا ما يبعث يطلبه إذا شرب فيبره ويصله ويقيم عنده تشبيبه بغلام أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني المبرد قال حدثني بعض الكتاب ممن كان ماني يلزمه ويكثر عنده قال لقيني يوما ماني بعد انقطاع طويل عني فقال ما قطعني عنك إلا أني هائم قلت بمن قال بمن إن شئت أن تراه الساعة رأيته فعذرتني قلت فأنا معك فمضى حتى وافى باب الطاق فأراني غلاما جميل الوجه بين يدي بزاز في حانوته فلما رآه الغلام عدا فدخل الحانوت ووقف ماني طويلا ينتظره فلم يخرج فأنشأ يقول ( ذَنبي إليه خضوعي حين أُبْصِرُه ... وطولُ شوقي إليه حينَ أذكُرُه ) ( وما جرحْتُ بطرف العَين مُهجَتَه ... إِلا ومن كَبدي يقتصُّ مَحجرُه ) ( نفسِي على بُخله تَفديه من قَمرٍ ... وإن رماني بذنبٍ ليسَ يغفِرُه ) ( وعاذلٍ باصطبارِ القلبِ يأمرُني ... فقلتُ من أينَ لي قلبٌ أُصَبِّرُه ) ومضى يعدو ويصيح الموت مخبوء في الكتب صوت ( وشادنٍ قلبي به مَعمودُ ... شيمتُه الهِجرانُ والصُّدودُ ) ( لا أسأمُ الحِرص ولا يجودُ ... والصبرُ عن رُؤيته مفقودُ ) ( زُنّارُه في خَصرِه مَعقودُ ... كأنه من كَبِدي مَقدودُ ) عروضه من - الرجز - والشعر لبكر بن خارجة والغناء للقاسم بن زرزور خفيف رمل بالوسطى أخبار بكر بن خارجة حرفته كان بكر بن خارجة رجلا من أهل الكوفة مولى لبني أسد وكان وراقا ضيق العيش مقتصرا على التكسب من الوراقة وصرف أكثر ما يكسبه إلى النبيذ وكان معاقرا للشرب في منازل الخمارين وحاناتهم وكان طيب الشعر مليجاً مطبوعا طبعا ماجنا فذكر أبو العنبس الصيمري أن محمد بن الحجاج حدثه قال رأيت بكر بن خارجة يبكر في كل يوم بقنينتين من شراب إلى خراب من خرابات الحيرة فلا يزال يشربه فيه على صوت هدهد كان يأوي إلى ذلك الخراب إلى أن يسكر ثم ينصرف قال وكان يتعشق ذلك الهدهد وحدثني عمي عن ابن مهرويه عن علي بن عبد الله بن سعد قال كان بكر بن خارجة يتعشق غلاما نصرانيا يقال له عيسى بن البراء العبادي الصيرفي وله فيه قصيدة مزدوجة يذكر فيها النصارى وشرائعهم وأعيادهم ويسمي دياراتهم ويفضلهم قال وحدثني من شهد دعبلا وقد أنشدني قوله في عيسى بن البراء النصراني العبادي ( زُنّارُه في خَصره معقودُ ... كأنه من كبدِي مقدودُ ) فقال دعبل ما يعلم الله أني حسدت أحدا قط كما حسدت بكرا على هذين البيتين يبكي ويتحسر على الخمر المصبوبة في الطرق وحدثني عمي عن الكراني قال حرم بعض الأمراء بالكوفة بيع الخمر على خماري الحيرة وركب فكسر نبيذهم فجاء بكر يشرب عندهم على عادته فرأى الخمر مصبوبة في الرحاب والطرق فبكى طويلا وقال ( يا لقَومي لِما جنَى السلطانُ ... لا يكوننْ لما أهانَ الهوانُ ) ( قهوةٌ في التراب من حَلَب الكَرْمِ ... عُقَاراً كأنَّها الزعفرانُ ) ( قهوة من مكان سَوء لقد صادف ... سعدَ السعود ذاكَ المكانُ ) ( من كُميتٍ يُبدي المِزاجُ لها ... لؤلؤَ نظمٍ والفصلُ منها جُمَانُ ) ( فإذا ما اصطبحتُها صغُرت في ... القَدْر تختالُها هي الجرذانُ ) ( كيفَ صبري عن بعضِ نفسي وهل يصْبرُ ... عن بعض نفسِه الإِنسانُ ) قال فأنشدتها الجاحظ فقال إن من حق الفتوة أن أكتب هذه الأبيات قائما وما أقدر على ذلك إلا أن تعمدني وقد كان تقوس فعمدته فقام فكتبها قائما وقال محمد بن داود بن الجراح في كتاب الشعراء قال لي محمد بن الحجاج كانت الخمر قد أفسدت عقل بكر بن خارجة في آخر عمره وكان يمدح ويهجو بدرهم وبدرهمين ونحو هذا فاطرح وما رأيت قط أحفظ منه لكل شيء حسن ولا أروى منه للشعر قال وأنشدني بعض أصحابنا له في حال فساد عقله ( هبْ لي فديتُك دِرهماً ... أو دِرهمَينِ إِلى الثّلاثَهْ ) ( إني أحبُّ بني الطفيل ... ولا أحبُّ بَنِي عُلاثَهْ ) قال ابن الجراح حدثني محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني بعض أصحابنا الكوفيين قال حضرنا دعوة ليحيى بن أبي يوسف القاضي وبتنا عنده فنمت فما أنبهني إلا صياح بكر يستغيث من العطش فقلت له مالك فاشرب فالدار مليئة ماء قال أخاف قلت من أي شيء قال في الدار كلب كبير فأخاف أن يظنني غزالا فيثب علي ويقطعني ويأكلني فقلت له ويحك يا بكر فالحمير أشبه منك بالغزال قم فاشرب إن كنت عطشان وأنت آمن وكان عقله قد فسد من كثرة الشراب قال وأنشدني له وقد رأى صديقا له قرأ رقعة من صديق له آخر ثم حرقها ( لم يقو عندي على تحريق قرطاسي ... إِلا امرؤ قلبه من صخرة قاسي ) ( إن القراطيس من قلبي بمنزلة ... تحويه كالسمع والعينين في الرأس ) ومما يغنى فيه من شعر بكر بن خارجة صوت ( قلبي إلى ما ضرَّني داعي ... يُكْثِر أَحزاني وأوجاعي ) ( لقَلّ ما أبقَى على ما أرى ... يوشك أن ينعَانِيَ الناعي ) ( كيفَ احتراسي من عدوِّي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي ) ( أسلمني الحبُّ وأشياعي ... لمَّا سعى بي عندها الساعي ) ( لمَّا دعاني حبُّها دعوةً ... قلت له لبَّيْك من دَاعِ ) الغناء لإبراهيم بن المهدي ثقيل أول وفيه لعبد الله بن العباس هزج جميعا عن الهشامي وقيل إن فيه لحنا لإبن جامع وقد ذكر الصولي في أخبار العباس بن الأحنف وشعره أن هذه الأبيات للعباس بن الأحنف وذكر محمد بن داود بن الجراح عن أبي هفان أنها لبكر بن خارجة صوت ( وَيلي على ساكن شَطَّ الصَّراهْ ... من وجنتيه شِمتُ برْقَ الحياه ) ( ما ينقضي من عجب فِكْرتي ... في خَصلة فرّط فيها الوُلاهْ ) ( تركُ المحبينَ بلا حاكمٍ ... لم يُقعدوا للعاشقين القُضاهْ ) الشعر لإسماعيل القراطيسي والغناء لعباس بن مقام خفيف رمل بالوسطى أخبار إسماعيل القراطيسي بيته ملتقى العابثين هو إسماعيل بن معمر الكوفي مولى الأشاعثة وكان مألفا للشعراء فكان أبو نواس وأبو العتاهية ومسلم وطبقتهم يقصدون منزله ويجتمعون عنده ويقصفون ويدعو لهم القيان وغيرهن من الغلمان ويساعدهم وإياه يعني أبو العتاهية بقوله ( لقد أمسَى القراطِيسي ... رئيساً في الكَشاخين ) وفي هذه الأبيات التي فيها الغناء يقول القراطيسي ( وقد أتاني خبرٌ ساءني ... مقالها في السر واسَوْأتاهْ ) ( أمثلَ هذا يبتغِي وصلَنا ... أما يَرى ذا وجهَه في المِراهْ ) أخبرني ابن عمار عن ابن مهرويه عن علي بن عمران قال قال القراطيسي قلت للعباس بن الأحنف هل قلت في معنى قولي ( وقد أتاني خبرٌ ساءَني ... مقالها في السرّ واستوأتاه ) قال نعم وأنشدني ( جارية أعجبَها حسنُها ... فمثلُها في الناس لم يُخْلَقِ ) ( خبَّرتُها أَنّي مُحِبٌّ لَها ... فأقبلتْ تضحكُ من منطقي ) ( والتفتتْ نحو فتاةٍ لها ... كالرشأ الوَسنانِ في قُرطُقِِ ) ( قالتْ لها قُولِي لهذا الفَتَى ... انظرْ إلى وجهكَ ثم أعشَقِ ) أخبرني الحسن بن مهرويه قال حدثني أحمد بن بشر المرثدي قال مدح إسماعيل القراطيسي الفضل بن الربيع فحرمه فقال ( ألا قلْ للّذي لم يَهده ... اللَّهُ إلى نفعِ ) ( لئن أخطأتُ في مدحيكَ ... ما أخْطأتَ في منعي ) ( لقد أَحلَلْتُ حاجاتي ... بوادٍ غير ذي زَرْع ) أخبرني محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد عن أبي هفان عن الجماز قال اجتمع يوما أبو نواس وحسين الخليع وأبو العتاهية في الحمام وهم مخمورون فقالوا أين نجتمع فقال القراطيسي ( ألاَ قوموا بأَجمعكم ... إِلى بيتِ القَراطيسي ) ( لقد هيَّا لنا النزْلَ ... غلامٌ فارهٌ طُوسي ) ( وقد هيّا الزُّجاجاتِ ... لنا من أرضِ بِلْقيس ) ( وألواناً من الطيْرِ ... وألواناً منَ العِيس ) ( وقيناتٍ من الحُور ... كأمثالِ الطواويس ) ( فنيكوهُنَّ في ذاكم ... وفي طاعة إبليس ) صوت ( أبكي إذا غضبتْ حتى إذا رضيَتْ ... بكيتُ عند الرضا خوفاً من الغَضَبِ ) ( فالويلُ إن رضِيتْ والعوْلُ إِن غَضِبَتْ ... إن لم يتمَّ الرضا فالقلب في تَعَب ) الشعر لأبي العبر الهاشمي أنشدنيه الأخفش وغيره من أصحابنا وذكره له محمد بن داود بن الجراح والغناء لعلية بنت المهدي ثاني ثقيل بالوسطى عن الهشامي أخبار أبي العبر ونسبه هو أبو العباس محمد بن أحمد ويلقب حمدونا الحامض بن عبد الله بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب وكان صالح الشعر مطبوعا يقول الشعر المستوي في أول عمره منذ أيام الأمين وهو غلام إلى أن ولي المتوكل الخلافة فترك الجد وعاد إلى الحمق والشهرة به وقد نيف على الخمسين ورأى أن شعره مع توسطه لا ينفق مع مشاهدته أبا تمام الطائي والبحتري وأبا السمط بن أبي حفصة ونظراءهم كسب بالحمق أضعاف ما كسبه شعراء الجد حدثني عم أبي عبد العزيز بن أحمد قال سمعت حمدون الحامض يذكر أن ابنه أبا العبر ولد بعد خمس سنين خلت من خلافة الرشيد قال وعمر إلى خلافة المتوكل وكسب بالحمق أضعاف ما كسبه كل شاعر كان في عصره بالجد ونفق نفاقا عظيما وكسب في أيام المتوكل مالا جليلا وله فيه أشعار حميدة يمدحه بها ويصف قصره وبرج الحمام والبركة كثيرة المحال مفرطة السقوط لا معنى لذكرها سيما وقد شهرت في الناس فحدثني محمد بن أبي الأزهر قال حدثني الزبير بن بكار قال قال لي عمي ويحك ألا يأنف الخليفة لإبن عمه هذا الجاهل مما قد شهر به نفسه وفضح عشيرته والله إنه لعر بني آدم جميعا فضلا عن أهله والأدنين أفلا يردعه ويمنعه من سوء اختياره فقلت إنه ليس بجاهل كما تعتقد وإنما يتجاهل وإن له لأدبا صالحا وشعرا طيبا ثم أنشدته ( لا أقول اللهُ يَظلِمني ... كيف أشكو غيرَ مُتَّهمِ ) ( وإذا ما الدّهرُ ضَعْضعني ... لم تجِدْني كافرَ النِّعم ) ( قنعتْ نفسي بما رُزِقَتْ ... وتناهَتْ في العلا هِمَمي ) ( لَيس لي مالٌ سوى كرمي ... وبه أَمْنِي من العَدَمِ ) فقال لي ويحك فلم لا يلزم هذا وشبهه فقلت له والله يا عم لو رأيت ما يصل إليه بهذه الحماقات لعذرته فإن ما استملحت له لم ينفق به فقال عمي وقد غضب أنا لا أعذره في هذا ولو حاز به الدنيا بأسرها لا عذرني الله إن عذرته إذن وحدثني مدرك بن محمد الشيباني قال حدثني أبو العنبس الصيمري قال قلت لأبي العبر ونحن في دار المتوكل ويحك أيش يحملك على هذا السخف الذي قد ملأت به الأرض خطبا وشعرا وأنت أديب ظريف مليح الشعر فقال لي يا كشخان أتريد أن أكسد أنا وتنفق أنت أنت أيضا شاعر فهم متكلم فلم تركت العلم وصنعت في الرقاعة نيفا وثلاثين كتابا أحب أن تخبرني لو نفق العقل أكنت تقدم علي البحتري وقد قال في الخليفة بالأمس ( عن أي ثَغرٍ تبْتسم ... وبأيّ طَرف تَحْتكم ) فلما خرجت أنت عليه وقلت ( في أي سَلْح تَرتطِمْ ... وبأي كف تلتطم ) ( أدخلتَ رأسَكَ في الرَّحِم ... وعلمتَ أنك تَنْهزِم ) فأعطيت الجائزة وحرم وقربت وأبعد في حر أمك وحر أم كل عاقل معك فتركته وانصرفت قال مدرك ثم قال لي أبو العنبس قد بلغني أنك تقول الشعر فإن قدرت أن تقوله جيدا جيدا وإلا فليكن بارداً بارداً مثل شعر أبي العبر وإياك والفاتر فإنه صفع كله له مذهبان متناقضان حدثني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو العيناء قال أنشدت أبا العبر ( ما الحبُّ إِلا قُبلَة ... أو غمزُ كفٍّ وعَضُدْ ) ( أو كتُبٌ فيها رُقًى ... أَنفذُ من نَفْث العُقَدْ ) ( مَن لم يكن ذا حُبَّه ... فإِنما يبغِي الولَدْ ) ( ما الحبُّ إِلا هكذا ... إِن نُكِح الحبُّ فسَدْ ) فقال لي كذب المأبون وأكل من خراي رطلين وربعا بالميزان فقد أخطأ وأساء ألا قال كما قلت ( باضَ الحبُّ في قلْبي ... فواويلي إذا فَرَّخْ ) ( وما ينفعُني حُبّي ... إِذا لم أَكنس البرْبَخْ ) ( وإِن لم يطرح الأصلَعُ ... خُرجيه عَلَى المَطْبخْ ) ثم قال كيف ترى قلت عجبا من العجب قال ظننت أنك تقول لا فأبل يدي وأرفعها ثم سكت فبادرت وانصرفت خوفا من شره حدثني عبد العزيز بن أحمد عم أبي قال كان أبو العبر يجلس بسر من رأى في مجلس يجتمع عليه فيه المجان يكتبون عنه فكان يجلس على سلم وبين يديه بلاعة فيها ماء وحمأة وقد سد مجراها وبين يديه قصبة طويلة وعلى رأسه خف وفي رجليه قلنسيتان ومستمليه في جوف بئر وحوله ثلاثة نفر يدقون بالهواوين حتى تكثر الجلبة ويقل السماع ويصيح مستمليه من جوف البئر من يكتب عذبك الله ثم يملي عليهم فإن ضحك أحد ممن حضر قاموا فصبوا على رأسه من ماء البلاعة إن كان وضيعا وإن كان ذا مروءة رشش عليه بالقصبة من مائها ثم يحبس في الكنيف إلى أن ينفض المجلس ولا يخرج منه حتى يغرم درهمين قال وكانت كنيته أبا العباس فصيرها أبا العبر ثم كان يزيد فيها في كل سنة حرفا حتى مات وهي أبو العبر طرد طيل طليري بك بك بك حدثني جحظة قال رأيت أبا العبر بسر من رأى وكان أبوه شيخا صالحا وكان لا يكلمه فقال له بعض إخوانه لم هجرت إبنك قال فضحني كما تعلمون بما يفعله بنفسه ثم لا يرضى بذلك حتى يهجنني ويؤذيني ويضحك الناس مني فقالوا له وأي شيء من ذاك وبماذا هجنك قال اجتاز علي منذ أيام ومعه سلم فقلت له ولأي شيء هذا معك فقال لا أقول لك فأخجلني وأضحك بي كل من كان عندي فلما أن كان بعد أيام اجتاز بي ومعه سمكة فقلت له أيش تعمل بهذه فقال أنيكها فحلفت لا أكلمه أبدا مذهبه في الكتابة وفي الصيد أخبرني عم أبي عبد العزيز قال سمعت رجلا سأل أبا العبر عن هذه المحالات التي لا يتكلم بها أي شيء أصلها قال أبكر فأجلس على الجسر ومعي دواة ودرج فأكتب كل شيء أسمعه من كلام الذاهب والجائي والملاحين والمكارين حتى أملأ الدرج من الوجهين ثم أقطعه عرضا وطولا وألصقه مخالفا فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه أخبرني عمي قال رأيت أبا العبر واقفاً على بعض آجام سر من رأى وبيده اليسرى قوس جلاهق وعلى يده اليمنى باشق وعلى رأسه قطعة رثة في حبل مشدود بأنشوطة وهو عريان في أيره شعر مفتول مشدود فيه شص قد ألقاه في الماء للسمك وعلى شفته دوشاب ملطخ فقلت له خرب بيتك أيش هذا العمل فقال أصطاد ياكشخان يا أحمق بجميع جوارحي إذا مر بي طائر رميته عن القوس وإن سقط قريبا مني أرسلت إليه الباشق والرئة التي على رأسي يجيء الحدأ ليأخذها فيقع في الوهق والدوشاب أصطاد به الذباب وأجعله في الشص فيطلبه السمك ويقع فيه والشص في أيري فإذا مرت به السمكة أحسست بها فأخرجتها قال وكان المتوكل يرمي به في المنجنيق إلى الماء وعليه قميص حرير فإذا علا في الهواء صاح الطريق الطريق ثم يقع في الماء فتخرجه السباح قال وكان المتوكل يجلسه على الزلاقة فينحدر فيها حتى يقع في البركة ثم يطرح الشبكة فيخرجه كما يخرج السمك ففي ذلك يقول في بعض حماقاته ( ويأمر بي المَلِكْ ... فيطرحُني في البِرَكْ ) ( ويصطادُني بالشّبكْ ... كأني من السّمكْ ) ( ويضحك كك كك ككك ... ككك كك ككك كك ككك ) عبثه مع إسحاق بن إبراهيم وحدثني جعفر بن قدامة قال قدم أبو العبر بغداد في أيام المستعين وجلس للناس فبعث إسحاق بن إبراهيم فأخذه وحبسه فصاح في الحبس لي نصيحة فأخرج ودعا به إسحاق فقال هات نصيحتك قال على أن تؤمنني قال نعم قال الكشكية أصلحك الله لا تطيب إلا بالكشك فضحك إسحاق وقال هو فيما أرى مجنون فقال لا هو امتخط حوت قال أيش هو امتخط حوت ففهم ما قاله وتبسم ثم قال أظن أني فيك مأثوم قال لا ولكنك في ماء بصل فقال أخرجوه عني إلى لعنة الله ولا يقيم ببغداد فأرده إلى الحبس فعاد إلى سر من رأى شعره في غلام أمرد وله أشعار ملاح في الجد منها ما أنشدنيه الأخفش له يخاطب غلاما أمرد ( أيها الأمردُ المولع بالهجر ... أفِق ما كذا سبيلُ الرشادِ ) ( فكأنّي بحُسن وجهكَ قد ألبس ... في عارضيْك ثوبَ حِداد ) ( وكأني بعاشِقيك وقد بُدِّلت ... فيهم من خلطة بِبِعادِ ) ( حين تنبو العيونُ عنكَ كما ينقبض ... السَّمعُ عن حديثٍ مُعادِ ) ( فاغتنم قبل أن تصيرَ إلى كان ... وتُضحِي في جُملة الأضدادِ ) وأنشدني محمد بن داود بن الجراح له وفيه رمل طنبوري محدث أظنه لجحظة صوت ( داء دفينٌ وهوًى بادي ... أظْلِم فَجازيك بمرِصَاد ) ( يا واحدَ الأمة في حُسنه ... أَشمتَ بي صدُّك حُسَّادي ) ( قد كدتُ مما نال منَّي الهوى ... أخْفَى على أعين عُوَّادي ) ( عبدُكَ يُحْيي موتَه قُبلةٌ ... تجعلها خاتمةَ الزَّاد ) أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثني أحمد بن علي الأنباري قال كنا يوما في مجلس يزيد بن محمد المهلبي بسر من رأى فجرى ذكر أبي العبر فجعلوا يذكرون حماقاته وسقوطه فقلت ليزيد كيف كان عندك فقد رأيته فقال ما كان إلا أديبا فاضلا ولكنه رأى الحماقة أنفق وأنفع له فتحامق فقلت له أنشدك أبياتا له أنشدنيها فانظر لو أراد دعبل فإنه أهجى أهل زماننا أن يقول في معناها ما قدر على أن يزيد على ما قال قال أنشدنيها فأنشدته قوله هجوه قاضيين أعورين ( رأَيتُ من العجائبِ قاضيَيْن ... هما أُحدوثةٌ في الخافِقَين ) ( هما اقتسما العمى نصفين فَذًّا ... كما اقتسما قضاءَ الجانِبَيْن ) ( هما فألُ الزمان بِهُلك يَحيى ... إِذا أفتُتِح القضاء بأعورَين ) ( وتحسب منهما من هزَّ رأْساً ... لينظر في مواريثٍ وديْن ) ( كأنك قد جعلتَ عليه دَنَّا ... فتحت بِزالَه من فَردِ عَيْن ) فجعل يضحك من قوله ويعجب منه ثم كتب الأبيات أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن مهرويه قال حدثني ابن أبي أحمد قال قال لي أبو العبر إذا حدثك إنسان بحديث لا تشتهي أن تسمعه فاشتغل عنه بنتف إبطك حتى يكون هو في عمل وأنت في عمل وقال محمد بن داود حدثني أبو عبد الله الدوادي قال كان أبو العبر شديد البغض لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه وله في العلويين هجاء قبيح وكان سبب ميتته أنه خرج إلى الكوفة ليرمي بالبندق مع الرماة من أهلها في آجامهم فسمعه بعض الكوفيين يقول في علي صلوات الله عليه قولا قبيحا استحل به دمه فقتله في بعض الآجام وغرقه فيها صوت ( لقد طال عهدي بالإِمام محمدٍ ... وما كنت أخشى أن يَطولَ به عهدي ) ( فأصبحتُ ذا بُعْدٍ وداري قريبةٌ ... فواعجبا من قُرب داري ومن بُعدي ) ( فياليت أنّ العِيدَ لي عادَ مرّةً ... فإني رأيت العِيدَ وجهك لي يُبْدِي ) ( رأيتُك في بُرْدِ النبيّ محمد ... كبدر الدُّجَى بين العِمامة والبُرد ) الشعر لمروان بن أبي حفصة الأصغر والغناء لبنان خفيف رمل بالبنصر أخبار مروان بن أبي حفصة الأصغر تقرب إلى المتوكل بهجاء آل أبي طالب هو مروان بن أبي الجنوب بن مروان الأكبر بن أبي حفصة قد تقدم خبره ونسبه ويكنى مروان الأصغر أبا السمط وكان يتشبه بجده في شعره ويمدح المتوكل ويتقرب إليه بهجاء آل أبي طالب فتمكن منه وقرب إليه وكسب معه مالا كثيرا فلما أفضت الخلافة إلى المنتصر تجنب مذهب أبيه في كل أمر فطرده وحلف ألا يدخل إليه أبدا لما كان يسمعه منه في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه فأخبرني محمد بن عمران الصيرفي وعمي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم العبدي قال دخل مروان بن أبي الجنوب على المتوكل فأنشده قوله ( سلام على جُمْلٍ وهيهات من جُملِ ... ويا حّبَّذا جُملٌ وإن صرمت حَبْلي ) وهي من مشهور شعره وفيها يقول ( أبوكم عليٌّ كان أفضلَ منكُم ... أباه ذوُو الشورى وكانوا ذَوِي عَدْلِ ) ( وساءَ رسولَ الله إذ ساءَ بنتَه ... بخِطبته بنتَ اللعينِ أبي جهل ) ( أراد عَلَى بنت النبّي تزوُّجاً ... ببنت عدو الله يا لك من فِعْل ) ( فذمّ رسولُ الله صِهرَ أبيكُم ... على منبر الإِسلام بالمنطق الفَصلِ ) ( وحكّم فيها حاكمَيْنِ أبوكُم ... هما خلعاه خلعَ ذي النَّعل للنّعل ) ( وقد باعها من بعده الحسنُ ابنُه ... فقد أبطلا دعواكما الرَّثَّةَ الحبلِ ) ( وخلَّيتُموها وهْيَ في غير أهلها ... وطالبتُمُوها حيث صارَتْ إِلى الأهل ) فوهب له المتوكل مائة ألف درهم وقال محمد بن داود بن الجراح حدثني محمد بن القاسم قال حدثني أبو هاشم الجبائي قال دخل أبو السمط على المتوكل فأنشده قوله ( الصّهرُ ليس بوارثٍ ... والبنت لا ترِثُ الإِمامهْ ) ( لو كان حقكُم لهمْ ... قامت على الناس القيامهْ ) ( أَصبحت بين مُحبّكمْ ... والمبغِضين لكم عَلامهْ ) فحشا المتوكل فمه بجوهر لا يدرى ما قيمته وحدثني أحمد بن جعفر جحظة قال أنشد أبو السمط المتوكل قوله ( إِني نَزلتُ بساحة المتوكلِ ... ونزلتُ في أَقصى دِيارِ الموْصِل ) فقال الفتح بن خاقان فإذا كانا متباعدين هكذا فمن كان الرسول فقال أبو العنبس الصيمري كانت له طيور هدى تحمل إليها كتبه فضحك المتوكل حتى ضرب برجله الأرض وأجزل صلة الصيمري ولم يعط أبا السمط شيئا فماتا متهاجرين أخبرني عمي والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال حدثنا حماد بن أحمد البني قال أخبرني أبو السمط مروان بن أبي الجنوب قال لما صرت إلى المتوكل على الله ومدحته ومدحت ولاة العهود الثلاثة وأنشدته ذلك في قولي ( سقَى الله نجداً والسَّلامُ على نجدِ ... ويا حبذا نجدٌ على النَّاي والبعدِ ) ( نظرتُ إلى نجدٍ وبغدادُ دونها ... لعلي أرى نجداً وهيهاتَ من نجدِ ) ( بلادٌ بها قوم هَواهُمْ زِيارتي ... ولا شيء أشهى من زيارتهم عندي ) فلما استتممتها أمر لي بمائة ألف درهم وخمسين ثوبا من خاص ثيابه عمر الطنبوري يغني بين يدي المتوكل أخبرني علي بن أبي العباس بن أبي طلحة قال حدثني إبراهيم بن محمد أبو إسحاق قال حدثني خالد بن يزيد الكاتب قال دعاني المتوكل ليلة وقد غنى بين يديه عمر الطنبوري في قولي ( يا مقلتيّ قتلتماني ... فبقيتُ رحمةَ مَنْ يراني ) ( مَنْ ذا ألوم وأنتما ... بِيَدِ الهوى أَسلمتُماني ) قال ولم يغنه البيت الثالث وهو ( لعبت بنا أَيدي الخطوب ... وغالنا رَيبُ الزمان ) كراهة أن يتطير منه فجعل ينظر إلي وأنا واقف ثم قال لي ويلك يا خالد تهرب منا ونحن نطلبك وأنت في غيابات صبواتك وغزلك يا غلام اسقه ثلاثة أقداح في القدح المبرم وهو الذي لا قرار له فإذا أخذه الإنسان لم يقدر أن يضعه من يده فقلت ( سيدي لا تَسْقني ... أكثر من رِطْل نبيذِ ) ( إنَّ شُرْبي للذَّي ... يؤلمني غير لذيذِ ) فقال يا غلام إن لم يشرب فاصفعه فقلت ( سيدي حوصَلتِي ضَيْيِّقَهٌ ... عن شرب رطل ) ( فمتى زدتُ عليه ... خفت أن يذهب عقلي ) فقال الفتح هو كما قال يا سيدي لا يطيق الشرب وحضر ابن أبي حفصة فقال لنا المتوكل قولا على البديهة فقلت له هو يا سيدي شيخ الشعراء ومادحك وآباؤه مداح أبائك فأنشأ يقول ( يا ليت لي ألفَ عينٍ ... عيناي لا تكفِيان ) فقلت له سخنت عينك أنا لي عين واحدة أدعو الله عليها بالعمى منذ ستين سنة أقول ( يا عين أنت بليتني ... فأراحني الرحمن منك ) وأنت تتمنى ألف عين ثم قال لي المتوكل اهجه فقلت إن الرجل لم يعرض لي فأقبل هو علي وقال قل ما شئت وما عسى أن تقول فقلت ( زاد البَردُ يومين ... فقال الناس ما القصَّهْ ) ( فقلنا أَنشدونا شعر ... مروان بن أبي حفصه ) ( فتى من شهوة النَّيْكِ ... بحلقوم استِه غصَّه ) ( ولو يُرْمى ببَطِّيخٍ ... لوافى دُبْرَهُ رَصَّهْ ) قال فضحك المتوكل حتى صفق برجليه الأرض وأفحم مروان ثم أمر لي بجائزة فأخذتها وانصرفت مدح المتوكل فأثابه قال ابن أبي طاهر حدثني مروان بن أبي الجنوب قال لما استخلف المتوكل بعثت إلى ابن أبي دواد بقصيدة مدحته فيها وذكرت فيها ابن الزيات ببيتين هما ( وقيل ليَ الزياتُ لاقى حِمامَه ... فقلت أَتاني الله بالفَتْح وَالنصْرِ ) ( لقد حفر الزياتُ بالبغي حُفرة ... فألقاه فيها الله بالكفر والغَدْرِ ) قال فذكرني ابن أبي دواد للمتوكل فأمر بإحضاري فقيل له نفاه الواثق إلى اليمامة وذلك لميله إليك فقال يحمل فقال له ابن أبي دواد عليه ستة آلاف دينار دين فقال يكتب له بها إلى عامل اليمامة فكتب لي بها وبالحملان والمعونة فقدمت عليه وأنشدته قولي صوت ( رحَل الشبابُ وليتَه لم يَرْحَلِ ... والشيبُ حَلَّ وليتَه لم يَحْلُلِ ) فلما بلغت إلى هذا البيت ( كانت خلافةُ جعفر كنبوّةٍ ... جاءت بلا طَلَبٍ ولا بتمَحُّلِ ) ( وهبَ الإِلهُ لك الخلافة مثلَ ما ... ورهب النبوّة للنبيِّ المُرسَلِ ) فأمر لي بخمسين ألف درهم وفي أول هذه القصيدة لعريب ثاني ثقيل بالوسطى والصوت المذكور في أول هذه الأخبار من قصيدة قالها أبو السمط في المنتصر لما ولي الخلافة المنتصر يرفض أن يأذن له بالدخول أخبرني بخبره فيها جماعة من أصحابنا منهم محمد بن جعفر النحوي صهر المبرد والحسن بن علي قالا حدثنا محمد بن موسى قال حدثني القاسم بن محمد الكاتب قال حدثني المرزبان بن الفروران حاجب المنتصر قال إن مروان بن أبي حفصة الأصغر المكنى أبا السمط استأذن على المنتصر لما ولي الخلافة فقال والله لا أذنت للكافر ابن الزانية أليس هو القائل ( وحكَّم فيها حاكمين أبوكمُ ... هما خَلَعاه خلْع ذي النَّعْلِ للنّعْل ) قولوا له والله لا وصلت إلي أبدا فلما بلغه هذا القول عمل هذا الشعر ( لقد طال عهدي بالإِمام محمد ... وما كنتُ أَخْشَى أن يطول به عَهْدِي ) وذكر الأبيات كلها قال وسأل بنان بن عمرو فصنع فيه لحنا وغنى به المنتصر فلما سمعه سأل عن قائلها فأخبرته فقال أما الوصول إلي فلا سبيل إليه ولكن أعطوه ==================================== ج44. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني عشرة آلاف درهم يتحمل بها إلى اليمامة أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة الكاتب قال حدثني جعفر بن هارون بن زياد قال حدثني أحمد بن الفضل الكاتب قال لما قال علي بن الجهم هذه القصيدة في المتوكل ( غْتَنِمْ جِدَّة الزَّمان الجديدِ ... واجعل المهرجان أيمنَ عِيدِ ) أنشدها وأبو السمط بن أبي حفصة حاضر فغمزه المتوكل على علي بن الجهم وأمره أن يعنته فقال له يا علي أخبرني عن قولك ( واجعل المهرجان أيمن عيد ... ) المهرجان عيد أم يوم لهو إنما العيد ما تعبد الله به الناس مثل الفطر والأضحى والجمعة وأيام التشريق فأما المهرجان والنيروز فإنما هما أعياد المجوس لا يجوز أن يقال لخليفة الله في عباده وخليفة رسول الله في أمته جعل المهرجان عيدا فلم يلتفت إليه وأنشد حتى بلغ قوله ( نحن أشياعكمْ من آل خراسان ... أُولو قُوّة وبأسٍ شديد ) ( نحن أبناء هذه الخِرَق السُّودِ ... وأهل التَّشَيّع المَحْمُودِ ) فقال له مروان لو كنتم من أهل التشيع المحمود ما قتل قحطبة جدك وصلبه في عداوة بني العباس فقال له المتوكل ويلك أقتل قحطبة جدك قال لا والله يا أمير المؤمنين فأقبل على محمد بن عبد الله بن طاهر فقال له بحياتي الأمر كما قال مروان فقال له محمد وإن كان كما قال فأي ذنب لعلي بن الجهم قد قتل الله أعداءكم وأبقى أولياءكم فضحك المتوكل وقال شهدت والله بها عليه فقال مروان في ذلك ( غَضِب ابنُ الجَهْم من قولي له ... إِنّ في الحق لِقوْمٍ مَغْضَبَهْ ) ( يابنَ جهمٍ كيف تهوى مَعْشراً ... صلبوا جَدّك فوق الخشبهْ ) ( يا إمام العدل نصحي لكمُ ... نُصحُ حَقّ غير نُصح الكَذبَهْ ) ( إن جدّي من رفعتم ذِكْرَه ... بكراماتٍ لشكري مُوجِبَهْ ) ( وابنُ جهم مَن قتلتم جَدَّه ... وتولَّى ذاك منه قَحْطَبَهْ ) ( فخراسانُ رأتْ شِيعَتُكُمْ ... أنَّه أهلٌ لضرب الرّقبهْ ) ( أتُراه بعدها ينصحكمْ ... لا وربِّ الكعبةِ المحتجبهْ ) هجاؤه لعلي بن الجهم أخبرني علي بن العباس بن أبي طلحة قال حدثني جعفر بن هارون قال حدثني أحمد بن حمدون بن إسماعيل قال بلغ المتوكل أن علي بن الجهم خطب امرأة من قريش فلم يزوجوه فسأل عن السبب في ذلك وعن قصته وعن نسب سامة بن لؤي فحدث بها ثم انتهى حديثهم بأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يدخلاهم في قريش وأن عثمان رضي الله عنه أدخلهم فيه وأن عليا رضي الله عنه أخرجهم منه فارتدوا مع الحارث وأنه قتل من ارتد منهم وسبى بقيتهم وباعهم من مصقلة بن هبيرة فضحك المتوكل وبعث إلى علي بن الجهم فأخبره بما قال القوم فأنكر ذلك وقال هذه الدعوى من الرافضة وشتم القوم وكان منهم أبو السمط فقال له ( إنَّ جَهْماً حين تنسبه ... ليس من عُجْمٍ ولا عَرَبِ ) ( لجَّ في شتمي بلا سَبَبٍ ... سارقٌ للشِّعر والنَّسب ) ( من أناسٍ يدَّعون أباً ... ماله في الأرض من عقب ) فغضب علي بن الجهم ولم يجبه لأنه كان يحتقره ويستركه وأومأ إليه المتوكل أن يزيده فقال ( أأنتم من قريش يابن جَهْم ... وقد باعوكُم في مَنْ يزيدُ ) ( أترجو أن تكاثرنا جِهاراً ... بنسبتكم وقد بِيع الجدودُ ) قال وما زال مروان يهجو علي بن الجهم فما أجابه عن شيء من شعره أنفة منه مدح أحمد بن أبي دواد فنال مكافأته أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا إسحاق بن محمد النخعي قال حدثني الجماز أبو عبد الله قال دخل مروان الأصغر على أحمد بن أبي دواد وقد أصابه الفالج وتماثل قليلا فأنشده ( لسانُ أحمدَ سيفٌ مَسَّه طَبَعٌ ... من عِلّةٍ فجلاه عنه جاليها ) ( ما ضرَّ أحمدَ باقي عِلّةٍ دَرَسَتْ ... واللهُ يُذْهِبُ عنه رسْم باقيها ) ( قد كان موسى على عِلاَّت منطقه ... رسائلُ الله إذ جاءت يُؤَدِّيها ) ( موسى بن عمران لم يَنْقص نبوَّته ... ضعفُ اللسان وقِدْماً كان يُمْضِيها ) فوصله أحمد رحمه الله تعالى واعتذر إليه أخبرني عمي قال حدثني متوج قال قال أبو السمط دخلت على عبد الله بن طاهر فقال إني تذكرت في ليلتي هذه ذا اليمينين فبت أرقا حزينا باكيا فارثه في مقامك هذا بأبيات تجعل لي طريقا إلى شفاء علتي ولك حكمك ففكرت هنيهة ثم قلت ( إنّ المكارم إذ تولَّى طاهرٌ ... قطَع الزمانُ يمينَها وشِمالَها ) ( لو كافحْته يدُ المنونُ مُجاهراً ... لاقت لوقع سيوفه آجالَها ) ( أَرْسى عِمَادَ خليفةٍ في هاشم ... ورمى عمادَ خلافة فأزالها ) ( بكت الأعِنّةُ والأسِنَّة طاهراً ... ولطالما روّى النَّجِيعُ نِهالَها ) ( ليتَ المنون تجانبت عن طاهرٍ ... ولوت بذِرْوَة من تشاءُ حِبالها ) ( ما كنت لو سَلِمَتْ يمينا طاهرٍ ... أَدري ولا أسَلُ الحوادث مالها ) فقال أحسنت والله فاحتكم فقلت له خمسون ألف درهم أقضي منها دينا وأصلح حالي وأبتاع ضيعة تلاصق ضيعتي فأمر لي بها وقال ربحنا وخسرت ولو لم تحتكم لزدتك ولك عندنا عد وعد بعد عد صوت ( لا تلمْنيَ أن أَجْزعا ... سَيّدي قد تمنَّعا ) ( وابَلائي إن كانَ ما ... بيننا قد تَقطَّعا ) ( إنّ مُوسى بِفَضْله ... جمَّع الفضْلَ أَجمعَا ) الشعر ليوسف بن الصيقل والغناء لإبراهيم خفيف رمل بالبنصر أخبار يوسف بن الحجاج ونسبه نسبه هو يوسف بن الحجاج الصيقل يقال إنه من ثقيف ويقال إنه مولى لهم وذكر محمد بن داود بن الجراح أنه كان يلقب لقوة وأنه كان يصحب أبا نواس ويأخذ عنه ويروي له وأبوه الحجاج ين يوسف محدث ثقة وروى عنه جماعة من شيوخنا منهم ابن منيع والحسن بن الطيب الشجاع وابن عفير الأنصاري وكان يوسف بن الصيقل كاتبا ومولده ومنشؤه بالكوفة أخبرني إسماعيل بن يونس الشيعي عن ابن شبة قال قال أحمد بن صالح الهشامي قال لنا يوسف بن الصيقل يوما ورأى الشعراء بأيديهم الرقاع يطوفون بها فقال صنع الله لكم ثم أقبل على إبراهيم الموصلي فقال له كنا نهزل فنأخذ الرغائب وهؤلاء المساكين الآن يجدون فلا يعطون شيئا ثم قال لإبراهيم أتذكر ونحن بجرجان مع موسى الهادي وقد شرب على مستشرف عال جدا وأنت تغنيه هذا الصوت ( واستدارت رحالُهم ... بالرُّدَينِيِّ شُرَّعَا ) فقال هذا لحن مليح ولكني أريد له شعرا غير هذا فإن هذا شعر بارد والتفت إلي فقال اصنع في هذا الوزن شعرا فقلت ( لا تلمنيَ أن أجزعا ... سيّدي قد تمنّعا ) فغنيته فيه بذلك اللحن ومرت به إبل ينقل عليها فقال أوقروها لهما مالا فأوقرت مالا وحمل إلينا فاقتسمناه فقال إبراهيم نعم وأصاب كل واحد منا ستين ألف درهم نسبه هذا الصوت الذي غناه صوت ( فارسٌ يضرِب الكتيبةَ ... حتَّى تصدَّعا ) ( في الوغَى حينَ لا يَرَى ... صاحبُ القَوسِ مَنزَعا ) ( واستدارتْ رحالُهمْ ... بالرُّدَينيِّ شُرَّعا ) ( ثم ثارتْ عَجاجَةٌ ... تحتَها الموتُ مُنْقَعا ) في هذه الأبيات رمل ينسب إلى ابن سريج وإلى سياط وفيه لإبن جامع خفيف رمل بالبنصر أخبرني الحسن بن علي قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد عن محمد بن عبد الله العبدي فذكر مثل هذه القصة إلا أنه حكى أنها كانت بالرقة لا بجرجان وأن الرشيد كان صاحبها لا موسى مدح الرشيد فأجازه أخبرني الحسن بن علي العنزي عن محمد بن يونس الربيعي قال حدثني أبو سعيد الجند يسابوري قال لما ورد الرشيد الرقة خرج يوسف بن الصيقل وكمن له في نهر جاف على طريقه وكان لهارون خدم صغار يسميهم النمل يتقدمونه بأيديهم قسي البندق يرمون بها من يعارضه في طريقه فلم يتحرك يوسف حتى وافته قبة هارون على ناقة فوثب إليه يوسف وأقبل الخدم الصغار يرمونه فصاح بهم الرشيد كفوا عنه فكفوا وصاح به يوسف يقول صوت ( أَغيثاً تحملُ الناقةُ ... أم تحملُ هرونا ) ( أَم الشمسُ أم البدرُ ... أم الدُّنيا أم الدِّينا ) ( الا كلَّ الذي عدّدْتُ ... قد أَصبح مَقرونا ) ( على مَفرِقِ هارون ... فَداه الآدِميُّونا ) فمد الرشيد يده إليه وقال له مرحباً بك يا يوسف كيف كنت بعدي ادن مني فدنا وأمر له بفرس فركبه وسار إلى جانب قبته ينشده ويحدثه والرشيد يضحك وكان طيب الحديث ثم أمر له بمال وأمر بأن يغنى في الأبيات الغناء في هذه الأبيات لإبن جامع خفيف رمل بالبنصر عن الهشامي وقال محمد بن داود كان يوسف فاسقا مجاهرا باللواط وله فيه أشعار فمنها قوله ( لا تَبخَلَنّ على النديم ... برِدْف ذي كَشْحٍ هَضيم ) ( تعلُو وينظُر حَسْرةً ... نَظَرَ الحمارِ إِلى القَضِيم ) ( وإذا فرغْتَ فلا تقم ... حتى تُصَوِّتَ بالنّديمِ ) ( فإِذا أجابَ فقلْ هلُمَّ ... إلى شهادةِ ذي الغريمِ ) ( واتبعْ للذّتك الهوَى ... ودعِ الملامةَ للمُليمِ ) قال وهذا الشعر يقوله لصديق له رآه قد علا غلاما له فخاطبه به ومن مشهور قوله في هذا المعنى ( لا تَنيكَنَّ ما حيِيتَ ... غُلاماً مكابَرَهْ ) ( لا تمرَّنَّ باسته ... دُون دَفْع المؤامرهْ ) ( إن هذا اللّواطَ دِينٌ ... تراه الأساوره ) ( وهمُ فيه منصِفون ... بحُسنِ المعاشره ) ومن قوله في هذا المعنى أيضا هذه الأبيات ( ضع كذا صدرَك لي يا سيدي ... واتَّخذْ عندي إلى الحشريدَا ) ( إنَّما رِدفك سرْجٌ مُذهَبٌ ... كُشِفَ البِزْيونَ عنه فبدا ) ( فأَعرنيه ولا تبخلْ به ... ليس يُبليه رُكوبي أبدا ) ( بل يصفِّيه وَيَجلوه ولا ... أَثرٌ ترآه فيه أبدا ) ( فادنُ يا حِبُّ وطِبْ نفساً به ... إنّ ذاك الدّينَ تُقضاه غدا ) هجا القيان أخبرني إسماعيل بن يونس قال حدثني عمر بن شبة عن أحمد بن صالح الهاشمي قال هجا يوسف بن الصيقل القيان فقال ( احذر فديتُك ما حييتَ ... حبائلَ المتَشاكلات ) ( فلهُنَّ يُفْلِسْن الفَتى ... وكفى بهنّ مُفَلِّسات ) ( ويل امريءٍ غِرٍّ تَجيه ... رقاعُهنّ مُخَتَّمات ) ( ورقاعُهُنَّ إليهمُ ... برُقَى القِحَابِ مُسَطَّرات ) ( وعلى القيادة رُسْلُهنَّ ... إذا بُعِثْن مدرَّبات ) ( يهدمْنَ أكياسَ الغنيّ ... من المؤونةِ والهِباتِ ) ( حفرَ العلوجُ سَواقياً ... للماء في الأرضِ المَوَات ) ( فيصيرُ من إفلاسه ... ومن الندامةِ في سُباتِ ) قال وشاعت هذه الأبيات وتهاداها الناس وصارت عبثا بالقيان لكل أحد فكانت المغنية إذا عثرت قالت تعس يوسف الرشيد يختاره للجائزة والموالي يزكونه أخبرني الحسن بن علي قال أخبرني عيسى بن الحسن الآدمي قال حدثني أحمد بن أبي فنن قال أحضر الرشيد عشرة آلاف دينار من ضرب السنة ففرقها حتى بقيت منها ثلاثة آلاف دينار فقال ائتوني شاعرا أهبها له فوجدوا منصورا النمري ببابه فأدخل إليه فأنشده وكان قبيح الإنشاد فقال له الرشيد أعانك الله على نفسك انصرف فقال يا أمير المؤمنين قد دخلت إليك دخلتين لم تعطني فيهما شيئا وهذه الثالثة ووالله لئن حرمتني لا رفعت رأسي بين الشعراء أبدا فضحك الرشيد وقال خذها فأخذها ونظر الرشيد إلى الموالي ينظر بعضهم بعضا فقال كأني قد عرفت ما أردتم إنما أردتم أن تكون هذه الدنانير ليوسف بن الصيقل وكان يوسف منقطعا إلى الموالي ينادمهم ويمدحهم فكانوا يتعصبون له فقالوا إي والله يا أمير المؤمنين فقال هاتوا ثلاثة آلاف دينار فأحضرت فأقبل على يوسف فقال هات أنشدنا فأنشده يوسف ( تصدَّتْ له يوم الرُّصافَةِ زينبُ ... ) فقال له كأنك امتدحتنا فيها فقال أجل والله يا أمير المؤمنين فقال أنت ممن يوثق بنيته ولا تتهم موالاته هات من ملحك ودع المديح فأنشده قوله صوت ( العفوُ يا غَضبانُ ... ما هكذا الخِلاّنُ ) ( هَبْنِي أبتُليتُ بذّنبٍ ... أما لَه غُفْرانُ ) ( وإن تعاظم ذَنْبٌ ... ففوقَه الهجرانُ ) ( كم قد تقرّبْتُ جَهدي ... لو ينفَع القُرْبانُ ) ( يا ربّ أنتَ على ما ... قد حلَّ بي المستعانُ ) ( ويْلي أَلست تَراني ... أهْذي بها يا فلانُ ) فقال الرشيد ومن فلان هذا ويلك فقال له الفضل بن الربيع هو أبان مولاك يا أمير المؤمنين فقال له الرشيد ولم لم تنشدني كما قلت يا نبطي فقال لأني غضبان عليه قال وما أغضبك قال مدت دجلة فهدمت داري وداره فبنى داره وعلاها حتى سترت الهواء عني قال لا جرم ليعطينك الماص بظر أمه عشرة آلاف درهم حتى تبني بناء يعلو على بنائه فتستر أنت الهواء عنه ثم قال له خذ في شعرك فأنشده نحوا من هذا الشعر فقال للفضل بن الربيع يا عباس ليس هذا بشعر ما هو إلا لعب أعطوه ثلاثة آلاف درهم مكان الثلاثة آلآلاف الدينار فانصرف الموالي إلى صالح الخازن فقالوا له أعطه ثلاثة آلاف دينار كما أمر له أولا فقال أستأمره ثم أفعل فقالوا له أعطه إياها بضماننا فإن أمضيت له وإلا كانت في أموالنا فدفعها إليه بضمانهم فأمضيت له فكان يوسف يقول بعد ذلك كنا نلعت فنأخذ مثل هذه الأموال وأنتم تقتلون أنفسكم فلا تأخذون شيئا صوت ( هبّتْ قُبيل تبلُّجِ الفجرِ ... هندٌ تقولُ ودمعُها يَجري ) ( أنَّى اعتراك وكنت في عهديَ لا ... سَربَ الدموع وكنتَ ذا صَبْرِ ) الشعر لرجل من الشراه يقال له عمرو بن الحسن مولى بني تميم يقوله في عبد الله بن يحيى الذي تسميه الخوارج طالب الحق ومن قتل من أصحابه معه يرثيهم والغناء لعبد الله بن أبي العلاء ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن الهشامي خبر عبد الله بن يحيى وخروجه ومقتله أخبرني بذلك الحسن بن علي الخفاف قال حدثنا أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني عن محمد بن أبي محمد الخزامي وخلاد بن يزيد وعبد الله بن مصعب وعمرو بن هشام وعبد الله بن محمد الثقفي ويعقوب بن داود الثقفي وحريم بن أبي يحيى كان مجتهدا عابدا أن عبد الله بن يحيى الكندي أحد بني عمرو بن معاوية كان من حضرموت وكان مجتهدا عابدا وكان يقول قبل أن يخرج لقيني رجل فأطال النظر إلي وقال ممن أنت فقلت من كندة فقال من أيهم فقلت من بني شيطان قال والله لتملكن ولتبلغن خيلك وادي القرى وذلك بعد أن تذهب إحدى عينيك فذهبت أتخوف ما قال وأستخير الله فرأيت باليمن جورا ظاهرا وعسفا شديدا وسيرة في الناس قبيحة فقال لأصحابه ما يحل لنا المقام على ما نرى ولا يسعنا الصبر عليه وكتب إلى عبيدة بن مسلم بن أبي كريمة الذي يقال له كودين مولى بني تميم وكان ينزل في الأزد وإلى غيره من الإباضية بالبصرة يشاورهم في الخروج فكتبوا إليه إن استطعت ألا تقيم يوما واحدا فافعل فإن المبادرة بالعمل الصالح أفضل ولست تدري متى يأتي عليك أجلك ولله خيرة من عباده يبعثهم إذا شاء لنصرة دينه ويخص بالشهادة منهم من يشاء وشخص إليه أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي أحد بني سلمة وبلج بن عقبة السقوري في رجال من الإباضية فقدموا عليه حضر موت فحثوه على الخروج وأتوه بكتب أصحابه إذا خرجتم فلا تغلوا ولا تغدروا واقتدوا بسلفكم الصالحين وسيروا سيرتهم فقد علمتم أن الذي أخرجهم على السلطان العيث لأعمالهم فدعا أصحابه فبايعوه فقصدوا دار الإمارة وعلى حضرموت إبراهيم بن جبلة بن مخرمة الكندي فأخذوه فحبسوه يوما ثم أطلقوه فأتى صنعاء وأقام عبد الله بن يحيى بحضر موت وكثر جمعه وسموه طالب الحق رحيله من حضرموت إلى صنعاء فكتب إلى من كان من أصحابه بصنعاء إني قادم عليكم ثم استخلف على حضر موت عبد الله بن سعيد الحضرمي وتوجه إلى صنعاء سنة تسع وعشرين ومائة في ألفين وبلغ القاسم بن عمر أخا يوسف بن عمر وهو عامل مروان بن محمد على صنعاء مسير عبد الله بن يحيى فاستخلف على صنعاء الضحاك بن زمل وخرج يريد الإباضية في سلاح ظاهر وعدة وجمع كثير فعسكر على مسيرة يوم من أبين وخلف فيها الأثقال وتقدمت المقاتلة فلقيه عبد الله بن يحيى بلحج قرية من أبين قريبا من الليل فقال الناس للقاسم أيها الأمير لا تقاتل الخوارج ليلا فأبى وقاتلهم فقتلوا من أصحابه بشرا كثيرا وانهزموا ليلا فمر بعسكره فأمرهم بالرحيل ومضى إلى صنعاء فأقام يوماً ثم خرج فعسكر قريباً من صنعاء وخندق وخلف بصنعاء الضحاك بن زمل فأقبل عبد الله بن يحيى فنزل جونين على ميلين من عسكر القاسم فوجه القاسم يزيد بن الفيض في ثلاثة آلاف من أهل الشام وأهل اليمن فكانت بينهم مناوشة ثم تحاجزوا فرجع يزيد إلى القاسم فاستأذنه في بياتهم فأبى أن يأذن له فقال يزيد والله لئن لم تبيتهم ليغمنك فأبى أن يأذن له وأقاموا يومين لا يلتقون فلما كان في الليلة الثالثة أقبل عبد الله بن يحيى فوافاه مع طلوع الفجر فقاتلهم الناس على الخندق فغلبتهم الخوارج عليه ودخلوا عسكرهم والقاسم يصلي فركب وقاتلهم الصلت بن يوسف فقتل في المعركة وقام بأمر الناس يزيد بن الفيض فقاتلهم حتى ارتفع النهار ثم انهزم أهل صنعاء فأراد أبرهة بن الصباح اتباعهم فمنعه عبد الله بن يحيى واتبع يزيد بن الفيض القاسم بن عمر فأخبره الخبر فقال القاسم ( ألا ليتَ شِعري هل أذودَنَّ بالقَنَا ... وبالهُندْوانيّاتِ قَبْل مماتي ) ( وهل أُصبِحنّ الحارثَينِ كِلَيهما ... بطعنٍ وضربٍ يَقطعُ اللهَواتِ ) قال ودخل عبد الله بن يحيى صنعاء فأخذ الضحاك بن زمل وإبراهيم بن جبلة بن مخرمة فحبسهما وجمع الخزائن والأموال فأحرزها ثم أرسل إلى الضحاك وإبراهيم فأرسلهما وقال لهما حبستكما خوفا عليكما من العامة وليس عليكما مكروه فأقيما إن شئتما أو اشخصا فخرجا خطبته بعد فتح اليمن فلما استولى عبد الله بن يحيى على بلاد اليمن خطب الناس فحمد الله جل وعز وأثنى عليه وصلى على نبيه ووعظ وذكر وحذر ثم قال إنا ندعوكم إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه وإجابة من دعا إليهما الإسلام ديننا ومحمد نبينا والكعبة قبلتنا والقرآن إمامنا رضينا بالحلال حلالا لا نبغي به بديلا ولا نشتري به ثمنا قليلا وحرمنا الحرام ونبذناه وراء ظهورنا ولا حول ولا قوة إلا بالله وإلى الله المشتكى وعليه المعول من زنى فهو كافر ومن سرق فهو كافر ومن شرب الخمر فهو كافر ومن شك في أنه كافر فهو كافر ندعوكم إلى فرائض بينات وآيات محكمات وآثار مقتدى بها ونشهد أن الله صادق فيما وعد عدل فيما حكم وندعو إلى توحيد الرب واليقين بالوعيد والوعد وأداء الفرائض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والولاية لأهل ولاية الله والعداوة لأعداء الله أيها الناس إن من رحمة الله أن جعل في كل فترة بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون على الألم في جنب الله تعالى يقتلون على الحق في سالف الدهور شهداء فما نسيهم ربهم وما كان ربك نسيا أوصيكم بتقوى الله وحسن القيام على ما وكلكم الله بالقيام به فأبلوا لله بلاء حسنا في أمره وزجره أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وجه أصحابه إلى مكة قالوا وأقام عبد الله بن يحيى بصنعاء أشهرا يحسن السيرة فيهم ويلين جانبه لهم ويكف عن الناس فكثر جمعه وأتته الشراة من كل جانب فلما كان وقت الحج وجه أبا حمزة المختار بن عوف وبلج بن عقبة وأبرهة بن الصباح إلى مكة في تسعمائة وقيل بل في ألف ومائة وأمره أن يقيم بمكة إذا صدر الناس ويوجه بلجا إلى الشأم وأقبل المختار إلى مكة فقدمها يوم التروية وعليها عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك وأمه بنت عبد الله بن خالد بن أسيد فكره قتالهم وحدثنا من هذا الموضع بخبر أبي حمزة محمد بن جرير الطبري قال حدثنا العباس بن عيسى العقيلي قال حدثنا هارون بن موسى العواري قال حدثنا موسى بن كثير مولى الساعديين قال كان أول أمر أبي حمزة وهو المختار بن عوف الأزدي ثم السلمي من أهل البصرة أنه كان يوافي في كل سنة يدعو إلى خلاف مروان بن محمد وآل مروان فلم يزل يختلف كل سنة حتى وافى عبد الله بن يحيى في آخر سنة وذلك سنة ثمان وعشرين ومائة فقال له يا رجل إني أسمع كلاما حسنا وأراك تدعو إلى حق فانطلق معي فإني رجل مطاع في قومي فخرج به حتى ورد حضرموت فبايعه أبو حمزة على الخلافة قال وقد كان مر أبو حمزة بمعدن بني سليم وكثير بن عبد الله عامل على المعدن فسمع بعض كلامه فأمر به فجلد أربعين سوطا فلما ظهر أبو حمزة بمكة تغيب كثير حتى كان من أمره ما كان ثم رجع إلى موضعه قال فلما كان في العام المقبل تمام سنة تسع وعشرين لم يعلم الناس بعرفة إلا وقد طلعت أعلام عمائم سود خرمية في رؤوس الرماح وهم سبعمائة هكذا قال هذا وذكر المدائني أنهم كانوا تسعمائة أو ألفا ومائة ففزع الناس منهم حين رأوهم وقالوا لهم ما لكم وما حالكم فأخبروهم بخلافهم مروان وآل مروان والتبري منهم فراسهلم عبد الواحد بن سليمان وهو يومئذ على المدينة ومكة والموسم ودعاهم إلى الهدنة فقالوا نحن بحجنا أضن وعليه أشح فصالحهم على أنهم جميعا آمنون بعضهم من بعض حتى ينفر الناس النفر الأخير وأصبحوا من غد فوقفوا على حدة بعرفة ودفع عبد الواحد بالناس فلما كانوا بمنى قالوا لعبد الواحد إنك قد أخطأت فيهم ولو حملت عليهم الحاج ما كانوا إلا أكلة رأس فنزل أبو حمزة بقرن الثعالب من منى ونزل عبد الواحد منزل السلطان فبعث عبد الواحد إلى أبي حمزة عبد الله بن حسن بن حسن بن علي عليهم السلام ومحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر وعبيد الله بن عمرو بن حفص العمري وربيعة بن عبد الرحمن في رجال من أمثالهم فلما دنوا من قرن الثعالب لقيتهم مسالح أبي حمزة فأخذوهم فدخل بهم على أبي حمزة فوجدوه جالسا وعليه إزار قطراني قد ربطه الحورة في قفاه فلما دنوا تقدم إليه عبد الله بن حسن ومحمد بن عبد الله بن عمرو فنسبهما فلما انتسبا له عبس في وجهيهما وبسر وأظهر الكراهة لهما ثم تقدم إليه بعدهما البكري والعمري فنسبهما فلما انتسبا له هش إليهما وتبسم في وجوههما وقال والله ما خرجنا إلا لنسير بسيرة أبويكما فقال له عبد الله بن حسن بن حسن والله ما جئناك لتفاضل بين آبائنا ولكن بعثنا إليك الأمير برسالة وهذا ربيعة يخبركها فلما ذكر ربيعة نقض العهد قال بلج وإبراهيم وكانا قائدين له الساعة الساعة فأقبل عليهما أبو حمزة وقال معاذ الله أن ننقض العهد أو نخيس به والله لا أفعل ولو قطعت رقبتي هذه ولكن تنقضى هذه الهدنة بيننا وبينكم فلما أبى عليهم خرجوا فابلغوا عبد الواحد هجو عبد الواحد فلما كان النفر الأول نفر عبد الواحد وخلى مكة لأبي حمزة فدخلها بغير قتال قال هارون وأنشدني يعقوب بن طلحة الليثي أبياتا هجي بها عبد الواحد لشاعر لم نحفل به ( زار الحجيجَ عصابةٌ قد خالفوا ... دينَ الإِله ففرّ عبدُ الواحد ) ( ترك الإِمارة والحلائلَ هارباً ... ومضى يُخبِّطُ كالبعيرِ الشارد ) ( لو كان والدُه تخيَّر أُمَّه ... لَصَفَتْ خلائقُه بعِرْق الوالد ) ( ترك القتال وما به من عِلَّةٍ ... إلا الوهون وعرفةٌ من خالد ) ثم مضى عبد الواحد حتى دخل المدينة فدعا بالديوان وضرب على الناس البعث وزادهم في العطاء عشرة عشرة قال هارون أخبرني بذلك أبو ضمرة أنس بن عياض أنه كان فيمن اكتتب قال ثم محوت أسمي قال هارون وحدثني غير واحد من أصحابنا أن عبد الواحد استعمل عبد العزيز بن عبد الله بن عمرو بن عثمان على الناس فخرجوا فلما كانوا بالحرة لقيتهم جزر منحورة فمضوا فلما كانوا بالعقيق تعلق لواؤهم بسمرة فانكسر الرمح وتشاءم الناس بالخروج ثم ساروا حتى نزلوا قديدا فنزلوها ليلا وكانت قرية قديد من ناحية القصر والمنبر اليوم وكانت الحياض هناك فنزل قوم مغترون ليسوا بأصحاب حرب فلم يرعهم إلا القوم قد خرجوا عليهم من الفصل فزعم بعض الناس أن خزاعة دلت أبا حمزة على عورتهم وأدخلوهم عليهم فقتلوهم وكانت المقتلة على قريش وهم كانوا أكثر الناس وفيهم كانت الشوكة فأصيب منهم عدد كثير اليمانيون يشمتون بقريش قال العباس قال هارون فأخبرني بعض أصحابنا أن رجلا من قريش نظر إلى رجل من أهل اليمن يقول الحمد لله الذي أقر عيني بمقتل قريش فقال له ابنه الحمد لله الذي أذلهم بأيدينا فما كانت قريش تظن أن من نزل على عمان من الأزد عربي قال وكان هذان الرجلان مع أهل المدينة فقال القرشي لإبنه يا بني هلم نبدأ بهذين الرجلين قال نعم يا أبت فحملا عليهما فقتلاهما ثم قال لإبنه أي بني تقدم فقاتلا حتى قتلا وقال المدائني القرشي كان عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير والمتكلم بالكلام مع ابنه رجل من الأنصار قال ثم ورد فلال الجيش المدينة وبكى الناس قتلاهم فكانت المرأة تقيم على حميمها النواح فلا تزال المرأة يأتيها الخبر بمقتل حميمها فتنصرف حتى ما يبقى عندها امرأة فأنشدني أبو حمزة هذه الأبيات في قتلى قديد الذين أصيبوا من قومه لبعض أصحابه ( يالهفَ نفسي ولهفٌ غير نافعةٍ ... على فوارسَ بالبطحاء أنجادِ ) ( عمروٌ وعمروٌ وعبدُ الله بينَهما ... وابناهما خامسٌ والحارث السادِي ) مروان يأمر عامله بتوجيه الجيش إلى مكة قال المدائني في خبره كتب عبد الواحد بن سليمان إلى مروان يعتذر من إخراجه عن مكة فكتب مروان إلى عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وهو عامله على المدينة يأمره بتوجيه الجيش إلى مكة فوجه ثمانية آلاف رجل من قريش والأنصار والتجار أغمار لاعلم لهم بالحرب فخرجوا في الصبغات والثياب الناعمة واللهو لا يظنون أن للخوارج شوكة ولا يشكون أنهم في أيديهم وقال رجل من قريش لو شاء أهل الطائف لكفونا أمر هؤلاء ولكنهم داهنوا في أمر الله تعالى والله إن ظفرنا لنسيرن إلى أهل الطائف فلنسبينهم ثم قال من يشتري مني سبي أهل الطائف فلما انهزم الناس رجع ذلك الرجل القائل من يشتري مني سبي أهل الطائف في أول المنهزمين فدخل منزله وأراد أن يقول لجاريته أغلقي الباب فقال لها غاق باق دهشا ولم تفهم الجارية قوله حتى أومأ إليها بيده فأغلقت الباب فلقبه أهل المدينة بعد ذلك غاق باق قال وكان عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز يعرض الجيش بذي الحليفة فمر به أمية بن عنبسة بن سعيد بن العاص فرحب به وضحك إليه ومر به عمارة بن حمزة بن مصعب بن الزبير فلم يكلمه ولم يلتفت إليه فقال له عمران بن عبد الله بن مطيع وكان ابن خالته أماهما ابنتا عبد الله بن خالد بن أسيد سبحان الله مر بك شيخ من شيوخ قريش فلم تنظر إليه ولم تكلمه ومر بك غلام من بني أمية فضحكت إليه ولاطفته أما والله لو قد التقى الجمعان لعلمت أيهما أصبر قال فكان أمية بن عنبسة أول من انهزم ونكب فرسه ومضى وقال لغلامه يا مجيب أما والله لئن أحزرت نفسي هذه الأكلب من الشراة إني لعاجز وقاتل يومئذ عمارة بن حمزة ابن مصعب حتى قتل وتمثل ( وإِني إذا ضنّ الأميرُ بإذنه ... على الاذنِ من نفسي إِذا شئتُ قادرُ ) والشعر للأغر بن حماد اليشكري قال ولما بلغ أبا حمزة إقبال أهل المدينة إليه استخلف على مكة إبراهيم بن الصباح وشخص إليهم وعلى مقدمته بلج بن عقبة فلما كان في الليلة التي وافاهم في صبيحتها وأهل المدينة نزول بقديد قال لأصحابه إنكم لاقو قومكم غدا وأميرهم فيما بلغني ابن عثمان أول من خالف سيرة الخلفاء وبدل سنة رسول الله وقد وضح الصبح لذي عينين فأكثروا ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن ووطنوا أنفسكم على الصبر وصبحهم غداة الخميس لتسع أو لسبع خلون من صفر سنة ثلاثين ومائة فقال عبد العزيز لغلامه أبغنا علفا قال هو غال قال ويحك البواكي علينا غدا أغلى رسول أبي حمزة إلى أهل المدينة وأرسل إليهم أبو حمزة بلج بن عقبة ليدعوهم فأتاهم في ثلاثين راكبا فذكرهم الله وسألهم أن يكفوا عنهم وقال لهم خلوا لنا سبيلنا لنسير إلى من ظلمكم وجار في الحكم عليكم ولا تجعلوا حدنا بكم فإنا لا نريد قتالكم فشتمهم أهل المدينة وقالوا يا أعداء الله أنحن نخليكم وندعكم تفسدون في الأرض فقالت الخوارج يا أعداء الله أنحن نفسد في الأرض إنما خرجنا لنكف أهل الفساد ونقاتل من قاتلنا واستأثر بالفيء فانظروا لأنفسكم واخلعوا من لم يجعل الله له طاعة فإنه لا طاعة لمن عصى الله وادخلوا في السلم وعاونوا أهل الحق فقال له عبد العزيز ما تقول في عثمان قال قد برئ المسلمون منه قبلي وأنا متبع آثارهم ومقتد بهم قال فارجع إلى أصحابك فليس بيننا وبينهم إلا السيف فرجع إلى أبي حمزة فأخبره فقال كفوا عنهم ولا تقاتلوهم حتى يبدأوكم بالقتال فواقفوهم ولم يقاتلوهم فرمى رجل من أهل المدينة في عسكر أبي حمزة بسهم فجرح رجلا فقال أبو حمزة شأنكم الآن بهم فقد حل قتالهم فحملوا عليهم وثبت بعضهم لبعض وراية قريش مع إبراهيم بن عبد الله بن مطيع ثم انكشف أهل المدينة فلم يتبعوهم وكان على مجنبتهم ضمير بن صخر بن أبي الجهم بن حذيفة فكر وكر الناس معه فقاتلوا قليلا ثم انهزموا فلم يبعدوا حتى كروا ثالثة وقاتلهم أبو حمزة فهزمهم هزيمة لم تبق منهم باقية فقال له علي بن الحصين أتبع القوم أو دعني أتبعهم فأقتل المدبر واذفف على الجريح فإن هؤلاء أشر علينا من أهل الشأم فلو قد جاؤوك غدا لرأيت من هؤلاء ما تكره فقال لا أفعل ولا أخالف سيرة أسلافنا وأخذ جماعة منهم أسراء فأراد إطلاقهم فمنعه علي بن الحصين وقال له إن لأهل كل زمان سيرة وهؤلاء لم يؤسروا وهم هراب وإنما أسروا وهم يقاتلون ولو قتلوا في ذلك الوقت لم يحرم قتلهم وكذلك الآن قتلهم حلال فدعا بهم فكان إذا رأى رجلا من قريش قتله وإذا رأى رجلا من الأنصار أطلقه فأتي بمحمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان فنسبه فقال أنا رجل من الأنصار فسأل الأنصار عنه فشهدوا له فأطلقه فلما ولى قال والله لأعلم أنه قرشي وما حذاوة هذا حذاوة أنصاري ولكن قد أطلقته قال وبلغت قتلى قديد ألفين ومائتين وثلاثين رجلا منهم من قريش أربعمائة وخمسون رجلا ومن الأنصار ثمانون ومن القبائل والموالي ألف وسبعمائة قال وكان في قتلى قريش من بني أسد بن عبد العزى أربعون رجلاً وقتل يومئذ أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان خرج يومئذ مقنعا فما كلم أحدا وقاتل حتى قتل وقتل يومئذ سمي مولى أبي بكر الذي يروي عنه مالك بن أنس ودخل بلج المدينة بغير حرب فدخلوا في طاعته وكف عنهم ورجع أبو حمزة إلى مكة وكان على شرطته أبو بكر بن عبد الله بن عمرو من آل سراقة من بني عدي فكان أهل المدينة يقولون لعن الله السراقي ولعن بلجا العراقي نائحة المدينة تبكي قتلى قديد وعمر بن الحسن يذكر الوقعة وقالت نائحة أهل المدينة تبكيهم ( ما للزمان ومالِيَهْ ... أفنت قُديْدُ رِجاليَهْ ) ( فلأَبكِينَّ سَرِيرَةً ... ولأبكينَّ علانيهْ ) ( ولأَبكينّ إذا خلوتُ ... مع الكلاب العاويهْ ) ( ولأُثنينّ على قُدَيْدَ ... بسوء ما أبلانِيهْ ) في هذه الأبيات هزج قديم يشبه أن يكون لطويس أو بعض طبقته وقال عمرو بن الحسن الكوفي مولى بني تميم يذكر وقعة قديد وأمر مكة ودخولهم إياها وأنشدنيها الأخفش عن السكري والأحول وثعلب لعمرو هذا وكان يستجيدها ويفضلها ( ما بالُ همِّك ليسَ عنك بعازبِ ... يَمري سوابقَ دمعِك المتساكبِ ) ( وتبيتُ تَكتلِيء النجومَ بمقلةٍ ... عبْرى تُسَرّ بكلِّ نجمٍ دائبِ ) ( حذرَ المنيةِ أن تَجيء بداهةً ... لم أقض من تَبع الشُّراةِ مآربي ) ( فأَقودُ فيهم للعِدا شَنِجَ النّسا ... عَبْلَ الشَّوى أسوان ضمر الحالِب ) ( متحدَّراً كالسِّيد أخلصَ لونَه ... ماءُ الحسيك مع الحِلاَل اللاتِب ) ( أَرمي به من جَمْع قومي مَعْشراً ... بُوراً إِلى جَبْريّةٍ ومَعايبِ ) ( في فِتيةٍ صُبُرٍ أَلفُّهُمُ به ... لَفَّ القداح يَدَ المُفيض الضاربِ ) ( فندور نحنُ وهُم وفيما بينَنا ... كأسُ المَنونِ تقول هلْ من شاربِ ) ( فنظلُّ نسقيهم ونشرَب من قَناً ... سُمْر ومُرهفةِ النُّصول قواضبِ ) ( بينا كذلكَ نحنُ جالتْ طعنةٌ ... نجلاءُ بينَ رُهَا وبينَ ترائب ) ( جوفاءُ منهَرةٌ ترى تامورَها ... ظُبتَا سِنانٍ كالشِّهاب الثاقبِ ) ( اهوى لها شِقَّ الشِّمال كأنني ... حَفَضٌ لقىً تحتَ العَجاج العاصبِ ) ( يا رب أوحيها ولا تتعلّقَنْ ... نفسِي المنون لَدَى أكُفِّ قرائبِ ) ( كم من أُولي مِقةٍ صحبْتُهم شَرَوْا ... فخذلتُهمْ ولبئسَ فعلُ الصاحب ) ( متأوِّهين كأنّ في أجْوافِهم ... ناراً تُسعِّرها أكُفُّ حَواطبِ ) ( تلقاهُم فتراهُم منْ راكعٍ ... أو ساجدٍ متضرّعٍ أو ناحبِ ) ( يتلو قوارعَ تمتري عَبراتِه ... فيجودُها مَرْيَ امريّ الحالبِ ) ( سُيُرٍ لجائفة الأمورِ أطبَّةٌ ... للصَّدع ذي النبأ الجليل مدائبِ ) ( ومُبرّئينَ من المعايبِ أحرزوا ... خُصَل المكارم أتْقياء أطايبِ ) ( عَرّوْا صَوارمَ للجلاد وباشَروا ... حدَّ الظباةِ بآنُفٍ وحواجبِ ) ( ناطوا أمورَهُم بأَمْرِ أخٍ لهم ... فرمى بهم قُحْم الطرِيقِ اللاحبِ ) ( مُتسربِلي حَلَق الحديدِ كأنهم ... أُسْدٌ على لُحْق البطون سلاهبِ ) ( قِيدت مِن أعلى حضر موتَ فلم تزل ... تَنفِي عداها جانباً عن جانب ) ( تحمي أعنّتَها وتحوي نَهْبَها ... لله أكرمُ فتيةٍ وأسائبِ ) ( حتى وردنَ حياضَ مكة قُطّناً ... يحكِينَ واردةَ اليمام القارب ) ( ما إن أتينَ على أخي حَبْريةٍ ... إلا تركنَهمُ كأَمسِ الذاهبِ ) ( في كلِّ معترِكٍ لها من هامهم ... فِلَقٌ وأيدٍ عُلِّقتْ بمناكب ) ( سائلْ بيوم قُديدَ عن وقعَاتها ... تُخبرْك عن وقعاتِها بعجائب ) وقال هارون بن موسى في رواية محمد بن جرير الطبري عن العباس بن عيسى عنه ثم دخل أبو حمزة المدينة سنة ثلاثين ومائة ومضى عبد الواحد بن سليمان إلى الشأم فرقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال يا أهل المدينة سألناكم عن ولاتكم هؤلاء فأسأتم لعمر الله فيهم القول وسألناكم هل يقتلون بالظن فقلتم نعم وسألناكم هل يستحلون المال الحرام والفرج الحرام فقلتم نعم فقلنا لكم تعالوا نحن وأنتم فنناشدهم الله أن يتنحوا عنا وعنكم ليختار المسلمون لأنفسهم فقتلتم لا تفعلون فقلنا لكم تعالوا نحن وأنتم نلقاهم فإن نظهر نحن وأنتم نأت بمن يقيم فينا كتاب الله وسنة نبيه وإن نظفر نعمل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم ونقسم فيئكم بينكم فإن أبيتم وقاتلتمونا دونهم فقاتلناكم فأبعدكم الله وأسحقكم يا أهل المدينة مررت بكم في زمان الأحول هشام بن عبد الملك وقد أصابتكم عاهة في ثماركم فركبتم إليه تسألونه أن يضع خراجكم عنكم فكتب بوضعها عنكم فزاد الغني غنى وزاد الفقير فقرا فقلتم جزاكم الله خيرا فلا جزاه الله خيرا ولا جزاكم أبو حمزة يخطب بأهل المدينة قال هارون وأخبرني يحيى بن زكريا أن أبا حمزة خطب بهذه الخطبة رقي المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال أتعلمون يا أهل المدينة أنا لم نخرج من ديارنا وأموالنا أشرا ولا بطرا ولا عبثا ولا لهوا ولا لدولة ملك نريد أن نخوض فيه ولا ثأر قديم نيل منا ولكنا لما رأينا مصابيح الحق قد عطلت وعنف القاتل بالحق وقتل القائم بالقسط ضاقت علينا الأرض بما رحبت وسمعنا داعيا يدعو إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن فأجبنا داعي الله ( ومَن لا يُجِب داعيَ اللهِ فَليس بمُعجزٍ في الأرض ) فأقبلنا من قبائل شتى النفر منا على بعير واحد عليه زادهم وأنفسهم يتعاورون لحافا واحدا قليلون مستضعفون في الأرض فآوانا الله وأيدنا بنصره وأصبحنا والله بنعمته إخوانا ثم لقينا رجالكم بقديد فدعوناهم إلى طاعة الرحمن وحكم القرآن ودعونا إلى طاعة الشيطان وحكم مروان وآل مروان شتان لعمر الله ما بين الغي والرشد ثم أقبلوا يهرعون ويزفون قد ضرب الشيطان فيهم بجرانه وغلت بدمائهم مراجله وصدق عليهم ظنه وأقبل أنصار الله عصائب وكتائب بكل مهند ذي رونق فدارت رحانا واستدارت رحاهم بضرب يرتاب منه المبطلون وأنتم يا أهل المدينة إن تنصروا مروان وآل مروان يسحتكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا ويشف صدور قوم مؤمنين يا أهل المدينة إن أولكم خير أول وآخركم شر آخر يا أهل المدينة الناس منا ونحن منهم إلا مشركا عابد وثن أو كافرا من أهل الكتاب أما إماما جائرا يا أهل المدينة من زعم أن الله تعالى كلف نفسا فوق طاقتها أو سألها عما لم يؤتها فهو لله عدو ولنا حرب يا أهل المدينة أخبروني عن ثمانية أسهم فرضها الله تعالى في كتابه على القوي للضعيف فجاء التاسع وليس له منها ولا سهم واحد فأخذ جميعها لنفسه مكابرا محاربا لربه ما تقولون فيه وفيمن عاونه على فعله يا أهل المدينة بلغني أنكم تنتقصون أصحابي قلتم هم شباب أحداث وأعراب جفاة ويحكم يا أهل المدينة وهل كان أصحاب رسول الله إلا شبابا أحداثا شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة عن الباطل أقدامهم قد باعوا أنفسا تموت غدا بأنفس لا تموت أبدا قد خلطوا كلالهم بكلالهم وقيام ليلهم بصيام نهارهم منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مروا بآية خوف شهقوا خوفا من النار وإذا مروا بآية شوق شهقوا شوقا إلى الجنة فلما نظروا إلى السيوف قد أنضيت وإلى الرماح قد أشرعت وإلى السهام قد فوقت وأرعدت الكتيبة بصواعق الموت استخفوا وعيد الكتيبة عند وعيد الله ولم يستخفوا وعيد الله عند وعيد الكتيبة فطوبى لهم وحسن مآب فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها من خشية الله وكم من يد قد أبينت عن ساعدها طالما اعتمد عليها صاحبها راكعا وساجدا أقول قولي هذا وأستغفر الله من تقصيرنا وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب قال هارون وحدثني جدي أبو علقمة قال سمعت أبا حمزة على منبر النبي يقول ( من زنى فهو كافر ) ومن سرق فهو كافر ومن شك أنه كافر فهو كافر ( بَرِح الخفاءُ فأينَ ما بكَ يذهبُ ... ) أبو حمزة يخطب من جديد بأهل المدينة قال هارون قال جدي كان أبو حمزة قد أحسن السيرة في أهل المدينة حتى استمال الناس وسمع بعضهم كلامه في قوله من زنى فهو كافر قال هارون قال جدي وسمعت أبا حمزة يخطب بالمدينة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا أهل المدينة مالي رأيت رسم الدين فيكم عافيا وآثاره دارسة لا تقبلون عليه عظة ولا تفقهون من أهله حجة قد بليت فيكم جدته وانطمست عنكم سنته ترون معروفه منكرا والمنكر من غيره معروفا إذا انكشفت لكم العبر وأوضحت لكم النذر عميت عنها أبصاركم وصمت عنها أسماعكم ساهين في غمرة لاهين في غفلة تنبسط قلوبكم للباطل إذا نشر وتنقبض عن الحق إذا ذكر مستوحشة من العلم مستأنسة بالجهل كلما وقعت عليها موعظة زادتها عن الحق نفورا تحملون منها في صدوركم كالحجارة أو أشد قسوة من الحجارة أو لم تبن لكتاب الله الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعا من خشية الله يا أهل المدينة ما تغني عنكم صحة أبدانكم إذا سقمت قلوبكم إن الله قد جعل لكل شيء غالبا يقاد له ويطيع أمره وجعل القلوب غالبة على الأبدان فإذا مالت القلوب ميلا كانت الأبدان لها تبعا وإن القلوب لا تلين لأهلها إلا بصحتها ولا يصححها إلا المعرفة بالله وقوة النية ونفاذ البصيرة ولو استشعرت تقوى الله قلوبكم لأستعملت بطاعة الله أبدانكم يا أهل المدينة داركم دار الهجرة ومثوى رسول الله لما نبت به داره وضاق به قراره وآذاه الأعداء وتجهمت له فنقله إلى قوم لعمري لم يكونوا أمثالكم متوازرين مع الحق على الباطل ومختارين للآجل على العاجل يصبرون للضراء رجاء ثوابها فنصروا الله وجاهدوا في سبيله وآووا رسول الله ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه وآثروا الله على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة قال الله تعلى لهم ولأمثالهم ولمن اهتدى بهداهم ( ومَنْ يوقَ شُحَّ نفسِه فَأولئك هم المفلحون ) وأنتم أبناؤهم ومن بقي من خلفهم تتركون أن تقتدوا بهم أو تأخذوا بسنتهم عمى القلوب صم الآذان اتبعتم الهوى فأرداكم عن الهدى وأسهاكم فلا مواعظ القرآن تزجركم فتزدجروا ولا تعظكم فتعتبروا ولا توقظكم فتستيقظوا لبئس الخلف أنتم من قوم مضوا قبلكم ما سرتم بسيرتهم ولا حفظتم وصيتهم ولا احتذيتم مثالهم لو شقت عنهم قبورهم فعرضت عليهم أعمالكم فعجبوا كيف صرف العذاب عنكم قال ثم لعن أقواما خطبة رابعة له قال هارون وحدثني داود بن عبد الله بن أبي الكرام وأخرج إليّ خط ابن فضالة النحوي بهذا الخبر أن أبا حمزة بلغه أن أهل المدينة يعيبون أصحابه لحداثة أسنانهم وخفة أحلامهم فبلغه ذلك عنهم فصعد المنبر وعليه كساء غليظ وهو متنكب قوسا عربية فحمد الله وأثنى عليه وصلى على نبيه وآله ثم قال يا أهل المدينة قد بلغتني مقالتكم في أصحابي ولولا معرفتي بضعف رأيكم وقلة عقولكم لأحسنت أدبكم ويحكم إن رسول الله أنزل عليه الكتاب وبين له فيه السنن وشرع له فيه الشرائع وبين له فيه ما يأتي وما يذر فلم يكن يتقدم إلا بأمر الله ولا يحجم إلا عن أمر الله حتى قبضه الله إليه وقد أدى الذي عليه لم يدعكم من أمركم في شبهة ثم قام من بعده أبو بكر فأخذ بسنته وقاتل أهل الردة وشمر في أمر الله حتى قبضه الله إليه والأمة عنه راضون رحمة الله عليه ومغفرته ثم ولي بعده عمر فأخذ بسنة صاحبيه وجند الأجناد ومصر الأمصار وجبى الفيء فقسمه بين أهله وشمر عن ساقه وحسر عن ذراعه وضرب في الخمر ثمانين وقام في شهر رمضان وغزا العدو في بلادهم وفتح المدائن والحصون حتى قبضه الله إليه والأمة عنه راضون رحمة الله عليه ورضوانه ومغفرته ثم ولي من بعده عثمان بن عفان فعمل في ست سنين بسنة صاحبيه ثم أحدث أحداثا أبطل آخر منها أولا واضطرب حبل الدين بعدها فطلبها كل امرئ لنفسه وأسر كل رجل منهم سريرة أبداها الله عنه حتى مضوا على ذلك ثم ولي علي بن أبي طالب فلم يبلغ من الحق قصدا ولم يرفع له منارا ومضى ثم ولي معاوية بن أبي سفيان لعين رسول الله وابن لعينه وحلف من الأعراب وبقية من الأحزاب مؤلف طليق فسفك الدم الحرام واتخذ عباد الله خولا ومال الله دولا وبغى دينه عوجا ودغلا وأحل الفرج الحرام وعمل بما يشتهيه حتى مضى لسبيله فعل الله به وفعل ثم ولى بعده ابنه يزيد يزيد الخمور ويزيد الصقور ويزيد الفهود ويزيد الصيود ويزيد القرود فخالف القرآن واتبع الكهان ونادم القرد وعمل بما يشتهيه حتى مضى على ذلك لعنه الله وفعل به وفعل ثم ولي مروان بن الحكم طريد لعين رسول الله وآله وابن لعينه فاسق في بطنه وفرجه فالعنوه والعنوا آباءه ثم تداولها بنو مروان بعده أهل بيت اللعنة طرداء رسول الله وآله وقوم من الطلقاء ليسوا من المهاجرين والأنصار ولا التابعين لهم بإحسان فأكلوا مال الله أكلا ولعبوا بدين الله لعبا واتخذوا عباد الله عبيدا يورث ذلك الأكبر منهم الأصغر فيالها أمة ما أضيعها وأضعفها والحمد لله رب العالمين ثم مضوا على ذلك من أعمالهم واستخفافهم بكتاب الله تعالى قد نبذوه وراء ظهورهم لعنهم الله فالعنوهم كما يستحقون وقد ولي منهم عمر بن عبد العزيز فبلغ ولم يكد وعجز عن الذي أظهره حتى مضى لسبيله ولم يذكره بخير ولا شر ثم ولي يزيد بن عبد الملك غلام ضعيف سفيه غير مأمون على شيء من أمور المسلمين لم يبلغ أشده ولم يؤانس رشده وقد قال الله عز و جل ( فإِن آنسْتُم مِنهم رُشداً فادفعوا إليهم أموالهم ) فأمر أمة محمد في أحكامها وفروجها ودمائها أعظم من ذلك كله وإن كان ذلك عند الله عظيما مأبون في بطنه وفرجه يشرب الحرام ويأكل الحرام ويلبس الحرام ويلبس بردتين قد حيكتا له وقومتا على أهلهما بألف دينار وأكثر وأقل قد أخذت من غير حلها وصرفت في غير وجهها بعد أن ضربت فيها الأبشار وحلقت فيها الأشعار واستحل ما لم يحل الله لعبد صالح ولا لنبي مرسل ثم يجلس حبابة عن يمينه وسلامة عن شماله تغنيانه بمزامير الشيطان ويشرب الخمر الصراح المحرمة نصا بعينها حتى إذا أخذت مأخذها فيه وخالطت روحه ولحمه ودمه وغلبت سورتها على عقله مزق حلتيه ثم التفت إليهما فقال أتأذنان لي أن أطير نعم فطر إلى النار إلى لعنة الله وناره حيث لا يردك الله ثم ذكر بني أمية وأعمالهم وسيرهم فقال أصابوا إمرة ضائعة وقوما طغاما جهالا لا يقومون لله بحق ولا يفرقون بين الضلالة والهدى ويرون أن بني أمية أرباب لهم فملكوا الأمر وتسلطوا فيه تسلط ربوبية بطشهم بطش الجبابرة يحكمون بالهوى ويقتلون على الغضب ويأخذون بالظن ويعطلون الحدود بالشفاعات ويؤمنون الخونة ويقصون ذوي الأمانة ويأخذون الصدقة في غير وقتها على غير فرضها ويضعونها في غير موضعها فتلك الفرقة الحاكمة بغير ما أنزل الله فالعنوهم لعنهم الله وأما إخواننا من هذه الشيعة فليسوا بإخواننا في الدين لكن سمعت الله عز و جل قال في كتابه ( يا أيها الناسُ إِنا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شُعوبَاً وقبائلَ لتعارفُوا ) شيعة ظاهرت بكتاب الله وأعلنت الفرية على الله لا يرجعون إلى نظر نافذ في القرآن ولا عقل بالغ في الفقه ولا تفتيش عن حقيقة الصواب قد قلدوا أمرهم أهراءهم وجعلوا دينهم عصبية لحزب لزموه وأطاعوه في جميع ما يقوله لهم غيا كان أو رشدا أو ضلالة أو هدى ينتظرون الدول في رجعة الموتى ويؤمنون بالبعث قبل الساعة ويدعون علم الغيب لمخلوق لا يعلم أحدهم ما في داخل بيته بل لا يعلم ما ينطوي عليه ثوبه أو يحويه جسمه ينقمون المعاصي على أهلها ويعلمون إذا ظهروا بها ولا يعرفون المخرج منها جفاة في الدين قليلة عقولهم قد قلدوا أهل بيت من العرب دينهم وزعموا أن موالاتهم لهم تغنيهم عن الأعمال الصالحة وتنجيهم من عقاب الأعمال السيئة ( قاتلهم الله أنَّى يُؤفَكون ) فأي هؤلاء الفرق يا أهل المدينة تتبعون أو بأي مذاهبهم تقتدون وقد بلغني مقالتكم في أصحابي وما عبتموه من حداثة أسنانهم ويحكم وهل كان أصحاب رسول الله وآله المذكورون في الخير إلا أحداثا شبابا شباب والله مكتهلون في شبابهم غضيضة عن الشر أعينهم ثقيلة عن الباطل أرجلهم أنظاء عبادة قد نظر الله إليهم في جوف الليل منحنية أصلابهم على أجزاء القرآن كلما مر أحدهم بآية من ذكر الله بكى شوقا وكلما مر بآية من ذكر الله شهق خوفا كأن زفير جهنم بين أذنيه قد أكلت الأرض جباههم وركبهم ووصلوا كلال الليل بكلال النهار مصفرة ألوانهم ناحلة أجسامهم من طول القيام وكثرة الصيام أنضاء عبادة موفون بعهد الله منتجزون لوعد الله قد شروا أنفسهم حتى إذا التقت الكتيبتان وأبرقت سيوفها وفوقت سهامها وأشرعت رماحها لقو شبا الأسنة وشائك السهام وظباة السيوف بنحورهم ووجوههم وصدورهم فمضى الشاب منهم قدما حتى اختلفت رجلاه على عنق فرسه واختضبت محاسن وجهه بالدماء وعفر جبينه بالثرى وانحطت عليه الطير من السماء وتمزقته سباع الأرض فكم من عين في منقار طائر طالما بكى بها صاحبها في جوف الليل من خوف الله وكم من وجه رقيق وجبين عتيق قد فلق بعمد الحديد ثم بكى وقال آه آه على فراق الإخوان رحمة الله على تلك الأبدان وأدخل الله أرواحهم الجنان قال هارون بلغني أنه بايعه بالمدينة ناس منهم إنسان هذلي وإنسان سراقي وسكسب الذي كان معلم النحو ثم خرج وخلف بالمدينة بعض أصحابه فسار حتى نزل الوادي وكان مروان قد بعث ابن عطية مروان ينتخب جيشا بقيادة ابن عطية قال هارون حدثني أبو يحيى الزهري أن مروان انتخب من عسكره أربعة آلاف استعمل عليهم ابن عطية فأمره بالجد في السير وأعطى كل رجل من أصحابه مائة دينار وفرسا عربية وبغلا لثقله وأمره أن يمضي فيقاتلهم وقال المدائني بعث عبد الملك بن عطية السعدي أحد بني سعد بن بكر في أربعة آلاف معه فرسان من أهل الشأم ووجوههم منهم شعيب البارقي ورومي بن عامر المري وقيل بل هو كلابي وفيهم ألف من أهل الجزيرة وشرطوا على مروان أنهم إذا قتلوا عبد الله بن يحيى وأصحابه رجعوا إلى الجزيرة ولم يقيموا بالحجاز فأجابهم إلى ذلك قالوا فخرج حتى إذا نزل بالمعلى فكان رجل من أهل المدينة يقال له العلاء بن أفلح مولى أبي الغيث يقول لقيني وأنا غلام في ذلك اليوم رجل من أصحاب ابن عطية فسألني ما اسمك يا غلام فقلت العلاء فقال ابن من فقلت ابن أفلح قال أعربي أم مولى قلت بل مولى قال مولى من قلت مولى أبي الغيث قال فأين نحن قلت بالمعلى قال فأين نحن غدا قلت بغالب قال فما كلمني حتى أردفني خلفه ثم مضى بي حتى أدخلني على ابن عطية فقال سل هذا الغلام ما اسمه فسألني فرددت عليه القول الذي قلت فسر بذلك ووهب لي دراهم وقال أبو صخر الهذلي حين بلغه قدوم ابن عطية ( قل للذين استُضعِفوا لا تعجَلوا ... أَتاكم النصر وجيشٌ جَحْفَلُ ) ( عشرونَ أَلفاً كلّهم مُسربَلُ ... يقدُمهم جَلْد القُوى مُستَبسِلُ ) ( دونَكُم ذا يَمنٍ فأَقبلُوا ... وواجِهوا القومَ ولا تستَخْجِلوا ) ( عبدُ المليكِ القُلَّبِيُّ الحُوّلُ ... أقسمَ لا يُفْلَى ولا يُرَجَّلُ ) ( حتى يبيدَ الأعورُ المضلِّل ... ويقتلَ الصَّباح والمفضَّلُ ) الأعور عبد الله بن يحيى رئيسهم ابن عطية ينتصر على بلج بن عقبة قال المدائني عن رجاله وبعث أبو حمزة بلج بن عقبة في ستمائة رجل ليقاتل عبد الملك بن عطية فلقيه بوادي القرى لأيام خلت من جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة فتواقفوا ودعاهم بلج إلى الكتاب والسنة وذكر بني أمية وظلمهم فشتمهم أهل الشام وقالوا أنتم يا أعداء الله أحق بهذا ممن ذكرتم وقلتم فحمل عليهم بلج وأصحابه فانكشف طائفة من أهل الشام وثبت أبن عطية في عصبة صبروا معه ونادى يا أهل الشام يا أهل الحفاظ ناضلوا عن دينكم وأميركم فكروا واصبروا صبرا حسنا وقاتلوا قتالا شديدا فقتل بلج وأكثر أصحابه وانحازت قطعة من أصحابه نحو المائة إلى جبل اعتصموا به فقاتلهم ابن عطية ثلاثة أيام فقتل منهم سبعين رجلا ونجا ثلاثون فرجعوا إلى أبي حمزة ونصب ابن عطية رأس بلج على رمح قال واغتم الذين رجعوا إلى أبي حمزة من وادي القرى إلى المدينة وهم الثلاثون ورجعوا وجزعوا من أنهزامهم وقالوا ما فررنا من الزحف فقال لهم أبو حمزة لا تجزعوا فأنا لكم فئة وإليّ انصرفتم أهل المدينة يفتكون بالخوارج قال المدائني وخرج أبو حمزة من المدينة إلى مكة واستخلف رجلا يقال له المفضل عليها فدعا عمر بن عبد الرحمن بن أسيد بن عبد الرحمن بن يزيد بن الخطاب الناس إلى قتالهم فلم يجد كبير أمر لأن القتل قد كان شاع في الناس وخرج وجوه أهل البلد عنه فاجتمع إلى عمر البربر والزنج وأهل السوق والعبيد فقاتل بهم الشراة فقتل المفضل وعامة أصحابه وهرب الباقون فلم يبق في المدينة منهم أحد فقال في ذلك سهيل أبو البيضاء مولى زينب بنت الحكم بن العاصي ( ليت مروانَ رانا ... يوم الإثنين عَشِيَّهْ ) ( إذ غسلنا العارَ عنّا ... وانتضيْنا المَشْرَفِيّهْ ) قال فلما قدم ابن عطية المدينة أتاه عمر بن عبد الرحمن بن اسيد فقال له أصلحك الله إني جمعت قضي وقضيضي فقاتلت هؤلاء فقتلنا من امتنع من الخروج عن المدينة وأخرجنا الباقين فلقيه أهل المدينة بقضهم وقضيضهم مصرع أبي حمزة مع زوجته قال وأقام ابن عطية بالمدينة شهرا وأبو حمزة مقيم بمكة ثم توجه إليه فقال له علي بن حصين العنبري إني قد كنت أشرت عليك يوم قديد وقبله أن تقتل هؤلاء الأسرى كلهم فلم تفعل وعرفتك أنهم سيغدرون فلم تقبل حتى قتلوا المفضل وأصحابنا المقيمين بالمدينة وأنا أشير عليك اليوم أن تضع السيف في هؤلاء فإنهم كفرة فجرة ولو قدم عليك ابن عطية لكانوا أشد عليك منه فقال لا أرى ذلك لأنهم قد دخلوا في الطاعة وأقروا بالحكم ووجب لهم حق الولاية قال إنهم سيغدرون فقال أبعدهم الله ( فمن نكثَ فإنما ينكُث على نفسِه ) قال وقدم عبد الملك بن عطية مكة فصير أصحابه فرقتين ولقي الخوارج من وجهين فصير طائفة بالأبطح وصار هو في الطائفة الأخرى بإزاء أبي حمزة فصار أبو حمزة أسفل مكة وصير أبرهة بن الصباح بالأبطح في ثمانين فارسا فقاتلهم أبرهة فانهزم أهل الشأم إلى عقبة منى فوقفوا عليها ثم كروا وقاتلهم فقتل أبرهة كمن له هبار القرشي وهو على جبل دمشق عند بئر ميمون فقتله وتفرق الخوارج وتبعهم أهل الشأم يقتلونهم حتى دخلوا المسجد والتقى أبو حمزة وابن عطية بأسفل مكة فخرج أهل مكة مع ابن عطية فقتل أبو حمزة على فم الشعب وقتلت معه امرأته وهي ترتجز وتقول ( أنا الجُعَيداَءُ وَبنتُ الأعلمْ ... من سال عن اسمي فإسمي مَريمْ ) ( بعتُ سِواريّ بسيفٍ مِخذَمْ ... ) قال وتفرقت الخوارج فأسر أهل الشام منهم أربعمائة فدعا بهم ابن عطية فقال ويلكم ما دعاكم إلى الخروج مع هذا قالوا ضمن لنا الكنة يريدون الجنة وهي لغتهم فقتلهم وصلب أبا حمزة وأبرهة بن الصباح ورجلين من أصحابهم على فم الشعب شعب الخيف ودخل علي بن الحصين دارا من دور قريش فأحدق أهل الشام بالدار فأحرقوها فلما رأى ذلك رمى بنفسه من الدار فقاتلهم وأسر فقتل وصلب مع أبي حمزة ولم يزالوا مصلبين حتى أفضى الأمر إلى بني العباس وحج مهلهل الهجيمي في خلافة أبي العباس فأنزل أبا حمزة ليلا فدفنه ودفن خشبته قال المدائني وكان بمكة مخنثان يقال لأحدهما سبكت وللآخر صقرة فكان صقرة يرجف بأهل الشام وكان سبكت يرجف بالإباضية فعرف الخوارج أمرهما فوجهوا إلى سبكت فأخذوه فقتلوه فقال صقرة يا ويله هو والله أيضا مقتول وإنما كنت أنا وسبكت نتكايد ونتكاذب فقتلوه وغدا يجيء أهل الشام فيقتلونني فلما دخل ابن عطية مكة عرف خبرهما فأخذ صقرة فقتله مذهب ابن عطية وقال هارون في خبره أخبرني عبد الملك بن الماجشون قال لما التقى أبو حمزة وابن عطية قال أبو حمزة لا تقاتلوهم حتى تخبروهم فصاح بهم ما تقولون في القرآن والعمل به فصاح ابن عطية نضعه في جوف الجوالق قال فما تقولون في مال اليتيم قال نأكل ماله ونفجر بأمه ثم أجاب في أشياء بلغني أنه سأله عنها فلما سمعوا كلامهم قاتلوهم حتى أمسوا فصاحت الشراة ويحك يابن عطية إن الله جل وعز قد جعل الليل سكنا فاسكن ونسكن فأبى وقاتلهم حتى قتلهم جميعا قال هارون أخبرني موسى بن كثير أن أبا حمزة خطب أهل المدينة وودعهم ليخرج إلى الحرب فقال يا أهل المدينة إنا خارجون لحرب مروان فإن نظهر نعدل في أحكامكم ونحملكم على سنة نبيكم ونقسم بينكم وإن يكن ما تمنون لنا فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون قال ووثب الناس على أصحابه حين جاءهم قتله فقتلوهم فكان بشكست ممن قتلوا طلبوه فرقي في درجة كانت في دار أذينة فلحقوه فأنزلوه منها وهو يصيح يا عباد الله فيم تقتلونني قال وأنشدني بعض أصحابنا ( لقد كان بشكسْتُ عبد العزيز ... منَ أهل القراءةِ والمسجدِ ) ( فبُعداً لبشكسْتِ عبد العزيز ... وأمّا القُرانُ فلا يَبعدِ ) قال هارون وأخبرني بعض أصحابنا أنه رأى رجلا واقفا على سطح يرمي بالحجارة فقيل ويلك أتدري من ترمي مع اختلاط الناس قال والله ما أبالي من رميت إنما هو شام وشار والله ما أبالي أيهما قتلت مقتل طالب الحق وقال المدائني لما قتل ابن عطية أبا حمزة بعث برأسه مع عروة بن زيد بن عطية إلى مروان وخرج إلى الطائف فأقام بها شهرين وتزوج بنت محمد بن عبد الله بن أبي سويد الثقفي واستعمل على مكة رومي بن عامر المري وأتى فل أبي حمزة إلى عبد الله بن يحيى بصنعاء فأقبل معه أصحابه وقد لقبوه طالب الحق يريد قتال ابن عطية وبلغ ابن عطية خبره فشخص إليه فالتقوا بكسة فأكثر أهل الشام القتل فيهم وأخذوا أثقالهم وأموالهم وتشاغلوا بالنهب فركب عبد الله بن يحيى فكشفهم فقتل منهم نحو مائة رجل وقتل قائد من قوادهم يقال له يزيد بن حمل القشيري من أهل قنسرين فذمرهم ابن عطية فكروا وانضم بعضهم إلى بعض وقاتلوا حتى أمسوا فكف بعضهم عن بعض ثم التقوا من غد في موضع كثير الشجر والكرم والحيطان فطال القتال بينهم واستحر القتل في الشراة فترجل عبد الله بن يحيى في ألف فارس فقاتلوا حتى قتلوا جميعا عن آخرهم وانهزم الباقون فتفرقوا في كل وجه ولحق من نجا منهم بصنعاء وولوا عليهم حمامة فقال أبو صخر الهذلي ( قتلنا دُعيساً والذي يكتَني الكُنى ... أبا حمزة الغاوي المضلَّ اليَمانيا ) ( وَأبرهةَ الكِنديَّ خاضتْ رماحُنا ... وبلْجاً صبحناه الحُتوفَ القَواضيا ) ( وَما تركت أسيافُنا منذ جُرّدَت ... لمروَانَ جبّاراً على الأرض عاديا ) قال المدائني وبعث عبد الملك بن عطية رأس عبد الله بن يحيى مع ابنه يزيد بن عبد الملك إلى مروان وقال عمرو بن الحصين ويقال الحسن العنبري مولى لهم يرثي عبد الله بن يحيى وأبا حمزة وهذه القصيدة التي في أولها الغناء المذكور أول هذه الأخبار رثاء الخوارج ( هبّتْ قُبيلَ تبلُّج الفجرِ ... هندٌ تقول وَدمعُها يَجري ) ( أن أبصرتْ عيني مَدامعَها ... ينهلّ واكِفُها على النَّحر ) ( أنَّى اعتراكَ وكنتَ عهديَ لا ... سَرِبَ الدموع وكنتَ ذا صبر ) ( أَقذًى بعينك ما يُفارقها ... أم عائرٌ أم مالها تُذرِي ) ( أَم ذِكرُ إخوان فُجِعتَ بهم ... سلكوا سبيلَهُمُ على خُبْر ) ( فأَجبتُها بل ذكرُ مصرَعِهم ... لا غيرُه عبراتُها تَمرِي ) ( يا ربِّ أَسلِكني سَبيلَهمُ ... ذا العرش واشْدُد بالتّقى أزرِي ) ( في فِتيةٍ صبروا نفوسَهمُ ... للمشرفيّة وَالقنا السُّمْر ) ( تاللهِ ألقى الدهرَ مثلَهمُ ... حتى أكونَ رهينةَ القَبرِ ) ( أوفِي بذمتهم إذا عَقَدُوا ... وَأعِفّ عند العُسر واليُسر ) ( متأَهِّلينَ لكلِّ صالحةٍ ... ناهين مَنْ لاقَوْا عن النُّكْرِ ) ( صُمتٌ إذا احتضروا مجالِسَهم ... وُزُن لقول خَطيبهم وُقْر ) ( إلاّ تجيبهمُ فإنهمُ ... رُجُف القلوب بحضْرة الذِّكْر ) ( متأَوِّهون كأنّ جمرَ غَضاً ... للخوف بين ضلوعِهم يَسري ) ( تلقاهمُ إلاّ كأنّهمُ ... لخشوعهم صَدَروا عن الحَشْرِ ) ( فهمُ كأَنّ بهم جَوى مرضٍ ... أو مسّهمْ طَرْفٌ من السِّحر ) ( لا ليلُهم ليلٌ فيلبَسُهم ... فيه غَواشي النومِ بالسُّكْر ) ( إلاّ كذا خُلساً وآونةً ... حذرَ العقابِ وهم على ذُعْر ) ( كم من أخ لك قد فُجعتَ به ... قوّامُ ليلتِه إلى الفَجْر ) ( متأوِّهٍ يتلو قوارعَ مِن ... آي القُران مفزَّع الصَّدْر ) ( نَصِبٍ تَجيشُ بناتُ مُهجته ... بالموت جَيْش مُشَاشةِ القِدْر ) ( ظمآن وقدة كلِّ هاجرةٍ ... تَرّاكُ لذَّته على قَدْرِ ) ( ترّاك ما تهوى النفوسُ إذا ... رُغَبُ النفوسِ دَعتْ إلى النَّذْر ) ( ومبرَّأ من كل سَيئةٍ ... عفِّ الهوى ذُو مِرّةٍ شَزْر ) ( والمصطلِي بالحرب يسعَرُها ... بغبارها وبفِنيةٍ سُعْرِ ) ( يجتاحها بأقلّ ذي شُطَبٍ ... عضبِ المضارب قاطعِ البَتْر ) ( لا شيءَ يلقَاه أسرَّ له ... من طعنةٍ في ثُغْرةِ النَّحرِ ) ( نجلاء مُنهرَة تَجيشُ بما ... كانت عواصي جَوفِه تَجري ) ( كخليلكَ المختارِ أذْكِ به ... من مقتدٍ في الله أو مُشْر ) ( خوّاص غمرةِ كلِّ مَتلفة ... في الله تحت العِثْير الكُدْر ) ( ترّاك ذِي النَّخوات مُختَضِباً ... بنجيعه بالطَّعنة الشّزْر ) ( وابن الحصين وهل له شَبَهٌ ... في العرف أنَّى كان والنُّكْرِ ) ( بسَّامةٍ لم تُحنَ أضلُعه ... لذوي أُخوَّتِه على غِمْرِ ) ( طلق اللسانِ بكلِّ مُحكمة ... رآبُ صدع العَظم ذِي الوقر ) ( لم ينفِكك في جوفه حَزَنٌ ... تغلي حرارتُه وتستَشْرِي ) ( ترقَى وآونة يُخَفِّضُها ... بتنفّس الصُّعّداء والزَّفْرِ ) ( ومُخالطِي بَلْجٍ وخَالصتي ... سُمُّ العدوِّ وجابر الكَسْر ) ( نِكْلِ الخصومِ إذا هُمُ شَغِبوا ... وسِداد ثَلمة عورة الثّغْر ) ( والخائضُ الغمراتِ يخطِر في ... وسط الأعادي أيَّما خَطْرِ ) ( بمشطَّبٍ أو غيرِ ذي شُطَب ... هامَ العِدَا بِذُبابِهِ يَفْري ) ( وأخيكَ أبرهة الهجان أخي ... الْحَرْبِ العَوانِ مُلقِّحِ الجَمْر ) ( بمُرِشَّةٍ فَرْعٍ تَثُجُّ دَماً ... ثجَّ الغويِّ سُلافَةَ الخَمْر ) ( والضارب الأخدودِ ليس لها ... حَدٌّ ينهنهها عن السَّحْر ) ( ووليُّ حكمهم فجِعتُ به ... عمرو فَواكَبِدي على عَمرِو ) ( قَوَّالُ مُحكَمةٍ وذي فَهَمٍ ... عَفِّ الهوى متثبّتِ الأمْرِ ) ( ومسيَّبِ فاذكْر وصيّتَه ... لا تنسَ إمّا كنتَ ذا ذُكْر ) ( فكلاهُما قد كان مُحْتَبِساً ... للهِ ذَا تَقوى وذا بِرِّ ) ( في مُخْبِتين ولم أُسمّهمُ ... كانوا يدي وهمُ أُول نَصري ) ( وهمُ مساعرُ في الوغَى رُجحٌ ... وخِيارُ مَن يَمشي على العَفْر ) ( حتى وَفَوا لله حيث لَقُوا ... بعهودٍ لا كذبٍ ولا غَدْر ) ( فتخالَسوا مُهجاتِ أنفسهم ... وعُداتهم بقواضبٍ بُتْر ) ( وأَسنَّةٍ أُثْبِتْن في لُدُنٍ ... خَطِّيةٍ بأكفّهم زُهْرِ ) ( تحتَ العَجاج وفوقَهم خِرِقٌ ... يخفِقْن من سُودٍ ومن حُمْرِ ) ( فتفرّجت عنهم كماتُهُمُ ... لم يغمضوا عيناً على وِتْر ) ( فشعارُهم نِيرانُ حربِهِمُ ... ما بين أعلى الشَّحْر فالحِجْر ) ( صرعَى فَحاجِلةٌ تنوشُهُم ... وخَوامِعٌ لحُماتِهمْ تَفْري ) مروان يأمر ابن عطية بالمسير إلى صنعاء قال المدائني وكتب مروان إلى ابن عطية يأمره بالمسير إلى صنعاء ليقاتل من بها من الخوارج فاستخلف ابنه محمد بن عبد الملك على مكة وعلى المدينة الوليد بن عروة بن عطية وتوجه إلى صنعاء ورجع أهل الجزيرة جميعا إلى بلدهم وكذلك كان مروان شرط لهم فلما قرب من صنعاء هرب عامل عبد الله بن يحيى عنها فأخذ أهل صنعاء أثقاله وحملين من مال كان معه فسلموا ذلك إلى ابن عطية وتتبع أصحاب عبد الله بن يحيى في كل موضع يقتلهم وأقام بصنعاء أشهرا ثم خرج عليه رجل من أصحاب عبد الله بن يحيى في آل ذي الكلاع يقال له يحيى بن عبد الله بن عمر بن السباق في جمع كثير بالجند فبعث إليه ابن عطية ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن عطية فلقيه بالحرب فهزمه وقتل عامة أصحابه وهرب منه فنجا وخرج عليه يحيى بن كرب الحميري بساحل البحر وانضمت إليه شذاذ الإباضية فبعث إليه أبا أمية الكندي في الوضاحية فالتقوا بالساجل فقتل من الإباضية نحو مائة رجل وتحاجزوا عند المساء فهربت الإباضية إلى حضرموت وبها عامل لعبد الله بن يحيى يقال له عبد الله بن معبد الجرمي فصار في جيش كثير واستفحل أمره وبلغ ابن عطية الخبر فاستخلف ابن أخيه عبد الرحمن بن يزيد بن عطية على صنعاء وشخص إلى حضرموت وبلغ عبد الله بن معبد مسير عبد الملك إليهم فجمعوا الطعام وكل ما يحتاجون إليه في مدينة شبام وهي حصن حضرموت مخافة الحصار ثم عزموا على لقاء ابن عطية في الفلاة فخرجوا حتى نزلوا على أربع مراحل من حضر موت في عدد كثير في فلاة وأتاهم ابن عطية فقاتلهم يومه كله فلما أمسى وقد بلغه ما جمعوا في شبام حدر عسكره في بطن حضرموت إلى شبام ليلا ثم أصبح فقاتلهم حتى انتصف النهار ثم تحاجزوا فلما أمسوا تبع عسكره وأصبح الخوارج فلم يروا للقوم أثرا فاتبعوهم وقد سبقوهم إلى الحصن فأخذوا جميع ما فيه وملكوه ونصب ابن عطية عليهم المسالح وقطع عنهم المادة والميرة وجعل يقتل من يقدر عليه ويسبي ويأخذ الأموال مصرع ابن عطية ثم ورد عليه كتاب مروان بن محمد يأمره بالتعجل إلى مكة ليحج بالناس فصالح أهل حضر موت على أن يرد عليهم ما عرفوا من أموالهم ويولي عليهم من يختارون وسالموه فرضي بذلك وسالمهم وشخص إلى مكة متعجلا مخفا ولما نفذ كتاب مروان ندم بعد ذلك بأيام وقال إنا لله قتلت والله ابن عطية هو الآن يخرج مخفا متعجلا ليلحق الحج فيقتله الخوارج فكان كما قال تعجل في بضعة عشر رجلا فلما كان بأرض مراد تلففت عليه جماعة فمن كان من تلك الجماعة إباضيا عرفه فقال ما ننتظر بهذا أن ندرك ثأر إخواننا فيه ومن لم يكن إباضيا ظنه من الإباضية وأنه منهزم فلما علم أنهم يريدونه قال لهم ويحكم أنا عامل أمير المؤمنين على الحج فلم يلتفتوا إلى ذلك وقتلوه ونصبت الإباضية رأسه فلما فتشوا متاعه وجدوا فيه الكتاب بولايته على الحج فأخذوا من الإباضية رأسه ودفنوه مع جسده قال المدائني خرج إليه جمانة وسعيد ابنا الأخنس في جماعة من قومهما من كندة وعرفه جمانة لما لقيه فحمل عليه هو وأخوه ورجل آخر من همدان يقال له رمانة وثلاثة من مراد وخمسة من كندة وقد توجه في طريق مع أربعة نفر من أصحابه وتوجه باقيهم في طريق آخر فقصدوا حيث توجه ابن عطية ووجهوا في آثار أصحابه نحو أربعين رجلا منهم فأدركوهم فقتلوهم وأدرك سعيد وجمانة وأصحابهما ابن عطية فعطف عبد الملك على سعيد فضربه وطعنه جمانة فصرعه عن فرسه ونزل إليه سعيد فقعد على صدره فقال له ابن عطية هل لك يا سعيد في أن تكون أكرم العرب أسيرا فقال يا عدو الله أترى الله كان يمهلك أو تطمع في الحياة وقد قتلت طالب الحق وأبا حمزة وبلجا وأبرهة فقتله وقتل أصحابه جميعا وبعثوا برأسه إلى حضر موت وبلغ ابن أخيه وهو بصنعاء خبره فأرسل شعيبا البارقي في الخيل فقتل الرجال والصبيان وبقر بطون النساء وأخذ الأموال وأخرب القرى وجعل يتتبع البري والنطف حتى لم يبق أحد من قتله ابن عطية ولا من الإباضية إلا قتله ولم يزل مقيما باليمن إلى أن أفضى الأمر إلى بني هاشم وقام بالأمر أبو العباس السفاح تم الجزء الثالث والعشرون من كتاب الأغاني ويليه الجزء الرابع والعشرون وأوله خبر عبد الله بن أبي العلاء بسم الله الرحمن الرحيم خبر عبد الله بن أبي العلاء عبد الله بن أبي العلاء رجل من أهل سر من رأى وكان يأخذ عن إسحاق وطبقته فبرع وله صنعة يسيرة جيدة وابنه أحمد بن عبد الله بن أبي العلاء أحد المحسنين المتقدمين أخذ عن مخارق وعلوية وطبقتهما وعمر إلى آخر أيام المعتضد وكانت فيه عربدة وكان عبد الله بن أبي العلاء حسن الوجه والزي ظريفا شكلا حدثني ذكاء وجه الرزة قال قال لي ابن المكي المرتجل كان يقوم دابة عبد الله بن أبي العلاء وثيابه إذا ركب ألف دينار قال وقال لي ابن المكي حدثني أبي قال نظر أحمد بن يوسف الكاتب إلى عبد الله بن أبي العلاء عند إسحاق وهو يطارحه فأقام عند إسحاق وسأله احتباس عبد الله عنده فأمره بذلك فاعتل عليه وقال أريد أن أشيع غازيا يخرج من جيراننا فقال له أحمد بن يوسف ( لا تَخرُجَنَّ مع الغُزاةِ مُشَيِّعاً ... إنَّ الغَزِيَّ يراكَ أفضلَ مَغْنَمِ ) ( ودَع الحَجِيجَ ولا تُشيِّع وَفْدَهُمْ ... أخْشَى عليكَ من الحَجِيجِ المُحرِمِ ) ( ما أنتَ إلاَّ غادَةٌ مَمْكُورةٌ ... لولا شَوارِبُكَ المُحِيطةُ بالفَم ) وقد روي أن هذا الشعر لسعيد بن حميد في عبد الله بن أبي العلاء وهو الصحيح فأقسم عليه إسحاق أن يقيم فأقام وقال لي جعفر بن قدامة وقد تجاذبنا هذا الخبر حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه أن العشرة اتصلت بين عبد الله وبين أحمد بن يوسف وتعشقه وأنفق عليه جملة من المال حتى اشتهر به فعاتبه محمد بن عبد الملك الزيات في ذلك فقال له ( لاَ تعذُلنَّي يا أبا جَعْفرٍ ... عَذْلُ الأخِلاّءِ من اللُّومِ ) ( إنَّ اسْتَهُ مُشْرَبَةٌ حُمرةً ... كأنَّها وَجْنةُ مَكْظُومِ ) وقد قيل إن هذين البيتين لأحمد بن يوسف في موسى بن عبد الملك وكان بعض الشعراء قد أولع بعبد الله بن أبي العلاء يهجوه ويذكر أن أباه أبا العلاء هو سالم السقاء وفيه يقول هذا الشعر ( كنتُ في مَجْلسٍ أنيقٍ جَميلٍ ... فأتانا ابنُ سالمٍ مُخْتالا ) ( فتغَنَّى صَوتاً فأخطأ فيهِ ... وابتَدا ثانِياً فكان مُحالا ) ( وابتغى خِلْعةً على ذاكَ مِنَّا ... فخَلعْنا على قَفاهُ النِّعالا ) وفيه يقول هذا الشاعر أنشدناه ابن عمار وغيره ( إذا ابنُ العلاءِ أُقِيمَ عَنَّا ... فأهلاً بالمُجالسِ والرَّحيقِ ) ( قَفاهُ على أَكُفِّ الشَّرْبِ وَقْفٌ ... وجِلْدهُ وَجْهِهِ مَيدانُ رِيقِ ) صوت ( أفاطِمُ حُيِّيتِ بالأَسعُدِ ... مَتى عهدُنا بكِ لا تبعُدِي ) ( تبارَك ذو العَرشِ ماذا نَرى ... من الحُسْنِ في جانِبِ المسْجِد ) ( فإنْ شِئْتِ آليتُ بينَ المقَامِ ... والرُّكنِ والحَجَرِ الأسودِ ) ( أَأَنْساكِ ما دامَ عَقْلي مَعي ... أَمُدُّ به أَمَدَ السَّرْمَدِ ) الشعر لأمية بن أبي عائذ والغناء لحكم الوادي هزج خفيف بإطلاق الوتر في مجرى الوسطى عن إسحاق وفيه للأبجر ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وقال ابن المكي فيه هزج ثقيل بالبنصر لعمر الوادي وفيه لفليح لحن من رواية بذل ولم يذكر طريقته نسب أمية بن أبي عائذ وأخباره أمية بن أبي عائذ العمري أحد بني عمرو بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل شاعر إسلامي من شعر اء الدولة الأموية وهذا أكثر ما وجدته من نسبه في سائر النسخ وكان أمية أحد مداحي بني مروان وله في عبد الملك وعبد العزيز ابني مروان قصائد مشهورة مدحه عبد العزيز بن مروان فذكر ابن الأعرابي وأبو عبيدة جميعا أنه وفد إلى عبد العزيز إلى مصر وقد امتدحه بقصيدته التي أولها ( ألاَ إنّ قَلْبي مَعَ الظاعِنينا ... حَزِينٌ فمَن ذا يُعَزِّي الحَزِينا ) ( فيالكِ من رَوْعةٍ يومَ بانُو ... بمَن كنتُ أحسَبُ أَلاَّ يَبِينا ) في هذين البيتين للحسين بن محرز خفيف ثقيل عن الهشامي وفي هذه القصيدة يقول ( إلى سيّد الناسِ عبدِ العزيزِ ... أَعْملتُ للسَّيْرِ حَرْفاً أَمُونا ) ( صُهابِيّةً كعَلاةِ القُيونِ ... من ضَرْبِ جَوهر ما يُخْلِصُونا ) ( إذا أَزبَدتْ من تَبارِي المطيّ ... خِلتَ بها خَبَلاً أَو جُنُونا ) ( تُؤمُّ النّواعِشَ والفَرْقدَيْنِ ... تُنَصِّب للقَصْدِ منها الْجَبِينَا ) ( إلى مَعدِنِ الخيرِ عبدِ العزيزِ ... تُبلِّغُنا ظُلَّعاً قد حَفِينا ) ( تَرى الأُدْمَ والعِيسَ تحت المُسوحِ ... قد عُدنَ من عَرَقِ الأَيْنِ جُونا ) ( تَسِيرُ بمدحِيَ عبدَ العزِيز ... رُكبانُ مكَّةَ والمُنجِدُونا ) ( مُحَبَّرةٌ من صَرِيح الكلامِ ... ليس كما لَفَّق المُحْدثونا ) ( وكان امرا سيّداً ماجداً ... يُصَفِّيَ العَتِيقَ وَينفي الهَجِينا ) قال وطال مقامه عند عبد العزيز وكان يأنس به ووصله صلات سنية فتشوق إلى البادية وإلى أهله فقال لعبد العزيز ( مَتَى راكبٌ من أهْلِ مصرَ وأَهْلُه ... بمكَّةَ من مصرَ العَشِيَّةَ راجعُ ) ( بَلَى إنَّها قد تقْطعُ الخرْقَ ضُمَّرٌ ... تُبارِي السُّرَى والمُعْسِفون الزعازعُ ) ( متى ما تُجْزها يا بنَ مروانَ تَعْترف ... بلادَ سُليمَى وهي خَوصاءُ ظالِعُ ) ( وباتَتْ تُؤمُّ الدَّارَ من كلِّ جانبٍ ... لتخرُجَ واشتدَّت عليها المَصارِعُ ) ( فلما رأتْ ألاّ خُروجَ وأَنَّما ... لها من هَواها ما تُجِنُّ الأضالِعُ ) ( تَمطَّتْ بمجدولٍ سِبَطرٍ فطَالَعَتْ ... وماذا من اللَّوْحِ اليَماني تُطالِعُ ! ) فقال له عبد العزيز اشتقت والله إلى أهلك يا أمية فقال نعم والله أيها الأمير فوصله وأذن له ومما يغنى فيه من شعر أمية صوت ( تَمُرُّ كجَنْدلةِ المنْجَنِيقِ ... يُرْمَى بها السُّورُ يومَ القتَالِ ) ( فمَاذا تخَطْرَفَ من قُلَّةٍ ... ومن حَدَبٍ وإكامٍ تَوالِي ) ( ومن سَيْرِها العَنَقُ المسْبَطِرُّ ... والعَجْرفيَّةُ بعد الكلاَلِ ) الغناء لابن عائشة وقد ذكر في أخباره مع غريبه وأحاديث لابن عائشة في معناه صوت ( أَأُمَّ نُهَيكٍ ارْفَعِي الطَّرْفَ صاعِداً ... ولا تيأَسي أن يُثريَ الدهرَ بائسٌ ) ( سيُغْنِيكِ سَيْرِي في البِلادِ ومَطْلَبي ... وبَعلُ التي لم تَخْطَ في الحيِّ جالسُ ) ( سأكسِب مالاً أو تَبِيتنَّ لَيلةً ... بصدِرِك من وَجْدٍ عليَّ وساوِسُ ) ( ومن يَطْلبِ المالَ الممنَّعَ بالقَنَا ... يِعِشْ مُثْرِياً أو يُودِ فيما يمارسُ ) الشعر لعبد الله بن أبي معقل الأنصاري والغناء لسليم خفيف ثقيل بالوسطى عن عمرو وقد ذكر ابن المكي أن فيه لإبراهيم لحنا من الهزج بالوسطى وذكر الهاشمي وحبش أن فيه لإبراهيم ثاني ثقيل وذكر حبش أنه لإسحاق أخبار عبد الله بن أبي معقل ونسبه هو عبد الله بن أبي معقل بن نهيك بن إساف بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو وهو النبيت ابن مالك بن الأوس بن حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر بن حارثة بن امرىء القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ ابن يشجب بن يعرب بن قحطان شاعر مقل حجازي من شعراء الدولة الأموية وكان يقال لأبيه منهب الورق وقيل بل جده المسمى بذلك لأنه كسب مالا فعجب أهل المدينة من كثرته فأباحهم إياه فنهبوه أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني أبو بكر عبد الله بن جعفر بن مصعب بن عبد الله الزبيري قال حدثني جدي مصعب بن عبد الله عن ابن القداح أنه قال هذان البيتان يعني قوله ( أَأُمَّ نُهَيْكٍ ارفعي الطرف صاعداً ... ) والذي بعده لعبد الله بن أبي معقل بن نهيك بن إساف والناس يروونهما لجده وليس ذلك بصحيح هما لعبد الله كان عمه عباد صحابيا وكان عباد بن نهيك بن إساف عمه أدرك النبي وصحبه وصلى معه إلى القبلتين وصلى معه الظهر وصلى معه في ركعتين منها إلى بيت المقدس وركعتين إلى الكعبة وأدرك النبي وهو شيخ كبير لا فضل فيه فوضع عنه الغزو وكان نهيك بن إساف يهاجي أبا الخضر الأشهلي في الجاهلية وأشعارهما موجودة في أشعار الأنصار كان محسودا ليساره وسعة ماله أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثني عبد الله بن جعفر عن جده مصعب عن ابن القداح قال كان ابن أبي معقل محسودا في قومه يجاهرونه بالعداوة ليساره وسعة ماله ويحسدونه وكان بنى قصرا في بني حارثة وسماه مرغما وقال له قائل ما لك ولقومك فقال مالي إليهم ذنب إلا أني أثريت وكنت معدما وبنيت مرغما وأنكحت مريم ومريم يعني ابنته مريم وبنت ابنه مريم فأما ابنته مريم فتزوجها حبيب بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية وبنت ابنه مسكين بن عبد الله بن أبي معقل وهي مريم تزوجها محمد بن خالد بن الزبير بن العوام أخبرني الحرمي قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عمي مصعب قال خطب محمد بن خالد بن الزبير وحبيب بن الحكم بن أبي العاصي إلى عبد الله بن أبي معقل ابنته مريم فأرغبه حبيب في الصداق فزوجه إياها ثم شبت مريم بنت مسكين بن عبد الله بن أبي معقل فبرعت في الجمال ولقي محمد بن خالد يوما فقال له يابن خالد إن تكن مريم قد فاتتك فقد يفعت مريم بنت أخيها وما هي بدونها في الجمال وقد آثرتك بها قال فتزوجها على عشرين ألفا وقال ابن القداح كان ابن أبي معقل كثير الأسفار في طلب الرزق فلامته امرأته أم نهيك وهي ابنة عمه على ذلك وقد قدم من مصر فلم يلبث أن قال لها جهزيني إلى الكوفة إلى المغيرة بن شعبة فإنه صديقي وقد وليها فجهزته ثم قالت لن تزال في أسفارك هذه تتردد حتى تموت فقال لها أو أثري ثم أنشأ يقول ( أَأُمَّ نُهيْكٍ ارْفَعِي الطَّرْفَ صاعدِاً ... ولا تيأَسي أن يُثْرِيَ الدَّهرَ يائِسُ ) وهي قصيدة فيها مما يغنى فيه قوله صوت ( فلَوْلا ثَلاثٌ هُنَّ من عِيشةِ الفَتَى ... وجَدك لم أَحفِلْ متى قام رامسُ ) ( فمِنهنَّ تحريكُ الكُميْتِ عِنانَهُ ... إذا ابتدَر النَّهبَ البعيدَ الفوارسُ ) ( ومِنهُنَّ سَبْقُ العاذِلاتِ بشَربةٍ ... كأَنَّ أَخاها - وهو يقْظانُ - ناعِسُ ) ( ومنهنّ تجريدُ الأَوانِس كالدُّمَى ... إذا ابتُزَّ عَنْ أَكفالِهِنَّ الملابِسُ ) الغناء في هذه الأبيات لمقاسة بن ناصح ثقيل أول بالبنصر وفيها للحسين بن محرز خفيف ثقيل من جامع أغانيه وهو لحن معروف مشهور وفوده على مصعب بن الزبير قال ابن القداح ثم قدم المدينة فلم يزل مقيما بها حتى ولي مصعب بن الزبير العراق فوفد إليه ابن أبي معقل ولقيه فدخل إليه يوما وهو يندب الناس إلى غزوة زرنج ويقول من لها فوثب عبد الله بن أبي معقل وقال أنا لها فقال له اجلس ثم ندب الناس فانتدب لها مرة ثانية فقال له مصعب اجلس ثم ندبهم ثالثة فقال له عبد الله أنا لها فقال له اجلس فقال له أدنني إليك حتى أكلمك فأدناه فقال قد علمت أنه ما يمنعك مني إلا أنك تعرفني ولو انتدب إليها رجل ممن لا تعرفه لبعثته فلعلك تحسدني أن أصيب خيرا أو أستشهد فأستريح من الدنيا وطلبها فأعجبه قوله وجزالته فولاه فأصاب في وجهه ذلك مالا كثيرا وانصرف إلى المدينة فقال لزوجته ألم أخبرك في شعري أنه ( سيُغنِيكِ سَيْرِي في البلادِ ومَطلَبي ... وبَعلُ التي لم تَحْظَ في الحيِّ جالسَ ) فقالت بلى والله لقد أخبرتني وصدق خبرك قال وفي هذه الغزاة يقول ابن قيس الرقيات صوت ( إن يَعِشْ مُصْعَبٌ فنحنُ بخيرٍ ... قد أَتانا من عيشِنا ما نُرَجِّي ) ( مَلِكٌ يُطعِمُ الطّعامَ وَيَسقِي ... لبَنَ البُخْتِ في عِساسِ الخَلَنْجِ ) ( جَلَب الخيلَ من تِهامةَ حَتَّى ... بلغَتْ خَيْلُه قُصورَ زَرَنجِ ) صوت ( يَقْتُلْنَنَا بحَدِيثٍ ليس يَعلمُه ... مَنْ يَتَّقِينَ ولاَ مكْنُونُهُ بادِي ) ( فهُنَّ ينْبِذْنَ من قولٍ يُصِبْن به ... مواقعَ الماء مِن ذِي الغُلَّةِ الصَّادِي ) الشعر للقطامي والغناء لإسحاق خفيف ثقيل أول بالوسطى وفيه رمل مجهول ذكر نسب القطامي وأخباره القطامي لقب غلب عليه واسمه عمير بن شييم وكان نصرانيا وهو شاعر إسلامي مقل مجيد أخبرني عمي قال حدثنا الكراني قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن عبد الله بن عياش عن مجالد عن الشعبي قال قال عبد الملك ابن مروان وأنا حاضر للأخطل يا أخطل أتحب أن لك بشعرك شعر شاعر من العرب قال اللهم لا إلا شاعرا منا مغدف القناع خامل الذكر حديث السن إن يكن في أحد خير فسيكون فيه ولوددت أني سبقته إلى قوله ( يَقْتُلْنَنا بحديثٍ ليس يَعْلمُه ... مَنْ يتَّقينَ ولا مَكنونُه بادِي ) ( فهُنَّ ينبذْنَ مِن قولٍ يُصِبْنَ به ... مَواقعَ الماءِ من ذي الغُلَّةِ الصَّادِي ) صريع الغواني أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح قال القطامي أول من لقب صريع الغواني بقوله ( صَرِيعِ غَوانٍ راقَهُنَّ ورُقْنَه ... لَدُنْ شبَّ حتى شاب سُودُ الذَّوائبِ ) قال أبو عمرو الشيباني نزل القطامي في بعض أسفاره بامرأة من محارب قيس فنسبها فقالت أنا من قوم يشتوون القد من الجوع قال ومن هؤلاء ويحك قالت محارب ولم تقره فبات عندها بأسوإ ليلة فقال فيها قصيدة أولها ( نأَتْكَ بليلَى نِيَّةٌ لم تُقارِبِ ... وما حُبُّ ليلَى من فُؤَادِي بِذاهِبِ ) يقول فيها ( ولا بُدَّ أَنَّ الضيفَ يُخبِرُ ما رأَى ... مُخَبِّرُ أهلٍ أو مُخَبِّرُ صاحِبِ ) ( سأُخبِرُكَ الأَنباءَ عن أُمِّ منزلٍ ... تَضيَّفتُها بين العُذَيبِ فراسِبِ ) ( تَلَفَّعْتُ في طَلٍّ وريحٍ تَلُفُّني ... وفي طِرْمِساءَ غيرِ ذاتِ كواكب ) ( إلى حَيْزَبونٍ تُوقِدُ النارَ بعدَما ... تَلَفَّعَتِ الظَّلْماءُ من كلِّ جانبِ ) ( تَصلىَّ بها بَرْدَ العِشاء ولم تَكُنْ ... تَخالُ وَمِيضَ النَّارِ يَبْدُو لراكبِ ) ( فما راعَها إلا بُغامُ مَطِيَّةٍ ... تُريحُ بمحْسورٍ مِن الصَّوتِ لاغِب ) ( تقولُ وقد قرّبْتُ كُورِي وناقتي ... إليكَ فلا تَذْعَرْ عَلىَّ ركائِبي ) ( فلمَّا تنازَعْنا الحديثَ سأَلْتُها : ... مَن الحيُّ ؟ قالت : مَعْشَرٌ من مُحارِب ) ( من المُشْتَوِينَ القَدَّ ممَّا تَرَاهُمُ ... جِياعاً وريفُ الناسِ ليس بِعازِبِ ) ( فلمَّا بَدَا حِرْمانُها الضَّيفَ لم يكنْ ... عليَّ مُناخُ السَّوْءِ ضَرْبةَ لازِبِ ) مدحه عبد الواحد بن سليمان قال أبو عمرو بن العلاء أول ما حرك من القطامي ورفع من ذكره أنه قدم في خلافة الوليد بن عبد الملك دمشق ليمدحه فقيل له إنه بخيل لا يعطي الشعراء وقيل بل قدمها في خلافة عمر بن عبد العزيز فقيل له إن الشعر لا ينفق عند هذا ولا يعطي عليه شيئا وهذا عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك فامتدحه فمدحه بقصيدته التي أولها ( إنَّا مُحَيُّوكَ فاسلَم أيها الطَّلَلُ ... وإنْ بَليتَ وإن طالَتْ بِكَ الطِّيلُ ) فقال له كم أملت من أمير المؤمنين قال أملت أن يعطيني ثلاثين ناقة فقال قد أمرت لك بخمسين ناقة موقرة برا وتمرا وثيابا ثم أمر بدفع ذلك إليه وفي أول هذه القصيدة غناء نسبته صوت ( إنَّا مُحَيُّوكَ فاسْلَمْ أَيُّها الطَّلَلُ ... وإنْ بَلِيتَ وإنْ طَالَتْ بِكَ الطِّيَلُ ) ( يَمْشِينَ رَهواً فلا الأعجازُ خاذلةٌ ... ولا الصُّدورُ على الأعجازِ تَتَّكِلُ ) الغناء لسليم هزج بالبنصر وقيل إنه لغيره أخبرني ابن عمار قال حدثنا محمد بن عباد قال قال أبو عمرو الشيباني لو قال القطامي بيته ( يَمْشِينَ رَهواً فلا الأعجازُ خاذلةٌ ... ولا الصدورُ عَلَى الأعجازِ تَتَّكِلُ ) في صفة النساء لكان أشعر الناس ولو قال كثير ( فقلتُ لها : يا عزُّ كلُّ مصيبةٍ ... إذا وُطِّنَتْ يوماً لها النفسُ ذَلَّتِ ) في مرثية أو صفة حرب لكان أشعر الناس وأخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني ميمون بن هارون قال حدثني رجل كان يديم الأسفار قال سافرت مرة إلى الشام على طريق البر فجعلت أتمثل بقول القطامي ( قد يُدرِكُ المُتَاَنِّي بعضَ حاجَتِهِ ... وقد يكونُ مع المُسْتَعجِلِ الزَّلَلُ ) ومعي أعرابي قد استأجرت منه مركبي فقال ما زاد قائل هذا الشعر على أن ثبط الناس عن الحزم فهلا قال بعد بيته هذا ( ورُبَّما ضَرَّ بعضَ الناسِ بُطْؤُهُمُ ... وكان خيراً لهُمْ لو أَنَّهُمْ عَجِلُوا ) وكان السبب في أسر القطامي على ما حكاه من ذكرنا وذكر ابن الكلبي عن عرام بن حازم بن عطية الكلبي قال أغار زفر بن الحارث على أهل المصيخ وبه جماعة من الحاج وغيرهم وقد أصاب أول النهار أهل ماء يقال له حصف وفيه سيد بني الجلاح مصاد ابن المغيرة بن أبي جبلة فأسره فأتى به قرقيسيا ثم من عليه وقتل عفيف ابن حسان بن حصين من بني الجلاح ثم مضى زفر إلى المصيخ فاجتمع من بها إلى عمير بن حسان بن عمر بن جبلة فامتنعوا فقال لهم زفر إني لا أريد دماءكم فأعطوا بأيديكم فأبوا وقاتلوا فقتل منهم جماعة كثيرة وقتل معهم رجلان من تغلب يقال لأحدهما جساس والآخر غني وهو أبو جساس وقد قالت له امرأته يا أبا جساس هؤلاء قومك فأتهم حين اجتمعوا وامتنعوا فقال اليوم نزاري وأمس كلبي ما أنا بمفارقهم فقاتل حتى قتل فكانت القتلى يوم المصيخ من كلب ثمانية عشر رجلا والتغلبيين وبقى الماء ليس فيه إلا النساء فلما انصرف عنهم زفر أراد النساء أن يجررن القتلى إلى بئر يقال لها كوكب فلما أردن أن يجررن رجلا قالت وليته من النساء لا يكون فلان تحت رجالكن كلهم فأتت أم عمير بن حسان وهي كيسة بنت أبي فأعلقت في رجله رداءها ثم قالت اجسر عمير فإن أباك كان جسورا ثم ألقت عليه التراب والحطب ليكون بينه وبين أصحابه شيء ثم جعلن كلما ألقين رجلا ألقين عليه التراب والحطب حتى وارتهم القليب ولما بلغ حميد بن حريث بن بحدل ما لقي قومه أقبل حتى أتى تدمر ليجمع أصحابه وليغير على قيس فلما وقعت الدماء نهض بنو نمير وهم يومئذ ببطن الجبل وهو على مياه لهم إلى حميد بن حريث بن بحدل حتى قدم وراءه يتهيأ للغارة واجتمعت إليه كلب وقالوا له إن كنت تبرئنا ببراءتنا وتعرف جوارنا أقمنا وإن كنت تتخوف علينا من قومك شيئا لحقنا بقومنا فقال أتريدون أن تكونوا أدلاءهم حتى تنجلي هذه الفتنة فاحتبسهم فيها وخليفته في تدمر رجل من كلب يقال له مطر بن عوص وكان فاتكا فأراد حميدا على قتلهم فأبى وكره الدماء فلما سار حميد وقد عاد زفر أيضا مغيرا ليرده عما يريده فنزل قرية له وبلغه مسير زفر فاغتاظ وأخذ في التعبئة فأتاه مطر وكان خرج معه مشيعا له انتهازا لدماء الذين في يده من النميريين فقال ما أصنع بهؤلاء الأسارى الذين في يدي وقد قتل أهل مصبح فقال وهو لا يعقل من الوجد اذهب فاقتلهم فخرج مطر يركض إلى تدمر تخوف ألا يبدوا له فلما أتى تدمر قتلهم وانتبه حميد بعد ذلك بساعة فقال أين مطر حتى أوصيه قالوا انصرف قال أدركوا عدو الله فإني أخاف على من بيده من النميريين وبعث فارسا يركض يمنع مطرا عن قتلهم فأتاه وقد قتل كل من كان في يده من الأسرى إلا رجلين وكانوا ستين رجلا فلما بلغه الرسول رسالة حميد قال النميريان الباقيان خل عنا فقد أمرت بتخلية سبيلنا فقال أبعد أهل المصيخ لا والله لا تخبران عنهم ثم قتلهما فلما بلغ زفر قتل النميريين بسط يده على كل من أدرك من كلب واستحل الدماء وأخذ في واد يقال له وادي الجيوش وقد انتشرت به كلب للصيد فلم يدرك به أحدا إلا قتله فقتل أكثر من خمسمائة ولم يلقه حميد ثم انصرف إلى قرقيسياء وذكر بعض بني نمير أن زفر أغار على كلب يوم حفير ويوم المصيخ ويوم الفرس فقتل منهم أكثر من ألف رجل قال وأغار عليهم زفر في يوم الإكليل فقتل منهم مقتلة عظيمة واستاق نعما كثيرة وذكر عرام قال قتل زفر يوم الإكليل جبير بن ثعلبة من بني الجلاح وحسان بن حصين من بني الجلاح ومحمد بن طفيل بن مطير بن أبي جبلة وعمرو بن حسان بن عوف من بني الجلاح ومحمد بن جبلة بن عوف أخوان لأم وقالت امرأة من بني كلب ترثيهم ( أبعدَ مَن دَلَّيْتِ في كَوْكَبٍ ... يا نفسُ تَرْجِين ثواءَ الرِّجالْ ؟ ) شجاعة عمير بن الحباب يوم الغوير قال لقيط أخبرني بعض بني نمير قال أغار عمير بن الحباب على كلب فأصابهم يوم الغوير ويوم الهبل ويوم كآبة فأما يوم الغوير فإنه أرسل رجلا من بني نمير يقال له كليب بن سلمة عينا له ليعلم له علم ابن بحدل وكانت أم النميري كلبية فكانت تتكلم بكلامهم فكان الحسام بن سالم طريدا فيهم فنذروا به فقتلوه وأخذوا فرسه فلقي كليب بن سلمة رجلا من بني كلب فعرفه فقال من أين جئت فقال من عند الأمير حميد بن حريث قال وأين تركته قال بمكان كذا وكذا قال كليب كذبت أنا أحدث به عهدا منك قال فأين تركته أنت قال بغوير الضبع قال لكني فارقته أمس فخرج النميري يسوق الكلبي إلى أصحابه قال فوالله إني لو أشاء أن أقتله لقتلته أو آخذه لأخذته فخرج يسوقه حتى إذا نظر إلى القوم أنكرهم فقال والله ما أرى هؤلاء أصحابنا قال ويستدبره النميري فيطعنه عند ناغض كتفه اليمنى حتى أخرج السنان من حلمة الثدي وأخطأ المقتل وحرك الكلبي فرسه موليا فاتبعته الخيل حتى يدفع إلى ابن بحدل فانهزم فقتلوا من كلب مقتلة عظيمة واتبع عمير بن بحدل فجعل يقول لفرسه ( أَقْدِمْ صِدَامُ إنّهُ ابنُ بَحْدَلْ ... ) ( لا تُدْرِكِ الخيلَ وأنتَ تَدألْ ... ) ( ألاَّ تمرَّ مثلَ مَرِّ الأجدلْ ... ) قال فمضى حميد حتى يدفع إلى الغوير وقد كاد الرمح يناله فانطلق يريد الباب فطعن عمير الباب وكسر رمحه فيه فلم يفلت من تلك الخيل غير حميد وشبل بن الخيتار فلما بلغ ذلك بشر بن مروان قال لخالد بن يزيد ابن معاوية كيف ترى خالي طرد خالك وقال عمير ( وأفلتَنَا ركْضاً حُمَيدُ بن بَحْدلٍ ... على سابحٍ غَوْج اللَّبانِ مُثابِر ) ( ونحنُ جَلبْنا الخيلَ قُبًّا شَوازِباً ... دِقاقَ الهوادِي دامياتِ الدَّوابرِ ) ( إذا انتقصَتْ من شأْوِه الخيلُ خلفَه ... تَرامَى به فوقَ الرماح الشواجِرِ ) ( تُسائلُ عن حَيَّيْ رُفيدةَ بعدَما ... قَضَتْ وَطراً من عَبْدِ وُدٍّ وعامِرِ ) وقال شبل بن الخيتار ( نجَّى الحُسامِيَّةَ الكَبْداءَ مُبْتَرِكٌ ... من جَريها وحَثِيثُ الشدِّ مَذعورُ ) ( من بعدِ ما التثَق السرِّبالَ طَعْنَتُه ... كأنَّه بِنَجِيع الوَرْسِ ممكورُ ) ( ولَّى حُمَيد ولم يَنْظُرْ فوارسَهُ ... قَبْل التَّقِرَّةِ والمغرورُ مغرورُ ) ( فقد جَزِعتُ غَداةَ الروْع إذ لقِحتْ ... أبطالُ قيسٍ عليها البَيضُ مَشْجورُ ) ( يَهدِي أوائِلَها سمحٌ خلائِقُهُ ... ماضي العِنانِ على الأَعداءِ منصورُ ) ( يَخْرجْنَ من بَرَض الإِكْلِيل طالِعةً ... كأنَّهن جَرادُ الحَرَّةِ الزُّورُ ) وذكر زياد بن يزيد بن عمير بن الحباب عن أشياخ قومه قال أغار عمير بن الحباب على كلب فلقي جمعا لهم بالإكليل في ستمائة أو سبعمائة فقتل منهم فأكثر فقالت هند الجلاحية تحرض كلبا ( ألاَ هل ثائِرٌ بدماء قومٍ ... أصابَهُمُ عُميرُ بن الحُبَابِ ! ) ( وهَل في عامِرٍ يوماً نَكِيرٌ ... وحَيّيْ عَبدِ وُدٍّ أو جَنَابِ ! ) ( فإن لم يَثأَرُوا مَنْ قد أَصابُوا ... فكانُوا أَعْبُداً لبني كِلاَب ) ( أبعدَ بني الجُلاحِ ومَن تركتُمْ ... بجانِبِ كوكبٍ تحتَ التّرابِ ) ( تطِيبُ لغائرٍ منكم حياةٌ ... ألاَ لا عيشَ للحيِّ المُصابِ ) فاجتمعوا فقاتلهم عمير وأصاب فيهم ثم أغار فلقي جمعا منهم بالجوف فقتلهم ثم أغار عليهم بالسماوة فقتل منهم مقتلة عظيمة فقال عمير ( ألا يا هِنْدُ هندَ بني الجُلاحِ ... سُقِيتِ الغيثَ من قُلَلِ السَّحابِ ) ( أَلَّما تُخْبَرِي عنَّا بأنَّا ... نرُدُّ الكبشَ أَعْضبَ في تَبابِ ) ( ألاَ يا هندُ لو عاينْتِ يوماً ... لقَومِكِ لامْتَنَعْتِ من الشَّرابِ ) ( غَداةَ نَدُوسُهُم بالخيل حتَّى ... أَبادَ القتلُ حَيَّ بني جَنابِ ) ( ولو عَطَفتْ مواساةٌ حُميداً ... لغُودِرَ شِلْوُهُ جَزَرَ الذِّئاب ) وذكر زياد بن يزيد بن عمير بن الحباب عن أشياخ قومه قال خرج عمير فأغار على قومه أيضا يوم الغوير فلما دنا من الغوير وصار بين حميد ودمشق دعا رجلا من بني نمير وقال له سر الآن حتى تأتي حميد بن بحدل فقل له أجب فإن قال من فقل صاحب عقد خرج قبل ذلك بيومين من دمشق فإن جاء معك فلا تهجه حتى تأتيني به فنكون نحن الذين نَلِي منه ما نريد أن نلي , فإنه إن ركب الحسامية لم يدرك فأتاه النميري فقال أجب فقال ومن قال فلان بن فلان صاحب العقد قال فركب ابن بحدل الحسامية ثم خرج يسير في أثر النميري حتى طلع النميري على عمير فقال النميري في نفسه أقتله أنا أحب إلي من أن يقتله عمير لقتله الحسام بن سالم فعطف عليه وولى حميد واتبعه عمير وأصحابه وترك العسكر وأمرهم عمير أن يميلوا إلى القوم فذلك حيث يقول لفرسه ( أقدم صِدامُ إنَّه ابنُ بحدلْ ... ) فاستباح عسكر ابن بحدل وانصرف ثم أغار عليهم يوم دهمان كما ذكر عون بن حارثة بن عدي بن جبلة أحد بني زهير عن أبيه قال أغار عمير على كلب فأخذ الأموال وقتل الرجال وبلغ ابن بحدل مخرجه من الجزيرة فجمع له ثم خرج يعارضه حتى إذا دنا منهم بعث العين يأخذ لهم أثر القوم فأتاه العين فأخبره أن عميرا قد أتى دهمان فاستباح فيهم ثم خلف عسكره وخرج هو في طلب قوم قد سمع بهم فقال حميد لأصحابه تهيأوا للبيات وليكن شعاركم نحن عباد الله حقا حقا فبيتهم فقتل فيهم فأوجع وانقلب انقلب عمير حين أصبح إلى عسكره حتى إذا أشرف على عسكره رأى ما أنكره من كثرة السواد فقال لأصحابه إني أرى شيئا ما أعرفه وما هو بالذي خلفنا فلما رآهم ابن بحدل قال لأصحابه احملوا عليهم فقتل من الفريقين جميعا فقال ابن مخلاة ( لقد طار في الآفاق أنَّ ابنَ بحْدَلٍ ... حُميداً شَفَي كلباً فقرَّت عيونُها ) وقال منذر بن حسان ( وَباديةِ الجواعِرِ من نُمَيْرٍ ... تُنَادِي وهْيَ سافرةُ النِّقَابِ ) ( تنَادِي بالجزيرةِ : يا لَقيْس ... وقيسٌ بئْسَ فِتيانُ الضِّراب ) ( قَتَلنا مِنْهُم مائتينِ صَبْراً ... وألفاً بالتِّلاعِ وبالرَّوَابِي ) ( وَأَفَلتَنَا هَجِينُ بني سُليمٍ ... يُفَدِّي المُهْرَ من حُبِّ الإِياب ) ( فلولا اللهُ وَالمُهْرُ المُفَدَّى ... لغُودِرَ وَهْو غِربالُ الإِهاب ) ثم سار عمير وجمع لهم أكثر مما كان تجمع فأغار عليهم فقتل منهم مقتلة واستاق الغنائم وسبى فلما سمعت كلب بإيقاعه تحملت من منازلها هاربة منه فلم يبق منهم أحد في موضع يقدر عمير على الغارة عليه إلا أن يخوض إليهم غيرهم من الأحياء ويخلف مدائن الشام خلف ظهره وصاروا جميعا إلى الغوير فقال عمير في ذلك ( بَشِّر بني القَيْنِ بطعنٍ شَرْجِ ... يُشْبعُ أولادَ الضِّباع العُرْجِ ) ( ما زال إمرارِي لهمْ ونَسْجِي ... وعُقْبتي للكُورِ بعد السَّرْج ) ( حتّى اتَّقَوْنِي بالظَّهورِ الفَلْج ... هل أَجْزِيَنْ يوماً بيوم المرْجِ ) ( ويومِ دُهمانَ ويومِ هَرْج ... ) وقال رجل من نمير ( أخذتُ نِسَاءَ عبدِ اللهِ قهراً ... وما أعفيتُ نِسوةَ آلِ كلبِ ) ( صَبَحْناهم بِخَيلٍ مُقْرَباتٍ ... وَطَعْنٍ لا كِفَاءَ له وضَرْبِ ) ( يُبَكِّينَ ابنَ عمرو وهو تَسْفِي ... عليهِ الرِّيحُ تُرْباً بعد تُرْبِ ) ( وسعدٌ قد دَنا منه حِمَامٌ ... بأسمرَ من رماحِ الخَطِّ صُلْبِ ) ( وَقد قالَتْ أُمامةُ إذ رأتْني : ... بُلِيتُ وَما لُقيتُ لِقَاءَ صَحْبِ ) ( وَقد فقدَتْ معانقَتي زماناً ... وَشَدَّ المِعْصَمينِ فُوَبْقَ حَقْبِ ) ( لقد بُدِّلتَ بَعْدِي وَجْهَ سَوْءٍ ... وَآثاراً بجِلْدِكَ يا بنَ كعْبِ ) ( فقلْتُ لها كذلكِ منْ يُلاقِي ... عِتَاقَ الخيْلِ تحملُ كل صَعْبِ ) وقال المجير بن أسلم القشيري ( أَصبَحتْ أُمُّ مَعْمرٍ عَذَلَتْني ... في رُكوبي إلى مُنَادِي الصَّبَاحِ ) ( فَدعِيني أُفيدُ قوْمَكِ مَجْدَاً ... تَندُبيني به لَدَى الأنواحِ ) ( كلَّ حَيٍّ أَذقْتُ نُعَمى وَبُؤسَى ... ببني عامِر الطِّوالِ الرِّماحِ ) ( وصَدمنَا كلْباً فَبَيْنَ قتيلٍ ... أو سِليبٍ مُشَرّدٍ من جراحِ ) ( وَأَتَوْنَا بكلِّ أجردَ صافٍ ... ورجالٍ مُعَدَّةٍ وسلاحِ ) وقال أيضا ( أبْلِغْ عامِراً عنِّي رسولاً ... وَأبْلغْ إن عَرَضْتَ بَني جَنَابِ ) ( هَلُمَّ إلى جيادٍ مُضْمراتٍ ... وَبيضٍ لا تُفَلُّ من الضِّرَاب ) ( وسُمْرٍ في المَهَزَّةِ ذاتِ لِينٍ ... نُقِيمُ بهِنَّ مِنْ صَعَر الرِّقابِ ) ( إذا حَشَدتْ سُليمٌ حَولَ بيتي ... وَعامِرُهَا المركَّبُ في النِّصَابِ ) ( فمَن هذا يُقَاربُ فخرَ قومِي ... وَمنْ هذا الذي يَرْجُو اغْتصَابي ؟ ) وقال زفر بن الحارث ( يا كلبُ قد كَلِب الزَّمانُ عليكمُ ... وَأَصَابكُم منِّي عذابٌ مُرسَلُ ) ( أَيَهُولُنا يا كلبُ أَصْدقُ شِدَّةِ ... يومَ اللِّقاءِ أم الهُوَيلُ الأوَّلُ ) ( إنَّ السَّماوَةَ لا سَماوَة فالْحقِي ... بالغَوْرِ فالأفحاصِ بِئْسَ المَوْئِلُ ) ( فجَنُوب عكَّا فالسَّواحِل إنَّهَا ... أرضٌ تَذُوبُ بها اللِّقاحُ وَتُهزَلُ ) ( أَرْضُ المذلَّةِ حيثُ عَقَّتْ أُمُّكم ... وَأبُوكمُ أوْ حيثُ مُزّع بحْدَلُ ) وقال عمير بن الحباب ( ورَدْنَ على الغُوَيرِ غُويرِ كلْب ... كأنّ عُيونَهَا قُلُبُ انتزاحِ ) ( أَقَرَّ العيْنَ مَصْرعُ عبدِ وُدٍّ ... ومَا لاقَتْ سَراةُ بني الجُلاحِ ) ( وقائمةٍ تُنَادِي يا لَكلْبٍ ... وكلْبٌ بئْسَ فِتْيانُ الصَّباحِ ) وقال عُمير أيضا ( وكلْبٌ تركْنا جمعَهم بينَ هاربٍ ... حِذارَ المَنايا أَوْ قَتيلٍ مُجَدَّلِ ) ( وأفلَتنا لَّما التقَينا بعاقِدٍ ... على سابحٍ عند الجِراءِ ابنُ بحْدلِ ) ( وأُقْسِمُ لو لاقَيتُه لعَلوْتُه ... بأبيَضَ قَطَّاعِ الضَّريبةِ مِقْصَلِ ) وقال عمير أيضا ( وكلْباً تركْناهمْ فُلولاً أذِلَّةً ... أدرْنا عليهمْ مثلَ راغيةِ البَكْرِ ) وقال جهم القشيري ( يا كلْبُ مَهْلاً عن بني عامِر ... فليس فيها الجَدُّ بالعاثِرِ ) ( وَلَّى حُمَيدٌ وَهو في كُرْبةٍ ... على طويلٍ متنُهُ ضامِرِ ) ( بالأمِّ يَفْدِيها وَقد شَمَّرَتْ ... كاللَّبْوةِ الممْطُولةِ الكَاسِرِ ) ( هَلاَّ صَبَرتُم للقَنا سَاعةً ... وَلم تَكُنْ بالماجدِ الصابِر ؟ ) وقال عمير ( وَأَفلتنَا رَكْضاً حُمَيدُ بنُ بَحْدلٍ ... على سابح غَوْجِ اللَّبانِ مُثابِرِ ) ( إذا انتقصتْ مِنْ شأْوهِ الخيلُ خلفَهُ ... تَرَامَى به فوقَ الرِّماحِ الشَّواجِرِا ) ( لدُنْ غدوةٍ حتى نَزَلنا عَشِيَّةً ... يَمُرُّ كمِرِّيخ الغُلامِ المُخاطِرِ ) وقال عمير ( يا كلْبُ لم تترُكْ لكم أرْماحُنا ... بِلوَى السّماوةِ فالغُوْيرِ مَرادَا ) ( يا كلبُ أحرَمْنا السماوة فانظري ... غير السَّماوةِ في البلادِ بِلادَا ) ( ولقد صكَكنا بالفوارسِ جَمْعكم ... وَعَديدَكم يا كلبُ حتى بادا ) ( ولقد سبقتُ بوَقْعةٍ تركَتْكُمُ ... يا كلبُ بالحَرْبِ العَوانِ بِعادا ) وقال زفر بن الحارث ( جَزى اللَّهُ خَيْراً كلْما ذَرَّ شارقٌ ... سَعيداً ولاقتْهُ التحيَّة والرُّحْبُ ) ( وحَلْحلهُ المغْوارُ للهِ جَدُّهُ ... فلو لم يَنَلْهُ القتلُ بادتْ إذنْ كلبُ ) ( بني عَبْدِ وُدٍّ لا نطالبُ ثأرنا ... من الناسِ بالسُّلطانِ إن شَبَّتِ الحرب ) ( ولكنَّ بِيضَ الهِنْدِ تُسْعِرُ نارَنا ... إذا ما خَبَتْ نارُ الأَعادِي فما تخْبُو ) ( أبادتكمُ فُرسانُ قيسٍ فما لَكُمْ ... عَدِيدٌ إذا عُدَّ الحَصَى لا ولا عَقْبُ ) ( بأيديهُم بيضٌ رِقاقٌ كأنَّها ... إذا ما انتضَوْها في أكُفِّهِمُ الشُّهْبُ ) ( فسُبُّوهُمُ إن أنتُم لم تُطالِبوا ... بثأرِكُمْ قد ينفعُ الطالبَ السَّبُّ ) ( وما امتَنَعَ الأقوامُ عنّا بنأيِهم ... سواءٌ علينا النأيُ في الحربِ والقُرْبُ ) وقال عمير ( شَفَيتُ الغليلَ من قُضاعةَ عَنْوةً ... فظلَّ لها يومٌ أَغَرُّ مُحَجَّلُ ) ( جزيْناهُم بالمَرجِ يوماً مُشَهَّراً ... فلاقَوْا صَباحاً ذا وَبالٍ وقُتِّلُوا ) ( فلم يَبْقَ إلا هاربٌ من سُيُوفِنا ... وإلاّ قتيلٌ في مَكَرٍّ مُجدَّلُ ) وقال ابن الصفار المحاربي ( عَظُمَتْ مصيبةُ تَغْلبَ ابنةِ وائلٍ ... حتى رأتْ كلبٌ مُصيبَتَها سُوَى ) ( شَمتُوا وكان اللَّهُ قد أَخْزاهمُ ... وتُرِيدُ كلبٌ أن يكونَ لها أُسَا ) ( وبكُمْ بدأْنا يالَ كَلْبٍ قَتلَهُمْ ... ولعلّنا يوماً نَعُودُ لكم عَسَى ) ( أخْنَتْ على كلبٍ صُدُورُ رِماحِنا ... ما بينَ أَقْبِلةِ الغُويرِ إلى سُوا ) ( وعركْنَ بَهراءَ بن عمرٍو عَركةً ... شَفَت الغلِيلَ ومَسَّهُمْ مِنَّا أَذَى ) وقال الراعي ( متى نفترشْ يوماً عُلَيماً بغارةٍ ... يكونوا كعَوصٍ أو أَذَلَّ وأضرعَا ) ( وحَيَّ الجُلاح قد تركْنا بدارِهمْ ... سَواعِدَ مُلْقَاةً وهاماً مُصَرَّعا ) ( ونحن جَدَعْنَا أنفَ كلبٍ ولم نَدعْ ... لِبَهراءَ في ذكرٍ من الناسِ مَسْمَعا ) ( قَتَلْنا لوَ اٌنَّ القتلَ يَشْفي صُدورَنا ... بتدمُرَ أَلْفاً من قُضاعةَ أَقْرَعا ) وقال زفر بن الحارث وذكر أبو عبيدة أنها لعقيل بن علفة ( أقرَّ العُيونَ أنَّ رهطَ ابنِ بحدَلٍ ... أُذِيقُوا هَواناً بالذي كان قُدِّما ) ( صَبَحناهمُ البِيضَ الرِّقاقَ ظُباتُها ... بجانب خَبْتٍ والوشيجَ المقَوَّما ) ( وجَرْداءَ مَلَّتْها الغُزاةُ فكلُّها ... تََرى قَلِقاً تحت الرحّالةِ أهضَما ) ( بكلّ فتىً لم تأبُرِ النّخلَ أُمُّه ... ولم يُدْعَ يوماً للغرائرِ مِعْكما ) وهذه الحروب التي جرت ببنات قين فلما ألح عمير بالغارات على كلب رحلت حتى نزلت غوري الشام فلما صارت كلب بالموضع الذي صارت قيس انصرفت قيس في بعض ما كانت تنصرف من غزو كلب وهم مع عمير فنزلوا بثني من أثناء الفرات بين منازل بني تغلب وفي بني تغلب امرأة من تميم يقال لها أم دويل ناكحة في بني مالك بن جشم بن بكر وكان دويل من فرسان بني تغلب وكانت لها أعنز بمجنبة فأخذوا من أعنزها أخذها غلام من بني الحريش فشكوا ذلك إلى عمير فلم يشكهم وقال معرة الجند فلما رأى أصحابه أنه لم يقدعهم وثبوا على بقية أعنزها فأخذوها وأكلوها فلما أتاها دويل أخبرته بما لقيت فجمع جمعا ثم سار فأغار على بني الحريش فلقي جماعة منهم فقاتلوه فخرج رجل من بني الحريش زعمت تغلب أنه مات بعد ذلك وأخذ ذودا لامرأة من بني الحريش يقال لها أم الهيثم فبلغ الأخطل الوقعة فلم يدر ما هي وقال وهو براذان ( أتاني ودُوني الزَّابيانِ كلاهما ... ودِجْلَةُ أنباءٌ أَمَرُّ من الصَّبْرِ ) ( أتاني بأن ابنيْ نِزَارٍ تهادَيا ... وتَغْلِب أولى بالوفاء وبالغَدْرِ ) فلما تبين الخبر قال ( وجاؤوا بجَمْعٍ ناصِرِي أمِّ هيثمٍ ... فما رَجَعُوا من ذَوْدِها ببعيرِ ) فلما بلغ ذلك قيسا أغارت على بني تغلب بإزاء الخابور فقتلوا منهم ثلاثة نفر واستاقوا خمسة وثلاثين بعيرا فخرجت جماعة من تغلب فأتوا زفر ابن الحارث وذكروا له القرابة والجوار وهم بقرقيسيا وقالوا ائتنا برحالنا ورد علينا نعمنا فقال أما النعم فنردها عليكم أو ما قدرنا لكم عليه ونكمل لكم نعمكم من نعمنا إن لم نصبها كلها وندي لكم القتلى قالوا له فدع لنا قريات الخابور ورحل قيسا عنها فإن هذه الحروب لن تطفأ ما داموا مجاورينا فأبى ذلك زفر وأبوا هم أن يرضوا إلا بذلك فناشدهم الله وألح عليهم فقال له رجل من النمر كان معهم والله ما يسرني أنه وقاني حرب قيس كلب أبقع تركته في غنمي اليوم وألح عليهم زفر يطلب إليهم ويناشدهم فأبوا فقال عمير لا عليك لا تكثر فوالله إني لأرى عيون قوم ما يريدون إلا محاربتك فانصرفوا من عنده ثم جمعوا جمعا وأغاروا على ما قرب من قرقيسيا من قرى القيسية فلقيهم عمير بن الحباب فكان النميري الذي تكلم عند زفر أول قتيل وهزم التغلبيين فأعظم ذلك الحيان جميعا قيس وتغلب وكرهوا الحرب وشماتة العدو فذكر سليمان بن عبد الله بن الأصم أن إياس بن الخراز أحد بني عتيبة بن سعد بن زهير وكان شريفا من عيون تغلب دخل قرقيسيا لينظر ويناظر زفر فيما كان بينهم فشد عليه يزيد بن بحزن القرشي فقتله فتذمم زفر من ذلك وكان كريما مجمعا لا يحب الفرقة فأرسل إلى الأمير ابن قرشة بن عمرو بن ربعي بن زفر بن عتيبة بن بعج بن عتيبة بن سعد بن زهير بن جشم بن الأرقم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب فقال له هل لك أن تسود بني نزار فتقبل مني الدية عن ابن عمك فأجابه إلى ذلك وكان قرشة من أشراف بني تغلب فتلافى زفر ما بين الحيين وأصلح بينهم وفي الصدور ما فيها فوفد عمير على المصعب بن الزبير فأعلمه أنه قد أولج قضاعة بمدائن الشام وأنه لم يبق إلا حي من ربيعة أكثرهم نصارى فسأله أن يوليه عليهم فقال اكتب إلى زفر فإن هو أراد ذلك وإلا ولاك فلما قدم على زفر ذكر له ذلك فشق عليه ذلك وكره أن يليهم عمير فيحيف بهم ويكون ذلك داعية إلى منافرته فوجه إليهم قوما وأمرهم أن يرفقوا بهم فأتوا أخلاطا من بني تغلب من مشارق الخابور فأعلموهم الذي وجهوا به فأبوا عليهم فانصرفوا إلى زفر فردهم وأعلمهم أن المصعب كتب إليه بذلك ولا يجد بدا من أخذ ذلك منهم أو محاربتهم فقتلوا بعض الرسل وذكر ابن الأصم أن زفر لما أتاه ذلك اشتد عليه وكره استفساد بني تغلب فصار إليهم عمير بن الحباب فلقيهم قريبا من ماكسين على شاطىء الخابور بينه وبين قرقيسيا مسيرة يوم فأعظم فيها القتل وذكر زياد بن يزيد بن عمير بن الحباب أن القتل استحر ببني عتاب بن سعد والنمر وفيهم أخلاط تغلب ولكن هؤلاء معظم الناس فقتلوهم بها قتلا شديدا وكان زفر بن يزيد أخو الحارث بن جشم له عشرون ذكرا لصلبه وأصيب يومئذ أكثرهم وأسر القطامي الشاعر وأخذت إبله فأصاب عمير وأصحابه شيئا كثيرا من النعم ورئيس تغلب يومئذ عبد الله بن شريح بن مرة بن عبد الله بن عمرو بن كلثوم ابن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم فقتل وقتل أخوه وقتل مجاشع بن الأجلح وعمرو بن معاوية من بني خالد بن كعب بن زهير وعبد الحارث بن عبد المسيح الأوسي وسعدان بن عبد يسوع بن حرب وسعد ود ابن أوس من بني جشم بن زهير وجعل عمير يصيح بهم ويلكم لا تستبقوا أحدا ونادى رجل من بني قشير يقال له الندار أنا جار لكل حامل أتتني فهي آمنة فأتته الحبالى فبلغني أن المرأة كانت تشد على بطنها الجفنة من تحت ثوبها تشبيها بالحبلى بما جعل لهن فلما اجتمعن له بقر بطونهن فأفظع ذلك زفر وأصحابه ولام زفر عميرا فيمن بقر من النساء فقال ما فعلته ولا أمرت به فقال في ذلك الصفار المحاربي ( بقَرْنا مِنكمُ ألْفَيْ بَقِيرٍ ... فلم نَتْرُكْ لحاملةٍ جَنِينَا ) وقال الأخطل يذكر ذلك ( فليتَ الخيلَ قد وَطِئَتْ قُشَيْراً ... سَنابكُها وقد سَطَع الغُبارُ ) ( فنجْزِيهمْ ببَغيِهمُ علَينا ... بنِي لُبنَى بما فَعلَ الغُدار ) وقال الصفار ( تمنَّيتُ بالخابُور قيساً فصادَفَتْ ... مَنايا لأسباب وِفاقٍ على قَدْرِ ) وقال جرير ( نُبِّئتُ أنَّك بالخابور مُمْتَنعٌ ... ثم انْفَرَجْتَ انفراجاً بعدَ إقرارِ ) فقال زفر بن الحارث يعاتب عميرا بما كان منه في الخابور ( أَلا مَن مُبلغٌ عنِّي عُميراً ... رسالَة عاتبٍ وعليكَ زارِي ) ( أَتترُكُ حَيَّ ذي كلَعٍ وَكلبٍ ... وتجعلُ حَدّ نابِكَ في نزارِ ) ( كمُعتمدٍ على إحدَى يديهِ ... فخانَتهُ بِوهْيٍ وانكِسار ) زفر يخلي سبيل القطامي والقطامي يمدحه ولما أسر القطامي أتى زفر بقرقيسيا فخلى سبيله ورد عليه مائة ناقة كما ذكر أدهم بن عمران العبدي فقال القطامي يمدحه ( قِفِي قَبْلَ التفرُّقِ يا ضُباعَا ... ولا يكُ موقفٌ منكِ الوَداعا ) ( قِفي فادِي أَسيرَك إنَّ قَوْمي ... وقومَكِ لا أَرى لهم اجتماعا ) ( أَلم يُحْزِنْكِ أنَّ حِبالَ قيسٍ ... وتغلِبَ قد تَبايَنَت انْقِطاعا ) ( فصارا ما تُغِبُّهما أمورٌ ... تزيدُ سَنا حريقتِها ارتفاعا ) ( كما العظْمُ الكَسِيرُ يُهاضُ حَتى ... يَبِتَّ وإنَّما بدأ انصداعا ) ( فأصبح سيلُ ذلِكَ قد تَرَقى ... إلى مَن كان منزلُه يَفاعا ) ( فلا تبْعَد دماءُ ابني نزارٍ ... ولا تَقْرَر عيونُكِ يا قُضَاعا ) ( ومن يكن استَلامَ إلى ثَوِيٍّ ... فقد أحسنتَ يا زفرُ المَتاعا ) ( أكُفْراً بعد رَدِّ الموتِ عنِّي ... وبعد عَطائِكَ المائةَ الرِّتاعا ) ( فلو بيدَيْ سِواكَ غداةَ زَلَّتْ ... بيَ القدمَانِ لم أرْجُ اطِّلاعا ) ( إذن لهلكتُ لو كانَتْ صِغارٌ ... من الأخْلاق تُبْتعُ ابتِداعا ) ( فَلم أرَ مُنعمِينَ أقلّ مَنًّا ... وأكرمَ عِندَما اصطُنِعُوا اصْطناعا ) ( مِن البِيضِ الوُجُوهِ بني نُفَيلٍ ... أبتْ أخلاقُهمْ إلاَّ اتِّسَاعا ) ( بَنِي القَرْم الذي علِمتْ مَعدٌّ ... تفضّلَ قومِها سعةً وباعا ) وقال أيضاً ( يا زفرُ بنَ الحارثِ ابن الأكرم ... قد كنتَ في الحربِ قديمَ المُقْدَمِ ) ( إذْ أحجم القوم ولمّا تُّحجِم ... إنَّكَ وابنيكَ حفِظتمْ محْرَمي ) ( وحقَنَ اللَّهُ بِكفَّيكَ دمِي ... مِن بعدِ ما جَفَّ لِساني وفمي ) ( أنقذتنِي من بطلٍ مُعمَّم ... والخيلُ تحت العارضِ المُسَوَّم ) ( وَتغلبٌ يَدعونَ : يا لَلأَرْقمِ ... ) وقال أيضا ( يا ناقُ خُبِّي خَبَباً زِوَرَّا ... وقلِّبي مَنْسِمَكِ المُغْبَرّا ) ( وعارضي اللَّيلَ إذا ما اخضرَّا ... سوف تُلاقين جَواداً حُرَّا ) ( سيّدَ قيسٍ زُفَرَ الأَغَرَّا ... ذاكَ الذي بايعَ ثُمَّ بَرَّا ) ( ونقَضَ الأقوامُ واستمرَّا ... قد نفع اللهُ بهِ وضَرَّا ) ( وكانَ في الحرْبِ شِهاباً مُرَّا ... ) وقال أيضا ( كأنَّ في المركَبِ حينَ راحا ... بدراً يزيدُ البصرَ انفِضاحا ) ( ذَا بلَجٍ ساوَاكَ أنَّى امْتاحا ... وَقَرَّ عيناً ورَجا الرَّباحا ) ( ألا ترى ما غَشيَ الأرْكاحا ... وغشيَ الخابورَ والأملاحا ) ( يُصفِّقُون بالأكُفِّ الرَّاحا ... ) وقال فيه أيضا هذه القصيدة التي فيها الغناء المذكور بذكر أخبار القطامي ( ما اعتادَ حُبُّ سُليمى حينَ معتادِ ... ولا تَقَضَّى بَواقي دَيْنِها الطادِي ) ( بيضاءُ مَحْطُوطةُ المتْنَيْن بَهْكَنةٌ ... رَيَّا الرّوَادفِ لم تُمغِلْ بأولادِ ) ( ما لِلكواعبِ ودَّعْنَ الحياةَ كما ... ودَّعْنَني واتَّخَذْنَ الشَّيبَ ميعادي ) ( أبصارُهُنَّ إلى الشُّبَّانِ مائلةٌ ... وقدْ أراهُنّ عَنِّي غيرَ صُدّادِ ) ( إذْ باطِلي لم تَقشَّع جاهليَّتُهُ ... عنِّي ولم يَتْرُك الخُلاَّنُ تَقوادِي ) ( كنِيّة الْحيِّ منْ ذي القَيضةِ احتَملوا ... مُسْتَحْقِين فُؤاداً مالهُ فادِي ) ( بانُوا وكانوا حياتي في اجتماعِهمُ ... وفي تفرُّقِهِمْ قَتْلي وإقصادي ) ( يَقتُلْننا بحديثٍ ليْسَ يعلمُه ... مَن يَتّقِينَ ولا مكنُونُه بادِي ) ( فهنَّ ينْبِذْنَ من قولٍ يُصِبْنَ بهِ ... مواقعَ الماءِ من ذي الغُلَّةِ الصَّادِي ) يقول فيها في مدح زفر بن الحارث ( مَنْ مُبلغٌ زُفرَ القَيسيَّ مِدْحَتهُ ... من القُطاميَّ قوْلاً غيرَ إفنادِ ) ( إنّي وإن كان قَوْمي ليسَ بينهمُ ... وبينَ قومِكَ إلاَّ ضَربةُ الهادِي ) ( مُثنٍ عليكَ بما استبْقيتَ مَعرِفتي ... وقد تَعرَّض منّي مَقتلٌ بادِي ) ( فلن أُثيبَك بالنَّعماء مَشتَمةً ... ولن أُبدِّل إحساناً بإفسادِ ) ( فإن هجوتُكَ ما تَمَّتْ مُكارَمَتي ... وإن مَدحتُ فقد أحسنتَ إصفادي ) ( وما نسيتُ مَقامَ الوَرْدِ تحبِسُه ... بيني وبينَ حَفيف الغابةِ الغادي ) ( لولا كتائِبُ من عمرٍو تصول بها ... أُرْدِيتُ يا خيرَ مَن يَنْدُو له النَّادي ) ( إذْ لا ترى العينُ إلا كلَّ سَلْهبةٍ ... وسابحٍ مثل سِيدِ الرَّدْهةِ العادِي ) ( إذِ الفَوارسُ من قيسٍ بِشِكَّتِهمْ ... حَوْلي شُهودٌ وما قَوْمي بشُهَّادي ) ( إذِ يَعتريكَ رجالٌ يسألونَ دَمِي ... ولو أطعتَهمُ أبكيتَ عُوَّادِي ) ( فقد عَصيْتَهمُ والحربُ مقبلةٌ ... لا بل قَدَحْتَ زناداً غيرَ صلاَّدِ ) ( والصِّيدُ آلُ نُفْيلٍ خيرُ قومِهمُ ... عند الشتاءِ إذا ما ضُنَّ بالزَّادِ ) ( المانعُونَ غَداةَ الرَّوْع جارَهمُ ... بالمشْرَفيَّةِ من ماضٍ ومُنآدِ ) ( أيَّامَ قومِي مكاني مُنْصِبٌ لهمُ ... ولا يظنُّون إلاَّ أنَّني رادِي ) ( فانتاشَني لكَ من غمّاءَ مظلمةٍ ... حبلٌ تضمَّنِ إصدارِي وإيرادِي ) ( ولا كردِّكَ مالِي بعدَما كرَبتْ ... تُبدِي الشماتَة أعدائي وحُسَّادي ) ( فإنْ قَدَرتُ على خَيرٍ جَزَيتُ به ... واللَّهُ يجعل أقواماً بِمرْصَادِ ) قال ابن سلام فلما سمع زفر هذا قال لا أقدرك الله على ذلك وقال أيضا ( ألا مَن مُبلغٌ زُفَرَ بن عمرٍو ... وخيرُ القولِ ما نَطَقَ الحكِيمُ ) ( أبيٌّ ما يُقَادُ الدَّهرَ قَسْراً ... ولا لِهَوى المصرِّف يَسْتقيمُ ) ( أَنُوفٌ حينَ يغضبُ مُسْتَعِزٌّ ... جَنوحٌ يَسْتبدُّ به العزيمُ ) ( فما آلُ الحُبَابِ إلى نُفَيلٍ ... إذا عُدَّ المُمهِّلُ والقديمُ ) ( كأنَّ أبا الحُبَابِ إلى نُفَيلٍ ... حِمَارٌ عَضَّهُ فرسٌ عَذُومُ ) ( بَني لك عامرٌ وبنو كلابٍ ... أُرُوماً ما يُوازيه أُرومُ ) القطامي ممن يحسنون ابتداء القصيد أخبرني أحمد بن جعفر جحظة قال حدثني علي بن يحيى المنجم قال سمعت من لا أحصي من الرواة يقولون أحسن الناس ابتداء قصيد في الجاهلية امرؤ القيس حيث يقول ( ألا عِم صباحاً أيها الطَّللُ البَالي ... ) وحيث يقول ( قفَا نبْكِ من ذِكرَى حبيبٍ ومنزلِ ... ) وفي الإسلاميين القطاميُّ حيث يقول ( إنا مُحيُّوكَ فاسْلم أيهَا الطَّلَلُ ... ) وفي المحدثين بشار حيث يقول ( أبَى طَلَلٌ بالجَزْعِ أن يتَكلَّمَا ... وماذا عليه لو أجابَ مُتيَّما ؟ ) ( وبالفُرْع آثارٌ لهِندٍ وباللِّوى ... مَلاعِبُ ما يُعْرَفْنَ إلاَّ تَوَهُّما ) نسخت من كتاب أحمد بن الحارث الخراز ولم أسمعه من أحد وهو خبر فيه طول اقتصرت منه على ما فيه من خبر القطامي قال أحمد بن الحارث الخراز حدثني المدائني عن عبد الملك بن مسلم قال قال عبد الملك بن مروان للأخطل وعنده عامر الشعبي أتحب أن لك قياضا بشعرك شعر أحد من العرب أم تحب أنك قلته قال لا والله يا أمير المؤمنين إلا أني وددت أني كنت قلت أبياتا قالها رجل منا مغدف القناع قليل السماع قصير الذراع قال وما قال فأنشد قول القطامي ( إنَّا مُحيُّوكَ فاسْلمْ أيُّهَا الطَّللُ ... وَإن بَليتَ وإن طَالتْ بكَ الطِّيَلُ ) ( ليس الجديدُ به تبقى بَشَاشَتُه ... إلا قليلاً ولا ذو خُلَّةٍ يَصِلُ ) ( والعيشُ لا عيْشَ إلا ما تَقرُّ به ... عَينٌ ولا حالَ إلا سوفَ تنْتقلُ ) ( إن تَرْجِعي من أبي عثمانَ مُنْجِحةً ... فقد يُهونُ على المستَنْجِحِ العمَلُ ) ( والناسُ مَنْ يلْقَ خيراً قائلونَ له ... ما يَشتهِي وَلأُمَّ المخطِىءِ الهَبلُ ) ( قد يُدْرِكُ المتأَنِّي بعضَ حاجَتِهِ ... وقد يكونُ مع المسْتعجل الزَّللُ ) حتى أتى على آخرها قال الشعبي فقلت له قد قال القطامي أفضل من هذا قال وما قال قلت قال ( طرقتْ جَنُوبُ رِحالَنا من مَطْرَقِ ... ما كنت أحْسِبُهَا قريبَ المُعْنَق ) ( قَطعتْ إليكَ بمثل حِيدِ جَدَايةٍ ... حَسَنٍ مُعلَّقُ تُومَتَيْه مُطوَّقِ ) ( ومُصرّعينَ من الكَلالِ كأَنَّما ... بكَروا الغَبوقَ من الرَّحيقِ المُعتِق ) ( مُتوسِّدين ذراعَ كلِّ شِمَلَّةٍ ... ومُفرّجٍ عَرِقِ المَقَذِّ مُنَوّق ) ( وَجَثَتْ على رُكَبٍ تهُدُّ بها الصَّفَا ... وعلى كلاكِلَ كالنَّقِيل المُطرَق ) ( وإذا سمِعْن إلى هماهمِ رُفْقةٍ ... ومن النُّجُوم غوَابرٌ لم تخفق ) ( جعلتْ تُمِيلُ خُدودَها آذانُهَا ... طرَباً بهنَّ إلى حُداءِ السُّوَّق ) ( كالمُنْصِتات إلى الزَّميرِ سَمِعْنه ... من رائعٍ لقلوبهنَّ مُشَوِّقِ ) ( فإذا نَظرْنَ إلى الطَّريق رأينَهُ ... لَهقاً كَشاكلةِ الحِصانِ الأبلق ) ( وإذا تخلَّفَ بعدهُنَّ لحاجةٍ ... حادٍ يُشَسِّعُ نعَلَه لم يَلحقِ ) ( وَإذَا يُصيبُك - والحوادثُ جمَّةٌ - ... حدثٌ حَداكَ إلى أَخيكَ الأوثق ) ( ليتَ الهُمُومَ عن الفؤادِ تفرَّجَتْ ... وخلا التَّكلُّم للِّسان المُطلَق ) قال فقال عبد الملك بن مروان ثكلت القطامي أمه هذا والله الشعر قال فالتفت إلي الأخطل فقال لي يا شعبي إن لك فنونا في الأحاديث وإنما لنا فن واحد فإن رأيت ألا تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حربى فقلت وكرامة لا أعرض لك في شعر أبدا فأقلني هذه المرة ثم التفت إلى عبد الملك بن مروان فقلت يا أمير المؤمنين أسألك أن تستغفر لي الأخطل فإني لا أعاود ما يكره فضحك عبد الملك بن مروان وقال يا أخطل إن الشعبي في جواري فقال يا أمير المؤمنين قد بدأته بالتحذير وإذا ترك ما نكره لم نعرض له إلا بما يحب فقال عبد الملك بن مروان للأخطل فعلي ألا يعرض لك إلا بما تحب أبدا فقال له الأخطل أنت تتكفل بذلك يا أمير المؤمنين قال عبد الملك بن مروان أنا أكفل به إن شاء الله تعالى صوت ( يا بنَ الذين سَما كِسْرى لجمْعهِمُ ... فجلَّلُوا وَجْهه قاراً بِذِي قارِ ) ( دوِّخْ خُراسانَ بالجُرْدِ العِتَاقِ وبالْبِيضِ ... الرِّقاق بأيْدِي كلِّ مِسعار ) الشعر لأبي نجدة واسمه لجيم بن سعد شاعر من بني عجل أخبرني بذلك جماعة من أهله وكان أبو نجدة هذا مع أحمد بن عبد العزيز بن دلف بن أبي دلف منقطعا إليه والغناء لكنيز دبة ولحنه فيه خفيف بالبنصر ابتداؤه نشيد وكان سبب قوله هذا الشعر أن قائدا من قواد أحمد بن عبد العزيز التجأ إلى عمرو بن الليث وهو يومئذ بخراسان فغم ذلك أحمد وأقلقه فدخل عليه أبو نجدة فأنشده هذين البيتين وبعدهما ( يا مَنْ تيمّم عَمراً يستجيرُ به ... أمَا سَمِعْتَ ببيْتٍ فيهِ سَيّارِ ) ( المسْتجيرُ بعمْرو عند كُرْبته ... كالمسْتجير من الرّمْضاءِ بالنَّار ) فسر أحمد بذلك وسري عنه وأمر لأبي نجدة بجائزة وخلع عليه وحمله وغنى فيه كنيز لحنه هذا وهو لحن حسن مشهور في عصرنا هذا فأمر لكنيز أيضا بجائزة وخلع عليه وحمله سمعت أبا علي محمد بن المرزبان يحدث أبي رحمه الله بهذا على سبيل المذاكرة وكانت بيننا وبين آل المرزبان مودة قديمة وصهر خبر وقعة ذي قار التي فخر بها في هذا الشعر أخبرنا بخبرها علي بن سليمان الأخفش عن السكري عن محمد ابن حبيب عن ابن الكلبي عن خراش بن إسماعيل وأضفت إلى ذلك رواية الأثرم عن أبي عبيدة وعن هشام أيضا عن أبيه قالوا كان من حديث ذي قار أن كسرى أبرويز بن هرمز لما غضب على النعمان ابن المنذر أتى النعمان هانىء بن مسعود بن عامر بن عمرو بن ربيعة بن ذهل ابن شيبان فاستودعه ماله وأهله وولده وألف شكة ويقال أربعة آلاف شكة قال ابن الأعرابي والشكة السلاح كله ووضع وضائع عند أحياء من العرب ثم هرب وأتى طيئا لصهره فيهم وكانت عنده فرعة بنت سعيد بن حارثة بن لأم وزينب بنت أوس بن حارثة فأبوا أن يدخلوه جبلهم وأتته بنو رواحة بن ربيعة بن عبس فقالوا له أبيت اللعن أقم عندنا فإنا مانعوك مما نمنع منه أنفسنا فقال ما أحب أن تهلكوا بسببي فجزيتم خيرا ثم خرج حتى وضع يده في يد كسرى فحبسه بساباط ويقال بخانقين وقد مضى خبره مشروحا في أخبار عدي بن زيد قالوا فلما هلك النعمان جعلت بكر بن وائل تغير على السواد فوفد قيس بن مسعود بن قيس بن خالد ذي الجدين بن عبد الله بن عمرو إلى كسرى فسأله أن يجعل له أكلا وطعمة على أن يضمن له على بكر بن وائل ألا يدخلوا السواد ولا يفسدوا فيه فأقطعه الأبلة وما والاها وقال هل تكفيك وتكفي أعراب قومك وكانت له حجرة فيها مائة من الإبل للأضياف إذا نحرت ناقة ردت مكانها ناقة أخرى وإياه عنى الشماخ بقوله ( فادْفعْ بأَلْبانها عنكُم كما دَفعت ... عنهم لِقاحُ بني قيس بن مَسعود ) قال فكان يأتيه من أتاه منهم فيعطيه جلة تمر وكرباسة حتى قدم الحارث بن وعلة بن مجالد بن يثربي بن الديان بن الحارث بن مالك بن شيبان ابن ذهل بن ثعلبة والمكسر بن حنظلة بن حيي بن ثعلبة بن سيار بن حيي بن حاطبة بن الأسعد بن جذيمة بن سعد بن عجل بن لجيم فأعطاهما جلتي تمر وكرباستين فغضبا وأبيا أن يقبلا ذلك منه فخرجا واستغويا ناسا من بكر بن وائل ثم أغارا على السواد فأغار الحارث على أسافل رودميسان وهي من جرد وأغار المكسر على الأنبار فلقيه رجل من العباديين من أهل الحيرة قد نتجت بعض نوقهم فحملوا الحوار على ناقة وصروا الإبل فقال العبادي لقد صبح الأنبار شر جمل يحمل جملا وجمل برته عود فجعلوا يضحكون من جهله بالإبل قال وأغار بجير بن عائذ بن سويد العجلي ومعه مفروق بن عمرو الشيباني على القادسية وطيرناباذ وما والاهما وكلهم ملأ يديه غنيمة فأما مفروق وأصحابه فوقع فيهم الطاعون فموت منهم خمسة نفر مع من موّت من أصحابهم فدفنوا بالدجيل وهو رحلة من العذيب يسيرة فقال مفروق ( أتاني بأنْباطِ السَّوادِ يَسُوقُهمْ ... إليَّ وأوْدَتْ رَجْلَتي وَفَوارِسي ) كسرى وقيس بن مسعود فلما بلغ ذلك كسرى اشتد حنقه على بكر بن وائل وبلغه أن حلقة النعمان وولده وأهله عندهم فأرسل كسرى إلى قيس بن مسعود وهو بالأبلة فقال غررتني من قومك وزعمت أنك تكفينيهم وأمر به فحبس بساباط وأخذ كسرى في تعبئة الجيوش إليهم فقال قيس بن مسعود وهو محبوس من أبيات ( ألا أبلغْ بَني ذُهْلٍ رَسُولاً ... فَمَن هذا يكونُ لكم مكاني ) ( أيأْكُلُها ابنُ وعْلَةَ في ظَلِيفٍ ... ويأمَنُ هَيْثَمٌ وابنا سِنان ؟ ) ( ويأمَنُ فيكمُ الذُّهْليُّ بَعْدِي ... وقد وسَموكُم سِمةَ البيانِ ) ( ألا مَنْ مُبلغٌ قَوْمي ومَن ذا ... يبلِّغُ عن أسيرٍ في الإوانِ ) يعني الإيوان ( تطَاوَل ليلُه وأصاب حُزْناً ... ولا يَرْجُو الفِكاكَ مع المِنانِ ) يعني بالهيثم وابني سنان الهيثم بن جرير بن يساف بن ثعلبة بن سدوس بن ذهل بن ثعلبة وأبو علباء بن الهيثم وقال قيس بن مسعود ينذر قومه ( أَلاَ لَيتَني أَرشُو سِلاحِي وبَغْلَتي ... لِمَن يُخبِرُ الأنباءَ بكرَ بن وائلِ ) ويروي لمن يعلم الأنباء ( فأُوصِيهمُ باللَّهِ والصُّلْح بينهمْ ... لينصأ معروفٌ ويُزْجَرَ جاهِلُ ) ( وصاةَ امرىء لو كان فيكم أَعانَكُم ... على الدَّهرِ والأيامُ فيها الغوائِلُ ) ( فإيّاكُمُ والطّفَّ لا تَقْرَبُنَّهُ ... ولا البحرَ إنّ الماءَ للبحرِ واصِلُ ) ( ولا أحْبِسَنْكم عن بُغا الخَيْرِ إنَّني ... سَقَطتُ عَلَى ضِرغامةٍ فهو آكِلُ ) رواه ابن الأعرابي فقال ( ... إنَّ الماءَ للقَوْدِ واصِلُ ) أي أنه معين لهم يقود الخيل إليكم قال وقال قيس أيضا ينذرهم ( تَمنَّاك من ليلَى مع اللَّيل خائِلُ ... وذِكرٌ لها في القَلبِ ليس يُزَايِلُ ) ( أُحِبّك حُبَّ الخَمرِ ما كان حُبُّها ... إلَيَّ وكُلٌّ في فؤادِيَ داخِلُ ) ( ألا لَيتَنِي أرْشُو سِلاحي وبَغْلتي ... فيُخْبرَ قومي اليومَ ما أَنَا قائِلُ ) ( فإنَّا ثَوَيْنا في شُعوبِ وإنَّهُمْ ... غَزَتْهُمْ جنودٌ جَمَّةٌ وقبائِلُ ) ( وإنّ جُنودَ العُجْمِ بَيْني وبَينَكم ... فيا فَلَجِي يا قومُ إن لم تقاتلُوا ) قال فلما وضح لكسرى واستبان أن مال النعمان وحلقته وولده عند ابن مسعود بعث إليه كسرى رجلا يخبره أنه قال له إن النعمان إنما كان عاملي وقد استودعك ماله وأهله والحلقة فابعث بها إلي ولا تكلفني أن أبعث إليك ولا إلى قومك بالجنود تقتل المقاتلة وتسبي الذرية فبعث إليه هانىء إن الذي بلغك باطل وما عندي قليل ولا كثير وإن يكن الأمر كما قيل فإنما أنا أحد رجلين إما رجل استودع أمانة فهو حقيق أن يردها على من استودعه إياها ولن يسلم الحر أمانته أو رجل مكذوب عليه فليس ينبغي للملك أن يأخذه بقول عدو أو حاسد قال وكانت الأعاجم قوما لهم حلم قد سمعوا ببعض علم العرب وعرفوا أن هذا الأمر كائن فيهم فلما ورد عليه كتاب هانىء بهذا حملته الشفقة أن يكون ذلك قد اقترب فأقبل حتى قطع الفرات فنزل غمر بني مقاتل وقد أحنقه ما صنعت بكر بن وائل في السواد ومنع هانىء إياه ما منعه كسرى يستشير إياس بن قبيصة قال ودعا كسرى إياس بن قبيصة الطائي وكان عامله على عين التمر وما والاها إلى الحيرة وكان كسرى قد أطعمه ثلاثين قرية على شاطىء الفرات فأتاه في صنائعه من العرب الذين كانوا بالحيرة فاستشاره في الغارة على بكر بن وائل وقال ماذا ترى وكم ترى أن نغزيهم من الناس فقال له إياس إن الملك لا يصلح أن يعصيه أحد من رعيته وإن تطعني لم تعلم أحدا لأي شيء عبرت وقطعت الفرات فيروا أن شيئا من أمر العرب قد كربك ولكن ترجع وتضرب عنهم وتبعث عليهم العيون حتى ترى غرة منهم ثم ترسل حلبة من العجم فيها بعض القبائل التي تليهم فيوقعون بهم وقعة الدهر ويأتونك بطلبتك فقال له كسرى أنت رجل من العرب وبكر بن وائل أخوالك وكانت أم إياس أمامة بنت مسعود أخت هانىء بن مسعود فأنت تتعصب لهم ولا تألوهم نصحا فقال إياس رأي الملك أفضل فقام إليه عمرو بن عدي بن زيد العبادي وكان كاتبه وترجمانه بالعربية في أمور العرب فقال له أقم أيها الملك وابعث إليهم بالجنود يكفوك فقام إليه النعمان بن زرعة بن هرمي من ولد السفاح التغلبي فقال أيها الملك إن هذا الحي من بكر بن وائل إذا قاظوا بذي قار تهافتوا تهافت الجراد في النار فعقد للنعمان ابن زرعة على تغلب والنمر وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب ومعه كتيبتاه الشهباء والدوسر فكانت العرب ثلاثة آلاف وعقد للهامرز على ألف من الأساورة وعقد لخنابرين على ألف وبعث معهم باللطيمة وهي عير كانت تخرج من العراق فيها البز والعطر والألطاف توصل إلى باذام عامله باليمن وقال إذا فرغتم من عدوكم فسيروا بها إلى اليمن وأمر عمرو بن عدي أن يسير بها وكانت العرب تخفرهم وتجيرهم حتى تبلغ اللطيمة اليمن وعهد كسرى إليهم إذا شارفوا بلاد بكر بن وائل ودنوا منها أن يبعثوا إليهم النعمان بن زرعة فإن أتوكم بالحلقة ومائة غلام منهم يكونون رهنا بما أحدث سفهاؤهم فاقبلوا منهم وإلا فقاتلوهم وكان كسرى قد أوقع قبل ذلك ببني تميم يوم الصفقة فالعرب وجلة خائفة منه وكانت حرقة بنت حسان بن النعمان بن المنذر يومئذ في بني سنان هكذا في هذه الرواية وقال ابن الكلبي حرقة بنت النعمان وهي هند والحرقة لقب وهذا هو الصحيح فقالت تنذرهم ( أَلاَ أَبلغْ بني بكرٍ رَسُولاً ... فقد جَدَّ النّفيرُ بعَنْقَفِيرِ ) ( فَلَيتَ الجيشَ كُلُّهمُ فِداكُمْ ... ونفْسيَ والسَّرِيرَ وذا السَّرِيرِ ) ( كَأَنِّي حينَ جَدَّ بهم إليكُمْ ... مُعَلَّقَةُ الذَّوائبِ بالعَبُورِ ) ( فلو أنِّي أطقتُ لِذاكَ دَفْعاً ... إذَنْ لَدَفَعْتُهُ بِدَمِي وَزِيرِي ) فلما بلغ بكر بن وائل الخبر سار هانىء بن مسعود حتى انتهى إلى ذي قار فنزل به وأقبل النعمان بن زرعة وكانت أمه قلطف بنت النعمان بن معد يكرب التغلبي وأمها الشقيقة بنت الحارث الوصاف العجلي حتى نزل على ابن أخته مرة بن عمرو بن عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن قيس بن سعد بن عجل فحمد الله النعمان وأثنى عليه ثم قال إنكم أخوالي وأحد طرفي وإن الرائد لا يكذب أهله وقد أتاكم ما لا قبل لكم به من أحرار فارس وفرسان العرب والكتيبتان الشهباء والدوسر وإن في هذا الشر خيارا ولأن يفتدي بعضكم بعضا خير من أن تصطلموا فانظروا هذه الحلقة فادفعوها وادفعوا رهنا من أبنائكم إليه بما أحدث سفهاؤكم فقال له القوم ننظر في أمرنا وبعثوا إلى من يليهم من بكر بن وائل وبرزوا ببطحاء ذي قار بين الجلهتين قال الأثرم جلهة الوادي ما استقبلك منه واتسع لك وقال ابن الأعرابي جلهة الوادي مقدمه مثل جلهة الرأس إذا ذهب شعره يقال رأس أجله قال وكان مرداس بن أبي عامر السلمي مجاورا فيهم يومئذ فلما رأى الجيوش قد أقبلت إليهم حمل عياله فخرج عنهم وأنشأ يقول يحرضهم بقوله ( أبلِغ سَراةَ بني بكرٍ مُغَلْغَلةً ... إنّي أخاف عليهم سُرْبةَ الدَّار ) ( إنّي أرى الملِكَ الهامُرْزَ مُنْصَلِتاً ... يُزْجِي جِياداً وركباً غير أبرارِ ) ( لا تَلْقُطُ البَعَر الْحَوْلِيَّ نِسْوَتُهُمْ ... للجائزِين عَلَى أعطانِ ذِي قار ) ( فإن أَبَيْتُمْ فإنّي رافِعٌ ظُعُنِي ... ومُنْشِبٌ في جِبال اللُّوبِ أظْفَاري ) ( وجاعِلٌ بينَنا وِرداً غَواربُه ... ترْمي إذا ما ربا الوادِي بتَيَّار ) ربا ارتفع وطال وقوله وردا غواربه أراد البحر أبو الفرج يعطي رأيه في حكاية مرداس قال علي بن الحسين الأصفهاني هذه الحكاية عندي في أمر مرداس بن أبي عامر خطأ لأن وقعة ذي قار كانت بعد هجرة النبي وكانت بين بدر وأحد ومرداس بن أبي عامر وحرب بن أمية أبو أبي سفيان ماتا في وقت واحد كانا مرا بالقرية وهي غيضة ملتفة الشجر فأحرقا شجرها ليتخذاها مزرعة فكانت تخرج من الغيضة حيات بيض فتطير حتى تغيب ومات حرب ومرداس بعقب ذلك فتحدث قومهما أن الجن قتلتهما لإحراقهما منازلهم من الغيضة وذلك قبل مبعث النبي بحين ثم كانت بين أبي سفيان وبين العباس بن مرداس منازعة في هذه القرية ولهما في ذلك خبر ليس هذا موضعه وأظن أن هذه الأبيات للعباس بن مرداس بن أبي عامر رجع الحديث إلى سياقته في حديث ذي قار قال وجعلت بكر بن وائل حين بعثوا إلى من حولهم من قبائل بكر لا ترفع لهم جماعة إلا قالوا سيدنا في هذه فرفعت لهم جماعة فقالوا سيدنا في هذه فلما دنوا إذا هم بعبد عمرو بن بشر بن مرثد فقالوا لا ثم رفعت لهم أخرى فقالوا في هذه سيدنا فإذا هو جبلة بن باعث بن صريم اليشكري فقالوا لا فرفعت أخرى فقالوا في هذه سيدنا فإذا هو الحارث بن وعلة ابن مجالد الذهلي فقالوا لا ثم رفعت لهم أخرى فقالوا في هذه سيدنا فإذا فيها الحارث بن ربيعة بن عثمان التيمي من تيم الله فقالوا لا ثم رفعت لهم أخرى أكبر مما كان يجيء فقالوا لقد جاء سيدنا فإذا رجل أصلع الشعر عظيم البطن مشرب حمرة فإذا هو حنظلة بن ثعلبة بن سيار بن حيي ابن حاطبة بن الأسعد بن جذيمة بن سعد بن عجل فقالوا يا أبا معدان قد طال انتظارنا وقد كرهنا أن نقطع أمرا دونك وهذا ابن أختك النعمان بن زرعة قد جاءنا والرائد لا يكذب أهله قال فما الذي أجمع عليه رأيكم واتفق عليه ملؤكم قالوا قال إن اللخي أهون من الوهي وإن في الشر خيارا ولأن يفتدي بعضكم بعضا خير من أن تصطلحوا جميعا قال حنظلة فقبح الله هذا رأيا لا تجر أحرار فارس غرلها ببطحاء ذي قار وأنا أسمع الصوت ثم أمر بقبته فضربت بوادي ذي قار ثم نزل ونزل الناس فأطافوا به ثم قال لهانىء بن مسعود يا أبا أمامة إن ذمتكم ذمتنا عامة وإنه لن يوصل إليك حتى تفنى أرواحنا فأخرج هذه الحلقة ففرقها بين قومك فإن تظفر فسترد عليك وإن تهلك فأهون مفقود فأمر بها فأخرجت ففرقها بينهم ثم قال حنظلة للنعمان لولا أنك رسول لما أبت إلى قومك سالما فرجع النعمان إلى أصحابه فأخبرهم بما رد عليه القوم فباتوا ليلتهم مستعدين للقتال وباتت بكر بن وائل يتأهبون للحرب فلما أصبحوا أقبلت الأعاجم نحوهم وأمر حنظلة بالظعن جميعا فوقفها خلف الناس ثم قال يا معشر بكر بن وائل قاتلوا عن ظعنكم أو دعوا فأقبلت الأعاجم يسيرون على تعبئة فلما رأتهم بنو قيس بن ثعلبة انصرفوا فلحقوا بالحي فاستخفوا فيه فسمي حي بني قيس بن ثعلبة قال وهو على موضع خفي فلم يشهدوا ذلك اليوم وكان ربيعة بن غزالة السكوني ثم التجيبي يومئذ هو وقومه نزولا في بني شيبان فقال يا بني شيبان أما لو أني كنت منكم لأشرت عليكم برأي مثل عروة العكم فقالوا فأنت والله من أوسطنا فأشر علينا فقال لا تستهدفوا لهذه الأعاجم فتهلككم بنشابها ولكن تكردسوا لهم كراديس فيشد عليهم كردوس فإذا أقبلوا عليه شد الآخر فقالوا فإنك قد رأيت رأيا ففعلوا فلما التقى الزحفان وتقارب القوم قام حنظلة بن ثعلبة فقال يا معشر بكر بن وائل إن النشاب الذي مع الأعاجم يعرفكم فإذا أرسلوه لم يخطئكم فعاجلوهم باللقاء وابدأوهم بالشدة ثم قام هانىء بن مسعود فقال يا قوم مهلك معذور خير من نجاء معرور وإن الحذر لا يدفع القدر وإن الصبر من أسباب الظفر المنية ولا الدنية واستقبال الموت خير من استدباره والطعن في الثغر خير وأكرم من الطعن في الدبر يا قوم جدوا فما من الموت بد فتح لو كان له رجال أسمع صوتا ولا أرى قوما يا آل بكر شدوا واستعدوا وإلا تشدوا تردوا ثم قام شريك بن عمرو بن شراحيل بن مرة بن همام فقال يا قوم إنما تهابونهم أنكم ترونهم عند الحفاظ أكثر منكم وكذلك أنتم في أعينهم فعليكم بالصبر فإن الأسنة تردي الأعنة يا آل بكر قدما قدما ثم قام عمرو بن جبلة بن باعث بن صريم اليشكري فقال ( يا قوْم لاَ تغرُرْكُمُ هذِي الخِرقْ ... وَلاَ وَميضُ البَيْضِ في الشَّمس برَقْ ) ( مَنْ لم يقَاتلْ مِنْكُم هذِي العُنُق ... فجنِّبوه الرَّاح واسقُوه المرَقْ ) ثم قام حنظلة بن ثعلبة إلى وضين راحلة امرأته فقطعه ثم تتبع الظعن يقطع وضنهن لئلا يفر عنهن الرجال فسمي يومئذ مقطع الوضين والوضين بطان الناقة قالوا وكانت بنو عجل في الميمنة بإزاء خنابرين وكانت بنو شيبان في الميسرة بإزاء كتيبة الهامرز وكانت أفناء بكر بن وائل في القلب فخرج أسوار من الأعاجم مسور في أذنيه درتان من كتيبة الهامرز يتحدى الناس للبراز فنادى في بني شيبان فلم يبرز له أحد حتى إذا دنا من بني يشكر برز له يزيد بن حارثة أخو بني ثعلبة بن عمرو فشد عليه بالرمح فطعنه فدق صلبه وأخذ حليته وسلاحه فذلك قول سويد بن أبي كاهل يفتخر ( ومنَّا يَزيدُ إذْ تحدَّى جُموعَكم ... فلم تَقْرَبوه المَرْزُبانُ المسهَّرُ ) ( وبارَزَهُ مِنَّا غُلامٌ بِصَارمٍ ... حُسَامٍ إذا لاقى الضَّرِيبَة يَبتُرُ ) ثم إن القوم اقتتلوا صدر نهارهم أشد قتال رآه الناس إلى أن زالت الشمس فشد الحوفزان واسمه الحارث ابن شريك على الهامرز فقتله وقتلت بنو عجل خنابرين وضرب الله وجوه الفرس فانهزموا وتبعتهم بكر ابن وائل فلحق مرثد بن الحارث بن ثور بن حرملة بن علقمة بن عمرو بن سدوس النعمان بن زرعة فأهوى له طعنا فسبقه النعمان بصدر فرسه فأفلته فقال مرثد في ذلك ( وَخَيْلٍ تَبَارَى للطِّعانِ شَهِدتُها ... فأغرقتُ فيها الرُّمْحَ والجمعُ مُحجِمُ ) ( وأفلتَني النُّعمانُ قابَ رماحِنا ... وفوقَ قَطاةِ المهْرِ أزْرقُ لهذَمُ ) قال ولحق أسود بن بجير بن عائذ بن شريك العجلي النعمان بن زرعة فقال له يا نعمان هلم إلي فأنا خير آسر لك وخير لك من العطش قال ومن أنت قال الأسود بن بجير فوضع يده في يده فجز ناصيته وخلى سبيله وحمله الأسود على فرس له وقال له انج على هذه فإنها أجود من فرسك وجاء الأسود بن بجير على فرس النعمان بن زرعة وقتل خالد بن يزيد البهراني قتله الأسود بن شريك بن عمرو وقتل يومئذ عمرو بن عدي بن زيد العبادي الشاعر فقالت أمه ترثيه ( وَيْحَ عمرو بن عديٍّ من رجُلْ ... حانَ يوماً بعدما قيل كَملْ ) ( كان لا يعقِلُ حتى ما إذا ... جاءَ يومٌ يأكلُ الناسَ عَقلْ ) ( أيُّهم دَلاَّكَ عمْرٌو للرَّدَى ... وقديماً حَيّنَ المرْءَ الأجلْ ) ( ليت نُعمانَ عليْنا مَلِكٌ ... وبُنَيَّ لِيَ حَيٌّ لم يَزَلْ ) ( قد تنظَّرْنا لغادٍ أوْبةً ... كان لو أغنى عن المرءِ الأمَلْ ) ( بانَ منهُ عَضُدٌ عَنْ ساعدٍ ... بؤسَ للدّهر وبؤسَى للرجلْ ) قال وأفلت إياس بن قبيصة على فرس له كانت عند رجل من بني تيم الله يقال له أبو ثور فلما أراد إياس أن يغزوهم أرسل إليه أبو ثور بها فنهاه أصحابه أن يفعل فقال والله ما في فرس إياس ما يعز رجلا ولا يذله وما كنت لأقطع رحمه فيها فقال إياس ( غَذاها أبو ثوْرٍ فلما رأيتُها ... دَخِيسَ دوَاءِ لا أُضِيعَ غِذاؤها ) ( فأعددتُها كُفأً ليَوْمِ كريهةٍ ... إذا أَقبلتْ بكرٌ تُجَرُّ رشاؤها ) قال وأتبعتهم بكر بن وائل يقتلونهم بقية يومهم وليلتهم حتى أصبحوا من الغد وقد شارفوا السواد ودخلوه فذكروا أن مائة من بكر بن وائل وسبعين من عجل وثلاثين من أفناء بكر بن وائل أصبحوا وقد دخلوا السواد في طلب القوم فلم يفلت منهم كبير أحد وأقبلت بكر بن وائل على الغنائم فقسموها بينهم وقسموا تلك اللطائم بين نسائهم فذلك قول الديان بن جندل ( إن كنتِ ساقيةً يوماً على كَرمٍ ... فاسْقِي فوارسَ من ذُهلِ بن شيباناً ) ( واسْقِي فوارسَ حامَوْا عن ديارهمُ ... واعْلِي مَفارِقَهمْ مِسكاً وَرَيْحانا ) قال فكان أول من انصرف إلى كسرى بالهزيمة إياس بن قبيصة وكان لا يأتيه أحد بهزيمة جيش إلا نزع كتفيه فلما أتاه إياس سأله عن الخبر فقال هزمنا بكر بن وائل فأتيناك بنسائهم فأعجب ذلك كسرى وأمر له بكسوة وإن إياسا استأذنه عند ذلك فقال إن أخي مريض بعين التمر فأردت أن آتيه وإنما أراد أن يتنحى عنه فأذن له كسرى فترك فرسه الحمامة وهي التي كانت عند أبي ثور بالحيرة وركب نجيبة فلحق بأخيه ثم أتى كسرى رجل من أهل الحيرة وهو بالخورنق فسأل هل دخل على الملك أحد فقالوا نعم إياس فقال ثكلت إياسا أمه وظن أنه قد حدثه بالخبر فدخل عليه فحدثه بهزيمة القوم وقتلهم فأمر به فنزعت كتفاه وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر قال وكانت وقعة ذي قار بعد وقعة بدر بأشهر ورسول الله بالمدينة فلما بلغه ذلك قال هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا قال ابن الكلبي وأخبرني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال ذكرت وقعة ذي قار عند النبي فقال " ذلك يوم انتصفت فيه العرب من العجم وبي نصروا " وروي أن النبي مثلت له الوقعة وهو بالمدينة فرفع يديه فدعا لبني شيبان أو لجماعة ربيعة بالنصر ولم يزل يدعو لهم حتى أري هزيمة الفرس وروي أنه قال " إيها بني ربيعة اللهم انصر بني ربيعة " فهم إلى الآن إذا حاربوا دعوا بشعار النبي ودعوته لهم وقال قائلهم يا رسول الله وعدك فإذا دعوا بذلك نصروا الشعراء بعد النصر وقال أبو كلبة التيمي يفخر بيوم ذي قار ( لولا فوارِسُ لا مِيلٌ وَلا عُزُلٌ ... من اللّهازم ما قِظْتُم بذي قار ) ( ما زِلتُ مُفترِساً أجسادَ أفْتيةٍ ... تُثِيرُ أعطافَها منها بآثارِ ) ( إنَّ الفَوارسَ من عِجلٍ هُمُ أنِفُوا ... من أن يُخَلّوا لكِسْرى عَرْصةَ الدَّارِ ) ( لاقَوْا فَوارِسَ من عِجْلٍ بشكّتِهَا ... ليسوا إذا قلّصَتْ حربٌ بأَغمارِ ) ( قد أحسنَتْ ذُهلُ شيبانٍ وما عدَلَتْ ... في يومِ ذِي قارَ فُرْسانُ ابنِ سيّار ) ( همُ الذين أَتَوْهُمْ عنْ شمائلهمْ ... كما تلبَّس وُرَّادٌ بصُدَّارِ ) فأجابه الأعشى فقال ( أبلغْ أبا كلْبةَ التَّيمِيَّ مألُكةً ... فأنتَ من مَعْشرٍ - واللَّهِ - أشْرَار ) ( شيبانُ تَدْفعُ عنك الحربَ آونةً ... وأنتَ تنبَحُ نبْحَ الكلْبِ في الغار ) وقال بكير الأصم ( إن كنتِ ساقيةَ المُدامةِ أهْلَها ... فاسقِي على كَرَمٍ بني همَّامِ ) ( وأبا رَبيعَة كلَّها ومُحلَّماً ... سبَقُوا بأنْجَدِ غايةِ الأيّام ) ( زَحفُوا بجمْعٍ لا تُرَى أَقْطارُه ... لقِحَتْ بهِ حرْبٌ لغيرِ تمام ) ( عَرَبٌ ثلاثةُ آلُفٍ وَكتيبةٌ ... ألْفانِ عُجْمٌ من بني الفَدَّام ) ( ضربُوا بني الأحرارِ يومَ لَقُوهُمُ ... بالمشرِفيِّ على شؤْون الهام ) ( وغدا ابنُ مَسعُودٍ فأوقعَ وَقْعةً ... ذَهبَتْ لهمْ في مُعْرِقٍ وشآمِ ) وقال الأعشى ( فِدىً لبني ذُهْلِ بن شَيبَان ناقتِي ... وراكبُها يومَ اللِّقاءِ وقلّتِ ) ( هُمُ ضَربُوا بالحِنْوِ حِنوِ قُراقرِ ... مُقدِّمةَ الهامُرْز حتى تولَّتِ ) وقال بعض شعراء ربيعة في يوم ذي قار ( أَلا مَن لليلٍ لاَ تغُورُ كواكبُه ... وهمٍّ سَرى بين الجوانِح جانبُهْ ) ( ألا هلْ أَتاها أنّ جيْشاً عَرَمْرماً ... بأسفلِ ذي قارٍ أُبِيدتْ كتائبهْ ) ( فما حلْقةُ النُّعمانِ يومَ طلبتَها ... بأقرَبَ من نجم السماءِ تراقبُهْ ) وقال الأعشى ( حَلفْتُ بالمِلْح والرَّمادِ وبالعُزَّى ... وبالَّلاتِ تُسْلَم الحلقهْ ) ( حَتّى يظلَّ الهمامُ مُنجدِلاً ... ويقْرَعَ النَّبلُ طُرَّة الدَّرَقهْ ) وقال ابن قرد الخنزير التيمي ( ألا أبلِغْ بني ذُهْلٍ رسُولاً ... فلا شَتماً أردتُ ولا فسادَا ) ( هززتُ الحامِلينَ لكي يَعُودُوا ... إذا يومٌ من الحَدثانِ عادا ) ( وجدتُ الرِّفْدَ رِفْدَ بني لُجَيْمٍ ... إذا ما قَلَّت الأَرفادُ زادا ) ( هُم ضَرَبُوا الكتائبَ يومَ كِسْرَى ... أمامَ الناسِ إذْ كَرِهُوا الجِلادا ) ( وهُمْ ضَرَبُوا القِبابَ ببَطْنِ فَلْجٍ ... وذادُوا عن محارمِنا ذِيادا ) وقال الأعشى في ذلك ( لو أنَّ كلَّ معدٍّ كان شارَكَنا ... في يوم ذي قارَ ما أخطاهُمُ الشَّرَفُ ) ( لمَّا أتوْنا كأنّ الليلَ يقدُمُهم ... مُطَبّق الأرض تغشاها لهم سَدَفُ ) ( بَطارِقٌ وبنو مُلْكٍ مرازِبَةٌ ... من الأعاجِمِ في آذانِها النُّطَفُ ) ( من كلِّ مَرْجانةٍ في البَحْر أحْرَزَها ... تَيَّارها ووقاها طينَها الصَّدَفُ ) ( وظُعْنُنا خَلْفَنا تَجْرِي مَدَامِعُهَا ... أكبادُها وَجَلاً ممَّا تَرى تَجِفُ ) ( يَحْسِرْن عن أوجهٍ قد عاينَتْ عِبَراً ... ولاحها غُبْرَة ألوانُها كِسَفُ ) ( ما في الخُدودِ صُدودٌ عن وُجُوهِهمُ ... ولا عن الطَّعنِ في اللبَّاتِ مُنحَرفُ ) ( عَوْداً على بَدْئِهم ما إنْ يُلبِّثُهُمْ ... كرَّ الصُّقُورِ بناتِ الماءِ تَخْتَطِفُ ) ( لمَّا أمالُوا إلى النُّشَّابِ أيديَهمْ ... مِلْنا بِبيضٍ فظَلَّ الهامُ يُقْتَطفُ ) ( وخيلُ بكرٍ فما تَنْفَكُّ تطحنُهُمْ ... حتى تولَّوْا وكادَ اليومُ يَنْتَصِفُ ) وقال حريم بن الحارث التيمي ( وإنَّ لُجَيماً أهلُ عزٍّ وَثَرْوَةٍ ... وأهلُ أَيادٍ لا يُنالُ قَديمُها ) ( هُم مَنَعُوا في يومِ قارٍ نِساءَنا ... كما منَعَ الشَّولَ الهِجانَ قُرومُها ) ( إذا قِيلَ يوماً أقدِمُوا يتقَدَّمُوا ... وهل يمنعُ المخْزاةَ إلا صَمِيمُها ) قال ولم يزل قيس بن مسعود في سجن كسرى بساباط حتى مات فيه صوت ( خليلَيّ ما صَبْرِي على الزَّفَراتِ ... وما طاقتِي بالهمِّ والعَبَرات ) ( تَساقَطُ نفسي كلَّ يومٍ وليلةٍ ... على إثْر ما قد فاتَها حَسَرات ) الشعر للقحيف العقيلي والغناء لإبراهيم الموصلي رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة وذكر الهشامي أن الرمل لعلوية وأن لحن إبراهيم من الثقيل الأول بالوسطى أخبار القحيف ونسبه القحيف بن حمير أحد بني قشير بن مالك بن خفاجة بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة شاعر مقل من شعراء الإسلام أخباره مع خرقاء وكان يشبب بخرقاء التي كان ذو الرمة يشبب بها فأخبرني محمد بن خلف بن وكيع وعمي قالا حدثنا هارون بن محمد بن عبد الملك عن العدوي عن أبي الحسن المدائني عن الصباح بن الحجاج عن أبيه قال مررت بخرقاء وهي بفلج فقالت أقضيت حجك وأتممته فقلت نعم فقالت لم تفعل شيئا فقلت ولم فقالت لأنك لم تلمم بي ولا سلمت علي أو ما سمعت قول ذي الرمة ( تمامُ الحجّ أن تَقِفَ المطَايَا ... على خَرقاءَ واضِعةِ اللَِّثام ) فقال هيهات يا خرقاء ذهب ذاك منك فقالت لا تقل ذاك أما سمعت قول القحيف عمك ( وخَرقاءُ لا تَزْدادُ إلاَّ مَلاَحةً ... ولو عُمّرتْ تَعْمِيرَ نُوحٍ وجَلَّتِ ) اخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عبد الله بن إبراهيم الجمحيّ قال حدثني أبو الشبل المعدي قال نسب ذو الرمة بخرقاء البكائية وكانت أصبح من القبس وبقيت بقاء طويلا فنسب بها القُحيفُ العقيلي فقال ( وخَرقاءُ لا تزدادُ إلاَّ ملاحةً ... ولو عمِّرتْ تعمير نُوحٍ وجَلَّتِ ) أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني أبو غسان دماذ قال كبرت خرقاء حتى جاوزت تسعين سنة وأحبت أن تنفق ابنتها وتخطب فأرسلت إلى القحيف العقيلي وسألته أن يشبب بها فقال ( لَقد أرسلَتْ خَرْقاءُ نحوِي جَرِيَّها ... لِتَجعَلَني خرقاءُ ممَّن أضَلَّتِ ) ( وخرقاءُ لا تزدادُ إلاّ مَلاحةً ... ولو عُمِّرت تَعمِير نوحٍ وجَلَّتِ ) وقال عمرو بن أبي عمرو الشيباني كان القحيف العقيلي يتحدث إلى امرأة من عبس وقد جاورهم وأقام عندهم شهرا وهام بها عشقا وكان يخبرها أن له نعما ومالا وهويته العبسية وكان من أجمل الرجال وأشطهم فلما طال عليها واستحيا من كذبه إياها في ماله ارتحل عنهم وقال ( تَقُولُ لي أُختُ عَبْسٍ : ما أَرَى إبلاً ... وأنت تزعُم مَن والاك صِنْدِيدُ ) ( فقلتُ يكْفي مكانُ اللَّوْمِ مُطَّرِدٌ ... فيه القَتِير بسَمْرِ القَيْنِ مَشْدُودُ ) ( وشِكَّةٌ صاغَها وَفْراءَ كَامِلةً ... وصارمٌ من سُيُوفِ الهِنْدِ مَقْدُودُ ) ( إنِّي ليَرْعَى رجالٌ لي سَواَمَهُمُ ... ليَ العَقائِلُ منها والمَقاحِيدُ ) وقال أبو عمرو كان الوليد بن يزيد بن عبد الملك ولى علي بن المهاجر بن عبد الله الكلابي اليمامة فلما قتل الوليد بن يزيد جاءه المهير بن سلمى الحنفي فقال له إن الوليد قد قتل وإن لك علي حقا وكان أبوك لي مكرما وقد قتل صاحبك فاختر خصلة من ثلاث إن شئت أن تقيم فينا وتكون كأحدنا فافعل وإن شئت أن تتحول عنا إلى دار عمك فتنزلها أنت ومن معك إلى أن يرد أمر الخليفة المولى فتعمل بما يأمر به فافعل وإن شئت فخذ من المال المجتمع ما شئت والحق بدار قومك فأنف علي بن المهاجر من ذلك ولم يقبله وقال للمهير أنت تعزلني يا بن اللخناء فخرج المهير مغضبا والتف معه أهل اليمامة وكان مع علي ستمائة رجل من أهل الشام ومثلهم من قومه وزواره فدعاهم المهير وذكر لهم رأيه فأبوا عليه وقاتلوه وجاء سهم عائر فوقع في كبد صانع من أهل اليمامة فقال المهير احملوا عليهم فحملوا عليهم فانهزموا وقتل منهم نفر ودخلوا القصر وأغلقوا الباب وكان من جذوع فدعا المهير بالسعف فأحرقه ودخل أصحابه فأخذوا ما في القصر وقام عبد الله بن النعمان القيسي في نفر من قومه فحموا بيت المال ومنعوا منه فلم يقدر عليه المهير وجمع المهير جيشا يريد أن يغزو بهم بني عقيل وبني كلاب وسائر بطون بني عامر فقال القحيف بن حمير لما بلغه ذلك صوت ( أَمِن أهْلِ الأَرَاكِ عَفَتْ رُبُوعُ ... نَعَمْ سَقْياً لهم لو تَستطيعُ ) ( زيارتَهمِ ولكنْ أحْضَرَتْنا ... هُمومٌ ما يزالُ لها مُشِيعُ ) غنى في هذين البيتين إبراهيم فيما ذكره هو في كتابه ولم يذكر طريقته ( كأنَّ البَيْنَ جَرَّعَني زُعافاً ... من الحيَّاتِ مَطعَمُهُ فَظِيعُ ) ( وماءٍ قد ورَدتُ على جِباهَ ... حمامٌ حائمٌ وقطاً وُقوعُ ) ومما يغنى فيه من هذه القصيدة صوت ( جعلتُ عِمامتي صِلةً لدَلْوِي ... إليهِ حينَ لم تَرِد النُّسُوعُ ) ( لأَسْقِيَ فِتْيَةً ومُنَقَّباتٍ ... أضرَّ بِنِقْيِها سَفَرٌ وَجِيعُ ) قال أبو الفرج غنى في هذين البيتين سليم خفيف رمل بالوسطى ذكر ذلك حبش ( لقد جَمَع المُهَيْرُ لَنا فقُلْنا : ... أتحسَبُنا تروِّعُنا الجُمُوعُ ؟ ) ( سَتَرْهَبُنا حَنِيفةُ إن رأتْنا ... وفي أيمانِنا البِيضُ اللّمُوعُ ) ( عُقَيْلٌ تَغْتَزِي وبَنُو قُشَيرٍ ... تَوارَى عن سواعِدِها الدُّرُوعُ ) ( وجَعْدةُ والحَريشُ لُيوثُ غابٍ ... لهم في كلِّ مَعْركَةٍ صَرِيعُ ) ( فنعمَ القَوْمُ في اللَّزَباتِ قومِي ... بنُو كَعْبٍ إذا جَحد الرَّبيعُ ) ( كُهولٌ مَعْقِلُ الطُّرَداءِ فيهِمْ ... وفتيانٌ غَطارفةٌ فُروعُ ) ( فمهلاً يا مُهَيرُ فأنت عَبْدٌ ... لِكَعبٍ سامِعٌ لهمُ مُطِيعُ ) قال وبعث المهير رجلا من بني حنيفة يقال له المندلف بن إدريس الحنفي إلى الفلج وهو منزل لبني جعدة وأمره أن يأخذ صدقات بني كعب جميعا فلما بلغهم خبره أرسلوا في أطرافهم يستصرخون عليه فأتاهم أبو لطيفة ابن مسلمة العقيلي في عالم من عقيل فقتلوا المندلف وصلبوه فقال القحيف في ذلك ( أتانا بالعَقِيقِ صَرِيخُ كعْبٍ ... فحنَّ النَّبْعُ والأسَلُ النِّهالُ ) ( وحالَفْنا السُّيوفَ ومُضمَراتٍ ... سواءٌ هُنَّ فينا والعِيالُ ) ( تعادَى شُزَّباً مثلَ السَّعالِي ... ومِن زُبَرِ الحَديدِ لها نِعالُ ) وقال أيضا ويروى لنجدة الخفاجي ( لقد منع الفرائِضَ عن عُقَيْلٍ ... بِطَعْنٍ تحتَ ألْوِيةٍ وضَرْبِ ) ( ترى مِنْهُ المُصَدِّق يومَ وافَى ... أطلَّ على مَعاشِرِه بصَلْب ) قال أبو عمرو في أخباره ونظر بعض فقهاء أهل مكة إلى القحيف وهو يحد النظر إلى امرأة فنهاه عن ذلك وقال له أما تتقي الله تنظر هذا النظر إلى غير حرمة لك وأنت محرم فقال القحيف ( أقْسمتُ لا أنْسى وإن شَطّت النّوى ... عَرانِينَهُنَّ الشُّمَّ والأعينَ النُّجْلا ) ( ولا المِسْكَ من أعطافهِنَّ ولا البُرَى ... ضَمَمْنَ وقد لوَّيْنَها قُضُباً خُدْلا ) ( يقول لِيَ المُفْتِي وهُنَّ عَشِيَّةً ... بمكةَ يُلْمِحْن المهدَّبَة السُّحْلا ) ( تَقِ اللَّهَ لا تَنظرْ إليهنَّ يا فتَى ... وما خِلتُني في الحجّ مُلْتَمِساً وَصْلا ) ( وإنَّ صِبا ابنِ الأربعينَ لَسُبَّةٌ ... فكيف مع اللائي مثَلْنَ بنا مَثْلا ) ( عَواكِفَ بالبيتِ الحرام ورُبَّما ... رأيتَ عيونَ القَوْم من نحوها نُجْلا ) صوت ( كَفَفْنا عن بَني ذُهْلٍ ... وقُلنا : القومُ إخوانُ ) ( عَسَى الأيامُ أن يَرجِعْن ... قوماً كالَّذِي كانُوا ) ( فلمَّا صَرَّحَ الشَرُّ ... وأَمسَى وهْو عُرْيانُ ) ( ولم يبقَ سِوَى العُدْوانِ ... دِنَّاهُمْ كما دانُوا ) الشعر للفند الزماني والغناء لعبد الله بن دحمان خفيف رمل بالبنصر عن بذل والهشامي وابن المكي وتمام هذا الشعر ( شدَدنا شدَّةَ اللَّيثِ ... غَدا واللَّيثُ غضْبانُ ) ( بضَرْبٍ فيه تَفْجِيعٌ ... وتأْيِيمٌ وإرْنانُ ) ( وطَعْنٍ كفَمِ الزِّقِّ ... غَذَا والزِّقُّ ملآنُ ) ( وفي العُدْوانِ للعُدْوانِ ... تَوهينٌ وإقْرانُ ) ( وبعضُ الحلمْ عِنْدَ الجهْلِ ... للذلّةِ إذْعانُ ) ( وفي الشَّرِّ نَجَاةٌ حِينَ ... لا يُنْجِيك إحسانُ ) قوله دناهم كما دانوا أي جزيناهم ومثله قول الآخر ( إنَّا كذاكَ نَدِينُ الناسَ بالدِّين ... ) والتأييم ترك النساء أيامى والإرنان والرنة البكاء والعويل والإقران الطاقة للشيء قال الله عز و جل ( وما كنا له مقرنين ) أي مطيقين أخبار الفند الزماني ونسبه الفند لقب غلب عليه شبه بالفند من الجبل وهو القطعة العظيمة لعظم خلقه واسمه شهل بن شيبان بن ربيعة بن زمان بن مالك بن صعب بن علي ابن بكر بن وائل وكان أحد فرسان ربيعة المشهورين المعدودين وشهد حرب بكر وتغلب وقد قارب المائة السنة فأبلى بلاء حسنا وكان مشهده في يوم التحالق الذي يقول فيه طرفة ( سائلوا عنَّا الذي يَعرِفُنا ... بقوانا يومَ تَحْلاقِ اللِّمَمْ ) ( يومَ تُبدِي البِيضُ عن أَسؤُقِها ... وتَلُفُّ الخَيْلُ أعْراجَ النَّعَمْ ) وقد مضى خبره في مقتل كليب فأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدثني عمي عن العباس بن هشام عن أبيه قال أرسلت بنو شيبان في محاربتهم بني تغلب إلى بني حنيفة يستنجدونهم فوجهوا إليهم بالفند الزماني في سبعين رجلا وأرسلوا إليهم إنا قد بعثنا إليكم ألف رجل وقال ابن الكلبي لما كان يوم التحالق أقبل الفند الزماني إلى بني شيبان وهو شيخ كبير قد جاوز مائة سنة ومعه بنتان له شيطانتان من شياطين الإنس فكشفت إحداهما عنها وتجردت وجعلت تصيح ببني شيبان ومن معهم من بني بكر ( وَعَا وَعَا وَعَا وَعَا ... ) ( حَرَّ الجُوادُ والتَظى ... ) ( ومُلِئَت منه الرّبى ... ) ( يا حَبَّذا يا حبَّذا ... ) ( المُلْحِقُون بالضُّحَى ... ) ثم تجردت الأخرى واقبلت تقول ( إن تُقْبِلُوا نُعانِقْ ... ونَفْرِشِ النَّمارِقْ ) ( أو تُدْبِروا نُفارِقْ ... فِراقَ غيرِ وامِقْ ) قال والتقى الناس يومئذ فأصعد عوف بن مالك بن ضبيعة بن قيس ابن ثعلبة ابنته على جمل له في ثنية قضة حتى إذا توسطها ضرب عرقوبي الجمل ثم نادى ( أنا البُرَكْ أنا البُرَكْ ... ) ( أَنزِلُ حيثُ أُدْرَكْ ... ) ثم نادى ومحلوفة لا يمر بي رجل من بكر بن وائل إلا ضربته بسيفي هذا أفي كل يوم تفرون فيعطف القوم فقاتلوا حتى ظفروا فانهزمت تغلب قال ابن الكلبي ولحق الفند الزماني رجلا من بني تغلب يقال له مالك بن عوف قد طعن صبيا من صبيان بكر بن وائل فهو في رأس قناته وهو يقول يا ويس أم الفرخ فطعنه الفند وهو وراءه ردف له فأنفذهما جميعا وجعل يقول ( أيا طعنةَ ما شَيْخٍ ... كبيرٍ يَفَنٍ بالي ) ( تفتَّيتُ بها إذ كرِه ... الشِّكَّةَ أَمثالِي ) ( تُقِيمُ المأْتَم الأعلَى ... على جُهدٍ وإعْوالِ ) ( كجيْبِ الدِّفْنسِ الوَرْهَاءِ ... رِيعَتْ بعدَ إجفالِ ) ويروى قد ريعت بإجفال أخبار عبد الله بن دحمان عبد الله بن دحمان الأشقر المغني وقد تقدم خبر أبيه وأخيه الزبير وكان عبد الله في جنبة إبراهيم بن المهدي ومتعصبا له وكان أخوه الزبير في جنبة إسحاق الموصلي ومتعصبا له فكان كل واحد منهما يرفع من صاحبه ويشيد بذكره فعلا الزبير بتقديم إسحاق له لتمكن إسحاق وقبول الناس منه ولم يرتفع عبد الله بذكر إبراهيم له مع غض إسحاق منه وكان الزبير على كل حال يتقدم أخاه عبد الله فأخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال كان أبي كثيرا ما يقول ما رأيت أقل عقلا ومعرفة ممن يقول إن دحمان كان فاضلا والله ما يساوي غناؤه كله فلسين وأشبه الناس به صوتا وصنعة وبلادة وبردا ابنه عبد الله ولكن المحسن والله المجمل المؤدي الضارب المطرب ابنه الزبير وقال يوسف بن إبراهيم كان أبو إسحاق يؤثر عبد الله بن دحمان ويقدمه وإذا صنع صوتا عرضه على أبي إسحاق فيقومه له ويصلحه مضادة لأخيه الزبير في أمره لميل الزبير إلى إسحاق وتعصبه له وأوصله إلى الرشيد مع المغنين عدة مرات أخرج له في جميعها جائزة صوت ( أقُولُ لمَّا أتانِي ثَمَّ مَصْرعُهُ ... لاَ يبْعَدِ الرُّمْحُ ذو النّصليْنِ والرَّجُلُ ) ( التاركُ القِرْنَ مُصفرًّا أَنامِلُه ... كأنّهُ من عُقارٍ قَهْوةٍ ثمِلُ ) ( ليس بعَلٍّ كبيرٍ لا شَبابَ لَهُ ... لكنْ أُثيلةُ صَافي الوَجهِ مُقْتَبَلُ ) ( يُجيب بعد الكرى لبَّيكَ داعِيَهُ ... مِجْذامةٌ لهواهُ قُلْقلٌ عجِلُ ) قوله لا يبعد الرمح يعني ابنه الذي رثاه شبهه بالرمح في نفاذه وحدته والنصلان السنان والزج والرجل يعني به ابنه أيضا من الرجلة يصفه بها أو أنه عنى لا يبعد الرجل ورمحه والعل الكبير السن الصغير الجسم ويقال أيضا للقراد عل والمقتبل المقبل وقوله مجذامة لهواه يعني أنه يقطع هواه ولا يتبعه فيما يغض من قدره وقلقل خفيف سريع والمتقلقل الخفيف الشعر للمتنخل الهذلي والغناء لمعبد وله فيه لحنان أحدهما من القدر الأوسط من الثقيل الأول بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق والآخر خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو وذكر الهشاميّ أن للغريض لحنا من الثقيل الأول ابتداؤه ( ليسَ بِعَلٍّ كبيرٍ لا شبابَ له ... ) والذي بعده وأن لجميلة فيه خفيف ثقيل وفيه ثاني ثقيل ينسب إلى ابن سريج وأظنه ليحيى المكي وقال حبش فيه لعبد الله بن العباس ثقيل أول بالبنصر أخبار المتنخل ونسبه المتنخل لقب واسمه مالك بن عويمر بن عثمان بن سويد بن حبيش ابن خناعة بن الديل بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار هذه رواية ابن الكلبي وأبي عمرو وروى السكري عن الرياشي عن الأصمعي وعن ابن حبيب عن أبي عبيدة وابن الأعرابي أن اسمه مالك بن عويمر بن عثمان بن حبيش بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة بن لحيان بن هذيل ويكنى أبا أثيلة من شعراء هذيل وفحولهم وفصحائهم مقتل ابنه أثيلة ورثاؤه له وهذه القصيدة يرثي بها ابنه أثيلة قتلته بنو سعد بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر وكان من خبر مقتله فيما ذكر أبو عمرو الشيباني أنه خرج في نفر من قومه يريد الغارة على فهم فسلكوا النجدية حتى إذا بلغوا السراة أتاه رجل فقال أين تريدون قالوا نريد فهما فقال ألا أدلكم على خير من ذلكم وعلى قوم دارهم خير من دار فهم هذه دار بني حوف عندكم فانصبوا عليهم على الكداء حتى تبيتوا بني حوف فقبلوا منه وانحرفوا عن طريقهم وسلكوا في شعب في ظهر الطريق حتى نفذوه ثم سلكوا على السمرة فمروا بدار بني قريم بالسرو وقد لصقت سيوفهم بأغمادهم من الدم فوجدوا إياس بن المقعد في الدار وكان سيدا فقال من أين أقبلتم فقالوا أتينا بني حوف فدعا لهم بطعام وشراب حتى إذا أكلوا وشربوا دلهم على الطريق وركب معهم حتى أخذوا سنن قصدهم فأتوا بني حوف وإذا هم قد اجتمعوا مع بطن من فهم للرحيل عن دارهم فلقيهم أول من الرجال على الخيل فعرفوهم فحملوا عليهم وأطردوهم ورموهم فأثبتوا أثيلة جريحا ومضوا لطيتهم وعاد إليه أصحابه فأدركوه ولا تحامل به فأقاموا عليه حتى مات ودفنوه في موضعه فلما رجعوا سألهم عنه المتنخل فدامجوه وستروه ثم أخبره بعضهم بخبره فقال يرثيه ( ما بالُ عينك تبكي دَمْعُها خضِلُ ... كما وَهَى سَرِبُ الأخراب مُنبزلُ ) ( لا تَفتأُ الدهرَ مِن سَحٍّ بأَربعةٍ ... كأنَّ إنسانَها بالصَّاب مُكتحِلُ ) ( تبكي على رجُلٍ لم تَبلَ جِدَّتُه ... خلّى عليها فِجاجاً بينها خلَلُ ) ( وقد عجبْت وهل بالدَّهرْ من عَجَبٍ ... أنَّى قُتِلتَ وأنتَ الحازِمُ البطَلُ ) ( وَيل اٌمِّهِ رَجلاً تأبى به غَبَناً ... إذا تجرَّدَ لا خالٌ ولا بَخَلُ ) خال من الخيلاء ويروى خذل ( السالكُ الثُّغْرةَ اليقظانَ كالئُهَا ... مشْيَ الهَلوك عليْهَا الخَيعلُ الفُضُلُ ) ( والتاركُ القِرنَ مُصفرًّا أناملُه ... كأَنَّه من عُقارٍ قهوةٍ ثَمِل ) ( مُجَدَّلاً يتسَقَّى جلدُهُ دَمَهُ ... كما يُقطَّرُ جِذْعُ الدَّوْمةِ القُطُل ) ( ليس بعلٍّ كبيرٍ لا شَبابَ بهِ ... لكِن أُثيلةُ صافي الوجهِ مُقتَبَل ) ( يُجيبُ بعد الكرَى لبَّيكَ داعِيَه ... مِجْذامةٌ لهواهُ قُلْقُلٌ عِجِل ) ( حُلوٌ ومُرٌّ كعَطفِ القِدْح مِرَّتُه ... في كلِّ آنٍ أتاهُ الليلُ ينتعِل ) ( فاذهبْ فأيُّ فتىً في النَّاس أحرزَهُ ... من حتْفهِ ظُلَمٌ دُعْجٌ ولا جَبلُ ) ( فلو قُتِلْتَ ورِجلي غيرُ كارهةِ الإدْلاج ... فيها قَبِيضُ الشَّدِّ والنسَلُ ) ( إذنْ لأعملتُ نفسي في غَزاتِهمُ ... أو لابتَعثْتُ بهِ نَوْحاً لهُ زَجَلُ ) ( أقول لمَّا أتاني الناعِيان بهِ : ... لا يَبعَد الرمحُ ذو النّصْلين والرجُلُ ) ( رمُحٌ لنا كان لم يُفْلَلْ ننُوءُ بهِ ... تُوفَى بهِ الحرْبُ والعزَّاءُ والجُلَلُ ) ( ربَّاءُ شمَّاءُ لا يدنُو لِقُلَّتها ... إلا السَّحابُ وإلا النُّوبُ والسَّبَلُ ) وقال أبو عمرو الشيباني كان عمرو بن عثمان أبو المتنخل يكنى أبا مالك فهلك فرثاه المتنخل فقال ( ألاَ مَن يُنادي أبا مالكٍ ... أفِي أمْرنا أمرُهُ أَم سِواهْ ) ( فواللَّهِ ما إنْ أبو مالكٍ ... بوانٍ ولا بضعيفٍ قُواهْ ) ( ولا بأَلَدَّ له نازعٌ ... يُعادي أخاهُ إذا ما نهاهْ ) ( ولكنّه هَيِّنٌ ليِّنٌ ... كعاليةِ الرُّمْح عَرْدٌ نَساهُ ) ( إذا سُدتَه سُدتَ مِطواعةً ... ومهما وكَلْتَ إليهِ كفاهْ ) ( أبُو مالكٍ قاصرٌ فقرَهُ ... على نفسهِ ومُشِيعٌ غِناهْ ) أبو جعفر محمد بن علي يتمثل بشعره حدثني أبو عبيد الصيرفي قال حدثنا الفضل بن الحسن البصري قال حدثنا أحمد بن راشد قال حدثني عمي سعيد بن خيثم قال كان أبو جعفر محمد بن علي عليهما السلام إذا نظر إلى أخيه زيد تمثل ( لعمرُكَ ما إنْ أَبُو مالكٍ ... بواهٍ ولا بضعيفٍ قُواهْ ) ( ولا بأَلَدَّ لَهُ نازعٌ ... يُعادِي أَخاهُ إذا ما نهاهْ ) ( ولكنّه هيِّنٌ ليِّنٌ ... كعاليةِ الرُّمْحِ عَردٌ نَساه ) ( إذا سُدتَه سُدتَ مِطْواعةً ... ومهما وكَلتَ إليهِ كفَاهْ ) ( أَبُو مالكٍ قاصرٌ فقرَهُ ... على نفسهِ ومُشِيعٌ غِناهْ ) ثم يقول لقد أنجبت أم ولدتك يا زيد اللهم اشدد أزري بزيد أخبرني محمد بن العباس اليزيدي قال حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال أجود طائية قالتها العرب قصيدة المتنخل ( عَرفتُ بأَجْدُثٍ فنِعافِ عِرْقٍ ... عَلاماتٍ كتَحْبيرِ النِّماطِ ) ( كأنَّ مَزاحفَ الحيَّاتِ فيها ... قُبيلَ الصُّبحِ آثارُ السِّياطِ ) في هذين البيتين غناء صوت ( عَجبتُ لِسعْي الدَّهر بيني وبينها ... فلمَّا انقضَى ما بيننا سكَن الدَّهْرُ ) ( فيا هجْرَ ليلَى قد بلغْتَ بيَ المدَى ... وزدتَ على ما لم يكنْ بَلغَ الهَجْرُ ) ( ويا حُبَّها زِدْني جَوًى كُلَّ ليْلةٍ ... ويا سَلْوَةَ الأيام موعدُكِ الحَشرُ ) ( أمَا والذي أبكى وأضحَكَ والَّذي ... أماتَ وأحيَا والذي أمرُهُ الأمْرُ ) ( لَقد تركْتِني أحسُدُ الوحشَ أن أرَى ... ألِيفيْن منها لا يَرُوعُهُما الزجْرُ ) الشعر لأبي صخر الهذلي والغناء لمعبد في الأول والثاني من الأبيات ثاني ثقيل بالوسطى عن عمرو ولابن سريج في الرابع والخامس ثقيل أول ولعريب فيهما أيضا ثقيل أول آخر وهو الذي فيه استهلال وللواثق فيهما رمل ولابن سريج أيضا ثاني ثقيل في الثالث وما بعده عن أحمد بن المكي وذكر ابن المكي أن الثقيل الثاني بالوسطى لجده يحيى المكي أخبار أبي صخر الهذلي ونسبه هو عبد الله بن سلم السهمي أحد بني مرمض وهذا أكثر ما وجدته من نسبه في نسخة السكري وهي أتم النسخ مما يأثره عن الرياشي عن الأصمعي وعن الأثرم عن أبي عبيدة وعن ابن حبيب عن ابن الأعرابي موالاته لبني مروان هو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية وكان مواليا لبني مروان متعصبا لهم وله في عبد الملك بن مروان مدائح وفي أخيه عبد العزيز وعبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد وحبسه ابن الزبير إلى أن قتل فأخبرني يحيى بن أحمد بن الجون مولى بني أمية لقيته بالرقة قال حدثني الفيض بن عبد الملك قال حدثني مولاي عن أبيه عن مسلمة بن الوليد القرشي عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال لما ظهر عبد الله بن الزبير بالحجاز وغلب عليها بعد موت يزيد بن معاوية وتشاغل بنو أمية بالحرب بينهم في مرج راهط وغيره دخل عليه أبو صخر الهذلي في هذيل وقد جاؤوا ليقبضوا عطاءهم وكان عارفا بهواه في بني أمية فمنعه عطاءه فقال علام تمنعني حقا لي وأنا امرؤ مسلم ما أحدثت في الإسلام حدثا ولا أخرجت من طاعة يدا قال عليك بني أمية فاطلب عندهم عطاءك قال إذن أجدهم سباطا أكفهم سمحة أنفسهم بذلاء لأموالهم وهابين لمجتديهم كريمة أعراقهم شريفة أصولهم زاكية فروعهم قريبا من رسول الله نسبهم وسببهم ليسوا إذا نسبوا بأذناب ولا وشائظ ولا أتباع ولا هم في قريش كفقعة القاع لهم السؤدد في الجاهلية والملك في الإسلام لا كمن لا يعد في عيرها ولا نفيرها ولا حكم آباؤه في نقيرها ولا قطميرها ليس من أحلافها المطيبين ولا من ساداتها المطعمين ولا من جودائها الوهابين ولا من هاشمها المنتخبين ولا عبد شمسها المسودين وكيف تقابل الرؤوس بالأذناب وأين النصل من الجفن والسنان من الزج والذنابى من القدامى وكيف يفضل الشحيح على الجواد والسوقة على الملك والمجيع بخلا على المطعم فضلا فغضب ابن الزبير حتى ارتعدت فرائصه وعرق جبينه واهتز من قرنه إلى قدمه وامتقع لونه ثم قال له يابن البوالة على عقبيها يا جلف يا جاهل أما والله لولا الحرمات الثلاث حرمة الإسلام وحرمة الحرم وحرمة الشهر الحرام لأخذت الذي فيه عيناك ثم أمر به إلى سجن عارم فحبس به مدة ثم استوهبته هذيل ومن له بين قريش خؤولة في هذيل فأطلقه بعد سنة وأقسم ألا يعطيه عطاء مع المسلمين أبدا خبره مع عبد الملك فلما كان عام الجماعة وولي عبد الملك وحج لقيه أبو صخر فلما رآه عبد الملك قربه وأدناه وقال له إنه لم يخف علي خبرك مع الملحد ولا ضاع لك عندي هواك وموالاتك فقال أما إذا شفى الله منه نفسي ورأيته قتيل سيفك وصريع أوليائك مصلوبا مهتوك الستر مفرق الجمع فما أبالي ما فاتني من الدنيا ثم استأذنه أبو صخر في الإنشاد فأذن له فمثل بين يديه قائما وأنشأ يقول ( عفَت ذاتُ عِرْقٍ عُصلُها فِرئامُها ... فدهناؤها وَحْشٌ وأجلي سَوامُها ) ( على أنَّ مَرسى خَيمةٍ خَفَّ أهلُها ... بأبْطحَ مِحلالٍ وَهَيهاتَ عامها ) ( إذا اعتلَجَتْ فيها الرِّياحُ فأدْرجتْ ... عَشِيَّا جرَى في جانبيها قُمامُها ) ( وَإنَّ مَعاجي في الدِّيار وَموقِفي ... بدراسة الرَّبعين بالٍ ثُمامُها ) ( لجهلٌ وَلكنِّي أَسلِّي ضَمانةً ... يُضعِّفُ أسرارَ الفؤاد سَقامُها ) ( فأقصِرْ فلا ما قد مَضى لكَ راجعٌ ... وَلا لذَّةُ الدُّنيا يَدُومُ دَوامُها ) ( وَفدِّ أميرَ المؤمنين الذي رَمى ... بجأواء جُمهورٍ تَسيلُ إكامُها ) ( من أرض قُرى الزيتون مكّة بعدما ... غُلِبْنا عليها واستُحِلَّ حرَامُها ) يقول رمى مكة بالرجال من أهل الشام وهي أرض الزيتون ( وإذ عاثَ فيها النَّاكِثون وأفسَدُوا ... فخِيَفَتْ أقاصِيها وطار حَمامُها ) ( فشَجَّ بهم عَرضَ الفَلاةِ تعَسُّفاً ... إذا الأرضُ أخْفى مُسْتَواها سَوامُها ) ( فَصبّحهم بالخيل تزْحَفُ بالقَنا ... وبَيْضاءَ مثلِ الشَّمْس يبْرُق لامُها ) ( لهمْ عَسكَرٌ ضافي الصُّفوفِ عَرمْرمٌ ... وجُمهورَةٌ يَثني العدوَّ انتقامُها ) ( فطهَّر منهمْ بطنَ مكةَ ماجِدٌ ... أبى الضَّيْمَ والميلاءَ حينَ يُسامُها ) ( فدَعْ ذا وبشِّر شاعِرَيْ أُمِّ مالكٍ ... بأبياتِ ما خِزْيٍ طوِيلٍ عُرامُها ) شاعري أم مالك رجلان من كنانة كانا مع ابن الزبير يمدحانه ويحرضانه على أبي صخر لعداوة كانت بينهما وبينه ( فإنْ تَبدُ تُجدَعْ مَنْخِراكَ بمُدْيةٍ ... مُشَرشرةٍ حَرًّى حديدٍ حُسامُها ) ( وإن تخْفَ عنَّا أو تخَفْ منْ أذاتِنا ... تَنُوشُك نابا حَيَّةٍ وسِمامُها ) ( فلولا قريشٌ لاسْتُرِقَّت عَجُوزُكم ... وطالَ على قُطْبَي رَحاها احتِزامها ) قال فأمر له عبد الملك بما فاته من العطاء ومثله صلة من ماله وكساه وحمله عبد العزيز بن أسيد يطلب من الهذلي أن يرثيه وهو حي ونسخت من كتاب أبي سعيد السكري عن محمد بن حبيب عن ابن الأعرابي وأبي عبيدة قالا كان أبو صخر الهذلي منقطعا إلى أبي خالد عبد العزيز بن عبد الله بن خالد بن أسيد مداحا له فقال له يوما ارثني يا أبا صخر وأنا حي حتى أسمع كيف تقول وأين مراثيك لي بعدي من مديحك إياي في حياتي فقال أعيذك بالله أيها الأمير من ذلك بل يبقيك الله ويقدمني قبلك فقال ما من ذلك بد قال فرثاه بقصيدته التي يقول فيها ( أبا خالدٍ نفسي وقتْ نَفْسَك الرَّدَى ... وكانَ بها من قبلِ عَثرتك العَثرُ ) ( لِتبكِك يا عبدَ العزيز قلائصٌ ... أضرَّ بها نصُّ الهواجر والزَّجرُ ) ( سَمونَ بنا يَجْتَبْن كلَّ تَنُوفةٍ ... تضِلُّ بها عنْ بَيْضهِنَّ القطا الكُدر ) ( فما قدِمَتْ حتى تواترَ سَيرُها ... وحتى أُنِيخَتْ وهي ظالعةٌ دُبرُ ) ( ففَرَّجَ عنْ رُكْبانِها الهَمّ والطّوى ... كريمُ المحيَّا ماجدٌ واجدٌ صَقْرُ ) ( أخو شَتواتٍ تَقْتُل الجوعَ دارُهُ ... لمنْ جاءَ ولا ضَيقُ الفِناءِ ولا وعرُ ) ( ولا تهنِئ الفِتْيانَ بعدَك لذَّةٌ ... ولا بلّ هَامَ الشامتين بكَ القطْر ) ( وإن تُمسِ رمساً بالرُّصَافةِ ثاوياً ... فما مات يا بنَ العِيصِ نائلُك الغَمر ) ( وذي ورِقٍ من فضلِ مالِكَ مالُه ... وذي حاجةٍ قد رِشْتَ ليس له وفرُ ) ( فأمْسى مُرِيحاً بعدَ ما قد يُؤُوبه ... وكَلَّ به الموْلَى وضاقَ به الأمر ) قال فأضعف له عبد العزيز جائزته ووصله وأمر أولاده فرووا القصيدة وقال أبو عمرو الشيباني كان لأبي صخر ابن يقال له داود لم يكن له ولد غيره فمات فجزع عليه جزعا شديدا حتى خولط فقال يرثيه ( لقد هاجني طيفٌ لداوُد بعدَما ... دَنتْ فاستقلَّتْ تالياتُ الكواكب ) ( وما في ذهولِ النفس عن غيرِ سَلوةٍ ... رَواحٌ من السُّقم الذي هو غالبي ) ( وعندك لو يحيا صداكَ فنَلتَقي ... شِفاءٌ لمنْ غادرتَ يومَ التّناضِب ) ( فهلْ لكَ طِبٌّ نافعي من عَلاقةٍ ... تُهيِّمُني بين الحشا والتّرائِب ) ( تشكّيتها إذْ صدَّع الدَّهرُ شَعْبنا ... فأَمستْ وأعيت بالرُّقى والطّبائب ) ( ولولا يقيني أَنَّما الموتُ عزمةٌ ... منْ الله حتى يُبعثُوا للمَحَاسِب ) ( لقلتُ له فيما أُلِمُّ برمْسِه : ... هلَ أنتَ غداً غادٍ مَعِي فَمُصاحبي ) ( وماذا ترى في غائبٍ لا يُغِبُّني ... فلستُ بناسيه وليس بآئب ) ( سألتُ مليكي إذ بلاني بفقدِه ... وفاةً بأيدِي الرُّوم بين المقانبِ ) ( ثَنوْنِي وقد قدَّمْتُ ثأرِي بطعْنةٍ ... تجيشُ بمَوَّارٍ من الجوفِ ثاعِبِ ) ( فقد خِفْتُ أن ألقي المَنايا وإنني ... لَتَابِعُ مَنْ وافى حِمامَ الجوالبِ ) ( ولمَّا أُطاعِنْ في العدُوِّ تنفُّلاً ... إلى اللَّهِ أَبغي فضْلَهُ وأُضارِبِ ) ( وأعطِفْ وراء المُسْلِمينَ بِطَعْنةٍ ... على دُبُرٍ مُجْلٍ من العيشِ ذاهِبِ ) وقال أبو عمرو بلغ أبا صخر أن رجلا من قومه عابه وقدح فيه فقال أبو صخر في ذلك ( ولقد أتاني ناصحٌ عَنْ كاشحٍ ... بعَدواةٍ ظهرتْ وقُبْحِ أقاوِلِ ) ( أفَحِينَ أحكمني المشيبُ فلا فتىً ... غُمْرٌ ولا قَحْمٌ وأَعصلَ بَازلي ) ( ولبِسْتُ أطوارَ المعيشةِ كُلَّها ... بمُؤبَّداتٍ للرِّجالِ دَوَاغِلِ ) ( أصْبَحْتَ تنقُصُني وتَقْرَعُ مَرْوَتي ... بَطِراً ولم يرْعَبْ شِعابَك وابِلي ) ( وتنْلكَ أظفارِي ويبرِكَ مِسْحَلي ... بَرْيَ الشَّسِيبِ من السَّراءِ الذَّابِلِ ) ( فتكونَ للباقين بعدكَ عِبرةً ... وأطَأْ جَبِينَك وَطأَةَ المُتثاقلِ ) الهذلي وأم حكيم وقال أبو عمرو وكان أبو صخر الهذلي يهوى امرأة من قضاعة مجاورة فيهم يقال لها ليلى بنت سعد وتكنى أم حكيم وكانا يتواصلان برهة من دهرهما ثم تزوجت ورحل بها زوجها إلى قومه فقال في ذلك أبو صخر ( ألمَّ خَيالٌ طارقٌ متأَوِّبُ ... لأمِّ حكيمٍ بعدَما نِمتُ مُوصِبُ ) ( وقد دَنَت الجوْزاءُ وَهْيَ كأنَّها ... ومِرْزَمَها بالغَوْرِ ثَوْرٌ وَربْربُ ) ( فباتَ شَرابي في المنامِ مع المُنَى ... غَريضُ اللَّمَى يَشْفِي جَوَى الحُزْنِ أشنَبُ ) ( قُضاعِيَّةٌ أدنى دِيارٍ تحُلُّها ... قَناةُ وأنَّى من قناةَ المُحَصَّبُ ) ( سراجُ الدُّجَى تَغْتَلُّ بالمسك طَفْلةٌ ... فلا هي مِتْفالٌ ولا اللَّونُ أكْهبُ ) ( دَمِيثةُ ما تحت الثِّيابِ عَمِيمةٌ ... هَضيمُ الحشا بِكْرُ المجسّةِ ثَيِّبُ ) ( تعلَّقْتُها خَوْداً لذيذاً حديثُها ... لياليَ لا تُحْمَى ولا هِيَ تُحْجَبُ ) ( فكانَ لها وُدِّي ومحْضُ عَلاقتِي ... وَليداً إلى أنْ رأْسيَ اليومَ أشْيبُ ) ( فلم أرَ مِثلي أيأَسَتْ بعد عِلْمِها ... بوُدِّي ولا مِثلي على اليأسِ يُطْلبُ ) ( ولو تلتقِي أصداؤُنا بعدَ موْتِنا ... ومِن دُونِ رَمْسينا من الأرضِ سَبْسبُ ) ( لظلَّ صَدَى رمسي ولو كنتُ رِمَّةً ... لِصوتِ صَدَى ليلى يَهَشُّ ويطرَبُ ) وقصيدة أبي صخر التي فيها الغناء المذكور من مختار شعر هذيل وأولها ( لِلَيلَى بذاتِ الجيش دارٌ عرفتُها ... وأُخرَى بذات البَين آياتُها سطْرُ ) ( وقفتُ برسميْها فلمَّا تنكّرَا ... صدفْتُ وعيني دمعُها سرِبٌ هَمْرُ ) ( وفي الدَّمْعِ إن كَذَّبتُ بالحبِّ شاهدٌ ... يُبَيِّنُ ما أُخْفِي كما بَيِّن البَدْرُ ) ( صبرتُ فلمَّا غال نفْسي وشفَّها ... عجاريفُ نأيٍ دُونَها غُلِبَ الصّبْرُ ) ( إذا لم يكُنْ بين الخليلينِ رِدَّةٌ ... سِوى ذِكْرِ شيءٍ قد مضى درسَ الذِّكْرُ ) وهذا البيت خاصة رواه الزبير بن بكار لنصيب ( إذا قلتُ هذا حينَ أسلو يَهيجُني ... نسيمُ الصَّبا من حيثُ يَطّلِعُ الفجرُ ) ( وإنِّي لتَعْروني لِذكراكِ فَتْرةٌ ... كما انْتَفَضَ العُصفورُ بَلَّلُه القَطْرُ ) ( هجرتُكِ حتَّى قِيل لا يعرِفُ الهوَى ... وزُرْتُكِ حتى قيل ليسَ لهُ صبر ) ( صَدقْتِ أنا الصَّبُّ المصابُ الذي به ... تباريحُ حُبٍّ خامرَ القلبَ أو سِحْرُ ) ( أمَا والَّذي أبكى وأضْحكَ والَّذي ... أماتَ وأَحيَا والذي أمرُه الأمْر ) ( لَقد تركْتِني أحسُدُ الوحشَ أن أرى ... أليفَينِ منها لم يُروِّعْهُمَا الزَّجْرُ ) ( فيا هجْرَ لَيلى قد بلغْتَ بِيَ المدَى ... وزدتَ على ما لم يكنُ بلغ الهجْرُ ) ( ويَا حُبَّها زِدْني جَوًى كلَّ ليلةٍ ... ويا سلوةَ الأيَّامِ موعِدُكِ الحشْرُ ) ( عجِبتُ لسَعيِ الدّهر بيني وبينها ... فلمّا انقَضى ما بيْننا سَكَن الدَّهرُ ) ( فليستْ عَشِيَّاتُ الحِمى برَواجعٍ ... لنا أبداً ما أوْرَق السَّلَمُ النّضرُ ) صوت ( وإنِّي لآتيها لكيما تُثيبَنِي ... وأوذنُها بالصُّرْم ما وَضح الفَجْرُ ) ( فما هُو إلاَّ أن أرَاها فُجَاءةً ... فأُبْهتَ لا عُرْفٌ لديَّ ولا نُكر ) ( تكادَ يَدي تنْدَى إذا ما لَمَسْتُها ... ويَنبتُ في أطرافها الوَرقُ الخُضْر ) في هذه الأبيات ثقيل أول قديم مجهول وفي البيت الأخير لعريب خفيف ثقيل وقد أضافت إليه بيتا ليس من الشعر وهو ( أبَى القَلبُ إلاَّ حُبَّها عامرِيّةً ... لها كنيةٌ " عمرٌو " وَليس لها " عمرُو " ) الهادي يطرب لشعره ويشق قميصه أخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق قال حدثني أبي عن جدي قال دخلت يوما على موسى الهادي وهو مصطبح فقال لي يا إبراهيم غنني فإن أطربتني فلك حكمك فغنيته ( وَإنِّي لتَعْروني لذكراكِ فترةٌ ... كما انْتَفضَ العُصْفُورُ بلَّلَهُ القَطْرُ ) فضرب بيده إلى جْنب دُرَّاعتِه فَشَقّها حتى انتهى به إلى صدره ثم غنيته ( أمَا والذي أَبكى وأضحَكَ والذي ... أمَاتَ وأحْيا والَّذي أمرُه الأمرُ ) ( لقد تَركْتِني أحسُدُ الوحْشَ أنْ أَرى ... أليفيْنِ منها لا يَرُوعُهُما الزَّجرُ ) فشق دراعته حتى انتهى إلى آخرها ثم غنيته ( فيا حُبَّها زِدني جَوىً كلَّ ليْلةٍ ... ويا سَلوةَ الأيَّام موعدُكِ الحَشْر ) فشق جبة كانت تحت الدراعة حتى هتكها ثم غنيته ( عَجِبْتُ لِسَعْي الدَّهرِ بَيْني وبينها ... فلمَّا انقضَى ما بيننا سَكنَ الدَّهْرُ ) فشق قميصا كان تحت ثيابه حتى بدا جسمه ثم قال أحسنت والله فاحتكم فقلت تهب لي يا أمير المؤمنين عين مروان بالمدينة فغضب حتى دارت عيناه في رأسه ثم قال لا ولا كرامة أردت أن تجعلني أحدوثة للناس وتقول أطربته فحكمني فحكمت فأمضى حكمي ثم قال لإبراهيم الحراني خذ بيد هذا الجاهل وأدخله بيت مال الخاصة فإن أخذ كل شيء فيه فلا تمنعه منه فدخلت معه فأخذت مالا جليلا وانصرفت ومما يغنّى فيه من شعر أبي صخر الهذلي قوله من قصيدة له صوت ( بيدِ الذي شَعفَ الفؤادَ بكُم ... فرَجُ الذي ألْقى من الهمِّ ) ( هَمٌّ مِنَ اٌجلكِ ليْس يكْشِفهُ ... إلا مَليكٌ جائزُ الحُكمِ ) ( فاستَيقِني أنْ قد كَلِفْتُ بكم ... ثمَّ افعَلِي ما شِئتِ عنْ عِلْم ) ( قدْ كان صُرْمٌ في المَماتِ لَنا ... فعجِلتِ قبل الموْتِ بالصُّرْم ) الشعر لأبي صخر الهذلي والغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى عن عمرو وفيه لسياط ثقيل أول آخر بالبنصر ابتداؤه نشيد ( فاستَيقني أَنْ قد كلِفْتُ بكُم ... ) وهكذا ذكر الهشامي أيضا وذكر أن لحن الغريض ثاني ثقيل وأن فيه لابن جامع خفيف رمل أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا محمد بن الحسن الحرون قال حدثني الكسروي قال لقي إبراهيم النظام غلاما أمرد فاستحسنه فقال له يا بني لولا أنه قد سبق من قول الحكماء ما جعلوا به السبيل لمثلي إلى مثلك في قولهم لا ينبغي لأحد أن يكبر عن أن يسأل كما لا ينبغي لأحد أن يصغر عن أن يقول لما أنست إلى مخاطبتك ولا هششت لمحادثتك ولكنه سبب الإخاء وعقد المودة ومحلك من قلبي محل الروح من جسد الجبان فقال له الغلام وهو لا يعرفه لئن قلت ذاك أيها الرجل لقد قال الأستاذ إبراهيم النظام الطبائع تجاذب ما شاكلها بالمجانسة وتميل إلى ما يوافقها بالمؤانسة وكياني مائل إلى كيانك بكليتي ولو كان ما أنطوي لك عليه عرضا ما اعتددت به ودا ولكنه جوهر جسمي فبقاؤه ببقاء النفس وعدمه بعدمها وأقول كما قال الهذلي ( فاسْتَيقِني أن قد كَلِفْتُ بِكم ... ثم افعلي ما شِئْتِ عن عِلمِ ) فقال له النظام إنما خاطبتك بما سمعت وأنت عندي غلام مستحسن ولو علمت أنك بهذه المنزلة لرفعتك إلى رتبتها قال أبو الحسن الأخفش فأخذ أبو دلف هذا المعنى فقال ( أُحِبّك يا جِنانُ وأنتِ منّي ... محلُّ الرُّوحِ من جسدِ الجبانِ ) ( ولو أَنِّي أَقولُ مكانَ نفسي ... لخفتُ عليكِ بادرةَ الزمانِ ) ( لإِقدامي إذا ما الخيلُ خامتْ ... وهابَ كُماتُها حَرَّ الطِّعانِ ) وتمام أبيات أبي صخر الميمية التي ذكرت فيها الغناء الأخير وخبره أنشدنيها الأخفش عن السكري عن أصحابه ( ولَما بَقيتِ ليَبْقَيَنَّ جَوًى ... بينَ الجوانحِ مُضرِعٌ جِسْمِي ) ( ويُقِرُّ عيني وهْي نازحةٌ ... ما لا يُقِرُّ بعينِ ذي الحلمِ ) ( أَطْلالُ نُعْمٍ إذْ كَلِفْتُ بها ... يأدِينَ هذا القَلْبَ من نُعْمِ ) ( ولو أنَّني أُسْقَى على سَقَمِي ... بِلَمَى عَوارِضِها شَفى سُقْمِي ) ( ولقد عَجِبْتُ لِنَبْلِ مُقتدرٍ ... يَسِطُ الفؤادَ بها ولا يُدْمي ) ( يَرْمي فيجْرَحُني برمْيتهِ ... فلوَ اٌنَّني أَرْمي كما يرمِي ) ( أو كان قلبٌ إذ عَزمتُ لهُ ... صُرْمي وهَجرِي كان ذا عَزْمِ ) ( أو كان لي غُنْمٌ بِذكرِكُمُ ... أَمسيتُ قد أثريتُ من غُنْمِ ) أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه عن أبي عبد الله الأنصاري عن غرير بن طلحة الأرقمي قال قال لي أبو السائب المخزومي وكان من أهل الفضل والنسك هل لك في أحسن الناس غناء قلت نعم وكان علي يومئذ طيلسان لي أسميه من غلظه وثقله مقطع الأزرار فخرجنا حتى جئنا إلى الجبانة إلى دار مسلم بن يحيى الأرت صاحب الخمر مولى بني زهرة فأذن لنا فدخلنا بيتا طوله اثنتا عشرة ذراعا في مثلها وسمكة في السماء ست عشرة ذراعا ما فيه إلا نمرقتان قد ذهبت منهما اللحمة وبقي السدى وفراش محشو ليفا وكرسيان من خشب قد تقلع عنهما الصبغ من قدمهما وبينهما مرفقتان محشوتان بالليف ثم طلعت علينا عجوز كلفاء عجفاء كأن شعرها شعر ميت عليها قرقل هروي أصفر غسيل كأن وركيها في خيط من رسحها حتى جلست فقلت لأبي السائب بأبي أنت وأمي ما هذه قال اسكت فتناولت عودا فضربت وغنت ( بَيدِ الذي شغَفَ الفُؤادَ بكمْ ... فَرَجُ الذي ألْقَى من الهمِّ ) قال غرير فحسنت والله في عيني وجاء نقاء وصفاء فأذهب الكلف من وجهها وزحف أبو السائب وزحفت معه ثم غنت صوت ( بَرِح الخَفاءُ فأيَّ ما بك تَكتُم ... وَلسوْف يظْهرُ ما يُسَرُّ فيُعلَم ) ( ممَّا تضمّنَ من غُريرةَ قلبُهُ ... يا قلبُ إنَّكَ بالحِسَانِ لمُغْرَمُ ) ( يَا ليتَ أَنَّك يا حُسامُ بأرْضنا ... تُلْقي المراسيَ دائماً وتُخيِّمُ ) ( فتذوقَ لذّةَ عيشِنا ونعيمَهُ ... ونكون أَجوَاراً فماذا تنقِمُ ) الغناء لحكم خفيف رمل بالوسطى عن الهشامي فقال أبو السائب إن نقم هذا فيعض بظر أمه وزحف وزحفت معه حتى قاربت النمرقة وربت العجفاء في عيني كما يربو السويق شيب بماء قربة ثم غنت صوت ( يا طُولَ ليْلي أعالجُ السَّقَما ... إذ حلّ دُون الأحبَّةِ الحَرما ) ( ما كنتُ أخشى فِراقَ بينِكمُ ... فاليومَ أضحى فراقُكم عَزَما ) الغناء للغريض ثقيل أول بالوسطى في مجراها وله أيضا فيه خفيف ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر جميعا عن إسحاق قال غرير فألقيت طيلساني وتناولت شاذكونة فوضعتها على رأسي وصحت كما يصاح بالمدينة الدخن بالنوى وقام أبو السائب وتناول ربعة فيها قوارير دهن كانت في البيت فوضعها على رأسه وصاح ابن الأرت صاحب الجارية وكان ألثغ قواليلي قواليلي يريد قواريري قواريري أسألك بالله فلم يلتفت أبو السائب إلى قوله وحرك رأسه مرحا فاضطربت القوارير وتكسرت وسال الدهن على وجه أبي السائب وظهره وصدره ثم وضع الربعة وقال لها لقد هجت لي داء قديما قال ومكثنا نختلف إليها سنين في كل جمعة يومين وقال ثم بعث عبد الرحمن بن معاوية بن هشام من الأندلس فاشتريت له العجفاء وحملت إليه صوت ( ألاَ هل إلى ريح الخُزامىَ ونظرةٍ ... إلى قَرقَرى قبلَ الممات سبيلُ ) ( فيا أثلاثِ القاعِ من بطْن تُوضِحٍ ... حَنيني إلى أطلالكُنّ طويل ) ( ويا أثْلاتِ القاع قلبي مُوكَّلٌ ... بكنَِّ وَجدْوَى خيركنّ قليل ) ( ويا أثلاتِ القاع قد مَلَّ صُحبتي ... وقوفِيِ فهلْ في ظلِّكُنَّ مَقِيلُ ؟ ) الشعر ليحيى بن طالب الحنفي والغناء لعلوية خفيف رمل بالوسطى عن عمرو وفيه لإبراهيم لحن ماخوري بالوسطى وفيه لعريب رمل ولمتيم خفيف رمل آخر عن الهشامي وفيه لابن المكي خفيف ثقيل من كتابه وذكر ابن المعتز أن لحن عريب ومتيم جميعا من الرمل أخبار يحيى بن طالب يحيى بن طالب شاعر من أهل اليمامة ثم من بني حنيفة لم يقع إلي نسبه وهو من شعراء الدولة العباسية مقل وكان فصيحا شاعرا غزلا فارسا وركبه دين في بلده فهرب إلى الري وخرج مع بعث إليها فمات بها وقد ذكر ذلك في هذه القصيدة فقال ( أُرِيدُ رُجوعاً نحوَكُمْ فيَصُدُّني ... إذا رمْتُهُ دَيْنٌ عليَّ ) الرشيد يأمر بقضاء دينه الذي هرب بسببه حدثني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه قال غنى أبي الرشيد في شعر يحيى بن طالب ( ألاَ هل إلى شَمِّ الخُزامَى ونَظْرةٍ ... إلى قَرقرَى قبل المماتِ سَبِيلُ ) فأطربه فسأله عن قائل الشعر فذكره له وأعلمه أنه حي وأنه هرب من دين عليه وأنشده قوله ( أُرِيدُ رجوعاً نحوَكُمْ فَيَصُدُّنِي ... إذا رُمْتُه دَيْنٌ عليَّ ) فأمر الرشيد أن يكتب إلى عامل الري بقضاء دينه وإعطائه نفقة وإنفاذه إليه على البريد فوصل الكتاب يوم مات يحيى بن طالب جارية تعرف به أخبرنا محمد بن خلف وكيع وعمي قالا حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثني الجهم بن المغيرة قال كنا عند حترش بن ثمال القريظي بضرية فمرت بنا جارية صفراء مولدة فقال لي حترش استفتح كلامها فانظر فإنها ظريفة فقلت لها يا جارية أين نشأت قالت بقرقرى فقلت لها أين من شعبعب فضحكت ثم قالت بين الحوض والعطن قلت فمن الذي يقول ( يا صاحِبَيَّ فَدَتْ نفسي نُفُوسَكما ... عُوجا عليَّ صُدورَ الأَبْغُلِ السُّنُنِ ) ( ثم ارفعا الطَّرفَ نَنْظُرْ صُبْحَ خامسةٍ ... لقَرقَرى يا عناءَ النفسِ بالوَطَنِ ) ( يا ليت شعريَ والإِنسانُ ذو أَمَلٍ ... والعَيْنُ تَذْرِفُ أحياناً من الحَزَنِ ) ( هل أجعَلَنَّ يَدِي للخَدِّ مِرْفَقَةً ... على شَعَبْعَبَ بينَ الحَوْضِ والعَطَنِ ؟ ) فالتفتت إلى حترش بن ثمال فقالت أخبره بقائلها فقال ما أعرفه فقالت بلى هذا يقوله شاعرنا وظريف بلادنا وغزلها فقال لها حترش ويحك ومن ذلك فقالت أشهد إن كنت لا تعرفه وأنت من هذا البلد إنها لسوأة ذلك يحيى بن طالب الحنفي أقسم بالله ما منعك من معرفته إلا غلظ الطبع وجفاء الخلق فجعل يضحك من قولها وتعجبنا منها يرفض ركوب البحر للتجارة أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا أبو غسان دماذ عن أبي عبيدة قال قال رجل ليحيى بن طالب الحنفي لو ركبت معي في البحر وشغلت مالك في تجاراته لأثريت وحسنت حالك فقال يحيى بن طالب ( لشُرْبُكَ بالأَنقاءِ رنْقاً وصافِياً ... أَعَفُّ وأعْفَى من ركوبِكَ في البحْر ) ( إذا أنت لم تنظُرْ لنفسِكَ خالِياً ... أحاطَت بك الأحزانُ من حيثُ لا تدرِي ) حدثني محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا عبد الله بن أبي سعد قال حدثني أبو علي الحنفي قال حدثني عمي عن علي بن عمر قال غني الرشيد يوما بشعر يحيى بن طالب ( ألا هَل إلى شَمِّ الخُزامَى ونَظْرةٍ ... إلى قَرقَرى قبلَ المماتِ سَبِيلُ ) وذكر الخبر كما ذكره حماد بن إسحاق إلا أنه قال فوجده قد مات قبل وصول البريد بشهر خرج إلى مكة فتشوق إلى صاحبته في اليمامة أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي قال حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه قال كان يحيى بن طالب يجالس امرأة من قومه ويألفها ثم خرج مع والي اليمامة إلى مكة وابتاع منه الوالي إبلا بتأخير فلما صار إلى مكة عزل الوالي فلوى يحيى بماله مدة فضاق صدره وتشوق إلى اليمامة وصاحبته التي كان يتحدث إليها فقال ( تصبَّرتُ عنها كارهاً وهجرتُها ... وهِجْرانُها عندِي أمَرُّ من الصَّبْرِ ) صوت ( إذا ارتَحَلَتْ نحو اليمامة رُفْقةٌ ... دعاني الهوَى واهتاجَ قلبيَ للذِّكْرِ ) ( كأنَّ فؤادي كلَّما عَنَّ ذِكْرُها ... جَناحَا غُرابٍ رامَ نهضاً إلى وَكْرِ ) الغناء للزف ثقيل أول عن الهشامي في هذين البيتين وقال فيها ( مُدايَنةُ السُّلطانِ بابُ مَذَلَّةٍ ... وأشبهُ شَيءٍ بالقَناعةِ والفَقْر ) ( إذا أنتَ لم تنظُرْ لنفسِكَ خالِياً ... أحاطتْ بكَ الأحزانُ من حيث لا تَدْري ) حنينه إلى قرقرى أخبرني الحسين بن يحيى عن حماد عن أبيه قال قال أبو الذيال الحنفي خرج يحيى بن طالب الحنفي من اليمامة يريد خراسان على البريد فقال وهو بقومس ( أقولُ لأصحابي ونحن بقُوْمِسٍ ... نُراوِحُ أكتافَ المحذَّفةِ الجُرْدِ ) ( بعُدنا وعهدِ اللَّهِ من أهلِ قرقرى ... وفيها الأُلَى نهوَى وزِدْنا على البُعْدِ ) أخبرنا الحسن بن علي قال حدثنا محمد بن موسى بن حماد قال حدثني عبد الله بن بشر عن أبي فراس الهيثم بن فراس الكلابي قال كنت مع أبي ونحن قاصدون اليمامة فلما رأيناها لقينا رجل فقال له أبي أين قرقرى قال وراءك قال فأين شعبعب قال بإزائه قال أرني ذلك فأراه إياه حتى عرفه فقال لي ارجع بنا إلى الموضع فقلت له يا أبت قد تعبنا وتعبت ركائبنا فما لك هناك قال إنك لأحمق ارجع ويلك فرجعت معه حتى أتى شعبعب وصار إلى الحوض والعطن وأناخ راحلته وقال لي أنخ فأنخت ونزل فنظر إلى شعبعب وقرقرى ساعة ثم اضطجع بين الحوض والعطن اضطجاعة ويده تحت خده ثم قام فركب فقلت يا أبت ما أردت بهذا فقال يا جاهل أما سمعت قول يحيى بن طالب ( هل أجعَلَنَّ يَدِي للخدِّ مِرفقةً ... على شَعَبْعَب بين الحَوْضِ والعَطَنِ ) أفليس عجزا أن نكون قد أتينا عليهما وهما أمنية المتمني فلا ننال ما تمناه منهما وقد قدرت عليه فجعلت أعجب من قوله وفعله بعض من صفاته أخبرنا محمد بن جعفر النحوي قال حدثني طلحة بن عبد الله الطلحي قال حدثنا أبو العالية عن رجل من بني حنيفة قال كان يحيى بن طالب جوادا شاعرا جميلا حمالا لأثقال قومه ومغارمهم سمحا يقري الأضياف ما تشاء أن ترى في فتى خصلة جميلة إلا رأيتها فيه فدخلت عليه وهو في آخر رمق فسألته عن خبره وسليته وقلت له ما طابت به نفسه ثم أنشدني قوله ( ما أنا كالقولِ الذي قلتَ إن زَوَى ... مَحَلِّيَ عن مالِي حِذارَ النَّوائبِ ) ( بمنزلةٍ بين الطريقَيْنِ قابَلَتْ ... بِوادِي كُحَيْلٍ كُلَّ ماشٍ وراكبِ ) ( حللتُ على رأْسِ اليَفاعِ ولم أكُنْ ... كمن لاذَ من خوفِ القِرَى بالحواجِبِ ) ( فلا تَسأل الضِّيفانَ مَن هُمْ وأدْنِهِمْ ... هُمُ الناسُ من معروفِ وَجْهٍ وجانِبِ ) ( وقُولُوا إذا ما الضَّيفُ حَلَّ بِنَجْوةٍ ... أَلاَ في سبيلِ اللَّهِ يَحيى بن طالبِ ) قال أبو العالية كحيل نخل بناحية فران دون قرقرى وهناك كان منزل يحيى بن طالب صوت وقد جمع معه كل ما يغنى فيه من القصيدة ( لعمرُكَ إنِّي يومَ بُصْرَى وناقَتي ... لَمُخْتَلِفَا الأهواءِ مُصْطحبانِ ) ( متى تَحْمِلي شَوْقِي وشوقَكِ تظْلَعِي ... ومالَكِ بالحِمْلِ الثَّقيلِ يَدَانِ ) ( ألا يا غُرابَيْ دِمْنةِ الدَّار خَبِّرا ... أبالبَيْنِ من عفراءَ تَنْتَحِبانِ ) ( فإن كان حقًّا ما تَقُولانِ فانهَضا ... بلحمِي إلى وَكْرَيْكُما فكُلانِي ) ( ولا يَعْلَمَنَّ الناسُ ما كان مِيتَتي ... ولا يأكُلَنَّ الطَّيْرُ ما تَذَرانِ ) ( جَعلتُ لعرَّافِ اليمامةِ حُكْمَهُ ... وعَرَّافِ حَجْرٍ إنْ هُما شَفَيانِي ) ( فما تَركا من حِيلةٍ يَعلمانِها ... ولا رُقْيةٍ إلاَّ وقَدْ رَقَيانِي ) ( وقالا : شَفاكَ اللَّهُ واللَّهِ ما لَنَا ... بما حُمِّلَتْ مِنكَ الضُّلُوع يدانِ ) ( كأنَّ قَطاةً عُلِّقَتْ بجَناحِها ... على كَبِدِي من شِدَّةِ الخَفَقانِ ) الشعر لعروة بن حزام والغناء لإبراهيم الموصلي في الأربعة الأبيات الأول ثقيل أول بالوسطى ولعريب في الرابع والخامس والسادس والتاسع هزج مطلق في مجرى البنصر عن إسحاق وفي السابع وما بعده إلى آخرها ثقيل أول ينسب إلى أبي العبيس بن حمدون وإلى غيره أخبار عروة بن حزام هو عروة بن حزام بن مهاصر أحد بني حزام بن ضبة بن عبد بن كبير ابن عذرة شاعر إسلامي أحد المتيمين الذين قتلهم الهوى لا يعرف له شعر إلا في عفراء بنت عمه عقال بن مهاصر وتشبيبه بها قصة حبه عفراء أخبرني بخبرها جماعة من الرواة فمنه ما أخبرني به الحسن بن علي بن محمد الآدمي قال حدثنا عمر بن محمد بن عبد الملك الزيات قال حدثني موسى بن عيسى الجعفري عن الأسباط بن عيسى العذري وأخبرني الحسين بن يحيى المرداسي ومحمد بن مزيد بن أبي الأزهر عن حماد بن إسحاق عن أبيه عن رجاله وأخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة وأخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار عمن أسند إليه وأخبرني إبراهيم بن أيوب الصائغ عن ابن قتيبة وقد سقت رواياتهم وجمعتها قال الأسباط بن عيسى وروايته كأنها أتم الروايات وأشدها اتساقا أدركت شيوخ الحي يذكرون أنه كان من حديث عروة بن حزام وعفراء بنت عقال أن حزاما هلك وترك ابنه عروة صغيرا في حجر عمه عقال بن مهاصر وكانت عفراء تربا لعروة يلعبان جميعا ويكونان معا حتى ألف كل واحد منهما صاحبه إلفا شديدا وكان عقال يقول لعروة لما يرى من إلفهما أبشر فإن عفراء امرأتك إن شاء الله فكانا كذلك حتى لحقت عفراء بالنساء ولحق عروة بالرجال فأتى عروة عمة له يقال لها هند بنت مهاصر فشكا إليها ما به من حب عفراء وقال لها في بعض ما يقول لها يا عمة إني لأكلمك وأنا منك مستح ولكن لم أفعل هذا حتى ضقت ذرعا بما أنا فيه فذهبت عمته إلى أخيها فقالت له يا أخي قد أتيتك في حاجة أحب أن تحسن فيها الرد فإن الله يأجرك بصلة رحمك فيما أسألك فقال لها قولي فلن تسألي حاجة إلا رددتك بها قالت تزوج عروة بن أخيك بابنتك عفراء فقال ما عنه مذهب ولا هو دون رجل يرغب فيه ولا بنا عنه رغبة ولكنه ليس بذي مال وليست عليه عجلة فطابت نفس عروة وسكن بعض السكون أم عفراء تشترط مهرا غاليا وكانت أمها سيئة الرأي فيه تريد لابنتها ذا مال ووفر وكانت عرضة ذلك كمالا وجمالا فلما تكاملت سنه وبلغ أشده عرف أن رجلا من قومه ذا يسار ومال كثير يخطبها فأتى عمه فقال يا عم قد عرفت حقي وقرابتي وإني ولدك وربيت في حجرك وقد بلغني أن رجلا يخطب عفراء فإن أسعفته بطلبته قتلتني وسفكت دمي فأنشدك الله ورحمي وحقي فرق له وقال له يا بني أنت معدم وحالنا قريبة من حالك ولست مخرجها إلى سواك وأمها قد أبت أن تزوجها إلا بمهر غال فاضطرب واسترزق الله تعالى فجاء إلى أمها فألطفها وداراها فأبت أن تجيبه إلا بما تحتكمه من المهر وبعد أن يسوق شطره إليها فوعدها بذلك وعلم أنه لا ينفعه قرابة ولا غيرها إلا بالمال الذي يطلبونه فعمل على قصد ابن عم له موسر كان مقيما باليمن فجاء إلى عمه وامرأته فأخبرهما بعزمه فصوباه ووعداه ألا يحدثا حدثا حتى يعود يودع عفراء والحي وصار في ليلة رحيله إلى عفراء فجلس عندها ليلة هو وجواري الحي يتحدثون حتى أصبحوا ثم ودعها وودع الحي وشد على راحلته وصحبه في طريقه فتيان من بني هلال بن عامر كانا يألفانه وكان حياهم متجاورين وكان في طول سفره ساهيا يكلمانه فلا يفهم فكرة في عفراء حتى يرد القول عليه مرارا حتى قدم على ابن عمه فلقيه وعرفه حاله وما قدم له فوصله وكساه وأعطاه مائة من الإبل فانصرف بها إلى أهله وقد كان رجل من أهل الشام من أسباب بني أمية نزل في حي عفراء فنحر ووهب وأطعم وكان ذا مال عظيم فرأى عفراء وكان منزله قريبا من منزلهم فأعجبته وخطبها إلى أبيها فاعتذر إليه وقال قد سميتها إلى ابن أخ لي يعدلها عندي وما إليها لغيره سبيل فقال له إني أرغبك في المهر قال لا حاجة لي بذلك فعدل إلى أمها فوافق عندها قبولا لبذله ورغبة في ماله فأجابته ووعدته وجاءت إلى عقال فآدته وصخبت معه وقالت أي خير في عروة حتى تحبس ابنتي عليه وقد جاءها الغني يطرق عليها بابها والله ما ندري أعروة حي أم ميت وهل ينقلب إليك بخير أم لا فتكون قد حرمت ابنتك خيرا حاضرا ورزقا سنيا فلم تزل به حتى قال لها فإن عاد لي خاطبا أجبته فوجهت إليه أن عد إليه خاطبا فلما كان من غد نحر جزرا عدة وأطعم ووهب وجمع الحي معه على طعامه وفيهم أبو عفراء فلما طعموا أعاد القول في الخطبة فأجابه وزوجه وساق إليه المهر وحولت إليه عفراء وقالت قبل أن يدخل بها ( يا عُرْوَ إنَّ الحيَّ قد نَقضوا ... عَهْدَ الإِلهِ وحاوَلُوا الغَدْرَا ) في أبيات طويلة فلما كان الليل دخل بها زوجها وأقام فيهم ثلاثا ثم ارتحل بها إلى الشام وعمد أبوها إلى قبر عتيق فجدده وسواه وسأل الحي كتمان أمرها يعرف حقيقة زواج عفراء فيدخل إليها وقدم عروة بعد أيام فنعاها أبوها إليه وذهب به إلى ذلك القبر فمكث يختلف إليه أياما وهو مضنى هالك حتى جاءته جارية من الحي فأخبرته الخبر فتركهم وركب بعض إبله وأخذ معه زادا ونفقة ورحل إلى الشام فقدمها وسأل عن الرجل فأخبر به ودل عليه فقصده وانتسب له إلى عدنان فأكرمه وأحسن ضيافته فمكث أياما حتى أنسوا به ثم قال لجارية لهم هل لك في يد تولينيها قالت نعم قال تدفعين خاتمي هذا إلى مولاتك فقالت سوءة لك أما تستحي لهذا القول فأمسك عنها ثم أعاد عليها وقال لها ويحك هي والله بنت عمي وما أحد منا إلا وهو أعز على صاحبه من الناس جميعا فاطرحي هذا الخاتم في صبوحها فإذا أنكرت عليك فقولي لها اصطبح ضيفك قبلك ولعله سقط منه فرقت الأمة وفعلت ما أمرها به فلما شربت عفراء اللبن رأت الخاتم فعرفته فشهقت ثم قالت اصدقيني عن الخبر فصدقتها فلما جاء زوجها قالت له أتدري من ضيفك هذا قال نعم فلان بن فلان للنسب الذي انتسب له عروة فقالت كلا والله يا هذا بل هو عروة بن حزام ابن عمي وقد كتم نفسه حياء منك وقال عمر بن شبة في خبره بل جاء ابن عم له فقال أتركتم هذا الكلب الذي قد نزل بكم هكذا في داركم يفضحكم فقال له ومن تعني قال عروة بن حزام العذري ضيفك هذا قال أو إنه لعروة بل أنت والله الكلب وهو الكريم القريب شهامة زوج عفراء وطيبته قالوا جميعا ثم بعث إليه فدعاه وعاتبه على كتمانه نفسه إياه وقال له بالرحب والسعة نشدتك الله إن رمت هذا المكان أبدا وخرج وتركه مع عفراء يتحدثان وأوصى خادما له بالاستماع عليهما وإعادة ما تسمعه منهما عليه فلما خلوا تشاكيا ما وجدا بعد الفراق فطالت الشكوى وهو يبكي أحر بكاء ثم أتته بشراب وسألته أن يشربه فقال والله ما دخل جوفي حرام قط ولا ارتكبته منذ كنت ولو استحللت حراما لكنت قد استحللته منك فأنت حظي من الدنيا وقد ذهبت مني وذهبت بعدك فما أعيش وقد أجمل هذا الرجل الكريم وأحسن وأنا مستحي منه ووالله لا أقيم بعد علمه مكاني وإني عالم أني أرحل إلى منيتي فبكت وبكى وانصرف فلما جاء زوجها أخبرته الخادمة بما دار بينهما فقال يا عفراء امنعي ابن عمك من الخروج فقالت لا يمتنع هو والله أكرم وأشد حياء من أن يقيم بعد ما جرى بينكما فدعاه وقال له يا أخي اتق الله في نفسك فقد عرفت خبرك وإنك إن رحلت تلفت والله لا أمنعك من الاجتماع معها أبدا ولئن شئت لأفارقنها ولأنزلن عنها لك فجزاه خيرا وأثنى عليه وقال إنما كان الطمع فيها آفتي والآن قد يئست وقد حملت نفسي على اليأس والصبر فإن اليأس يسلي ولي أمور ولا بد لي من رجوعي إليها فإن وجدت من نفسي قوة على ذلك وإلا رجعت إليكم وزرتكم حتى يقضي الله من أمري ما يشاء فزودوه وأكرموه وشيعوه فانصرف فلما رحل عنهم نكس بعد صلاحه وتماثله وأصابه غشي وخفقان فكان كلما أغمي عليه ألقي على وجهه خمار لعفراء زودته إياه فيفيق ينشد عراف اليمامة قال ولقيه في الطريق ابن مكحول عراف اليمامة فرآه وجلس عنده وسأله عما به وهل هو خبل أو جنون فقال له عروة ألك علم بالأوجاع قال نعم فأنشأ يقول ( وما بيَ من خَبْلٍ ولا بِيَ جِنَّةٌ ... ولكنَّ عمِّي يا أُخَيّ كذُوبُ ) ( أقولُ لعَرَّافِ اليمامة داوِنِي ... فإنَّكَ إنْ داويتِني لَطبيبُ ) ( فواكَبِدَاً أمْسَت رُفاتاً كَأنَّما ... يلذِّعُهَا بالمُوقِداتِ طبيبُ ) ( عَشيَّةَ لا عَفراءُ مِنْكَ بعِيدةٌ ... فَتسْلو ولا عَفْراءُ مِنكَ قريبٌ ) ( عشِيّة لا خَلفِي مَكَرٌّ ولا الهوَى ... أمامي ولا يهوَى هوايَ غَريبُ ) ( فواللَّهِ لا أَنسَاكِ مَا هبّت الصَّبَا ... وما عقّبْتَها في الرِّياحِ جَنُوبُ ) ( وإنِّي لتَغشاني لذِكراكِ هِزّةٌ ... لها بينَ جلدِي والعِظِام دَبيبُ ) يخاطب صاحبيه بقصته وقال أيضا يخاطب صاحبيه الهلاليين بقصته ( خليلَيَّ من عُليا هلالِ بن عامرٍ ... بصَنْعَاءَ عُوجَا اليومَ وانتظِرانِي ) ( ولا تزْهَدا في الذُّخْر عندي وأَجمِلا ... فإنَّكما بي اليومَ مُبتلَيان ) ( ألِمّا على عفراءَ إنّكما غداً ... بوَشْك النّوَى والبَيْنِ معترفان ) ( فيا واشِيْيْ عَفراءَ ويحكما بمنْ ... وما وإلى مَنْ جِئتما تشِيَان ) ( بمَنْ لو أراهُ عانياً لفدَيْتُه ... ومَنْ لو رآني عانياً لفَداني ) ( مَتى تكشِفا عنِّي القميصَ تَبيَّنا ... بِيَ الضُّرَّ من عفراءَ يا فَتيانِ ) ( إذن تريَا لحماً قيلا وأعظُماً ... بَلِينَ وقلباً دائمَ الخفقان ) ( وقد تركْتنِي لا أعِي لمحدِّثٍ ... حديثاً وإن ناجيتهُ ونجانِي ) ( جعلتُ لعرّاف اليمامةِ حُكمَه ... وعرّافِ حَجْرٍ إن هما شفيانِي ) ( فما تركا من حِيلةٍ يعرفانها ... ولا شَرْبةٍ إلا وقد سَقياني ) ( ورَشَّا على وجْهي من الماء سَاعةً ... وقاما مع العُوّاد يبتَدِران ) ( وقالا : شفَاك اللَّهُ واللَّهِ ما لنا ... بما ضُمِّنتْ منكَ الضّلوعُ يدانِ ) ( فويْلي على عفراءَ ويلاً كأنّهُ ... على الصَّدْر والأحشاء حدُّ سِنان ) ( أُحِبُّ ابنةَ العُذريِّ حُبًّا وإن نأتْ ... ودانيتُ فيها غيرَ ما مُتدانِي ) صوت ( إذا رامَ قلبي هجْرَها حال دُونه ... شَفيعانِ من قلبي لها جَدِلان ) غنته شارية ولحنه من الثقيل الأول ( إذا قُلْتُ : لاِ قالا : بَلَىِ ثمّ أصْبَحَا ... جَميعاً على الرأْي الَّذِي يَرْيَانِ ) ( تحمَّلتُ من عَفراءَ ما ليسَ لي به ... ولا للجِبَال الرّاسيَاتِ يَدان ) ( فيَا رَبِّ أنتَ المستعانُ على الّذِي ... تحمَّلتُ من عفراءَ منذُ زمانِ ) ( كأَنَّ قَطاةً عُلِّقَتْ بجَناحِهَا ... على كَبدِي من شِدّةِ الخفقَانِ ) في تحملت من عفراء والذي بعده ثقيل أول يقال إنه لأبي العبيس بن حمدون يموت فترثيه عفراء وتموت بعده قال فلم يزل في طريقه حتى مات قبل أن يصل إلى حيه بثلاث ليال وبلغ عفراء خبر وفاته فجزعت جزعا شديدا وقالت ترثيه ( ألا أيُّها الرَّكْبُ المُخِبُّونَ ويحكم ... بحقٍّ نَعيْتُم عُروةَ بنَ حِزامِ ) ( فلا تهنأ الفِتيانَ بعدكَ لذَّةٌ ... ولا رجعُوا من غَيْبةٍ بسَلام ) ( وقل للحَبَالَى : لا تُرجِّينَ غائباً ... ولا فَرِحاتٍ بعدَهُ بغُلامِ ) قال ولم تزل تردد هذه الأبيات وتندبه بها حتى ماتت بعده بأيام قلائل خبر عن معرفته بتزويجها وذكر عمر بن شبة في خبره أنه لم يعلم بتزويجها حتى لقي الرفقة التي هي فيها وأنه كان توجه إلى ابن عم له بالشام لا باليمن فلما رآها وقف دهشا ثم قال ( فما هي إلا أن أراها فُجَاءَةً ... فأُبْهَتَ حتى ما أكادُ أُجيبُ ) ( وأصْدِفُ عن رأيي الذي كُنت أرتَئي ... وأَنسَى الذي أزْمَعتُِ حين تغيبُ ) ( ويُظهرُ قلبي عُذرَها ويُعِينُها ... عليَّ فما لِي في الفؤادِ نَصِيبُ ) ( وقد عَلِمَتْ نفسي مكانَ شِفائها ... قريباًِ وهل ما لا يُنالُ قريبُ ؟ ) ( حَلفتُ بربِّ السَّاجدينَ لربِّهم ... خُشوعاًِ وفوقَ السَّاجدينَ رَقيبُ ) ( لئن كان بَردُ الماءِ حرَّانَ صادياً ... إليَّ حَبيباً إنَّها لحبِيبُ ) لم ينفعه وعظ ولا دواء وقال أبو زيد في خبره ثم عاد من عند عفراء إلى أهله وقد ضني ونحل وكانت له أخوات وخالة وجدة فجعلن يعظنه ولا ينفع وجئن بأبي كحيلة رباح بن شداد مولى بني ثعيلة وهو عراف حجر ليداويه فلم ينفعه دواؤه وذكر أبو زيد قصيدته النونية التي تقدم ذكرها وزاد فيها ( وعينانِ ما أوفَيتُ نشْزاً فتنُظرا ... مآقيهما إلا هما تَكِفانِ ) ( سِوَى أنَّنِي قد قلتُ يوْماً لصاحِبي ... ضُحًى وقَلُوصانا بنا تخِدان ) ( ألا حبّذَا من حُبِّ عفراءَ وادياً ... نَعامٌ وبُزْلٌ حيْثُ يلتقيان ) وقال أبو زيد وكان عروة يأتي حياض الماء التي كانت إبل عفراء تردها فيلصق صدره بها فيقال له مهلاً فإنك قاتل نفسك فاتق الله فلا يقبل حتى أشرف على التلف وأحس بالموت فجعل يقول ( بِيَ اليأسُ والدَّاءُ الهُيامُ سُقِيتُهُ ... فإيّاكَ عنِّي لا يكُنْ بك ما بِيَا ) خبر موته أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون عن أبي السائب قال أخبرني ابن أبي عتيق قال والله إني لأسير في أرض عذرة إذا بامرأة تحمل غلاما جزلا ليس يحمل مثله فعجبت لذلك حتى أقبلت به فإذا له لحية فدعوتها فجاءت فقلت لها ويحك ما هذا فقالت هل سمعت بعروة ابن حزام فقلت نعم قالت هذا والله عروة فقلت له أنت عروة فكلمني وعيناه تذرفان وتدوران في رأسه وقال نعم أنا والله القائل ( جَعلتُ لعرَّافِ اليمامةِ حُكمَهُ ... وعرَّافِ حَجْرٍ إن هما شفَياني ) ( فقالا : نعم نَشفِي من الدَّاءِ كُلِّهِ ... وقاما مع العُوَّاد يَبْتدِران ) ( فعَفْراءُ أحظى الناسِ عندي مَوَدَّةً ... وعَفْراءُ عنِّي المُعْرِضُ المُتَواني ) قال وذهبت المرأة فما برحت من الماء حتى سمعت الصيحة فسألت عنها فقيل مات عروة بن حزام قال عبد الملك فقلت لأبي السائب ومن أي شيء مات أظنه شرق فقال سخنت عيناك بأي شيء شرق قلت بريقه وأنا أريد العبث بأبي السائب أفترى أحدا يموت من الحب قال والله لا تفلح أبدا نعم يموت خوفا أن يتوب الله عليه أخبرني عمي قال حدثنا الكراني عن العمري عن الهيثم بن عدي عن هشام بن عروة عن أبيه عن النعمان بن بشير قال ولاني عثمان رضي الله عنه صدقات سعد هذيم وهم بلي وسلامان وعذرة وضبة بن الحارث ووائل بنو زيد فلما قبضت الصدقة قسمتها في أهلها فلما فرغت وانصرفت بالسهمين إلى عثمان رضي الله عنه إذا أنا ببيت مفرد عن الحي فملت إليه فإذا أنا بفتى راقد في فناء البيت وإذا بعجوز من ورائه في كسر البيت فسلمت عليه فرد علي بصوت ضعيف فسألته ما لك فقال ( كأنَّ قَطاةً عُلِّقَتْ بجناحها ... على كَبِدِي من شدَّةِ الخَفقانِ ) وذكر الأبيات النونية المعروفة ثم شهق شهقة خفيفة كانت نفسه فيها فنظرت إلى وجهه فإذا هو قد قضى فقلت أيتها العجوز من هذا الفتى منك قالت ابني فقلت إني أراه قد قضى فقالت وأنا والله أرى ذلك فقامت فنظرت في وجهه ثم قالت فاظ ورب محمد قال فقلت لها يا أماه من هو فقالت عروة بن حزام أحد بني ضبة وأنا أمه فقلت لها ما بلغ به ما أرى قالت الحب والله ما سمعت له منذ سنة كلمة ولا أنَّهً إلا اليوم فإنه أقبل علي ثم قال ( مَن كان مِن أُمَّهاتي باكياً أبداً ... فاليومَ إنِّي أُراني اليومَ مَقبوضا ) ( يُسْمِعْنَينهِ فإنّي غيرُ سامعهِ ... إذا علوتُ رقابَ القومِ مَعْروضا ) قال فما برحت من الحي حتى غسلته وكفنته وصليت عليه ودفنته موت عفراء وذكر أبو زيد عمر بن شبة في خبره هذه القصة عن عروة بن الزبير فقال هذين البيتين بحضرته ( من كان من أخواتي باكياً أبداً ... ) قال فحضرنه فبرزن والله كأنهن الدمى فشققن جيوبهن وضربن خدودهن فأبكين كل من حضر وقضى من يومه وبلغ عفراء خبره فقامت لزوجها فقالت يا هناه قد كان من خبر ابن عمي ما كان بلغك ووالله ما عرفت منه قط إلا الحسن الجميل وقد مات في وبسببي ولا بد لي من أن أندبه وأقيم مأتما عليه قال افعلي فما زالت تندبه ثلاثا حتى توفيت في اليوم الرابع وبلغ معاوية بن أبي سفيان خبرهما فقال لو علمت بحال هذين الحرين الكريمين لجمعت بينهما وروي هذا الخبر عن هارون بن موسى القرويّ عن محمد بن الحارث المخزومي عن هشام بن عبد الله عن عكرمة عن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان شاهدا ذلك اليوم ولم يذكر النعمان بن بشير في خبره وذكر هارون بن مسلمة عن غصين بن براق عن أم جميل الطائية أن عفراء كانت يتيمة في حجر عمها عمه فعرضها عليه فأباها ثم طال المدى وانصرف عروة في يوم عيد بعد أن صلى صلاة العيد فرآها وقد زينت فرأى منها جمالا بارعا وقدمت له تحفة فنال منها وهو ينظر إليها ثم خطبها إلى عمه فمنعه ذلك مكافأة لما كان من كراهته لها لما عرضها عليه وزوجها رجلا غيره فخرج بها إلى الشام وتمادى في حبها حتى قتله طوف حول الكعبة حدثنا محمد بن خلف وكيع قال حدثنا عبد الله بن شبيب قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وغيره عن سليمان بن عبد العزيز بن عمران الزهري قال حدثني خارجة المكي أنه رأى عروة بن حزام يطاف به حول البيت قال فدنوت منه فقلت من أنت فقال الذي أقول ( أَفِي كلِّ يوم أنتَ رامٍ بلادَها ... بعينينِ إنْسانَاهُما غَرِقانِ ) ( أَلاَ فاحمِلاني باركَ اللَّهُ فيكُما ... إلى حَاضر الرَّوْحاءِ ثم ذَرانِي ) فقلت له زدني فقال لا والله ولا حرفا أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني أبو سعيد السكري قال حدثني محمد بن حبيب قال ذكر الكلبي عن أبي صالح قال كنت مع ابن عباس بعرفة فأتاه فتيان يحملون بينهم فتى لم يبق منه إلا خياله فقالوا له يا بن عم رسول الله ادع له فقال وما به فقال الفتى ( بِنا من جَوَى الأحزانِ في الصدر لَوْعةٌ ... تَكادُ لها نَفْسُ الشَّفِيق تذوبُ ) ( ولكنَّما أَبَقى حُشاشةَ مُعْوِلٍ ... على ما به عُودٌ هناك صَلِيبُ ) قال ثم خفت في أيديهم فإذا هو قد مات فقال ابن عباس ( هذا قتيلُ الحبِّ لا عَقْلٌ ولا قود ... ) ثم ما رأيت ابن عباس سأل الله جل وعز في عشيته إلا العافية مما ابتلي به ذلك الفتى قال وسألنا عنه فقيل هذا عروة بن حزام صوت ( أعالِيَ أعلَى اللَّهُ جَدَّكِ عالياً ... وأسقَى بَرَّياكِ العِضَاهَ البوالِيَا ) ( أعاليَ ما شمسُ النهارِ إذا بَدَتْ ... بأحسنَ ممَّا تحتَ بَرْدَيْكِ عالياً ) ( أعالِيَ لو أنَّ النساءَ ببَلدَةٍ ... وأنتِ بأخرى لاتَّبعتُكِ ماضِيَا ) ( أعالِيَ لو أشْكو الذي قد أصابنِي ... إلى غُصُنٍ رَطْبٍ لأصبح ذاوِيَا ) الشعر للقتال الكلابي وقد أدخل بعض الرواة الأول من هذه الأبيات مع أبيات سحيم عبد بني الحسحاس التي أولها ( فما بيضةٌ بات الظّليمُ يحُفُّها ... ) في لحن واحد وذكرت ذلك في موضعه وأفردته على حدته وأتيت به على حقيقته والغناء لابن سريج ثاني ثقيل بالسبابة في مجرى الوسطى وذكر الهشامي أن فيه لأبي كامل ثاني ثقيل لا أدري أهذا يعني أم غيره ووافقه إبراهيم في لحن أبي كامل ولم يجنسه وزعم أن فيه لحنا آخر لابن عباد وفيه ثقيل أول ذكر ابن المكي أنه لمعبد وذكر الهشامي أنه ليحيى منحول إلى معبد وذكر حبش أنه لطويس وفي هذه القصيدة يقول القتّال ( أعالِيَ أختَ المالكيِّين نَوِّلِي ... بما ليس مَفقوداً وفيه شفائَيا ) ( أصارِمَتي أمُّ العَلاءِ وقد رَمى ... بيَ الناسُ في أُمِّ العلاءِ المرامِيَا ) ( أيَا إخوتي لا أُصبَحَنْ بمُضِلَّةٍ ... تُشِيبُ إذا عُدَّتْ عليَّ النَّواصِيا ) ( فرادِ لدَيْكَ القومَ واشعبْ بحقِّهم ... كما كنتَ لو كنتَ الطَّرِيدَ مُرادِيَا ) ( وشمِّرْ ولا تجعلْ عليكَ غَضاضةً ... ولا تنسَ يابن المَضرحِيّ بلائيَا ) ولهذه القصيدة أخبار تذكر في مواضعها ها هنا إن شاء الله تعالى أخبار القتّال ونسبه القتال لقب غلب عليه لتمرده وفتكه واسمه عبد الله بن المضرحي ابن عامر الهصان بن كعب بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة ويكنى أبا المسيب وأمه عمرة بنت حرقة بن عوف بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب وقد ذكرها في شعره وفخر بها فقال ( لقد ولَدَتْنِي حُرَّةٌ رَبَعيَّةٌ ... من اللاءِ لم يحضُرْنَ في القَيْظِ ذَبْذَبا ) يهرب بعد أن يقتل ابن عمه نسخت من كتاب لمحمد بن داود بن الجراح خبره وذكر أن عبد الله ابن سليمان السجستاني دفعه إليه وأخبره أنه سمعه من عمر بن شبة وأجاز له روايته وأخبرني بأكثر رواية عمر بن شبة هذه الأخفش عن السكري عنه في أخبار اللصوص وجمعت ذلك أجمع قال عمر بن شبة حدثني حميد بن مالك بن يسار المسمعي قال حدثني شداد بن عقبة بن رافع بن زمل بن شعيب بن الحارث بن عامر بن كعب بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب وكانت أم رافع جنوب بنت القتال قتل زيادا وقال وحدثني شيخ من بني أبي بكر بن كلاب يكنى أبا خالد أيضا بحديث القتال قال أبو خالد كان القتال قتال ربيعة بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب يتحدث إلى ابنة عم له يقال لها العالية بنت عبيد الله وكان لها أخ غائب يقال له زياد بن عبيد الله فلما قدم رأى القتال يتحدث إلى أخته فنهاه وحلف لئن رآه ثانية ليقتلنه فلما كان بعد ذلك بأيام رآه عندها فأخذ السيف وبصر به القتال فخرج هاربا وخرج في إثره فلما دنا منه ناشده القتال بالله والرحم فلم يلتفت إليه فبينا هو يسعى وقد كاد يلحقه وجد رمحا مركوزا وقال السكري وجد سيفا فأخذه وعطف على زياد فقتله وقال ( نَهَيتُ زياداً والمقَامةُ بيننا ... وذكَّرتُه أَرحامَ سِعْرٍ وهَيْثَمِ ) ( فلمَّا رأيتُ أنَّه غيرُ مُنتهٍ ... أَمَلْتُ له كفِّي بلَدْنٍ مُقَوَّمِ ) ( ولمَّا رأَيتُ أنني قد قَتَلْتُه ... نَدِمْتُ عليه أيَّ ساعةِ مَندم ) وقال أيضا ( نَهيتُ زياداً والمَقامةُ بيننا ... وذكَّرتُه باللَّهِ حَوْلاً مُجَرَّما ) ( فلمَّا رأيتُ أنَّهُ غيرُ مُنْتَهٍ ... ومولايَ لا يَزْدادُ إلاّ تقدُّما ) ( أمَلتُ له كفِّي بأبيضَ صارمٍ ... حُسامٍ إذا ما صادَفَ العَظْمَ صَمَّما ) ( بكفِّ امرىءٍ لم تَخْدُمِ الحيَّ أُمُّه ... أخي نجداتٍ لم يكنْ مُتَهضَّما ) شعره وهو يستتر في عماية ثم خرج هاربا وأصحاب القتيل يطلبونه فمر بابنة عم له تدعى زينب متنحية عن الماء فدخل عليها فقالت له ويحك ما دهاك قال ألقي علي ثيابك فألقت عليه ثيابها وألبسته برقعها وكانت تمس حناء فأخذ الحناء فلطخ بها يديه وتنحت عنه ومر الطلب به فلما أتوا البيت قالوا وهم يظنون أنه زينب أين الخبيث فقال لهم أخذ هاهنا لغير الوجه الذي أراد أن يأخذه فلما عرف أن قد بعدوا أخذ في وجه آخر فلحق بعماية وعماية جبل فاستتر فيه وقال في ذلك ( فمنْ مُبْلِغٌ فِتيانَ قوميَ أنَّني ... تسمَّيْتُ لمَّا شبَّت الحَرْبُ زَيْنبا ) ( وأرخيتُ جِلْبابي على نبْت لِحْيتي ... وأبديتُ للنَّاسِ البَنانَ المخضَّبا ) وقال أيضا ( جَزى اللَّهُ عَنَّا والجزاءُ بكفِّهِ ... عَمايةَ خيراً أُمَّ كلِّ طرِيدِ ) ( فما يزدهِيها القومُ إنْ نزلُوا بها ... وإن أرسل السُّلطانُ كلَّ بَريدِ ) ( حَمتْنِيَ منها كلُّ عَنقاءَ عَيْطَلٍ ... وكلُّ صفاً جَمّ القِلاتِ كؤودِ ) فمكث بعماية زمانا يأتيه أخ له بما يحتاج إليه وألفه نمر في الجبل كان يأوي معه في شعب صاحبه نمر مفترس وأخبرني عبد الله بن مالك قال حدثني محمد بن حبيب عن ابن الكلبي قال كان القتال الكلابي أصاب دما فطلب به فهرب إلى جبل يقال له عماية فأقام في شعب من شعابه وكان يأوي إلىذلك الشعب نمر فراح إليه كعادته فلما رأى القتال كشر عن أنيابه ودلع لسانه فجرد القتال سيفه من جفنه فرد النمر لسانه فشام القتال سيفه فربض بإزائه وأخرج براثنه فسل القتال سهامه من كنانته فضرب بيده وزأر فأوتر القتال قوسه وأنبض وترها فسكن النمر وألفه فقال ابن الكلبي في هذا الخبر ووافقه عمر بن شبة في روايته كان النمر يصطاد الأروى فيجيء بما يصطاده فيلقيه بين يدي القتال فيأخذ منه ما يقوته ويلقي الباقي للنمر فيأكله وكان القتال يخرج إلى الوحش فيرمي بنبله فيصيب منه الشيء بعد الشيء فيأتي به الكهف فيأخذ لقوته بعضه ويلقي الباقي للنمر وكان القتال إذا ورد الماء قام عليه النمر حتى يشرب ثم يتنحى القتال عنه ويرد النمر فيقوم عليه القتال حتى يشرب فقال القتال في ذلك من قصيدة له ( ولي صاحبٌ في الغارِ يعْدِلُ صاحباً ... أبا الجوْن إلاَّ أنَّه لا يُعَلَّلُ ) أبو الجون صديق له كان يأنس به فشبهه به وفي رواية عمر بن شبة أخي الجون فإن القتال كان له أخ اسمه الجون فشبهه به ( كِلانا عدُوٌّ لا يَرى في عَدُوِّه ... مَهَزًّا وكُلٌّ في العَدّواةِ مُجمِلُ ) ( إذا ما التَقَيْنا كان أُنْسُ حَدِيثِنا ... صِماتاً وطَرْفٌ كالمَعَابِلِ أَطْحَلُ ) ( لنا مَوْرِدٌ قَلْتٌ بأَرْضٍ مَضَلَّةٍ ... شَرِيعَتُنا : لأيِّنا جاءَ أَوَّلُ ) ( تَضَمَّنَت الأَرْوي لنا بِشِوائِنا ... كِلانا له منها سَدِيفٌ مُخَرْدَلُ ) ( فأَغْلِبُه في صَنْعَةِ الزَّادِ إنَّني ... أُمِيطُ الأذى عنه وما إنْ يُهَلِّلُ ) أي ما يسمي الله تعالى عند صيده خبر وليمة أبي سفيان أخبرني اليزيدي قال حدثني عمي الفضل عن إسحاق الموصلي وأخبرني به محمد بن جعفر الصيدلاني عن الفضل عن إسحاق وأخبرني به وسواسة ابن الموصلي عن حماد عن أبيه قال قال أبو المجيب أو شداد بن عقبة دعا رجل من الحي يقال له أبو سفيان القتال الكلابي إلى وليمة فجلس القتال ينتظر رسوله ولا يأكل حتى انتصف النهار وكانت عنده فقرة من حوار فقال لامرأته ( فإنَّ أبا سُفيانَ ليس بمُولمٍ ... فقُومي فهاتِي فِقْرةً من حُوارِكِ ) قال إسحاق فقلت له ثم مه قال لم يأت بعده بشيء إنما أرسله يتيما فقلت له لمه أفلا أزيدك إليه بيتا آخر ليس بدونه قال بلى فقلت ( فبيتُكِ خيْرٌ من بيوتٍ كثيرةٍ ... وقدْرُك خيْرٌ من وليمة جارك ) فقال بأبي أنت وأمي والله لقد أرسلته مثلا وما انتظرت به العرب وإنك لبز طراز ما رأيت بالعراق مثله وما يلام الخليفة أن يدنيك ويؤثرك ويتملح بك ولو كان الشباب يشترى لابتعته لك بإحدى يدي ويمنى عيني وعلى أن فيك بحمد الله بقية تسر الودود وترغم الحسود كان له ابنان المسيب وعبد السلام أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثني عمر بن شبة قال كان للقتال ابنان يقال لأحدهما المسيب وللآخر عبد السلام ولعبد السلام يقول ( عبدَ السَّلام تأمَّلْ هل تَرَى ظُعُناً ... إنِّي كَبِرتُ وأنت اليومَ ذو بَصَرِ ) ( لا يُبْعِدُ اللَّهُ فِتياناً أقولُ لهمْ ... بالأَبرقِ الفَرْدِ لمَّا فاتني نَظَرِي ) ( ألا تروْنَ بأعلى عاسِمٍ ظُعُناً ... نكَّبْنَ فَحْلَينِ واستقْبَلن ذا بَقَرِ ) يعير أخواله بفعلتهم وقال أبو زيد عمر بن شبة من رواية ابن داود عنه حدثني سعيد بن مالك قال حدثني شداد بن عقبة قال اقتتل بنو جعفر بن كلاب وبنو العجلان بن كعب بن ربيعة بن صعصعة فقتلت بنو جعفر بن كلاب رجلا من بني العجلان قال شداد وكانت جدة القتال أم أبيه عجلانية وهي خولة بنت قيس بن زياد بن مالك بن العجلان فاستبطأ القتال أخواله بني العجلان في الطلب بثأرهم من بني جعفر وجعل يحضهم ويحرضهم فقال في ذلك وقد بلغه أنهم أخذوا من بني جعفر دية المقتول فعيرهم بما فعلوا وقال ( لعَمْرِي لحَيٌّ من عُقَيْلٍ لقيتُهُم ... بخَطْمةَ أو لاقيتُهُم بالمناسِكِ ) ( عليهمْ من الحَوْكِ اليمَانِيِّ بِزَّةٌ ... على أرْحَبِيَّاتٍ طِوالِ الْحَوارِكِ ) ( أَحَبُّ إلى نفسي وأملحُ عندَها ... منَ السَّرَواتِ آل قيس بن مالِكِ ) ( إذا ما لقيتُمْ عُصْبةً جعفريَّةً ... كرِهْتُم بني اللَّكْعاءِ وقْعَ النيازِكِ ) ( فلستُمْ بأَخْوالِي فلا تصْلبنَّني ... ولكنَّما أُمِّي لإِحدى العَواتِكِ ) ( قِصارُ العِمادِ لا ترى سرَوَاتِهِم ... مع الوفد جَثَّامُونَ عند المباركِ ) ( قُتِلتُم فلمَّا أن طلبتُمْ عُقِلتُمُ ... كذلكِ يُؤْتَى بالذَّليلِ كذلكِ ) هروبه من السجن وشعره في ذلك وقال ابن حبيب خرج ابن هبار القرشي إلى الشام في تجارة أو إلى بعض بني أمية فاعترضه جماعة فيهم القتال الكلابي وغيره فقتلوه وأخذوا ماله وشاع خبره فاتهم به جماعة من بني كلاب وغيرهم من فتاك العرب فأخذوا وحبسوا أخذهم عامل مروان بن الحكم فوجههم إليه وهو بالمدينة فحبسهم ليبحث عن الأمر ثم يقتل قتلة ابن هبار فلما خشي القتال أن يعلم أمره ورأى أصحابه ليس فيهم غناء اغتال السجان فقتله وخرج هو ومن كان معه من السجن فهربوا فقال يذكر ذلك ( أُمَيْمَ أَثيبي قبل جِدِّ التَّزَيُّلِ ... أَثيبي بوصْلٍ أو بِصُرْمٍ مُعَجَّل ) ( أُمَيْم وقد حُمِّلْتُ ما حُمِّلَ امْرُؤٌ ... وفي الصُّرْم إحْسانٌ إذا لم تُنَوَلي ) وهي قصيدة طويلة يقول فيها ( وإنِّي وذكرِي أُمَّ حَسّانَ كالفتى ... متى ما يذُقْ طَعْم المُدَامة يَجْهل ) ( ألا حبّذا تلك البلادُ وأهلها ... لو اٌنَّ عذابي بالمدينة ينْجلي ) ( برزْتُ لها من سِجْن مرْوان غُدوةً ... فآنستُها بالأَيْم لم تتحوَّل ) ( وآنستُ حَيًّا بالمطالي وجامِلاً ... أبابيلَ هَطْلي بين راعٍ ومُهمل ) ( نظرتُ وقد جَلَّى الدُّجى طامِسَ الصُّوَى ... بسِلْعٍ وقَرْنُ الشمسِ لم يترجَّلِ ) ( وشُبَّتْ لنا نارٌ لَليْلَى صباحه ... يُذَكَّى بعُودٍ جَمْرُها وقَرَنْفُلِ ) ( يُضِيء سَناها وجهَ ليلَى كأنَّما ... يُضيءُ سَناها وَجْهَ أَدْماءَ مُغْزِلِ ) ( علا عظمُها واستعْجَلتْ عن لِداتِها ... وشَبَّتْ شباباً وهْيَ لمَّا تُسَرْبَلِ ) ( ولما رأيتُ البابَ قد حِيل دُونَهُ ... وخِفْتُ لِحاقاً من كتابٍ مُؤَجَّل ) ( حملتُ عَلَى المكروهِ نفساً شريفةً ... إذا وُطِّئَتْ لم تستقِدْ للتَّذَلُّلِ ) ( وكالِىءُ باب السِّجْنِ ليس بِمُنْتَهٍ ... وكان فِراري منه ليس بمُؤْتَلي ) ( إذا قلتُ رفَّهنِي من السِّجْنِ ساعةً ... وتمِّمْ بها النُّعْمَى عَلَيَّ وأفْضِل ) ( يَشُدُّ وَثاقاً عابِساً ويَغُلُّنِي ... إلى حَلَقاتٍ من عمودٍ مُوَصَّل ) ( فقُلتُ له والسَّيفُ يَعْضِب رأْسَهُ ... أنا ابنُ أبي التّيماءِ غيرُ المنحَّل ) ( عرفتُ نَدَايَ من نَدَاهُ وشيمتي ... وريحاً تَغشَّاني إذا اشتَدَّ مِسْحَلِي ) ( تركتُ عِتاقَ الطَّيْرِ تحجِلُ حَوْلَهُ ... على عُدَواءَ كالحُوار المجدّل ) يذكر قتل ابن هبار وقال أبو زيد في خبره وأنشدني شداد للقتال الكلابي يذكر قتل ابن هبار ( تركتُ ابنَ هَبَّارٍ لدَى الباب مُسْنداً ... وأصبحَ دُوني شابَةٌ وأُرومُها ) ( بسيف امرىءٍ ما إن أُخَبِّرُ باسمهِ ... وإن حَقَرتْ نفسي إليَّ هُمومُها ) هكذا روى ابن حبيب وعمر بن شبة ونسخت من كتاب للشاهيني بخطه فيه شعر للقتال وأخبار من أخباره قال حبس القتال في دم ابن عمه الذي قتله فحبس زمانا في السجن ثم كان بين ابن هبار القرشي وبين ابن عم له من قريش إحنة فبلغ ابن عمه أن القتال محبوس في سجن المدينة فأتاه فقال له أرأيت إن أنا أخرجتك أتقتل ابن عمي المعروف بابن هبار قال نعم قال فإني سأرسل إليك بحديدة في طعامك فعالج بها قيدك حتى تفكه ثم البسه حتى لا تنكر فإذا خرجت إلى الوضوء فاهرب من الحرس فإني جالس لك ومخلصك ومعطيك فرسا تنجو عليه وسيفا تمتنع به فإن خلصك ذلك وإلا فأبعدك الله فقال قد رضيت قال وكان أهل المدينة يخرجون المحتبسين إذا أمسوا للوضوء ومعهم الحرس ففعل ما أمره به وأتاه القرشي فخلصه وآواه حتى أمسك عنه الطلب ثم جاء به وأعطاه سيفا فقتل ابن عمه المعروف بابن هبار ووهب له نجيبا فنجا عليه وقال ( تركتُ ابنَ هبَّار لدى البابِ مُسنَداً ... وأَصْبَح دُوني شابةٌ وأرومُها ) ( بسَيف امرِىءٍ لا أُخبرُ الناسَ باسمِهِ ... ولو أجهشَتْ نفسي إليَّ هُمومُها ) خبره مع علية بنت شيبة وقال أبو زيد عمر بن شبة فيما رواه عن أصحابه مر القتال بعلية بنت شيبة بن عامر بن ربيعة بن كعب بن عمرو بن عبد ابن أبي بكر وأخويها جهم وأويس فسألها زماما فأبت أن تعطيه وكانت جدتهم أم أبيهم أمة يقال لها أم حدير وكانت لقريظة بن حذيفة بن عمار بن ربيعة بن كعب بن عبد بن أبي بكر فولدت له أم هؤلاء واسمها نجيبة فولدت له علية هذه فقال القتال يهجوهم ( يا قَبَّحَ اللَّهُ صِبيَاناً تجيءُ بهِم ... أمُّ الهُنَيْبِر من زَندٍ لها واري ) ( من كلِّ أعلمَ مُنَشقٍّ مَشافرُهُ ... ومؤذَنٍ ما وَفَى شِبْراً بِمشبارِ ) ( يا وَيْحَ شَيماءَ لم تَنبِذْ بأحرارِ ... مثلي إذا ما اعتراني بعْضُ زُوَّارِي ) ( إنَّ القُريظِينَ لم يَدْعُوكِ كَنَّتَهم ... فأقصِري آلَ مَسْعُودٍ ودِينار ) ( أمَّا الإِماءُ فما يَدْعونَنِي ولداً ... إذا تُحُدِّثَ عن نقضِي وإمراري ) ( يا بِنتَ أمِّ حُدَيْرٍ لو وهبتِ لنا ... ثنتين من مُحكَمٍ بالقِدِّ أوتاري ) ( إمَّا جديداً وإمَّا بالياً خَلقاً ... عاد العذارى لِقَطْعَيْهِ بأسْيار ) ( لكان ردْءًا قليلا واعتجنتُ له ... صهْباءَ مقَّعَها حاجِي وأسفاري ) ( أنا ابنُ أَسماءَ أعمامِي لها وأبِي ... إذا ترامى بنو الإِموانِ بالعارِ ) ( قد جرَّب الناسُ عُودي يَقرعُون به ... وأقْصَرُوا عن صليبٍ غير خوَّار ) ( ما أرْضع الدَّهرَ إلاَّ ثدْيَ واضِحةٍ ... لواضح الوَجْه يحْمي حَوْزة الجار ) ( يَسْتلِب القِرْنَ مُهريهِ وصعْدَتهُ ... حقًّا وينزعُ عنْهُ ذات أزْرار ) ( من آلِ سُفيانَ أو ورْقاءَ يمنَعُها ... تحتَ العَجَاجَةِ طَعْنٌ غيرُ عُوَّارِ ) ( يَمنعُها كلُّ مَذْرورٍِ بصَعْدَتِه ... نضْحُ الدَّباءِ على عُرْيانَ مِغْوار ) ( تَسمعُ فيهمْ إذا استَسْمَعْتَ واعِيَةً ... عَزْفَ القِيانِ وقولا يال عَرْعارِ ) ( طِوالُ أنضِية الأعناقِ لم يجدُوا ... ريحَ الإِماء إذا راحَتْ بأزفار ) ( والقومُ أعلم أنَّا من خيارهُم ... إذا تقلَّدتُ عَضْباً غيرَ مِيشارِ ) ( فرَّا بسَيْري وبردُ الليلِ يضربني ... عُرض الفَلاة ببُنيانٍ وأكوار ) ( أمَّا الرَّواسمُ أطلاحا فتعرفُني ... إذا اعتصبتُ على رأْسي بأطمارِ ) ( ولم أُنازعْ بني السَّوداء فيئَهمُ ... والعِظِلِميّاتِ من يَعْرٍ وأمْهار ) ( فكلُّ سوداء لم تُحلَق عَقِيقتُها ... كأنَّ أصداغَها يُطلَينَ بالقار ) ( لقد شَرتني بنو بَكرٍ فما رَبِحتْ ... ولا رأيتُ عليها جَزأة الشّاري ) ( إن العُرُوقَ إذا استَنزعتها نزَعَتْ ... والعِرْقُ يسْري إذا ما عَرّسَ السّاري ) أخبرني حبيب بن نصر المهلبي قال حدثنا عمر بن شبة قال أنشدني الأصمعي للقتال رائية يقول فيها ( إن العُروقَ إذا استنزعتَها نزعَتْ ... والعرقُ يسْري إذا ما عرّس السّاري ) ( قد جرّب الناسُ عُودِي يَقرعُون بهِ ... فأقصُروا عن صَليبٍ غير خوّار ) فقال لقد أحسن وأجاد لولا أنه أفسدها بقوله إذا طلب جعلا فلم يعطه وكان في دناءة نفسه يشبه الحطيئة وكان فارسا شاعرا شجاعا هجاؤه قومه وقال السكري في روايته زوج القتال ابنته أم قيس واسمها قطاة رذاذ بن الأخرم بن مالك بن مطرف بن كعب بن عوف بن عبد بن أبي بكر فمكثت عنده زمانا وولدت له أولادا ثم أغارها فشكت إلى أبيها فاستعدى عليه ورماه بخادمها وجاء رذاذ بالبينة على قذفه إياه بالأمة فأقيم ليضرب فلم تنتصر له عشيرته وقامت عشيرة رذاذ فاستوهبوا حده من صاحبهم فوهبه لهم وكانت عشيرة القتال تبغضه لكثرة جناياته وما يلحقها من أذاه ولا تمنعه من مكروه فقال يهجو قومه ( إذا ما لَقِيتم راكبا مُتعمِّماً ... فقولوا له : ما الرّاكبُ المتعمِّمُ ؟ ) ( فإن يَكُ من كَعْبِ بن عَبْدٍ فإنَّه ... لئِيمُ المُحَيَّا حالِكُ اللَّونِ أَدهَمُ ) ( دعوتُ أبا كَعْبٍ رَبيعةَ دَعْوةً ... وفَوقِي غَواشي المَوْتِ تُنْحَى وتنْجُمُ ) ( ولَم أكُ أدرِي أنَّهُ ثُكْلُ أُمِّهِ ... إذا قيلَ للأَحْرارِ في الكُرْبةِ اقدُمُوا ) ( فلو كنتَ من قومٍ كرامٍ أعِزَّةٍ ... لحاميتَ عنِّي حِينَ أَحمَى وأضْرَمُ ) ( دعوتُ فكَمْ أسْمَعتُ من كلِّ مُؤْذِنٍ ... قَبيحِ المُحَيَّا شانَهُ الوجْهُ والفَمُ ) ( سِوى أنَّ آلَ الحارثِ الخير ذبَّبُوا ... بأعيطَ لا وغْلٌ ولا مُتَهَضَّمُ ) ( ألا إنَّهم قوْمِي وقومُ ابن مالِكٍ ... بنو أمّ ذِئب وابنُ كبشةَ خيثَمُ ) ( ولكنَّما قَومِي قُماشةُ حاطبٍ ... يُجمِّعُها بالكفِِّ واللَّيْلُ مُظْلِمُ ) طلاقه إحدى زوجيه قال أبو زيد وحدثني شداد بن عتبة قال كانت عند القتال بنت ورقاء بن الهيثم بن الهصان وكان جارا لبني الحصين بن الحويرث بن كعب بن عبد بن أبي بكر وكانت لها ضرة عنده يقال لها أم رياح بنت ميسرة بن نفير بن الهصان وهي أم جنوب بنت القتال فخرج القتال في سفر له فلما آب منه أقبل حين أناخ إلى أهله فوجد عند بنت ورقاء جرير بن الحصين فلما رأى جرير القتال نهض فسأل القتال عنه فقالت له امرأته أم رياح وهي صفية ويقال صفيفة بنت الحارث بن الهصان إن هذا البيت لبيت لا نزال نسمع فيه ما لا يعجبنا فطلق القتال بنت ورقاء وهي حامل فولدت له بعد طلاقها المسيب ابنه وقال السكري في خبره فقال القتال في ذلك ( ولَمَّا أنْ رأيْتُ بني حُصَيْنٍ ... بِهِم جنَفٌ إلى الجاراتِ بادِ ) ( خَلَعْتُ عِذارها ولَهِيتُ عنها ... كما خُلِعَ العِذَارُ من الجوادِ ) ( وقلت لها : عليكِ بني حُصَيْنٍ ... فما بيني وبينكِ من عوادِ ) ( أُنادِيها بأسفلِ وارِداتٍ ... نَكِدتَ أبا المُسَيَّب مَن تُنَادِي ؟ ) وفي رواية السكري ( أُنادِيها وما يومٌ كيومٍ ... قضى فيه امرؤٌ وَطَر الفُؤادِ ) ( فرُحْتُ كأنَّني سيفٌ صَقيلٌ ... وعزَّت جارةُ ابنِ أبي قُرادِ ) جرير يضرب أنف القتال قال ثم إن كلاب بن ورقاء بن حذيفة بن عمار بن ربيعة بن كعب بن عبد بن أبي بكر نحر جزورا وصنع طعاما وجمع القوم عليه وقال كلوا أيها الفتيان فإن الطعام فيكم خير منه في الشيوخ فقال القتال أنا والله خير للفتيان منك أرى المرأة قد أعجبت أحدهم فأطلقها له وفي القوم جرير بن الحصين الذي كان وجده عند امرأته فرفع جرير السوط فضرب به أنف القتال ثم إنهم أعطوا القتال حقه فلم يقبله حتى أدرك ابناه المسيب وعبد السلام وقال السكري حتى احتلم ولده الأربعة وهم حبيب وعبد الرحمن وعبد الحي وعمير وأمهم ريا بنت نفر بن عامر بن كعب بن أبي بكر فحملهم على الخيل حين أظلم الليل ثم أتى بهم بني حصين فلقي لقاحا لهم ثمانين فأشمرها وبات يسوقها لا تتخلف ناقة إلا عقرها حتى حبسها على الحصى حين طلعت الشمس والحصى ماء لعبد الله بن أبي بكر فحبسها وزجرهم عنها حتى جاء بنو حصين فعقلوا له من ضربته أربعين بكرة وأهدرت الضربة وإنما أخذ الأربعين بكرة مكرها لأن قومه أجبروه على ذلك قال شداد وفي ابنه عبد السلام يقول ( عبدَ السَّلام تأمَّل هل ترى ظُعُناً ... إني كبِرتُ وأنت اليوم ذو بَصَر ) ( لا يُبعد اللَّهُ فتياناً أَقول لهم ... بالأبْرقِ الفردِ لمّا فاتني نظري ) ( يا هَلْ تَرَوْن بأَعلى عاصمٍ ظُعناً ... نكَّبْنَ فحْليْنِ وَاسْتقبلْن ذا بَقرِ ) ( صلَّى على عمرةَ الرحمنُ وابنتِها ... ليلى وصَلّى عَلَى جاراتها الأُخَرِ ) ( هُنَّ الحرائِرُ لا ربَّاتُ أحمرةٍ ... سودُ المحاجِر لا يقرأنَ بالسُّور ) قال أبو زيد وحدثني شداد بن عقبة قال أتى الأخرم بن مالك بن مطرف بن كعب بن عوف بن عبد بن أبي بكر ومحصن بن الحارث بن الهصان في نفر من بني أبي بكر القتال وهو محبوس فشرطوا عليه ألا يذكر عالية في شعره وهي التي ينسب بها في أشعاره فضمن ذلك لهم فأخرجوه من السجن عشاء ثم راح القوم من السجن وراح القتال معهم حتى إذا كان في بعض الليل انحدر يسوق بهم ويقول ( قلتُ له يا أخرمُ بنَ مالِ ... ) ( إن كنت لم تُزْرِ على وصالِي ... ) ( ولم تجِدْني فاحِشَ الخلال ... ) ( فارفعْ لنا من قُلُصٍ عِجال ... ) ( مُستوسِقاتٍ كالقطا عِبال ... ) ( لعلنا نطرُقُ أُمَّ عال ... ) ( تخيَّرِي خُيِّرتِ في الرِّجال ... ) ( بين قصيرٍ باعُهُ تِنبالِ ... ) ( وأمُّهُ راعيةُ الجمال ... ) ( تَبيتُ بين القِدْرِ والجِعالِ ... ) ( أذاكَ أم مُنْخرِق السِّرْبال ... ) ( كريمُ عمٍّ وكريمُ خال ... ) ( مُتلِفُ مالٍ ومُفيدُ مال ... ) ( ولا تزالُ آخرَ الليالي ... ) ( قَلوصُهُ تعثرُ في النِّقال ... ) النقال المناقلة قال شداد فنزل القوم فربطوه ثم آلوا ألا يحلوه حتى يوثق لهم بيمين ألا يذكرها أبدا ففعل وحلوه قال وهي امرأة من بني نصر بن معاوية وكانت زوجة رجل من أشراف الحي يقتل جارية عمه قال وحدثني أبو خالد قال كانت لعم القتال سرية فقال له القتال لا تطأها فإنا قوم نبغض أن تلد فينا الإماء فعصاه عمه فضربها القتال بسيفه فقتلها فادعى عمه أنه قتلها وفي بطنها جنين منه فمشى القتال إليها فأخرجها من قبرها وذهب معه بقوم عدول وشق بطنها وأخرج رحمها حتى رأوه لا حمل فيه فكذبوا عمه فقال في ذلك ( أنا الذي انتَشلْتُها انتِشالاَ ... ثمَّ دعوتُ غِلمةً أزْوالا ) ( فصَدَعُوا وكذَّبوا ما قالا ... ) قال وأنشدني له أيضا ( أنا الذي ضَرَبتُها بالمُنْصُلِ ... عِند القُرَيْنِ السائلِ المفضَّلِ ) ( ضَرْباً بكفّيْ بَطَلٍ لم يَنْكُلِ ... ) يقول أنا ابن فارس وابن فارس وقال السكري في روايته أراد القتال أن يتزوج بنت المحلق بن حنتم فتزوجها عبد الرحمن بن صاغر البكائي فلقي مولاة لها يقال لها جون فقال لها ما فعلت قالت تزوجها عبد الرحمن بن صاغر فقال ما لها ولعبد الرحمن فقالت له ذاك ابن فارس عراد قال فأنا ابن فارس ذي الرحل وأنا ابن فارس العوجاء ثم انصرف وأنشأ يقول ( يا بنتَ جَونٍ أبانَتْ بنتُ شدَّادِ ؟ ... نَعم لعمري لِغوْرٍ بعدَ إنجادِ ) ( لمَطْلع الشَّمْسِ ما هذا بمُنْحَدَرٍ ... نحو الرّبيع ولا هذا بإصعادِ ) ( قالت فوارسُ عَرّادٍِ فقلتُ لها : ... وفيم أُمِّيَ من فُرسانِ عَرّادِ ) ( فُرسانُ ذي الرَّحْل والعوجاءِ وابنَتِها ... فِدًى لهم رهطُ رَدَّادٍ وشدّادِ ) والقصيدة التي في أولها الغناء المذكور يقولها القتال يحض أخاه وعشيرته على تخلصه من المطالبة التي يطالب بها في قتل زياد بن عبيد الله واحتمال العقل عنه ويلومهم في قعودهم عن المطالبة بثأر لهم قبل بني جعفر بن كلاب وكان السبب في ذلك فيما ذكره عمر بن شبة عن حميد بن مالك عن أبي خالد الكلابي قال كان عمرو بن سلمة بن سكن بن قريظ بن عبد بن أبي بكر أسلم فحسن إسلامه ووفد إلى النبي فاستقطعه حمى بين الشقراء والسعدية والسعدية ماء لعمرو بن سلمة والشقراء ماء لبني قتادة بن سكن بن قريظ وهي رحبة طولها تسعة أميال في ستة أميال فأقطعه إياها فأحماها ابنه جحوش فاسترعاه نفر من بني جعفر بن كلاب خيلهم وفيهم أحدر بن بشر بن عامر بن مالك بن جعفر فأرعاهم فحملوا نعمهم مع خيلهم بغير إذنه فأخبر بذلك فغضب وأراد إخراجهم منه فقاتلوه فكانت بينهم شجاج بالعصي والحجارة من غير رمي ولا طعان ولا تسايف فظهر عليهم جحوش ثم تداعوا إلى الصلح ومشت السفراء بينهم على أن يدعوا جميعا الجراحات فتواعدوا للصلح بالغداة وأخ لجحوش يقال له سعيد في حلقه سلعة وهو شنج متنح عن الحي عند امرأة من بني أبي بكر ترقيه فرجع إلى أخيه ومعه رجلان من قومه يقال لأحدهما محرز بن يزيد وللآخر الأخدر بن الحارث فلقيهم قراد بن الأخدر بن بشر بن عامر بن مالك وابن عمه أبو ذر بن أشهل ورجل آخر من الجعفريين فحمل قراد على سعيد فطعنه فقتله فحذف محرز ابن يزيد فرس قراد فعقرها فأردفه أبو ذر خلفه ولحقوا بأصحابهم الجعفريين وأوقد جحوش بن عمرو نار الحرب في رأس جرعاء طويلة فاجتمعت إليه بنو أبي بكر وخرج قراد هاربا إلى بشر بن مروان وهو ابن عمته حتى إذا كان بالقنان حميت عليه الشمس فأناخ إلى بيت امرأة من بني أسد فقال في بيتها فبينا هو نائم إذ نبهته الأسدية فقالت له ما دهاك ويحك انظر إلى الطير تحوم حول ناقتك فخرج يمشي إلى ناقته فإذا هي قد خدجت والطير تمزق ولدها فجاء فأخبرها فقالت إن لك لخبرا فأصدقني عنه فلعلَّه أن يكون لك فيه فائدةٌ فأخبرها أنه مطلوب بدم فهو هارب طريد قالت فهل وراءك أحد تشفق عليه فقال أخ لي يقال له جبأة وهو أحب الناس إلي قالت فإنه في أيدي أعدائك فارجع أو امض فخرج لوجهه إلى بشر قال ولما حرض القتال قومه على الطلب بثأرهم في الجعفريين وعيرهم بالقعود عنهم مضى جميعهم لقتال بني جعفر فقال لهم الجعفريون يا قومنا ما لنا في قتالكم حاجة وقاتل صاحبكم قد هرب وهذا أخوه جبأة فاقتلوه فرضوا بذلك فأخذوا جبأة فلما صاروا بأسود العين قدمه جحوش فضرب عنقه بأخيه سعيد قصيدة تحريض ومما قاله القتال في تحريضهم في قصيدة طويلة ( فيا لأبي بكر ويا لجحَوَّشٍ ... وللَّهِ مَوْلى دَعوةٍ لا يُجابُها ) ( أفي كلِّ عامٍ لا تزالُ كتيبةٌ ... ذُؤيْبيَّةٌ تهفُو عليكم عُقابُها ) ( لهم جَزَرٌ منكم عَبِيطٌ كأنَّه ... وقاعُ الملوك فتكُها واغتصابُها ) ( وأنتمْ عديدٌ في حديدٍ وشِكَّةٍ ... وغابِ رماح يوجِف القلبَ غابُها ) ( يُسقَّى ابن بشر ثم يمْسح بطنَه ... وحوْلِي رجالٌ ما يسُوغ شرابُها ) ( فما الشرّ كلّ الشر لا خير بعْده ... على الناس إلاّ أن تذلَّ رقابُها ) ( نساء ابن بِشرٍ بُدَّنٌ ونساؤنا ... بَلايا عليها كلَّ يومٍ سِلابُها ) ( تنام فتقضي نوْمة الليل عِرسُه ... وأُمُّ سعيدٍ ما تنامُ كلابُها ) ( فإن نحن لم نغضب لهم فنُثِيبُهم ... وكلّ يدٍ مُوفٍ إلينا ثوابُها ) ( فنحنُ بنو اللائي زعمتُم وأنتم ... بنُو مُحصناتٍ لم تدنَّسْ ثِيابُها ) صوت ( ألا للَّهِ دَرُّك مِنْ ... فتَى قَوْمٍ إذا رَهِبُوا ) ( وقالوا : منْ فَتىً للحَرْب ... يَرقُبنا ويَرْتقِب ) ( فكنتَ فتَاهمُ فيها ... إذا يُدعَى لها يثِبُ ) ( ذكرتُ أخي فعاودَني ... صُداعُ الرّأْس والوَصبُ ) ( كما يعتادُ ذاتُ البَوِّ ... بعد سُلوّها الطّرب ) ( فدمْعُ العيْن من بُرحاءِ ... ما في الصّدر يَنْسَكِبُ ) ( كما أودَى بماء الشَّنَّةِ ... المخْروزَة السّرَب ) ( على عَبْدِ بن زُهرة طُولَ ... هذا اللّيل أَكتئبُ ) الشعر لأبي العيال الهذلي والغناء لمعبد ثقيل أول بالخنصر في مجرى الوسطى عن إسحاق وابن المكي وغيرهما مما لا يشك فيه من صنعته وفي الثالث والرابع من الأبيات لمالك خفيف ثقيل عن الهشامي ومن الناس من ينسبه إلى معبد أيضا وفي الأول والثاني والثالث لمعبد أيضا خفيف رمل بالوسطى عن عمرو بن بانة وذكر الهشامي وحماد بن إسحاق أنه لابن عائشة وفيه لمالك هزج بالبنصر فيما ذكر حبش أخبار أبي العيال ونسبه أبو العيال بن أبي عنترة وقال أبو عمرو الشيباني ابن أبي عنبر بالباء ولم أجد له نسبا يتجاوز هذا في شيء من الروايات وهو أحد بني خناعة بن سعد ابن هذيل وهذا أكثر ما وجدته من نسبه شاعر فصيح مقدم من شعراء هذيل مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام ثم أسلم فيمن أسلم من هذيل وعمر إلى خلافة معاوية وهذه القصيدة يرثي بها ابن عمه عبد بن زهرة ويقال إنه كان أخاه لأمه أيضا كتب قصيدة فأبكى معاوية والناس أخبرني محمد بن العباس اليزيدي فيما قرأته عليه من شعر هذيل عن الرياشي عن الأصمعي ونسخت أيضا خبره الذي أذكره من نسخة أبي عمرو الشيباني قالا كان عبد بن زهرة غزا الروم في أيام معاوية وقال أبو عمرو خاصة مع يزيد بن معاوية في غزاته التي أغزاه أبوه إياها فأصيب في تلك الغزاة جماعة من المسلمين من رؤسائهم وحماتهم وكانت شوكة الروم شديدة قتل فيها عبد العزيز بن زرارة الكلابي وعبد بن زهرة الهذلي وخلق من المسلمين ثم فتح الله عليهم وكان أبو العيال حاضرا تلك الغزاة فكتب إلى معاوية قصيدة قرأها وقرئت على الناس فبكى الناس وبكى معاوية بكاء شديدا جزعا لما كتب به والقصيدة ( مِنَ أبي العِيال أخي هُذَيْلٍ فاعْلَموا ... قولِي ولا تتجمجَمُوا ما أرسِلُ ) ( أبلِغ مُعاويةَ بنَ صَخْرٍ آيةً ... يَهوِي إليه بها البَرِيدُ الأَعجلُ ) ( والمرءَ عَمراً فأتِه بصحِيفَةٍ ... مِنّي يَلُوح بها كتابٌ منْمَلُ ) لا تتجمجموا لا تكتموا والمنمل كأن سطوره آثار نمل ( وإلى ابنِ سَعْدٍ إنْ أُؤخِّرْه فَقَد ... أَزرَى بنا في قَسْمه إذْ يَعْدِلُ ) ( وإلى أُولِي الأَحْلام حيثُ لقيتَهُم ... أهلِ البَقيَّةِ والكتابُ المُنْزَلُ ) في ديوان الرجل حيث البقية والكتاب المنزل ( أَنَّا لقِينا بعدكم بدِيارنا ... من جانَب الأمراجَ يوماً يُسأُلُ ) ( أمراً تَضيقُ به الصُّدُورُ ودُونَه ... مُهَجُ النُّفوسِ وليس عنه مَعْدِلُ ) ( في كلِّ مُعتَركٍ تَرَى مِنّا فتًى ... يَهْوِي كعزلاءِ المَزادةِ تُزغِلُ ) تزغل تدفع دفعا ( أو سَيِّداً كَهْلاً يَمُور دِماغُه ... أو جانِحاً في رأْس رُمْح يَسْعُلُ ) يسعل يشرق بالدم ( وتَرَى النِّبالَ تَعِيرُ في أقْطارِنا ... شُمْساً كأَنَّ نِصالَهُنّ السُّنْبُلُ ) ( وتَرَى الرِّماح كأنّما هي بيْنَنا ... أشْطانُ بئْر يُوغلُون ونُوغل ) ( حتى إذا رَجَبٌ تَولّى فانْقَضَى ... وجُمَادَيان وَجَاءَ شهْرٌ مُقْبلُ ) ( شعْبان قَدَّرْنا لوَقْتِ رَحِيلِهم ... تِسعاً يُعَدّ لها الوفاءُ وتَكمُلُ ) ( وتَجرَّدت حرْبٌ يكونُ حِلابُها ... عَلَقاً ويَمرِيهَا الغَوِيُّ المُبطلُ ) ( فاستْقبَلُوا طرفَ الصَّعِيدِ إقامةً ... طوْراً وطوراً رِحْلَةً فتحمَّلُوا ) قصيدة بدر بن عامر قال الأصمعي وأبو عمرو وكان أبو العيال وبدر بن عامر وهما جميعا من بني خناعة بن سعد بن هذيل يسكنان مصر وكانا خرجا إليها في خلافة عمر بن الخطاب رضوان الله عليه وأبو العيال معه ابن أخ له فبينا ابن أخي أبي العيال قائم عند قوم ينتضلون إذ أصابه سهم فقتله فكان فيه بعض الهيج فخاصم في ذلك أبو العيال واتهم بدر بن عامر وخشي أن يكون ضلعه مع خصمائه فاجتمعا في ذلك في مجلس فتناثا فقال بدر بن عامر ( بَخِلتِ فُطَيْمةُ بالذي تُولِيني ... إلا الكلامَ وقلّ ما يُجدِيني ) ( ولقدْ تَناهى القلبُ حين نهيتُه ... عنها وقد يَغوِي إذا يَعصِيني ) ( أَفُطَيْمُ هل تدْرِين كم من مَتلفٍ ... جاوزتِ لا مرعًى ولا مسكون ؟ ) يقول فيها ( وأبُو العِيال أخِي وَمَنْ يَعْرِضْ له ... منكم بسُوءٍ يؤْذِني ويَسُوني ) ( إنّي وجدتُ أبا العِيَال ورهْطَه ... كالحِصْنِ شُدَّ بجَنْدَلٍ مَوْضُون ) ( أعْيَا الغَرانيقَ الدّواهيَ دونه ... فتركْنَهُ وأبَرّ بالتّحْصِين ) ( أسدٌ تفِرُّ الأُسْدُ من وثباتِه ... بِعوارض الرُّجّاز أو بِعُيون ) ( ولِصَوْتِه زَجَلٌ إذا آنستَه ... جَرّ الرّحى بشَعيرِه الْمطحُونِ ) ( وإذا عَددْتَ ذوي الثِّقات وجدتَه ... ممَّنْ يَصُول به إليَّ يمِيني ) فأجابه أبو العيال فقال ( إن البَلاء لدى المَقَاوس مُعرِضٌ ... ما كان من غَيْبٍ ورجْم ظُنُونِ ) في الديوان لدى المقاوس مخرج والمقوس الحبل الذي يمد به على صدور الخيل أي فما كان عنده من خير أو شر فسيخرج عند الرهان والعدو ( وإذا الجوادُ وَنَى وأخلف مِنْسَراً ... ضُمُراً فلا تُوقنْ له بيقين ) ( لو كان عِنْدَك ما تقُولُ جعلتَني ... كنزاً لريْبِ الدَّهْر غيرَ ضَنين ) ( وَلقد رَمقْتُك في المَجالس كلِّها ... فإذا وأنت تُعِينُ مَنْ يَبغِيني ) ( هَلاّ درأَت الخَصْم حين رأَيتَهم ... جَنَفاً عليَّ بألسُنٍ وعُيونِ ) ( وزجرتَ عَنِّي كلّ أشْوسَ كاشِح ... ترِع المقالةِ شامخِ العِرْنين ) فأجابه بدر بن عامر فقال ( أقسمتُ لا أنسَى مَنيحَةَ واحدٍ ... حتى تَخَيَّط بالبيَاضِ قُرونِي ) ( حتى أصِير بمسْكنٍ أثوِي بِه ... لِقرارِ مُلْحَدَةِ العَداءِ شَطُون ) ( ومنَحْتَنِي جَدّاء حين منحتِنِي ... شَحَصاً بمالِئَة الحِلاب لَبُونِ ) الشحص ما ليس فيه لبن من المال ( وحَبَوتُك النُّصْح الذي لا يُشْتَرَى ... بالمال فانْظُر بعْدُ ما تَحبُوني ) ( وتأمَّلِ السِّبتَ الذي أحذُوكه ... فانْظر بمثل إمامِه فاحذُوني ) فأجابه أبو العيال ( أقسمتُ لا أنسَى شبابَ قَصيدةٍ ... أبداً فما هذَا الذي يُنسينِي ) ( وَلَسوف تَنْساها وتعلم أنّها ... تَبعٌ لآبيةِ العِصابِ زَبُون ) ( وَمَنَحْتني فَرضِيتَ رأيَ مَنيحَتِي ... فإذا بِها وَاللَّهِ طيفُ جُنُون ) ( جهراءُ لا تألو إذا هي أظْهَرَت ... بَصَراً ولا من حاجةٍ تُغْنِينِي ) ( قَرِّب حِذاءَك قاحلا أو لَيِّناً ... فتمنّ في التَّخْصِير وَالتّلْسين ) ( وارجع منِحتَك الّتي أتْبعْتها ... هُوْعاً وَحَدّ مُذلَّقٍ مسْنُون ) ولهما في هذا المعنى نقائض طوال يطول ذكرها وليست لها طلاوة إلا ما يستفاد في شعر أمثالهما من الفصاحة وإنما ذكرت ما ذكرت ها هنا منها لأني لم أجد لهذا الشاعر خبرا غير ما ذكرته صوت ( ألم تسأل بعارمةَ الدِّيارا ... عن الحَيِّ المفارق أين سارا ؟ ) ( بل ساءَلتُها فأبتْ جواباً ... وكيف سُؤالك الدِّمَن القفَارا ؟ ) الشعر للراعي والغناء لإسحاق خفيف ثقيل أول بالبنصر عن عمرو وابن جامع وإسحاق نسب الراعي وأخباره هو عبيد بن حصين بن معاوية بن جندل بن قطن بن ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر ويكنى أبا جندل والراعي لقب غلب عليه لكثرة وصفه الإبل وجودة نعته إياها وهو شاعر فحل من شعراء الإسلام وكان مقدما مفضلا حتى اعترض بين جرير والفرزدق فاستكفه جرير فأبى أن يكف فهجاه ففضحه وقد ذكرت بعض أخباره في ذلك مع أخبار جرير وأتممتها هنا قصيدة يمدح بها سعيد بن عبد الرحمن وقصيدة الراعي هذه يمدح بها سعيد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ابن أبي العيص بن أمية وفيها يقول ( تُرجِّي من سَعيدِ بني لُؤيٍّ ... أَخِي الأعْياص أَنواءً غِزارا ) ( تلقَّى نَوْأهُنَّ سِرَارَ شَهْرٍ ... وخَيرُ النَّوء ما لقِي السِّرارا ) ( خَليل تَعْزُبُ العِلاَّتُ عنه ... إذا ما حانَ يوماً أن يُزارا ) ( متى ما تأْتِه ترجُو ندَاهُ ... فلا بُخْلاً تَخَافُ ولا اعْتِذارا ) ( هو الرَّجلُ الذي نَسبت قُريشٌ ... فَصار المجدُ فيها حيْثُ صارا ) ( وأنضاءٍ تَحِنّ إلى سَعيدٍ ... طُروقاً ثم عَجَّلن ابْتِكارا ) ( على أكْوارِهنَّ بنُو سَبيلٍ ... قليلٌ نوْمُهم إلا غِرارا ) ( حَمِدْنَ مَزاره ولقِين منه ... عَطاءً لم يكن عِدَةً ضِمارا ) يسيء إلى جرير بعد أن يقضي للفرزدق عليه أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثنا الحسن بن الحسين السكري عن الرياشي عن الأصمعي قال وذكره المغيرة بن حجناء قال حدثني أبي عن أبيه قال كان راعي الإبل يقضي للفرزدق على جرير ويفضله وكان راعي الإبل قد ضخم أمره وكان من أشعر الناس فلما أكثر من ذلك خرج جرير إلى رجال من قومه فقال ألا تعجبون لهذا الرجل الذي يقضي للفرزدق علي ويفضله وهو يهجو قومه وأنا أمدحهم قال جرير ثم ضربت رأيي فيه فخرجت ذات يوم أمشي إليه قال ولم يركب جرير دابته وقال والله ما يسرني أن يعلم أحد بسيري إليه قال وكان لراعي الإبل وللفرزدق وجلسائهما حلقة بأعلى المربد بالبصرة يجلسون فيها قال فخرجت أتعرض لها لألقاه من حيال حيث كنت أراه ثم إذا انصرف من مجلسه لقيته وما يسرني أن يعلم أحد حتى إذا هو قد مر على بغلة له وابنه جندل يسير وراءه راكبا مهرا له أحوى محذوف الذنب وإنسان يمشي معه ويسأله عن بعض السبب فلما استقبلته قلت له مرحبا بك يا أبا جندل وضربت بشمالي إلى معرفة بغلته ثم قلت يا أبا جندل إن قولك يستمع وإنك تفضل علي الفرزدق تفضيلا قبيحا وأنا أمدح قومك وهو يهجوهم وهو ابن عمي وليس منك ولا عليك كلفة في أمري معه وقد يكفيك من ذلك هين وأن تقول إذا ذكرنا كلاهما شاعر كريم فلا تحمل منه لائمة ولا مني قال فبينا أنا وهو كذلك وهو واقف علي لا يرد جوابا لقولي إذ لحق بالراعي ابنه جندل فرفع كرمانية معه فضرب بها عجز بغلته ثم قال أراك واقفا على كلب بني كليب كأنك تخشى منه شرا أو ترجو منه خيرا فضرب البغلة ضربة شديدة فزحمتْني زحمة وقعت منها قلنسوتي فوالله لو يعوج علي الراعي لقلت سفيه غوي يعني جندلا ابنه ولكنه لا والله ما عاج علي فأخذت قلنسوتي فمسحتها وأعدتها على رأسي وقلت ( أجندلُ ما تَقولُ بَنُو نُميْر ... إذا ما الأيرُ في اسْتِ أبيك غابا ) قال فسمعت الراعي يقول لابنه أما والله لقد طرحت قلنسوته طرحة مشؤومة قال جرير ولا والله ما كانت القلنسوة بأغيظ أمره إلي لو كان عاج علي حول قصيدته فغض الطرف فانصرف جرير مغضبا حتى إذا صلى العشاء ومنزله في علية قال ارفعوا إلي باطية من نبيذ وأسرجوا لي فأسرجوا له وأتوه بباطية من نبيذ فجعل يهينم فسمعته عجوز في الدار فطلعت في الدرجة حتى إذا نظرت إليه فإذا هو على الفراش عريان لما هو فيه فانحدرت فقالت ضيفكم مجنون رأيت منه كذا وكذا فقالوا لها اذهبي لطيتك نحن أعلم به وبما يمارس فما زال كذلك حتى كان السحر فإذا هو يكبر قد قالها ثمانين بيتا فلما بلغ إلى قوله ( فغُضَّ الطَّرفَ إنّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فلا كَعْباً بَلغْتَ ولا كِلاَبَا ) فذاك حين كبر ثم قال أخزيته والله أخزيته ورب الكعبة ثم أصبح حتى إذا عرف أن الناس قد جلسوا في مجالسهم بالمربد وكان جرير يعرف مجلس الراعي ومجلس الفرزدق فدعا بدهن فادهن وكف رأسه وكان حسن الشعر ثم قال يا غلام أسرج لي فأسرج له حصانا ثم قصد مجلسهم حتى إذا كان بموضع السلام لم يسلم ثم قال يا غلام قل لعبيد الراعي أبعثتك نسوتك تكسبهن المال بالعراق والذي نفس جرير بيده لترجعن إليهن بما يسوءهن ولا يسرهن ثم اندفع في القصيدة فأنشدها فنكس الفرزدق رأسه وأطرق راعي الإبل فلو انشقت له الأرض لساخ فيها وأرم القوم حتى إذا فرغ منها سار فوثب راعي الإبل من ساعته فركب بغلته بشر وعر وتفرق أهل المجلس وصعد الراعي إلى منزله الذي كان ينزله ثم قال لأصحابه ركابكم ركابكم فليس لكم ها هنا مقام فضحكم والله جرير فقال له بعضهم ذلك شؤمك وشؤم جندل ابنك قال فما اشتغلوا بشيء غير ترحلهم قالوا فسرنا والله إلى أهلنا سيرا ما ساره أحد ======================= ج45. كتاب:الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وهم بالشريف وهو أعلى دار بني نمير فحلف راعي الإبل أنهم وجدوا في أهلهم قول جرير ( فغُضّ الطّرَف إنّكَ من نُمَيْرٍ ... ) يتناشده الناس وأقسم بالله ما بلغه إنسان قط وإن لجرير لأشياعا من الجن فتشاءمت به بنو نمير وسبوه وسبوا ابنه فهم إلى الآن يتشاءمون بهم وبولدهم وأخبرني بهذا الخبر عمي قال حدثنا الكراني قال حدثني النضر بن عمرو عن أبي عبيدة بمثله أو نحو منه وقال في خبره أجئت توقر إبلك لنسائك برا وتمرا والله لأحملن إلى أعجازها كلاما يبقى ميسمه عليهن ما بقي الليل والنهار يسوؤك وإياهن استماعه وقال في خبره أيضا فلما قال ( فَغُضّ الطّرفَ إنّكَ من نُمَير ... ) وثب وثبة دق رأسه السقف فجاء له صوت هائل وسمعت عجوز كانت ساكنة في علو ذلك الموضع صوته فصاحت يا قوم ضيفكم والله مجنون فجئنا إليه وهو يحبو ويقول غضضته والله أخزيته والله فضحته ورب الكعبة فقلت له ما لك يا أبا حزرة فأنشدنا القصيدة ثم غدا بها عليه الحجاج يسأل جريرا عمن هجاه من الشعراء وذكر ابن الكلبي عن النهشلي عن مسحل بن كسيب عن جرير في خبره مع الحجاج لما سأله عمن هجاه من الشعراء قال قال لي الحجاج ما لك وللراعي فقلت أيها الأمير قدم البصرة وليس بيني وبينه عمل فبلغني أنه قال في قصيدة له ( يا صاَحبيّ دنَا الرّواحُ فَسِيرا ... غَلَب الفرزْدقُ في الهِجاء جرِيرا ) وقال أيضا في كلمة له ( رأيتُ الجَحْشَ جَحْشَ بنِي كُلَيبٍ ... تَيَمّم حَوْض دِجلة ثم هابا ) فأتيته وقلت يا أبا جندل إنك شيخ مضر وقد بلغني تفضيلك الفرزدق علي فإن أنصفتني وفضلتني كنت أحق بذلك لأني مدحت قومك وهجاهم وذكر باقي الخبر نحوا مما ذكره من تقدم وقال في خبره فقلت له إن أهلك بعثوك مائرا وبئس والله المائر أنت وإنما بعثني أهلي لأقعد لهم على قارعة هذا المربد فلا يسبهم أحد إلا سببته فإن علي نذرا إن كحلت عيني بغمض حتى أخزيك فما أصبحت حتى وفيت بيميني قال ثم غدوت عليه فأخذت بعنانه فما فارقني حتى أنشدته إياها فلما بلغت قولي ( أَجَندلُ ما تَقُولُ بَنُو نُميْرٍ ... إذَا ما الأيرُ في اسْتِ أَبيكِ غَابا ؟ ) قال فأرسل يدي ثم قال يقولون شرا والله جرير يهجوه أمام الفرزدق أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال حدثني محمد بن الحسن بن الحرون قال قال أبو عبيدة أنشد جرير الراعي هذه القصيدة والفرزدق حاضر فلما بلغ فيها قوله ( بها برَصٌ بأسفل إسكَتَيْها ... ) غطى الفرزدق عنفقته بيده فقال جرير ( كَعَنْفقةِ الفَرَزْدق حينَ شَابا ... ) فقال الفرزدق أخزاك الله والله لقد علمت أنك لا تقول غيرها قال فسمع رجل كان حاضرا أبا عبيدة يحدث بها فحلف يمينا جزما أن الفرزدق لقن جريرا هذا المصراع بتغطية عنفقته ولو لم يفعل لما انتبه لذلك وما كان هذا بيتا قاله متقدما وإنما انتبه لذلك أخبرنا أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال أخبرني أبو الغراف قال الذي هاج التهاجي بين جرير والراعي أن الراعي كان يسأل عن جرير والفرزدق فيقول الفرزدق أكرمهما وأشعرهما فلقيه جرير فاستعذره من نفسه ثم ذكر باقي الخبر مثل ما تقدم وزاد فيه أن الراعي قال لابنه جندل لما ضرب بغلته ( ألم تَر أنّ كلبَ بَني كُليبٍ ... أراد حِياضَ دِجلةَ ثم هابا ) ونفرت البغلة فزحمته حتى سقطت قلنسوة جرير فقال الراعي لابنه أما والله لتكونن فعلة مشؤومة عليك وليهجوني وإياك فليته لا يجاوزنا ولا يذكر نسوتنا وعلم الراعي أنه قد أساء وندم فتزعم بنو نمير أنه حلف ألا يجيب جريرا سنة غضبا على ابنه وأنه مات قبل أن تمضي سنة ويقول غير بني نمير إنه كمد لما سمعها فمات كمدا يعترف بتفوق جرير عليه في الهجاء أخبرني محمد بن العباس اليزيدي وأبو الحسن علي بن سليمان الأخفش قالا حدثنا أبو سعيد السكري عن محمد بن حبيب وإبراهيم بن سعدان عن أبي عبيدة وسعدان والمفضل وعمارة بن عقيل وأخبرنا به أبو خليفة عن محمد ابن سلام عن أبي البيداء قالوا جميعا مر راكب بالراعي وهو يتغنى ( وَعاوٍ عوَى من غير شيءٍ رميتُه ... بقافيةٍ أنفاذُها تقطرُ الدّما ) ( خَروجٍ بأفْواهِ الرُّوَاة كأنَّها ... قَرَا هُندُوَانيٍّ إذا هُزّ صمَّما ) فسمعها الراعي فأتبعه رسولا وقال له من يقول هذين البيتين قال جرير فقال الراعي أألام أن يغلبني هذا والله لو اجتمع الجن والأنس على صاحب هذين البيتين ما أغنوا فيه شيئا قال ابن سلام خاصة في خبره وهذان البيتان لجرير في البعيث وكذلك كان خبره معه اعترضه في غير شيء أخبرنا أبو خليفة قال أخبرنا محمد بن سلام قال كان الراعي من رجال العرب ووجوه قومه وكان يقال له في شعره كأنه يعتسف الفلاة بغير دليل أي أنه لا يحتذي شعر شاعر ولا يعارضه وكان مع ذلك بذيا هجاء لعشيرته فقال له جرير ( وَقَرْضُك في هَوازنَ شرُّ قرضٍ ... تهجِّنُهم وتَمْتدِح الوِطابَا ) نسب بامرأة من بني عبد شمس أخبرنا أبو خليفة قال أخبرنا محمد بن سلام قال قال أبو الغراف جاور راعي الإبل بني سعد بن زيد مناة بن تميم فنسب بامرأة منهم من بني عبد شمس ثم أحد بني وابشي فقال ( بَني وَابِشيٍّ قد هَوِينا جوارَكُم ... وما جَمعتْنا نِيَّةٌ قبلها معا ) ( خَلِيطَيْن من حَيّين شتَّى تَجَاورَا ... جَميعاً وكانا بالتّفرّق أمتعَا ) ( أَرَى أهلَ ليلَى لا يبالي أميرُهم ... على حالة المحزُون أن يَتَصدّعا ) وقال فيها أيضا صوت ( تذكَّر هذا القلبُ هِندَ بني سَعْدِ ... سَفاهاً وجَهْلاً ما تَذكَّر منْ هِنْدٍ ) ( تذكَّر عَهداً كان بَيْنِي وبَيْنَها ... قَدِيماً وهل أبقت لك الحربُ من عَهدٍ ؟ ) في هذين البيتين لحن من الثقيل الأول بالوسطى وذكر الهشامي أنه لنبيه وذكر قمري وذكاء وجه الرزة أنه لبنان قال ابن سلام فلما بلغهم شعره أزعجوه وأصابوه بأذى فخرج عنهم وقال فيهم ( أرَى إبلي تكالأ راعِياهَا ... مخافَة جَارِها الدَّنِسِ الذّمِيمِ ) ( وقد جاورتُهم فرأيت سُعْداً ... شَعاعَ الأمرِ عازِبةَ الحُلُوم ) ( مَغانيم القرى سَرقاً إذا ما ... أجنَّتْ ظُلمةُ اللَّيلِ البَهيم ) ( فأُمِّي أرضَ قوْمك إنّ سعْداً ... تحمّلت المخازِيَ عن تَميمِ ) أخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام عن عبد القاهر بن السري قال وفد الراعي إلى عبد الملك بن مروان فقال لأهل بيته تروحوا إلى هذا الشيخ فإني أراه منجبا أخبرنا محمد بن الحسن بن دريد قال حدثنا أبو حاتم عن أبي عبيدة عن يونس قال قدم جندل بن الراعي على بلال بن أبي بردة وقد مدحه وكان يكثر ذكر أبيه ووصفه فقال له بلال أليس أبوك الذي يقول في بنت عمه وأمها امرأة من قومه ( فلمَّا قضتْ من ذِي الأراك لُبانَةَ ... أرادَتْ إلينا حاجةً لا نُريدُها ) وقد كان بعد هجاء جرير إياه مغلبا فقال له جندل لئن كان جرير غلبه لما أمسك عنه عجزا ولكنه أقسم غضبا علي ألا يجيبه سنة فأين أنت عن قوله في عدي بن الرقاع العاملي ( لو كنتَ من أحدٍ يُهجَى هجْوتُكم ... يا بن الرقاع ولكن لستَ من أحد ) ( تأَبى قُضاعةُ لم تعرِف لكم نسباً ... وابنا نِزارٍ وأنتم بيضةُ البَلد ) قال فضحك بلال وقال له أما في هذا فقد صدقت يترفع عن طلب حاجة لنفسه أخبرني محمد بن عمران الصيرفي وعمي قالا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال حدثنا محمد بن عبد الرحمن عن ابن عائشة قال لما أنشد عبيد بن حصين الراعي عبد الملك بن مروان قوله ( فإنْ رفعتَ بهم رأساً نَعشتَهمُ ... وإن لَقوا مثلَها من قابلٍ فسدُوا ) قال له عبد الملك فتريد ماذا قال ترد عليهم صدقاتهم فتنعشهم فقال عبد الملك هذا كثير قال أنت أكثر منه قال قد فعلت فسلني حاجة تخصك قال قد قضيت حاجتي قال سل حاجتك لنفسك قال ما كنت لأفسد هذه المكرمة حدثني أحمد بن محمد بن سعيد الهمذاني قال حدثنا يحيى بن الحسن العلوي قال حدثنا إسماعيل بن يعقوب عن عثمان بن نمير عن أبيه قال كنت عند العباس بن محمد في يوم شات فدخل عليه موسى بن عبد الله بن حسن فقال له العباس بن محمد يا أبا الحسن ما لي أراك متغيرا فقال له موسى والله إني لأعرق مما كان اليوم قال وما كان يا أبا الحسن فقال ذاك أن أمير المؤمنين أخرج لي وللعباس بن الحسن خمسين ألفا للعباس منها ثلاثون ألفا والله ما أجد لي ولكم مثلا إلا ما قال أخو بني العنبر وجاور هو وراعي الإبل في بني سعد بن زيد مناة فكانوا إذا مدحهم الراعي أخذوا مال العنبري فأعطوه الراعي فقال العنبري في ذلك ( أيُقطَع موْصولٌ ويُوصَل جانب ... أسعدُ بنَ زَيْدٍ عَمرَكِ اللَّه أجملي ) ( فإنَّا بأرْضٍ ها هُنا غير طائل ... متَى تَعلفوا بالرّغم والخسْف نأكُلِ ) قال فقال له العباس إنكم نازعتم القوم ثوبهم وكان عباس وأهله أعوانا له على حذية منكم ومع ذلك فعباس الذي يقول لبنت حيدة المحاربية يرثيها ( أتتْ دُونَ الفِراش فأبشَرْتنا ... مصيبتنا بأخت بني حُدادِ ) ( كأَنَّ الموت لا يعني سِوانا ... عشيّة نحوها يحدُوه حادِي ) ( فإنَّ خليفةَ اللَّهِ المُرَجَّى ... وغيثَ الناس في الإِزَم الشِّدادِ ) ( تطاول ليلُهُ فعداك حتَّى ... كأنّك لا تَثوب إلى مَعادِ ) ( يظَلّ - وحقَّ ذاك - كأَنَّ شَوْكاً ... عليه العينُ تطْرِف من سُهادِ ) ( فليتَ نُفوسَنا حَقًّا فدَتْها ... وكلّ طَرِيف مالٍ أو تِلادِ ) وجندل بن الراعي شاعر وهو القائل وفي شعره هذا صنعة صوت ( طلبْت الهوى الغَوْرِيّ حتى بلغتُه ... وسيّرت في نجدِّيةِ ما كفانَيا ) ( وقلت لِحلمِي لا تنزعنِّي عن الصِّبا ... وللشَّيبِ لا تذْعَر عليّ الغَوانِيَا ) الشعر لجندل بن الراعي والغناء لإسحاق خفيف ثقيل بالبنصر عن عمرو من جامع إسحاق وقال الهشامي وله فيه أيضا ثاني ثقيل وهو لحن مشهور وما وجدناه في جامعه ولعله شذ عنه أو غلط الهشامي في نسبته إليه وقال حبش فيه أيضا لإسحاق خفيف رمل ملاحاة بينه وبين امرأته أخبرني جعفر بن قدامة قال حدثني أبو عبد الله الهشامي قال قال إسحاق قال أبو عبيدة كانت لجندل بن الراعي امرأة من بني عقيل وكان بخيلا فنظر إليها يوما وقد هزلت وتخدد لحمها فأنشأ يقول ( عُقَيْليَّة أمَّا أعالي عِظامِها ... فعُوجٌ وأمّا لحمها فقليل ) فقالت مجيبة له عن ذلك ( عُقَيْلِيَّة حَسْناء أزرَى بلَحْمِها ... طعامٌ لديكَ ابنَ الرّعاء قليل ) فجعل جندل يسبها ويضربها وهي تقول قلت فأجبت وكذبت فصدقت فما غضبك صوت ( أصبح الحبلُ من سَلامةَ ... رَثًّا مُجَذّذَا ) ( حَبَّذا أنتِ يا سلامةُ ... ألفيْن حبَّذَا ) ( ثم أَلفيْن مُضْعفَيين ... وألْفَيْن هكذا ) ( في صميم الأحشاء مِنّي ... وفي القلب قد حَذا ) ( حذوَةً من صَبابةٍ ... تركتْه مُفلَّذاً ) الشعر لعمار ذي كبار والغناء لحكم الوادي هزج بالوسطى عن الهشامي قال الهشامي وذكر يحيى المكي أنه لسليم الوادي لا لحكم أخبار عمار ذي كبار ونسبه هو عمار بن عمرو بن عبد الأكبر يلقب ذا كبار همداني صليبة كوفي وجدت ذلك في كتاب محمد بن عبد الله الحزنبل وكان لين الشعر ماجنا خميرا معاقرا للشراب وقد حدّ فيه مرات وكان يقول شعرا ظريفا يضحك من أكثره شديد التهافت جم السخف وله أشياء صالحة نذكر أجودها في هذا الموضع من أخباره ومنتخب أشعاره وكان هو وحماد الراوية ومطيع بن إياس يتنادمون ويجتمعون على شأنهم لا يفترقون وكلهم كان متهما بالزندقة كان أعشى ضعيف النظر وعمار ممن نشأ في دولة بني أمية ولم أسمع له بخبر في الدولة العباسية ولا كان مع شهوة الناس لشعره واستطابتهم إياه ينتجع أحدا ولا يبرح الكوفة لعشاء بصره وضعف نظره فأخبرني محمد بن مزيد قال حدثنا حماد بن إسحاق عن أبيه عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية وأخبرني به محمد بن خلف بن المرزبان قال حدثنا أحمد بن الهيثم الفراسي قال حدثنا العمري عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية ولفظ الرجلين كالمتقارب قال استقدمني هشام بن عبد الملك في خلافته وأمر لي بصلة سنية وحملان فلما دخلت عليه استنشدني قصيدة الأفوه الأودي ( لنا معاشِرُ لم يَبْنُوا لقومِهِمُ ... وَإن بنَى قومُهُم ما أفسَدُوا عادُوا ) قال فأنشدته إياها ثم استنشدني قول أبي ذؤيب الهذلي ( أمِنَ المَنُونِ ورَيْبها تَتَوجَّعُ ... ) فأنشدته إياها ثم استنشدني قول عدي بن زيد ( أرواحٌ مودِّع أم بُكور ... ) فأنشدته إياها فأمر لي بمنزل وجراية وأقمت عنده شهرا فسألني عن أشعار العرب وأيامها ومآثرها ومحاسن أخلاقها وأنا أخبره وأنشده ثم أمر لي بجائزة وخلعة وحملان وردني إلى الكوفة فعلمت أن أمره مقبل الوليد بن يزيد يجيزه على قصيدته ثم استقدمني الوليد بن يزيد بعده فما سألني عن شيء من الجد إلا مرة واحدة ثم جعلت أنشده بعدها في ذلك النحو فلا يلتفت إليه ولا يهش إلى شيء منه حتى جرى ذكر عمار بن ذي كبار فتشوقه وسأل عنه وما ظننت أن شعر عمار شيء يراد أو يعبأ به ثم قال لي هل عندك شيء من شعره فقلت نعم أنا أحفظ قصيدة له وكنت لكثرة عبثي به قد حفظتها فأنشدته قصيدته التي يقول فيها ( حَبّذا أنتِ يا سلامة ... ألفين حَبّذَا ) ( أشتَهِي مِنْك مِنْك ... مكاناً مُجَنْبَذَا ) ( مُفعَماً في قُبالَةٍ ... بين رُكْنين رَبَّذَا ) ( مُدغماً ذا مناكب ... حسنَ القَدِّ مُحْتذى ) ( رَابِياً ذا مَجَسّةٍ ... أخْنساً قد تَقَنْفَذَا ) ( لم ترَ العينُ مِثلَه ... في منامٍ ولا كَذَا ) ( تامِكاً كالسّنام إذْ ... بُذَّ عنه مُقَذَّذا ) ( مِلء كَفّيْ ضَجِيعِها ... نال منها تَفَخُّذَا ) ( لو تأَمّلتَه دُهِشْتَ ... وعايَنْتَ جِهْبِذَا ) ( طيّب العَرف والمَجسَّة ... واللّمسِ هِرْبِذَا ) ( فأَجَا فِيه فيه فيه ... بأيرٍ كمِثْل ذَا ) ( ليتَ أَيرِي ولَيْت حِرك ... جَمِيعاً تَآخَذَا ) ( فأخذَ ذَا بِشعْر ذَا ... وأخذ ذا بقَعْر ذَا ) قال فضحك الوليد حتى سقط على قفاه وصفق بيديه ورجليه وأمر بالشراب فأحضر وأمرني بالإنشاد فجعلت أنشده هذه الأبيات وأكررها عليه وهو يشرب ويصفق حتى سكر وأمر لي بحلتين وثلاثين ألف درهم فقبضتها ثم قال لي ما فعل عمار فقلت حي كميت قد عشي بصره وضعف جسمه ولا حراك به فأمر له بعشرة آلاف درهم فقلت له ألا أخبر أمير المؤمنين بشيء يفعله لا ضرر عليه فيه وهو أحب إلى عمار من الدنيا بحذافيرها لو سيقت إليه فقال وما ذاك قلت إنه لا يزال ينصرف من الحانات وهو سكران فترفعه الشرط فيضرب الحد فقد قطع بالسياط وهو لا يدع الشراب ولا يكف عنه فتكتب بألا يعرض له فكتب إلى عامله بالعراق ألا يرفع إليه أحد من الحرس عمارا في سكر ولا غيره إلا ضرب الرافع له حدين وأطلق عمارا فأخذت المال وجئته به وقلت له ما ظننت أن الله يكسب أحدا بشعرك نقيرا ولا يسأل عنه عاقل حتى كسبت بأوضع شيء قلته ثلاثين ألفا قال عز علي فذلك لقلة شكرك يا بن الزانية فهات نصيبي منها فقلت لقد استغنيت عن ذلك بما خصصت به ودفعت إليه العشرة آلاف درهم فقال وصلك الله يا أخي وجزاك الله خيرا ولكنها سبب هلاكي وقتلي لأني أشرب بها ما دام معي منها درهم وأضرب أبدا حتى أموت فقلت له لقد كفيتك ذلك وهذا عهد أمير المؤمنين ألا تضرب وأن يضرب كل من يرفعك حدين فقال والله لأنا أشد فرحا بهذا من فرحي بالمال فجزيت خيرا من أخ وصديق وقبض المال فلم يزل يشرب حتى مات وبقيته عنده خبره مع امرأته نسخت من كتاب الحزنبل المشتمل على شعر عمار وأخباره أن عمارا ذا كبار كانت له امرأة يقال لها دومة بنت رباح وكان يكنيها أم عمار وكانت قد تخلقت بخلقه في شرب الشراب والمجون والسفه حتى صارت تدخل الرجال عليها وتجمعهم على الفواحش ثم حجت في إمارة يوسف بن عمر فقال لها عمار ( اتقِي اللَّهَ قد حَجَجْتِ وتُوبي ... لا يكونَنّ ما صَنَعْتِ خَبَالا ) ( ويكِ يا دُومُ لا تَدُومي على الخَمْرِ ... ولا تُدْخِلِي عليكِ الرِّجالا ) ( إنَّ بالمِصْر يوسُفاً فاحذَرِيه ... لا تَصِيري للعالمين نَكالا ) ( وثَقِيفٌ إن تَثْقَفَنْك بحدٍّ ... لم يُساوِ الإِهابُ منك قِبالاَ ) ( قد مضَى ما مَضَى وقد كان ما كان ... وأَودَى الشَّبابُ منكِ فَزالا ) طلق امرأته واشترى جارية حسناء قال فضربته دومة وخرقت ثيابه ونتفت لحيته وقالت أتجعلني غرضا لشعرك فطلقها واشترى جارية حسناء فزادت في أذاه وضربه غيرة عليه فشكاها إلى يوسف بن عمر فوجه إليها بخدم من خدمه وأمرهم بضربها وكسر نبيذها وإغرامها ثياب عمار ففعلوا ذلك وبلغوا منها الرضا لعمار فقال في ذلك عمار ( إنَّ عِرسي لا هَدَاها ... اللَّه بنتٌ لِرَباحِ ) ( كلّ يوم تُفزع الجُلاّس ... منها بالصِّياح ) ( وربُوخٌ حين تُؤْتى ... وتَهَيّا للنِّكاح ) ( كلبُ دَبَّاغٍ عَقُورٌ ... هرَّ من بعد نُباحِ ) ( ولها لونٌ كدَاجِي اللّيل ... من غير صَباحِ ) ( ولسانٌ صارِمٌ كالسّيف ... مَشحوذ النَّواحِي ) ( يقطَع الصّخرَ ويَفْرِيه ... كما تَفْرِي المَساحِي ) ( عجَّل اللَّهُ خلاصي ... من يديها وسَراحِي ) ( تُتعِبُ الصّاحِبَ والجارَ ... وَتبغِي مَنْ تُلاحِي ) ( زَعمتْ أَنِّي بَخيلٌ ... وقدَ أخنَى بي سَماحِي ) ( ورأَت كَفِّيَ صِفْراً ... من تِلادِي ولِقاحِي ) ( كذبَت بِنتُ رَباح ... حين هَمَّت باطِّراحِي ) ( حاتمٌ لو كانَ حَيًّا ... عاش في ظِلِّ جَناحي ) ( ولقد أهلكتُ مالِي ... في ارْتياحِي وسَمَاحي ) ( ثم ما أبقيتُ شَيئاً ... غيرَ زادِي وسِلاحي ) ( وكُمَيْتٍ بين أشطانِ ... جَوادٍ ذي مِراحِ ) ( يسبِقُ الخيلَ بتَقْريبٍ ... وشَدٍّ كالرّياح ) ( ثم غارَتْ وَتَجَنَّت ... وأجدَّت في الصِّياح ) ( لابْتِياعي أملَحَ النِّسوان ... من فَيْءِ الرّماح ) ( دُميةُ المِحْرابِ حُسْناً ... وحَكَت بَيضَ الأداحِي ) ( هِيَ أشهَى لصَدّى ... الظَّمآن من برد القَرَاح ) ( قلتُ : يا دُومَةُ بِينِي ... إنَّ في البَيْنِ صَلاحِي ) ( فأنا اليوم طَلِيق ... من إسارِي ذُو ارتِياح ) ( لستُ عمَّن ظَفِرت كَفِّي ... بها اليوم بِصَاحِ ) ( أنا مَجْنون بِرِيمٍ ... مُخْطَفِ الخصر رَدَاح ) ( مُشبَع الدُّملُجِ والخَلْخال ... جَوَّالِ الوِشاح ) ( إنّ عَمّارَ بنَ عَمْرٍو ... ذا كُبارٍ ذو امْتداح ) ( وهِجاءٍ سارَ في النَّاس ... لا يَمحُوه ماحي ) ( أبداً ما عاش ذُو رُوحٍ ... ونُودِي بالفَلاح ) قال وكان لعمار جار يبيع الرؤوس يقال له غلام أبي داود فطرق عمارا قوم كانوا يعاشرونه ويدعونه فقالوا أطعمنا واسقنا ولم يكن عنده شيء يومئذ فبعث إلى صاحب الرؤوس يسأله أن يوجه إليه بثلاثة أرؤس ليعطيه ثمنها إذا جاءه شيء فلم يفعل فباع قميصا له واشترى للقوم ما يصلحهم وشربوا عنده فلما أصبح القوم خرج إلى المحلة وأهلها مجتمعون فأنشأ يقول ( غلامٌ لأبي داود ... يُدْعى سَالقَ الرُّوسِ ) ( وفي حُجْزَتِه قَمْلٌ ... كأمثال الجَوامِيس ) ( فَمَنْ ذا يشتري الرُّوسَ ... وقد عَشَّشَ في الرُّوس ) ( رُؤوسٌ قد أراحت كَرُؤوسٍ ... في النَّواوِيس ) ( تُحاكِي أوجُهَ المَوتَى ... ورِيحاً كالكَرايِيسِ ) ( يُنقِّي القمل مِنهنَّ ... إذا باع بتَدلِيس ) قال فشاعت الأبيات في الناس فلم يقرب أحد ذلك الرجل ولا اشترى منه شيئا فقام من موضعه ذلك وعطل حانوته ينفق ماله في الخمور والفجور قال وحضر عمار ذو كبار مع همدان لقبض عطائه فقال له خالد بن عبد الله ما كنت لأعطيك شيئا فقال ولم أيها الأمير قال لأنك تنفق مالك في الخمور والفجور فقال هيهات ذلك وهل بقي لي أرب في هذا وأنا الذي أقول ( أَيرُ عمّارٍ أصبحَ اليوم ... رِخْواً قد انْكَسَرْ ) ( أَلِدَاءٍ يُرَى به ... أم من الهمِّ والضّجَر ؟ ) ( أم به أُخذَةٌ فقد ... تُطلِق الأُخذةَ النُّشَر ) ( فلئِن كان قَوَّسَ اليومَ ... أو عَضّه الكِبَر ) ( فَلقِدْماً قَضَى ونال ... من اللَّذَّةِ الوَطَر ) ( ولقد كُنتُ مُنعَطِفاً ... وأبداً قائمَ الذَّكَر ) ( وأَنا اليوم لو أرى ... الحُورَ عندي لما انْتَشَر ) ( ساقطٌ رأْسُه عَلَى ... خُصْيَتَيه به زَوَرْ ) ( كلَّما سُمْتُه النُّهوضَ ... إلى كُوّةٍ عَثَر ) قال فضحك خالد وأمر له بعطائه فلما قبضه قضى منه دينه وأصلح حاله وعاد لشأنه وقال ( أصبحَ اليومَ أيرُ عمّارَ ... قد قامَ واسبَطرّ ) ( أخَذَ الرِّزْقَ فاستَشَاطَ ... قِياماً من البَطَرْ ) ( فَهُو اليومَ كالشِّظاظ ... من النَّعْظ والأشَرْ ) ( يترُك القِرنَ في المَكرّ ... صريعاً وما فَتَرْ ) ( يُشرِعُ العُودَ للطّعان ... إذا انصاع ذو الخَوَرْ ) ( سَلْم نِعْمَ الضَّجيعُ أنت ... لنا ليلَةَ الخَصَرْ ) ( لَيلَةَ الرّعد والبروقِ ... مع الغَيْم والمَطرْ ) ( ليتَنِي قد لَقِيتُكُم ... في خَلاءٍ من البَشَر ) ( فَنَشرنَا حَديثَنا ... عِنْدكم كُلَّ مُنْتَشَرْ ) ( خالياً ليلةَ التّمام ... بسَلْمَى إلى السّحَرْ ) ( فهي كَالدُّرّة النّقِيّةِ ... والوَجهُ كالقَمَرْ ) قال وخرج عمار في بعض أسفاره ومعه رجل يعرف بدندان فلما بلغا إلى الفرات نزلا على قرية يقال لها ناباذ وأرادا العبور فلم يجدا معبرا فقال له دندان أنا أعبرك فنزل معه فلما توسطا الفرات خلى عنه فبعد جهد ما نجا فقال عمار في ذلك ( كادَ دَنْدانُ بأن يجْعلنِي ... يوم نَابَاذَ طَعاماً للسَّمَك ) ( قُلْتُ : دَنْدانُ أغِثْنِي فمضى ... وأنا أعلُو وأهْوِي في الدَّرَك ) ( ولقد أوقَعني في وَرطَة ... شَيَّبَتْ رأْسي وعاينْتُ المَلَكْ ) ( ليْتَ دَنْدانَ بِكَفَّيْ أسدٍ ... أو قتيلاً ثاوِياً فيمَن هَلَكْ ) خبره مع خالد القسري أخبرني أبو الحسن الأسدي قال حدثنا محمد بن صالح بن النطاح عن أبي اليقظان قال دخل عمار ذو كبار على خالد القسري بالكوفة فلما مثل بين يديه صاح به أيها الأمير ( أخلقَتْ رَيْطتِي وأَودَى القَمِيصُ ... وإزاري والبَطنُ طاوٍ خَمِيصُ ) قال خالد فنصنع ماذا ما كل من أخلقت ثيابه كسوناه فقال ( وخَلا منزِلِي فلا شيءَ فيهِ ... لستُ مِمَّن يُخشَى عليه اللُّصوص ) فقال له خالد ذلك من سوء فعلك وشربك الخمر بما تعطاه فقال ( واستحلَّ الأميرُ حَبْسَ عطائي ... خالدٌ إنَّ خالداً لحريصُ ) فقال خالد وقد غضب على ماذا ثكلتك أمك قال ( ذو اجتهاد على العبادة وَالخَيْرِ ... ولكن في رزْقنا تعْويصُ ) فقال على ماذا تقبض العطاء ولا غناء فيك عن المسلمين فقال ( رخّص اللَّه في الكتاب لذِي العُذْر ... وما عنْد خالدٍ ترْخِيص ) فقال أولم نرخِّص لذي العذر أن يقيم ويبعث مكانه رسولا فقال ( كلَّف البائسَ الفقيرَ بديلاً ... هل له عنه معْدل أو مَحيصُ ) ( العليلَ الكبيرَ ذا العرَج الظالعَ ... أعْشى بعيْنه تلْحيصُ ) ( يا أبا الهيْثَم المباركَ جُدْ لي ... بعطاء ما شَانه تنغيصُ ) ( وبرزقِي فإننا قد رزحْنا ... من ضَياعٍ وللعيال بَصيصُ ) ( كبصيصِ الفرْخين ضمهُما العُشُّ ... وغاذِيهما أسيرٌ قنيصُ ) قال فدمعت عينا خالد فأمر له بعطائه وهذه الأبيات من قصيدة يقول فيها ( وترَى البيتَ مُقْشعِرًّا قواءً ... من نواحيه دَوْرقٌ وأصيصُ ) ( وبِجادٌ مُمَزَّقٌ وخِوانٌ ... نَدرت رجْلُه وأُخرى رَهيص ) ( ولقد كان ذَا قوائم مُلسٍ ... تؤْكل اللَّحْمُ فوقهُ والخبِيصُ ) ( شَطَنتْ هكذا شوارِدُ بالمِصْر ... وعَنِّي لم يُلهِهِ التَّرْبيصُ ) ( وتولَّى في كلّ بَحْرٍ وبَرٍّ ... همُّهُ العَرسُ فيه والتّحْصِيص ) ( مُتعالٍ عليَّ آخرُ مَحْبُورٌ ... يُغادِيه بطّةٌ ومَصُوص ) ( وشِواءٌ مُلَهْوَجٌ ورُءُوسٌ ... وصُيودٌ قد حازَها التّقنيص ) ( ثم لا بُدَّ يلتَقي الوزْن بالقِسْطِ ... لدى الحشْر فاحذَروا أن يبُوصُوا ) ( أكثِروا الملك جانباً واجْمعُوه ... سوف يُودِي بذلك التنقِيصُ ) ونسخت من كتاب الحزنبل أن عمارا وقف على عاصم بن عقيل بن جعدة بن هبيرة المخزومي فقال له ( عاصمٌ يا بن عَقِيلٍ ... أفسحُ العالم باعا ) ( وارثُ المجد قديماً ... سامياً يَنمِي ارتفاعا ) ( عن هُبيْرٍ وابنه جَعْدةَ ... فاحتلّ التِّلاعا ) فقال له عاصم أسمعت يا عمار فقل فقد أبلغت في الثناء فقال ( اكْسُني أصلحك اللَّهُ ... قميصاً وصِقاعَا ) ( وأَرِحْني من ثيابٍ ... بالياتٍ تتداعَى ) ( طال ترْقِيعِي لها حتى ... لقد صارتْ رِقاعا ) ( كلُّها لا شيءَ فيها ... غيْر قَمْلٍ تَتساعَى ) ( لم تزلْ تُولي الذي يَرْجوك ... بِرًّا واصطِناعا ) فنزع عاصم جبة كانت عليه وأمر غلامه فجعل تحتها قميصا ودفعها إليه وأمر له بمائتي درهم قصيدة أخرى كثيرة المرذول فأما القصيدة الذالية التي استحسنها الوليد وسأل حمادا الراوية عنها فإنها كثيرة المرذول ولكنها مضحكة طيبة من الشعر المرذول وفيها يقول ( أنتَ وَجْداً بها كَمُغْضِي ... جُفونٍ على القذَى ) ( لم يقل قائلٌ من النَّاس ... قولاً كنحْو ذا ) ( تحت حرٍّ وصلتهُ ... صار شعراً مُهذَّذا ) ( قَوْل عمّار ذِي كُبارٍ ... فيا حُسْنَ ما احْتذَى ) ( علِّلاني بِذكْرها ... واسْقِياني مُحذّذا ) ( تتركُ الأذن سُخنةً ... أُرجُواناً بها خَذَا ) متفرقات من غزله ومن صالح شعره قوله ( شجَا قَلبي غزالٌ ذُو ... دَلالٍ وَاضحُ السُّنَّهْ ) ( أَسيلُ الخدّ مَرْبوبٌ ... وفي مَنْطِقهِ غُنّهْ ) ( أَلا إنَّ الغَواني قد ... بَرَى جِسْمي هَواهُنَّه ) ( وقالوا : شَفّك الحورُ ... هَوًى قلتُ لهم : إنّهْ ) ( وَلكنِّي على ذاكَ ... مُعنًّى بأذاهُنَّه ) ( أراحَ اللَّهُ عمَّاراً ... منَ الدُّنيا وَمِنْهنَّهْ ) ( بَعيداتٍ قَرِيباتٍ ... فلا كان ولا كُنَّهْ ) ( فقد أذهل مِنِّي العَقلَ ... وَالقلبَ شَجَاهُنَّهْ ) ( يُمنِّينَ الأباطِيل ... وَيجْحَدْن الذي قُلْنَهْ ) وقوله أيضا ( يا دُومُ دام صَلاحُكُم ... وسقاكِ ربِّي صَفْوةَ الدِّيَم ) ( من كلّ دانٍ مُسْبل هطلٍ ... مُتتابعٍ سَحٍّ من الرِّهَمِ ) ( تَرِدُ الوحُوشُ إليه سارعةً ... والطيرُ أفواجاً من القُحم ) ( قَلْقَلْتِ من وجْدٍ بكم كبدِي ... وصَدعتِ صَدْعاً غيرَ مُلتئِم ) ( وترَكتِني لعواذلي غَرضاً ... كاللَّحم مُتَّرَكاً على الوَضَم ) ( بَرِحَ الخفاءُ وقد علمتِ به ... إني لحُبِّك غيرُ مُكتتِم ) ( أخفيتُه حتَّى وهَى جَلَدي ... وبرَى فؤادي واسْتباحَ دمي ) ( يا أحسنَ الثّقلَين كلِّهم ... وأتمّ مَنْ يخطُو على قدَم ) ( يَصْبُو الحليمُ لحُسْنِ بهْجتها ... ويزيدُه ألماً إلى ألم ) ( تفترُّ عن سِمْطَيْن من برَدٍ ... مُتفلِّجٍ عن حُسن مبتَسم ) ( كالأُقحوانِ لغِبِّ ساريةٍ ... جُنحَ العشاءِ يُنيرُ في الظُّلَم ) ( حُمّ اللِّثاتِ يَرُوقُ ناظِرُه ... ما عِيبَ من رَوَقٍ ولا قصَم ) ( تُومِي بكفٍّ رَطْبةٍ خُضِبَتْ ... وأناملٍ ينطُفن كالعَنَم ) ( وبمقلةٍ حَوْراءَ ساجيةٍ ... وبحاجِبٍ كالنُّون بالقلَم ) ( والجيدُ منها جِيدُ مُغزِلَةٍ ... تحْنُو إلى خِشْفٍ بذي سَلم ) ( وكدُمْية المحرابِ ماثلة ... والفرْعُ جثْلُ النبت كالْحمَم ) ( وكأنّ ريقتهَا إذا رقدت ... راحٌ يفُوحُ بأطيب النَسَم ) سبب نظمه إحدى قصائده أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الحسن بن أحمد بن طالب الديناري قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال قال حماد الراوية أرسل الوليد بن يزيد إلي بمائتي دينار وأمر يوسف بن عمر بحملي على البريد فقلت يسألني عن مآثر طرفيه قريش أو ثقيف فنظرت في كتابي ثقيف وقريش حتى حفظتهما فلما قدمت عليه سألني عن أشعار بلي فأنشدته منها ما حفظته ثم قال لي أنشدني في الشراب وعنده قوم من وجوه أهل الشام فأنشدته لعمار ذي كبار ( أصبِحِ القوْمَ قهوةً ... في أباريقَ تُحتذَى ) ( من كميْتٍ مُدامةٍ ... حبّذا تلك حبَّذا ) ( تتْرك الأُذْنَ شربُها ... أرجُواناً بها خَذَا ) فقال أعدها فأعدتها فقال لخدمه خذوا آذان القوم قال فأتينا بالشراب فسقينا حتى ما درينا متى نقلنا ثم حملنا فطرحنا في دار الضيفان فما أيقظنا إلا حر الشمس وجعل شيخ من أهل الشام يشتمني ويقول فعل الله بك وفعل أنت صنعت بنا هذا صوت ( شَطَّتْ ولم تُثِبِ الرَّبابْ ... ولعل للكَلِفِ الثّواب ) ( نَعِب الغُرابُ فراعني ... بالبين إذْ نَعب الغُراب ) عروضه من الضرب الثالث من العروض الثالثة من الكامل والشعر لعبد الله بن مصعب الزبيري والغناء لحكم الوادي ثاني ثقيل بإطلاق الوتر في مجرى البنصر عن إسحاق أخبار عبد الله بن مصعب ونسبه عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب شاعر فصيح خطيب ذو عارضة وبيان واعتبار بين الرجال وكلام في المحافل وقد نادم أوائل الخلفاء من بني العباس وتولى لهم أعمالا وكان خرج مع محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب بالمدينة على أبي جعفر المنصور فيمن خرج من آل الزبير فلما قتل محمد استتر عنه وقيل بل كان استتاره مدة يسيرة إلى أن حج أبو جعفر المنصور وآمن الناس جميعا فظهر المهدي يعجب بشعره فيكتبه أخبرني الحرمي بن أبي العلاء قال حدثنا الزبير بن بكار قال حدثنا عمي وفليح بن إسماعيل عن الربيع بن يونس بن محمد بن أبي فروة قال دخلت على المهدي وإذا هو يكتب على الأرض بفحمة قول عبد الله بن مصعب ( فإنْ يَحجُبوها أو يَحُل دُون وصْلِها ... مَقالةُ واشٍ أو وعيدُ أمير ) ( فلن يمنعُوا عينيَّ من دائم البكا ... ولن يُخرجُوا ما قد أجنَّ ضميري ) ( وما بَرِح الواشون حتى بدت لنا ... بُطُونُ الهوى مَقلوبةً لظُهُور ) ( إلى اللَّهِ أشكُو ما أُلاقي من الجوَى ... ومن نَفسٍ يعتَادُنِي وزفيرٍ ) ويقول أحسن والله عبد الله بن مصعب ما شاء وهذه الأبيات تنسب إلى المجنون أيضا وفيها بيتان فيهما غناء ليزيد حوراء خفيف رمل بالوسطى من رواية عمرو بن بانة ويقال إنه للزبير بن دحمان وذكر حبش أن فيهما لإسحاق خفيف ثقيل أول بالوسطى شعره في جارية يهواها أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري قال حدثنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن الحسن بن زياد ونسخت هذا الخبر من كتاب أبي سعد العدوي عن أبي الطرماح مولى آل مصعب بن الزبير من أهل ضرية وروايته أتم أن عبد الله بن مصعب لما ولي اليمامة مر بالحوأب يوما وهو ماء لبني أبي بكر بن كلاب وهو الذي ذكره النبي لعائشة فرأى على الماء جارية منهم فهويها وهويته وقال ( يا جُملُ للوالهِ المستعبر الوصِب ... ماذا تضَمَّن من حُزْنٍ ومن نَصَب ؟ ) ( أنَّى أُتِيحَت له للحَيْن جاريةٌ ... في غير ما أممٍ منها ولا صقَبِ ) ( جاريةٌ من أبي بكر كلِفتُ بها ... ممَّنْ يَحُلُّ من الحصّاءِ والحَوَبِ ) ( من غير معرِفة إلا تعرُّضَها ... حَيناً لذلك إن الحيْن مُجْتَلِبي ) ( قامت تعرَّضُ لي عمداً فقلتُ لها : ... يا عَمْركِ اللَّهِ هل تدْرين ما حسبِي ) ( بَين الحواريّ والصِّدّيق في نَسَبٍ ... ينهى عن الفُحْش مثْلي غيْر مُؤتَشَب ) ( ولا أدِبُّ إلى الجارات مُنسرِباً ... تاللَّه إني لِعزهاةٌ عن الرّيَبِ ) فخطبها وكانت العرب لا تنكح الرجل امرأة شبب بها قبل خطبته فلم يزوجوها إياه فلما يئست منه قالت ( إذا خَدِرت رجلي ذكرتُ ابنَ مُصعبٍ ... فإن قيل عبدُ اللَّهِ خفَّ فُتورُها ) ( ألا ليتَني صاحبتُ ركْبَ ابنِ مصعَبٍ ... إذا ما مطاياه اتلأَبَّتْ صدُورُها ) ( لقد كنتُ أبكِي واليمامةُ دونَه ... فكيف إذا التفّت عليه قصورُها ؟ ) قال أبو الطرماح في خبره وكان لها إخوة شرش غير فقتلوها أخبرنا ببعض هذه القصة ابن عمار عن أحمد بن سليمان بن أبي شيخ عن أبيه عن أبي عمر الزهري وذكر الشعرين جميعا والألفاظ قريبة وأخبرني أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني علي بن محمد النوفلي عن أبي عمر الزهري قال حدثني أبي أن عبد الله بن مصعب خاصم رجلا من ولد عمر بن الخطاب بحضرة المهدي فقال له عبد الله بن مصعب أنا ابن صفية قال هي أدنتك من الظل ولولاها لكنت ضاحيا وكنت بين الفرث والحوية قال أنا ابن الحواري قال له العمري بل أنت ابن وردان المكاري قال وكان يقال إن أمه كانت تهوى رجلا يكري الحميريقال له وردان فكان من يسبه ينسبه إليه وقال فيه الشاعر ( أتُدْعَى حَواريّ الرّسول سَفاهةً ... وأنت لوَردانِ الحمير سَليلُ ) فقال والله لأنا بأبي أشبه من التمرة بالتمرة والغراب بالغراب قال له العمري كذبت وإلا فأخبرني ما بال آل الزبير ثط اللحى وأنت ألحى وما لهم سمرا جعادا وأنت أحمر سبط قال ألي تقول هذا يا بن قتيل أبي لؤلؤة قال العمري يا بن قتيل ابن جرموز على ضلالة أتعيرني أن قتل أبي رجل نصراني وهو أمير المؤمنين قائما يصلي في محرابه وقد قتل أباك رجل مسلم بين الصفين يدفعه عن باطل ويدعوه إلى حق فأنا أقول رحم الله ابن جرموز فقل أنت رحم الله أبا لؤلؤة ثم أقبل على المهدي فقال ألا تسمع يا أمير المؤمنين ما يقول عائد الكلب في عمر بن الخطاب وقد عرفت ما كان بينه وبين ابيك العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله من المودة وتعلم ما بين جده عبد الله بن الزبير وبين جدك عبد الله بن العباس من العداوة فأعن يا أمير المؤمنين أولياءك على أعدائك فوثب رجل من آل طلحة فقال له يا أمير المؤمنين ألا تكف هذين السفيهين عن تناول أعراض أصحاب رسول الله وتكلم الناس بينهما وتوسطوا كلامهما وأكثروا فأمر المهدي بكفهما والتفريق بينهما لقب عائد الكلب لبيتين قالهما قال النوفلي وكان عبد الله بن مصعب يلقب عائد الكلب لقوله ( ما لي مَرِضْتُ فلم يَعُدني عائِدٌ ... منكم ويَمْرضُ كَلبُكم فأَعود ؟ ) ( وأشدُّ من مَرضِي عَلَيّ صُدُودُكم ... وصُدودُ عَبْدِكُم عَلَيَّ شَديد ) فلقب عائد الكلب قال ابن عمار هكذا حفظي عن النوفلي وقد يزيد القول وينقص لحكم الوادي في هذين البيتين اللذين أولهما ( مَا لِي مَرضتُ فلم يَعُدْني عائدٌ ... منكم ويمرض كلْبُكم فأَعُودُ ) لحنان خفيف ثقيل بالوسطى عن إبراهيم وحبش ورمل بالوسطى عن الهشامي أخبرنا أحمد بن عبيد الله بن عمار قال حدثني أحمد بن سليمان بن أبي شيخ قال أنشد الأحيحي المهدي قصيدة مدحه بها وكان عبد الله بن مصعب حاضرا فحسده على إقبال المهدي عليه وكان المهدي يحبه فجعل يخاطب المهدي ويحدثه فقال له أمسك فما يشغلني كلامك عنه فقطع الأحيحي الإنشاد ثم أقبل على المهدي فقال له ( عبدُ منافٍ أبُو أُبوَّتِنَا ... وعَبدُ شمْس وهاشمٌ تَوَمُ ) ( بَحران خَرّ العوَّامُ بَيْنَهُما ... فالْتَطَما والبِحارُ تَلْتَطم ) فقال له المهدي كذاك هو فدع هذا المعنى وعد إلى ما كنت فيه وخجل عبد الله فما انتفع بنفسه يومئذ قال ابن عمار فحدثني بعض شيوخنا قال كنت عند مصعب بن عبد الله الزبيري يوما وقد جرى ذكر الأحيحي فأنشدته هذين البيتين فتغير لونه ثم قال لي نعم قد كان خاطب أبي بهما فأمضه فلما قمنا عنه قال لي ويحك أتنشد رجلا كنت تتعلم منه وتأخذ عنه هجاء في أبيه فقلت له دعني فإني أحببت أن أغض من كبره قال وكان في مصعب بعض ذلك صوت ( زارت سُلَيْمى وكان الحيُّ قد رقَدا ... ولم تَخفْ من عدو كاشِحٍ رصَدَا ) ( لقد وَفَت لك سَلمَى بالذي وَعدَت ... لكنَّ عُقْبَةَ لم يُوفِ الذي وَعَدَا ) عروضه من البسيط الشعر لابن مفرغ الحميري والغناء لابن سريج رمل بالوسطى عن أحمد بن المكي وفيه لعواد لحن من كتاب إبراهيم غير مجنس وقد تقدمت أخبار ابن مفرغ مستقصاة فيما قبل هذا من الكتاب فاستغنى عن إعادتها ها هنا وإعادة شيء منها إذ كان قد مضى منها ما فيه كفاية ولله الحمد صوت ( ما شأن عَيْننِك طَلَّةُ الأجفان ... مِمّا تَفيض مريضة الإِنسانِ ) ( مَطْروفَةٌ تَهمِي الدّموعَ كأنّها ... وشَلٌ تَشَلْشَل دائِمُ التَّهتانِ ) الشعر لعمارة بن عقيل والغناء لمتيم ثاني ثقيل بالوسطى أخبار عمارة ونسبه عمارة هو ابن عقيل بن بلال بن جرير بن عطية بن الخطفي وقد تقدم نسبه ونسب جده في أول الكتاب ويكنى عمارة أبا عقيل شاعر مقدم فصيح وكان يسكن بادية البصرة ويزور الخلفاء في الدولة العباسية فيجزلون صلته ويمدح قوادهم وكتابهم فيحظى منهم بكل فائدة وكان النحويون بالبصرة يأخذون عنه اللغة ختمت الفصاحة به أخبرني علي بن سليمان الأخفش قال سمعت محمد بن يزيد يقول ختمت الفصاحة في شعر المحدثين بعمارة بن عقيل أخبرني محمد بن عمران الصيرفي والحسن بن علي والصولي قالوا حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال سمعت سلم بن خالد بن معاوية بن أبي عمرو بن العلاء يقول كان جدي أبو عمرو يقول ختم الشعر بذي الرمة ولو رأى جدي عمارة بن عقيل لعلم أنه أشعر في مذاهب الشعراء من ذي الرمة قال العنزي ولعمري لقد صدق وسمعت سلما يقول هو أشد استواء في شعره من جرير لأن جريرا سقط في شعره وضعف وما وجدوا لعمارة سقطة واحدة في شعره قال العنزي وحدثني أحمد بن الحكم بن بشر بن أبي عمرو بن العلاء قال أتيت عمارة أسأله عن شيء أكتبه عنه فقال لي من أنت فقلت أنا ابن الحكم بن بشر بن أبي عمرو بن العلاء فقال لي كان أبوك صديقي ثم أنشدني ( بَنَى لكم العَلاءُ بِناءَ صِدْقٍ ... وتَعْمُرُ ذَاكَ يا حَكَم بنَ بِشْر ) ( فما مَدْحي لكم لأُصِيب مَالاً ... ولكن مَدْحُكُم زَيْنٌ لِشعْرِي ) كان هجاء خبيث اللسان حدثني محمد بن يحيى الصولي قال حدثنا أبو ذكوان قال حدثنا أبو محلم قال هجا عمارة بن عقيل امرأة ثم أتته في حاجة بعد ذلك فجعل يعتذر إليها فقالت له خفض عليك يا أخي فلو ضر الهجاء أحدا لقتلك وقتل أباك وجدك قال مؤلف هذا الكتاب وكان عمارة هجاء خبيث اللسان فهجا فروة بن حميصة الأسدي وطال التهاجي بينهما فلم يغلب أحدهما صاحبه حتى قتل فروة وأخبرني محمد بن يحيى قال : حدثنا أبو ذكوان قال قال لي عمارة ما هاجيت شاعرا قط إلا كفيت مؤونته في سنة أو أقل من سنة إما أن يموت أو يقتل أو أفحمه حتى هاجاني أبو الرديني العكلّي فخنقني بالهجاء ثم هجا بني نمير فقال ( أتوعِدُني لِتَقْتُلني نُمَيْرٌ ... مَتَى قَتَلَتْ نُمَيْرٌ مَنْ هجاها ؟ ) فكفانيه بنو نمير فقتلوه فقتلت بنو عكل وهم يومئذ ثلاثمائة رجل أربعة آلاف رجل من بني نمير وقتلت لهم شاعرين رأس الكلب وشاعرا آخر بينه وبين فروة بن حميصة أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم العبدي قال حدثني عمارة بن عقيل قال كنت جالسا مع المأمون فإذا أنا بهاتف يهتف من خلفي ويقول ( نَجَّى عُمارةَ منّا أَنَّ مُدَّتَه ... فيها تراخٍ ورَكْضُ السَّابح النَّقِلِ ) ( ولو ثقِفْناه أوهَيْنا جَوانِحَه ... بذابلٍ من رِماح الخَطِّ مُعْتَدِلِ ) ( فإنّ أعناقَكم للسَّيفِ مَحْلَبَةٌ ... وإنّ مالَكم المرعِيَّ كالهَملِ ) ( إذ لا يُوَطِّن عبدُ اللَّه مُهْجَتَه ... على النِّزال ولا لِصّا بَني حَمَلِ ) قال وهذا الشعر لفروة بن حميصة في قال فدخلني من ذلك ما الله يعلمه وما ظننت أن شعر فروة وقع إلى من هنالك ثم خرج علي بن هشام من المجلس وهو يضحك فقلت يا أبا الحسن أتفعل بي مثل هذا وأنا صديقك فقال ليس عليك في هذا شيء فقلت من أين وقع إليك شعر فروة قال وهل بقي كتاب إلا وهو عندي فقلت يا أمير المؤمنين أهجى في دارك وبحضرتك فضحك فقلت يا أمير المؤمنين أنصفني فقال دع هذا وأخبرني بخبر هذا الرجل وما كان بينك وبينه فأنشدته قصيدتي فيه فلما انتهيت إلى قولي ( ما فِي السَّوية أن تَجُرّ عليهم ... وتكُونَ يوم الرَّوع أوّلَ صادر ) أعجب المأمون هذا البيت فقال لي المأمون ألهذه القصيدة نقيضة قلت نعم قال فهاتها فقلت له أؤذي سمعي بلساني فقال علي ذلك فانشدته إياها فلما بلغت إلى قوله ( وابنُ المَراغَة جاحِرٌ من خَوفِنا ... بادٍ بمنزلَةِ الذّليلِ الصّاغِر ) ( يَخْشَى الرّياحَ بأن تكونَ طليعةً ... أو أن تَحُلّ به عقوبةُ قادِر ) فقال لي أوجعك يا عمارة فقلت ما أوجعته به أكثر بيت من شعره قتل فروة أخبرني محمد قال حدثني الحسن قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم قال حدثني عمارة قال إنما قتل فروة قولي له ( ما في السَّوِيَّة أن تَجُرَّ عليهم ... وتكون يوم الرَّوع أوَّلَ صادِرِ ) فلما أحاطت به طيء وقد كان في معاذ وموئل وكان كثير الظفر بهم كثير العفو عمن قدر عليه منهم فقالوا له والله لا عرضنا لك ولا أوصلنا إليك سوءاً فامض لطيتك ولكن الوتر معك فإن لنا فيهم ثأرا فقال فروة فأنا إذا كما قال ابن المراغة ( ما فِي السَّوِيَّة أن تَجُرّ عليهمُ ... وتكُونَ يَومَ الرَّوع أوّلَ صادر ) فلم يزل يحمي أصحابه وينكي في القوم حتى اضطرهم إلى قتله وكان جمعهم أضعاف جمعه أخبرني محمد قال حدثني الحسن قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم قال قيل لعمارة أقتلت فروة فقال والله ما قتلته ولكني أقتلته أي سببت له سببا قتل به بالغ في وصف كرمه فلامه المأمون أخبرني محمد قال حدثنا الحسن قال حدثني محمد بن عبد الله قال حدثني عمارة قال رحت إلى المأمون فكان ربما قرب إلي الشيء من الشراب أشربه بين يديه وكان يأمر بكتب كثير مما أقوله فقال لي يوما كيف قلت قالت مفداة ونظر إلي نظرا منكرا فقلت يا أمير المؤمنين مفداة امرأتي وكانت نظرت إلي وقد افتقرت وساءت حالي قال فكيف قلته فأنشدته ( قالت مُفدّاةُ لمَّا أَنْ رَأَت أَرَقِي ... والهمُّ يَعْتادُني من طيفِه لَمَمُ ) ( أنهيْت مالكَ في الأدنَين آصِرةً ... وفي الأباعد حتى حَفّكَ العَدَمُ ) ( فاطلب إليهم تَجِد ما كُنْت من حَسَنٍ ... تُسْدِي إليهم فقد ثابَتْ لهم صِرَمُ ) ( فَقُلْتُ : عاذلتيِ أكثرتِ لائِمتي ... ولم يَمُت حاتِمٌ هُزْلاً ولا هَرِمُ ) قال فنظر إلي المأمون مغضبا وقال لقد علت همتك أن ترقى بنفسك إلى هرم وقد خرج من ماله في إصلاح قومه عمرو بن مسعدة يصله فيمدحه أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني العنزي قال حدثني محمد بن عبد الله قال حدثنا عمارة قال استشفعت بعلي بن هشام في أن يؤذن لي في الانصراف فقال ما أفعل ذلك لأنك تنشد أمير المؤمنين إذا خلوت به وتخبره عن وقائعك وفعالك ثم تخبره أنك مظلوم وقد أخذ هذا أمير المؤمنين عليك ثم تذاكرنا فقال أما تذكر أبا الرازي حين أوقع بقومك وأقعوا به ثم تدخل على أمير المؤمنين مغضبا فتقول ( عَلامَ نِزارُ الخَيْل تَفْأى رُؤوسَنا ... وقد أسلَمَتْ مع النَّبِيّ نِزارُ ) وهي أبيات قالها حين قتلهم أبو الرازي وكان عمارة قد خرج من عند المأمون فنظر إلى رؤوس أصحابه فدخل فأنشد هذا البيت قال وأكره أن تتبعك نفسي أمير المؤمنين فيجد على من كلمه فيك فعليك بعمرو بن مسعدة وأبي عباد فإنهما يكتبان بين يدي أمير المؤمنين ويخلوان معه ويمازحانه فأتيت أبا عباد فذكرت له التشوق إلى العيال وسألته الاستئذان فصاح في وجهي وقال مقامك أحب إلى أمير المؤمنين من ظعنك وما أفعل ما يكرهه فذهبت من فوري إلى عمرو بن مسعدة فدخلت عليه وهو يختضب فشكوت إليه الأمر فقال يا أبا عقيل لقد أذنت لك في ساعة ما أظهر فيها لأحد ولي حاجة قلت وما هي قال ألف درهم تجعل لك في كيس تشتري بها عبدا يؤنسك في طريقك ولست أقصر فيما تحب فتلعثمت ساعة وتلكأت فقال حقا لئن لم تأخذها لا كلمتك فأخذتها وانصرفت وأنا أقول ( عمرُو بنُ مسعدةَ الكريمُ فَعالُه ... خَيرٌ وأَمجدُ من أَبي عبّادِ ) ( من لم يُزَمْزِمْ والدَاه ولم يكُنْ ... بالرَّيّ عِلْجَ بِطانَة وحصَادِ ) ( بَصَّرتُه سُبُلَ الرَّشادِ فما اهْتَدى ... لِسَبِيل مكرُمةٍ ولا لرَشَادِ ) ( وعرفت إذ عَلِقَت يدِي بِعِنَانِه ... أنِّي عَلِقت عِنان غير جَوادِ ) ( لو كان يعلم إذ يُشيحُ تَحَرُّقي ... في كلِّ مكرمةٍ ولين قيادِي ) ( عرف المُصَدَّقُ رأيُه أني امرؤٌ ... يُفنِي العطاءُ طَرَائفي وتلادِي ) ( وأصُون عِرْضِي بالسَّخاء وإن غدت ... غُبْر المحاجِر شُعَّثاً أولادِي ) أخبرني محمد بن يحيى قال حدثنا العنزي قال حدثني سلم بن خالد قال أنشد عمارة قصيدة له فقال فيها الأرياح والأمطار فقال له أبو حاتم السجستاني هذا لا يجوز إنما هو الأرواح فقال لقد جذبني إليها طبعي فقال له أبو حاتم قد اعترضه علمي فقال أما تسمع قولهم رياح فقال له أبو حاتم هذا خلاف ذلك قال صدقت ورجع يمدح الواثق حدثنا محمد بن يحيى قال حدثنا الحسن قال حدثنا العنزي قال قدم عمارة البصرة أيام الواثق فأتاه علماء البصرة وأنا معهم وكنت غلاما فأنشدهم قصيدة يمدح فيها الواثق فلما بلغ إلى قوله ( وبقِيتُ في السَّبعين أنهضُ صاعداً ... فمَضَى لداتي كلُّهم فَتشعّبُوا ) بكى على ما مضى من عمره فقالوا له أملها علينا قال لا أفعل حتى أنشدها أمير المؤمنين فإني مدحت رجلا مرة بقصيدة فكتبها مني رجل ثم سبقني بها إليه ثم خرج إلى الواثق فلما قدم أتوه وأنا معهم فأملاها عليهم ثم حدثهم فقال أدخلني إسحاق بن إبراهيم على الواثق فأمر لي بخلعة وجائزة فجاءني بهما خادم فقلت قد بقي من خلعتي شيء قال وما بقي قلت خلع علي المأمون خلعة وسيفا فرجع إلى الواثق فأخبره فأمره بإدخالي فقال يا عمارة ما تصنع بسيف أتريد أن تقتل به بقية الأعراب الذين قتلتهم بمقالك قلت لا والله يا أمير المؤمنين ولكن لي شريك في نخيل لي باليمامة ربما خانني فيه فلعلي أجربه عليه فضحك وقال نأمر لك به قاطعا فدفع إلي سيفا من سيوفه أخبرنا الصولي قال حدثني يزيد بن محمد المهلبي قال حدثني النخعي قال لما قدم عمارة إلى بغداد قال لي كلم لي المأمون وكان النخعي من ندماء المأمون قال فما زلت أكلمه حتى أوصلته إليه فأنشده هذه القصيدة ( حتّامَ قلبُك بالحِسانِ مُوكل ... كلِفٌ بهِنَّ وهنَّ عنهُ ذُهّلُ ) فلما فرغ قال لي يا نخعي ما أدري أكثر ما قال إلا أن أقيسه وقد أمرت له لكلامك فيه بعشرين ألف درهم يقدم خالد بن يزيد على تميم بن خزيمة حدثني الصولي قال حدثني الحسن قال حدثني محمد بن عبد الله بن آدم العبدي قال كانت بنو تميم اجتمعت ببغداد على عمارة حين قال شعره الذي يقدم فيه خالد بن يزيد على تميم بن خزيمة فقالوا له قطع الله رحمك وأهانك وأذلك أتقدم غلاما من ربيعة على شيخ من بني تميم بن خزيمة وهو مع ذلك من بيت تميم ولاموه فقال ( صَهُوا يا تَميمُ إنّ شَيبانَ وَائل ... بطرفِهم عنكم أضنُّ وأرغَبُ ) ( أأن سُمْت بِرْذَوناً بطرفٍ غَضِبتُم ... عليّ وما في السُّوقِ والسَّوْم مَغضَبُ ) ( فإن أكرمَتْ أو أَنجبَتْ أُمُّ خالدٍ ... فزند الرِّياحيِّين أورى وأَثقب ) قال ثم حدثنا عمارة قال قال لي علي بن هشام وفيه عصبية على العرب قد علمت مكانك مني وقيامي بأمرك حتى قربك أمير المؤمنين المأمون والمائة الألف التي وصلتك أنا سببها وها هنا من بني عمك من هو أقرب إليك وأجدر أن يعينني على ما قبل أمير المؤمنين لك فقلت ومن هو قال تميم بن خزيمة قال قلت إيه قال وخالد بن يزيد بن مزيد قلت سآتيهما فبعث معي شاكريا من شاكريته حتى وقف بي على باب تميم فلما نظر إلي غلمانه أنكروا أمري فدنا الشاكري فقال أعلموا الأمير أن على الباب ابن جرير الشاعر جاء مسلما فتوانوا وخرج غلام أعرف أنه غلام الأمير فحجبني فدخلني من ذاك ما الله به عالم فقلت للشاكري أين منزل خالد فقال اتبعني فما كان إلا قليلا حتى وقف بي على بابه ودخل بعض غلمانه يطلب الإذن فما كان إلا قليلا حتى خرج في قميصه وردائه يتبعه حشمه فقال لي بعض القوم هذا خالد قد أقبل إليك قال فأردت أن أنزل إليه فوثب وثبة فإذا هو معي آخذ بعضدي يريد أن أتكىء عليه فجعلت أقول جعلني الله فداك أنزل فيأبى حتى أخذ بعضدي فأنزلني وأدخلني وقرب إلي الطعام والشراب فأكلت وشربت وأخرج إلي خمسة آلاف درهم وقال يا أبا عقيل ما آكل إلا بالدين وأنا على جناح من ولاية أمير المؤمنين فإن صحت لي لم أدع أن أغنيك وهذه خمسة أثواب خز قد آثرتك بها كنت قد ادخرتها قال عمارة فخرجت وأنا أقول ( أَأتركُ إن قلَّت دَراهمُ خالدٍ ... زِيارَته إني إذاً للئِيمُ ) ( فَليت بثوْبيه لنا كان خالدٌ ... وكان لبكر بالثّراء تَميمُ ) ( فيصبِح فينا سَابقٌ مُتمَهِّلٌ ... ويُصبِح في بكرٍ أغمُّ بَهيمُ ) ( فقد يُسْلِع المرءُ اللئيمُ اصطناعُه ... ويعتلُّ نقدُ المرء وهو كريم ) قال اليزيدي يسلع أي تكثر سلعته والسلعة المتاع أخبرني الصولي قال حدثني الحسن قال حدثني محمد بن عبد الله قال حدثني عمارة قال لما بلغ خالد بن يزيد هذا الشعر قال لي يا أبا عقيل أبلغك أن أهلي يرتضون مني ببديل كما رضيت بنو تميم بتميم بن خزيمة فقلت إنما طلبت حظ نفسي وسقت مكرمة إلى أهلي لو جاز ذلك فما زال يضاحكني أخبرني الصولي قال حدثنا الحسن قال سمعت عبد الله بن محمد النباحي يقول سمعت عمارة يقول ما هجيت بشيء أشد علي من بيت فروة ( وابنُ المراغَةِ جاحِرٌ مِنْ خَوْفِنا ... بالوَشْم منزلةَ الذَّلِيلِ الصَّاغر ) أخبرني محمد بن يحيى قال حدثني الحسن بن عليل العنزي قال حدثني النباجي قال لما قال عمارة يمدح خالدا ( تأَبى خَلائِقُ خَالدٍ وفَعَالُه ... إلاَّ تجنّبَ كلّ أمرٍ عائبِ ) ( فإذا حضَرْت البابَ عند غدائهِ ... أَذِنَ الغَداءُ لنا برَغْم الحاجِب ) لقيه خالد فقال له أوجبت والله علي حقا ما حييت أجود شعره ما هجا به الأشراف قال العنزي وسمعت سلم بن خالد يقول قلت لعمارة ما أجود شعرك قال ما هجوت به الأشراف فقلت ومن هم قال بنو أسد وهل هاجاني أشرف من بني أسد قال العنزي وحدثني أبو الأشهب الأسدي من ولد بشر بن أبي خازم قال لما أنشد فروة بن حميصة قول عمارة فيه ( ما فِي السَّوِيّة أن تجرّ عليهمُ ... وتكون يوم الرَّوع أوَّل صادر ) قال والله ما قتلني إلا هذا البيت فلما تكاثرت عليه الخيل يوم قتل قيل له انج بنفسك قال كلا والله لا حققت قول عمارة فصبر حتى قتل وكان فروة من أحسن الناس وجها وشعرا وقدا لو كان امرأة لانتحرت عليه بنو أسد هجاؤه أكرم هجاء أخبرني محمد بن يحيى الصولي قال حدثني العنزي قال حدثني علي بن مسلم قال أنشدت يعقوب بن السكيت قصيدة عمارة التي رد فيها على رجاء بن هارون أخي بني تيم اللات بن ثعلبة التي أولها ( حَيِّ الدِّيارَ كأنّها أسطارُ ... بالوَحْي يَدْرُس صُحْفَها الأحْبارُ ) ( لَعِبَ البِلَى بجديدها وتنفّسَتْ ... عرصاتِها الأرْواحُ والأمطارُ ) قال أبو علي وهذا البيت الذي أخطأ فيه عمارة فقال الأرياح فرده عليه أبو حاتم السجستاني وهو يتغيظ فلما بلغ إلى قوله ( وجموع أسْعد إذ تَعضُّ رؤوسَهم ... بِيضٌ يَطِير لوِقعهِنَّ شَرارُ ) ( حتى إذا عَزمُوا الفِرارَ وأسلموا ... بِيضاً حواصِنَ ما بهنَّ قرارُ ) ( لحِقت حَفيظتُنا بهنّ ولم نزَلْ ... دُونَ النِّسَاء إذا فزِعْن نَغارُ ) قال ابن السكيت لله دره ما سمعت هجاء قط أكرم من هذا أخبرني محمد بن يحيى قال : وفد عمارة على المتوكل فعمل فيه شعرا فلم يأت بشيء ولم يقارب وكان عمارة قد اختل وانقطع في آخر عمره فصار إلى إبراهيم بن سعدان المؤدب وكان قد روى عنه شعره القديم كله فقال له أحب أن تخرج إلي أشعاري كلها لأنقل ألفاظها إلى مدح الخليفة فقال لا والله أو تقاسمني جائزتك فحلف له على ذلك فأخرج إليه شعره وقلب قصيدة إلى المتوكل وأخذ بها منه عشرة آلاف درهم وأعطى إبراهيم بن سعدان نصفها والله أعلم صوت ( تَفرَّق أَهلي من مُقيمٍ وظاعنٍ ... فَلِللَّه دَرّي أّيّ أهْليَ اتْبَعُ ) ( أَقام الّذينَ لا أُبالِي فِرَاقَهم ... وَشَطّ الذين بَينَهم أتوَقَّعُ ) الشعر للمتلمس والغناء لمتيم خفيف ثقيل بالوسطى أخبار المتلمس ونسبه لقبه واسمه ونسبه المتلمس لقب غلب عليه ببيت قاله وهو ( فهذا أوانُ العِرض جُنّ ذُبابهُ ... زَنابِيرُه والأزرقُ المتلمِّسُ ) واسمه جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن دوفن بن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار قال ابن حبيب فيما أخبرنا به عبد الله بن مالك النحوي عنه ضبيعات العرب ثلاث كلها من ربيعة ضبيعة بن ربيعة وهم هؤلاء ويقال ضبيعة أضجم وضبيعة بن قيس بن ثعلبة وضبيعة بن عجل بن لجيم قال وكان العز والشرف والرئاسة على ربيعة في ضبيعة أضجم وكان سيدها الحارث بن الأضجم وبه سميت ضبيعة أضجم وكان يقال للحارث حارث الخير بن عبد الله بن دوفن بن حرب وإنما لقب بذلك لأنه أصابته لقوة فصار أضجم ولقب بذلك ولقبت به قبيلته ثم انتقلت الرئاسة عن بني ضبيعة فصارت في عنزة وهو عامر بن أسد بن ربيعة بن نزار وكان يلي ذلك فيهم القدار أحد بني الحارث بن الدول بن صباح ابن عتيك بن أسلم بن يذكر بن عنزة ثم انتقلت الرئاسة عنهم فصارت في عبد القيس فكان يليها فيهم الأفكل وهو عمرو هنا انقطع ما ذكره الأصفهاني رحمه الله وروى أبو عبيدة وغيره هذا الخبر على نص ما مضى عن ابن حبيب وقال الأفكل هو عمرو بن الجعيد بن صبرة بن الديل بن شن بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة ثم انتقل الأمر إلى النمر بن قاسط فكان يلي ذلك منهم عامر الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله ابن النمر وإنما سمي الضحيان لأنه كان يقعد بهم في الضحى فيقضي بينهم ثم انتقل الأمر إلى بني يشكر بن بكر بن وائل فكان يلي ذلك منهم الحارث بن غبر بن غنم بن حبيب بن كعب بن يشكر ثم انتقل الأمر إلى بني تغلب فصار يليه ربيعة بن مرة بن الحارث بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب ثم وليه بعده ابنه كليب فكان من أمره في البسوس ما كان فاختلفت أمورهم وذهبت رياستهم المتلمس وأخواله وكان المتلمس في أخواله بني يشكر ويقال إنه ولد فيهم ومكث فيهم حتى كادوا يغلبون على نسبه فسأل الملك وهو عمرو ابن هند مضرط الحجارة وهو محرق وإنما سمي محرقا لأنه حرق باليمامة مائة من تميم فسأل الملك يوما وهو عنده الحارث بن التوأم اليشكري عن المتلمس وعن نسبه فأراد أن يدعيه فقال المتلمس في ذلك ( تُعيِّرنِي أُمِّي رجالٌ ولن تَرَى ... أَخَا كَرمٍ إلاَّ بأَنْ يَتَكَرَّمَا ) ( وَمَن كان ذا عرْض كريم وَلَمْ يَصُنْ ... له حَسباً كان اللَئيمَ المُذَمّما ) ( أَحارِث إنْالو تُساط دماؤنا ... تَزَايَلْن حتى لا يَمَسَّ دمٌ دَمَا ) ( أَمُنْتفِياً مِن نَصر بُهْثَة خلتني ... أَلاَ إنّني مِنْهُمْ وإنْ كُنْتُ أَيْنما ) بهثة ابن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة ( وإنّ نَصابي إنْ سَأَلتَ وَأُسْرَتي ... مِن الناس قومٌ يَقْتَنون المُزَنَّما ) ( لذي الحِلْم قَبْل اليوم ما تُقَرع العَصا ... وما عُلِّم الإِنسانُ إلا لِيَعْلَمَا ) ( فلو غَيْر أَخوالي أَرادُوا نَقيصَتي ... جَعَلْتُ لهم فَوْقَ العَرانِين مِيسَما ) ( وَهَلْ لِيَ أُمٌّ غَيْرُها إن ذَكْرتُها ... أَبَى اللَّهُ إلا أن أكون لها ابْنَمَا ) ( وقد كُنتَ تَرْجُو أن أَكونَ لِعَقْبكم ... زَنِيماً فما أُجْرِرْتُ أَن أَتَكلَّما ) وقال محمد بن سلام المتلمس هو جرير بن عبد المسيح بن عبد الله بن ربيعة بن دوفن بن حرب وسائر النسب على ما تقدم قال والمتلمس خال طرفة بن العبد وكان طرفة قد هجاه وقال ابن قتيبة هو المتلمس بن عبد العزى ويقال ابن عبد المسيح من بني ضبيعة ابن ربيعة ثم من بني دوفن وأخواله بنو يشكر واسمه جرير وقال أبو حاتم عن الأصمعي اسمه جرير بن زيد ويقال اسمه عمرو بن الحارث ويقال اسمه عبد المسيح بن جرير المتلمس من الشعراء المقلين المفلقين والمتلمس من شعراء الجاهلية المقلين المفلقين وجعله ابن سلام في الطبقة السابعة من شعراء الجاهلية وقرن به سلامة بن جندل وحصين بن الحمام والمسيب بن علس وقال ابن قتيبة قال أبو عبيدة واتفقوا على أن أشعر المقلّين في الجاهلية ثلاثة المتلمس والمسيب ابن علس وحصين بن الحمام المري قال ابن قتيبة وكان للمتلمس ابن يقال له عبد المنان أدرك الإسلام وكان شاعرا وهلك ببصرى ولا عقب له وقال أبو عبيدة كانت ضبيعة بن ربيعة رهط المتلمس حلفاء لبني ذهل بن ثعلبة بن عكابة فوقع بينهم نزاع ومخاصمة فقال المتلمس يعاتب بني ذهل ( أَلم تَرَ أَنَّ المَرْءَ رَهْنُ مَنيَّة ... صَرِيعٌ لعافِي الطَير أَو سَوفَ يُرْمَسُ ) ( فلا تَقْبلَنْ ضَيْماً مخَافَةَ مِيتة ... ومُوتَنْ بها حُرًّا وجلْدُك أَملس ) ( فمن حَذرِ الأيام ما حزَّ أَنفَه ... قَصِيرٌ وخاض الموتَ بالسيف بَيْهَسُ ) ( نَعامَةُ لمَّا صَرَّعَ القَومُ رَهْطَه ... تَبَيَّن في أَثوابه كيف يَلْبَسُ ) ( وما الناسُ إلا ما رَأَوْا وَتَحدَّثوا ... وما العَجْزُ إلا أن يُضامُوا فَيجْلِسوا ) ( أَلم تَرَ أَن الجَوْنَ أَصْبح راسياً ... تُطِيف به الأيامُ ما يَتَأَيَّسُ ) الجون جبل أو حصن جعله جونا للونه ما يتأيس أي لا يؤثر فيها الدهر يقول فليس الإنسان كالحجارة والجبال التي لا تؤثر فياه الأيام ولكنه غرض للحوادث فلا ينبغي له أن يقبل ضيما رجاء الحياة وقال الرياشي الجون حصن اليمامة ويقال إنه أعيا تبعا ( عَصَى تُبَّعاً أَيام أُهْلكت القُرَى ... يُطَان عليه بالصَّفيح ويُكْلَسُ ) ( هَلُمَّ إليها قد أُثيرتْ زُروعُها ... وَدَارتْ عليهَا المَنْجُنونَ تَكَدَّس ) ( وذاك أَوان العِرْص جُنَّ ذُبابُه ... زَنَابيرُه والأزْرَق المُتلمِّسُ ) ( فإنْ تُقبلوا بالوُدِّ نُقْبِلْ بمثْله ... وإلا فإنَّا نَحْنُ آبَى وَأَشْمسُ ) ( يكونُ نَذِير مِن وَرائيَ جُنَّةٌ ... وَيَمْنعني منهمْ جُلَيُّ وَأَحْمَسُ ) نذير ابن بهثة بن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس بن ضبيعة وقال أبو عمرو نذير ابن ضبيعة بن نزار ( وإن يَكُ عنْا في حُبَيْبٍ تَثاقُلٌ ... فقد كان منّا مِقْنَبٌ ما يُعَرِّسُ ) أراد حبيب فخفف وهو حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل يقول إن تثاقلوا عنا وقطعوا الرحم فإن لقومي غزى ما يعرس ما يعرس في الغزو حديث بيهس فأما حديث بيهس الذي ضرب به المثل فإن أبا عبيدة قال مدركو الأوتار في الجاهلية ثلاثة سيف بن ذي يزن الحميري وبيهس الفزاري وقصير صاحب جذيمة الأزدي وقد مضى خبر قصير وسيف في موضعهما من هذا الكتاب وروى أبو حاتم عن الأصمعي أن بيهسا الفزاري غزا ربعه قوم فأغاروا على إخوته وأهل بيته وقتلوهم أجمعين وأسروا بيهسا فلما نزلوا بعض المنازل راجعين نحروا جزورا فأكلوا وقالوا ظللوا البقية فقال بيهس لكن بالأثلات لحم لا يظلل يعني أجساد من أصيب من قومه فذهبت مثلا فلطمه رجل منهم وجعل يدخل رجليه في يدي سرباله فقال له رجل منهم لم تلبس هذا اللبس وجعل يعلمه كيف يلبس وكان يقال إن به طرقة يعني جنونا فقال ( البَسْ لكُل عِيشة لَبُوسَها ... إمَّا نَعِيمَها وإمَّا بُوسَها ) فلطمه الرجل الذي كان لطمه مرة أخرى فقال له بيهس لو نكلت عن الأولى لم تعد إلى الثانية فقال بعضهم إن مجنون فزارة هذا ليتعرض للقتل فخلوا عنه فخلوه فلما أتى أهله جعل نساؤه يتحفنه فقال يا حبذا الترات لولا الذلة فذهبت مثلا فاجتمع عليه الغم مع ما به من قلة العقل فجعلت أمه تعاتبه ويشتد عليها ذلك منه فقالت لو كان فيك خير لقتلت مع قومك فقال لو خيرت لاخترت فذهبت مثلا ثم جمع جمعا وغزا القوم الذين وتروه ومعه خال له فوجدوهم في وهدة من الأرض كبيرة فدفعه خاله عليهم وكان جسيما طويلا وإنما سمي نعامة لذلك فقاتل القوم وهو يقول مكره أخوك لا بطل فذهبت مثلا وقتل القوم وأدرك بثأره وقال يعقوب بن السكيت في كتاب الأمثال روي مثله عن أبي عبيدة وروى هذا الخبر أيضا أبو عبيد القاسم بن سلام واللفظ ليعقوب وروايته أتم الروايات قال كان بيهس وهو رجل من بني غراب بن فزارة بن ذبيان بن بغيض سابع سبعة إخوة فأغار عليهم ناس من أشجع بن ريث بن غطفان وبينهم حرب وهم في إبلهم فقتلوا ستة نفر منهم وبقي بيهس وكان يحمق وكان أصغرهم فأرادوا قتله ثم قالوا ما تريدون من قتل مثل هذا أيحسب عليكم برجل ولا خير فيه فتركوه فقال دعوني أتوصل معكم إلى الحي فإنكم إن تركتموني وحدي أكلتني السباع وقتلني العطش ففعلوا فأقبل معهم فنزل منزلا فنحروا جزورا في يوم شديد الحر فقال بعضهم ظللوا لحمكم لا يفسد فقال بيهس لكن بالأثلات لحم لا يظلل فقالوا إنه لمنكر وهموا أن يقتلوه ثم تركوه ففارقهم حين انشعب طريق أهله فأتى أمه فقالت ما جاء بك من بين إخوتك فقال لو خيرك القوم لاخترت فأرسلها مثلا ثم إن أمه تعطفت عليه ورقت له فقال الناسُ قد أحبت أم بيهس بيهسا ورقت له فقال بيهس ثكل أرأمها ولدا فأرسلها مثلا أي عطفها ثم جعلت تعطيه ثياب إخوته ومتاعهم فيلبسها فقال يا حبذا الترات لولا الذلة فذهبت مثلا ثم أتى على ذلك ما شاء الله ثم إنه مر على نسوة من قومه وهن يصلحن امرأة يردن أن يهدينها لبعض القوم الذين قتلوا إخوته فكشف عن استه ثوبه وغطى رأسه به فقلن ويلك ما تصنع يا بيهس فقال ( الْبس لكُلّ عيشة لَبُوسَها ... إمَا نَعِيمَها وإما بُوسها ) فأرسلها مثلا فلما أتى على ذلك ما شاء الله جعل يتتبع قتلة إخوته فيقتلهم ويتقصاهم حتى قتل منهم ناسا كثيرا فقال بيهس ( يا لَها نَفْساً يا لَهَا إنَّني ... لها الطُّعمُ والسّلامَهْ ) ( فقَد قَتل القَومُ إخْوَتها ... بكُلِّ واد زُقاءُ هَامَهْ ) ( فَلأَطرقَنْ قَوماً وَهُمْ نيامٌ ... وَأَبْرُكنْ بِرْكَةَ النَّعَامَهْ ) وبهذا البيت لقب نعامة ( قابِضَ رِجْلٍ باسط أُخْرَى ... والسّيفَ أُقْدمه أَمَامَهْ ) ثم أخبر أن ناسا من أشجع في غار يشربون فيه فانطلق إلى خال له يقال له أبو حشر فقال له هل لك في غار فيه ظباء لعلنا نصيب منهن فقال نعم فانطلق بيهس بأبي حشر حتى إذا قام على فم الغار دفع أبا حشر في فم الغار فقال ضربا أبا حشر فقال بعض قومهم إن أبا حشر لبطل فقال أبو حشر مكره أخوك لا بطل فكان بيهس مثلا في العرب فقال بعض شعراء بني تغلب ( لُقمان مُنْتَصراً وقُسٌّ ناطقاً ... ولأنْتَ أجْرأُ صَولةً من بَيْهس ) وقال الزبير بن بكار قتل إخوة بيهس نصر بن دهمان الأشجعي وأراد قتل بيهس فقيل له إنه أحمق فأعده لأمه تسكن إليه فلما بلغوا قال نصر ظللوا ذلك اللحم فذاك حيث يقول نعامة لكن بالأثلات لحم لا يظلل ففزع منه نصر فقيل له كلمة جاءت من أحمق قال الزبير الأثلات شجر وهو الطرفاء قال أبو عبيد الأثلات موضع وقد روي أن هذا المثل مكره أخوك لا بطل لغير نعامة أو خاله أبي حشر روي أن عبيد بن شرية الجرهمي وهو أحد المعمرين حدث معاوية ابن أبي سفيان في حديث فيه طول أول من قال مكره أخوك لا بطل أن مالك بن جبير سأل حارثة بن عبد العزى في مجلس علقمة بن علاثة الجعفري عن أول من قال مكره أخوك لا بطل فقال حارثة أول من قال ذلك جرول بن نهشل بن درام بن كعب وكان جبانا هيوبا قد عرف الناس ذلك منه غير أنه كان ذا خلق كامل وإن حيا من أحياء العرب أغاروا على بني دارم وهم خلوف فاستاقوا أموالهم ونساءهم وسيدهم يومئذ نهشل بن دارم أبو جرول فخرج واجتمع إليه قومه فنادى فيهم أيما رجل لم يأتنا برأس أو أسير أو ظعينة فهو نفي منا ولحقتهم بنو دارم فاقتتلوا قتالا شديدا حتى كثرت القتلى في الفريقين جميعا وأصحابه في ذلك يأتونه بالرؤوس والأسرى والظعائن وكان لنهشل ستة إخوة وهو سابعهم عبد الله ونهشل ومجاشع وأبان وجرير وفقيم وخيبري هؤلاء بنو دارم بن كعب فساد القوم كلهم يومئذ مجاشع وذلك لأنه أتاه بما فرض على ثلاثين رجلا بعشرة رؤوس وعشرة أسارى وعشرة ظعائن فقسمها فيمن لم يكن قتل ولا أسر ولا استنقذ وإن جرولا أتى عمه مجاشعا فقال يا عم أعطني منها رأسا فقال له عمه يا جرول إن الهمام يصدق الحسام فسار جرول متذمرا حتى حمل على ناحية الجمهور على رجل يسوق ظعينة فلما رآه الرجل خشيه لكمال خلقه وهو لا يعرفه وكان قد سمع بخبر جرول وجبنه فلما دنا منه جرول هم الرجل بترك الظعينة فقال أنا جرول بن نهشل في الحسب المؤثل فعطف عليه الرجل فقال يا جرول بن نهشل إن الوهل فشل وليس هكذا البطل والقول يرفعه العمل ثم إنه طعن فرمى جرولا طعنة فكبا جواده فأخذه وكتفه ثم ساقه وهو يقول ( إذا ما لِقيتَ امْرأً في الوَغَى ... فذكر بنَفسك يا جَرْوَلُ ) حتى انتهى به إلى قائد الجيش ورئيس القوم وكان قد عرف جبن جرول فقال له يا جرول ما عهدناك تقاتل الأبطال ولا تحب النزال فقال جرول مكره أخوك لا بطل فأعطاه رأس رجل من بني دارم ثم قال انطلق فالجبن شر من الإسار فعمد إليه الذي كان أسره فجرحه وقال له جئت تستنقذ الظعائن يا لها من ظعينة ما كان أضيعها ثم خلى سبيله وجرول يرى أن الرأس الذي أعطي من رؤوس حزبه فأتى أباه فقال يا أبت هكذا تلقى الأبطال وتسلم الأنفال الجدع خير من النفي ثم قال هذا رأس رجل قتلته فنظر إلى الرأس فإذا رأس رجل من أصحابه فجاء إخوة المقتول فقالوا أقيدونا جرولا بأخينا فإنه قتله فلما رأى جرول الشر وما وقع فيه أخبر أباه والقوم الخبر فعرفوا جبنه وأنه لم يكن يقتل الرجال فخلوا عنه وقالت عمرة أخت المقتول ترثي أخاها وتذكر جرولا ( ألا يا قتيلا ما قتيلا معاشر ... ثوى بين أَحْجار صريعا وجنْدل ) ( وقد يصبح الخيل المغيرة فيهم ... ويسْرع كر المُهْر في كُلّ جحْفِل ) ( وَيَهدِي ضَلولَ القَومِ في لَيلة السُّرَى ... أمينُ القُوى في القَوم لَيس بزُمَّل ) ( فأدَّى إلينا رَأْسَه ثمَّ جَرْولٌ ... فللَّه ماذا كان من فِعْل جَرْولِ ) ( فَشَلَّت يداه يَوْمَ يَحْمِل رَأْسَه ... إلى نَهشلٍ والقَومُ حَضْرةَ نَهْشَلِ ) رجع الخبر إلى حديث المتلمس وروى أبو محمد عبد الله بن رستم عن يعقوب بن السكيت قال قدم المتلمس وطرفة بن العبد على عمرو بن هند فقال ( قُولاَ لِعَمرِو بن هِنْدٍ غيرَ مُتَّئِبٍ ... يا أخْنَسَ الأنفِ والأضراسُ كالعَدَسِ ) شبه أضراسه بالعدس في صغرها وسوادها ( مَلْكُ النَّهارِ وَأَنْتَ الليلَ مُومِسَةٌ ... ماءُ الرِّجال على فَخْذَيك كالقَرِس ) ( لو كُنتَ كَلْبَ قَنِيص كُنْتَ ذَا جُدَد ... تكون أُرْبَتُه في آخِر المَرَسِ ) ( لَعوْا حَرِيصاً يَقُول القانِصان له ... قُبِّحْتَ ذا أنْفِ وَجْه ثَمَّ مُنْتَكِسِ ) المومسة الفاجرة وأراد بالقرس القريس وهو الجامد والقنيص القانص والقنيص أيضا الصيد والأربة العقدة والمرس الحبل أي هو أخس الكلاب فقلادته أخس القلائد وقال ابن الكلبي هذا الشعر لعبد عمرو بن عمار يهجو به الأبيرد الغساني وبسببه قتل عبد عمرو صحيفة المتلمس وكان طرفة قد هجا عمرو بن هند أيضا بعدة قصائد فلما قدما عليه كتب لهما إلى عامله على البحرين وهجر وكان عامله عليهما فيما يزعمون ربيعة بن الحارث العبدي وقال لهما انطلقا فاقبضا جوائزكما فخرجا فزعموا أنهما هبطا النجف قال المتلمس يا طرفة إنك غلام حديث السن والملك من عرفت حقده وغدره وكلانا قد هجاه فلست آمنا أن يكون قد أمر بشر فهلم فلننظر في كتبنا هذه فإن يكن قد أمر لنا بخير مضينا فيه وإن تكن الأخرى لم نهلك أنفسنا فأبى طرفة أن يفك خاتم الملك وحرض المتلمس طرفة فأبى وعدل المتلمس إلى غلام من غلمان الحيرة عبادي فأعطاه الصحيفة ولا يدري ممن هي فقرأها فقال ثكلت المتلمس أمه فانتزع المتلمس الصحيفة من الغلام واكتفى بذلك من قوله واتبع طرفة فلم يلحقه وألقى الصحيفة في نهر الحيرة ثم خرج هاربا إلى الشام فقال المتلمس في ذلك ( وَأَلقيتُها بالثِّنْي مِنَ جَنْب كافرٍ ... كذلك أقْنُوا كل قِطٍّ مُضَلَّلٍ ) ( رَضِيتُ لها بالماء لمّا رَأيتها ... يَجُول بها التيّارُ في كُلِّ جَدْولِ ) قال أبو عمرو كافر نهر بالحيرة وقال غيره كافر نهر قد ألبس الأرض وغطاها وقال أبو عمرو أقنو أحفظ وقال غيره أقنو أجزي يقال لأقنونك قناوتك أي لأجزينك بفعلك والقط الصحيفة فيقول حفظي لهذا الكتاب أن أرمي به في الماء وقال المتلمس أيضا وقد كان فيما يقال قال لطرفة حين قرأ كتابه تعلمن أن الذي في صحيفتك مثل الذي في صحيفتي قال طرفة إن كان اجترأ عليك فلم يكن ليجترىء علي ولا ليغرني ولا ليقدم علي فلما غلبه صار المتلمس إلى الشام وقال ( منَ مُبلِغ الشّعراء عَن أَخَوَيْهِم ... نَبأً فَتَصْدُقَهمْ بذاك الأنْفُس ) ( أوْدَى الذي عَلِق الصَّحيفةَ منهما ... ونَبا حِذَارَ حِبَائه المُتلمّسُ ) ( ألْقَى صحيفَته وَنَجَّت كورَهُ ... وَجْناءُ مُجْمرة المَناسم عِرْمِسُ ) ( عَيْرانَةٌ طَبَخَ الهَواجرُ لحمها ... فكأنّ نُقْبَتَها أدِيمٌ أمْلَسُ ) ( أُجُدٌ إذا ضَمرتْ تَعزَّز لحمُها ... وإذا تُشَدُّ بِنِسْعها لا تَنْبِسِ ) ( وَتَكاد مِن جَزَع يَطِيرُ فُؤادُها ... إنْ صاحَ مُكَّاءُ الضُّحا مُتَنَكِّسُ ) الوجناء الضخمة الغليظة الصلبة كأنها لصلابتها ضربت بمواجن القصار واحدتها ميجنة وهي مدقتة ومجمرة المناسم مجتمعة لطيفة في صلابة وعظم الأخفاف من الهجنة وليس من صفة النجائب والعرمس الناقة الصلبة شبهت بالعرمس وهي الصخرة الصلبة وتعزز تشدد وتنبس تنطق وتصيح وطبخ الهواجر لحمها أي سافرت عليها حتى انجرد شعرها ونقبتها لونها والمكاء طائر يطير في الجو ثم يتنكس وقال محمد بن موسى الكاتب زعموا أن الكتب لم تزل في قديم الدهر منشورة غير مختومة ولا معنونة فلما قرأ المتلمس صحيفته التي كتبها له عمرو بن هند إلى عامله بالبحرين واطلع على سره فيها ختمت الكتب وروي عن الرياشي عن عمرو بن بكير عن الهيثم بن عدي عن حماد الراوية عن سماك بن عمرو قال أخبرني عبيد راوية الأعشى ورأيته بالحيرة زمن معاوية شيخا كبيرا قال أخبرني الأعشى قال حدثني المتلمس قال المتلمس وطرفة عند عمرو بن هند قدمت أنا وطرفة بن العبد على عمرو بن هند وكان غلاما معجبا تائها يتخلج في مشيته بين يديه فنظر إليه نظرة كادت تقتلعه من الأرض وكان عمرو لا يبتسم ولا يضحك وكانت العرب تسميه مضرط الحجارة وملك ثلاثا وخمسين سنة وكانت العرب تهابه هيبة شديدة له يقول الذهاب العجلي ( أَبَى القَلبُ أَنْ يَهْوَى السِّدِيرَ وَأهْلَه ... وإن قِيل عَيْشٌ بالسَّدير غَريرُ ) ( فلا أنذرُوا الحيَّ الذي نَزَلُوا به ... وإنِّي لِمن لم يَأْتِه لَنَذِيرُ ) ( به البَقُّ والحُمَّى وَأُسْدُ خَفِيَّة ... وَعَمرُو بنُ هِند يَعْتِدِي وَيَجورُ ) قال المتلمس فقلت لطرفة إني لأخاف عليك من نظرته إليك هذه مع ما قلت قال كلا فكتب لنا كتابا إلى المكعبر كتب ولم نره وختم ولم نره لي كتاب وله كتاب وكان المكعبر عامله على عمان والبحرين فخرجنا حتى إذا هبطنا بذي الركاب من النجف إذا أنا بشيخ على يساري يتبرز ومعه كسرة يأكلها وهو يقصع القمل فقلت تالله ما رأيت شيخا أحمق وأضعف وأقل عقلا منك قال وما تنكر قلت تتبرز وتأكل وتقصع القمل قال أدخل طيبا وأخرج خبيثا وأقتل عدوا وأحمق مني الذي يحمل حتفه بيمينه لا يدري ما فيه قال فنبهني وكأنما كنت نائما فإذا غلام من أهل الحيرة فقلت يا غلام تقرأ قال نعم قلت اقرأه فإذا فيه من عمرو بن هند إلى المكعبر إذا جاءك كتابي هذا مع المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا فألقيت الصحيفة في النهر فذلك حيث أقول ( وألقيتها بالثِّنْي من جنب كافِر ... ) البيتين وقلت يا طرفة معك مثلها قال كلا ما كان ليفعل ذلك في عقر داري قال فأتى المكعبر فقطع يديه ورجليه ودفنه حيا ففي ذلك يقول المتلمس ( مَن مُبلغ الشُّعراء عن أخَوَيْهِمُ ... نَبَأً فَتصْدُقهم بذاك الأنْفُسُ ) ( أوْدَى الذي عَلَق الصَّحيفة مِنهما ... وَنَجَا حِذار حِبائه المُتلمّس ) ( ألْقِ الصَحيفةَ لا أبالك إنّه ... يُخْشَى عليك من الحِبَاء النِّقْرسُ ) ( ألقَى صَحِيفَتَه وَنَجَّت كُورَه ... وَجَناءُ مُجْمَرة الفَراسِن عِرْمسُ ) ( أجُدٌ إذا ضَمرتْ تَعزَّز لحْمُها ... وإذا تُشَدُّ بنسْعِها لا تَنْبِسُ ) وقال ابن قتيبة كان المتلمس ينادم عمرو بن هند هو وطرفة بن العبد فهجواه فكتب لهما إلى عامله بالبحرين كتابين أوهمهما أنه أمر لهما بجائزة وكتب إليه يأمره بقتلهما فخرجا حتى إذا كانا بالنجف إذا بشيخ عن يسار الطريق يحدث ويأكل من خبز في يده ويتناول القمل من ثيابه فيقصعه فقال المتلمس ما رأيت كاليوم شيخا أحمق فقال الشيخ وما رأيت من حمقي أخرج خبيثا وأدخل طيبا وأقتل عدوا أحمق والله مني من يحمل حتفه بيده فاستراب المتلمس بقوله وطلع غلام من الحيرة فقال له المتلمس أتقرأ يا غلام قال نعم ففك صحيفته ودفعها إليه فإذا فيها أما بعد فإذا أتاك المتلمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا فقال لطرفة ادفع إليه صحيفتك يقرأها ففيها والله ما في صحيفتي فقال طرفة كلا لم يكن ليجترىء علي فقذف المتلمس صحيفته في نهر الحيرة وقال ( قذفت بها بالثِّنْي من جَنب كافر ... ) وأخذ نحو الشام وأخذ طرفة نحو البحرين فضرب المثل بصحيفة المتلمس عمرو بن هند يحرم عليه حب العراق ( آليْتُ حَب العِراق الدَّهرَ آكلُه ... والحَبُّ يَأْكُله في القَرْية السُّوسُ ) وأتى بصرى فهلك بها وروى أبو بكر محمد بن عليب الفارسي عن أبيه عن الغلابي عن ابن بكار أن الفرزدق قدم المدينة على سعيد بن العاصي وهو واليها لمعاوية ابن أبي سفيان عند هربه من زياد فدخلها وسعيد يعشي الناس وهو جالس على منبر والناس على كراسي وكان الحطيئة وكعب بن جعيل حاضرين فتقدم الفرزدق وحدر اللثام عن وجهه ثم قال هذا مقام العائذ بك من رجل لم يصب دما ولا مالا فقال سعيد قد أجرتك إن لم تكن أصبت دما ولا مالا فمن أنت قال أنا همام بن غالب بن صعصعة وقد أثنيت على الأمير فإن رأى أن يأذن لي لأسمعه ثنائي فعل قال هات فأنشده قصيدته التي يقول فيها ( عليك بَني أُمية فاسْتَجِرْهُمْ ... وَخُذْ مِنهمْ لما تَخْشَى حِبَالا ) ( فإنّ بَني أُميّة مِن قُرَيش ... بَنَوْا لبُيوتهم عَمَدا طَِوالاَ ) حتى انتهى إلى قوله ( تَرَى الغُرّ الجحاجح من قريش ... إذا ما الخَطْب في الحَدَثان عَالا ) وحرم عمرو بن هند على المتلمس حب العراق فقال ( بَني عَمّ النَّبي وَرَهْطَ عَمرٍو ... وعُثمان الأُلَى عَظموا فَعَالاَ ) ( قِياماً يَنْظُرون إلى سَعيد ... كأنْهمُ يَرَوْن به هِلاَلا ) قوله ورهط عمرو يريد بني هاشم واسم هاشم عمرو بن عبد مناف فقال مروان وكان إلى جانب سعيد يا فرزدق فهلا قلت قعودا قال لا والله إلا قائما على رجليك يا أبا عبد الملك فحقدها مروان وقال كعب بن جعيل هذه والله الرؤيا التي رأيتها البارحة قال سعيد وما رأيت قال رأيت كأني في سكك المدينة فإذا أنا بابن قترة أراد أن يتناولني فاتقيته وقام الحطيئة فشق ما بين رجلين حتى تجاوزهما إلى الفرزدق فقال له قل ما شئت فقد أدركت من مضى ولا يدركك من بقي ثم قال لسعيد هذا والله الشعر لا ما كنا نعلل به أنفسنا منذ اليوم وزاد الغلابي في حكايته هذه قال وقد ذكر محمد بن سلام عن أبي يحيى الضبي أن الحطيئة لما قال للفرزدق هذه المقالة قال كعب بن جعيل فضله على نفسك ولا تفضله على غيرك فقال الحطيئة والله أفضله على نفسي وغيري ثم قال له يا غلام أنجدت أمك قال بل أنجد أبي ثم أقام الفرزدق بالمدينة يختلف إلى بيوت القيان بها فلما وليها مروان بعد سعيد وفي قلبه على الفرزدق ما فيه وقد كان مروان نهاه في صدر ولايته عن المداخل التي كان يدخلها وعن قول الخنى في شعره فبعث إليه ألم أنهك عن الإفصاح بالخنى والإقرار بالفسق أخرج عن المدينة فإني عاهدت الله لئن أصبتك بها بعد ثلاثة لأقطعن لسانك الفرزدق ومروان وأخبرنا أبو بكر بن دريد ها هنا قال فقال الفرزدق ( تَوَعّدني وَأَجَّلني ثَلاثاً ... كما وُعِدَتْ لمهْلِكها ثَمُودُ ) قال الغلابي فحدثني العباس بن بكار قال بعث إليه مروان بكتاب مختوم وقال توصله إلى عاملي فقد كتبت إليه أن يدفع إليك ثلاثمائة دينار فإذا أصبحت فاغد حتى تودعني وكتب إلى عامله أن يضربه مائة سوط ويحبسه ثم ندم مروان فقال يعمد إلى الكتاب فيفتحه ويقرأ ما فيه فيهجوني وأهل بيتي فلما أصبح غدا عليه الفرزدق فقال له مروان إني قد قلت في هذه الليلة أبياتا فاقرأها فقال الفرزدق وما قلت قال قلت ( قُل للفَرَزدق والسَّفاهة كاسمها ... إن كُنْت تَارِكَ ما نَهيتُك فاجْلِس ) ( ودَع المَدينَة إنَّها مَذْمُومةٌ ... واقصد لمكَّة أولِبَيت المَقْدِس ) ( وإن اجْتنبْتَ من الأمور عَظِيمةً ... فاعْمِدْ لِنَفسك بالزَّمَاع الأكْيَس ) ففطن الفرزدق لما أراد فقال ( يا مَرْوُ إنّ مَطيتي مَحْبُوسةٌ ... تَرجو الحَباءَ وربُّها لم يَيأسِ ) ( وحَبْوتني بصحيفة مختومة ... يُخْشَى عليَّ بها حَبَاءُ النقرسِ ) ( ألقِ الصحيفة يا فرزدقُ لا تَكن ... نَكداءَ مَثْلَ صَحيفة المُتلمِّس ) ثم رمى بالصحيفة في وجهه وخرج حتى أتى سعيد بن العاصي وعنده الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر عليهم السلام فأخبرهم الخبر فأمر له كل واحد منهم بمائة دينار وراحلة فأخذ ذلك وتوجه إلى البصرة وصار إلى مروان جماعة من أهله فندموه على فعله وقالوا له تعرضت لشاعر مضر فندم وبعث إليه رسولا ومعه مائة دينار وراحلة فأوصل ذلك إليه وصار حتى قدم البصرة رجع الخبر إلى حديث المتلمس وقال أبو عبيدة لما بلغ النعمان بن المنذر لحوق المتلمس بالشام وكانت غسان قتلت أباه يوم عين أباغ شق عليه لحوقه بغسان وحلف ألا يدخل العراق ولا يطعم بها حتى يموت فقال المتلمس وروى أبو محمد بن رستم عن ابن السكيت أن عمرو بن هند كتب إلى عماله على الريف ليأخذوا المتلمس ويمنعوه من الميرة فقال المتلمس ( يا آل بَكْرٍ أَلاَ للَّه أُمُّكُم ... طال الثَّواءُ وَثَوْبُ العَجزِ مَلْبُوسُ ) ( أَغنيتُ شَأْني فأَغنوا اليومَ شَأْنكُم ... واسْتَحْمقُوا في مراسِ الحرب أوْ كيسُوا ) ( إنّ عَلاَفاً وَمَنْ باللُّوْذِ من حَضَنٍ ... لما رَأوْا أنه دِينٌ خَلابيسُ ) علاف هو ربان بن حلوان بن عمران بن الحافي بن قضاعة وحضن جبل معروف واللوذ نواحيه يقول قد ثويتم على العجز لا تطلبون يوم طرفة ويقال أمر خلابيس وهو الأمر فيه اختلاط لا واحد لها وقال ابن النحاس حضن جبل منجد يقال إن علافا كانوا بهذا الجبل فلما أوذوا تحولوا إلى عمان وقال خلابيس أمر فيه عور واختلاط وفساد ويقال أمر خلابيس إذا كان متفرقا سامة بن لؤي بن غالب ( رَدُّوا عليهم جمال الحَي فارْتَحلوا ... والظُّلمُ يُنكرُه القومُ الأكاييسُ ) ويروى ( شدُّوا الجِمالَ بأكوارٍ على عَجلٍ ... والضَّيمُ يُنْكِره القومُ المَكاييسُ ) ( كانوا كَسَامَةَ إذ شَعْفٌ مَنازِلُه ... ثم اسْتمرَّتْ به البُزْلُ القَنَاعيسُ ) وروى يعقوب ( كونُوا كسامة إذْ خَلَّى مساكِنَه ... ) يريد سامة بن لؤي بن غالب قال ابن الكلبي وكان من سببه أنه جلس هو وأخواه كعب وعامر ابنا لؤي يشربون فوقع بينهم كلام ففقأ سامة عين عامر وخرج إلى عمان مغاضبا وقال أبو عبيدة بل فقأ عين سعد أخيه وقال أبو العباس الأحول لما غاضب سامة بن لؤي قومة خرج إلى عمان فأبى الضيم وكان ينزل بكبكب وهو الجبل الأحمر وراء عرفة فتركه ومضى والمكاييس جمع مكياس قال وشعاف الجبل أعاليه وأراد أنه كان منزله بمكة وهي أعلى البلاد وقال غيره شعف موضع بالبحرين ( حَنَّت قَلُوصِي بها والليلُ مُطَّرِقٌ ... بَعد الهدُوء وَشَاقَتْها النِّواقِيسُ ) مُطَّرق يقال تطرق أي ركب بعض ظلمته بعضا يقول حنت ناقتي إلى الشام وشاقتها النواقيس لأن غسان كانوا نصارى ( مَعقُولةٌ يَنْظُرَ التَشْرِيقَ راكبُها ... كأنّه مِن هوًى للرَّمْل مَسْلُوس ) ويروى ( كَأَنه طَرَفٌ للرمل مَسْلُوسُ ... ) يريد بالتشريق أيام التشريق أي ينظرها لرمي الجمار ثم يذهب إلى الشام وكان حج حين هرب والمسلوس والمألوس الذاهب العقل وقال ابن النحاس يريد بالتشريق إشراق الشمس ( وَقد أضَاءَ سُهَيْلٌ بَعد ما هَجَعُوا ... كأنه ضَرَمٌ بالكَفّ مَقْبوسُ ) ( أنَّى طَرِبْتِ ولم تُلْحَيْ على طَرب ... ودونَ إلْفِك أمْراتٌ أمَالِيسُ ) ( حَنَّت إلى نَخْلَة القُصَْوى فقُلتُ لها ... بَسْلٌ حَرَامٌ ألاَ تِلْكَ الدَّهارِيسُ ) الأمرات والأماليس التي لا نبات بها ونخلة معرفة غير مصروف وهو واد مما يلي نجدا ونخلة القصوى طريق الشام وبسل حرام والدهاريس الدواهي ولا واحد لها وحكى علي بن سليمان الأخفش عن أبي العباس الأحول أن واحدها دهرس ( أُمِّي شآميَّة إذ لا عِرَاقَ لنا ... قَوْماً نَودُّهُمُ إذ قَوْمُنا شُوسُ ) أمي أي اقصدي شآمية أي ناحية شامية والأشوس الذي ينظر إليك نظر البغضة ( لن تَسْلُكي سُبُل البَوْبَاة مُنْجِدةً ... ما عَاشَ عَمروٌ ولا ما عَاش قابُوسُ ) وروى الأصمعي ( ما عِشتَ عَمرٌو ولا ما عِشْتَ قابوس ... ) على النداء والبوباة ثنية في طريق نجد ينحدر منها إلى العراق وعمرو وقابوس ابنا المنذر ( آليت حَبَّ العِراق الدَّهْرَ آكُلُه ... والحَبُّ يَأْكله في القَريَة السُّوس ) ( لم تَدْرِ بُصْرَى بما آليتُ مِن قسمٍ ... ولا دمَشْق إذا ديسَ الكَدادِيسُ ) يقول لم تدر بلاد الشام بيمينك فتبرها وتمنعني حبها كما منعتني حب العراق والكداديس جمع كدس على غير قياس ويروى إذا ديس الفراديس والفراديس درب يقال له درب الفراديس وقال ابن النحاس الفراديس موضع بدمشق أي إذا درست الزروع التي عند الفراديس وقال الأصمعي الفراديس البساتين واحدها فردوس أي لم تبلغ الشام يمينك لهوانك عليها يهزأ به وقوله ( والحَبّ يأْكله في القرية السُّوس ... ) لكثرته عندهم ( فإنَ تَبدَّلْتُ من قَوْمِي عَديَّكُمُ ... إنِّي إذاً لَضعيفُ العَقلِ مَأْلُوس ) ( كم دون مَيَّةَ من مُسْتَعْمَل قُذُف ... ومن فَلاةِ بها تُسْتَودَعُ العِيسُ ) ( ومِن ذُرَا عَلَم ناءٍ مَسَافتُه ... كَأَنْه في حَبَابِ الماءِ مَغْموسُ ) ( جَاوَزْتُه بأمُون ذات مَعْجمَة ... تَرْمِي بكَلْكَلها والرَّأْسُ مَعْكُوسُ ) ويروى من دوية قذف ويروى تنجو بكلكلها والمستعمل الطريق الموطأ والقذف البعيد يقول إن العيس لبعد هذا الطريق تسقط فيه فيتركونها ويريد كأن العلم إذا انغمس في السراب مغموس في الماء والأمون يؤمن عثارها وخورها ومعجمتها خبرها من عجمت العود إذا عضضته لتنظر صلابته ويقال المعجمة الصلابة ومعكوس بالزمام لنشاطها وروي أن أبا عمرو بن العلاء لقي الفرزدق فاستنشده بعض شعره فأنشده ( كم دُونَ مَيَّة من مُستعمَل قُذُف ... وَمِن فَلاة بها تُسْتَودع العِيسُ ) فقال له أبو عمرو أو هذا لك يا أبا فراس فقال اكتمها علي والله لضوال الشعر أحب إلي من ضوال الإبل المتلمس يهرب إلى الشام ويقول شعرا وقال أبو عبيدة لما لحق المتلمس بالشام هاربا من عمرو بن هند وهند أمه وهي بنت الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار بن معاوية الكندي وهو عمرو بن المنذر بن الأسود بن النعمان بن المنذر بن امرىء القيس بن النعمان بن امرىء القيس بن عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عمرو بن الحارث بن سعود بن مالك بن عمم وهو عدي بن نمارة بن لخم وقال ابن الكلبي إنما سمي عمما لأنه أول من تعمّ وذلك حين كتب له عمرو بن هند ولطرفة فقرأ المتلمس كتابه فلما رأى الداهية هرب وسار طرفة إلى عامل البحرين فقتله فقال المتلمس يذكر لحاقه بالشام ويحرض قوم طرفة على الطلب بدمه ( إنَّ العِراقَ وَأَهْلَه كانُوا الهوَى ... فإذا نآني وُدُّهمْ فَلْيَبْعد ) ( فَلَتَتْرُكنَّهُمُ بلَيْلٍ ناقَتي ... تدَعُ السِّمَاك وَتَهْتَدِي بالفَرْقَد ) فإن السماك يمان والفرقد شآمي ( تَعْدُو إذا وَقَع المُمرُّ بِدَفِّها ... عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ ضيقَ المَرْصَد ) ( أُجُدٌ إذا اسْتَنْفَرْتَها مِن مَبْرك ... حُلبَتْ مَغابِنُها بِرُبٍّ مُعْقَد ) الممر السوط المفتول والنحوص الحائل من الأتن والأجد الموثقة الخلق ومغابنها أرفاغها شبه عرق تلك المواضع بالرب ( وإذا الرِّكَابُ تَوَاكَلَتْ بعد السُّرَى ... وجَرَى السَّرَابُ على مُتُونِ الجَدْجَدِ ) ( مَرِحَتْ وصاحَ المَرْوُ من أخفافها ... جَذْبَ القَرينةِ بالنَّجَاءِ الأجْرَدِ ) الجدجد الصلب من الأرض يقال جدد وجدجد والمرو حجارة بيض والقرينة بعيران في حبل فإذا أفلت أحدهما لم يأل جهدا والأجرد الحثيث السريع ( لِبلادِ قَوْم لا يُرامُ هَدِيُّهم ... وَهَدِيُّ قَوْمٍ آخرِين هو الرَّدِي ) ( كَطُرَيفَةَ بنِ العبدِ كان هَدِيَّهُمْ ... ضَرَبُوا صَمِيمَ قَذَاله بمُهَنَّد ) الهدي الجار هنا والهدي أيضا الأسير يقول إن جار غسان لا يضام ولا يرام بسوء ( إنّ الخِيانة والمَغالةَ والخَنَى ... والغَدْرَ تَتْركه ببَاْدَة مُفْسد ) ( مَلِكٌ يُلاعبُ أُمَّه وَقَطِينَه ... رِخْوُ المَفَاصِل أيرُهُ كالمِرْودِ ) يريد عمرو بن هند والقطين الحشم رماه بالمجوسية ونكاح الأمهات ويقال بل أراد أن به تأسفا ( بالبابِ يَرْصُدُ كُلَّ طالِب حاجة ... فإذا خَلاَ فالمَرّءٌ غَيْرُ مُسَدَّد ) ( وإذا حَلَلْت ودُونَ بَيْتِيَ غَاوَةٌ ... فابْرُقْ بِأرْضِك ما بَدا لك وارْعُد ) غاوة موضع بالشام أو باليمامة ويقال هي أرض دون بني حنيفة يقول تهددني ما بدا لك فإني لا أبالي بوعيدك ( أبَني قِلاَبَةَ لم تَكُنْ عَادَاتُكُمْ ... أخْذَ الدَّنِيَّةِ قَبلَ خُطَّةِ مِعْصَد ) ( لم يَرْحَضِ السوءات عن أحسابكُمْ ... نَعَمُ الحَواثِر إذ نُسَاق لِمَعْبَدِ ) ( فالعَبْدُ دُونكمُ اقْتُلوا بأخِيكمُ ... كالعَيْرِ أبْرَزَِ جَنْبَه لِلمطْرَدِ ) قال يعقوب قال ابن الكلبي قلابة بنت الحارث بن قيس بن الحارث بن ذهل من بني يشكر تزوجها سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فولدت له مرثدا وكهفا وقميئة ومرقشا الشاعر الأكبر وقال غير ابن الكلبي قلابة امرأة من بني يشكر وهي بعض جدات طرفة وهي بنت عوف ابن الحارث اليشكري ويقال هي قلابة بنت رهم ومعضد بن عمرو الذي ولي قتل طرفة وهو ابن الحواثر من عبد القيس وقال غيره معضد الذي جاء بالإبل لدية طرفة فدفعها إلى قومه وقال يعقوب إن الذي قتل طرفة رجل من عبد القيس ثم من الحواثر يقال له أبو ريشة وإن الحواثر ودته إلى أبيه وقومه لما كان من قتل صاحبهم إياه وقال ابن الكلبي الحواثر هم ربيعة وجبيل ابنا عمرو بن عوف بن وديعة بن لكيز ابن أفصى بن عبد القيس وعمرو بن عوف بن عمرو بن عوف ابن بكر بن عوف بن أنمار وحوثرة هو ربيعة بن عمرو وإنما حضر هؤلاء معه فسموا الحواثر والحوثرة حشفة الرجل وإنما سمي حوثرة لأنه ساوم بقدح بعكاظ أو بمكة فاستصغره فقال لصاحبه لو وضعت فيه حوثرتي لملاته فبذلك سمي حوثرة ومعبد بن العبد أخو طرفة وقال ابن الكلبي كان عمرو بن هند ودى طرفة من نعم كان أصابه من الحواثر يقول لن يغسل عنكم العار أخذكم الدية دون أن تثأروا به وتقتلوا عمرو بن هند الذي هو كالحمار أعرض جنبه للرمح أي أمكن وروى أبو عبيدة قبل خطة معصد بالصاد غير المعجمة أي يفعل به من العصد وهو النكاح يريد به عمرو بن هند وقال غيرهم إن عمرو بن هند انتفى من قتل طرفة وزعم أنه لم يأمر الحوثري بقتله فأخذت ديته من الحوثري لأنه قتل بيده فدفعت إلى معبد بن العبد أخي طرفة المتلمس شاعر بني ضبيعة وروى ابن الكلبي عن محراش بن إسماعيل العجلي ورواه المفضل الضبي قالا كان المتلمس شاعر ربيعة في زمانه وإنه وقف على مجلس لبني ضبيعة بن قيس بن ثعلبة فاستنشدوه فأنشدهم شعرا فقال فيه ( وقد أتناسَى الهَمَّ عِند احْتضاره ... بِنَاجٍ عَليه الصَّيْعريّةُ مُكْدَمِ ) والصيعرية سمة تكون للإناث خاصة فقال له طرفة وهو غلام استنوق الجمل أي وصفت الجمل بوصف الناقة وخلطت فذهبت كلمته مثلا وقال الكميت بن زيد ( هَززتكُمُ لو أنَّ فيكمْ مَهَزَّةً ... وذكَّرتُ ذا التَّأْنيث فاسْتَنوَق الجَملْ ) وقال ابن السكيت في كتاب الأمثال زعموا أن المتلمس صاحب الصحيفة كان أشعر أهل زمانه وهو أحد بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار وأنه وقف ذات يوم على مجلس لبني قيس ابن ثعلبة وطرفة بن العبد يلعب مع الغلمان يستمعون فزعموا أن المتلمس أنشد هذا البيت ( وقد أتَناسى الهَمّ عند احْتِضاره ... بناجٍ عليه الصَّيعريّةُ مُكْدَمِ ) والصيعرية فيما يزعمون سمة توسم بها النوق باليمن دون الجمال فقال طرفة استنوق الجمل فأرسلها مثلا فضحك القوم فغضب المتلمس ونظر إلى لسان طرفة وقال ويل لهذا من هذا يعني رأسه من لسانه وقال أبو محمد بن رستم حدثني أبو يعقوب بن السكيت قال عاب طرفة وهو غلام على المسيب بن علس بيتا قاله في قصيدته وهو قوله ( وقد أتناسى الهَمَّ عِند احْتضاره ... بناجٍ عليه الصّيعريّة مُكْدَم ) الصيعرية سمة تكون على الإناث خاصة مكدم غليظ ( كُمَيْت كِنَازِ اللَّحْم أو حِمْيريّة ... مُواشِكة تَنْفي الحَصَى بمُثلَّمِ ) كناز مكتنز اللحم مواشكة سريعة وملثم خف قد لثمته الحجارة ( كأنْ على أنْسائه عذْقَ خَصْبَة ... تَدلّى من الكافُور غَيْرَ مُكَمّمِ ) شبه هلب ذنبه بكباسة الخصبة وهي الدقلة والجمع الخصاب وغير مكمم غير مغطى فقال طرفة وهو لا يعرفه استنوق الجمل أي إن هذه السمة لا تكون إلا على الناقة فقال له المسيب ارجع إلى أهلك بوامئة وهي الداهية فقال له طرفة لو عاينت هن أمك هناك فقال له المسيب من أنت قال طرفة بن العبد فأعرض عنه المسيب الأصمعي يقول المتلمس من الفحول وقال ابن النحاس قال الأصمعي المتلمس من الفحول وقال أبو عبيدة لم يسبق المتلمس إلى قوله ( لِذي الحِلْم قَبلَ اليَوم ما تُقْرَعُ العَصا ... وما عُلِّم الإنسانُ إلاَّ لِيعْلَما ) ( وما كُنْتَ إلاَّ مِثْلَ قاطِعِ كَفِّه ... بكَفٍّ لهُ أُخْرَى فأصْبح أجْذَما ) ( يَدَاه أصَابَتْ هَذه حَتْفَ هَذه ... فلم تَجِدِ الأخْرَى عَليها تَقَدُّما ) ( فلما اسْتَقاد الكَفُّ بالكَفّ لم يَجِدْ ... له دَرَكاً في أنْ تَبِينَا فَأحْجَما ) ( فَأطْرَقَ إطْرَاقَ الشُّجاع ولو يَرَى ... مَسَاغاً لنابَيْه الشُّجَاعُ لَصَمَّما ) قال وذو الحلم عامر بن الظرب العدواني لما كبر قال لأهله إن جرت في حكومتي فاقرعوني بعصا لمن قرعت العصا وقال أبو رياش قرع العصا مثل تدعيه دوس وهم من أزد السراة لعمرو بن حممة وتدعيه قيس لعامر بن الظرب العدواني وتدعيه بنو قيس بن ثعلبة لسعد بن مالك بن ضبيعة فأما ما تدعيه دوس لعمرو بن حممة فالخبر فيه وفي عامر بن الظرب واحد وهو أنه كان كل واحد منهما حكما للعرب يتحاكمون إليه في كل معضلة وعمرو بن حممة في هذا الحديث أشهر وذلك أن العرب أتوه يتحاكمون إليه فغلط في بعض حكومته وكان الشيخ قد أسن وتغير فقالت له بنته إنك قد صرت تهم في حكمك يقال وهم الرجل إذا غلط وذهب وهمي إلى كذا أي ظني وأوهم إذا أسقط فقال لابنته إذا رأيت ذلك فاقرعي لي العصا وكانت إذا قرعت له بالعصا ثاب إليه حلمه فأصاب في حكمه وأما ما تدعيه بنو قيس بن ثعلبة فيزعمون أن سعد بن مالك بن ضبيعة ابن قيس أتى النعمان الأكبر ومعه خيل بعضها يقاد وبعضها أعراء مهملة فلما انتهى إلى النعمان سأله عنها فقال له سعد إني لم أقد هذه لأمنعها ولم أعر هذه لأهبها فسأله النعمان عن أرضه هل أصابها غيث يحمد أثره أو روى شجره فقال سعد أما المطر فغزير وأما الورق فشكير وأما النافذة فساهرة وأما الحازرة فشبعى نائمة وأما الرمثاء فقد امتلأت مساربها وابتلت جنائبها ويروى الدهناء بدل الرمثاء وأما النبائث فغدر لا تطلع وأما الحذف فعراب لا تنكع تقتر إذا ترتع الشكير ساعة نبته والنافذة ضرب من الغنم وكذلك الحازرة أيضا والرمثاء أرض والنبائث تراب والحذف غنم صغار وتنكع تمنع وتقتر تطلب القرارة وهي بقية القدر ويقال تقتر تطلب القرار وهي صغار الغنم فقال النعمان وحسده على ما رأى من ذرابة لسانه وأبيك إنك لمفوه فإن شئت آتيك بما تعيا عن جوابه فقال سعد شئت إن لم يكن منك إفراط ولا إبعاط والإبعاط مجاوزة القدر فأمر النعمان وصيفا له فلطمه وإنما أراد أن يتعدى في القول فيقتله فقال له ما جواب هذه قال سعد سفيه مأمور فأرسلها مثلا فقال النعمان للوصيف الطمه أخرى فلطمه فقال ما جواب هذه قال لو نهي عن الأولى لم يعد للأخرى فأرسلها مثلا فقال النعمان للوصيف الطمه أخرى ففعل فقال له ما جواب هذه قال ملك يؤدب عبده فقال الطمه أخرى ففعل فقال ما جواب هذه قال ملكت فاسجح فأرسلها مثلا فقال له النعمان أجبت فاقعد فمكث عنده ما مكث ثم بدا للنعمان أن يبعث رائدا يرتاد له الكلأ فبعث عمرو بن مالك أخا سعد بن مالك فأبطأ عليه فأغضبه ذلك فأقسم إن جاء حامدا أو ذاما ليقتلنه فلما قدم عمرو على النعمان دخل عليه والناس عنده وسعد قاعد لديه مع الناس وقد كان سعد عرف بما أقسم به النعمان من يمينه فقال سعد أتأذن لي أيها الملك فاكلمه قال إن كلمته قطعت لسانك قال فأشير إليه قال إن أشرت إليه قطعت يدك قال فأومىء إليه قال إذا أنزع حدقتك قال فاقرع له العصا قال وما يدريه ما تقول العصا فاقرع له فتناول عصا من بعض جلسائه فوضعها بين يديه وأخذ عصاه التي كانت معه وأخوه قائم فقرع بعصاه العصا قرعة واحدة فنظر إليه أخوه ثم أومأ بالعصا نحوه فعرف أنه يقول له مكانك ثم قرع العصا قرعة واحدة ثم رفعها إلى السماء ومسح عصاه بالأخرى فعرف أنه يقول له لم أجد جدبا ثم قرع العصا مرارا بطرف عصاه ثم رفعها شيئا فعرف أنه يقول ولا نباتا ثم قرع العصا قرعة وأقبل بها نحو النعمان فعرف أنه يقول له كلمه فأقبل عمرو بن مالك حتى قام بين يدي النعمان فقال له النعمان هل حمدت خصبا أو ذممت جدبا فقال عمرو لم أذمم جدبا ولم أحمد خصبا الأرض مشكلة لا خصبها يعرف ولا جدبها يوصف رائدها واقف ومنكرها عارف وآمنها خائف فقال له النعمان أولى لك بذلك نجوت فنجا وهو أول من قرعت له العصا وعمرو هذا هو الحشام أخو سعد فقال سعد لقرعه العصا ( قَرعتُ العَصا حتَّى تَبيّن صاحِبي ... ولم تَكُ لَولا ذاك للقَوْم تُقْرَعُ ) ( فقال رَأيْتُ الأرْضَ ليس بمُمْحِل ... ولا سارحٍ فيها على الرَّعي يَشْبَعُ ) ( سواء فلا جَدْبٌ فيُعرف جَدْبُها ... ولا صَابها غَيْثٌ غَزِيرٌ فتُمْرِعُ ) ( فَنَجّى بها حَوْباءَ نَفْسِ كَرِيمة ... وقد كَاد لولا ذاك فيهم يُقَطَّعُ ) أول من قرع العصا وقرعت له وقد روى عبيد بن شرية الجرهمي أن حارثة بن عبد العزى سأل مالك بن جبير عن أول من قرع العصا وقرعت له وعن قول الشاعر ( وزَعَمتمُ أنْ لا حُلُومَ لَنا ... إنَّ العَصَا قُرِعَتْ لذِي الحِلْمِ ) فقال مالك على الخبير سقطت وبالعليم أحطت إن أول من قرع العصا سعد بن مالك أخو بني كنانة حين أتى الملك المنذر بن النعمان ومعه خيل بعضها تقاد مهيأة والأخرى مهملة وذكر الخبر نحو ما ذكره أبو رياش وفي الألفاظ زيادة ونقصان والمعنى واحد وذكر الجاحظ أن عامر بن الظرب العدواني حكم العرب في الجاهلية لما أسن واعتراه النسيان أمر بنته أن تقرع بالعصا إذا هو فهه عن الحكم وجار عن القصد وكانت من حكيمات بنات العرب حتى جاوزت في ذلك مقدار صحر بنت لقمان وهند بنت الخس وجمعة بنت حابس بن مليل الإياديين وكان يقال لعامر ذو الحلم ولذلك قال الحارث بن وعلة ( وزَعمتمُ أَنْ لا حُلومَ لَنا ... إنَّ العَصا قُرِعَتْ لذي الحِلْمِ ) وقال المتلمس ( لذي الْحِلم قَبل اليَوم ما تُقْرَع العَصَا ... وما عُلِّمَ الإنسانُ إلاَّ لِيَعْلَمَا ) وقال الفرزدق بن غالب ( فإِنْ كُنتُ أَسْتَأْني حُلومَ مُجاشِعٍ ... فإنَّ العَصا كانت لذي الحِلْم تُقْرَعُ ) ومن ذلك حديث سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة واعتزام الملك على قتل أخيه إن هو لم يصب ضميره فقال له سعد أبيت اللعن أتدعني حتى أقرع العصا له بهذه العصا أختها فقال له الملك وما علمه بذلك أي مما تقول العصا فقرع بها مرة وأشار بها مرة ثم رفعها ثم وضعها ففهم المعنى فأخبره ونجا من القتل من الشام يهجو رجع الحديث إلى خبر المتلمس وروى أبو حاتم عن الأصمعي أن المتلمس هجا عمرو بن هند بعد لحاقه بالشام فقال ( أطَرَدْتَني حَذَرَ الهِجاءِ ولا ... واللاَّت والأنصابِ ماتئِل ) ( وَرَهَنْتَني هِنْداً وعِرضَك في ... صُحُف تَلُوح كأنها خِللُ ) ( شَرُّ المُلوك وشَرُّهَا حَسباً ... في النَّاس مَن عَلموا ومَن جَهلوا ) ( بِئْس الفُحولةُ حِينَ جَدَّ بِهمْ ... عَرْكُ الرِّهان وبِئْسَ مَا نجَلوا ) ( أعني الخؤولة والعُمُومَ فهُمْ ... كالطَّبْنِ لَيْس لِبَيته حِوَلُ ) قال والطبن بكسر الطاء وفتحها لعبة يلعب بها الصبيان في الأعراب وهي بالفارسية السدر وإنما يصفه بالضعف قال أبو النجم ( مِن ذكْرِ آيات ورَسْمِ لاحي ... كالطَّبْن في مُختلِف الرِّياحِ ) ويروى أيضا الطبن وروي أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله جلس يعترض الناس ويكتب الزمنى فوقف عليه أعرابي فأنشأ يقول ( إنْ تَكْتُبوا الزَّمْنَى فإنِّي لَزمِنْ ... مِن ظاهر الداءِ وداءٍ مُستكِنّ ) ( أبِيتُ أهْوِي في شَياطِينَ ترِنّ ... مُختلفٍ نَجواهُم حِنّ وجِنّ ) ( فبتْن يَلعَبن حوالَيَّ الطَّبَنْ ... ) فقال زمنوا هذا ثم وقف عليه شيخ منهم فقال له ما زمانتك فقال الأعرابي ( فواللَّه ما أدري أَأَدْرَكْتُ أُُمَّةً ... على عَهد ذي القَرْنين أم كُنتُ أقدَمَا ) ( متى تَنْزعا عَني القَمِيصَ تَبيّنا ... جَناجِنَ لم يُكْسَيْنَ لَحْماً ولا دَما ) فقال عمر زمنوا هذا فإنه لا يدري متى ولد وقوله حن وجن فإن الجن سفلة الجن وقال الجاحظ الجن ضربان حن وجن كما يقال ناس ونسناس والشعر الذي فيه الغناء المذكور بسببه خبر المتلمس يقوله المتلمس حين فارق أخواله من بني يشكر المتلمس منوط في بني عمرو بن مرة وروى أبو حاتم عن الأصمعي أن المتلمس ولد في أخواله من بني يشكر ونشأ فيهم حتى كادوا يغلبون عليه فسأل الملك عنه الحارث بن التوأم اليشكري والحارث بن جلدة فقال ممن المتلمس فقالا هو منوط في بني عمرو بن مرة أي إنه من ضبيعة مرة ومرة منا وهو ساقط بين الحيّين ففارق أخواله ولحق بقومه بني ضبيعة وقال في ذلك ( تَفرّق أهْلي من مُقيم وظاعنٍ ... فللَّه دَرِّي أيّ أهلَي أتبعُ ) ( أقام الذين لا أُحِبُّ جِوارهمْ ... وبانَ الذين بَينَهم أتوقّعُ ) قال الرياشي الذي أعرف ( أقام الذين لا أُبالي فراقهمْ ... ) ( على كُلِّهم آسَى وللأصْل زُلْفَةٌ ... فَزَحْزِحْ عن الأَدنَيْنَ أَن يَتصدّعُوا ) يقول لا تتباعد عن الأدنين فيصدعوا عنك ويفارقوك وإنما عنى أخواله من بني يشكر وقومه من بني ضبيعة ( أَلِكْنِي إلى قَوْمي ضُبيعةَ إنَّهمْ ... أُنَاسِي فلُومُوا بَعد ذلك أو دَعُوا ) ( وقد كان أخوالي كريماً جوَارِهمْ ... ولكنَّ أصْلَ العُود مِن حَيث يُنْزَع ) يقول أخوالي كانوا كراما ولكني أذهب إلى أعمامي كما ينزع العرق إلى أصله ( ولا تَحْسِبنِّي خاذِلاً مُتخلِّفاً ... ولا عَيْنُ صَيْد مِن هَواي ولعلعُ ) عين صيد ولعلع من آخر السواد إلى البر فيما بين البصرة والكوفة ولعلع كان سجن الحجاج بن يوسف وقال المتلمس في ذلك أيضا ( لَعلك يَوماً أن يَسُرك أنَّني ... شَهِدْتُ وقد رَمَّتْ عِظَاميَ في قَبرِي ) ( وتُصْبِحُ مَظْلوماً تُسامُ دَنِيَّةً ... حَرِيصاً على مِثْلي فَقيراً إلى نَصْري ) ( ويَهْجُرك الإخْوانُ بعدي وتُبْتَلَى ... وينْصُرْنِي مِنك الإلهُ ولا تَدْرِي ) ( ولو كُنْتُ حَيًّا يومَ ذلِك لم تُسَمْ ... له خطَّةٌ خَسْفاً وشوورْتُ في الأمر ) قال وفي ذلك يقول ( ولو غَير أخْوالي أرادوا نَقِيصتي ... جَعلتُ لهم فوق العرانِين مِيسمَا ) ( أحارث إنا لو تُساط دماؤُنا ... تَزايلْنَ حتى لا يَمَسّ دمٌ دَما ) يقول لو خلطت دماؤنا ودماؤكم لتزايلت وتميزت من بعد ما بيننا وهذا كما قال الآخر ( لَعمرك إِنَني وأبا رياحٍ ... على طول التَّهاجُر مُنذُ حِينِ ) ( ليُبْغِضنِي وأُبغضه وأيضاً ... يَرانِي دُونه وأراه دُوني ) ( فلو أنّا على حَجَرِ ذُبِحْنا ... جَرَى الدَّمَيان بالخَبر اليَقينِ ) ما يعاب في شعره وما يتمثل به قال ابن قتيبة وما يعاب من قول المتلمس قوله ( أحارثُ إنَّا لو تُساط دماؤُنا ... تَزايلن حتى لا يَمسَّ دمٌ دَمَا ) وهذا من الكذب والإفراط ومثله قول رجل من بني شيبان كنت أسيرا مع بني عم لي وفينا جماعة من موالينا في أيدي التغالبة فضربوا أعناق بني عمي وأعناق الموالي على وهدة من الأرض فكنت والله أرى دم العربي ينماز من دم المولى حتى أرى بياض الأرض من بينهما فإذا كان هجينا قام فوقه ولم يعتزل عنه وقال ابن قتيبة ويتمثل من شعر المتلمس بقوله ( وأعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرَ ظَنٍّ ... وتَقَوى اللَّه مِن خَيْر العتَادِ ) ( لَحْفِظُ المالِ أيْسرُ من بُغاهُ ... وضَرْب في البلاد بغَير زادِ ) ( وإصْلاحُ القَليل يَزيدُ فيه ... ولا يَبقى الكثيرُ على الفساد ) وقال أبو علي الحاتمي أشرد مثل قيل في البغض قول المتلمس ( أَحارث إنَّا لو تُساط دماؤُنا ... تَزَايلن حتى لا يَمس دمٌ دَمَا ) حكى ذلك أبو عبيدة وزعم أنه أسير مثل في البغض قال وأشرد مثل قيل في الفخر بالأمهات قوله أيضا ( يُعيرني أُمِّي رجالٌ ولن تَرَى ... أخَا كَرَمٍ إلا بأنْ يَتكَرَّمَا ) ( وهل لِيَ أمٌّ غَيْرها إنْ تَركتُها ... أبى اللَّهُ إلا أن أكُونَ لها ابْنَما ) قال وأشرد مثل قيل في اعتداد بني العم والكف عن مقاتلتهم بفعلهم قوله ( وما كُنْتُ إلا مِثْل قاطع كَفه ... بكَفٍّ له أُخْرَى فأصبح أجْذَمَا ) ( يداه أصابتْ هذه حَتفَ هذه ... فلم تَجد الأُخْرَى عليها تَقَدُّما ) ( فلما اسْتقاد الكَف بالكَفِّ لم يَجدْ ... له دَركاً في أن تَبِينا فأحْجَما ) ( فأطْرق إطراقَ الشُّجاع ولو يَرى ... مَسَاغاً لنابَيْه الشُّجاعُ لصَمما ) قال أبو عبيدة يريد أنه فيما صنع به أخواله بمنزلة من قطع إحدى يديه بالأخرى فلو هجاهم وكافأهم كان بمنزلة من قطع يده الأخرى فبقي أجذم فأمسك عنهم قال أبو علي والبيت الأخير يضرب مثلا للرجل يقصر إلى أن تمكنه الفرصة قال أبو عبيدة ولم أسمع لأحد بمثل هذه الأبيات حكمة وأمثالا من أولها إلى آخرها وفيها من الأمثال السائرة ما يضرب مثلا للحكيم يذكر به عند نسيانه ( لذي الْحِلم قَبل اليوم ما تُقْرع العصا ... وما عُلِّم الإنسانُ إلا ليَعْلما ) وفيها من شارد الأمثال ( إذا لم يَزل حبْلُ القَرينَين يَلْتَوي ... فلا بُدَّ يوماً من قُوىً أن تَجذَّمَا ) قال أبو علي وأشرد مثل قيل في حفظ المال وتثميره قوله ( قَليل المال تُصلحه فَيبقى ... ولا يَبقى الكَثِير مع الفَسادِ ) ( وحِفظ المال أيسرُ من بُغاه ... وسَيْر في البِلادِ بغَير زاد )